ابو اسلام
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه د. عمر المقبل
هذه قاعدة من القواعد النبوية المحكمة في أبواب المعاملة بين الخلق.
وأصل هذه القاعدة وردت ضمن حديث طويلٍ تضمّن عدة وصايا نبوية عظيمة، رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، وفيه: "فمن أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" (1).
هكذا يختصر النبي صلى الله عليه وسلم آلافاً من الكلمات والعبارات، والخطب والمقالات – في باب التعامل مع الخلق - في هذه القاعدة الجامعة، بل هي قاعدة من قواعد السعادة، إنه ميزان عادل منصف ينصبه النبي صلى الله عليه وسلم لكل من يتعامل مع الناس، الذين في تنوع أخلاقهم، وتفاوت معاملاتهم كما بين السماء والأرض.
يقول النووي رحمه الله:"هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وبديع حِكَمه، وهذه قاعدة مهمة (2)؛ فينبغي الاعتناء بها، وإن الإنسان يُلزم أن لا يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه معه" (3).
أيها الأفاضل:
"هذا هو الميزان الصحيح للإحسان وللنصح، فكل أمرٍ أشكل عليك مما تُعامل به الناس فانظر هل تحب أن يعاملوك بتلك المعاملة أم لا؟ فإن كنت تحب ذلك؛ كنت محبًّا لهم ما تحب لنفسك، وإن كنت لا تحب أن يعاملوك بتلك المعاملة؛ فقد ضيعت هذا الواجب العظيم" (4).
إن من يهتدي بهذه القاعدة في معاملاته الاجتماعية تستقيم حالُه، وتجمل خصالُه، وترقى مع الناس أفعالُه "فلا يؤذيهم؛ لأنه لا يحب أن يؤذوه، ولا يعتدي عليهم؛ لأنه لا يحب أن يعتدوا عليه، ولا يشتمهم؛ لأنه لا يحب أن يشتموه، وهلم جراً: لا يغشهم في البيع والشراء وغير ذلك، ولا يكذب عليهم؛ لأنه لا يحب أن يُفعل به ذلك، وهذه قاعدة لو أن الناس مشوا عليها في التعامل فيما بينهم لنالوا خيراً كثيراً، ويشبه هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه" (5).
معنى هذه القاعدة: هو أن يفعل المرء مع الناس ما يحب أن يفعلوه هم معه، وبذلك تنتظم أحوال الجمهور، ويرتفع الخلاف والتفوّر (6)، وتزول الضغائن من الصدور (7).
أيها الأحبة:
لقد كانت حياة نبينا عليه الصلاة والسلام ترجمة لهذه القاعدة العظيمة، بل لقد استعملها النبي صلى الله عليه وسلم دواءً تربويًّا فكان من أنجع الأدوية وأشفاها، تابعوا معنا هذه القصة التي رواها لنا الصحابي الجليل أبو أمامة رضي الله عنه فقال:
إن فتىً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه! مه! فقال: "ادنه"، فدنا منه قريباً، قال: فجلس قال: "أتحبه لأمك"؟ قال: لا! والله جعلني الله فداءك! قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"! قال: "أفتحبه لابنتك؟" قال: لا! والله، يا رسول الله، جعلني الله فداءك! قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم"! قال: "أفتحبه لأختك"؟ قال: لا! والله، جعلني الله فداءك! قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم"! قال: "أفتحبه لعمتك"؟ قال: لا! والله، جعلني الله فداءك! قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم"! قال: "أفتحبه لخالتك"؟ قال: لا! والله جعلني الله فداءك! قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم"! قال: فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصن فرجه" قال: فلم يكن بعدُ ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. (8)
إن هذه القاعدة الجليلة هي نداء الفطرة السليمة التي فطر الله تعالى الناس عليها، علم ذلك النبيُ صلى الله عليه وسلم فنادى ذلك الشاب بهذا النداء؛ فما كان إلا الاستجابة العاجلة لهذا النداء.
"قيل للأحنف: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من نفسي! كنتُ إذا كرهتُ شيئاً من غيري لا أفعل مثله بأحد" (9).
وكان محمد بن واسع يبيع حماراً له، فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيتُه لم أبعه!
قال ابن رجب: وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه - حيث أجابه بحقيقة الأمر دون تدليس أو خداع - وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي من جملة الدين (10).
وعندما نتأمل في القرآن الكريم؛ نجده قد رسخ هذه القاعدة بأساليب متنوعة، وأقرب مثال على ذلك قول الحق سبحانه: "وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ"، "الذم إنما لحقهم بمجموع أنهم يأخذون زائداً، ويدفعون ناقصاً... وعن قتادة: "أوف يا ابن آدم الكيل كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يُعدل لك" وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة، وقال أعرابي لعبد الملك بن مروان: قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين! أراد بذلك أن المطفف قد تَوَجّه عليه الوعيد العظيم في أخذ القليل (11)، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ الكثير، وتأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن!" (12).
مثال آخر من القرآن يرسخ هذه القاعدة النبوية: "وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" وهو قوله تعالى في حق الزوجات: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ"[البقرة: 228] (13).
قال ابن كثير: أي: ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليُؤدِ كلُّ واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف (14)، ولهذا قال ابن عباس: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي (15).
الله أكبر .. ما أجلها من قاعدة!
وما أحرى المسلم بتدبرها وتأملها، وأن يبادر إلى تطبيقها في نفسه ومَن حوله!
طبقها - أيها المؤمن - في بيعك وشرائك، وأخذك وعطائك، في البيت والشارع والسوق، والمسجد والمدرسة، وفي وسائل النقل وساحات الاستراحات، وإن خالفتها فعاملتَ غيرك بما تكره أن تُعامَل به؛ فقد علمت ما قال الله في المطففين! وكنت من المتناقضين الذين ذمهم الله تعالى بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ"[الصف: 2، 3].
يروى أن رجلاً لبّاناً - كان بالبادية - يخلط اللبنَ بالماء، فجاء السيل؛ فذهب بالغنم! فجعل يبكي ويقول: اجتمعت تلك القطرات، فصارت سيلاً! ولسان الجزاء يناديه: "ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ"[الحج: 10]" (16).
ليكن كل واحد منا حكماً على نفسه أمام هذه الجملة: "وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" وليضع نفسه دوماً في مكان الطرف الآخر ولينظر! هل يحب أن تُقَدّره زوجتُه؟ وهل يحب أن يُقَدّره الناس؟ وهل يحب أن يحترم الناس مواعيده؟ أسئلة كثيرة إجابتها معلومة عند كل عاقل، فإذا كان كذلك؛ فليعلم أن الناس أيضاً كذلك.
وأيضاً: إذا كان هذا الأدب مطلوباً في حق الخلق؛ فهو في حق الخالق سبحانه وتعالى من باب أولى! كيف تطلب من ربك أن يعطيك ما تحب، وينجيك مما تكره، وأنت مقيم على ما يكره، تارك لما يحب؟ يقول ابن الجوزي رحمه الله: "ويحك! لو ابتلاك في مالك فقلَّ لاستغثت، أو في بدنك ليلةً بمرضٍ لشكوت، فأنت تستوفي مطلوباتك منه، ولا تستوفي حقه عليك! "وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ"[المطففين: 1]" (17)، لهذا قال سلمان رضي الله عنه: الصلاة مكيال، فمن وَفّى وُفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله تعالى في حق المطففين! (18)
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال؛ لا يهدينا لأحسنها إلا أنت، وجنبنا عن أسوأ الأخلاق والأقوال والأعمال؛ لا يجنبنا عن أسوأها إلا أنت، إياك نعبد وإياك نستعين.
____________
(1) مسلم ح(1844).
(2) الفتاوى الكبرى: (6/ 156) عند كلامه على الحديث التي وردت فيه هذه القاعدة: "فهذه الوظائف الثلاث التي جمعها في هذا الحديث من قواعد الإسلام".
(3) شرح مسلم: (12/ 233).
(4) بهجة قلوب الأبرار: (ص206).
(5) شرح رياض الصالحين: (6/ 235).
(6) الغليان.
(7) ينظر: فيض القدير: (2/ 443).
(8) أحمد ح(22211).
(9) فيض القدير: (1/ 65).
(10) جامع العلوم والحكم: (1/ 305).
(11) لأنه قيل أن التطفيف مأخوذ من سرقة الشيء الطفيف.
(12) تفسير الرازي: (31/ 83-84).
(13) التحرير والتنوير (2/ 396): "وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال، وتشبيهه بما للرجال على النساء؛ لأن حقوق الرجال على النساء مشهورة، مسلّمة من أقدم عصور البشر، فأما حقوق النساء فلم تكن مما يلتفت إليه أو كانت متهاوناً بها، وموكولة إلى مقدار حظوة المرأة عند زوجها، حتى جاء الإسلام فأقامها، وأعظم ما أسست به هو ما جمعته هذه الآية...".
(14) تفسير ابن كثير: (1/ 609).
(15) تفسير القرطبي: (3/ 123).
(16) بحر الدموع: (ص: 147).
(17) صيد الخاطر: (ص: 423).
(18) تفسير التستري: (ص: 189).
هذه قاعدة من القواعد النبوية المحكمة في أبواب المعاملة بين الخلق.
وأصل هذه القاعدة وردت ضمن حديث طويلٍ تضمّن عدة وصايا نبوية عظيمة، رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، وفيه: "فمن أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" (1).
هكذا يختصر النبي صلى الله عليه وسلم آلافاً من الكلمات والعبارات، والخطب والمقالات – في باب التعامل مع الخلق - في هذه القاعدة الجامعة، بل هي قاعدة من قواعد السعادة، إنه ميزان عادل منصف ينصبه النبي صلى الله عليه وسلم لكل من يتعامل مع الناس، الذين في تنوع أخلاقهم، وتفاوت معاملاتهم كما بين السماء والأرض.
يقول النووي رحمه الله:"هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وبديع حِكَمه، وهذه قاعدة مهمة (2)؛ فينبغي الاعتناء بها، وإن الإنسان يُلزم أن لا يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه معه" (3).
أيها الأفاضل:
"هذا هو الميزان الصحيح للإحسان وللنصح، فكل أمرٍ أشكل عليك مما تُعامل به الناس فانظر هل تحب أن يعاملوك بتلك المعاملة أم لا؟ فإن كنت تحب ذلك؛ كنت محبًّا لهم ما تحب لنفسك، وإن كنت لا تحب أن يعاملوك بتلك المعاملة؛ فقد ضيعت هذا الواجب العظيم" (4).
إن من يهتدي بهذه القاعدة في معاملاته الاجتماعية تستقيم حالُه، وتجمل خصالُه، وترقى مع الناس أفعالُه "فلا يؤذيهم؛ لأنه لا يحب أن يؤذوه، ولا يعتدي عليهم؛ لأنه لا يحب أن يعتدوا عليه، ولا يشتمهم؛ لأنه لا يحب أن يشتموه، وهلم جراً: لا يغشهم في البيع والشراء وغير ذلك، ولا يكذب عليهم؛ لأنه لا يحب أن يُفعل به ذلك، وهذه قاعدة لو أن الناس مشوا عليها في التعامل فيما بينهم لنالوا خيراً كثيراً، ويشبه هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه" (5).
معنى هذه القاعدة: هو أن يفعل المرء مع الناس ما يحب أن يفعلوه هم معه، وبذلك تنتظم أحوال الجمهور، ويرتفع الخلاف والتفوّر (6)، وتزول الضغائن من الصدور (7).
أيها الأحبة:
لقد كانت حياة نبينا عليه الصلاة والسلام ترجمة لهذه القاعدة العظيمة، بل لقد استعملها النبي صلى الله عليه وسلم دواءً تربويًّا فكان من أنجع الأدوية وأشفاها، تابعوا معنا هذه القصة التي رواها لنا الصحابي الجليل أبو أمامة رضي الله عنه فقال:
إن فتىً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه! مه! فقال: "ادنه"، فدنا منه قريباً، قال: فجلس قال: "أتحبه لأمك"؟ قال: لا! والله جعلني الله فداءك! قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"! قال: "أفتحبه لابنتك؟" قال: لا! والله، يا رسول الله، جعلني الله فداءك! قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم"! قال: "أفتحبه لأختك"؟ قال: لا! والله، جعلني الله فداءك! قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم"! قال: "أفتحبه لعمتك"؟ قال: لا! والله، جعلني الله فداءك! قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم"! قال: "أفتحبه لخالتك"؟ قال: لا! والله جعلني الله فداءك! قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم"! قال: فوضع يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصن فرجه" قال: فلم يكن بعدُ ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. (8)
إن هذه القاعدة الجليلة هي نداء الفطرة السليمة التي فطر الله تعالى الناس عليها، علم ذلك النبيُ صلى الله عليه وسلم فنادى ذلك الشاب بهذا النداء؛ فما كان إلا الاستجابة العاجلة لهذا النداء.
"قيل للأحنف: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من نفسي! كنتُ إذا كرهتُ شيئاً من غيري لا أفعل مثله بأحد" (9).
وكان محمد بن واسع يبيع حماراً له، فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيتُه لم أبعه!
قال ابن رجب: وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه - حيث أجابه بحقيقة الأمر دون تدليس أو خداع - وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي من جملة الدين (10).
وعندما نتأمل في القرآن الكريم؛ نجده قد رسخ هذه القاعدة بأساليب متنوعة، وأقرب مثال على ذلك قول الحق سبحانه: "وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ"، "الذم إنما لحقهم بمجموع أنهم يأخذون زائداً، ويدفعون ناقصاً... وعن قتادة: "أوف يا ابن آدم الكيل كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يُعدل لك" وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة، وقال أعرابي لعبد الملك بن مروان: قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين! أراد بذلك أن المطفف قد تَوَجّه عليه الوعيد العظيم في أخذ القليل (11)، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ الكثير، وتأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن!" (12).
مثال آخر من القرآن يرسخ هذه القاعدة النبوية: "وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" وهو قوله تعالى في حق الزوجات: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ"[البقرة: 228] (13).
قال ابن كثير: أي: ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليُؤدِ كلُّ واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف (14)، ولهذا قال ابن عباس: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي (15).
الله أكبر .. ما أجلها من قاعدة!
وما أحرى المسلم بتدبرها وتأملها، وأن يبادر إلى تطبيقها في نفسه ومَن حوله!
طبقها - أيها المؤمن - في بيعك وشرائك، وأخذك وعطائك، في البيت والشارع والسوق، والمسجد والمدرسة، وفي وسائل النقل وساحات الاستراحات، وإن خالفتها فعاملتَ غيرك بما تكره أن تُعامَل به؛ فقد علمت ما قال الله في المطففين! وكنت من المتناقضين الذين ذمهم الله تعالى بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ"[الصف: 2، 3].
يروى أن رجلاً لبّاناً - كان بالبادية - يخلط اللبنَ بالماء، فجاء السيل؛ فذهب بالغنم! فجعل يبكي ويقول: اجتمعت تلك القطرات، فصارت سيلاً! ولسان الجزاء يناديه: "ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ"[الحج: 10]" (16).
ليكن كل واحد منا حكماً على نفسه أمام هذه الجملة: "وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" وليضع نفسه دوماً في مكان الطرف الآخر ولينظر! هل يحب أن تُقَدّره زوجتُه؟ وهل يحب أن يُقَدّره الناس؟ وهل يحب أن يحترم الناس مواعيده؟ أسئلة كثيرة إجابتها معلومة عند كل عاقل، فإذا كان كذلك؛ فليعلم أن الناس أيضاً كذلك.
وأيضاً: إذا كان هذا الأدب مطلوباً في حق الخلق؛ فهو في حق الخالق سبحانه وتعالى من باب أولى! كيف تطلب من ربك أن يعطيك ما تحب، وينجيك مما تكره، وأنت مقيم على ما يكره، تارك لما يحب؟ يقول ابن الجوزي رحمه الله: "ويحك! لو ابتلاك في مالك فقلَّ لاستغثت، أو في بدنك ليلةً بمرضٍ لشكوت، فأنت تستوفي مطلوباتك منه، ولا تستوفي حقه عليك! "وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ"[المطففين: 1]" (17)، لهذا قال سلمان رضي الله عنه: الصلاة مكيال، فمن وَفّى وُفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله تعالى في حق المطففين! (18)
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال؛ لا يهدينا لأحسنها إلا أنت، وجنبنا عن أسوأ الأخلاق والأقوال والأعمال؛ لا يجنبنا عن أسوأها إلا أنت، إياك نعبد وإياك نستعين.
____________
(1) مسلم ح(1844).
(2) الفتاوى الكبرى: (6/ 156) عند كلامه على الحديث التي وردت فيه هذه القاعدة: "فهذه الوظائف الثلاث التي جمعها في هذا الحديث من قواعد الإسلام".
(3) شرح مسلم: (12/ 233).
(4) بهجة قلوب الأبرار: (ص206).
(5) شرح رياض الصالحين: (6/ 235).
(6) الغليان.
(7) ينظر: فيض القدير: (2/ 443).
(8) أحمد ح(22211).
(9) فيض القدير: (1/ 65).
(10) جامع العلوم والحكم: (1/ 305).
(11) لأنه قيل أن التطفيف مأخوذ من سرقة الشيء الطفيف.
(12) تفسير الرازي: (31/ 83-84).
(13) التحرير والتنوير (2/ 396): "وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال، وتشبيهه بما للرجال على النساء؛ لأن حقوق الرجال على النساء مشهورة، مسلّمة من أقدم عصور البشر، فأما حقوق النساء فلم تكن مما يلتفت إليه أو كانت متهاوناً بها، وموكولة إلى مقدار حظوة المرأة عند زوجها، حتى جاء الإسلام فأقامها، وأعظم ما أسست به هو ما جمعته هذه الآية...".
(14) تفسير ابن كثير: (1/ 609).
(15) تفسير القرطبي: (3/ 123).
(16) بحر الدموع: (ص: 147).
(17) صيد الخاطر: (ص: 423).
(18) تفسير التستري: (ص: 189).
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى