رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
أشهد أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
خطب المنابر
ناصر بن محمد الأحمد
ملخص الخطبة :
1- منة الله العظيمة علينا برسالة محمد . 2- محبة الصحابة البالغة للنبي . 3- محبة السلف النبي . 4- وقفات مع حديث عن محبة الله للعباد.
الخطبة الأولى :
أما بعد: إنه أيها الأخوة لا ينقطع الثناء والشكر على من أسدل النعم والمنن على الناس، لا ينقطع التوقير والتبجيل في النفس ومشاعرها تجاه أولئك النفر الذين وهبوا حياتهم وأموالهم لتبليغ الدين ورسالة رب العالمين. وكلما علت منزلة الواحد من هؤلاء كلما كان أقرب للاصطفاء والاجتباء. وعلى رأس هؤلاء محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا النبي الكريم الأمي، الذي أرسله الله على حين فترة من الرسل، أتى بالنور معه، والناس أحوج ما يكونون إليه، أتى بالهدى والناس أشد ما يكونون في الضلالة، أتى بالإيمان والناس أشد ما يكونون في الكفر. وأعظم الناس إدراكاً لعظيم الحاجة لهذا النبي هم صحبه الأول. أدركوا مدى الشقاء الذي كان سيلازمهم لولا بعثة هذا الرسول، فلقد أخرجهم من دركات الظلمات إلى النور التام، فدلهم على طريق الجنة، وحذرهم، فأخذ بُحجزهم عن النار وسبلها، أخرجهم من عبودية أهوائهم إلى عبودية رب العالمين، أعاد النفوس والفطر إلى وضعها الصحيح الذي خلقت له ومن أجله.
أيها المسلمون: لنسرح بخيالنا، مع الرعيل الأول، وكيف كانوا مع رسول الله ، وكيف عرف أولئك أن يأخذوا الإيمان والخلق والعبادة من نبيهم ومن هديه، فارتقوا في درجات سلم العبودية، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه.
أما نحن، فنقول: أشهد أن محمداً رسول الله لكن الفرق ستجده بعد قليل.
لما أدرك الصحابة نعمة بعثة الرسول بينهم، قام في قلوبهم من حبه الشيء العظيم، فعمر ذكره والثناء عليه قلوبهم ومجالسهم، ما أن يسمعوا بلالاً - رضي الله عنه - يردد من خلفه بصدق: "أشهد أن محمداً رسول الله" تخرج حارّة من قلوبهم فتترجم حية في واقع حياتهم، فهذا مهتم بأمر سواكه، وهذا مهتم بنعله، وهذا مهتم بوضوئه وطهوره، وهذا يصلح له دابته، وهذا يحفظ له ماله وقوته، وهذا يبادر إليه فيستضيفه، وهذا، وهذا، وتجاوز بهم الحب إلى أن يقتسموا شعره إذا حلقه ويتوضؤون بفضلة وضوءه، بل وما يتنخم ولا يتفل إلا ومدوا أيديهم في الهواء يتلقون أثراً من النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال عروة بن مسعود القريشي: يا قوم، والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً - صلى الله عليه وسلم - والله ما يحدون النظر إليه تعظيماً له، وما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فيُدلك بها وجهه وصدره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.
وها هم يرحلون في طلب حديثه وذكره وكلامه الشهور الطويلة من أجل تجديد العهد بحديثه، وجرسه في أسماعهم، وصداه في قلوبهم.
أيها المؤمنون، نعم لقد شهد أولئك النفر والصحب الكرام حق الشهادة أن محمداً رسول الله، فأحبوه صدق المحبة، كان الرجل منهم ما إن يخلو بأهله، فيذكر أنه قد يفترق عن حبيبه ورسوله في الآخرة، حتى يُرى أثر ذلك في وجهه فتصيبه الهموم والأحزان.. قالت عائشة جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي وأحب إليّ من أهلي وأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكُركَ، فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت ألا أراك فلم يَرُدّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّـالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَىا بِاللَّهِ عَلِيماً} النساء:69، 70.
وما فرح الصحابة فرحاً مثل فرحهم عندما جاء ذلك الأعرابي فقال: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولمّا يلحق بهم، قال عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب) قال أنس: فأنا أحب النبي وأبو بكر وعمر.
نعم أيها الأخوة، بمثل هذا كان يحدث الرجل منهم نفسه، وذلك لتمام المحبة لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الواحد منهم يحدث نفسه: هذه مجالسنا معه في الدنيا، فهل يا ترى نكون معه في الجنة؟هذا السؤال كان يشغل جانباً كبيراً من مشاعر وأحاسيس ووجدان أولئك المؤمنين الصادقين. لقد شهدوا حق الشهادة أن محمداً رسول الله. فأحبوه صدق المحبة، محبة أخرجتهم من ملذاتهم ومراداتهم إلى مراده هو، وما يأمر به وينهى عنه. فلم يبق في قلوبهم تعظيم لأحد، أو توقير فوق تعظيم وتقدير رسول رب العالمين . جادوا بأموالهم في سبيل دينه ودعوته، جادوا بأنفسهم في سبيل الذب عنه.
تجود بالنفس إذا ضن البخيل بها *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
كان الشيخ الهرم الكهل الذي فني وذهبت قوته وأقبل ضعفه، وذهبت صحته وأقبل مرضه، كان يتمنى أن لو كان شاباً يقاتل ويناضل عن رسول الله : (يا ليتني أكون فيها جذعاً).
أيها المسلمون، لا توجد منةٌ لإنسان مهما بلغ مثل منّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأمة، فما من بيت إلا ونالته من بركة هذا النبي الكريم أشياء وأشياء. رُئي الإمام أحمد رحمه الله في المنام بعد موته، فسُئل عن حاله؟ فقال: لولا هذا النبي الكريم لكنا مجوساً، قال ابن رجب رحمه الله: وهو كما قال، فإن أهل العراق لولا رسالة محمد كانوا مجوساً، وأهل الشام ومصر لولا رسالته لكانوا نصارى، وأهل جزيرة العرب لولا رسالته لكانوا مشركين عباد أوثان".
وكان أيوب السخيتاني وهو من كبار التابعين يبكي كثيراً ويقول: لولا هذا النبي لكنا كفاراً.
وهذا عبيدة بن عمرو المرادي يقول له محمد بن سيرين: إن عندنا من شَعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من قِبل أنس بن مالك، فقال: لأن يكون عندي منه شعرة أحبُّ إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض، قال الذهبي رحمه الله: وهذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس. ومثل هذا يقول هذا الإمام بعد وفاة النبي بخمسين سنة. وقد كان ثابت البُناني إذا رأى أنساً أخذ يده فقبلها، ويقول: يدٌ مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
لقد كان حب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قلوب الأمة ينبعث حيوية ويبث نوراً عظيماً فيها، لقد كان حباً لأمره ونهيه، لقد كان حباً شرعياً، وصل بهم إلى أعلى درجات الإيمان. لقد كان خالد بن معدان قّلما يأوي إلى فراشه إلا وهو يذكر شوقه إلى رسول الله وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار ثم يسميهم، ويقول: هم أصلي وفصلي، وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم.
عباد الله، ليس الصحابة والتابعون فحسب هم الذين أحبوا النبي فلقد أحبه كل شيء بالمدينة، الجذع الذي يخطب النبي عليه، يحن إلى حديثه شوقاً، ويُظل يُسمع له حنيناً في المسجد وبكاء، فينـزل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويُسكته كما يُسكت الإنسان طفله.
ثم هذا أُحد، يصعده النبي - عليه الصلاة والسلام - ومعه ثلة من أصحابه، فيرجف بهم فيقول: (أثبت أحد)، ثم يقول: (هذا جبل يحب النبي )، أنا وأنت بعيدون عن مثل هذه المشاعر والأحاسيس، إنه والله الحرمان. إن هذا الذي أدركه الصحابة وأدركه التابعون، تجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - جهله مع كل أسف عوام الناس وخواصهم في هذه الأيام، فأصبحوا لا يعرفون قدر عظيم المنّة عليهم بمبعث رسول الله وفضله على آحادهم وأفرادهم، وأنهم به قد أُخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن النار إلى الجنة: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يا أُوْلِي الأَلْبَـابِ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَـاتِ اللَّهِ مُبَيّنَـاتٍ لّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَـاتِ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} الطلاق:10-11.
أيها المؤمنون، لقد كانت محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والثناء عليه وشكره كان ذلك كله شعاراً خالط باطن الأمة. وكان دثاراً ترتديه الأمة والمؤمنون طيلة حياتهم. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) رواه البخاري. وفي رواية عنده أنه حلف على ذلك فقال: (فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده).
وبوّب عليه النووي بقوله:باب وجوب محبة رسول الله أكثر من الأهل والولد والناس أجمعين.
وجاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لأنت يا رسول الله أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: (لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسي) فيقول عمر مباشرة: فإنك الآن والله أحب إليّ من نفسي، فقال: (الآن يا عمر) رواه البخاري.
فنسأل الله جل وتعالى أن يرزقنا حبه وحب نبيه وأن يحشرنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية :
أما بعد: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} الأحزاب:56.
إن الله - سبحانه وتعالى -، يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصلي كذلك على عباده المؤمنين الصادقين، فليست صلاته سبحانه وتعالى مختصة بالنبي، لا وإنما هي أيضاً للمؤمنين. والدليل قول الله تبارك وتعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} الأحزاب:41-43. فالله عز وجل من فوق سبع سماوات يصلي على المؤمنين. وكذلك ملائكته تصلي على المؤمنين، قال أهل العلم: والصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى عند الملائكة. حكاه البخاري عن أبي العالية.
فيا عباد الله، هل استشعرت يوماً من الدهر هذه القضية، وهو أن الله يثني على عبده المؤمن في الملأ الأعلى، وماذا أعظم من أن يثني الله على عبده في الملأ الأعلى، يثني عليه بماذا؟ يثني عليه بصفاته الحميدة، يثني عليه بإيمانه الصادق، يثني عليه بنشره للخير بين الناس، يثني عليه ببذل ماله ونفسه وروحه ووقته رخيصة في سبيل الدعوة ودفع حركة الإصلاح، واستكثاره من الأعمال الصالحة فيحبه جل وتعالى بسبب هذه الخصال وغيرها، فإذا أحب الله عبداً من عباده، أثنى عليه وصلى عليه في الملأ الأعلى، ونادى جبريل وقال له: إني قد أحببت فلاناً فأحِبّه فيحبه جبريل، ثم ينطلق جبريل فينادى في أهل السماء: إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه فتحبه الملائكة كلهم أجمعون، هناك، حيث ما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك ساجد أو راكع، هؤلاء كلهم يحبون فلاناً، فيوضع له القبول في السماء، فإذا وضع له القبول في السماء، نادى منادٍ على أهل الأرض: إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل الأرض، ويوضع له القبول في الأرض.
أخي المسلم، هل استشعرت هذه المعاني، هل سألت نفسك يوماً: هل أنا ممن أعطي اسمه لجبريل لكي ينادى بأهل السماء بأن الله قد أحب فلاناً فيحبك أهل السماء ويوضع لك القبول هناك ثم يوضع لك القبول هنا.
هل أنت ممن بلغت بصفاتك الحميدة وخصالك الطيبة وعملك الصالح وبذل نفسك للدعوة والخير ونشرها بين الناس والتحمل في سبيل ذلك، أن يثنى عليك في الملأ الأعلى، هذه وقفة.
الوقفة الثانية، هذا الذي وضع له القبول في السماء ثم وضع له القبول في الأرض، ما معنى أن القبول قد وضع له في الأرض؟ معناه: أن هذا الإنسان إذا تكلم سُمع له، وإذا وجّه قبل توجيهه ونصيحته. وغيره يتكلم نفس الكلام لكن لا يؤثر في الناس، السبب أن الأول قد كتب الله له القبول في الأرض، والقبول في قلوب الناس، والثاني لم يكتب له، وهذه مسألة، لا أملكها أنا ولا أنت، وهذه مسألة لا تشترى بالمال ولا تمنح من الدولة، وإنما هي منحة إلهية ربانية من فوق سبع سماوات.
الناس تقبل على فلان ولا تقبل على فلان. الناس تحب فلان ولا تحب فلان.
أيها المسلمون، إن من كان هذا شأنه، ممن كُتب له القبول في الأرض، بعد أن كتب له القبول في السماء، لا يضره كل من في الأرض، وإن كاد له أهل الأرض، وآذوه، وإن حوصر ووضع في بطن حوت في ظلمات البحر، لماذا؟ لأن الله معه، لأن الله يثني عليه بنفسه في الملأ الأعلى، لأن الله يحفظه ويرعاه.
فمن أثنى الله عليه، ووضع له القبول، فلا يخشى شيئاً، والله جل وتعالى لا يثني ولا يصلي إلا على من استقامت سريرته وعلانيته، واستوى ظاهره وباطنه، ولا يمكن أن يجعل الله القبول لإنسان حتى يُقبل هو بقلبه على مولاه.
أخي المسلم، إذا رأيت رجلاً أو عالماً أو داعية مقبولاً عند الناس، تلهج ألسنةُ الناس بذكره، يرددون كلامه، يسمعون بقلوبهم قبل آذانهم فثق بأن حبل هذا الرجل موصول بالله جل وتعالى، وأن هذا قد يكون ممن كتب الله له القبول في الأرض.
فنسأل الله جل وتعالى أن يجعلنا من أهل ذكره، الذين هم أهله وخاصته.
كما نسأله أن نكون من الذاكرين له قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم.
اللهم رحمة اهدِ بها قلوبنا واجمع بها شعثنا.
اللهم صل على محمد...
خطب المنابر
ناصر بن محمد الأحمد
ملخص الخطبة :
1- منة الله العظيمة علينا برسالة محمد . 2- محبة الصحابة البالغة للنبي . 3- محبة السلف النبي . 4- وقفات مع حديث عن محبة الله للعباد.
الخطبة الأولى :
أما بعد: إنه أيها الأخوة لا ينقطع الثناء والشكر على من أسدل النعم والمنن على الناس، لا ينقطع التوقير والتبجيل في النفس ومشاعرها تجاه أولئك النفر الذين وهبوا حياتهم وأموالهم لتبليغ الدين ورسالة رب العالمين. وكلما علت منزلة الواحد من هؤلاء كلما كان أقرب للاصطفاء والاجتباء. وعلى رأس هؤلاء محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا النبي الكريم الأمي، الذي أرسله الله على حين فترة من الرسل، أتى بالنور معه، والناس أحوج ما يكونون إليه، أتى بالهدى والناس أشد ما يكونون في الضلالة، أتى بالإيمان والناس أشد ما يكونون في الكفر. وأعظم الناس إدراكاً لعظيم الحاجة لهذا النبي هم صحبه الأول. أدركوا مدى الشقاء الذي كان سيلازمهم لولا بعثة هذا الرسول، فلقد أخرجهم من دركات الظلمات إلى النور التام، فدلهم على طريق الجنة، وحذرهم، فأخذ بُحجزهم عن النار وسبلها، أخرجهم من عبودية أهوائهم إلى عبودية رب العالمين، أعاد النفوس والفطر إلى وضعها الصحيح الذي خلقت له ومن أجله.
أيها المسلمون: لنسرح بخيالنا، مع الرعيل الأول، وكيف كانوا مع رسول الله ، وكيف عرف أولئك أن يأخذوا الإيمان والخلق والعبادة من نبيهم ومن هديه، فارتقوا في درجات سلم العبودية، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه.
أما نحن، فنقول: أشهد أن محمداً رسول الله لكن الفرق ستجده بعد قليل.
لما أدرك الصحابة نعمة بعثة الرسول بينهم، قام في قلوبهم من حبه الشيء العظيم، فعمر ذكره والثناء عليه قلوبهم ومجالسهم، ما أن يسمعوا بلالاً - رضي الله عنه - يردد من خلفه بصدق: "أشهد أن محمداً رسول الله" تخرج حارّة من قلوبهم فتترجم حية في واقع حياتهم، فهذا مهتم بأمر سواكه، وهذا مهتم بنعله، وهذا مهتم بوضوئه وطهوره، وهذا يصلح له دابته، وهذا يحفظ له ماله وقوته، وهذا يبادر إليه فيستضيفه، وهذا، وهذا، وتجاوز بهم الحب إلى أن يقتسموا شعره إذا حلقه ويتوضؤون بفضلة وضوءه، بل وما يتنخم ولا يتفل إلا ومدوا أيديهم في الهواء يتلقون أثراً من النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال عروة بن مسعود القريشي: يا قوم، والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً - صلى الله عليه وسلم - والله ما يحدون النظر إليه تعظيماً له، وما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فيُدلك بها وجهه وصدره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.
وها هم يرحلون في طلب حديثه وذكره وكلامه الشهور الطويلة من أجل تجديد العهد بحديثه، وجرسه في أسماعهم، وصداه في قلوبهم.
أيها المؤمنون، نعم لقد شهد أولئك النفر والصحب الكرام حق الشهادة أن محمداً رسول الله، فأحبوه صدق المحبة، كان الرجل منهم ما إن يخلو بأهله، فيذكر أنه قد يفترق عن حبيبه ورسوله في الآخرة، حتى يُرى أثر ذلك في وجهه فتصيبه الهموم والأحزان.. قالت عائشة جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي وأحب إليّ من أهلي وأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكُركَ، فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت ألا أراك فلم يَرُدّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّـالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَىا بِاللَّهِ عَلِيماً} النساء:69، 70.
وما فرح الصحابة فرحاً مثل فرحهم عندما جاء ذلك الأعرابي فقال: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولمّا يلحق بهم، قال عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب) قال أنس: فأنا أحب النبي وأبو بكر وعمر.
نعم أيها الأخوة، بمثل هذا كان يحدث الرجل منهم نفسه، وذلك لتمام المحبة لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الواحد منهم يحدث نفسه: هذه مجالسنا معه في الدنيا، فهل يا ترى نكون معه في الجنة؟هذا السؤال كان يشغل جانباً كبيراً من مشاعر وأحاسيس ووجدان أولئك المؤمنين الصادقين. لقد شهدوا حق الشهادة أن محمداً رسول الله. فأحبوه صدق المحبة، محبة أخرجتهم من ملذاتهم ومراداتهم إلى مراده هو، وما يأمر به وينهى عنه. فلم يبق في قلوبهم تعظيم لأحد، أو توقير فوق تعظيم وتقدير رسول رب العالمين . جادوا بأموالهم في سبيل دينه ودعوته، جادوا بأنفسهم في سبيل الذب عنه.
تجود بالنفس إذا ضن البخيل بها *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
كان الشيخ الهرم الكهل الذي فني وذهبت قوته وأقبل ضعفه، وذهبت صحته وأقبل مرضه، كان يتمنى أن لو كان شاباً يقاتل ويناضل عن رسول الله : (يا ليتني أكون فيها جذعاً).
أيها المسلمون، لا توجد منةٌ لإنسان مهما بلغ مثل منّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأمة، فما من بيت إلا ونالته من بركة هذا النبي الكريم أشياء وأشياء. رُئي الإمام أحمد رحمه الله في المنام بعد موته، فسُئل عن حاله؟ فقال: لولا هذا النبي الكريم لكنا مجوساً، قال ابن رجب رحمه الله: وهو كما قال، فإن أهل العراق لولا رسالة محمد كانوا مجوساً، وأهل الشام ومصر لولا رسالته لكانوا نصارى، وأهل جزيرة العرب لولا رسالته لكانوا مشركين عباد أوثان".
وكان أيوب السخيتاني وهو من كبار التابعين يبكي كثيراً ويقول: لولا هذا النبي لكنا كفاراً.
وهذا عبيدة بن عمرو المرادي يقول له محمد بن سيرين: إن عندنا من شَعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من قِبل أنس بن مالك، فقال: لأن يكون عندي منه شعرة أحبُّ إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض، قال الذهبي رحمه الله: وهذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس. ومثل هذا يقول هذا الإمام بعد وفاة النبي بخمسين سنة. وقد كان ثابت البُناني إذا رأى أنساً أخذ يده فقبلها، ويقول: يدٌ مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
لقد كان حب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قلوب الأمة ينبعث حيوية ويبث نوراً عظيماً فيها، لقد كان حباً لأمره ونهيه، لقد كان حباً شرعياً، وصل بهم إلى أعلى درجات الإيمان. لقد كان خالد بن معدان قّلما يأوي إلى فراشه إلا وهو يذكر شوقه إلى رسول الله وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار ثم يسميهم، ويقول: هم أصلي وفصلي، وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم.
عباد الله، ليس الصحابة والتابعون فحسب هم الذين أحبوا النبي فلقد أحبه كل شيء بالمدينة، الجذع الذي يخطب النبي عليه، يحن إلى حديثه شوقاً، ويُظل يُسمع له حنيناً في المسجد وبكاء، فينـزل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويُسكته كما يُسكت الإنسان طفله.
ثم هذا أُحد، يصعده النبي - عليه الصلاة والسلام - ومعه ثلة من أصحابه، فيرجف بهم فيقول: (أثبت أحد)، ثم يقول: (هذا جبل يحب النبي )، أنا وأنت بعيدون عن مثل هذه المشاعر والأحاسيس، إنه والله الحرمان. إن هذا الذي أدركه الصحابة وأدركه التابعون، تجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - جهله مع كل أسف عوام الناس وخواصهم في هذه الأيام، فأصبحوا لا يعرفون قدر عظيم المنّة عليهم بمبعث رسول الله وفضله على آحادهم وأفرادهم، وأنهم به قد أُخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن النار إلى الجنة: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يا أُوْلِي الأَلْبَـابِ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَـاتِ اللَّهِ مُبَيّنَـاتٍ لّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَـاتِ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ} الطلاق:10-11.
أيها المؤمنون، لقد كانت محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والثناء عليه وشكره كان ذلك كله شعاراً خالط باطن الأمة. وكان دثاراً ترتديه الأمة والمؤمنون طيلة حياتهم. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) رواه البخاري. وفي رواية عنده أنه حلف على ذلك فقال: (فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده).
وبوّب عليه النووي بقوله:باب وجوب محبة رسول الله أكثر من الأهل والولد والناس أجمعين.
وجاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لأنت يا رسول الله أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: (لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسي) فيقول عمر مباشرة: فإنك الآن والله أحب إليّ من نفسي، فقال: (الآن يا عمر) رواه البخاري.
فنسأل الله جل وتعالى أن يرزقنا حبه وحب نبيه وأن يحشرنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية :
أما بعد: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} الأحزاب:56.
إن الله - سبحانه وتعالى -، يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصلي كذلك على عباده المؤمنين الصادقين، فليست صلاته سبحانه وتعالى مختصة بالنبي، لا وإنما هي أيضاً للمؤمنين. والدليل قول الله تبارك وتعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} الأحزاب:41-43. فالله عز وجل من فوق سبع سماوات يصلي على المؤمنين. وكذلك ملائكته تصلي على المؤمنين، قال أهل العلم: والصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى عند الملائكة. حكاه البخاري عن أبي العالية.
فيا عباد الله، هل استشعرت يوماً من الدهر هذه القضية، وهو أن الله يثني على عبده المؤمن في الملأ الأعلى، وماذا أعظم من أن يثني الله على عبده في الملأ الأعلى، يثني عليه بماذا؟ يثني عليه بصفاته الحميدة، يثني عليه بإيمانه الصادق، يثني عليه بنشره للخير بين الناس، يثني عليه ببذل ماله ونفسه وروحه ووقته رخيصة في سبيل الدعوة ودفع حركة الإصلاح، واستكثاره من الأعمال الصالحة فيحبه جل وتعالى بسبب هذه الخصال وغيرها، فإذا أحب الله عبداً من عباده، أثنى عليه وصلى عليه في الملأ الأعلى، ونادى جبريل وقال له: إني قد أحببت فلاناً فأحِبّه فيحبه جبريل، ثم ينطلق جبريل فينادى في أهل السماء: إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه فتحبه الملائكة كلهم أجمعون، هناك، حيث ما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك ساجد أو راكع، هؤلاء كلهم يحبون فلاناً، فيوضع له القبول في السماء، فإذا وضع له القبول في السماء، نادى منادٍ على أهل الأرض: إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل الأرض، ويوضع له القبول في الأرض.
أخي المسلم، هل استشعرت هذه المعاني، هل سألت نفسك يوماً: هل أنا ممن أعطي اسمه لجبريل لكي ينادى بأهل السماء بأن الله قد أحب فلاناً فيحبك أهل السماء ويوضع لك القبول هناك ثم يوضع لك القبول هنا.
هل أنت ممن بلغت بصفاتك الحميدة وخصالك الطيبة وعملك الصالح وبذل نفسك للدعوة والخير ونشرها بين الناس والتحمل في سبيل ذلك، أن يثنى عليك في الملأ الأعلى، هذه وقفة.
الوقفة الثانية، هذا الذي وضع له القبول في السماء ثم وضع له القبول في الأرض، ما معنى أن القبول قد وضع له في الأرض؟ معناه: أن هذا الإنسان إذا تكلم سُمع له، وإذا وجّه قبل توجيهه ونصيحته. وغيره يتكلم نفس الكلام لكن لا يؤثر في الناس، السبب أن الأول قد كتب الله له القبول في الأرض، والقبول في قلوب الناس، والثاني لم يكتب له، وهذه مسألة، لا أملكها أنا ولا أنت، وهذه مسألة لا تشترى بالمال ولا تمنح من الدولة، وإنما هي منحة إلهية ربانية من فوق سبع سماوات.
الناس تقبل على فلان ولا تقبل على فلان. الناس تحب فلان ولا تحب فلان.
أيها المسلمون، إن من كان هذا شأنه، ممن كُتب له القبول في الأرض، بعد أن كتب له القبول في السماء، لا يضره كل من في الأرض، وإن كاد له أهل الأرض، وآذوه، وإن حوصر ووضع في بطن حوت في ظلمات البحر، لماذا؟ لأن الله معه، لأن الله يثني عليه بنفسه في الملأ الأعلى، لأن الله يحفظه ويرعاه.
فمن أثنى الله عليه، ووضع له القبول، فلا يخشى شيئاً، والله جل وتعالى لا يثني ولا يصلي إلا على من استقامت سريرته وعلانيته، واستوى ظاهره وباطنه، ولا يمكن أن يجعل الله القبول لإنسان حتى يُقبل هو بقلبه على مولاه.
أخي المسلم، إذا رأيت رجلاً أو عالماً أو داعية مقبولاً عند الناس، تلهج ألسنةُ الناس بذكره، يرددون كلامه، يسمعون بقلوبهم قبل آذانهم فثق بأن حبل هذا الرجل موصول بالله جل وتعالى، وأن هذا قد يكون ممن كتب الله له القبول في الأرض.
فنسأل الله جل وتعالى أن يجعلنا من أهل ذكره، الذين هم أهله وخاصته.
كما نسأله أن نكون من الذاكرين له قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم.
اللهم رحمة اهدِ بها قلوبنا واجمع بها شعثنا.
اللهم صل على محمد...
- هل يصلي خلف من لا يصدق أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين؟
- الحمد لله الذي بعث نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - في خير القرون،
- تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم لآلات اللهو والمعازف
- نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور في كتب أهل الكتاب أبلغ من الإسم
- الصحابى الجليل ابو بكر الصديق خليفه رسول الله صلى الله عليه وسلم
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى