رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
القرآن صمام الأمان
د. عبدالعزيز بن فوزان الفوزان
القرآن صمام الأمان(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنزل كتابه الكريم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وكان الله بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فلا شيء أشق على النفس، وأثقل على اللسان، وأعجز عن البيان، وأبلغ من أن يعبر عنه، أو يذكر فضله، أو يمدح مكانه، أو يدانى مقامه، أو يوصف شأنه، من كلام الله تعالى، وأي شيء أعظم من كلام الله؟! فاللسان مهما أوتي من الفصاحة والبيان أعجز وأضعف من أن يعبر عن مكانة القرآن، لأنه أبلغ الكلام وأفصحه، وأصدقه وأنصحه، وأعلاه وأرفعه، وأكمله وأجمله، فهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وهو سفينة النجاة، ومشعل الهداية، وسبيل السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، هو ينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة، وأساس كل علم نافع، وهو المعجزة الخالدة، الذي تتجدد وجوه إعجازه، ولا تنقضي عجائبه، ولا تنقص حلاوته، ولا تذهب طلاوته، ولا يخلق على كثرة الرد، هو العاصم من الضلال، والهادي لأقوم السبل وأفضل الأخلاق والأعمال، فيه نبأ ما كان قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، والحق المنزه عن كل ظلم وجهل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً)، هو الجامع لكل بر وخير، والمانع من كل منكر وشر، هو كما قال ربنا: (ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)[الأنعام: 38]، وقال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89 )، أخباره كلها حق وصدق، وأحكامه كلها عدل وفضل: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً)، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدي، ومن أخذ به رشد، ومن أعرض عنه شقي، ومن حرم خيره فقد حرم الخير كله، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، هو كما وصفه ربنا بقوله: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)[البقرة: 2]، وقوله: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد)[إبراهيم: 1]، وقوله: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)[الإسراء: 9]، وقوله: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)[المائدة: 15ـ16]، وقوله: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)[يونس: 57ـ58]
ولقد طلب مني الإخوة الفضلاء في "جائزة رأس الخيمة للقرآن الكريم" في دولة الإمارات العربية المتحدة المشاركة بورقة عمل في الدورة العاشرة من هذه الجائزة المباركة، ثم تفضلوا بطباعتها في كتاب يزيد عن مائة صفحة من القطع المتوسط، فرأيت أن أعمم الانتفاع بها من خلال هذه المقالات المتسلسلة، التي لا تخلو من إضافات مهمة عما كان في ذلك الكتاب!!
وكم هو شرف لي أن أسهم بهذه المقالات المتواضعة في نصرة كتاب الله تعالى، والحث على تعلمه وتعليمه، والدفاع عن محاضنه وحلقاته المباركة، وبيان أثرها الفعال في تحقيق الأمن والاستقرار، ومكافحة الجريمة والإرهاب، وخصوصاً مع كثرة الحملات المغرضة الموجهة إلى هذه الجمعيات والحلقات، والمشككة بدورها، والمتهمة لها أحياناً بأنها ترعى الإرهاب وتغذيه!! (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا).
وهؤلاء الذين يرمونها بهذه التهم الباطلة، ويطالبون بكل صفاقة وصلف بإلغائها أو تحجيم دورها والتضييق عليها إما أنهم جاهلون بحقيقة هذه الجمعيات ونشاطاتها، وأثرها الفعال في الإصلاح والبناء، ومغترون بالدعايات المضللة والحملات المشبوهة التي تشن عليها، فهم مطبلون متسرعون، ويهرفون بما لا يعرفون، ويرددون ما يقوله الظالمون من غير أن يكلفوا أنفسهم عناء التمحيص والتثبت، ولو أنهم سكتوا لكان خيراً لهم وأسلم، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
وإما أنهم مجرمون ظالمون، يغيظهم ما تقوم به هذه الجمعيات من نشر الخير والهدى، وإشاعة البر والتقوى، وإصلاح الناس، وتقوية إيمانهم، وتزكية نفوسهم، وربطهم بكتاب ربهم ومصدر عزتهم وقوتهم، وسبيل فلاحهم وسعادتهم، فهي تعارض أهواءهم الضالة، ومخططاتهم المشبوهة في تغريب المجتمع وإفساده، وتدمير قيمه وأخلاقه، وسلخه من هويته الدينية والأخلاقية، وعليهم يصدق قول الحق عز وجل عن أهل الأهواء وعباد الشهوات: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً)، (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتياناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون)، (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين)، (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين).
والله تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، نافعاً لعباده، ذخراً لي يوم لقاه، وأن يبارك في هذه الجمعيات ويجزي القائمين عليها خير الجزاء وأوفاه، وأن يمدهم بعونه ويوفقهم لما يحبه ويرضاه. آمين. وإلى لقاء في الفقرة القادمة بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
القرآن صمام الأمان(2)
قبل أن أبين أثر القرآن الكريم وحلقاته المباركة في تحقيق الأمن بمعناه الشامل، لعل من المناسب أن أؤكد على أهمية الأمن في حياة الإنسان وذلك من خلال المطالب الثلاثة الآتية:
المطلب الأول
اضطرار الناس إلى الأمن، وأثره في تحقيق سعادتهم
الأمن حاجة إنسانية ملحة، ومطلب فطري لا تستقيم الحياة بدونه، ولا يستغني عنه فرد أو مجتمع. والحياة بلا أمن حياة قاحلة مجدبة، شديدة قاسية، لا يمكن أن تقبل أو تطاق.
فالأمن من أهم مقومات السعادة والاستقرار، وأهم أسباب التقدم والتحضر والرقي. وهو مطلب تتفق على أهميته جميع الأمم والشعوب، والأفراد والمجتمعات، في كل زمان ومكان.
وإذا فقد الأمن اضطربت النفوس، وسيطر عليها الخوف والقلق، وتعطلت مصالح الناس، وانقبضوا عن السعي والكسب، وانحصرت هممهم بتأمين أنفسهم ومن تحت أيديهم، ودفع الظلم والعدوان الواقع أو المتوقع عليهم.
وهل يمكن للإنسان أن يعبد ربه، ويقوم بواجبات دينه كما أمره الله والخوفُ يحاصره، والقلق يساوره، وتوقع المكروه يخنق صوته، ويكتم أنفاسه؟!!
وكيف يتأتى له أن يبدع ويفكر، وهو يتوجس خيفة، ويتوقع البلاء في أية لحظة؟! وعقله في حيرة وذهول، وذهنه مشغول بتأمين نفسه وأهله، وحماية ما يستطيع من حقوقه ومصالحه؟!!
وكيف يمكنه الانطلاق لتنمية ماله واستثماره، واللصوص وقطاع الطريق واقفون له بالمرصاد، يتحينون الفرصة للانقضاض عليه، وسلب ما لديه، والاستيلاء على ما في يديه؟!!
فلا يمكن للحياة أن تستقر وتزدهر إلا بالأمن، ولا يمكن أن تستقيم أحوال الناس، وتنتظم أمورهم، وتهدأ نفوسهم إلا بتوفره. فهو حاجة إنسانية، وضرورة بشرية، وغريزة فطرية ملحة. ولا يكاد الناس يُجمعون على طلب شيء والسعي لتحصيله، كما يجمعون على طلب الأمن والحرص عليه.
وإن ضرورة الناس إلى الأمن، لا تقل عن ضرورتهم إلى الطعام والشراب، إن لم تزد عليها، وخصوصاً عند التعارض، فإذا خاف الإنسان على نفسه من الهلاك وكان في نفس الوقت جائعاً، فإنه يسعى لتأمين نفسه، قبل سعيه لإشباعها، لأن الأمن يتعلق بحياته وأصل وجوده.
ولا أدل على ذلك من قول الله عزّ وَجلَّ: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر)[البقرة: 126]، فقد دعا إبراهيم الخليل عليه السلام ربه أن يوفر الأمن في البلد الحرام، قبل أن يدعوه بأن يوفر لأهله الطعام والشراب.
ونظير هذه الآية قوله تعالى عن إبراهيم أيضا: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) إلى أن قال: )ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)[إبراهيم: 35-37].
وقال سبحانه وتعالى ممتناً على قريش، بما يقتضي منهم شكر هذه المنة، والقيام بما تستوجبه من طاعة الله وتوحيده: (أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا)[القصص: 57].
فقد ذكّرهم أولاً بنعمة الأمن، ثم ذكرهم بنعمة الثمرات والرزق.
ووصْفُه له بأنه حرم آمن، قبل وصفه بأنه يُجبى إليه ثمرات كل شيء، يدل على ما ذكرت من أهمية الأمن، وشدة حاجة الناس إليه، لتكون حياتهم مستقرة ناعمة.
وقال تعالى ممتناً على عباده المؤمنين بأن وفّر لهم الأمن، وأيدهم بالنصر، ورزقهم من الطيبات: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)[الأنفال: 26].
وقد نوّه النبي صلى الله عليه وسلم بقيمة الأمن وأهميته، وأنه من أهم مقومات السعادة، وأكبر أسباب الاستقرار والراحة. فعن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)
ويلاحظ في هذا الحديث أنه ذكر نعمة الأمن قبل نعمتي العافية وتوفر القوت، وفي هذا إشارة كما سبق إلى أن ضرورة الناس إلى الأمن، لا تقل عن ضرورتهم إلى الأكل والشرب، إن لم تزد عليها.
ومما يدل على أهمية الأمن وخطره، وعظيم أثره في الكون والحياة: أنه منذ اللحظة الأولى أرادت الملائكة أن تطمئن على سلامة الأرض من الفساد، وصيانة الأمن فيها، وعلى أن وجود الإنسان لن يكون إخلالاً بذلك النظام المتناسق الذي ينتظم جميع ذرات الكون، والذي ينبغي للإنسان أن يلتزم به ويسير على وفقه، فسألت الملائكة ربها وهي خائفة مشفقة من هذا المخلوق الجديد،فقالت: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)[البقرة: 30]، فقد خشيت الملائكة من ضياع الأمن، وانتشار الفساد والظلم على أيدي هؤلاء البشر، بسبب سفك الدماء، والإفساد في الأرض بكل ما يعنيه من جرائم واعتداءات.
فأجابهم رب العزة جل وعلا بقوله: (إني أعلم مالا تعلمون)[البقرة: 30] أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف، على المفاسد التي ذكرتموها مالا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء والمرسلين،والشهداء والصالحين،والزهاد والصدِّيقين،والعلماء العاملين،والمتقين الخاشعين, والدعاة والمصلحين،والزهاد والعباد،والأولياء والأصفياء،ومن يبيعون أنفسهم لله،ويسخرون حياتهم لتحقيق مرضاته،ونصرة دينه.
ومما يدل على أهمية الأمن: أن الله سبحانه وتعالى قد امتن به على قريش، وذكّرهم في أكثر من آية بعظيم نعمته عليهم بالأمن ورغد العيش، حيث جعلهم أهل بيته، وأجوار حرمه الآمن، فكانوا محل تقدير الناس واحترامهم، حيثما حلوا وارتحلوا، فعاشوا في أمن وسعة رزق، والناس من حولهم يتخطفون ويتناحرون، ويعانون أنواع المخاوف، وأصناف الجوع والمساغب، أفلا يدعوهم ذلك إلى ذكر هذه النعمة وشكر المنعم بها، بطاعته وإخلاص التوحيد والعبادة له ؟؟!!
يقول الله عزّ وَجلَّ في شأنهم: ( أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون)[العنكبوت: 67]، ويقول سبحانه وتعالى: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون)[القصص: 57]
كما ذكرهم سبحانه وتعالى بهذه النعمة في سورة كاملة هي سورة قريش، قال الله تعالى: (لإيلاف قريش o إيلافهم رحلة الشتاء والصيف o فليعبدوا رب هذا البيت o الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، فذكرهم بمننه العظيمة عليهم: منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين، وبلادهم قفرة جفرة، وهم طاعمون هانئون من فضل الله، ومنة أمنهم الخوف، سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله، أم في أسفارهم وترحالهم وهم يسيرون تحت مظلة هذا البيت، الذي فرض الله حرمته وحرسه من كل اعتداء.
المطلب الثاني
أثر الأمن في النهضة الحضارية
ومما يؤكد أهمية الأمن وضرورة الناس إليه، ذلك الترابط الوثيق بين النهضة الحضارية الشاملة وبين الشعور بالأمن، وهو أمر تصدقه الشواهد التاريخية الماضية، والوقائع الكثيرة الماثلة، فإنك حين تجيل نظرك في الواقع المعاصر، وتقلب صفحات التاريخ الغابر، تجد شواهد كثيرة، تعلن بكل وضوح: ألا حضارة بلا أمن واستقرار...
فالأفكار والمبادئ الصحيحة لاتنطلق وتؤثر إلا في ظل الأمن.
والعقول لا تبدع وتبتكر إلا في ظل الأمن.
والتجارة لا تنمو وتزدهر إلا في ظل الأمن.
والتعليم لا يقوى وينتشر إلا في ظل الأمن.
وكل أسباب التقدم والرقي لا تتوفر وتثمر إلا في ظل الأمن.
فإذا فقد الأمن، فإن المؤمنين قد يضطرون إلى إخفاء عقائدهم ومبادئهم الصحيحة، فضلا عن أن يقوموا بأداء شعائر دينهم الظاهرة.
وإذا استطاعوا ذلك، فإنهم قد لا يتمكنون من القيام بواجب الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل تقيد حرياتهم، وتصادر أفكارهم، وتكمم أفواههم، وتحصى عليهم أنفاسهم، كما هو مشاهد اليوم في بعض الدول والمجتمعات.
وإذا فقد الأمن خملت العقول وتحجرت، لأنها والحالة هذه مشغولة بتأمين نفسها، ودفع الظلم والعدوان عنها، فإن الخائف على الشيء محصور الهمّ به، مشغول الفكر عن غيره، فصار كالمريض الذي هو بمرضه متشاغل، وعما سواه غافل.
وإذا فقد الأمن تعطلت المدارس وحلق الذكر، وبارت سوق العلم والعلماء.
وإذا فقد الأمن كسدت التجارة، وتدهور النشاط الاقتصادي، وقعد الناس عن التكسب، وتنمية الأموال واستثمارها، بل لربما تأثر بعضهم بهذا الجو الآسن، فأخذوا يشاركون في الإفساد والعدوان، والسلب والنهب، فبدلا من الاشتغال بالتجارة، وتنمية الأموال بالطرق المباحة، تحولوا إلى الإجرام، وانتهاك الحرمات، وأكل أموال الناس بالباطل.
وقد جاء في كتاب "أدب الدنيا والدين" وشرحه "منهاج اليقين": أن ما تصلح به الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء، ومنها الأمن العام، ونصه: "وأما القاعدة الرابعة فهي أمن عام، تطمئن إليه النفوس، وتنتشر فيه الهمم، فتكثر المواد والتجارات، ويؤدي إلى الخصب والمواساة، والتواصل بالمال، ويسكن إليه البريء، ويأنس به الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، حتى يستعمل فكره في المهمات، ودراهمه في المعاملات، وقد قال بعض الحكماء: الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش. وقال أحدهم: الأمن يذهب وحشة الوحدة، كما أن الخوف يذهب أنس الجماعة. وقال آخر: الأمن مع الفقر، خير من الخوف مع الغنى. لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب المواد التي بها قوام أودهم، وانتظام جملتهم"
وليس الأمر مقتصراً على ما ذكر، فإن الأمن إذا فقد، عمّ القلق، وانتشر الخوف، واضطربت النفوس، وهذا يؤدي بدوره إلى آثار خطيرة على الأرواح والعقول، فضلاً عن الأمراض العصبية، والاضطرابات النفسية...
جاء في كتاب "دع القلق وابدأ الحياة": "تدل الإحصائيات في أمريكا على أنه في كل خمس وثلاثين دقيقة، يقع حادث انتحار. وفي كل مائة وعشرين ثانية، يصاب شخص بالجنون.
ومعظم حوادث الانتحار، وكثير من حالات الجنون على الأرجح، يمكن أن يقطع دابرها إذا أصاب هؤلاء الناس شيء من الأمان والاطمئنان، وسكينة النفس التي يجلبها الدين، وتجلبها الصلاة"
وجاء فيه: "لقد عشت في نيويورك أكثر من سبع وثلاثين سنة، فلم يحدث أن طرق بابي أحد ليحذرني من مرض يدعى القلق.
هذا المرض الذي سبب في خلال الأعوام السبعة والثلاثين الماضية من الخسائر في الأنفس أكثر مما سببه الجدري بعشرة آلاف ضعف!.
نعم، لم يطرق بابي أحد ليحذرني من أن شخصا من كل عشرة أشخاص من سكان أمريكا، معرض للإصابة بانهيار عصبي، مرجعه في معظم الأحيان إلى القلق" الذي يؤدي إلى "عسر الهضم العصبي، وقرحة المعدة، واضطرابات القلب، والأرق، والصداع، وبعض أنواع الشلل"
وجاء فيه: "لقد أثبتت الإحصائيات أن القلق هو القاتل رقم: (1) في أمريكا. ففي خلال سني الحرب العالمية الأخيرة، قتل من أبنائنا نحو ثلث مليون مقاتل. وفي خلال هذه الفترة نفسها، قضى داء القلب على مليوني نسمة. ومن هؤلاء مليون نسمة كان مرضهم ناشئا عن القلق وتوتر الأعصاب...
وإليك حقيقة مدهشة قد يصعب عليك تصديقها: إن عدد الأمريكيين الذين ينتحرون، يفوق عدد الذين يموتون بالأمراض على اختلافها! فلماذا؟ الجواب في معظم الأحوال هو: القلق".
والملاحظ في هذه الإحصاءات، أنها محصورة في أمريكا، ولم يتعرض المؤلف لحجم هذه الأمراض في بقية دول الغرب، وهي منتشرة فيها بنسب عالية، تتزايد باطراد، يوماً بعد يوم.
كما أنه لم يتعرض للخسائر الهائلة التي تنشأ عن الجرائم المختلفة من التعدي على النفوس والأبدان، والتجني على العقول، والتسلط على الأعراض والحرمات، والتغلب على الأموال والممتلكات، إلى غير ذلك.
فلقد بلغ المجرمون هناك درجة لا تكاد تصدق من الاستهتار بالقيم الإنسانية، واسترخاص الإنسان، واستباحة دمه، وماله، وعرضه. وكوّنوا لذلك عصابات إجرامية ومنظمات إرهابية، تضارع الدول والحكومات في قوتها ودقة تخطيطها، وتوظيفها للتقنية في خدمة إجرامها وظلمها، فهي تسفك الدماء، وتقطع السبل، وتترصد للناس، لتأخذ أموالهم، وتهتك أعراضهم، وتنشر الرعب في صفوفهم، من قاومهم قتلوه، ومن سكت عنهم أهانوه وابتزوه.
فالجريمة هناك في تفاقم مستمر، والدول بكل إمكاناتها عاجزة عن مكافحة الجريمة وضمان الأمن لشعوبها.
ولا أدل على ذلك من أن يقوم رئيس أكبر دولة في العالم، وأكثرها تطوراً وتوفر إمكانيات، فينادي شعبه قائلاً: إياكم والخروج بعد غروب الشمس، ولا يحملن أحدكم في جيبه أكثر من ثلاثين دولاراً، لكي لا يكون عرضة للمجرمين وقطاع الطريق.
وقال في مناسبة أخرى عام 1982م: "إنه لا يسعنا الاعتقاد بأنه في مقدور المواطنين القيام بالنزهات المسائية في الحدائق بشكل طبيعي وهاديء". واعترف بمرارة أن نقابات الإجرام تشكل جزءاً مأساوياً من تاريخ أمريكا.
ولهذا، فلا عجب أن تحذّر بعض الدول رعاياها، إذا ذهبوا إلى هناك ألا يخرجوا ليلاً، وألا يحملوا النقود في جيوبهم خشية التعرض للاختطاف والقتل والسرقة.
ومن أبلغ ما يشهد به الواقع كذلك: ما حدث في الخامس عشر من يوليو، عام 1977م، ونشرته صحف العالم في حينه، من أن التيار الكهربائي انقطع في "نيويورك" لمدة خمس وعشرين ساعة متوالية، فتحولت المدينة إلى مسرح للنهب والسلب، وسرقت البيوت والمتاجر، والمرافق العامة والخاصة، وارتكب في تلك الليلة الواحدة ما يعادل جرائم سنة كاملة.
والحقائق في هذا الباب كثيرة ومذهلة، وسردها يطول، ولكني سأختمها بمقتطفات من كتاب بعنوان "يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة"، وهو عبارة عن دراسة علمية() أجراها باحثان أمريكيان، تناولا فيها قضايا متعددة، لها علاقة بواقع المجتمع الأمريكي المعاصر، وشملت عينة كبيرة من المواطنين الأمريكيين، الذين شاركوا بآرائهم في القضايا المطروحة للدراسة.
تقول الدراسة تحت مبحث بعنوان "إيذاء الأطفال وباء أمريكي": "إن ما نسبته واحد إلى ستة من الأمريكيين في كل أنحاء الولايات المتحدة قد تعرض لإيذاء جسدي في طفولته. ومثل هذه النسبة تقريباً (واحد إلى سبعة ) اعترفوا بأنهم كانوا ضحايا للاعتداء الجنسي عليهم، عندما كانوا أطفالاً... وبالإضافة إلى هذه الإحصائيات، فإن كثيراً من الناس يتكتمون كثيراً، ولا يبدون شيئاً من جراح الطفولة ومعاناتها"
وفي مبحث آخر بعنوان "الاغتصاب": "الاعتداء على الأطفال وإيذاؤهم ليس الوباء الاجتماعي الوحيد في كل أنحاء الولايات المتحدة، هناك مشكلة جد خطيرة، ألا وهي مشكلة الاغتصاب الجنسي، والأرقام في هذا الصدد كبيرة وهائلة.
نسبة عشرين بالمائة من النساء اللاتي تحدثنا معهن أخبرننا بأنهن قد اغتصبن في لقاء مع أحد أصدقائهن. وعندما نتصور هذا الرقم على المستوى الوطني، فإن هذه النسبة تعني أن ما يقارب من تسعة عشر مليوناً من النساء في الولايات المتحدة، كن ضحايا لمشكلة الاغتصاب...
إن خوف الفتيات وتعرضهن للتهديد من أصدقائهن هو السبب الذي يفسر لنا لماذا كثير من حالات الاغتصاب لا تسجل رسمياً؟ أكثر من نصف الفتيات اللاتي تعرضن للاغتصاب لا يخبرن أحداً بذلك. وما نسبته واحد إلى عشرين من هؤلاء النساء يذهبن إلى دائرة الشرطة لتسجيل الحادث رسمياً"
وفي مبحث آخر بعنوان "غياب مفهوم القرية والجماعة الواحدة": "إذا كان الناس يحترمون حياة الآخرين ويقدرون ممتلكاتهم، فسيكون هناك نوع من التآلف بينهم. ولكن الوقت الحاضر يشهد غياب هذا المفهوم، وبدأ الأمريكيون لا يحترمون ممتلكات غيرهم: نسبة ثلاثة من كل أربعة مواطنين أمريكيين اعترفوا بأنهم يعتدون على ممتلكات غيرهم. ونسبة ستين بالمائة يسرقون أشياء معينة من أماكن الوظيفة والعمل، ونسبة خمسين بالمائة يسرقون المناشف من الفنادق أو الأندية الصحية، ونسبة خمس وعشرين بالمائة لا يسددون ديونهم أو القروض التي كانت عليهم، ونسبة تسعة وعشرين بالمائة يسرقون من المحلات التجارية. وتسعة بالمائة يسرقون من أزواجهم، وواحد وعشرون بالمائة من والديهم، وثلاثة عشرة بالمائة من أصدقائهم"
وفي مبحث آخر أكثر إثارة، وأصدق تعبيراً عن آثار العدوان والإجرام على الأمن والاستقرار، وهو بعنوان "الأرقام الحقيقية للجريمة في أمريكا": "إن نسبة (39%) من شعب الولايات المتحدة قد مارسوا أنواعاً مختلفة من الجريمة في حياتهم. من بين هؤلاء نسبة لا بأس بها يمارسون العنف حتى على أنفسهم...
في هذه البلاد التي تتسم بالعنف لا يبدو هناك ثمة سبب يثير الدهشة أو الاستغراب، إذا قلنا: إن نسبة قليلة منا (32%) يشعرون بالأمن وعدم الخوف من جيرانهم.
لقد قال أكثر أفراد العينة: إننا نعيش في رعب مستمر... إن أكثر من نصف الشعب الأمريكي (60%) كانوا ضحية للجريمة مرة واحدة في حياتهم على الأقل. وبالطبع، فإن أكثر من نصف الشعب (58%) كانوا ضحية للجريمة مرتين أو أكثر.
لقد تعودنا وألفنا قراءة الأرقام المتعلقة بجرائم العنف في الأحياء الفقيرة في الصحف، لكن الذي يثير دهشتنا هو تلك الأرقام المرتفعة للجريمة التي تحدث في الأحياء الراقية أو المتوسطة...
الأمريكيون يقتلون أنفسهم كل سنة وبمعدلات كبيرة، أكثر من خمس وعشرين ألف جريمة قتل تحدث سنوياً في أمريكا".
وقد جاء تأكيد ذلك في دراسة رسمية صادرة عن وزارة العدل الأمريكية. حيث تقول الدارسة: "إنه في عام 1993 م وحده وقعت في الولايات المتحدة الأمريكية أربعة ملايين وأربعمائة ألف جريمة قتل واغتصاب وسرقة استخدم فيها السلاح. من بينها أربعة وعشرون ألفاً وخمس مائة جريمة قتل"
المطلب الثالث
أثر الأمن في النمو الاقتصادي
لعله تبين لنا في المطلب السابق عمق العلاقة وقوة الصلة بين الأمن وبين النمو الاقتصادي، وأن بينهما ترابطاً وثيقاً، وتأثيراً تبادلياً، فكل منهما يؤثر في الآخر، ويتأثر به في نفس الوقت، فبينهما علاقة وثيقة ومتشابكة.
ويظهر أثر الأمن في النمو الاقتصادي من ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: أن فقدان الأمن على الأموال والأنفس يوهن العزائم، ويضعف الهمم، ويقبض عن السعي والكسب، ويورث الكساد الاقتصادي، ويوقف حركة التجارة وتبادل المنافع، ويقعد التجار عن استثمار أموالهم وتنميتها، ويقلص فرص العمل وتحصيل الرزق.
قال ابن خلدون: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم، ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها، انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها، انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء ونسبته، يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش، كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة، بدخوله من جميع أبوابها وإن كان الاعتداء يسيرا، كان الانقباض عن الكسب على نسبته. والعمران و وفوره ونفاق أسواقه، إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب، ذاهبين و جائين..."
الجانب الثاني: أن انتشار الأمن يؤدي إلى تخفيض الإنفاق المالي على الأجهزة الأمنية، ومؤسسات مكافحة الجريمة بأنواعها، مما يوفر مزيداً من الإمكانات والموارد التي توظف لأغراض التنمية ومشروعاتها، بدلاً من ذهابها في سبل مكافحة الإجرام، وملاحقة المجرمين.
وتمثل مخصصات الإنفاق، لمكافحة الجريمة في ميزانيات بعض الدول نسبة عالية من جملة الإنفاق الحكومي، مما يشكل عبئاً ثقيلاً على الموارد المالية لهذه الدول، ويؤدي بالضرورة إلى تخفيض حجم الأموال التي كان يمكن أن توجه إلى مشروعات التنمية.
وتشير بعض التقارير إلى أن الإنفاق الحكومي المخصص لمكافحة الجريمة في الدول الأفريقية مثلاً بلغ في المتوسط 9% من جملة الإنفاق الحكومي السنوي، وبلغ 8% في دول أمريكا اللاتينية في المتوسط، وبلغ 7% في الدول الآسيوية في المتوسط.
أما في أمريكا فقد جاء في إحصائية صادرة عن الأمم المتحدة، وعن الحكومة الأمريكية: أن ما تنفقه أمريكا لمكافحة الجريمة ومعالجة أسبابها وآثارها بلغ في عام 1994م: (425) مليار دولار.
وفي هذا العام أيضاً صدر قانون جديد باعتماد مبلغ (5ر33) بليون دولار تقريباً، خصصت نسبة 45% منها للصرف على قوات حفظ الأمن، بما في ذلك تعيين مائة ألف جندي جديد. ونسبة 33% لإنشاء سجون جديدة. ونسبة 22% لبرامج الوقاية الجنائية.
وإذا أخذنا معدل ارتفاع الأسعار وتفاقم الجرائم في الحسبان، وما حدث بعد تفجيرات نييورك وواشنطن من خسائر فادحة، ومن احتياطات أمنية داخلية وخارجية، فكم يا ترى بلغ إنفاقها لمكافحة الجريمة والعدوان في هذا العام؟!
وهذا كله فضلاً عن الخسائر الكبيرة التي تحل بالأفراد بسبب الجرائم الواقعة على ممتلكاتهم، من أنواع النهب والسرقة والخيانة، وحرق المتاجر، وتعطيل المصانع، وإعاقة الأعمال والمصالح العامة والخاصة.
وأضف إلى ذلك الخسائر الكبيرة في الأرواح والعقول من جراء العدوان والجريمة.
الجانب الثالث: أن انتشار الأمن، وانحسار الجريمة، يوفر طاقات بشرية كثيرة، تساهم في الإنتاج والنمو الاقتصادي، بعد أن كانت تحترف الإجرام، والعدوان على أموال الآخرين، وانتهاك حرماتهم.
كما تتوفر طاقات أخرى كانت موظفة لمكافحة الجريمة، والحد من انتشارها.
ومن هنا ندرك أهمية الأمن، وأن الناس أفراداً وجماعات بأمس الحاجة إليه، بل إن حاجتهم إليه تبلغ مبلغ الضرورات، التي لا يمكن أن تستقيم الحياة وتنتظم أحوالها بدونها.
ولما كان الأمن بهذه المثابة من الأهمية وشدة الاحتياج إليه، كان تحقيقه من أهم واجبات الدول والحكومات على مر العصور، بل لم تقم الدول والحكومات أصلاً إلا لإقامة مصالح الناس، وتحقيق الأمن والاستقرار لهم، وتسيير شؤونهم، ونشر العدل في صفوفهم، ومنع التعادي والتظالم فيما بينهم، وصد كيد أعدائهم عنهم.
كما أن الإسهام في تحقيق هذه المصلحة الضرورية والمحافظة عليها واجب محتم على كل فرد من أفراد المجتمع، كل بحسب موقعه ومسؤوليته، وعلى قدر طاقته واستطاعته، ومواهبه وقدراته، فالأمن مصلحة لهم جميعاً، وهو منهم وإليهم، وخيره عائدٌ إليهم، وضرر فقده راجعٌ عليهم، وكل فردٍ منهم على ثغرٍ من ثغور الأمن, وحارسٌ من حراسه، فالله الله أن يُخرم رواق الأمن من قبله، أو يهتز حبله بسبب تفريطه وغفلته، أو جهله وسذاجته، أو بدافعٍ من جشعه وطمعه، أو حقده وحسده.
القرآن صمام الأمان(3)
إذا كان تحقيق الأمن مصلحة ضرورية لا يستغني عنه فرد أو مجتمع، وكان الإسهام في تحقيقه ـ كما سبق ـ واجباً محتماً على كل فرد ومؤسسة حكومية أو أهلية فإن لجمعيات تحفيظ القرآن الكريم وحلقاتها المباركة أثراً كبيراً، ومشاركة فاعلة في تحقيقه، ويتضح ذلك من خلال الآتي:
أولاً: أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في تقوية الإيمان وإسعاد الإنسان.
ثانياً: أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في تربية الوازع الديني والرقابة الذاتية.
ثالثاً: أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في نشر العلم العاصم من الضلال والإجرام.
رابعاً: أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في إعداد الشباب وتأهيلهم.
وسأبين في هذا المقال الأثر الأول، وهو "أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في تقوية الإيمان وإسعاد الإنسان":
العناية بكتاب الله تعالى تعلماً وتعليماً، وتلاوة وتجويداً، وحفظاً ومدارسة، وحثاً على العمل به والتخلق بأخلاقه ـ وهو ما تقوم به جمعيات وحلقات تحفيظ القرآن الكريم ـ من أعظم ما يقوي الإيمان، ويزيد في التقوى، ويقرب العبد من خالقه، فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، وأولاهم بفضله ورحمته، وحفظه ورعايته، ونصره وإعانته، وتوفيقه وهدايته، فهم أقرب الناس إلى الله، وأطيبهم عيشاً، وأسعدهم قلوباً، وأهنؤهم حياة، وأحسنهم عاقبة.
وكلما كان الإنسان أكثر إيماناً كان أكثر سعادة وأمناً وطمأنينة، فالسعادة مربوطة بالإيمان توجد بوجوده، وتفقد بفقده، وتزيد بزيادته، وتنقص بنقصه.
قال الله تعالى: )الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون([الأنعام: 82]، فضمن الله تعالى لمن آمن به حق الإيمان تمام الأمن والهداية في الدنيا والآخرة، أمن من سخط الله وعقابه، وأمن من جميع المكاره والشرور.()
قال العلماء: فمن لم يلبس إيمانه بظلم، أي: بشرك ولا معصية، كان لهم الأمن التام، والهداية التامة، ومن لم يلبس إيمانه بشرك لكنه يعمل السيئات فإنه وإن حصل له أصل الأمن والهداية لم يحصل له تمامهما، بل ينقص من أمنه وسعادته وهدايته بقدر معصيته ومخالته لأمر ربه.()
ويقول سبحانه وتعالى: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا([النور: 55].
فهذا وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات: أن يستخلفهم في الأرض وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا، وقد تحقق هذا الوعد - ولن يخلف الله وعده - يوم أن كان المسلمون قائمين بهذا الشرط (يعبدونني لا يشركون بي شيئا). ولن يزال هذا الوعد قائما ما وجد هذا الشرط، فهو مرهون به، يوجد بوجوده، ويفقد بفقده، وما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله، وحكّمت هذا النهج في الحياة، وارتضته في كل أمورها إلا تحقق لها وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن، وما من مرة خالفت عن هذا النهج أو قصرت في القيام به إلا تخلّفت في ذيل القافلة، وأصبحت تابعة ذليلة لأعدائها، واستبد بها الخوف وتخطفها الأعداء، ألا وإن وعد الله قائم، ألا وإن شرط الله معروف، فمن شاء الوعد فليقم بالشرط، ومن أوفى بعهده من الله.()
وقال - عز وجل - )فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون([البقرة: 38]. أي: فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر دنياهم وآخرتهم، (ولا هم يحزنون) على ما فاتهم ومضى عليهم من أمور الدنيا.()
قال أبو السعود: <<والمعنى: أن من تبع هداي منكم فلا خوف عليهم في الدارين من لحوق مكروه، ولا هم يحزنون من فوات مطلوب، أي: لا يعتريهم ما يوجب ذلك>>()
ونظير هذه الآية قوله - تعالى - )فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى([طه: 123]. فقد تكفل الله - عزّ وَجلَّ - لمن اتبع هداه، واستجاب لأمره، والتزم بشرعه، ألا يضل في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يشقى فيهما، فله الهداية التامة، وله السعادة والأمن في الدنيا والآخرة. ()
كما ضمن له في الآية السابقة: أن يدفع عنه الخوف فيما يستقبله من أمر دنياه وآخرته، ويدفع عنه الحزن على ما فاته وجرى عليه. وبهذا يتحقق له ما يصبو إليه من الأمن والطمأنينة، والهدى والسعادة، في معاشه ومعاده.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: <<فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء: نفي الخوف والحزن، والفرق بينهما: أن المكروه إن كان قد مضى، أحدث الحزن، وإن كان منتظرا، أحدث الخوف، فنفاهما عمّن اتبع الهدى، وإذا انتفيا ثبت ضدهما، وهو الهدى والسعادة. فمن اتبع هداه حصل له الأمن، والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى. وانتفى عنه كل مكروه من الخوف، والحزن، والضلال، والشقاء. فحصل له المرغوب، واندفع عنه المرهوب. وهذا عكس من لم يتبع هداه، فكفر به وكذب بآياته>>()
وقال - سبحانه وتعالى - مؤكدا هذه الحقيقة العظيمة، وهي أن السعادة الحقيقية، والأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة، إنما هي للمؤمنين فقط: )من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون([النحل: 97].
فمن كان هذا حاله من الإيمان والعمل الصالح فجزاؤه في الدنيا: أن يحيا حياة طيبة، آمنة مستقرة، كريمة ندية، حتى وإن أصابه من النوائب والمصائب ما أصابه، فإن سعادته في قلبه، وروحه مطمئنة بذكر ربه، كما قال تعالى: )الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب([الرعد: 28]
وقد عجب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر المؤمن، وأن أمره كله له خير، حتى في حال البلاء والضراء، فقال - عليه الصلاة والسلام -: (عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)()
كما بين - صلى الله عليه وسلم - أن الفلاح الحقيقي في الدنيا والآخرة، إنما هو لمن أسلم لله - تعالى - واتبع هداه، فقال - عليه الصلاة والسلام -: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه)()
فمتى تمسك الناس بهذه الشريعة، وحفظوا مقاصدها تحقق لهم ما يصبون إليه من الأمن والطمأنينة والاستقرار، ليس في الدنيا فقط، بل في الدنيا والآخرة.
أما من أعرض عن الله، وأهمل شريعته، وطلب الهدى من غيره، واتبع منهجا غير منهجه، فإن حظّه في معاشه ومعاده هو الخوف والشقاء، والهموم والأحزان، والضيق والحرج، كما قال ربنا عز وجل: )ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا o ونحشره يوم القيامة أعمى o قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا o قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى o وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى([طه: 124-127].
والضنك، هو الضيق والشقاء والشدة، والمتأمل لهذه الكلمة يجد لها جرسا غريبا، وإيحاء عجيبا، حيث تصور هذا البائس وكأن أنفاسه تختنق في داخله، من شدة الضيق والحرج الذي يتلجلج في صدره، وكأن الخوف والشقاء يحاصرانه حيثما حل وارتحل، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، ولا لذة لعيشه، بل صدره ضيّق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن ما شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى لا يزال في قلق وحيرة وشك.()
هذا هو حال الفرد حين يعرض عن ذكر الله، أما إذا كان المجتمع كله على هذه الحال من الإعراض عن الهدى، ونسيان الشرع، فإنه بذلك يستجلب غضب الله، ويكون عرضة لأنواع الخسف والهوان، والمسخ والإذلال، والخوف والقلق، والضيق والضنك، وهذه سنة الله مع كل من كفر به ورضي منهجا غير منهجه.
وقد ضرب الله لنا مثلا بتلك القرية الآمنة الوادعة، وكيف تبدلت حالها بعد أن كفرت بأنعم الله، يقول الله - تعالى -: )وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون([النحل: 112].
فلما لم تشكر نعمة الله عليها بالأمن والطمأنينة، ورغد العيش، أحلّ الله عليها غضبه وعقابه، فأبدلها بالأمن خوفا ورعبا، وبالطمأنينة قلقا واضطرابا، وبالرزق جوعا وفقرا، وما ربك بظلام للعبيد.
وهاهم أصحاب الحجر، كانوا في نعمة سابغة، وقوة بالغة، وحضارة باسقة، وأمن وارف، فلما كذّبوا الرسل، واستكبروا عن قبول الحق، وعتوا عن أمر ربهم، حلّت عليهم نقمة الله، )فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون o فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين([الذاريات: 44-45]، فزالت نعمتهم، وانقشع أمنهم، كما قال - تعالى - )ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين o وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين o وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين o فأخذتهم الصيحة مصبحين o فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون([الحجر: 80-84].
وقد أكد ربنا هذه السنة الشرعية في أكثر من آية، فقال - تعالى -: )ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون([الأعراف: 96].
وقال عز وجل محذرا من الأمن من مكره، مع مخالفة أمره وانتهاك محارمه: )أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون o أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون o أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون([الأعراف: 97-99]. أي: ما كان ينبغي لهم أن يأمنوا وهم مقيمون على معاصيه، جاحدون لنعمته، معرضون عن شريعته.
فالأمن في الدنيا والآخرة إنما هو للمؤمنين، والمؤمنين وحدهم، أما أعداء الله والخارجون عن طاعته، فكيف يأمنون وقد حاربوا الله؟ وكيف يطمئنون وقد شاقوا الله ولجوا في معصيته؟ وكيف يسعدون وقد تعرضوا لسخطه ونقمته؟!!
ولقد قرر هذه الحقيقة العظيمة، بكل وضوح وجزم، إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - حين حاجه قومه، وهددوه بغضب آلهتهم عليه، وأنها ستبطش به إن هو أصر على دعوته. فأجابهم - عليه الصلاة والسلام - إجابة الواثق بإيمانه ، العارف بربه ، وواجههم بالحقيقة الدامغة، والحجة البالغة، كما في قوله - تعالى -: ) وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون o وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون o الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون([الأنعام: 80-82].
ومن خلال ما سبق يتبين لنا الارتباط الوثيق بين مصطلحي "الأمن والإيمان"، وتظهر لنا الصلة القوية بينهما، سواء من حيث الدلالة اللفظية - فإن الإيمان مأخوذ من الفعل الثلاثي " أمن " الذي هو أصل مصطلح " الأمن "، فأصلهما إذاً واحد - أو من حيث الدلالة المعنوية، فإن الأمن ثمرة للإيمان ونتيجة له، فإذا فقد الإيمان فلا أمان. ولما سئل الخليل بن أحمد: ما الإيمان ؟ قال: هو الطمأنينة()، ففسر الإيمان بالطمأنينة التي هي من لوازمه وثمراته.
ويظهر هذا الترابط الوثيق - أيضا - بين مصطلحي "السّلم" و "الإسلام"، فإن العلاقة بينهما هي نفس العلاقة بين الأمن والإيمان ، من حيث اللفظ() ، ومن حيث المعنى . وقد عبر القرآن الكريم عن الإسلام بلفظ السلم، مما يؤكد هذه العلاقة، ويدل على عمق الصلة بين هذين اللفظين، وذلك في قوله - تعالى - )يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين([البقرة: 208]. فقد أمر الله عباده المؤمنين أن يدخلوا في الإسلام كله، وأن يأخذوا بجميع عراه وشرائعه، ويعملوا بجميع أوامره ونواهيه.()
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام، عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار، لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال، سلام مع النفس والضمير، سلام مع العقل والمنطق، سلام مع الناس والأحياء، سلام مع الوجود كله ومع كل موجود، سلام يرف في حنايا السريرة، وسلام يظلل الحياة والمجتمع، سلام في الأرض وسلام في السماء، ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تستبد الحيرة، وكيف يعربد القلق في النفوس التي لم تستظل بظلال الإيمان، ولم تعرف الإسلام، أو عرفته وتنكرت له، هذه النفوس الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي، والتقدم الحضاري، وأسباب الراحة والترفيه.()، وللحديث صلة بإذن الله.
د. عبدالعزيز بن فوزان الفوزان
القرآن صمام الأمان(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنزل كتابه الكريم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وكان الله بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فلا شيء أشق على النفس، وأثقل على اللسان، وأعجز عن البيان، وأبلغ من أن يعبر عنه، أو يذكر فضله، أو يمدح مكانه، أو يدانى مقامه، أو يوصف شأنه، من كلام الله تعالى، وأي شيء أعظم من كلام الله؟! فاللسان مهما أوتي من الفصاحة والبيان أعجز وأضعف من أن يعبر عن مكانة القرآن، لأنه أبلغ الكلام وأفصحه، وأصدقه وأنصحه، وأعلاه وأرفعه، وأكمله وأجمله، فهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وهو سفينة النجاة، ومشعل الهداية، وسبيل السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، هو ينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة، وأساس كل علم نافع، وهو المعجزة الخالدة، الذي تتجدد وجوه إعجازه، ولا تنقضي عجائبه، ولا تنقص حلاوته، ولا تذهب طلاوته، ولا يخلق على كثرة الرد، هو العاصم من الضلال، والهادي لأقوم السبل وأفضل الأخلاق والأعمال، فيه نبأ ما كان قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، والحق المنزه عن كل ظلم وجهل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً)، هو الجامع لكل بر وخير، والمانع من كل منكر وشر، هو كما قال ربنا: (ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)[الأنعام: 38]، وقال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89 )، أخباره كلها حق وصدق، وأحكامه كلها عدل وفضل: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً)، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدي، ومن أخذ به رشد، ومن أعرض عنه شقي، ومن حرم خيره فقد حرم الخير كله، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، هو كما وصفه ربنا بقوله: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)[البقرة: 2]، وقوله: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد)[إبراهيم: 1]، وقوله: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)[الإسراء: 9]، وقوله: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)[المائدة: 15ـ16]، وقوله: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)[يونس: 57ـ58]
ولقد طلب مني الإخوة الفضلاء في "جائزة رأس الخيمة للقرآن الكريم" في دولة الإمارات العربية المتحدة المشاركة بورقة عمل في الدورة العاشرة من هذه الجائزة المباركة، ثم تفضلوا بطباعتها في كتاب يزيد عن مائة صفحة من القطع المتوسط، فرأيت أن أعمم الانتفاع بها من خلال هذه المقالات المتسلسلة، التي لا تخلو من إضافات مهمة عما كان في ذلك الكتاب!!
وكم هو شرف لي أن أسهم بهذه المقالات المتواضعة في نصرة كتاب الله تعالى، والحث على تعلمه وتعليمه، والدفاع عن محاضنه وحلقاته المباركة، وبيان أثرها الفعال في تحقيق الأمن والاستقرار، ومكافحة الجريمة والإرهاب، وخصوصاً مع كثرة الحملات المغرضة الموجهة إلى هذه الجمعيات والحلقات، والمشككة بدورها، والمتهمة لها أحياناً بأنها ترعى الإرهاب وتغذيه!! (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا).
وهؤلاء الذين يرمونها بهذه التهم الباطلة، ويطالبون بكل صفاقة وصلف بإلغائها أو تحجيم دورها والتضييق عليها إما أنهم جاهلون بحقيقة هذه الجمعيات ونشاطاتها، وأثرها الفعال في الإصلاح والبناء، ومغترون بالدعايات المضللة والحملات المشبوهة التي تشن عليها، فهم مطبلون متسرعون، ويهرفون بما لا يعرفون، ويرددون ما يقوله الظالمون من غير أن يكلفوا أنفسهم عناء التمحيص والتثبت، ولو أنهم سكتوا لكان خيراً لهم وأسلم، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
وإما أنهم مجرمون ظالمون، يغيظهم ما تقوم به هذه الجمعيات من نشر الخير والهدى، وإشاعة البر والتقوى، وإصلاح الناس، وتقوية إيمانهم، وتزكية نفوسهم، وربطهم بكتاب ربهم ومصدر عزتهم وقوتهم، وسبيل فلاحهم وسعادتهم، فهي تعارض أهواءهم الضالة، ومخططاتهم المشبوهة في تغريب المجتمع وإفساده، وتدمير قيمه وأخلاقه، وسلخه من هويته الدينية والأخلاقية، وعليهم يصدق قول الحق عز وجل عن أهل الأهواء وعباد الشهوات: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً)، (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتياناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون)، (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين)، (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين).
والله تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، نافعاً لعباده، ذخراً لي يوم لقاه، وأن يبارك في هذه الجمعيات ويجزي القائمين عليها خير الجزاء وأوفاه، وأن يمدهم بعونه ويوفقهم لما يحبه ويرضاه. آمين. وإلى لقاء في الفقرة القادمة بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
القرآن صمام الأمان(2)
قبل أن أبين أثر القرآن الكريم وحلقاته المباركة في تحقيق الأمن بمعناه الشامل، لعل من المناسب أن أؤكد على أهمية الأمن في حياة الإنسان وذلك من خلال المطالب الثلاثة الآتية:
المطلب الأول
اضطرار الناس إلى الأمن، وأثره في تحقيق سعادتهم
الأمن حاجة إنسانية ملحة، ومطلب فطري لا تستقيم الحياة بدونه، ولا يستغني عنه فرد أو مجتمع. والحياة بلا أمن حياة قاحلة مجدبة، شديدة قاسية، لا يمكن أن تقبل أو تطاق.
فالأمن من أهم مقومات السعادة والاستقرار، وأهم أسباب التقدم والتحضر والرقي. وهو مطلب تتفق على أهميته جميع الأمم والشعوب، والأفراد والمجتمعات، في كل زمان ومكان.
وإذا فقد الأمن اضطربت النفوس، وسيطر عليها الخوف والقلق، وتعطلت مصالح الناس، وانقبضوا عن السعي والكسب، وانحصرت هممهم بتأمين أنفسهم ومن تحت أيديهم، ودفع الظلم والعدوان الواقع أو المتوقع عليهم.
وهل يمكن للإنسان أن يعبد ربه، ويقوم بواجبات دينه كما أمره الله والخوفُ يحاصره، والقلق يساوره، وتوقع المكروه يخنق صوته، ويكتم أنفاسه؟!!
وكيف يتأتى له أن يبدع ويفكر، وهو يتوجس خيفة، ويتوقع البلاء في أية لحظة؟! وعقله في حيرة وذهول، وذهنه مشغول بتأمين نفسه وأهله، وحماية ما يستطيع من حقوقه ومصالحه؟!!
وكيف يمكنه الانطلاق لتنمية ماله واستثماره، واللصوص وقطاع الطريق واقفون له بالمرصاد، يتحينون الفرصة للانقضاض عليه، وسلب ما لديه، والاستيلاء على ما في يديه؟!!
فلا يمكن للحياة أن تستقر وتزدهر إلا بالأمن، ولا يمكن أن تستقيم أحوال الناس، وتنتظم أمورهم، وتهدأ نفوسهم إلا بتوفره. فهو حاجة إنسانية، وضرورة بشرية، وغريزة فطرية ملحة. ولا يكاد الناس يُجمعون على طلب شيء والسعي لتحصيله، كما يجمعون على طلب الأمن والحرص عليه.
وإن ضرورة الناس إلى الأمن، لا تقل عن ضرورتهم إلى الطعام والشراب، إن لم تزد عليها، وخصوصاً عند التعارض، فإذا خاف الإنسان على نفسه من الهلاك وكان في نفس الوقت جائعاً، فإنه يسعى لتأمين نفسه، قبل سعيه لإشباعها، لأن الأمن يتعلق بحياته وأصل وجوده.
ولا أدل على ذلك من قول الله عزّ وَجلَّ: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر)[البقرة: 126]، فقد دعا إبراهيم الخليل عليه السلام ربه أن يوفر الأمن في البلد الحرام، قبل أن يدعوه بأن يوفر لأهله الطعام والشراب.
ونظير هذه الآية قوله تعالى عن إبراهيم أيضا: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) إلى أن قال: )ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)[إبراهيم: 35-37].
وقال سبحانه وتعالى ممتناً على قريش، بما يقتضي منهم شكر هذه المنة، والقيام بما تستوجبه من طاعة الله وتوحيده: (أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا)[القصص: 57].
فقد ذكّرهم أولاً بنعمة الأمن، ثم ذكرهم بنعمة الثمرات والرزق.
ووصْفُه له بأنه حرم آمن، قبل وصفه بأنه يُجبى إليه ثمرات كل شيء، يدل على ما ذكرت من أهمية الأمن، وشدة حاجة الناس إليه، لتكون حياتهم مستقرة ناعمة.
وقال تعالى ممتناً على عباده المؤمنين بأن وفّر لهم الأمن، وأيدهم بالنصر، ورزقهم من الطيبات: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)[الأنفال: 26].
وقد نوّه النبي صلى الله عليه وسلم بقيمة الأمن وأهميته، وأنه من أهم مقومات السعادة، وأكبر أسباب الاستقرار والراحة. فعن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)
ويلاحظ في هذا الحديث أنه ذكر نعمة الأمن قبل نعمتي العافية وتوفر القوت، وفي هذا إشارة كما سبق إلى أن ضرورة الناس إلى الأمن، لا تقل عن ضرورتهم إلى الأكل والشرب، إن لم تزد عليها.
ومما يدل على أهمية الأمن وخطره، وعظيم أثره في الكون والحياة: أنه منذ اللحظة الأولى أرادت الملائكة أن تطمئن على سلامة الأرض من الفساد، وصيانة الأمن فيها، وعلى أن وجود الإنسان لن يكون إخلالاً بذلك النظام المتناسق الذي ينتظم جميع ذرات الكون، والذي ينبغي للإنسان أن يلتزم به ويسير على وفقه، فسألت الملائكة ربها وهي خائفة مشفقة من هذا المخلوق الجديد،فقالت: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)[البقرة: 30]، فقد خشيت الملائكة من ضياع الأمن، وانتشار الفساد والظلم على أيدي هؤلاء البشر، بسبب سفك الدماء، والإفساد في الأرض بكل ما يعنيه من جرائم واعتداءات.
فأجابهم رب العزة جل وعلا بقوله: (إني أعلم مالا تعلمون)[البقرة: 30] أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف، على المفاسد التي ذكرتموها مالا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء والمرسلين،والشهداء والصالحين،والزهاد والصدِّيقين،والعلماء العاملين،والمتقين الخاشعين, والدعاة والمصلحين،والزهاد والعباد،والأولياء والأصفياء،ومن يبيعون أنفسهم لله،ويسخرون حياتهم لتحقيق مرضاته،ونصرة دينه.
ومما يدل على أهمية الأمن: أن الله سبحانه وتعالى قد امتن به على قريش، وذكّرهم في أكثر من آية بعظيم نعمته عليهم بالأمن ورغد العيش، حيث جعلهم أهل بيته، وأجوار حرمه الآمن، فكانوا محل تقدير الناس واحترامهم، حيثما حلوا وارتحلوا، فعاشوا في أمن وسعة رزق، والناس من حولهم يتخطفون ويتناحرون، ويعانون أنواع المخاوف، وأصناف الجوع والمساغب، أفلا يدعوهم ذلك إلى ذكر هذه النعمة وشكر المنعم بها، بطاعته وإخلاص التوحيد والعبادة له ؟؟!!
يقول الله عزّ وَجلَّ في شأنهم: ( أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون)[العنكبوت: 67]، ويقول سبحانه وتعالى: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون)[القصص: 57]
كما ذكرهم سبحانه وتعالى بهذه النعمة في سورة كاملة هي سورة قريش، قال الله تعالى: (لإيلاف قريش o إيلافهم رحلة الشتاء والصيف o فليعبدوا رب هذا البيت o الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، فذكرهم بمننه العظيمة عليهم: منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين، وبلادهم قفرة جفرة، وهم طاعمون هانئون من فضل الله، ومنة أمنهم الخوف، سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله، أم في أسفارهم وترحالهم وهم يسيرون تحت مظلة هذا البيت، الذي فرض الله حرمته وحرسه من كل اعتداء.
المطلب الثاني
أثر الأمن في النهضة الحضارية
ومما يؤكد أهمية الأمن وضرورة الناس إليه، ذلك الترابط الوثيق بين النهضة الحضارية الشاملة وبين الشعور بالأمن، وهو أمر تصدقه الشواهد التاريخية الماضية، والوقائع الكثيرة الماثلة، فإنك حين تجيل نظرك في الواقع المعاصر، وتقلب صفحات التاريخ الغابر، تجد شواهد كثيرة، تعلن بكل وضوح: ألا حضارة بلا أمن واستقرار...
فالأفكار والمبادئ الصحيحة لاتنطلق وتؤثر إلا في ظل الأمن.
والعقول لا تبدع وتبتكر إلا في ظل الأمن.
والتجارة لا تنمو وتزدهر إلا في ظل الأمن.
والتعليم لا يقوى وينتشر إلا في ظل الأمن.
وكل أسباب التقدم والرقي لا تتوفر وتثمر إلا في ظل الأمن.
فإذا فقد الأمن، فإن المؤمنين قد يضطرون إلى إخفاء عقائدهم ومبادئهم الصحيحة، فضلا عن أن يقوموا بأداء شعائر دينهم الظاهرة.
وإذا استطاعوا ذلك، فإنهم قد لا يتمكنون من القيام بواجب الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل تقيد حرياتهم، وتصادر أفكارهم، وتكمم أفواههم، وتحصى عليهم أنفاسهم، كما هو مشاهد اليوم في بعض الدول والمجتمعات.
وإذا فقد الأمن خملت العقول وتحجرت، لأنها والحالة هذه مشغولة بتأمين نفسها، ودفع الظلم والعدوان عنها، فإن الخائف على الشيء محصور الهمّ به، مشغول الفكر عن غيره، فصار كالمريض الذي هو بمرضه متشاغل، وعما سواه غافل.
وإذا فقد الأمن تعطلت المدارس وحلق الذكر، وبارت سوق العلم والعلماء.
وإذا فقد الأمن كسدت التجارة، وتدهور النشاط الاقتصادي، وقعد الناس عن التكسب، وتنمية الأموال واستثمارها، بل لربما تأثر بعضهم بهذا الجو الآسن، فأخذوا يشاركون في الإفساد والعدوان، والسلب والنهب، فبدلا من الاشتغال بالتجارة، وتنمية الأموال بالطرق المباحة، تحولوا إلى الإجرام، وانتهاك الحرمات، وأكل أموال الناس بالباطل.
وقد جاء في كتاب "أدب الدنيا والدين" وشرحه "منهاج اليقين": أن ما تصلح به الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء، ومنها الأمن العام، ونصه: "وأما القاعدة الرابعة فهي أمن عام، تطمئن إليه النفوس، وتنتشر فيه الهمم، فتكثر المواد والتجارات، ويؤدي إلى الخصب والمواساة، والتواصل بالمال، ويسكن إليه البريء، ويأنس به الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، حتى يستعمل فكره في المهمات، ودراهمه في المعاملات، وقد قال بعض الحكماء: الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش. وقال أحدهم: الأمن يذهب وحشة الوحدة، كما أن الخوف يذهب أنس الجماعة. وقال آخر: الأمن مع الفقر، خير من الخوف مع الغنى. لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب المواد التي بها قوام أودهم، وانتظام جملتهم"
وليس الأمر مقتصراً على ما ذكر، فإن الأمن إذا فقد، عمّ القلق، وانتشر الخوف، واضطربت النفوس، وهذا يؤدي بدوره إلى آثار خطيرة على الأرواح والعقول، فضلاً عن الأمراض العصبية، والاضطرابات النفسية...
جاء في كتاب "دع القلق وابدأ الحياة": "تدل الإحصائيات في أمريكا على أنه في كل خمس وثلاثين دقيقة، يقع حادث انتحار. وفي كل مائة وعشرين ثانية، يصاب شخص بالجنون.
ومعظم حوادث الانتحار، وكثير من حالات الجنون على الأرجح، يمكن أن يقطع دابرها إذا أصاب هؤلاء الناس شيء من الأمان والاطمئنان، وسكينة النفس التي يجلبها الدين، وتجلبها الصلاة"
وجاء فيه: "لقد عشت في نيويورك أكثر من سبع وثلاثين سنة، فلم يحدث أن طرق بابي أحد ليحذرني من مرض يدعى القلق.
هذا المرض الذي سبب في خلال الأعوام السبعة والثلاثين الماضية من الخسائر في الأنفس أكثر مما سببه الجدري بعشرة آلاف ضعف!.
نعم، لم يطرق بابي أحد ليحذرني من أن شخصا من كل عشرة أشخاص من سكان أمريكا، معرض للإصابة بانهيار عصبي، مرجعه في معظم الأحيان إلى القلق" الذي يؤدي إلى "عسر الهضم العصبي، وقرحة المعدة، واضطرابات القلب، والأرق، والصداع، وبعض أنواع الشلل"
وجاء فيه: "لقد أثبتت الإحصائيات أن القلق هو القاتل رقم: (1) في أمريكا. ففي خلال سني الحرب العالمية الأخيرة، قتل من أبنائنا نحو ثلث مليون مقاتل. وفي خلال هذه الفترة نفسها، قضى داء القلب على مليوني نسمة. ومن هؤلاء مليون نسمة كان مرضهم ناشئا عن القلق وتوتر الأعصاب...
وإليك حقيقة مدهشة قد يصعب عليك تصديقها: إن عدد الأمريكيين الذين ينتحرون، يفوق عدد الذين يموتون بالأمراض على اختلافها! فلماذا؟ الجواب في معظم الأحوال هو: القلق".
والملاحظ في هذه الإحصاءات، أنها محصورة في أمريكا، ولم يتعرض المؤلف لحجم هذه الأمراض في بقية دول الغرب، وهي منتشرة فيها بنسب عالية، تتزايد باطراد، يوماً بعد يوم.
كما أنه لم يتعرض للخسائر الهائلة التي تنشأ عن الجرائم المختلفة من التعدي على النفوس والأبدان، والتجني على العقول، والتسلط على الأعراض والحرمات، والتغلب على الأموال والممتلكات، إلى غير ذلك.
فلقد بلغ المجرمون هناك درجة لا تكاد تصدق من الاستهتار بالقيم الإنسانية، واسترخاص الإنسان، واستباحة دمه، وماله، وعرضه. وكوّنوا لذلك عصابات إجرامية ومنظمات إرهابية، تضارع الدول والحكومات في قوتها ودقة تخطيطها، وتوظيفها للتقنية في خدمة إجرامها وظلمها، فهي تسفك الدماء، وتقطع السبل، وتترصد للناس، لتأخذ أموالهم، وتهتك أعراضهم، وتنشر الرعب في صفوفهم، من قاومهم قتلوه، ومن سكت عنهم أهانوه وابتزوه.
فالجريمة هناك في تفاقم مستمر، والدول بكل إمكاناتها عاجزة عن مكافحة الجريمة وضمان الأمن لشعوبها.
ولا أدل على ذلك من أن يقوم رئيس أكبر دولة في العالم، وأكثرها تطوراً وتوفر إمكانيات، فينادي شعبه قائلاً: إياكم والخروج بعد غروب الشمس، ولا يحملن أحدكم في جيبه أكثر من ثلاثين دولاراً، لكي لا يكون عرضة للمجرمين وقطاع الطريق.
وقال في مناسبة أخرى عام 1982م: "إنه لا يسعنا الاعتقاد بأنه في مقدور المواطنين القيام بالنزهات المسائية في الحدائق بشكل طبيعي وهاديء". واعترف بمرارة أن نقابات الإجرام تشكل جزءاً مأساوياً من تاريخ أمريكا.
ولهذا، فلا عجب أن تحذّر بعض الدول رعاياها، إذا ذهبوا إلى هناك ألا يخرجوا ليلاً، وألا يحملوا النقود في جيوبهم خشية التعرض للاختطاف والقتل والسرقة.
ومن أبلغ ما يشهد به الواقع كذلك: ما حدث في الخامس عشر من يوليو، عام 1977م، ونشرته صحف العالم في حينه، من أن التيار الكهربائي انقطع في "نيويورك" لمدة خمس وعشرين ساعة متوالية، فتحولت المدينة إلى مسرح للنهب والسلب، وسرقت البيوت والمتاجر، والمرافق العامة والخاصة، وارتكب في تلك الليلة الواحدة ما يعادل جرائم سنة كاملة.
والحقائق في هذا الباب كثيرة ومذهلة، وسردها يطول، ولكني سأختمها بمقتطفات من كتاب بعنوان "يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة"، وهو عبارة عن دراسة علمية() أجراها باحثان أمريكيان، تناولا فيها قضايا متعددة، لها علاقة بواقع المجتمع الأمريكي المعاصر، وشملت عينة كبيرة من المواطنين الأمريكيين، الذين شاركوا بآرائهم في القضايا المطروحة للدراسة.
تقول الدراسة تحت مبحث بعنوان "إيذاء الأطفال وباء أمريكي": "إن ما نسبته واحد إلى ستة من الأمريكيين في كل أنحاء الولايات المتحدة قد تعرض لإيذاء جسدي في طفولته. ومثل هذه النسبة تقريباً (واحد إلى سبعة ) اعترفوا بأنهم كانوا ضحايا للاعتداء الجنسي عليهم، عندما كانوا أطفالاً... وبالإضافة إلى هذه الإحصائيات، فإن كثيراً من الناس يتكتمون كثيراً، ولا يبدون شيئاً من جراح الطفولة ومعاناتها"
وفي مبحث آخر بعنوان "الاغتصاب": "الاعتداء على الأطفال وإيذاؤهم ليس الوباء الاجتماعي الوحيد في كل أنحاء الولايات المتحدة، هناك مشكلة جد خطيرة، ألا وهي مشكلة الاغتصاب الجنسي، والأرقام في هذا الصدد كبيرة وهائلة.
نسبة عشرين بالمائة من النساء اللاتي تحدثنا معهن أخبرننا بأنهن قد اغتصبن في لقاء مع أحد أصدقائهن. وعندما نتصور هذا الرقم على المستوى الوطني، فإن هذه النسبة تعني أن ما يقارب من تسعة عشر مليوناً من النساء في الولايات المتحدة، كن ضحايا لمشكلة الاغتصاب...
إن خوف الفتيات وتعرضهن للتهديد من أصدقائهن هو السبب الذي يفسر لنا لماذا كثير من حالات الاغتصاب لا تسجل رسمياً؟ أكثر من نصف الفتيات اللاتي تعرضن للاغتصاب لا يخبرن أحداً بذلك. وما نسبته واحد إلى عشرين من هؤلاء النساء يذهبن إلى دائرة الشرطة لتسجيل الحادث رسمياً"
وفي مبحث آخر بعنوان "غياب مفهوم القرية والجماعة الواحدة": "إذا كان الناس يحترمون حياة الآخرين ويقدرون ممتلكاتهم، فسيكون هناك نوع من التآلف بينهم. ولكن الوقت الحاضر يشهد غياب هذا المفهوم، وبدأ الأمريكيون لا يحترمون ممتلكات غيرهم: نسبة ثلاثة من كل أربعة مواطنين أمريكيين اعترفوا بأنهم يعتدون على ممتلكات غيرهم. ونسبة ستين بالمائة يسرقون أشياء معينة من أماكن الوظيفة والعمل، ونسبة خمسين بالمائة يسرقون المناشف من الفنادق أو الأندية الصحية، ونسبة خمس وعشرين بالمائة لا يسددون ديونهم أو القروض التي كانت عليهم، ونسبة تسعة وعشرين بالمائة يسرقون من المحلات التجارية. وتسعة بالمائة يسرقون من أزواجهم، وواحد وعشرون بالمائة من والديهم، وثلاثة عشرة بالمائة من أصدقائهم"
وفي مبحث آخر أكثر إثارة، وأصدق تعبيراً عن آثار العدوان والإجرام على الأمن والاستقرار، وهو بعنوان "الأرقام الحقيقية للجريمة في أمريكا": "إن نسبة (39%) من شعب الولايات المتحدة قد مارسوا أنواعاً مختلفة من الجريمة في حياتهم. من بين هؤلاء نسبة لا بأس بها يمارسون العنف حتى على أنفسهم...
في هذه البلاد التي تتسم بالعنف لا يبدو هناك ثمة سبب يثير الدهشة أو الاستغراب، إذا قلنا: إن نسبة قليلة منا (32%) يشعرون بالأمن وعدم الخوف من جيرانهم.
لقد قال أكثر أفراد العينة: إننا نعيش في رعب مستمر... إن أكثر من نصف الشعب الأمريكي (60%) كانوا ضحية للجريمة مرة واحدة في حياتهم على الأقل. وبالطبع، فإن أكثر من نصف الشعب (58%) كانوا ضحية للجريمة مرتين أو أكثر.
لقد تعودنا وألفنا قراءة الأرقام المتعلقة بجرائم العنف في الأحياء الفقيرة في الصحف، لكن الذي يثير دهشتنا هو تلك الأرقام المرتفعة للجريمة التي تحدث في الأحياء الراقية أو المتوسطة...
الأمريكيون يقتلون أنفسهم كل سنة وبمعدلات كبيرة، أكثر من خمس وعشرين ألف جريمة قتل تحدث سنوياً في أمريكا".
وقد جاء تأكيد ذلك في دراسة رسمية صادرة عن وزارة العدل الأمريكية. حيث تقول الدارسة: "إنه في عام 1993 م وحده وقعت في الولايات المتحدة الأمريكية أربعة ملايين وأربعمائة ألف جريمة قتل واغتصاب وسرقة استخدم فيها السلاح. من بينها أربعة وعشرون ألفاً وخمس مائة جريمة قتل"
المطلب الثالث
أثر الأمن في النمو الاقتصادي
لعله تبين لنا في المطلب السابق عمق العلاقة وقوة الصلة بين الأمن وبين النمو الاقتصادي، وأن بينهما ترابطاً وثيقاً، وتأثيراً تبادلياً، فكل منهما يؤثر في الآخر، ويتأثر به في نفس الوقت، فبينهما علاقة وثيقة ومتشابكة.
ويظهر أثر الأمن في النمو الاقتصادي من ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: أن فقدان الأمن على الأموال والأنفس يوهن العزائم، ويضعف الهمم، ويقبض عن السعي والكسب، ويورث الكساد الاقتصادي، ويوقف حركة التجارة وتبادل المنافع، ويقعد التجار عن استثمار أموالهم وتنميتها، ويقلص فرص العمل وتحصيل الرزق.
قال ابن خلدون: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم، ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها، انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها، انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء ونسبته، يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش، كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة، بدخوله من جميع أبوابها وإن كان الاعتداء يسيرا، كان الانقباض عن الكسب على نسبته. والعمران و وفوره ونفاق أسواقه، إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب، ذاهبين و جائين..."
الجانب الثاني: أن انتشار الأمن يؤدي إلى تخفيض الإنفاق المالي على الأجهزة الأمنية، ومؤسسات مكافحة الجريمة بأنواعها، مما يوفر مزيداً من الإمكانات والموارد التي توظف لأغراض التنمية ومشروعاتها، بدلاً من ذهابها في سبل مكافحة الإجرام، وملاحقة المجرمين.
وتمثل مخصصات الإنفاق، لمكافحة الجريمة في ميزانيات بعض الدول نسبة عالية من جملة الإنفاق الحكومي، مما يشكل عبئاً ثقيلاً على الموارد المالية لهذه الدول، ويؤدي بالضرورة إلى تخفيض حجم الأموال التي كان يمكن أن توجه إلى مشروعات التنمية.
وتشير بعض التقارير إلى أن الإنفاق الحكومي المخصص لمكافحة الجريمة في الدول الأفريقية مثلاً بلغ في المتوسط 9% من جملة الإنفاق الحكومي السنوي، وبلغ 8% في دول أمريكا اللاتينية في المتوسط، وبلغ 7% في الدول الآسيوية في المتوسط.
أما في أمريكا فقد جاء في إحصائية صادرة عن الأمم المتحدة، وعن الحكومة الأمريكية: أن ما تنفقه أمريكا لمكافحة الجريمة ومعالجة أسبابها وآثارها بلغ في عام 1994م: (425) مليار دولار.
وفي هذا العام أيضاً صدر قانون جديد باعتماد مبلغ (5ر33) بليون دولار تقريباً، خصصت نسبة 45% منها للصرف على قوات حفظ الأمن، بما في ذلك تعيين مائة ألف جندي جديد. ونسبة 33% لإنشاء سجون جديدة. ونسبة 22% لبرامج الوقاية الجنائية.
وإذا أخذنا معدل ارتفاع الأسعار وتفاقم الجرائم في الحسبان، وما حدث بعد تفجيرات نييورك وواشنطن من خسائر فادحة، ومن احتياطات أمنية داخلية وخارجية، فكم يا ترى بلغ إنفاقها لمكافحة الجريمة والعدوان في هذا العام؟!
وهذا كله فضلاً عن الخسائر الكبيرة التي تحل بالأفراد بسبب الجرائم الواقعة على ممتلكاتهم، من أنواع النهب والسرقة والخيانة، وحرق المتاجر، وتعطيل المصانع، وإعاقة الأعمال والمصالح العامة والخاصة.
وأضف إلى ذلك الخسائر الكبيرة في الأرواح والعقول من جراء العدوان والجريمة.
الجانب الثالث: أن انتشار الأمن، وانحسار الجريمة، يوفر طاقات بشرية كثيرة، تساهم في الإنتاج والنمو الاقتصادي، بعد أن كانت تحترف الإجرام، والعدوان على أموال الآخرين، وانتهاك حرماتهم.
كما تتوفر طاقات أخرى كانت موظفة لمكافحة الجريمة، والحد من انتشارها.
ومن هنا ندرك أهمية الأمن، وأن الناس أفراداً وجماعات بأمس الحاجة إليه، بل إن حاجتهم إليه تبلغ مبلغ الضرورات، التي لا يمكن أن تستقيم الحياة وتنتظم أحوالها بدونها.
ولما كان الأمن بهذه المثابة من الأهمية وشدة الاحتياج إليه، كان تحقيقه من أهم واجبات الدول والحكومات على مر العصور، بل لم تقم الدول والحكومات أصلاً إلا لإقامة مصالح الناس، وتحقيق الأمن والاستقرار لهم، وتسيير شؤونهم، ونشر العدل في صفوفهم، ومنع التعادي والتظالم فيما بينهم، وصد كيد أعدائهم عنهم.
كما أن الإسهام في تحقيق هذه المصلحة الضرورية والمحافظة عليها واجب محتم على كل فرد من أفراد المجتمع، كل بحسب موقعه ومسؤوليته، وعلى قدر طاقته واستطاعته، ومواهبه وقدراته، فالأمن مصلحة لهم جميعاً، وهو منهم وإليهم، وخيره عائدٌ إليهم، وضرر فقده راجعٌ عليهم، وكل فردٍ منهم على ثغرٍ من ثغور الأمن, وحارسٌ من حراسه، فالله الله أن يُخرم رواق الأمن من قبله، أو يهتز حبله بسبب تفريطه وغفلته، أو جهله وسذاجته، أو بدافعٍ من جشعه وطمعه، أو حقده وحسده.
القرآن صمام الأمان(3)
إذا كان تحقيق الأمن مصلحة ضرورية لا يستغني عنه فرد أو مجتمع، وكان الإسهام في تحقيقه ـ كما سبق ـ واجباً محتماً على كل فرد ومؤسسة حكومية أو أهلية فإن لجمعيات تحفيظ القرآن الكريم وحلقاتها المباركة أثراً كبيراً، ومشاركة فاعلة في تحقيقه، ويتضح ذلك من خلال الآتي:
أولاً: أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في تقوية الإيمان وإسعاد الإنسان.
ثانياً: أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في تربية الوازع الديني والرقابة الذاتية.
ثالثاً: أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في نشر العلم العاصم من الضلال والإجرام.
رابعاً: أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في إعداد الشباب وتأهيلهم.
وسأبين في هذا المقال الأثر الأول، وهو "أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في تقوية الإيمان وإسعاد الإنسان":
العناية بكتاب الله تعالى تعلماً وتعليماً، وتلاوة وتجويداً، وحفظاً ومدارسة، وحثاً على العمل به والتخلق بأخلاقه ـ وهو ما تقوم به جمعيات وحلقات تحفيظ القرآن الكريم ـ من أعظم ما يقوي الإيمان، ويزيد في التقوى، ويقرب العبد من خالقه، فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، وأولاهم بفضله ورحمته، وحفظه ورعايته، ونصره وإعانته، وتوفيقه وهدايته، فهم أقرب الناس إلى الله، وأطيبهم عيشاً، وأسعدهم قلوباً، وأهنؤهم حياة، وأحسنهم عاقبة.
وكلما كان الإنسان أكثر إيماناً كان أكثر سعادة وأمناً وطمأنينة، فالسعادة مربوطة بالإيمان توجد بوجوده، وتفقد بفقده، وتزيد بزيادته، وتنقص بنقصه.
قال الله تعالى: )الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون([الأنعام: 82]، فضمن الله تعالى لمن آمن به حق الإيمان تمام الأمن والهداية في الدنيا والآخرة، أمن من سخط الله وعقابه، وأمن من جميع المكاره والشرور.()
قال العلماء: فمن لم يلبس إيمانه بظلم، أي: بشرك ولا معصية، كان لهم الأمن التام، والهداية التامة، ومن لم يلبس إيمانه بشرك لكنه يعمل السيئات فإنه وإن حصل له أصل الأمن والهداية لم يحصل له تمامهما، بل ينقص من أمنه وسعادته وهدايته بقدر معصيته ومخالته لأمر ربه.()
ويقول سبحانه وتعالى: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا([النور: 55].
فهذا وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات: أن يستخلفهم في الأرض وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا، وقد تحقق هذا الوعد - ولن يخلف الله وعده - يوم أن كان المسلمون قائمين بهذا الشرط (يعبدونني لا يشركون بي شيئا). ولن يزال هذا الوعد قائما ما وجد هذا الشرط، فهو مرهون به، يوجد بوجوده، ويفقد بفقده، وما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله، وحكّمت هذا النهج في الحياة، وارتضته في كل أمورها إلا تحقق لها وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن، وما من مرة خالفت عن هذا النهج أو قصرت في القيام به إلا تخلّفت في ذيل القافلة، وأصبحت تابعة ذليلة لأعدائها، واستبد بها الخوف وتخطفها الأعداء، ألا وإن وعد الله قائم، ألا وإن شرط الله معروف، فمن شاء الوعد فليقم بالشرط، ومن أوفى بعهده من الله.()
وقال - عز وجل - )فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون([البقرة: 38]. أي: فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر دنياهم وآخرتهم، (ولا هم يحزنون) على ما فاتهم ومضى عليهم من أمور الدنيا.()
قال أبو السعود: <<والمعنى: أن من تبع هداي منكم فلا خوف عليهم في الدارين من لحوق مكروه، ولا هم يحزنون من فوات مطلوب، أي: لا يعتريهم ما يوجب ذلك>>()
ونظير هذه الآية قوله - تعالى - )فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى([طه: 123]. فقد تكفل الله - عزّ وَجلَّ - لمن اتبع هداه، واستجاب لأمره، والتزم بشرعه، ألا يضل في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يشقى فيهما، فله الهداية التامة، وله السعادة والأمن في الدنيا والآخرة. ()
كما ضمن له في الآية السابقة: أن يدفع عنه الخوف فيما يستقبله من أمر دنياه وآخرته، ويدفع عنه الحزن على ما فاته وجرى عليه. وبهذا يتحقق له ما يصبو إليه من الأمن والطمأنينة، والهدى والسعادة، في معاشه ومعاده.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: <<فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء: نفي الخوف والحزن، والفرق بينهما: أن المكروه إن كان قد مضى، أحدث الحزن، وإن كان منتظرا، أحدث الخوف، فنفاهما عمّن اتبع الهدى، وإذا انتفيا ثبت ضدهما، وهو الهدى والسعادة. فمن اتبع هداه حصل له الأمن، والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى. وانتفى عنه كل مكروه من الخوف، والحزن، والضلال، والشقاء. فحصل له المرغوب، واندفع عنه المرهوب. وهذا عكس من لم يتبع هداه، فكفر به وكذب بآياته>>()
وقال - سبحانه وتعالى - مؤكدا هذه الحقيقة العظيمة، وهي أن السعادة الحقيقية، والأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة، إنما هي للمؤمنين فقط: )من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون([النحل: 97].
فمن كان هذا حاله من الإيمان والعمل الصالح فجزاؤه في الدنيا: أن يحيا حياة طيبة، آمنة مستقرة، كريمة ندية، حتى وإن أصابه من النوائب والمصائب ما أصابه، فإن سعادته في قلبه، وروحه مطمئنة بذكر ربه، كما قال تعالى: )الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب([الرعد: 28]
وقد عجب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر المؤمن، وأن أمره كله له خير، حتى في حال البلاء والضراء، فقال - عليه الصلاة والسلام -: (عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)()
كما بين - صلى الله عليه وسلم - أن الفلاح الحقيقي في الدنيا والآخرة، إنما هو لمن أسلم لله - تعالى - واتبع هداه، فقال - عليه الصلاة والسلام -: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه)()
فمتى تمسك الناس بهذه الشريعة، وحفظوا مقاصدها تحقق لهم ما يصبون إليه من الأمن والطمأنينة والاستقرار، ليس في الدنيا فقط، بل في الدنيا والآخرة.
أما من أعرض عن الله، وأهمل شريعته، وطلب الهدى من غيره، واتبع منهجا غير منهجه، فإن حظّه في معاشه ومعاده هو الخوف والشقاء، والهموم والأحزان، والضيق والحرج، كما قال ربنا عز وجل: )ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا o ونحشره يوم القيامة أعمى o قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا o قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى o وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى([طه: 124-127].
والضنك، هو الضيق والشقاء والشدة، والمتأمل لهذه الكلمة يجد لها جرسا غريبا، وإيحاء عجيبا، حيث تصور هذا البائس وكأن أنفاسه تختنق في داخله، من شدة الضيق والحرج الذي يتلجلج في صدره، وكأن الخوف والشقاء يحاصرانه حيثما حل وارتحل، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، ولا لذة لعيشه، بل صدره ضيّق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن ما شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى لا يزال في قلق وحيرة وشك.()
هذا هو حال الفرد حين يعرض عن ذكر الله، أما إذا كان المجتمع كله على هذه الحال من الإعراض عن الهدى، ونسيان الشرع، فإنه بذلك يستجلب غضب الله، ويكون عرضة لأنواع الخسف والهوان، والمسخ والإذلال، والخوف والقلق، والضيق والضنك، وهذه سنة الله مع كل من كفر به ورضي منهجا غير منهجه.
وقد ضرب الله لنا مثلا بتلك القرية الآمنة الوادعة، وكيف تبدلت حالها بعد أن كفرت بأنعم الله، يقول الله - تعالى -: )وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون([النحل: 112].
فلما لم تشكر نعمة الله عليها بالأمن والطمأنينة، ورغد العيش، أحلّ الله عليها غضبه وعقابه، فأبدلها بالأمن خوفا ورعبا، وبالطمأنينة قلقا واضطرابا، وبالرزق جوعا وفقرا، وما ربك بظلام للعبيد.
وهاهم أصحاب الحجر، كانوا في نعمة سابغة، وقوة بالغة، وحضارة باسقة، وأمن وارف، فلما كذّبوا الرسل، واستكبروا عن قبول الحق، وعتوا عن أمر ربهم، حلّت عليهم نقمة الله، )فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون o فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين([الذاريات: 44-45]، فزالت نعمتهم، وانقشع أمنهم، كما قال - تعالى - )ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين o وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين o وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين o فأخذتهم الصيحة مصبحين o فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون([الحجر: 80-84].
وقد أكد ربنا هذه السنة الشرعية في أكثر من آية، فقال - تعالى -: )ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون([الأعراف: 96].
وقال عز وجل محذرا من الأمن من مكره، مع مخالفة أمره وانتهاك محارمه: )أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون o أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون o أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون([الأعراف: 97-99]. أي: ما كان ينبغي لهم أن يأمنوا وهم مقيمون على معاصيه، جاحدون لنعمته، معرضون عن شريعته.
فالأمن في الدنيا والآخرة إنما هو للمؤمنين، والمؤمنين وحدهم، أما أعداء الله والخارجون عن طاعته، فكيف يأمنون وقد حاربوا الله؟ وكيف يطمئنون وقد شاقوا الله ولجوا في معصيته؟ وكيف يسعدون وقد تعرضوا لسخطه ونقمته؟!!
ولقد قرر هذه الحقيقة العظيمة، بكل وضوح وجزم، إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - حين حاجه قومه، وهددوه بغضب آلهتهم عليه، وأنها ستبطش به إن هو أصر على دعوته. فأجابهم - عليه الصلاة والسلام - إجابة الواثق بإيمانه ، العارف بربه ، وواجههم بالحقيقة الدامغة، والحجة البالغة، كما في قوله - تعالى -: ) وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون o وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون o الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون([الأنعام: 80-82].
ومن خلال ما سبق يتبين لنا الارتباط الوثيق بين مصطلحي "الأمن والإيمان"، وتظهر لنا الصلة القوية بينهما، سواء من حيث الدلالة اللفظية - فإن الإيمان مأخوذ من الفعل الثلاثي " أمن " الذي هو أصل مصطلح " الأمن "، فأصلهما إذاً واحد - أو من حيث الدلالة المعنوية، فإن الأمن ثمرة للإيمان ونتيجة له، فإذا فقد الإيمان فلا أمان. ولما سئل الخليل بن أحمد: ما الإيمان ؟ قال: هو الطمأنينة()، ففسر الإيمان بالطمأنينة التي هي من لوازمه وثمراته.
ويظهر هذا الترابط الوثيق - أيضا - بين مصطلحي "السّلم" و "الإسلام"، فإن العلاقة بينهما هي نفس العلاقة بين الأمن والإيمان ، من حيث اللفظ() ، ومن حيث المعنى . وقد عبر القرآن الكريم عن الإسلام بلفظ السلم، مما يؤكد هذه العلاقة، ويدل على عمق الصلة بين هذين اللفظين، وذلك في قوله - تعالى - )يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين([البقرة: 208]. فقد أمر الله عباده المؤمنين أن يدخلوا في الإسلام كله، وأن يأخذوا بجميع عراه وشرائعه، ويعملوا بجميع أوامره ونواهيه.()
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام، عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار، لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال، سلام مع النفس والضمير، سلام مع العقل والمنطق، سلام مع الناس والأحياء، سلام مع الوجود كله ومع كل موجود، سلام يرف في حنايا السريرة، وسلام يظلل الحياة والمجتمع، سلام في الأرض وسلام في السماء، ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تستبد الحيرة، وكيف يعربد القلق في النفوس التي لم تستظل بظلال الإيمان، ولم تعرف الإسلام، أو عرفته وتنكرت له، هذه النفوس الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي، والتقدم الحضاري، وأسباب الراحة والترفيه.()، وللحديث صلة بإذن الله.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
القرآن صمام الأمان(4)
أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في تربية الوازع الديني والرقابة الذاتية
تربية الناشئة على كتاب الله تعالى وتعظيمه، والتدبر في مواعظه وزواجره، وحكمه وأسراره، وأحكامه وتشريعاته، وقصصه وأخباره من أعظم ما يملأ القلوب محبة لله وإجلالا له، وتعظيماً لشأنه وتوقيراً لجنابه، وخوفاً من عقابه، ورجاء لثوابه، وحياء منه ومراقبة له، ورعاية لحقوقه وحقوق عباده, ولا شئ أردع للنفوس عن العنف والإجرام، وأزجر لها عن الظلم والعدوان من الوازع الديني، والرقابة الإيمانية، التي تزرع في النفس رقابة ذاتية تلازم صاحبها حيثما كان. وقد صدق القائل:
لا ترجع الأنفس عن غيها ما لم يكن لها من نفسها واعظ
وقد قص الله لنا قصة ابني آدم: حين حسد قابيل أخاه هابيل، وتوعده بالقتل ظلماً وعدواناً، فرد عليه أخوه بلسان المؤمن الذي يخاف الله، ويتورع عن ظلم العباد وانتهاك حرماتهم: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين)[المائدة: 28ـ29]، فبين أنه ما يمنعه من قتل أخيه الذي هدده بالقتل إلا خوفه من الله، وخشيته أن يبوء بإثمه فيكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين. فهذا هو منطق أهل الإيمان، وحذرهم من الظلم والطغيان، وهكذا يكون تعظيمهم لأمر الدماء المعصومة، واحترامهم لحق الحياة الإنسانية الكريمة.
ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ)[النساء: 92]
فبين أن الإقدام على القتل ظلماً وعدواناً ليس من شأن المؤمن الصادق في إيمانه، وما كان ينبغي لمثله أن يفعله، أو يتهاون بشأنه.
قال القرطبي في تفسير الآية: "وما ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، إذ هو مغلوب فيه أحياناً... وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد وبشاعة شأنه، كما تقول ما كان لك يافلان أن تتكلم بهذا إلا ناسياً، إعظاماً للعمد والقصد مع حظر الكلام به البتة"
ولا يفهم من قوله تعالى: (لمؤمن أن يقتل مؤمناً) جواز قتل الكافر للمسلم، أو قتل المسلم للكافر المعصوم كالذمي والمعاهد والمستأمن، فإن ذلك حرام في حق الجميع، ولكنه خص المؤمن بالذكر في الموضع الأول تأكيداً لحنانه وشفقته، وصدق أخوته ومحبته، وأن إيمانه من أعظم ما يحجزه عن الإقدام على القتل والتهاون به. وأما في الموضع الثاني، فلأن أخاه المؤمن أقرب الناس إليه، وأكبرهم حقاً عليه، وأولاهم بمحبته ونصرته، والشفقة عليه والرحمة به، وحمايته ودفع الأذية عنه، فكان قتله له أعظم وأبشع من قتله لغيره.
ونظير ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه". فبين أن المسلم الحق لا يظلم أخاه المسلم ولا يعتدي عليه، بل ولا يسلمه لعدوه ويتخلى عن نصرته والدفاع عنه، فأخوة الإسلام تتناقض مع الظلم والعدوان.
ومن أبلغ ما يبين أثر الإيمان في الزجر عن القتل والعدوان، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان قَيْدُ الفتْك، لا يَفتك مؤمن)
والفتك: هو القتل على حين غفلة وغِرّة، ومنه العمليات الإجرامية التي تستهدف نسف البيوت الآمنة، وتدمير المنشآت العامة، وإزهاق النفوس المعصومة، وسفك الدماء البريئة. ومعنى الحديث: أن الإيمان يمنع المؤمن أن يقتل أحداً بغير حق، ويقيِّده عن الإقدام عليه، كما يمنع القيدُ صاحبه عن التصرف.
ولهذا فإن منهج الإسلام في تحقيق الأمن ومكافحة الإجرام والعدوان يرتكز أساساً على إصلاح الإنسان وتزكيته، وتهذيب سلوكه وأخلاقه، وتعبيده لربه وخالقه، وتربيته على خوف الله تعالى ورجائه ومحبته، ومراقبته في خلوته وجلوته، وسره وعلانيته، والحياء منه أن يقع في معصيته أو يقعد عن طاعته، وبهذا يتكون لديه وازع ديني يحمله على فعل الخير، وعلى البعد عن الشر، ويحميه من الوقوع في المظالم والمنكرات، ويمنعه من ارتكاب الجرائم وانتهاك الحرمات، حتى وإن لم تصل إليه يد العدالة، وكان بعيداً عن رقابة السلطات الحاكمة، والأجهزة الأمنية القائمة.
بل ويهذب نفسه ويزكيها، ويسمو بها، ويرقّيها في سلّم الطهر والصلاح إلى درجة أن ينفر من تلك الجرائم والمظالم، ويستنكرها ويستبشعها، بل ويسعى جهده لمحاربتها والقضاء عليها، فيكون بذلك عضواً فعّالا في مكافحة الإجرام والعدوان، وفي تثبيت قواعد الأمن والاستقرار.
والجريمة تنشأ أول ما تنشأ في داخل نفس الإنسان، قبل أن يرتكبها في الخارج، ولهذا كانت محاربتها واستئصالها من داخل النفس الإنسانية، أعظم وسيلة للقضاء عليها، وإماتتها في مهدها.
وهذا هو الذي قرره الإسلام لتحقيق الأمن ومحاربة الإرهاب والعدوان، إنه يبدأ بالقضاء على الجريمة في منبتها، والإحاطة بمنابعها قبل أن تنبع.
وأول إحاطة هي بالقلب البشري ذاته، منبع الخير في الإنسان إذا صلح، ومنبع الشر فيه إن فسد.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صَلَحت صلَح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
قال الدكتور يوسف القرضاوي: "في أعماق النفس الإنسانية قوة خفية لا تشاهد بالعين، ولا ترى بالمجهر، ولا يعرفها التشريح والفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء)، إنها قوة معنوية يحسها الإنسان في حناياه تهديه إلى الواجب، كأنها كشاف ينير له الطريق، وتنجذب به إلى الخير، كأنها الإبرة الممغنطة تُجذب دائماً نحو الشمال، وتدفعه عن الشر، كأنها صوت الأب يحذِّر ولده، أو الأستاذ ينصح تلميذه. فإذا خالف ما تأمر به أو اقترف ما تحذِّر، كانت هذه القوة محكَمة تقضي له أو عليه. تقضي له بالراحة والسرور والطمأنينة، أو تحكم عليه بالألم والقلق والعذاب.
هذه القوة الكاشفة الهادية، الآمرة الناهية، المحذرة المحرضة، الحاكمة المنفذة، هي التي سماها علماء الأخلاق "الضمير"، وسماها بعضهم "الوجدان"، وسماها الإسلام "القلب"، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لمن جاء يسأله عن البر والإثم: (البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب. والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون)
إنها قوة تسبق العمل، وتقارنه، وتلحقه، فتسبقه بالإرشاد إلى عمل الواجب والتحذير من المعصية، وتقارنه بالتشجيع على إتمام العمل الصالح والكف عن العمل السيئ، وتلحقه بالارتياح والسرور عند الطاعة، والإحساس بالألم والوخز عند العصيان...
والمجتمع، أي مجتمع، لا يرقى وينتظم ويسعد بسنّ القوانين، وإصدار القرارات وتنظيم اللوائح، ويقظة رجال السلطة، وإن كان لا يستغني عن ذلك كله، وإنما يرقى وينتظم ويسعد، بوجود القلوب الحية، وتوافر الضمائر اليقظة بين أبنائه"
وأعظم الوسائل التي شرعها الإسلام لإحياء القلوب، وتزكية النفوس، وإيقاظ الضمائر، وإيجاد الرقابة الذاتية التي تدفع إلى الخير والإحسان، وتزع عن الشر والعدوان، أمران:
الأمر الأول: غرس الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر في النفوس.
الأمر الثاني: تشريع العبادات.
أما الأول، فإن إيمان العبد بربه، وتوحيده له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وإيمانه بالجزاء والحساب في الآخرة، يجعل ضميره حياً متيقظاً، حريصاً على استباق الخيرات، والتجافي عن المعاصي والمنكرات.
إنه يعتقد أن الله معه حيث كان، في السفر والحضر، في الجلوة والخلوة، في الليل والنهار، لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سرّ ولا علانية )ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم([المجادلة: 7]، )وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعلمون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذا تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين([يونس: 61]. إنه يعلم أن الله - تعالى - مطلع عليه، يعلم سره وجهره، ويعلم ما يتلجلج في صدره، وما توسوس به نفسه، وما تطرف به عينه )يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور([غافر: 19]، )وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور o ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير([الملك: 13-14]، )عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال o سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار([الرعد: 9-10]، )ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد([ق: 16]، )إن الله كان عليكم رقيبا([النساء: 1].
ويؤمن المسلم كذلك بالدار الآخرة، وأن هذه الدنيا ليست داراً للخلود والاطمئنان، وإنما هي دار ابتلاء وامتحان، وعلى حسب عمل الإنسان فيها يكون جزاؤه في الآخرة. فإن كان محسناً، فجزاؤه الحسنى والنعيم المقيم، وإن كان مسيئاً، فجزاؤه الخزي والعذاب الأليم. كما قال ربنا عز وجل: )للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون o والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون([يونس: 26ـ27].
فهو موقن بأنه محاسب يوم القيامة على عمله، ومجزي بما كسبت يداه، وأن كل ما قدمه من قول أو فعل، فإنه مسجل محفوظ )في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى([طه: 52]، )إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد o ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد([ق: 17-18]، )وإن عليكم لحافظين o كراما كاتبين o يعلمون ما تفعلون([الانفطار: 10-12].
وهذه السجلات الوافية، لن يطويها النسيان، ولن يمحوها مرور الزمان، بل هي محفوظة عند الله تعالى، حتى تنشر بين يدي صاحبها يوم الجزاء والحساب، فتكون حجةً شاهدةً له أو عليه )وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا o إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا([الإسراء: 13-14]، )ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون o وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون o هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون([الجاثية: 27-29] وحين تنشر الكتب، ويرى الإنسان ما سجل عليه، يتذكر كل ما كان قد نسيه، ويدهش من دقة الإحصاء، وإحاطته بالصغير والكبير، والدقيق والجليل، ويشفق المجرمون من سوء ما عملوا )ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا([الكهف: 49]، )يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد([المجادلة: 6]
وفي ذلك اليوم تنصب الموازين، وتوزن الأعمال صغيرها وكبيرها، حسنها وسيئها )فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون o ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون([المؤمنون: 102-103]، )ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين([الأنبياء: 47] وتبلغ الحجة منتهاها حين تشهد على الإنسان أعضاؤه، وتخبر كل جارحة فيه بما كسبت )يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون o يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين([النور: 24-25].
وحينذاك يلوم الكافر أعضاءه ويوبخها، فعنها كان ينافح ويدافع، ومن أجلها كان يجادل ويماري، وقد صور الله لنا ذلك الموقف العصيب، حتى كأنه حاضر أمامنا نراه رأي العين فقال عز وجل: )ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون o حتى إذا ما جآءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون o وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون o وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون o وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين([فصلت: 19-23]
ثم يجازى كل إنسان على عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر )فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره o ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره([الزلزلة: 7-8].
بهذه العقيدة في الله، وفي الجزاء في الآخرة، يصبح المؤمن ويمسي مراقباً لربه، محاسباً لنفسه، مفكراً في مآله وعاقبته، حريصاً على فعل الخير، بعيداً عن الظلم والشر، حذراً من الإيذاء والعدوان، لا يظلم ولا يخون، لا يتطاول ولا يستكبر، لا يجحد ما عليه، ولا يدّعي ما ليس له، لا يتلف مال غيره، ولا يهتك حرمته، ولا يسفك دمه، ولا يكدر طمأنينته، ولا يزعزع أمنه وراحته، ولا يشق عليه ويحزنه، ولا يفعل اليوم ما يخاف أن يعاقب عليه غدا.
جاء في كتاب "يسألونك في الدين والحياة": "إن أكبر مقومات "الضمير" هو الاعتقاد بإله قادر، يحاسب على الكبائر والصغائر، ويطّلع على ما تكنه السرائر. وبحياة بعد هذه الحياة، يثاب أو يعاقب فيها الإنسان على ما قدمت يداه.
فكل تربية وكل تعليم لا يغنيان عن صاحبهما شيئاً ما دام ضميره مقفراً من هاتين العقيدتين. وهذا هو المشاهد المحسّ، فإن الناس في أيام جهالتهم وعدم انتشار التعليم فيهم، كانوا بفضل هاتين العقيدتين أفضل حالاً، وأقوم أخلاقاً مما هم عليه اليوم...
والمراقبة لله من الداخل وفي الأعماق، هي التي تحسن قيادة الأعضاء والأطراف، فلا يكون من الإنسان ما يسوء أو يعاب في تصرفاته أو حركاته..
وحيثما كانت هذه المراقبة متحققة في أبناء الإسلام، كان الحياء من الله يسيطر عليهم، فيعصمهم من الخلل والزلل، حتى في حالة الانفراد وعدم إطلاع الناس".
إن الضمير الذي يربيه الإيمان بالله واليوم الآخر، ضمير حي متيقظ، مرهف الحساسية، شفاف الشعور، تجد صاحبه يحاسب نفسه قبل العمل: لماذا أعمل؟ ولمن سأعمل؟ ويحاسب نفسه بعد العمل: ماذا عملت؟ ولماذا عملت؟ وكيف عملت؟! قال الحسن البصري في قوله تعالى: )ولا أقسم بالنفس اللوامة([القيامة: 2]: "إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه"
وقال أيضا: "المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله عز وجل، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما صلة إليك، هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: هيهات، ما أردت إلى هذا؟ وما لي ولهذا؟ والله ما أعذر بهذا، والله لا أعود إلى هذا أبدا إن شاء الله"
ومن كان هذا شأنه، فإنه أبعد الناس عن الظلم والإجرام، وأكثرهم حذراً من العنف والعدوان، وأقربهم إلى البر والتقوى، وأحرصهم على الخير والحسنى.
وأما الأمر الثاني الذي شرعه الإسلام لتربية النفوس وإحياء القلوب والضمائر، فهي العبادات بأنواعها، واجبة كانت أو مستحبة.
وأول هذه العبادات وآكدها الصلاة المفروضة التي تتكرر كل يوم خمس مرات. والصلاة صلة بين العبد وربه، يقف بين يديه، ويمجده ويثني عليه، ويدعوه ويبث الشكوى إليه، ويجدد العهد معه على طاعته، والاستقامة على شريعته، ويسأله الهداية والإعانة، والتوفيق والتسديد، فيرتفع منسوب الإيمان في قلبه، ويشعر بقربه من ربه، ويزداد شرفاً وعزةً، وراحةً وطمأنينةً.
فالصلوات للروح أشبه بالوجبات للجسم. يبدأ المسلم يومه بصلاة الصبح، ثم يخوض غمار الحياة كادحاً مكابداً، بعد أن تزود بهذا الزاد الروحي.
ثم كلما غرق في لجج الحياة اليومية، وانهمك في مشاغلها وبهرجها، قام المؤذن يناديه: حي على الصلاة، حي على الفلاح. فلا تكاد الدنيا تشغله، حتى تأتيه صلاة الظهر، ثم صلاة العصر، ثم صلاة المغرب.
وكما بدأ يومه مع الله في صلاة الصبح، فإنه يختمه بلقائه معه في صلاة العشاء. فينام قرير العين، هادئ البال، لأنه قام بواجبه تجاه ربه، وهو لذلك يطمع في محبته وقربه، ويشعر بأن الله معه، يحفظه ويكلؤه، ويعينه ويسدده، ويهديه ويوفقه، كما قال تعالى:)يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين([البقرة:153]، وقال:)إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون([النحل: 128]، وقال سبحانه: )والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين([العنكبوت:69]
قال قتادة: "من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل"
وقد بين الله عز وجل ما يترتب على الصلاة من أثر فعال في تهذيب النفس وتقويم السلوك، والوقاية من الفواحش والمنكرات، فقال تعالى: )وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر([العنكبوت: 45] فأفادت الآية أن الصلاة تحمل على ترك المعاصي كلها صغيرها وكبيرها.
فالفحشاء: كل قبيح تناهى قبحه، واستفحشه كل ذي عقل سليم، وظهر قبحه لكل أحد. والمنكر: كل معصية تنكرها العقول السليمة والفطر المستقيمة.
ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: أن العبد المقيم لها كما أمره الله بخشوع وخضوع، وإتمام لأركانها وشروطها، يستنير قلبه، وتزكو نفسه، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وينقمع الداعي له إلى الشر. فإذا داوم عليها على هذا الوجه كانت بالضرورة سبباً لاستقامته، وكفه عن الفحشاء والمنكر. وهذا من أعظم مقاصد الصلاة وثمراتها.
كما أن المداومة عليها سبب لطمأنينة القلب، وسكينة النفس، وراحة البال، وانشراح الصدر. فالصلاة هي العون للمحتاج، والراحة للمضطرب، والأمان للخائف. وهذا من شأنه أن يشبع الفراغ النفسي الذي قد يدفع صاحبه إلى الجريمة والانحراف.
كما أن الصلاة مع الجماعة سبب لتأليف القلوب، وتحقيق التواصل والتكافل بين المؤمنين، فالمسجد يضم أهل الحي في كل يوم خمس مرات، تتلاصق فيها الأبدان، وتتعارف فيها الوجوه، وتتصافح فيها الأيدي، وتتناجى فيها الألسن، وتتآلف فيها القلوب. ويلتقون على وحدة الغاية والوسيلة. وأي وحدة أبلغ وأعمق من وحدة المصلين في الجماعة، يصلون خلف رجل واحد هو الإمام، ويناجون رباً واحداً هو الله، ويتلون كتاباً واحداً هو القرآن، ويتجهون إلى قبلة واحدة هي الكعبة البيت الحرام، ويؤدون أعمالاً واحدة من قيام وقعود، وركوع وسجود.
وحدة نفذت إلى اللباب ولم تكتف بالقشور، وحدة في النظرة والفكرة، وحدة في الغاية والوجهة، وحدة في القول والعمل، وحدة في المخبر والمظهر، وحدة يشعرون فيها بروح الآية الكريمة (إنما المؤمنون إخوة )[الحجرات:10]
وفي المسجد تختفي فوارق المكانة والثروة والجنس واللون، ويعم أرجاءه جوّ قشيب من الإخاء والمساواة والمحبة. وإنه لأيم الحق لنعمة كبرى أن يكون في مكنة الإنسان التمتع خمس مرات يومياً بجو من السلام التام وسط عالم يسوده الصراع والنضال.. وبجو من المساواة على حين يكون التباين هو النظام السائد.. وبجو من المحبة في معمعة الأحقاد الوضعية، والتنابذات والخصومات المفعمة بها الحياة اليومية.
إنها حقاً لمن أجزل النعم، لأنها العبرة الجلّى من الحياة، فليس للإنسان بدّ من أن يعمل وسط التباين والنضال والصراع.. ومع ذلك ينتزع نفسه من كل هذا خمس مرات، ليكتنه حقيقة المساواة والإخاء والمحبة، من حيث إنها هي المصادر الحقيقية للسعادة الإنسانية.
ثم يلي الصلاة: الزكاة، التي هي الركن الثالث من أركان الإسلام.
وقد فرضها الله تعالى مواساةً للفقراء، وتحقيقاً للتكافل بينهم وبين الأغنياء، كما أنها سبب لتزكية نفس صاحبها، وتطهيرها من الشح والبخل، ومن أوضار الذنوب والمعاصي. وهي كذلك سبب لتطهير ماله وتنميته ومباركته، قال الله تعالى: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها([التوبة: 103]
ولهذا كانت الزكاة من أكبر أسباب تحقيق الأمان، ومكافحة الإرهاب والعدوان، وإشاعة التعاطف والتراحم، وتأكيد الأخوة والمحبة بين المؤمنين.
ثم يلي الزكاة: صيام شهر رمضان، الذي هو الركن الرابع من أركان الإسلام. حيث يمسك المسلم فيه عن الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
وقد بين الله تعالى الحكمة من الصيام فقال: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون([البقرة: 183] فالغرض من الصيام، هو تحصيل التقوى للصائم. والتقوى: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، وذلك بفعل طاعته واجتناب معصيته.
والتقوى، جماع كل خير، وداعية لكل فضل وبر، ومانعة من كل فاحشة ومنكر. وقد كان الصيام من أكبر أسبابها لما يأتي:
1- أن الصائم يكون في المكان الخالي الذي لا يراه فيه أحد من الناس، وهو يتلمظ من العطش، ويتلوى من الجوع، وعنده الطعام والشراب، فلا يأكل ولا يشرب، ولا يفعل شيئا من المفطرات، امتثالاً لأمر الله تعالى، ورجاءً لثوابه، وخوفاً من عقابه.
وهذا الامتناع عما تهواه نفسه مع قدرته على الوصول إليه خفيةً دليلٌ على استشعاره اليقيني لمراقبة الله تعالى له، واطلاعه عليه.
كما أنه يحرص في حال صومه على كفّ نفسه عن المحرمات التي تنقص أجره وتفسد صومه وتغضب ربه. وفي الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي)
وهذه هي حقيقة التقوى: أن تترك ما تحبه نفسك من أجل ما يحبه الله، وأن تحمل نفسك على القيام بأمر الله، والنأي بها عن معصيته، محبة له، ورغبة في ثوابه، وخوفا من غضبه وعقابه.
قال طلق بن حبيب: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله"
2- أن الصيام يدرب المسلم على الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على ألم الجوع والعطش والأقدار المؤلمة.
كما أنه يربي فيه قوة الإرادة، التي تستعلي على أهوائه وشهواته، وتكفه عن المحرمات، وتدفعه إلى المسابقة إلى الخيرات، والمنافسة في مجال الباقيات الصالحات.
فالصائم قد تعود على أن يأكل في اليوم عدة وجبات، وأن يشرب كلما أحس بالظمأ، وأن يتناول ما تشتهيه نفسه من طعام وشراب متى شاء، فإذا جاء رمضان أمسك عن الطعام والشراب من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، والماء والطعام بين يديه، فلا يشتف منه جرعة، ولا يأكل منه لقمة.
فإذا كان يفعل ذلك شهراً كاملاً ويمسك عما أحل الله له في الأصل في غير الصيام من طعام وشراب، فلأن يمتنع عما حرم الله عليه من المطاعم والمشارب وأكل أموال الناس بالباطل، من باب أولى وأحرى!!.
وإذا كان يحبس نفسه عن مجامعة زوجته حال صومه طوال شهر رمضان، فلأن يحبسها عن ارتكاب الفواحش، من باب أولى وأحرى.
كما أن الصيام يعوّد الإنسان على أن يمسك لسانه عن الفحش في القول، والبذاءة في الكلام، واللغو في الحديث.
فلا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك تلك الشهوات المباحة في غير حال الصيام، من أكل وشرب وجماع، إلا بعد التقرب إليه بترك ما هو محرم في كل حال، من الكذب، والفحش، والظلم، والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
وهذا وإن كان محرماً في كل وقت، إلا أن حرمته في رمضان أشد. فليس الصيام مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، بل هو إمساك عن كل ما حرم الله، وصوم عن كل ما نهى الله عنه من الأقوال والأفعال.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أي يدع طعامه وشرابه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث)
كما أن الصوم يعود المسلم على الحلم وضبط النفس وكظم الغيظ، وعدم الاستجابة لداعي الغضب والانتقام، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم)
وإذا اعتاد المسلم شهراً كاملاً على ضبط النفس وعدم الانتصار لها فيما أباحه الله له من درء السيئة بمثلها، فأحرى به ألا تأخذه العزة بالإثم، فيأخذ أكثر من حقه، وأن يعف عن ظلم الناس والاعتداء عليهم ابتداءً بغير حق. وبهذا ينكفّ عن الظلم والاعتداء، ابتداءً واستيفاءً.
وبهذا نعلم أن الصوم وسيلة مهمة للتدريب على الصبر، وتربية الإرادة الحازمة. فما الصائم إلا رجل يمارس في نفسه التغلب على اللذة المباحة، حتى يستطيع التغلب على اللذة الآثمة، ومدافعة العوامل التي توقعه في الظلم والجريمة. كما يتعهد نفسه بالامتناع عن المأكل والمشرب مختاراً، حتى يستطيع الصبر على الجوع والعطش حين يضطر إلى ذلك اضطراراً.
3- أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، ويضعف قوته، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإذا جاع العبد بسبب الصيام، ضعف فيه نفوذ الشيطان، وقلت رغبته في الظلم والعصيان.
قال الفخر الرازي: "الصوم يورث التقوى، لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى، فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوّن لذات الدنيا ورياستها. وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، وإنما يسعى الناس لهذين... فمن أكثر من الصوم هان عليه أمر هذين وخفّت عليه مؤنثهما، فكان ذلك رادعا عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهوناً عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى"
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم يقمع الشهوة ويكسرها، وذلك في قوله: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)
ولذلك إذا جاء رمضان أظل المجتمع المسلم كله جو من الطهارة والنظافة، والخشية والإيمان، والإقبال على الخير وحسن الأعمال، وعم انتشار الفضائل والحسنات، واشتدت المنافسة بين المؤمنين في مجال الباقيات الصالحات، وكسدت سوق المنكرات، واعترى أهلها الخجل من اقترافها، أو إعلانها والمجاهرة بها، وقوي التعاون بين الناس على أعمال البر والإحسان، ونمت في الأغنياء عاطفة البذل والعطاء، والمساعدة لإخوانهم الفقراء، وكل ذلك يكوّن فيهم الشعور العام بأنهم جميعاً أمة واحدة، وجسد واحد، وبناء متماسك يشد بعضه بعضاً، وأنهم يسيرون على منهج واحد، ويسعون إلى غاية واحدة، فتتوثق فيهم عواطف المحبة والأخوة، والمواساة والنصرة، والتعاون والوحدة.
4- أن الصائم تكثر طاعته في الغالب، والطاعات من خصال التقوى. وقد امتاز شهر رمضان بكثرة المنافسة بين المؤمنين في الطاعات، وحرصهم فيه على اغتنام الأوقات والتعرض للنفحات.
5- أن الغني إذا ذاق ألم الجوع والحرمان، أوجب له ذلك الإحساس بحاجة الفقراء والمعدمين، وسعى إلى مواساتهم ومد يد العون لهم. فهو يثير في نفوس المؤمنين مشاعر العطف والرحمة، والتحسس بآلام الآخرين، ويدفعهم إلى التواصل والتكافل. وهذا من خصال التقوى.
كما أن الإحساس بالجوع يذكره بنعمة الله عليه بالغنى، ويوجب له شكر هذه النعمة.
ثم يلي الصوم: حج بيت الله الحرام، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام.
والحج هو الرحلة الروحية البدنية، التي يفارق فيها المسلم وطنه وبيته، ويدع أهله وعشيرته، مهاجراً إلى الله، قاصداً لعبادته، باذلاً من نفسه وماله ووقته، ومحتملاً للمكاره والمشاق في ذات الله، حتى يصل إلى الأرض المقدسة حيث قبلة المسلمين وأول بيت وضع لعبادة الله في الأرض، وحيث ذكريات إبراهيم وإسماعيل وهاجر، ومن حج بيت الله من أنبيائه والصالحين من عباده. ثم ذكريات محمد صلى الله عليه وسلم وعبادته ودعوته، وصبره ومجاهدته.
وما إن يخرج الحاج من بلده، قاصداً بيت الله الحرام، حتى تستشرف نفسه إلى الفوز برضوان الله تعالى ومغفرة ذنوبه، فيبادر إلى التوبة، ويسعى إلى التطهر من الذنوب والخطايا، والانخلاع من جميع الموبقات والمعاصي. ويقوى هذا الهاجس في نفسه حين الدخول في الإحرام.
وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك في قوله: )الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله([البقرة: 197]
والرفث: هو الجماع ومقدماته القولية والفعلية. والفسوق: هو الخروج عن طاعة الله تعالى بمعصيته، وهو يشمل جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام. والجدال: هو المماراة والمخاصمة على سبيل المنازعة والمغالبة.
والفسوق والجدال المنهي عنه، كلاهما يسبب الشر والإيذاء، ويهيج على الظلم والاعتداء، والمقصود من الحج: التذلل لله والانكسار بين يديه، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات.
وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل زمان ومكان، فإنه يتغلظ المنع عنها في الحج. فإذا أدرك الحاج خطورتها، وفطم نفسه عنها مدة حجه، كان جديراً به أن يبتعد عنها بعد الحج الذي يرجو به حصول تطهيره ومغفرة جميع ذنوبه.
وحين يصل الحاج إلى الميقات، يتجرد من ثيابه المعتادة بما تحمله من مظاهر التفاوت والطبقية والإقليمية ليلبس ثياباً أشبه بثياب الموتى، مستعلياً على الدنيا ومظاهرها الخداعة، ومفكراً في مصيره الذي لا بد له منه، حيث يجرد من ثيابه، ويلف في أكفان تشبه ثياب الإحرام.
ثم يتجه إلى الله بقلبه ولسانه، رافعاً عقيرته بالتلبية، التي يعلن فيها طاعته لربه، واستجابته لأمره، ويقر فيها بوحدانيته، ويبرأ فيها من الشرك في جميع أشكاله وصوره (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)
وما إن يصل إلى بيت الله الحرام الذي يتوجه إليه المسلمون في صلواتهم في أصقاع الأرض، ويقصدون حجه في كل عام، حتى يخفق قلبه بالمحبة والتعظيم لهذا البيت العظيم، وتعتمل في نفسه معاني المحبة والخشوع والإخبات لرب هذا البيت، ثم يرى المسلمين قد اجتمعوا من شتى بقاع المعمورة، ويمثّلون فيه أمة الإسلام على اختلاف أجناسها، وبلدانها، وألوانها، ولغاتها وهم يطوفون حول البيت سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين عربي وعجمي، وأبيض وأسود، وأمير ومأمور، وهذا هو حالهم في جميع عرصات مكة والمشاعر المقدسة: في عرفات ومزدلفة ومنى. إنها وحدة القلوب المؤمنة في اتجاهها إلى إله واحد، وقيامها بعبادة واحدة، في مكان واحد، وزمان واحد، ولباس واحد.
وحين يجتمع الحجاج كلهم في صعيد عرفات، حاسري الرؤوس، داعين مبتهلين، يتذكر الحاج بذلك اجتماع الناس يوم الحشر والحساب، يوم يقوم الناس لرب العالمين )يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا([آل عمران: 30]
يتزود المسلم في الحج بهذا الزاد الروحي، فيعود من رحلته، وهو أقوى إيماناً، وأطهر قلباً، وأنقى سريرة، وأقوى عزيمة على الخير، وأصلب عوداً أمام مغريات الشر.
ويعود وهو أكثر اعتصاماً بحبل الله، وارتباطاً بإخوانه المسلمين، ومحبةً لهم، وتعاطفاً معهم، وحرصاً على مصالحهم.
ويعود وقد فتح صفحة جديدة من حياته في طاعة الله، بعد أن عاهد الله على الاستقامة على دينه، وابتهل إليه أن يطهره من ذنوبه، وهو يطمع أن يكون ممن شملهم هذا الجزاء الكريم الذي أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (من حجّ، فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)
وبعد، فقد تبين من خلال ما سبق: أن هذه العبادات المفروضة لها أكبر الأثر في تقويم الإنسان وإصلاحه، وتهذيب أخلاقه وسلوكه، وغرس مراقبة الله تعالى ومحبته في نفسه، وتوثيق علاقته بإخوانه، وتمتين صلته بهم.
وفوق هذه الفرائض الأساسية التي هي الحد الأدنى لقيام العبد بواجبه تجاه ربه، يفتح الإسلام باب التطوع بالخيرات، والتقرب إلى الله بالنوافل والمستحبات، من صلوات بعد الخمس المكتوبة، ومن صيام بعد رمضان المفروض، ومن صدقة بعد الزكاة الواجبة، ومن حج وعمرة بعد حجة الفريضة.â Îûur y7Ï9¨s ħsù$uZoKuù=sù tbqÝ¡Ïÿ»sYtGßJø9$#)[المطففين 26].
وفي الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
والمعنى: أن من تقرب إلى الله بالفرائض، واجتهد في التقرب إليه بالنوافل، أحبه الله وأدناه، وهداه وسدده، وأعانه ووفقه، وملأ قلبه بالإيمان والتقوى، فلا ينصت بسمعه إلى حرام، ولا يطلق بصره في حرام، ولا يبطش بيده في حرام، ولا يمشي برجله إلى حرام، ولا تنبعث جوارحه إلا بما يرضي الله تعالى، ولا يتصرف إلا فيما يحبه الله، فيرتقي من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، ويعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه.
ومن هذه العبادات التي تقوي الإيمان، وتملأ القلب محبة لله تعالى ورجاء وخشية ومراقبة: تلاوة القرآن وحفظه ومدارسته، وهو ما تقوم به حلقات تحفيظ القرآن الكريم للفتيان والفتيات، فيقرأون كل الآيات التي ذكرتها آنفاً وغيرها مما هو في معناها، فيتعظون بها ويعملون بمقتضاها.
وليس المقصود بهذه العبادات فرضها ونفلها: أن تصل المسلم بخالقه لحظات أدائها فقط، ثم ينفرط عقده بعد ذلك، ويخلد إلى الأرض، ويتبع هواه.
كلا، فإن مهمة هذه العبادات أن تصل العبد بربه، وتغرس في نفسه مراقبته ومحبته، ورجاء مثوبته، والخوف من عقوبته، وتقوي عزمه على استباق الخيرات، والصبر عن المعاصي والمنكرات.
لا يرضى الإسلام أن يكون المسلم "ربانيا" في المسجد، يركع ويسجد، ويخضع ويخشع، ويبتهل ويتضرع، ثم إذا خرج من المسجد انقلب من رباني إلى "حيواني"، أو " شيطاني".
ولا يرضى من المسلم أن يكون "ربانيا" في رمضان، فإذا طويت أيامه، طويت معها العبادة والطاعة لله، كأنما كان يعبد رمضان، لا رب رمضان.
ولهذا كان بعض السلف يقولون: كن ربانياً ولا تكن رمضانياً.
ولا يرضى من المسلم أن يكون "ربانياً" طالما كان متلبساً بمناسك الحج أو العمرة، ومجاوراً للمسجد الحرام، أو المسجد النبوي، والمشاعر المقدسة. فإذا أتم نسكه، وقضى حجه أو عمرته، أو زيارته، وكرّ راجعا إلى أهله، نسي الجوّ الإيماني الذي كان يعايشه، وغرق في لجة الحياة المادية، كما يغرق الغافلون.
أجل، لا يرضى الإسلام ذلك للمسلم، وإنما يريد له صلة دائمة بمولاه، في المسجد، والطريق، والبيت، والعمل. في رمضان وشوال وسائر الشهور. في مكة والمدينة والمشاعر المقدسة، وبعد العودة إلى الأوطان. في كل مكان، وكل زمان، وكل حال، كما قال ربنا عز وجل: )قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين([الأنعام: 162] إنه التجرد الكامل لله، بكل خالجة في القلب، وبكل حركة في الحياة، بالصلاة والنسك، بالمحيا والممات، بالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه.
إنها العبودية الكاملة في كل زمان ومكان وحال، عبودية تجمع الصلاة والذبح والمحيا والممات، وتخلصها لله وحده )لله رب العالمين(، استسلام كامل لا يستبقي في النفس ولا في الحياة بقية لا يعبّدها لله وحده لا شريك له.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)
ولأجل هذا، كان الواجب على كل المؤسسات التربوية والتوجيهية، وعلى كل من تولى شيئاً من أمور المسلمين، بدءاً بالولاية العظمى، إلى ولاية الرجل في بيته وأهله، أن تعمل متضافرة على تربية من تحت يديها تربية إسلامية أصيلة، وأن تبذل وسعها لتعبيدهم لربهم، وتزكية نفوسهم، وحثهم على القيام بما يجب عليهم من حقوق الله تعالى وحقوق عباده.
الأسرة، باعتبارها المدرسة الأولى والمهمة للتربية السليمة، والتنشئة الصالحة المستقيمة.
والمساجد، بخطبها، ودروسها، وحلقاتها، ومواعظها، ودورها الكبير في التربية والتوجيه، ورسالتها الجليلة في الدعوة والإصلاح.
والمدارس والجامعات، باعتبارها من أهم وسائل التربية والتعليم.
ووسائل الإعلام المختلفة، من مرئية ومسموعة ومقروءة، باعتبارها سلاحاً ذا حدّين، وأدوات لها نتائجها، بحسب ما يبث فيها، وينشر من خلالها.
فإن سخّرت لنشر الخير، وتثبيت العقيدة الصحيحة، وتدعيم الأخلاق الفاضلة، والقيم العليا، كانت وسيلة لا تضاهى في الإصلاح والبناء. وإن سخرت لضد ذلك، كانت شراً مستطيراً، وبلاءً خطيراً، يهدم الدين، ويحطّم الأخلاق، ويدمر القيم، ويثبط العزائم والهمم، ويضيّع الأعمار فيما يضر ولا ينفع، ويجر الأمة نحو التحلل والانهيار، وإهمال مصالح الدنيا والآخرة.
ولحلقات تحفيظ القرآن الكريم دور كبير، وأثر بالغ في تحقيق هذه الربانية، وتربية الناشئة عليها، فهي تضطلع بمهمة جليلة، وتؤدي واجباً عظيماً، يسهم مساهمة فاعلة في بناء الأجيال، وتربية الرجال، وصناعة الأبطال.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "كل أدوات التأثير والتوجيه، يجب أن تتعاون جميعا في تحقيق " الربانية " وتأكيدها وتثبيتها في النفس والحياة... ولا يجوز في نظر الإسلام أن يترك للمساجد وحدها مهمة تأكيد "الربانية"، وتثبيت مبانيها، وتوضيح معانيها، في حين تعمل المؤسسات التوجيهية والإعلامية والتثقيفية الأخرى على إشاعة معانٍ أخرى تناقض الربانية، أو تشكك فيها، أو تنتقصها من أطرافها.
وكيف يؤدي المسجد رسالته، إذا كانت الأجهزة الأخرى - وهي تصابح الناس وتماسيهم بإمكاناتها الرهيبة - تخفض ما يعليه، وتهدم ما يبنيه؟
وهل يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرُك يهدِمُ؟!
على أن كل مؤسسة في مجتمع الإسلام لا تستمد حق بقائها فيه إلا بمقدار ما تسهم به في الحفاظ على ربانيته، التي هي أساس وجوده، سواء كان هذا الإسهام مباشرة، أم غير مباشرة، من قريب أم من بعيد. بل يأمر الإسلام بهدم كل مؤسسة لا تقوم على تقوى من الله ورضوان، ولو اتخذت صورة المسجد الذي تؤدى فيه الصلاة ظاهرا. كما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهدم مسجد الضرار، الذي اتخذه المنافقون ضرارا، وكفرا، وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل"
والكلام عن دور الأسرة في التربية، ودور المدرسة، والمسجد، ووسائل الإعلام، وغيرها من وسائل التوجيه والتأثير، أمر يطول.
والأصل الجامع لذلك كله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الأعظم الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده، وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
القرآن صمام الأمان(5)
أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في نشر العلم العاصم من الضلال والإجرام
الجهل وضحالة العلم، وقلة الفقه في الدين من أكبر أسباب الإجرام والعصيان، والتهاون في حقوق الله تعالى وحقوق عباده، والتساهل في انتهاك حرمات الخلق والتعدي على مصالحهم، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم تركز في جميع نشاطاتها على تعليم رأس العلوم وأساسها، ألا وهو كتاب الله تعالى، الذي هو النور المبين، والصراط المستقيم، والحبل المتين، من تمسك به هدي، ومن أخذ به رشد، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن أعرض عنه شقي، ومن حرم خيره فقد حرم. هو كما وصفه ربنا بقوله: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)[البقرة: 2]، وقوله: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد)[إبراهيم: 1]، وقوله: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)[الإسراء: 9]، وقوله: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)[المائدة: 15ـ16]، وقوله: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)[يونس: 57ـ58] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وضلال الخلق على كثرة صوره وأنواعه، وتعدد مظاهره وأشكاله، سواء أكان في الأفكار والتصورات، أم الأخلاق والسلوكيات، أم الأعمال والممارسات، يعود في حقيقته إلى سببين رئيسين:
الأول: الجهل أو العمى. والثاني: الظلم أو الهوى.
قال الله عز وجل: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا)[الأحزاب: 72]
فبين أن الأصل في الإنسان هو الظلم والجهل، إلا من زكاه الله بالعدل الذي يمنعه من الظلم، والعلم النافع الذي يرفع عنه الجهل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والجهل والظلم هما أصل كل شر، كما قال سبحانه: (وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً)"
ويدل على ذلك أيضاً: أن الله تعالى أمرنا بقراءة أم القرآن في كل ركعة من ركعات الصلاة، سواء كانت مفروضة أو مستحبة، ومن بين آياتها قوله سبحانه: (اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)[الفاتحة: 6ـ7]
فأرشدنا إلى سؤاله الهداية إلى الصراط المستقيم، وذلك يتضمن معرفة الحق والتوفيق للعمل به، وهما ينافيان الجهل والهوى. ثم بين أن هذا هو طريق الذين أنعم عليهم من النبيين وأتباعهم بإحسان، حيث دلهم على الحق، وأعانهم على امتثاله والعمل به، بخلاف المغضوب عليهم والضالين، الذين تنكبوا الصراط المستقيم، فوقعوا في الشرك والضلالات، والبدع والخرافات، وارتكبوا الكبائر والمنكرات، إما اتباعاً للهوى مع علمهم بالحق، وهؤلاء هم المغضوب عليهم، كاليهود، الذين أضلهم الله على علم، فتركوا الحق مع علمهم به. وإما جهلاً منهم بالحق، فعبدوا الله على جهل، وهؤلاء هم الضالون، كالنصارى، الذين يتقربون إليه بالشركيات، ويتعبدون له بالبدع والضلالات.
وإذا كان المسلم مأموراً بأن يتفهم هذه المعاني العظيمة، ويدعو بهذا الدعاء الجامع في كل ركعة من ركعات الصلاة، فإن هذا دليل على خطورة الجهل واتباع الهوى، ووجوب مجاهدة النفس على طلب العلم والهدى، واتباع الحق والاستقامة عليه، وأن الجهل والهوى هما سبب ضلال الخلق، وبعدهم عن الهدى ودين الحق.
ولو تأملت في أحوال العاصين المفرطين، والمبتدعة الضالين، والغلاة الجافين، لوجدتهم إنما أتوا من قبل هذين الأمرين أو أحدهما.
والجهل أصل الضلالين، وأخطر الشرين، وما من أحد يتبع الهوى، ويعرض عن الحق والهدى إلا بسبب جهله بالله وسطوته، وغفلته عن شؤم الذنب وسوء عاقبته، ولهذا وصف الله تعالى العصاة وأهل الأهواء بالجهل والسفه، وأنهم لا يعقلون ولا يفقهون ولا يسمعون ولا يبصرون، لأنهم يتعاطون من المعاصي والضلالات ما يضرهم في دنياهم وآخرتهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!! قال الله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَه)[البقرة/130]، وملة إبراهيم هي دين الإسلام، فمن رغب عن دين الإسلام أو عن بعضه فإن هذا دليل على سفهه وجهله، وأنه أضل نفسه وامتهنها، ورضي لها بالدون وباعها بيعة المغبون.()، وقال سبحانه: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا)[الفرقان/44]، وقال: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون)[الأعراف/179]، فلما لم تنفعهم عقولهم وأسماعهم وأبصارهم في معرفة الحق والعمل به صاروا كأنهم بلا عقول ولا أسماع ولا أبصار، لأنها لم تهدهم إلى الحق الذي فيه سعادتهم وكرامتهم في الدنيا والآخرة، ولهذا فإنهم يعترفون بذلك في الآخرة، ويلومون أنفسهم قائلين: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير)[الملك/10]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي ظني أن أكثر هؤلاء المذكورين إنما تنكبوا الصراط المستقيم بسبب الجهل وقلة الفقه، وضعف البصيرة في الدين.
فكثير ممن يرتكبون الكبائر، ويسرفون على أنفسهم بالمعاصي، أو يتساهلون بظلم العباد وبخسهم حقوقهم، لا يعلمون أن فعلهم هذا من المحرمات الكبائر، وإن عرفوا تحريمه من حيث الجملة، فإنهم لا يدركون شناعته وشدة تحريمه، وما يترتب عليه من الإثم والشؤم، والعواقب السيئة في الدنيا وفي الآخرة، فيتساهلون في فعله، ويستهينون بشأنه، ولو علموا ما ورد في هذا المنكر من الوعيد والعذاب الشديد، لما ارتكبوه، أو أصروا عليه واستمرؤوه.
فمن يشرب الخمر مثلاً أو يفعل الزنا، أو يمارس الغيبة أو النميمة، لو علم بأضرار هذه المعاصي على القلب والبدن، والدين والدنيا، وما يترتب عليها من العذاب والنكال الأليم، والعقوبات العاجلة والآجلة، لكان ذلك أعظم زاجر له عن اقترافها، أو استمرائها والتهاون بشأنها.
وقد يُؤتى الإنسان من قبل جهله من وجه آخر، حيث يظن أن فعله هذا مبارك مشروع، وصاحبه مأجور مشكور، وليس الأمر على ظنه وحسبانه في الواقع، كمن يظلم كافراً أو فاسقاً، ويتعمد الإساءة إليه بالقول والفعل، وهو يظن أن عمله هذا قربة يرفعه الل
أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في تربية الوازع الديني والرقابة الذاتية
تربية الناشئة على كتاب الله تعالى وتعظيمه، والتدبر في مواعظه وزواجره، وحكمه وأسراره، وأحكامه وتشريعاته، وقصصه وأخباره من أعظم ما يملأ القلوب محبة لله وإجلالا له، وتعظيماً لشأنه وتوقيراً لجنابه، وخوفاً من عقابه، ورجاء لثوابه، وحياء منه ومراقبة له، ورعاية لحقوقه وحقوق عباده, ولا شئ أردع للنفوس عن العنف والإجرام، وأزجر لها عن الظلم والعدوان من الوازع الديني، والرقابة الإيمانية، التي تزرع في النفس رقابة ذاتية تلازم صاحبها حيثما كان. وقد صدق القائل:
لا ترجع الأنفس عن غيها ما لم يكن لها من نفسها واعظ
وقد قص الله لنا قصة ابني آدم: حين حسد قابيل أخاه هابيل، وتوعده بالقتل ظلماً وعدواناً، فرد عليه أخوه بلسان المؤمن الذي يخاف الله، ويتورع عن ظلم العباد وانتهاك حرماتهم: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين)[المائدة: 28ـ29]، فبين أنه ما يمنعه من قتل أخيه الذي هدده بالقتل إلا خوفه من الله، وخشيته أن يبوء بإثمه فيكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين. فهذا هو منطق أهل الإيمان، وحذرهم من الظلم والطغيان، وهكذا يكون تعظيمهم لأمر الدماء المعصومة، واحترامهم لحق الحياة الإنسانية الكريمة.
ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ)[النساء: 92]
فبين أن الإقدام على القتل ظلماً وعدواناً ليس من شأن المؤمن الصادق في إيمانه، وما كان ينبغي لمثله أن يفعله، أو يتهاون بشأنه.
قال القرطبي في تفسير الآية: "وما ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، إذ هو مغلوب فيه أحياناً... وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد وبشاعة شأنه، كما تقول ما كان لك يافلان أن تتكلم بهذا إلا ناسياً، إعظاماً للعمد والقصد مع حظر الكلام به البتة"
ولا يفهم من قوله تعالى: (لمؤمن أن يقتل مؤمناً) جواز قتل الكافر للمسلم، أو قتل المسلم للكافر المعصوم كالذمي والمعاهد والمستأمن، فإن ذلك حرام في حق الجميع، ولكنه خص المؤمن بالذكر في الموضع الأول تأكيداً لحنانه وشفقته، وصدق أخوته ومحبته، وأن إيمانه من أعظم ما يحجزه عن الإقدام على القتل والتهاون به. وأما في الموضع الثاني، فلأن أخاه المؤمن أقرب الناس إليه، وأكبرهم حقاً عليه، وأولاهم بمحبته ونصرته، والشفقة عليه والرحمة به، وحمايته ودفع الأذية عنه، فكان قتله له أعظم وأبشع من قتله لغيره.
ونظير ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه". فبين أن المسلم الحق لا يظلم أخاه المسلم ولا يعتدي عليه، بل ولا يسلمه لعدوه ويتخلى عن نصرته والدفاع عنه، فأخوة الإسلام تتناقض مع الظلم والعدوان.
ومن أبلغ ما يبين أثر الإيمان في الزجر عن القتل والعدوان، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان قَيْدُ الفتْك، لا يَفتك مؤمن)
والفتك: هو القتل على حين غفلة وغِرّة، ومنه العمليات الإجرامية التي تستهدف نسف البيوت الآمنة، وتدمير المنشآت العامة، وإزهاق النفوس المعصومة، وسفك الدماء البريئة. ومعنى الحديث: أن الإيمان يمنع المؤمن أن يقتل أحداً بغير حق، ويقيِّده عن الإقدام عليه، كما يمنع القيدُ صاحبه عن التصرف.
ولهذا فإن منهج الإسلام في تحقيق الأمن ومكافحة الإجرام والعدوان يرتكز أساساً على إصلاح الإنسان وتزكيته، وتهذيب سلوكه وأخلاقه، وتعبيده لربه وخالقه، وتربيته على خوف الله تعالى ورجائه ومحبته، ومراقبته في خلوته وجلوته، وسره وعلانيته، والحياء منه أن يقع في معصيته أو يقعد عن طاعته، وبهذا يتكون لديه وازع ديني يحمله على فعل الخير، وعلى البعد عن الشر، ويحميه من الوقوع في المظالم والمنكرات، ويمنعه من ارتكاب الجرائم وانتهاك الحرمات، حتى وإن لم تصل إليه يد العدالة، وكان بعيداً عن رقابة السلطات الحاكمة، والأجهزة الأمنية القائمة.
بل ويهذب نفسه ويزكيها، ويسمو بها، ويرقّيها في سلّم الطهر والصلاح إلى درجة أن ينفر من تلك الجرائم والمظالم، ويستنكرها ويستبشعها، بل ويسعى جهده لمحاربتها والقضاء عليها، فيكون بذلك عضواً فعّالا في مكافحة الإجرام والعدوان، وفي تثبيت قواعد الأمن والاستقرار.
والجريمة تنشأ أول ما تنشأ في داخل نفس الإنسان، قبل أن يرتكبها في الخارج، ولهذا كانت محاربتها واستئصالها من داخل النفس الإنسانية، أعظم وسيلة للقضاء عليها، وإماتتها في مهدها.
وهذا هو الذي قرره الإسلام لتحقيق الأمن ومحاربة الإرهاب والعدوان، إنه يبدأ بالقضاء على الجريمة في منبتها، والإحاطة بمنابعها قبل أن تنبع.
وأول إحاطة هي بالقلب البشري ذاته، منبع الخير في الإنسان إذا صلح، ومنبع الشر فيه إن فسد.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صَلَحت صلَح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
قال الدكتور يوسف القرضاوي: "في أعماق النفس الإنسانية قوة خفية لا تشاهد بالعين، ولا ترى بالمجهر، ولا يعرفها التشريح والفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء)، إنها قوة معنوية يحسها الإنسان في حناياه تهديه إلى الواجب، كأنها كشاف ينير له الطريق، وتنجذب به إلى الخير، كأنها الإبرة الممغنطة تُجذب دائماً نحو الشمال، وتدفعه عن الشر، كأنها صوت الأب يحذِّر ولده، أو الأستاذ ينصح تلميذه. فإذا خالف ما تأمر به أو اقترف ما تحذِّر، كانت هذه القوة محكَمة تقضي له أو عليه. تقضي له بالراحة والسرور والطمأنينة، أو تحكم عليه بالألم والقلق والعذاب.
هذه القوة الكاشفة الهادية، الآمرة الناهية، المحذرة المحرضة، الحاكمة المنفذة، هي التي سماها علماء الأخلاق "الضمير"، وسماها بعضهم "الوجدان"، وسماها الإسلام "القلب"، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لمن جاء يسأله عن البر والإثم: (البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب. والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون)
إنها قوة تسبق العمل، وتقارنه، وتلحقه، فتسبقه بالإرشاد إلى عمل الواجب والتحذير من المعصية، وتقارنه بالتشجيع على إتمام العمل الصالح والكف عن العمل السيئ، وتلحقه بالارتياح والسرور عند الطاعة، والإحساس بالألم والوخز عند العصيان...
والمجتمع، أي مجتمع، لا يرقى وينتظم ويسعد بسنّ القوانين، وإصدار القرارات وتنظيم اللوائح، ويقظة رجال السلطة، وإن كان لا يستغني عن ذلك كله، وإنما يرقى وينتظم ويسعد، بوجود القلوب الحية، وتوافر الضمائر اليقظة بين أبنائه"
وأعظم الوسائل التي شرعها الإسلام لإحياء القلوب، وتزكية النفوس، وإيقاظ الضمائر، وإيجاد الرقابة الذاتية التي تدفع إلى الخير والإحسان، وتزع عن الشر والعدوان، أمران:
الأمر الأول: غرس الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر في النفوس.
الأمر الثاني: تشريع العبادات.
أما الأول، فإن إيمان العبد بربه، وتوحيده له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وإيمانه بالجزاء والحساب في الآخرة، يجعل ضميره حياً متيقظاً، حريصاً على استباق الخيرات، والتجافي عن المعاصي والمنكرات.
إنه يعتقد أن الله معه حيث كان، في السفر والحضر، في الجلوة والخلوة، في الليل والنهار، لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سرّ ولا علانية )ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم([المجادلة: 7]، )وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعلمون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذا تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين([يونس: 61]. إنه يعلم أن الله - تعالى - مطلع عليه، يعلم سره وجهره، ويعلم ما يتلجلج في صدره، وما توسوس به نفسه، وما تطرف به عينه )يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور([غافر: 19]، )وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور o ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير([الملك: 13-14]، )عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال o سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار([الرعد: 9-10]، )ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد([ق: 16]، )إن الله كان عليكم رقيبا([النساء: 1].
ويؤمن المسلم كذلك بالدار الآخرة، وأن هذه الدنيا ليست داراً للخلود والاطمئنان، وإنما هي دار ابتلاء وامتحان، وعلى حسب عمل الإنسان فيها يكون جزاؤه في الآخرة. فإن كان محسناً، فجزاؤه الحسنى والنعيم المقيم، وإن كان مسيئاً، فجزاؤه الخزي والعذاب الأليم. كما قال ربنا عز وجل: )للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون o والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون([يونس: 26ـ27].
فهو موقن بأنه محاسب يوم القيامة على عمله، ومجزي بما كسبت يداه، وأن كل ما قدمه من قول أو فعل، فإنه مسجل محفوظ )في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى([طه: 52]، )إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد o ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد([ق: 17-18]، )وإن عليكم لحافظين o كراما كاتبين o يعلمون ما تفعلون([الانفطار: 10-12].
وهذه السجلات الوافية، لن يطويها النسيان، ولن يمحوها مرور الزمان، بل هي محفوظة عند الله تعالى، حتى تنشر بين يدي صاحبها يوم الجزاء والحساب، فتكون حجةً شاهدةً له أو عليه )وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا o إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا([الإسراء: 13-14]، )ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون o وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون o هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون([الجاثية: 27-29] وحين تنشر الكتب، ويرى الإنسان ما سجل عليه، يتذكر كل ما كان قد نسيه، ويدهش من دقة الإحصاء، وإحاطته بالصغير والكبير، والدقيق والجليل، ويشفق المجرمون من سوء ما عملوا )ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا([الكهف: 49]، )يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد([المجادلة: 6]
وفي ذلك اليوم تنصب الموازين، وتوزن الأعمال صغيرها وكبيرها، حسنها وسيئها )فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون o ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون([المؤمنون: 102-103]، )ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين([الأنبياء: 47] وتبلغ الحجة منتهاها حين تشهد على الإنسان أعضاؤه، وتخبر كل جارحة فيه بما كسبت )يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون o يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين([النور: 24-25].
وحينذاك يلوم الكافر أعضاءه ويوبخها، فعنها كان ينافح ويدافع، ومن أجلها كان يجادل ويماري، وقد صور الله لنا ذلك الموقف العصيب، حتى كأنه حاضر أمامنا نراه رأي العين فقال عز وجل: )ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون o حتى إذا ما جآءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون o وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون o وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون o وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين([فصلت: 19-23]
ثم يجازى كل إنسان على عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر )فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره o ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره([الزلزلة: 7-8].
بهذه العقيدة في الله، وفي الجزاء في الآخرة، يصبح المؤمن ويمسي مراقباً لربه، محاسباً لنفسه، مفكراً في مآله وعاقبته، حريصاً على فعل الخير، بعيداً عن الظلم والشر، حذراً من الإيذاء والعدوان، لا يظلم ولا يخون، لا يتطاول ولا يستكبر، لا يجحد ما عليه، ولا يدّعي ما ليس له، لا يتلف مال غيره، ولا يهتك حرمته، ولا يسفك دمه، ولا يكدر طمأنينته، ولا يزعزع أمنه وراحته، ولا يشق عليه ويحزنه، ولا يفعل اليوم ما يخاف أن يعاقب عليه غدا.
جاء في كتاب "يسألونك في الدين والحياة": "إن أكبر مقومات "الضمير" هو الاعتقاد بإله قادر، يحاسب على الكبائر والصغائر، ويطّلع على ما تكنه السرائر. وبحياة بعد هذه الحياة، يثاب أو يعاقب فيها الإنسان على ما قدمت يداه.
فكل تربية وكل تعليم لا يغنيان عن صاحبهما شيئاً ما دام ضميره مقفراً من هاتين العقيدتين. وهذا هو المشاهد المحسّ، فإن الناس في أيام جهالتهم وعدم انتشار التعليم فيهم، كانوا بفضل هاتين العقيدتين أفضل حالاً، وأقوم أخلاقاً مما هم عليه اليوم...
والمراقبة لله من الداخل وفي الأعماق، هي التي تحسن قيادة الأعضاء والأطراف، فلا يكون من الإنسان ما يسوء أو يعاب في تصرفاته أو حركاته..
وحيثما كانت هذه المراقبة متحققة في أبناء الإسلام، كان الحياء من الله يسيطر عليهم، فيعصمهم من الخلل والزلل، حتى في حالة الانفراد وعدم إطلاع الناس".
إن الضمير الذي يربيه الإيمان بالله واليوم الآخر، ضمير حي متيقظ، مرهف الحساسية، شفاف الشعور، تجد صاحبه يحاسب نفسه قبل العمل: لماذا أعمل؟ ولمن سأعمل؟ ويحاسب نفسه بعد العمل: ماذا عملت؟ ولماذا عملت؟ وكيف عملت؟! قال الحسن البصري في قوله تعالى: )ولا أقسم بالنفس اللوامة([القيامة: 2]: "إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه"
وقال أيضا: "المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله عز وجل، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما صلة إليك، هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: هيهات، ما أردت إلى هذا؟ وما لي ولهذا؟ والله ما أعذر بهذا، والله لا أعود إلى هذا أبدا إن شاء الله"
ومن كان هذا شأنه، فإنه أبعد الناس عن الظلم والإجرام، وأكثرهم حذراً من العنف والعدوان، وأقربهم إلى البر والتقوى، وأحرصهم على الخير والحسنى.
وأما الأمر الثاني الذي شرعه الإسلام لتربية النفوس وإحياء القلوب والضمائر، فهي العبادات بأنواعها، واجبة كانت أو مستحبة.
وأول هذه العبادات وآكدها الصلاة المفروضة التي تتكرر كل يوم خمس مرات. والصلاة صلة بين العبد وربه، يقف بين يديه، ويمجده ويثني عليه، ويدعوه ويبث الشكوى إليه، ويجدد العهد معه على طاعته، والاستقامة على شريعته، ويسأله الهداية والإعانة، والتوفيق والتسديد، فيرتفع منسوب الإيمان في قلبه، ويشعر بقربه من ربه، ويزداد شرفاً وعزةً، وراحةً وطمأنينةً.
فالصلوات للروح أشبه بالوجبات للجسم. يبدأ المسلم يومه بصلاة الصبح، ثم يخوض غمار الحياة كادحاً مكابداً، بعد أن تزود بهذا الزاد الروحي.
ثم كلما غرق في لجج الحياة اليومية، وانهمك في مشاغلها وبهرجها، قام المؤذن يناديه: حي على الصلاة، حي على الفلاح. فلا تكاد الدنيا تشغله، حتى تأتيه صلاة الظهر، ثم صلاة العصر، ثم صلاة المغرب.
وكما بدأ يومه مع الله في صلاة الصبح، فإنه يختمه بلقائه معه في صلاة العشاء. فينام قرير العين، هادئ البال، لأنه قام بواجبه تجاه ربه، وهو لذلك يطمع في محبته وقربه، ويشعر بأن الله معه، يحفظه ويكلؤه، ويعينه ويسدده، ويهديه ويوفقه، كما قال تعالى:)يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين([البقرة:153]، وقال:)إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون([النحل: 128]، وقال سبحانه: )والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين([العنكبوت:69]
قال قتادة: "من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل"
وقد بين الله عز وجل ما يترتب على الصلاة من أثر فعال في تهذيب النفس وتقويم السلوك، والوقاية من الفواحش والمنكرات، فقال تعالى: )وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر([العنكبوت: 45] فأفادت الآية أن الصلاة تحمل على ترك المعاصي كلها صغيرها وكبيرها.
فالفحشاء: كل قبيح تناهى قبحه، واستفحشه كل ذي عقل سليم، وظهر قبحه لكل أحد. والمنكر: كل معصية تنكرها العقول السليمة والفطر المستقيمة.
ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: أن العبد المقيم لها كما أمره الله بخشوع وخضوع، وإتمام لأركانها وشروطها، يستنير قلبه، وتزكو نفسه، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وينقمع الداعي له إلى الشر. فإذا داوم عليها على هذا الوجه كانت بالضرورة سبباً لاستقامته، وكفه عن الفحشاء والمنكر. وهذا من أعظم مقاصد الصلاة وثمراتها.
كما أن المداومة عليها سبب لطمأنينة القلب، وسكينة النفس، وراحة البال، وانشراح الصدر. فالصلاة هي العون للمحتاج، والراحة للمضطرب، والأمان للخائف. وهذا من شأنه أن يشبع الفراغ النفسي الذي قد يدفع صاحبه إلى الجريمة والانحراف.
كما أن الصلاة مع الجماعة سبب لتأليف القلوب، وتحقيق التواصل والتكافل بين المؤمنين، فالمسجد يضم أهل الحي في كل يوم خمس مرات، تتلاصق فيها الأبدان، وتتعارف فيها الوجوه، وتتصافح فيها الأيدي، وتتناجى فيها الألسن، وتتآلف فيها القلوب. ويلتقون على وحدة الغاية والوسيلة. وأي وحدة أبلغ وأعمق من وحدة المصلين في الجماعة، يصلون خلف رجل واحد هو الإمام، ويناجون رباً واحداً هو الله، ويتلون كتاباً واحداً هو القرآن، ويتجهون إلى قبلة واحدة هي الكعبة البيت الحرام، ويؤدون أعمالاً واحدة من قيام وقعود، وركوع وسجود.
وحدة نفذت إلى اللباب ولم تكتف بالقشور، وحدة في النظرة والفكرة، وحدة في الغاية والوجهة، وحدة في القول والعمل، وحدة في المخبر والمظهر، وحدة يشعرون فيها بروح الآية الكريمة (إنما المؤمنون إخوة )[الحجرات:10]
وفي المسجد تختفي فوارق المكانة والثروة والجنس واللون، ويعم أرجاءه جوّ قشيب من الإخاء والمساواة والمحبة. وإنه لأيم الحق لنعمة كبرى أن يكون في مكنة الإنسان التمتع خمس مرات يومياً بجو من السلام التام وسط عالم يسوده الصراع والنضال.. وبجو من المساواة على حين يكون التباين هو النظام السائد.. وبجو من المحبة في معمعة الأحقاد الوضعية، والتنابذات والخصومات المفعمة بها الحياة اليومية.
إنها حقاً لمن أجزل النعم، لأنها العبرة الجلّى من الحياة، فليس للإنسان بدّ من أن يعمل وسط التباين والنضال والصراع.. ومع ذلك ينتزع نفسه من كل هذا خمس مرات، ليكتنه حقيقة المساواة والإخاء والمحبة، من حيث إنها هي المصادر الحقيقية للسعادة الإنسانية.
ثم يلي الصلاة: الزكاة، التي هي الركن الثالث من أركان الإسلام.
وقد فرضها الله تعالى مواساةً للفقراء، وتحقيقاً للتكافل بينهم وبين الأغنياء، كما أنها سبب لتزكية نفس صاحبها، وتطهيرها من الشح والبخل، ومن أوضار الذنوب والمعاصي. وهي كذلك سبب لتطهير ماله وتنميته ومباركته، قال الله تعالى: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها([التوبة: 103]
ولهذا كانت الزكاة من أكبر أسباب تحقيق الأمان، ومكافحة الإرهاب والعدوان، وإشاعة التعاطف والتراحم، وتأكيد الأخوة والمحبة بين المؤمنين.
ثم يلي الزكاة: صيام شهر رمضان، الذي هو الركن الرابع من أركان الإسلام. حيث يمسك المسلم فيه عن الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
وقد بين الله تعالى الحكمة من الصيام فقال: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون([البقرة: 183] فالغرض من الصيام، هو تحصيل التقوى للصائم. والتقوى: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، وذلك بفعل طاعته واجتناب معصيته.
والتقوى، جماع كل خير، وداعية لكل فضل وبر، ومانعة من كل فاحشة ومنكر. وقد كان الصيام من أكبر أسبابها لما يأتي:
1- أن الصائم يكون في المكان الخالي الذي لا يراه فيه أحد من الناس، وهو يتلمظ من العطش، ويتلوى من الجوع، وعنده الطعام والشراب، فلا يأكل ولا يشرب، ولا يفعل شيئا من المفطرات، امتثالاً لأمر الله تعالى، ورجاءً لثوابه، وخوفاً من عقابه.
وهذا الامتناع عما تهواه نفسه مع قدرته على الوصول إليه خفيةً دليلٌ على استشعاره اليقيني لمراقبة الله تعالى له، واطلاعه عليه.
كما أنه يحرص في حال صومه على كفّ نفسه عن المحرمات التي تنقص أجره وتفسد صومه وتغضب ربه. وفي الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي)
وهذه هي حقيقة التقوى: أن تترك ما تحبه نفسك من أجل ما يحبه الله، وأن تحمل نفسك على القيام بأمر الله، والنأي بها عن معصيته، محبة له، ورغبة في ثوابه، وخوفا من غضبه وعقابه.
قال طلق بن حبيب: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله"
2- أن الصيام يدرب المسلم على الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على ألم الجوع والعطش والأقدار المؤلمة.
كما أنه يربي فيه قوة الإرادة، التي تستعلي على أهوائه وشهواته، وتكفه عن المحرمات، وتدفعه إلى المسابقة إلى الخيرات، والمنافسة في مجال الباقيات الصالحات.
فالصائم قد تعود على أن يأكل في اليوم عدة وجبات، وأن يشرب كلما أحس بالظمأ، وأن يتناول ما تشتهيه نفسه من طعام وشراب متى شاء، فإذا جاء رمضان أمسك عن الطعام والشراب من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، والماء والطعام بين يديه، فلا يشتف منه جرعة، ولا يأكل منه لقمة.
فإذا كان يفعل ذلك شهراً كاملاً ويمسك عما أحل الله له في الأصل في غير الصيام من طعام وشراب، فلأن يمتنع عما حرم الله عليه من المطاعم والمشارب وأكل أموال الناس بالباطل، من باب أولى وأحرى!!.
وإذا كان يحبس نفسه عن مجامعة زوجته حال صومه طوال شهر رمضان، فلأن يحبسها عن ارتكاب الفواحش، من باب أولى وأحرى.
كما أن الصيام يعوّد الإنسان على أن يمسك لسانه عن الفحش في القول، والبذاءة في الكلام، واللغو في الحديث.
فلا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك تلك الشهوات المباحة في غير حال الصيام، من أكل وشرب وجماع، إلا بعد التقرب إليه بترك ما هو محرم في كل حال، من الكذب، والفحش، والظلم، والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
وهذا وإن كان محرماً في كل وقت، إلا أن حرمته في رمضان أشد. فليس الصيام مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، بل هو إمساك عن كل ما حرم الله، وصوم عن كل ما نهى الله عنه من الأقوال والأفعال.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أي يدع طعامه وشرابه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث)
كما أن الصوم يعود المسلم على الحلم وضبط النفس وكظم الغيظ، وعدم الاستجابة لداعي الغضب والانتقام، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم)
وإذا اعتاد المسلم شهراً كاملاً على ضبط النفس وعدم الانتصار لها فيما أباحه الله له من درء السيئة بمثلها، فأحرى به ألا تأخذه العزة بالإثم، فيأخذ أكثر من حقه، وأن يعف عن ظلم الناس والاعتداء عليهم ابتداءً بغير حق. وبهذا ينكفّ عن الظلم والاعتداء، ابتداءً واستيفاءً.
وبهذا نعلم أن الصوم وسيلة مهمة للتدريب على الصبر، وتربية الإرادة الحازمة. فما الصائم إلا رجل يمارس في نفسه التغلب على اللذة المباحة، حتى يستطيع التغلب على اللذة الآثمة، ومدافعة العوامل التي توقعه في الظلم والجريمة. كما يتعهد نفسه بالامتناع عن المأكل والمشرب مختاراً، حتى يستطيع الصبر على الجوع والعطش حين يضطر إلى ذلك اضطراراً.
3- أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، ويضعف قوته، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإذا جاع العبد بسبب الصيام، ضعف فيه نفوذ الشيطان، وقلت رغبته في الظلم والعصيان.
قال الفخر الرازي: "الصوم يورث التقوى، لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى، فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوّن لذات الدنيا ورياستها. وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، وإنما يسعى الناس لهذين... فمن أكثر من الصوم هان عليه أمر هذين وخفّت عليه مؤنثهما، فكان ذلك رادعا عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهوناً عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى"
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم يقمع الشهوة ويكسرها، وذلك في قوله: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)
ولذلك إذا جاء رمضان أظل المجتمع المسلم كله جو من الطهارة والنظافة، والخشية والإيمان، والإقبال على الخير وحسن الأعمال، وعم انتشار الفضائل والحسنات، واشتدت المنافسة بين المؤمنين في مجال الباقيات الصالحات، وكسدت سوق المنكرات، واعترى أهلها الخجل من اقترافها، أو إعلانها والمجاهرة بها، وقوي التعاون بين الناس على أعمال البر والإحسان، ونمت في الأغنياء عاطفة البذل والعطاء، والمساعدة لإخوانهم الفقراء، وكل ذلك يكوّن فيهم الشعور العام بأنهم جميعاً أمة واحدة، وجسد واحد، وبناء متماسك يشد بعضه بعضاً، وأنهم يسيرون على منهج واحد، ويسعون إلى غاية واحدة، فتتوثق فيهم عواطف المحبة والأخوة، والمواساة والنصرة، والتعاون والوحدة.
4- أن الصائم تكثر طاعته في الغالب، والطاعات من خصال التقوى. وقد امتاز شهر رمضان بكثرة المنافسة بين المؤمنين في الطاعات، وحرصهم فيه على اغتنام الأوقات والتعرض للنفحات.
5- أن الغني إذا ذاق ألم الجوع والحرمان، أوجب له ذلك الإحساس بحاجة الفقراء والمعدمين، وسعى إلى مواساتهم ومد يد العون لهم. فهو يثير في نفوس المؤمنين مشاعر العطف والرحمة، والتحسس بآلام الآخرين، ويدفعهم إلى التواصل والتكافل. وهذا من خصال التقوى.
كما أن الإحساس بالجوع يذكره بنعمة الله عليه بالغنى، ويوجب له شكر هذه النعمة.
ثم يلي الصوم: حج بيت الله الحرام، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام.
والحج هو الرحلة الروحية البدنية، التي يفارق فيها المسلم وطنه وبيته، ويدع أهله وعشيرته، مهاجراً إلى الله، قاصداً لعبادته، باذلاً من نفسه وماله ووقته، ومحتملاً للمكاره والمشاق في ذات الله، حتى يصل إلى الأرض المقدسة حيث قبلة المسلمين وأول بيت وضع لعبادة الله في الأرض، وحيث ذكريات إبراهيم وإسماعيل وهاجر، ومن حج بيت الله من أنبيائه والصالحين من عباده. ثم ذكريات محمد صلى الله عليه وسلم وعبادته ودعوته، وصبره ومجاهدته.
وما إن يخرج الحاج من بلده، قاصداً بيت الله الحرام، حتى تستشرف نفسه إلى الفوز برضوان الله تعالى ومغفرة ذنوبه، فيبادر إلى التوبة، ويسعى إلى التطهر من الذنوب والخطايا، والانخلاع من جميع الموبقات والمعاصي. ويقوى هذا الهاجس في نفسه حين الدخول في الإحرام.
وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك في قوله: )الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله([البقرة: 197]
والرفث: هو الجماع ومقدماته القولية والفعلية. والفسوق: هو الخروج عن طاعة الله تعالى بمعصيته، وهو يشمل جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام. والجدال: هو المماراة والمخاصمة على سبيل المنازعة والمغالبة.
والفسوق والجدال المنهي عنه، كلاهما يسبب الشر والإيذاء، ويهيج على الظلم والاعتداء، والمقصود من الحج: التذلل لله والانكسار بين يديه، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات.
وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل زمان ومكان، فإنه يتغلظ المنع عنها في الحج. فإذا أدرك الحاج خطورتها، وفطم نفسه عنها مدة حجه، كان جديراً به أن يبتعد عنها بعد الحج الذي يرجو به حصول تطهيره ومغفرة جميع ذنوبه.
وحين يصل الحاج إلى الميقات، يتجرد من ثيابه المعتادة بما تحمله من مظاهر التفاوت والطبقية والإقليمية ليلبس ثياباً أشبه بثياب الموتى، مستعلياً على الدنيا ومظاهرها الخداعة، ومفكراً في مصيره الذي لا بد له منه، حيث يجرد من ثيابه، ويلف في أكفان تشبه ثياب الإحرام.
ثم يتجه إلى الله بقلبه ولسانه، رافعاً عقيرته بالتلبية، التي يعلن فيها طاعته لربه، واستجابته لأمره، ويقر فيها بوحدانيته، ويبرأ فيها من الشرك في جميع أشكاله وصوره (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)
وما إن يصل إلى بيت الله الحرام الذي يتوجه إليه المسلمون في صلواتهم في أصقاع الأرض، ويقصدون حجه في كل عام، حتى يخفق قلبه بالمحبة والتعظيم لهذا البيت العظيم، وتعتمل في نفسه معاني المحبة والخشوع والإخبات لرب هذا البيت، ثم يرى المسلمين قد اجتمعوا من شتى بقاع المعمورة، ويمثّلون فيه أمة الإسلام على اختلاف أجناسها، وبلدانها، وألوانها، ولغاتها وهم يطوفون حول البيت سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين عربي وعجمي، وأبيض وأسود، وأمير ومأمور، وهذا هو حالهم في جميع عرصات مكة والمشاعر المقدسة: في عرفات ومزدلفة ومنى. إنها وحدة القلوب المؤمنة في اتجاهها إلى إله واحد، وقيامها بعبادة واحدة، في مكان واحد، وزمان واحد، ولباس واحد.
وحين يجتمع الحجاج كلهم في صعيد عرفات، حاسري الرؤوس، داعين مبتهلين، يتذكر الحاج بذلك اجتماع الناس يوم الحشر والحساب، يوم يقوم الناس لرب العالمين )يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا([آل عمران: 30]
يتزود المسلم في الحج بهذا الزاد الروحي، فيعود من رحلته، وهو أقوى إيماناً، وأطهر قلباً، وأنقى سريرة، وأقوى عزيمة على الخير، وأصلب عوداً أمام مغريات الشر.
ويعود وهو أكثر اعتصاماً بحبل الله، وارتباطاً بإخوانه المسلمين، ومحبةً لهم، وتعاطفاً معهم، وحرصاً على مصالحهم.
ويعود وقد فتح صفحة جديدة من حياته في طاعة الله، بعد أن عاهد الله على الاستقامة على دينه، وابتهل إليه أن يطهره من ذنوبه، وهو يطمع أن يكون ممن شملهم هذا الجزاء الكريم الذي أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (من حجّ، فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)
وبعد، فقد تبين من خلال ما سبق: أن هذه العبادات المفروضة لها أكبر الأثر في تقويم الإنسان وإصلاحه، وتهذيب أخلاقه وسلوكه، وغرس مراقبة الله تعالى ومحبته في نفسه، وتوثيق علاقته بإخوانه، وتمتين صلته بهم.
وفوق هذه الفرائض الأساسية التي هي الحد الأدنى لقيام العبد بواجبه تجاه ربه، يفتح الإسلام باب التطوع بالخيرات، والتقرب إلى الله بالنوافل والمستحبات، من صلوات بعد الخمس المكتوبة، ومن صيام بعد رمضان المفروض، ومن صدقة بعد الزكاة الواجبة، ومن حج وعمرة بعد حجة الفريضة.â Îûur y7Ï9¨s ħsù$uZoKuù=sù tbqÝ¡Ïÿ»sYtGßJø9$#)[المطففين 26].
وفي الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
والمعنى: أن من تقرب إلى الله بالفرائض، واجتهد في التقرب إليه بالنوافل، أحبه الله وأدناه، وهداه وسدده، وأعانه ووفقه، وملأ قلبه بالإيمان والتقوى، فلا ينصت بسمعه إلى حرام، ولا يطلق بصره في حرام، ولا يبطش بيده في حرام، ولا يمشي برجله إلى حرام، ولا تنبعث جوارحه إلا بما يرضي الله تعالى، ولا يتصرف إلا فيما يحبه الله، فيرتقي من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، ويعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه.
ومن هذه العبادات التي تقوي الإيمان، وتملأ القلب محبة لله تعالى ورجاء وخشية ومراقبة: تلاوة القرآن وحفظه ومدارسته، وهو ما تقوم به حلقات تحفيظ القرآن الكريم للفتيان والفتيات، فيقرأون كل الآيات التي ذكرتها آنفاً وغيرها مما هو في معناها، فيتعظون بها ويعملون بمقتضاها.
وليس المقصود بهذه العبادات فرضها ونفلها: أن تصل المسلم بخالقه لحظات أدائها فقط، ثم ينفرط عقده بعد ذلك، ويخلد إلى الأرض، ويتبع هواه.
كلا، فإن مهمة هذه العبادات أن تصل العبد بربه، وتغرس في نفسه مراقبته ومحبته، ورجاء مثوبته، والخوف من عقوبته، وتقوي عزمه على استباق الخيرات، والصبر عن المعاصي والمنكرات.
لا يرضى الإسلام أن يكون المسلم "ربانيا" في المسجد، يركع ويسجد، ويخضع ويخشع، ويبتهل ويتضرع، ثم إذا خرج من المسجد انقلب من رباني إلى "حيواني"، أو " شيطاني".
ولا يرضى من المسلم أن يكون "ربانيا" في رمضان، فإذا طويت أيامه، طويت معها العبادة والطاعة لله، كأنما كان يعبد رمضان، لا رب رمضان.
ولهذا كان بعض السلف يقولون: كن ربانياً ولا تكن رمضانياً.
ولا يرضى من المسلم أن يكون "ربانياً" طالما كان متلبساً بمناسك الحج أو العمرة، ومجاوراً للمسجد الحرام، أو المسجد النبوي، والمشاعر المقدسة. فإذا أتم نسكه، وقضى حجه أو عمرته، أو زيارته، وكرّ راجعا إلى أهله، نسي الجوّ الإيماني الذي كان يعايشه، وغرق في لجة الحياة المادية، كما يغرق الغافلون.
أجل، لا يرضى الإسلام ذلك للمسلم، وإنما يريد له صلة دائمة بمولاه، في المسجد، والطريق، والبيت، والعمل. في رمضان وشوال وسائر الشهور. في مكة والمدينة والمشاعر المقدسة، وبعد العودة إلى الأوطان. في كل مكان، وكل زمان، وكل حال، كما قال ربنا عز وجل: )قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين([الأنعام: 162] إنه التجرد الكامل لله، بكل خالجة في القلب، وبكل حركة في الحياة، بالصلاة والنسك، بالمحيا والممات، بالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه.
إنها العبودية الكاملة في كل زمان ومكان وحال، عبودية تجمع الصلاة والذبح والمحيا والممات، وتخلصها لله وحده )لله رب العالمين(، استسلام كامل لا يستبقي في النفس ولا في الحياة بقية لا يعبّدها لله وحده لا شريك له.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)
ولأجل هذا، كان الواجب على كل المؤسسات التربوية والتوجيهية، وعلى كل من تولى شيئاً من أمور المسلمين، بدءاً بالولاية العظمى، إلى ولاية الرجل في بيته وأهله، أن تعمل متضافرة على تربية من تحت يديها تربية إسلامية أصيلة، وأن تبذل وسعها لتعبيدهم لربهم، وتزكية نفوسهم، وحثهم على القيام بما يجب عليهم من حقوق الله تعالى وحقوق عباده.
الأسرة، باعتبارها المدرسة الأولى والمهمة للتربية السليمة، والتنشئة الصالحة المستقيمة.
والمساجد، بخطبها، ودروسها، وحلقاتها، ومواعظها، ودورها الكبير في التربية والتوجيه، ورسالتها الجليلة في الدعوة والإصلاح.
والمدارس والجامعات، باعتبارها من أهم وسائل التربية والتعليم.
ووسائل الإعلام المختلفة، من مرئية ومسموعة ومقروءة، باعتبارها سلاحاً ذا حدّين، وأدوات لها نتائجها، بحسب ما يبث فيها، وينشر من خلالها.
فإن سخّرت لنشر الخير، وتثبيت العقيدة الصحيحة، وتدعيم الأخلاق الفاضلة، والقيم العليا، كانت وسيلة لا تضاهى في الإصلاح والبناء. وإن سخرت لضد ذلك، كانت شراً مستطيراً، وبلاءً خطيراً، يهدم الدين، ويحطّم الأخلاق، ويدمر القيم، ويثبط العزائم والهمم، ويضيّع الأعمار فيما يضر ولا ينفع، ويجر الأمة نحو التحلل والانهيار، وإهمال مصالح الدنيا والآخرة.
ولحلقات تحفيظ القرآن الكريم دور كبير، وأثر بالغ في تحقيق هذه الربانية، وتربية الناشئة عليها، فهي تضطلع بمهمة جليلة، وتؤدي واجباً عظيماً، يسهم مساهمة فاعلة في بناء الأجيال، وتربية الرجال، وصناعة الأبطال.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: "كل أدوات التأثير والتوجيه، يجب أن تتعاون جميعا في تحقيق " الربانية " وتأكيدها وتثبيتها في النفس والحياة... ولا يجوز في نظر الإسلام أن يترك للمساجد وحدها مهمة تأكيد "الربانية"، وتثبيت مبانيها، وتوضيح معانيها، في حين تعمل المؤسسات التوجيهية والإعلامية والتثقيفية الأخرى على إشاعة معانٍ أخرى تناقض الربانية، أو تشكك فيها، أو تنتقصها من أطرافها.
وكيف يؤدي المسجد رسالته، إذا كانت الأجهزة الأخرى - وهي تصابح الناس وتماسيهم بإمكاناتها الرهيبة - تخفض ما يعليه، وتهدم ما يبنيه؟
وهل يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرُك يهدِمُ؟!
على أن كل مؤسسة في مجتمع الإسلام لا تستمد حق بقائها فيه إلا بمقدار ما تسهم به في الحفاظ على ربانيته، التي هي أساس وجوده، سواء كان هذا الإسهام مباشرة، أم غير مباشرة، من قريب أم من بعيد. بل يأمر الإسلام بهدم كل مؤسسة لا تقوم على تقوى من الله ورضوان، ولو اتخذت صورة المسجد الذي تؤدى فيه الصلاة ظاهرا. كما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهدم مسجد الضرار، الذي اتخذه المنافقون ضرارا، وكفرا، وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل"
والكلام عن دور الأسرة في التربية، ودور المدرسة، والمسجد، ووسائل الإعلام، وغيرها من وسائل التوجيه والتأثير، أمر يطول.
والأصل الجامع لذلك كله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الأعظم الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده، وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
القرآن صمام الأمان(5)
أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في نشر العلم العاصم من الضلال والإجرام
الجهل وضحالة العلم، وقلة الفقه في الدين من أكبر أسباب الإجرام والعصيان، والتهاون في حقوق الله تعالى وحقوق عباده، والتساهل في انتهاك حرمات الخلق والتعدي على مصالحهم، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم تركز في جميع نشاطاتها على تعليم رأس العلوم وأساسها، ألا وهو كتاب الله تعالى، الذي هو النور المبين، والصراط المستقيم، والحبل المتين، من تمسك به هدي، ومن أخذ به رشد، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن أعرض عنه شقي، ومن حرم خيره فقد حرم. هو كما وصفه ربنا بقوله: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)[البقرة: 2]، وقوله: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد)[إبراهيم: 1]، وقوله: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)[الإسراء: 9]، وقوله: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)[المائدة: 15ـ16]، وقوله: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)[يونس: 57ـ58] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وضلال الخلق على كثرة صوره وأنواعه، وتعدد مظاهره وأشكاله، سواء أكان في الأفكار والتصورات، أم الأخلاق والسلوكيات، أم الأعمال والممارسات، يعود في حقيقته إلى سببين رئيسين:
الأول: الجهل أو العمى. والثاني: الظلم أو الهوى.
قال الله عز وجل: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا)[الأحزاب: 72]
فبين أن الأصل في الإنسان هو الظلم والجهل، إلا من زكاه الله بالعدل الذي يمنعه من الظلم، والعلم النافع الذي يرفع عنه الجهل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والجهل والظلم هما أصل كل شر، كما قال سبحانه: (وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً)"
ويدل على ذلك أيضاً: أن الله تعالى أمرنا بقراءة أم القرآن في كل ركعة من ركعات الصلاة، سواء كانت مفروضة أو مستحبة، ومن بين آياتها قوله سبحانه: (اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)[الفاتحة: 6ـ7]
فأرشدنا إلى سؤاله الهداية إلى الصراط المستقيم، وذلك يتضمن معرفة الحق والتوفيق للعمل به، وهما ينافيان الجهل والهوى. ثم بين أن هذا هو طريق الذين أنعم عليهم من النبيين وأتباعهم بإحسان، حيث دلهم على الحق، وأعانهم على امتثاله والعمل به، بخلاف المغضوب عليهم والضالين، الذين تنكبوا الصراط المستقيم، فوقعوا في الشرك والضلالات، والبدع والخرافات، وارتكبوا الكبائر والمنكرات، إما اتباعاً للهوى مع علمهم بالحق، وهؤلاء هم المغضوب عليهم، كاليهود، الذين أضلهم الله على علم، فتركوا الحق مع علمهم به. وإما جهلاً منهم بالحق، فعبدوا الله على جهل، وهؤلاء هم الضالون، كالنصارى، الذين يتقربون إليه بالشركيات، ويتعبدون له بالبدع والضلالات.
وإذا كان المسلم مأموراً بأن يتفهم هذه المعاني العظيمة، ويدعو بهذا الدعاء الجامع في كل ركعة من ركعات الصلاة، فإن هذا دليل على خطورة الجهل واتباع الهوى، ووجوب مجاهدة النفس على طلب العلم والهدى، واتباع الحق والاستقامة عليه، وأن الجهل والهوى هما سبب ضلال الخلق، وبعدهم عن الهدى ودين الحق.
ولو تأملت في أحوال العاصين المفرطين، والمبتدعة الضالين، والغلاة الجافين، لوجدتهم إنما أتوا من قبل هذين الأمرين أو أحدهما.
والجهل أصل الضلالين، وأخطر الشرين، وما من أحد يتبع الهوى، ويعرض عن الحق والهدى إلا بسبب جهله بالله وسطوته، وغفلته عن شؤم الذنب وسوء عاقبته، ولهذا وصف الله تعالى العصاة وأهل الأهواء بالجهل والسفه، وأنهم لا يعقلون ولا يفقهون ولا يسمعون ولا يبصرون، لأنهم يتعاطون من المعاصي والضلالات ما يضرهم في دنياهم وآخرتهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!! قال الله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَه)[البقرة/130]، وملة إبراهيم هي دين الإسلام، فمن رغب عن دين الإسلام أو عن بعضه فإن هذا دليل على سفهه وجهله، وأنه أضل نفسه وامتهنها، ورضي لها بالدون وباعها بيعة المغبون.()، وقال سبحانه: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا)[الفرقان/44]، وقال: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون)[الأعراف/179]، فلما لم تنفعهم عقولهم وأسماعهم وأبصارهم في معرفة الحق والعمل به صاروا كأنهم بلا عقول ولا أسماع ولا أبصار، لأنها لم تهدهم إلى الحق الذي فيه سعادتهم وكرامتهم في الدنيا والآخرة، ولهذا فإنهم يعترفون بذلك في الآخرة، ويلومون أنفسهم قائلين: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير)[الملك/10]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي ظني أن أكثر هؤلاء المذكورين إنما تنكبوا الصراط المستقيم بسبب الجهل وقلة الفقه، وضعف البصيرة في الدين.
فكثير ممن يرتكبون الكبائر، ويسرفون على أنفسهم بالمعاصي، أو يتساهلون بظلم العباد وبخسهم حقوقهم، لا يعلمون أن فعلهم هذا من المحرمات الكبائر، وإن عرفوا تحريمه من حيث الجملة، فإنهم لا يدركون شناعته وشدة تحريمه، وما يترتب عليه من الإثم والشؤم، والعواقب السيئة في الدنيا وفي الآخرة، فيتساهلون في فعله، ويستهينون بشأنه، ولو علموا ما ورد في هذا المنكر من الوعيد والعذاب الشديد، لما ارتكبوه، أو أصروا عليه واستمرؤوه.
فمن يشرب الخمر مثلاً أو يفعل الزنا، أو يمارس الغيبة أو النميمة، لو علم بأضرار هذه المعاصي على القلب والبدن، والدين والدنيا، وما يترتب عليها من العذاب والنكال الأليم، والعقوبات العاجلة والآجلة، لكان ذلك أعظم زاجر له عن اقترافها، أو استمرائها والتهاون بشأنها.
وقد يُؤتى الإنسان من قبل جهله من وجه آخر، حيث يظن أن فعله هذا مبارك مشروع، وصاحبه مأجور مشكور، وليس الأمر على ظنه وحسبانه في الواقع، كمن يظلم كافراً أو فاسقاً، ويتعمد الإساءة إليه بالقول والفعل، وهو يظن أن عمله هذا قربة يرفعه الل
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
القرآن صمام الأمان (6)
أثر جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في إعداد الشباب وتأهيلهم
لحلقات تحفيظ القرآن الكريم أثر كبير في إعداد الشباب وتأهيلهم، وصقل مواهبهم، وزرع الثقة في نفوسهم، وإشعارهم بعظم المسؤولية المناطة بهم، وتوثيق الصلة بينهم وبين زملائهم من الشباب الصالحين، وشغل أوقاتهم بكل نافع ومفيد، كما أنها تنمي فيهم الروح الجماعية، والمشاركة الاجتماعية وحسن التعامل مع الآخرين.
ويكفي حلقات التحفيظ شرفا وفضلاً أن طلابها من أنجح الطلاب علمياً ودراسياً، والتزاماً أخلاقياً، ونشاطاً اجتماعياً، وجرأة وشجاعة أدبية، ولو لم يكن من حسناتها إلا أنها تعينهم على العناية بكتاب الله تعالى تلاوة وتدبراً، وترتيلاً وتجويداً، وحفظاً وتعاهداً، وعملاً وتطبيقاً لكفى بذلك شرفاً وفضلاً!! كما أنها تأخذ من أوقاتهم ساعتين أو أكثر يومياً، فيسلمون من الفراغ الذي يشكو منه كثير من الشباب الذين حرموا الالتحاق بهذه الحلقات المباركة، فانفتحت على كثير منهم أبواب الشر والفساد، وذهبوا يشغلون أوقاتهم بمصاحبة قرناء السوء، الذين يعملون على إفسادهم، وتطويعهم لتحقيق شهواتهم وإراداتهم الفاسدة، أومشاهدة القنوات الفضائية الفاحشة، ومواقع الإنترنت الإباحية، وأمثالها...
ومن عوفي من ذلك ابتلي بتضييع وقته باللهو واللعب، والنوم والكسل، فضاعت زهرة عمره فرطاً، فلا هو في أمر دين ولا دنيا. والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، والفراغ والصحة والشباب من أجل النعم إذا استثمرت فيما ينفع، واستعين بها على مافيه مصلحة للفرد والمجتمع، وإلا ذهبت ضياعاً وسدى، وغبناً وخسارة، وربما كانت سبباً للفساد والإفساد، والظلم والإجرام، فيجني صاحبها على نفسه وأهله ومجتمعه وأمته, وقديماً قالت الحكماء:
إن الشباب والفراغ والجِدَةْ مفسدةٌ للمرء أي مفسدة
إن الحياة بأيامها ولياليها مراحل الآجال، ومخازن الأعمال، وهي وإن كانت قصيرة محدودة فبها تشترى أغلى السلع، وهي الجنة، أو أبخس البضائع، وهي النار، وبحسب عمل الإنسان فيها يكون جزاؤه في الدنيا والآخرة، وبها يتحدد مصيره يوم القيامة، إما في نعيم مقيم، وإما في عذاب الجحيم، (فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينه فأمه هاوية، وما أدراك ماهية، نارحامية)
ولله در ابن المعتز حين قال:
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأعمارنا تطوى وهن مراحلُ
ترحّل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل()
وكم يذكرنا كرُّ الغداة ومرُّ العشي بأن الحياة مراحل, وأن كل مرحلة لها قيمتها ومكانتها, ولها كذلك واجباتها ووظائفها, وأن كل لحظة لها عمل يخصها، ومهمة ينبغي أن تستثمر فيها, ولا يغني زمان عن زمان, ولا عمل عن عمل, فينبغي لمن أراد الفلاح والنجاة أن يحرص على الاستفادة من عمره كله, وعلى استغلال أوقاته كلِّها, وليحذر من التسويف والتأخير، والتعلل بسوف وعسى، وليت ولعل, وليعلم بأن عمل اليوم إذا فات لا يغني عنه عمل الغد, فلكل يوم واجباته، ولكل زمان تبعاته، ولكل لحظة وظيفة مطلوبة, وحساب قائم.
إن الزمن سريع التقضي، أبي التأتي، محال الرجوع، ولو أن الناس اجتمعوا كلهم على أن يردوا عليك يوماً مضى من حياتك ما استطاعوا:
أمس الذي مرًّ على قربه يعجز أهل الأرض عن رده
يذكر عن عامر بن عبد القيس رحمه الله أنه كان يصلي في اليوم ألف ركعة، وقد استوقفه رجل مرة وقال له: قف أكلمك. فرد عليه عامر: احبس الشمس حتى أكلمك.
وهذا وإن كان فيه شيء من المبالغة إلا أنه يدل على أن الوقت نفيس جداً، لأن الوقت هو الحياة، وبقدر ما تضيع من وقتك تضيع من حياتك المحدودة، وعمرك القصير، وما بلغ أسلافنا ما بلغوا من العلم الوفير، والفضل الكبير، والعطاء الغزير إلا بتوفيق الله تعالى لهم، وحرصهم على استثمار أوقاتهم وأعمارهم فيما يعود بالنفع عليهم وعلى أمتهم. يقول الحسن البصري: "ما من يوم ينشق فجره وتشرق شمسه إلا نادى منادٍ من قبل الحق: يا ابن آدم, أنا خلق جديد, وعلى عملك شهيد، فتزود مني بعمل صالح, فإني لا أعود إلى يوم القيامة"().
وصدق القائل:
أليس من الخسران أن لياليا تمر بلا نفع, وتحسب من عمري
إذا مر بي يوم ولم أستفد علماً ولم أكتسب هدى فما ذاك من عمري()
وقال الآخر:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترز عليه من الإنفاق في غير واجب()
أخي الكريم، وابني الحبيب، ضع يدك على قلبك، وتأمل في دقاته المتتابعة وكأنها تستحثك على استباق الزمن والمسارعة إلى الخيرات، وتؤكد لك أنها دقات معدودة محسوبة، وما مضى منها فلن يعود أو يعوض:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني
وتأمل كذلك في ساعتك، وانظر إلى عقرب الساعة وهو يأكل الثواني أكلاً: واحدة، وثنتين، وخمساً، وعشراً، وستين، ومائة، وألفاً، ومليونأ من الثواني، لا يتوقف ولا يني، بل لايزال يلتهم الساعات تلو الساعات، سواء كنت مستيقظاً أو نائماً، قائماً أو قاعداً، عاملاً أو عاطلاً، جاداً أو هازلاً، كبيراً أو صغيراً، وتذكر أن كل ثانية تمضي فإنما هي جزء من عمرك، وأنها مرصودة في سجل حسناتك أو سيئاتك!! فإن صرفتها في خير كانت لك كرامة وذخراً، وإن كانت الأخرى كانت عليك وبالاً وشراً، وكل لحظة تضيع بغير مصلحة فهي عليك لا لك.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"().
والمقصود: أن كثيراً من الناس لا يقدرون هاتين النعمتين حق قدرهما, ولا ينتفعون بهما, بل يصرفونهما إما في معصية أو في عمل ليس من ورائه مصلحة, فتكونان في حقهم وبالاً وخساراً.
وإن شئت مصداق ذلك فتأمل في أحوال كثير من الناس, وكيف يمضون الساعات الطوال في فضول الطعام والكلام، وفضول الاستماع والنظر، وفضول المجالسة والمخالطة، لعب ولهو, وسهر متواصل، وأحاديث ليس من ورائها طائل، وجلسات لغوها كثير, ونفعها قليل, بل لا تستغرب حين تسمع من يشكو من الفراغ، ويتأفف من طول الوقت, وأنه يحاول قتل وقته والقضاء عليه! سبحان الله العظيم؟ أهكذا يقولون عن نعمة الفراغ؟ حقاً إنهم لم يعرفوا قدرها, ولم يحسنوا استغلالها, ولم يعلموا أن بهذه الأوقات التي يضيعونها يكون تحصيل خيري الدنيا والآخرة من قِبل أصحاب الهمم العالية، والاهتمامات الرفيعة, الذين أدركوا قيمة الوقت, ووفقوا لاستثماره، والانتفاع بكل لحظة من لحظاته.
ولو سألت هذا المضيع لأوقاته سدى: لماذا تقطع أرحامك؟ ولماذا تقصر في بر والديك أو تربية أولادك؟ ولماذا تقعد عن القيام بواجب الدعوة إلى الله؟ ولماذا تتقاعس عن طلب العلم, وتضعف همتك عن المنافسة فيه وبذل الجهد في تحصيله؟ لأجابك من غير تلكؤ ولا تردد: إنني مشغول. وما شغله إلا النوم والكسل, وقلة الطموح وضعف الهمة، وغلبة الهوى والشهوة، ولله در القائل :
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع()
وعظ النبي – صلى الله عليه وسلم- رجلاً فقال: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك, وصحتك قبل سقمك, وغناك قبل فقرك, وفراغك قبل شغلك, وحياتك قبل موتك"().
هكذا أوصانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- باغتنام هذه الخمس قبل حلول أضدادها، ففي الشباب قوة وعزيمة, فإذا هرم الإنسان ضعفت قوته وفترت عزيمته. وفي الصحة نشاط وانبساط, فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه, وضاقت نفسه, وثقلت عليه الأعمال. وفي الغنى راحة وفراغ, فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه وعياله, وتوزعت همومه. وفي الفراغ فرصة للتزود من الخيرات, والتقرب إلى الله بأنواع الطاعات { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ } () أي: أتعب نفسك في طاعة الله.
وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال, فإذا مات العبد حيل بينه وبين العمل, وانقطعت عنه أوقات الإمكان { حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }(). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى