رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
( المرأة المُجدِّدة (1) المرأة في مختلف العصور )
توطئة:
في المقالِ السابق وصفْنا المرأة - قديمًا وحديثًا، عربًا وعجمًا - بإجمال شديد، وتعرَّفْنا بإجْمال عليها في مختلف العصور، وعلِمْنا وضعَها في العصْر الجاهلي، وفي العصر الحديث على ثلاثة مستويات: المستوى الأول حينما تبتعد المرأة عن الفِكر التحرُّري كيف تكون هي، وكيف تكون نظرةُ الرجل لها، وتعامله معها، ثم مستوى ثانٍ وهو المرأةُ المسلِمة في ظلِّ الفِكر التحرُّري، وأهم ما جنَاه عليها هذا الفِكْرُ مِن ظلم لحقوقها، وتشويه لعقيدتها، ثم المستوى الثالث مثَّلْنا به المرأة الغربية، وكيف رَفعت مِن جديد مؤخَّرًا شِعارَ العودة للبيت والأسرة المستقرَّة.
وفي الحقيقةِ أنَّ الغرْب حينما يبحثون قضيةَ تحرير المرأة في مجتمعاتهم، فلرُبَّما هم - فعلاً - يبحثون عن الحقيقة، ويَسيرون نحوَ المساواة والعَدْل؛ لأنَّ عُرْفهم ومنهجهم المحرَّف أدْنى من المستوى البشري المعقول، وكلَّما انحرَفوا واستخْدَموا عقولَهم كان أفْضل لهم، فهم بلا شكٍّ في بحْثهم، وإنْ تخبَّطوا، لكنَّهم في عدول عن الباطل، لكنَّ المسلمين حين ينتهجون منهجَ الغرب ويتبعونه حذوَ القُذَّة بالقُذَّة، فإنَّهم يبتعدون كثيرًا عن الحقيقة؛ لأنَّهم ببساطة يبتعدون عن منهجِهم الربَّاني القويم.
المرأة في ظل الإسلام (المرأة المجدِّدة والمجدودة):
في هذا الجزء سننسب المرأة لعقيدةٍ ربَّانية تقْبَل جميع الجنسيات، وتتسع لتصهرَ جميع الفجوات، والفُروقات الاجتماعيَّة، والطبقية والجنسية، قد ارْتضى تلك العقيدةَ كلُّ مَن نطق بالشهادتين، وعلِم أن له ربًّا مقدِّرًا لهذا الكون، قد أحْكم تقديرَه، وعلِم بتفاصيل أموره؛ إنَّها المرأة في ظلِّ الإسلام.
التعريف اللُّغوي للمرأة المجدِّدة والمجدودة:
(المرأة المجدودة) مِن الجَدُّ وهو الحظُّ والرزق، وفي الدعاء: ((لا مانعَ لِمَا أَعطيتَ، ولا معطيَ لِمَا منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ))؛ أَي: لا ينفع ذا الغنى منك غِناه، ورجل جُد - بضم الجيم - أي: مجدود عظيم الجَدّ، قال سيبويه: والجمْع جُدُّون ولا يُكَسَّرُ، وكذلك جُد وجُدِّيّ، ومَجْدُودٌ وجَديدٌ.
ويأتي الجَدُّ بمعنى العَظَمَةُ، وفي التنزيل العزيز: ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ﴾ [الجن: 3]؛ قيل: (جَدُّه) عظمته، وقيل: غِناه، وقال مجاهد: (جَدُّ ربِّنا) جلالُ ربِّنا، وفي حديث أَنس - رضي الله عنه -: "أَنَّه كان الرجل منَّا إِذا حفِظ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا"؛ أي: عظُم في أعْيُننا، وجلََّ قدرُه فينا، وصار ذا جَدّ؛ "لسان العرب".
(والمرأة المجدِّدة) مِن: "جَدَّ الشيءُ يَجِدُّ - بالكسر - جِدَّةً: صار جديدًا، وهو نقيض الخلق"؛ الصحاح، ومنها قولنا: جدَّد، ويُجدِّد، ومُجدِّد.
التعريف الاصطلاحي: مِن هنا قصدت بالمرأة المجدِّدة التي استطاعتْ تغييرَ تاريخ المرأة بوجه عام، منذ الكاملات الأُوليات، كمريم ابنة عمران، وآسيا بنت مزاحم - رضي الله عنهما - ثمَّ الصحابيات - رضي الله عنهنَّ - بامتثالهنَّ لأوامر ربهنَّ، وهي أيضًا مجدودةٌ، عظيمة الحظِّ والرِّزق؛ إذ وفَّقها الله - عزَّ وجلَّ - لهذه المهمَّة العظيمة، ولهذه الطاعة القويمة، وهي مجدودةٌ في أعيننا، عظيمة القَدْر والشَّرَف.
ونتعرَّف عليهنَّ مِن خلال معرفة المرأة في القرآن الكريم، ومكانتها ووزنها، ثم في السُّنَّة المطهَّرة، نظريًّا ثم عمليًّا.
وعن مكانة المرأة في القرآن نتحدَّث مِن خلال نقطتين تهمَّانِنا في البحْث، هما:
النقطة الأولى: اعتبار القرآن الكريم لعقليةِ المرأة وعواطفها.
النقطة الثانية: توكيله مَن يرْعاها، ويَحْمي شؤونها؛ حرصًا عليها، هو حظٌّ اختُصَّتْ به المسلِمات.
ثم نتحدَّث عن مكانةِ المرأة في السُّنة النبوية من السُّنة القولية - الناحية النظرية - ونُرْجِئ الجانب العملي حين الحديث عن الصحابيات - رضي الله عنهنَّ - إنْ شاء الله تعالى.
أولاً: مكانة المرأة في القرآن الكريم:
النقطة الأولى: اعتبار القرآن الكريم لعقلية المرأة وعواطفها:
(أ) الاهتمام بعقلية المرأة، ومنْحها اعتبارها، واحترامُ فِكْرها، وتقديرُ عقيدتها:
لقد وصَف الله - عزَّ وجلَّ - في آي القرآن الكريم هذه الأحكامَ الراقية، وذلك العهد الجديد في التعامُل مع المرأة في غيْر موضِع من القرآن، بآيات تلامِسُ القلْب الكسير؛ لتُرَبِّتَ عليه، وتشجي النظرَ الحسير لواقِع أمَّة الإسلام اليوم، فتمهله الصَّبرَ والسلوان على كلِّ مغتَرٍّ بِجَهْجاهِ الحضارات الغريبة البئيسة، مُعرِضًا عن ميزان العدل والحق.
فالإسلام لم يفاضلْ بيْن عقْل الرجل والمرأة إلاَّ بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - وبتمييزه لوَحْدانية الله، وولائه له - عزَّ وجلَّ - وبُغْضه من يُحادُّونه، ولم يُفضِّل عقلاً اختار الكفر على الإيمان؛ لأنَّه عقل رجل، وفي الوقت نفسه نجده رفَع قدْرَ عقْل المرأة إلى مرْتبة الاصطفاء والتطهير لَمَّا اختارتْ سواءَ السبيل والطريق القويم، وأيُّ احترام وإجلال بعدَ هذا؟!
فالنِّساء رغمَ ما فيهنَّ من نُقْصان للعقل، لكن بيَّن رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - السببَ العام لهذا النقْص، وهو ما يطرأ على المرأة مِن نسيان أو سهو، ففي الحديث قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما رأيتُ مِن ناقصات عقْل ودِين أذهبَ للُبِّ الرجل الحازم مِن إحداكنَّ))، قُلْنَ: وما نقصان دِيننا وعقلنا يا رسولَ الله؟ قال: ((أليس شهادةُ المرأة مثلَ نصف شهادة الرجل؟))، قُلْن: بلى، قال: ((فذلك مِن نقصان عقلها، أليس إذَا حاضتْ لم تصلِّ ولَم تصُم؟))، قلْنَ: بلى، قال: ((فذلك مِن نقصان دِينها)).
يقول الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله تعالى -: بَيَّن - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ نقصان عقلها من جِهة ضعْف حِفْظها، وأنَّ شهادتها تُجْبَر بشهادة امرأةٍ أخرى؛ وذلك لضبط الشهادة، بسبب أنها قد تنسى، فتَزيد في الشهادة أو تنقصها؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282].
نَعمْ، جِنس الرجال أفضلُ مِن جنس النِّساء في الجُمْلة؛ لأسباب كثيرة، كما قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ [النساء: 34]، لكن قد تفوقه في بعضِ الأحيان في أشياءَ كثيرة، فكم لِلَّهِ مِن امرأة فوقَ كثير من الرِّجال في عقلها ودِينها وضبطها! وإنَّما ورد عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ جِنْس النساء دون جنس الرِّجال في العقل وفي الدِّين من هاتين الحيثيتَيْن اللَّتَيْن بيَّنَهما النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقد تكثُر منها الأعمالُ الصالحات، فتربو على كثيرٍ من الرِّجال في عملِها الصالِح، وفي تقواها لله - عزَّ وجلَّ - وفي منْزِلتها في الآخرة، وقد تكون لها عنايةٌ ببعض الأمور، فتضبط ضبطًا كثيرًا أكثر من ضبطِ بعض الرِّجال في كثيرٍ من المسائل التي تُعْنَى بها، وتجتهد في حِفْظها وضبطها، فتكون مرجعًا في التاريخ الإسلامي، وفي أمور كثيرة، وهذا واضحٌ لِمَن تأمَّل أحوال النساء في عهْد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبعْدَ ذلك.
وبهذا يُعلَم أنَّ هذا النقصَ لا يمنع مِن الاعتماد عليها في الرِّواية، وهكذا في الشهادة إذا انْجبَرتْ بامرأة أخرى، ولا يمنع أيضًا تقواها لله، وكونَها مِن خِيرة عباد الله، ومِن خِيرة إماء الله إذا استقامتْ في دِينها، وإنْ سقَط عنها الصوم في الحيْض والنِّفاس أداءً لا قضاءً، وإن سقطَتْ عنها الصلاةُ أداءً وقضاءً، فإنَّ هذا لا يلزم منه نقصها في كلِّ شيء من جِهة تقواها لله، ومِن جهة قيامها بأمْره، ومِن جهة ضبطها لِمَا تعْتني به من الأمور، فهو نقصٌ خاص في العقل والدِّين - كما بَيَّنه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
فلا ينبغي للمؤمن أن يرميَها بالنقص في كلِّ شيء، وضعْف الدِّين في كلِّ شيء، وإنما ضعْف خاص بدِينها، وضعْف في عقلها فيما يتعلَّق بضبْط الشهادة ونحو ذلك، فينبغي إنصافُها، وحمْل كلام النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على خيْر المحامِل وأحسنها، والله تعالى أعلم"؛ ا.هـ.
سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله تعالى - مجلة البحوث الإسلامية (29/100- 102).
وكما يقال:
وَلَوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَنْ فَقَدْنَا
لَفُضِّلَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ
وَمَا التَّأْنِيثُ لِاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ
وَلاَ التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلاَلِ
نماذج قرآنية مِن تقدير عقل المرأة:
من نماذج المرأة في القُرآن مريم ابنة عمران - عليها السلام - مربِّية الأنبياء، الناسِكة الزاهِدة، العفيفة الطاهرة، علَتْ مكانتها حتى فاقتْ أحْبار عصرها بإخلاصها واستسلامها لله، وحتَّى اصطفاها ربُّها وطهَّرها، ثم اصطفاها ثانيةً على نِساء العالمين.
آياتٌ خالِدة في البتول تُدلِّل على اعتبارات أساسية لعقلية المرأة ومكانتها في القرآن الكريم، ودوْرها الأساسي في تربية أبْناء مجتمعها، وتغييره والتأثير فيه، حتى جُعِلت مريم - عليها السلام - آيةً للمؤمنين، وفِتنةً للكافرين، فكان حمْلُها وولادتها لعيسى - عليه وعلى نبيِّنا الصلاة والسلام - فَيْصلاً بيْن الظلمات والنور واختبارًا، ثَبتتْ به أقدام، وزلَّت منه أخرى، يقول - تعالى -: ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 27 - 28].
فمنَح الله - عزَّ وجلَّ - لتلك المرأةِ هذه الثِّقةَ في خوْض مثل هذه المعجِزة الإلهية، وحَمْل هذا الابتلاء الشديد وحْدَها حين حمَلَتْ بولدها، ولم تدرِ ماذا تقول للناس، وهي الطاهِرة المُبَرَّأَة، الناسِكة المتبتِّلة، لا تَخْشى ممَّا يخشاه الأراذل مِن النساء.
ففي تفسير الطبري: "قال ابنُ زيد: لَمَّا قال عيسى لمريم: ﴿ لا تَحْزَنِي ﴾، قالت: (وكيف لا أحْزَن وأنت معي، لا ذات زَوْج ولا مملوكة، أي شيء عُذْري عند الناس؟ ﴿ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 23]" تفسير الطبري، سورة مريم.
ويقول ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "فيه دليلٌ على جواز تمنِّي الموت عندَ الفِتنة، فإنَّها عرَفت أنها ستُبْتلى وتُمتحن بهذا المولود الذي لا يحمِل الناسُ أمرَها فيه على السداد، ولا يُصدِّقونها في خَبَرها، وبعدما كانتْ عندهم عابدةً ناسكة، تصبح عندهم - فيما يظنُّون - عاهرةً زانية، فقالت: ﴿ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا ﴾؛ أي: قبل هذا الحال، ﴿ وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾؛ أي: لم أُخْلَق ولَم أكُ شيئًا؛ قاله ابن عباس"؛ "تفسير بن كثير".
لكنَّه شتَّانَ شتَّانَ بينهنَّ وبينها، فمع تمام الغَفْلة والعِفَّة والحياء في هذا الموقِف يكون تمامُ الابتلاء، ومع تمام الابتلاء تتَّضِح درجات المؤمنين، فيا لها مِن ثِقةٍ توضِّح لنا ميزانَ مريم - عليها السلام - ووزن عقلها عندَ ربِّ السماء! ذاك العقل الذي بثباته كان يَعني حينَها ثباتَ قوم، وبزَلَلِه كان يَعْني إخفاقًا لامتحانهم، ومِن ثَم لهدايتهم وإيمانهم.
وهذا دليلٌ على المعاملة المبكِّرة الراقية للمرأة في الإسلام على مختلف العصور.
ثم جاءتِ الآيات الكريمات في سورة آل عمران؛ لتزكِّيَ هذا الفِكْر الكامل، وتلك العقيدة الصافية، المتفجِّرة من هذه المرأة حين يقول الله - عزَّ وجلَّ - فيها: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 42 - 43].
يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "هذا إخبارٌ مِن الله تعالى بما خاطبَتْ به الملائكةُ مريم - عليها السلام - عن أمْر الله لهم بذلك، أنَّ الله قد اصطفاها؛ أي: اختارها لكَثْرة عبادتها وزهادتها، وشرَّفها وطهَّرها من الأكدار والوسواس، واصطفاها ثانيًا مرَّة بعدَ مرَّة؛ لجلالتها على نِساء العالمين".
وهنا يتَّضح البَوْنُ الشاسِع بيْن رواية القرآن الكريم في مخاطبة الملائكة لهذه المرأةِ مِن بني إسرائيل - عليها السلام - وذلك لما أخْلصتْ عبادتها لله - عزَّ وجلَّ - في هذه الحِقبة من الزمان، وبيْن مَنِ اعتقد مِن بني إسرائيل أنفسهم أنَّ المرأة كائنٌ نجِس، يُنجِّس كلَّ ما حوْلَه، وجسد بلا رُوح!
ففي الأوَّل انصهرتِ الفوارق المزعومة بيْن ذكر أو أنثى، ولم يميِّزها في إسلامِنا إلا التقوى.
ومِن تلك النماذج النِّسائية في القرآن: المجاهِدة الصابرة آسيا بنت مُزاحِم - رضي الله عنها - المجدِّدة لصفحات التاريخ المِصري، والمكافحة ضدَّ أكبر طاغية في العالَم، وقد وقفتْ أمام جبروته وعِناده، وتحدَّتْ أهواءَه وشهواتِه، فكسرت حاجزَ القداسة الزوجية التي يشْرئِب لها مُضطهدو المرأة؛ لتثبَ أنَّ هذه القَداسة محاطةٌ بقوانين، ولها حدودٌ، وأنَّ العلاقة بيْن الزوجين ليس معناها محوَ طَرَفٍ للآخَر، أو طغيانه على عقيدته وفِكْره السليم، بل إنَّه لو خالَف مرادُه مرادَ الله، وجَبَ رفْض ذلك بلا شك، فلا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالِق.
فالقرآن يتعامَل مع القلوب بالعدْل والمساواة، ولا فَضْل بيْن قلبَيْن إلا بالتقوى، فمناهضتها لفِرعون (الرجل) يُوضِّح مدى اعتبار الشَّرْع لعقلية المرأة، واحترامه لفِكرها وعقيدتها، حين تكون في جانبِ الحق، حتى ولو كان زوجُها أكبرَ الملوك هيبةً لشَعْبه، وأعْتى الجبابرة بأسًا وسلطانًا.
وحين يَذكُرها ربُّ العِزَّة، ويُنزل فيها قرآنًا بعدَ قرون لَحِقتْها، فإنَّ ذلك يوضِّح اعترافَ الإسلام بالمرأة صاحِبة الفِكر والمبادئ والقِيَم، واعتزازه الدائم بها وبكلِّ مَن تضرب طريقها، وتسير على نهْجها، وليس فقط كما يزعمون أنَّ المرأة المسلِمة ممحاة الشخصية أمامَ زوجها أيَّما كان وكيفَما كان، كلاَّ، فمِيزان الشَّرْع هو ميزانُ هذه الأمَّة، مهما اختلف الجنْس.
ومن تلك النماذج: الحَصَان الرَّزَان، الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، المُبرَّأة مِن فوق سبع سماوات؛ عائشة - رضي الله عنها - والتبرِئة هنا هي تبرئةُ الفِكر والعقل الطاهر مِن تشوُّهات النفس، ووسوسات الباطِل قبل أن يكون تبرئةً للجسَد، وعِرْض المرأة غالٍ عندَ ربِّ الأرْض والسَّماء، حتى تنزلَ فيه آيات بيِّنات، تُتلى إلى يوم القيامة؛ ليكونَ الذِّكْرُ تذكيرًا لإنصافها بأسلوب يهزُّ كيان الأشدَّاء، ويفْضح المنافقين، ويرْدع السُّفهاء.
وللعلماء آراءٌ في حُكْم مَن يسبُّ الصحابة ما بيْن تكفيره وتفسيقه، على دَرَكات من عمله، إلاَّ في حقِّ عائشة - رضي الله عنها - حيث أُنْزِلَ فيها قرآنٌ، مَن جحَد آيةً منه فقد كَفَر.
وهذه هاجَرُ - عليها السلام - في رُجْحان عقلها وثَبات جأْشها، وامتثالها لأوامر ربِّ السماء، حتى لتقرأ أفكارَ زوجها قبْل أن ينطقَ بها قائلةً له: "آلله أمرَك بهذا؟"، وبصبر تلك المرأة وقوَّة تَوكُّلِها على الله - عزَّ وجلَّ - واحتسابها، تَفجَّرتْ ينابيعُ الخير في صحراءَ قاحلة، لا إنسَ فيها ولا خبر؛ لينسلَّ من هذه الأُمِّ أُمَّة بأَسْرها، ولتكون الأرْض المقدَّسة التي يَفدُ إليها ملايينُ البشر على مدار الأزمان، يضاعف فيها الأَجْر ويفرض بها أحد أرْكان الإسلام، وليخلد ذِكْر هاجَر العاقلة الحمول، كلَّما سعَى ساعٍ بيْن الصفا والمروة، أو طعم مِن ماء زمْزم.
إنَّ إسناد مثل هذه المهمَّة المحورية لامرأةٍ دون وصْلها بأيِّ مساعد أو كفيل، وجَعْلها العائلَ الرئيسي لطفلٍ رَضيعٍ، بعد أن تركَها زوجُها وحيدةً، يجعلنا نعِي بجلاء مدَى ثقة الإسلام في عقليةِ المرأة، وفي قُدراتها وإمكانياتها، وفي فِكرها الناضِج الذي تفاعل مع الأَزْمة بصورةٍ عمليَّة واقعية، ولَم يكن مجرَّدَ شذرات أقلام على ورق بالٍ، أو صرَخات عاطفية خدَّاعة.
إنَّ عقلَها لَم يُرجِّح العاجلةَ على الآجِلة، ولم يؤثرِ الذاتَ على الغَيْر، إنَّه أنموذج لعقلية وافِرة بالعطاء والتضحية، واليقين بالله والاتِّزان، والصبر والتوكُّل، قلَّما تجده في عالَم الرِّجال.
تلك كانت نماذِج تُدلِّل على اهتمام القرآن الكريم بعقليةِ المرأة، وهي نماذجُ جديدة حقًّا على البشرية، حُقَّ لنا أن نفتخِرَ بها، لكن لم يقتصرِ الأمر على ذلك فالإنسان جسَدٌ ورُوح، عقلٌ وعاطفة.
(ب) اهتمام الإسلام بعاطِفة المرأة، ومعناوياتها الخاصَّة:
فقدِ اهتمَّ الإسلام بمعنويات المرأة وعواطفها اهتمامَه بعقلها، ويتضح اعتناءُ القرآن بعواطِفِ المرأة في قصَّة أمِّ موسى - عليه السلام، تلك الأُم التي ابتُلِيتْ بإلْقاء ابنها بيدها في اليمِّ إنْ خافت عليه! وقد أُمِرَتْ بذلك.
فيا لها من مشاعرَ أليمة عند كلِّ أمٍّ لا تُضاهيها مشاعِر! وقد لا يحسُّ بها إلاَّ مَن فقَدتْ رضيعَها في هذا العُمر.
وفي هذه المِحنة يُصوِّر القرآن الكريم، ويُفصِّل مشاعرَ الأمومة بشفافية واعتناء؛ ليتابعَ هذه المشاعر اللحظةَ بعدَ اللحظةِ، وينقل لنا تطورَها بدقَّة طَورًا بعْد طور، فمِن خوف وحزن على المفقود حين تُلْقي الأمُّ رضيعَها في النهر؛ ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ [القصص: 7].
ثم ليعوِّضها اللهُ - عزَّ وجلَّ - ويقذف في قلْبها الأمن والسَّلْوى؛ ﴿ وَلاَ تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7].
ثم يتابع نقْلَ مشاعرها بعدَ وضْعها لرضيعها في اليمِّ، تلك المشاعر الجِبلية التي خرجَتْ عن طوْعها، فأصبحتْ والهةً بابنها، ذاهلة عما سواه؛ يقول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [القصص: 10].
لقَدْ "أصبح فؤادُ أمِّ موسى فارغًا من ذِكْر كل شيء، إلا مِن ذكْر موسى"؛ ابن كثير.
توطئة:
في المقالِ السابق وصفْنا المرأة - قديمًا وحديثًا، عربًا وعجمًا - بإجمال شديد، وتعرَّفْنا بإجْمال عليها في مختلف العصور، وعلِمْنا وضعَها في العصْر الجاهلي، وفي العصر الحديث على ثلاثة مستويات: المستوى الأول حينما تبتعد المرأة عن الفِكر التحرُّري كيف تكون هي، وكيف تكون نظرةُ الرجل لها، وتعامله معها، ثم مستوى ثانٍ وهو المرأةُ المسلِمة في ظلِّ الفِكر التحرُّري، وأهم ما جنَاه عليها هذا الفِكْرُ مِن ظلم لحقوقها، وتشويه لعقيدتها، ثم المستوى الثالث مثَّلْنا به المرأة الغربية، وكيف رَفعت مِن جديد مؤخَّرًا شِعارَ العودة للبيت والأسرة المستقرَّة.
وفي الحقيقةِ أنَّ الغرْب حينما يبحثون قضيةَ تحرير المرأة في مجتمعاتهم، فلرُبَّما هم - فعلاً - يبحثون عن الحقيقة، ويَسيرون نحوَ المساواة والعَدْل؛ لأنَّ عُرْفهم ومنهجهم المحرَّف أدْنى من المستوى البشري المعقول، وكلَّما انحرَفوا واستخْدَموا عقولَهم كان أفْضل لهم، فهم بلا شكٍّ في بحْثهم، وإنْ تخبَّطوا، لكنَّهم في عدول عن الباطل، لكنَّ المسلمين حين ينتهجون منهجَ الغرب ويتبعونه حذوَ القُذَّة بالقُذَّة، فإنَّهم يبتعدون كثيرًا عن الحقيقة؛ لأنَّهم ببساطة يبتعدون عن منهجِهم الربَّاني القويم.
المرأة في ظل الإسلام (المرأة المجدِّدة والمجدودة):
في هذا الجزء سننسب المرأة لعقيدةٍ ربَّانية تقْبَل جميع الجنسيات، وتتسع لتصهرَ جميع الفجوات، والفُروقات الاجتماعيَّة، والطبقية والجنسية، قد ارْتضى تلك العقيدةَ كلُّ مَن نطق بالشهادتين، وعلِم أن له ربًّا مقدِّرًا لهذا الكون، قد أحْكم تقديرَه، وعلِم بتفاصيل أموره؛ إنَّها المرأة في ظلِّ الإسلام.
التعريف اللُّغوي للمرأة المجدِّدة والمجدودة:
(المرأة المجدودة) مِن الجَدُّ وهو الحظُّ والرزق، وفي الدعاء: ((لا مانعَ لِمَا أَعطيتَ، ولا معطيَ لِمَا منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ))؛ أَي: لا ينفع ذا الغنى منك غِناه، ورجل جُد - بضم الجيم - أي: مجدود عظيم الجَدّ، قال سيبويه: والجمْع جُدُّون ولا يُكَسَّرُ، وكذلك جُد وجُدِّيّ، ومَجْدُودٌ وجَديدٌ.
ويأتي الجَدُّ بمعنى العَظَمَةُ، وفي التنزيل العزيز: ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا ﴾ [الجن: 3]؛ قيل: (جَدُّه) عظمته، وقيل: غِناه، وقال مجاهد: (جَدُّ ربِّنا) جلالُ ربِّنا، وفي حديث أَنس - رضي الله عنه -: "أَنَّه كان الرجل منَّا إِذا حفِظ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا"؛ أي: عظُم في أعْيُننا، وجلََّ قدرُه فينا، وصار ذا جَدّ؛ "لسان العرب".
(والمرأة المجدِّدة) مِن: "جَدَّ الشيءُ يَجِدُّ - بالكسر - جِدَّةً: صار جديدًا، وهو نقيض الخلق"؛ الصحاح، ومنها قولنا: جدَّد، ويُجدِّد، ومُجدِّد.
التعريف الاصطلاحي: مِن هنا قصدت بالمرأة المجدِّدة التي استطاعتْ تغييرَ تاريخ المرأة بوجه عام، منذ الكاملات الأُوليات، كمريم ابنة عمران، وآسيا بنت مزاحم - رضي الله عنهما - ثمَّ الصحابيات - رضي الله عنهنَّ - بامتثالهنَّ لأوامر ربهنَّ، وهي أيضًا مجدودةٌ، عظيمة الحظِّ والرِّزق؛ إذ وفَّقها الله - عزَّ وجلَّ - لهذه المهمَّة العظيمة، ولهذه الطاعة القويمة، وهي مجدودةٌ في أعيننا، عظيمة القَدْر والشَّرَف.
ونتعرَّف عليهنَّ مِن خلال معرفة المرأة في القرآن الكريم، ومكانتها ووزنها، ثم في السُّنَّة المطهَّرة، نظريًّا ثم عمليًّا.
وعن مكانة المرأة في القرآن نتحدَّث مِن خلال نقطتين تهمَّانِنا في البحْث، هما:
النقطة الأولى: اعتبار القرآن الكريم لعقليةِ المرأة وعواطفها.
النقطة الثانية: توكيله مَن يرْعاها، ويَحْمي شؤونها؛ حرصًا عليها، هو حظٌّ اختُصَّتْ به المسلِمات.
ثم نتحدَّث عن مكانةِ المرأة في السُّنة النبوية من السُّنة القولية - الناحية النظرية - ونُرْجِئ الجانب العملي حين الحديث عن الصحابيات - رضي الله عنهنَّ - إنْ شاء الله تعالى.
أولاً: مكانة المرأة في القرآن الكريم:
النقطة الأولى: اعتبار القرآن الكريم لعقلية المرأة وعواطفها:
(أ) الاهتمام بعقلية المرأة، ومنْحها اعتبارها، واحترامُ فِكْرها، وتقديرُ عقيدتها:
لقد وصَف الله - عزَّ وجلَّ - في آي القرآن الكريم هذه الأحكامَ الراقية، وذلك العهد الجديد في التعامُل مع المرأة في غيْر موضِع من القرآن، بآيات تلامِسُ القلْب الكسير؛ لتُرَبِّتَ عليه، وتشجي النظرَ الحسير لواقِع أمَّة الإسلام اليوم، فتمهله الصَّبرَ والسلوان على كلِّ مغتَرٍّ بِجَهْجاهِ الحضارات الغريبة البئيسة، مُعرِضًا عن ميزان العدل والحق.
فالإسلام لم يفاضلْ بيْن عقْل الرجل والمرأة إلاَّ بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - وبتمييزه لوَحْدانية الله، وولائه له - عزَّ وجلَّ - وبُغْضه من يُحادُّونه، ولم يُفضِّل عقلاً اختار الكفر على الإيمان؛ لأنَّه عقل رجل، وفي الوقت نفسه نجده رفَع قدْرَ عقْل المرأة إلى مرْتبة الاصطفاء والتطهير لَمَّا اختارتْ سواءَ السبيل والطريق القويم، وأيُّ احترام وإجلال بعدَ هذا؟!
فالنِّساء رغمَ ما فيهنَّ من نُقْصان للعقل، لكن بيَّن رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - السببَ العام لهذا النقْص، وهو ما يطرأ على المرأة مِن نسيان أو سهو، ففي الحديث قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما رأيتُ مِن ناقصات عقْل ودِين أذهبَ للُبِّ الرجل الحازم مِن إحداكنَّ))، قُلْنَ: وما نقصان دِيننا وعقلنا يا رسولَ الله؟ قال: ((أليس شهادةُ المرأة مثلَ نصف شهادة الرجل؟))، قُلْن: بلى، قال: ((فذلك مِن نقصان عقلها، أليس إذَا حاضتْ لم تصلِّ ولَم تصُم؟))، قلْنَ: بلى، قال: ((فذلك مِن نقصان دِينها)).
يقول الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله تعالى -: بَيَّن - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ نقصان عقلها من جِهة ضعْف حِفْظها، وأنَّ شهادتها تُجْبَر بشهادة امرأةٍ أخرى؛ وذلك لضبط الشهادة، بسبب أنها قد تنسى، فتَزيد في الشهادة أو تنقصها؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282].
نَعمْ، جِنس الرجال أفضلُ مِن جنس النِّساء في الجُمْلة؛ لأسباب كثيرة، كما قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ [النساء: 34]، لكن قد تفوقه في بعضِ الأحيان في أشياءَ كثيرة، فكم لِلَّهِ مِن امرأة فوقَ كثير من الرِّجال في عقلها ودِينها وضبطها! وإنَّما ورد عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ جِنْس النساء دون جنس الرِّجال في العقل وفي الدِّين من هاتين الحيثيتَيْن اللَّتَيْن بيَّنَهما النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقد تكثُر منها الأعمالُ الصالحات، فتربو على كثيرٍ من الرِّجال في عملِها الصالِح، وفي تقواها لله - عزَّ وجلَّ - وفي منْزِلتها في الآخرة، وقد تكون لها عنايةٌ ببعض الأمور، فتضبط ضبطًا كثيرًا أكثر من ضبطِ بعض الرِّجال في كثيرٍ من المسائل التي تُعْنَى بها، وتجتهد في حِفْظها وضبطها، فتكون مرجعًا في التاريخ الإسلامي، وفي أمور كثيرة، وهذا واضحٌ لِمَن تأمَّل أحوال النساء في عهْد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبعْدَ ذلك.
وبهذا يُعلَم أنَّ هذا النقصَ لا يمنع مِن الاعتماد عليها في الرِّواية، وهكذا في الشهادة إذا انْجبَرتْ بامرأة أخرى، ولا يمنع أيضًا تقواها لله، وكونَها مِن خِيرة عباد الله، ومِن خِيرة إماء الله إذا استقامتْ في دِينها، وإنْ سقَط عنها الصوم في الحيْض والنِّفاس أداءً لا قضاءً، وإن سقطَتْ عنها الصلاةُ أداءً وقضاءً، فإنَّ هذا لا يلزم منه نقصها في كلِّ شيء من جِهة تقواها لله، ومِن جهة قيامها بأمْره، ومِن جهة ضبطها لِمَا تعْتني به من الأمور، فهو نقصٌ خاص في العقل والدِّين - كما بَيَّنه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
فلا ينبغي للمؤمن أن يرميَها بالنقص في كلِّ شيء، وضعْف الدِّين في كلِّ شيء، وإنما ضعْف خاص بدِينها، وضعْف في عقلها فيما يتعلَّق بضبْط الشهادة ونحو ذلك، فينبغي إنصافُها، وحمْل كلام النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على خيْر المحامِل وأحسنها، والله تعالى أعلم"؛ ا.هـ.
سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله تعالى - مجلة البحوث الإسلامية (29/100- 102).
وكما يقال:
وَلَوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَنْ فَقَدْنَا
لَفُضِّلَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ
وَمَا التَّأْنِيثُ لِاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ
وَلاَ التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلاَلِ
نماذج قرآنية مِن تقدير عقل المرأة:
من نماذج المرأة في القُرآن مريم ابنة عمران - عليها السلام - مربِّية الأنبياء، الناسِكة الزاهِدة، العفيفة الطاهرة، علَتْ مكانتها حتى فاقتْ أحْبار عصرها بإخلاصها واستسلامها لله، وحتَّى اصطفاها ربُّها وطهَّرها، ثم اصطفاها ثانيةً على نِساء العالمين.
آياتٌ خالِدة في البتول تُدلِّل على اعتبارات أساسية لعقلية المرأة ومكانتها في القرآن الكريم، ودوْرها الأساسي في تربية أبْناء مجتمعها، وتغييره والتأثير فيه، حتى جُعِلت مريم - عليها السلام - آيةً للمؤمنين، وفِتنةً للكافرين، فكان حمْلُها وولادتها لعيسى - عليه وعلى نبيِّنا الصلاة والسلام - فَيْصلاً بيْن الظلمات والنور واختبارًا، ثَبتتْ به أقدام، وزلَّت منه أخرى، يقول - تعالى -: ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 27 - 28].
فمنَح الله - عزَّ وجلَّ - لتلك المرأةِ هذه الثِّقةَ في خوْض مثل هذه المعجِزة الإلهية، وحَمْل هذا الابتلاء الشديد وحْدَها حين حمَلَتْ بولدها، ولم تدرِ ماذا تقول للناس، وهي الطاهِرة المُبَرَّأَة، الناسِكة المتبتِّلة، لا تَخْشى ممَّا يخشاه الأراذل مِن النساء.
ففي تفسير الطبري: "قال ابنُ زيد: لَمَّا قال عيسى لمريم: ﴿ لا تَحْزَنِي ﴾، قالت: (وكيف لا أحْزَن وأنت معي، لا ذات زَوْج ولا مملوكة، أي شيء عُذْري عند الناس؟ ﴿ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 23]" تفسير الطبري، سورة مريم.
ويقول ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "فيه دليلٌ على جواز تمنِّي الموت عندَ الفِتنة، فإنَّها عرَفت أنها ستُبْتلى وتُمتحن بهذا المولود الذي لا يحمِل الناسُ أمرَها فيه على السداد، ولا يُصدِّقونها في خَبَرها، وبعدما كانتْ عندهم عابدةً ناسكة، تصبح عندهم - فيما يظنُّون - عاهرةً زانية، فقالت: ﴿ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا ﴾؛ أي: قبل هذا الحال، ﴿ وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾؛ أي: لم أُخْلَق ولَم أكُ شيئًا؛ قاله ابن عباس"؛ "تفسير بن كثير".
لكنَّه شتَّانَ شتَّانَ بينهنَّ وبينها، فمع تمام الغَفْلة والعِفَّة والحياء في هذا الموقِف يكون تمامُ الابتلاء، ومع تمام الابتلاء تتَّضِح درجات المؤمنين، فيا لها مِن ثِقةٍ توضِّح لنا ميزانَ مريم - عليها السلام - ووزن عقلها عندَ ربِّ السماء! ذاك العقل الذي بثباته كان يَعني حينَها ثباتَ قوم، وبزَلَلِه كان يَعْني إخفاقًا لامتحانهم، ومِن ثَم لهدايتهم وإيمانهم.
وهذا دليلٌ على المعاملة المبكِّرة الراقية للمرأة في الإسلام على مختلف العصور.
ثم جاءتِ الآيات الكريمات في سورة آل عمران؛ لتزكِّيَ هذا الفِكْر الكامل، وتلك العقيدة الصافية، المتفجِّرة من هذه المرأة حين يقول الله - عزَّ وجلَّ - فيها: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 42 - 43].
يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "هذا إخبارٌ مِن الله تعالى بما خاطبَتْ به الملائكةُ مريم - عليها السلام - عن أمْر الله لهم بذلك، أنَّ الله قد اصطفاها؛ أي: اختارها لكَثْرة عبادتها وزهادتها، وشرَّفها وطهَّرها من الأكدار والوسواس، واصطفاها ثانيًا مرَّة بعدَ مرَّة؛ لجلالتها على نِساء العالمين".
وهنا يتَّضح البَوْنُ الشاسِع بيْن رواية القرآن الكريم في مخاطبة الملائكة لهذه المرأةِ مِن بني إسرائيل - عليها السلام - وذلك لما أخْلصتْ عبادتها لله - عزَّ وجلَّ - في هذه الحِقبة من الزمان، وبيْن مَنِ اعتقد مِن بني إسرائيل أنفسهم أنَّ المرأة كائنٌ نجِس، يُنجِّس كلَّ ما حوْلَه، وجسد بلا رُوح!
ففي الأوَّل انصهرتِ الفوارق المزعومة بيْن ذكر أو أنثى، ولم يميِّزها في إسلامِنا إلا التقوى.
ومِن تلك النماذج النِّسائية في القرآن: المجاهِدة الصابرة آسيا بنت مُزاحِم - رضي الله عنها - المجدِّدة لصفحات التاريخ المِصري، والمكافحة ضدَّ أكبر طاغية في العالَم، وقد وقفتْ أمام جبروته وعِناده، وتحدَّتْ أهواءَه وشهواتِه، فكسرت حاجزَ القداسة الزوجية التي يشْرئِب لها مُضطهدو المرأة؛ لتثبَ أنَّ هذه القَداسة محاطةٌ بقوانين، ولها حدودٌ، وأنَّ العلاقة بيْن الزوجين ليس معناها محوَ طَرَفٍ للآخَر، أو طغيانه على عقيدته وفِكْره السليم، بل إنَّه لو خالَف مرادُه مرادَ الله، وجَبَ رفْض ذلك بلا شك، فلا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالِق.
فالقرآن يتعامَل مع القلوب بالعدْل والمساواة، ولا فَضْل بيْن قلبَيْن إلا بالتقوى، فمناهضتها لفِرعون (الرجل) يُوضِّح مدى اعتبار الشَّرْع لعقلية المرأة، واحترامه لفِكرها وعقيدتها، حين تكون في جانبِ الحق، حتى ولو كان زوجُها أكبرَ الملوك هيبةً لشَعْبه، وأعْتى الجبابرة بأسًا وسلطانًا.
وحين يَذكُرها ربُّ العِزَّة، ويُنزل فيها قرآنًا بعدَ قرون لَحِقتْها، فإنَّ ذلك يوضِّح اعترافَ الإسلام بالمرأة صاحِبة الفِكر والمبادئ والقِيَم، واعتزازه الدائم بها وبكلِّ مَن تضرب طريقها، وتسير على نهْجها، وليس فقط كما يزعمون أنَّ المرأة المسلِمة ممحاة الشخصية أمامَ زوجها أيَّما كان وكيفَما كان، كلاَّ، فمِيزان الشَّرْع هو ميزانُ هذه الأمَّة، مهما اختلف الجنْس.
ومن تلك النماذج: الحَصَان الرَّزَان، الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، المُبرَّأة مِن فوق سبع سماوات؛ عائشة - رضي الله عنها - والتبرِئة هنا هي تبرئةُ الفِكر والعقل الطاهر مِن تشوُّهات النفس، ووسوسات الباطِل قبل أن يكون تبرئةً للجسَد، وعِرْض المرأة غالٍ عندَ ربِّ الأرْض والسَّماء، حتى تنزلَ فيه آيات بيِّنات، تُتلى إلى يوم القيامة؛ ليكونَ الذِّكْرُ تذكيرًا لإنصافها بأسلوب يهزُّ كيان الأشدَّاء، ويفْضح المنافقين، ويرْدع السُّفهاء.
وللعلماء آراءٌ في حُكْم مَن يسبُّ الصحابة ما بيْن تكفيره وتفسيقه، على دَرَكات من عمله، إلاَّ في حقِّ عائشة - رضي الله عنها - حيث أُنْزِلَ فيها قرآنٌ، مَن جحَد آيةً منه فقد كَفَر.
وهذه هاجَرُ - عليها السلام - في رُجْحان عقلها وثَبات جأْشها، وامتثالها لأوامر ربِّ السماء، حتى لتقرأ أفكارَ زوجها قبْل أن ينطقَ بها قائلةً له: "آلله أمرَك بهذا؟"، وبصبر تلك المرأة وقوَّة تَوكُّلِها على الله - عزَّ وجلَّ - واحتسابها، تَفجَّرتْ ينابيعُ الخير في صحراءَ قاحلة، لا إنسَ فيها ولا خبر؛ لينسلَّ من هذه الأُمِّ أُمَّة بأَسْرها، ولتكون الأرْض المقدَّسة التي يَفدُ إليها ملايينُ البشر على مدار الأزمان، يضاعف فيها الأَجْر ويفرض بها أحد أرْكان الإسلام، وليخلد ذِكْر هاجَر العاقلة الحمول، كلَّما سعَى ساعٍ بيْن الصفا والمروة، أو طعم مِن ماء زمْزم.
إنَّ إسناد مثل هذه المهمَّة المحورية لامرأةٍ دون وصْلها بأيِّ مساعد أو كفيل، وجَعْلها العائلَ الرئيسي لطفلٍ رَضيعٍ، بعد أن تركَها زوجُها وحيدةً، يجعلنا نعِي بجلاء مدَى ثقة الإسلام في عقليةِ المرأة، وفي قُدراتها وإمكانياتها، وفي فِكرها الناضِج الذي تفاعل مع الأَزْمة بصورةٍ عمليَّة واقعية، ولَم يكن مجرَّدَ شذرات أقلام على ورق بالٍ، أو صرَخات عاطفية خدَّاعة.
إنَّ عقلَها لَم يُرجِّح العاجلةَ على الآجِلة، ولم يؤثرِ الذاتَ على الغَيْر، إنَّه أنموذج لعقلية وافِرة بالعطاء والتضحية، واليقين بالله والاتِّزان، والصبر والتوكُّل، قلَّما تجده في عالَم الرِّجال.
تلك كانت نماذِج تُدلِّل على اهتمام القرآن الكريم بعقليةِ المرأة، وهي نماذجُ جديدة حقًّا على البشرية، حُقَّ لنا أن نفتخِرَ بها، لكن لم يقتصرِ الأمر على ذلك فالإنسان جسَدٌ ورُوح، عقلٌ وعاطفة.
(ب) اهتمام الإسلام بعاطِفة المرأة، ومعناوياتها الخاصَّة:
فقدِ اهتمَّ الإسلام بمعنويات المرأة وعواطفها اهتمامَه بعقلها، ويتضح اعتناءُ القرآن بعواطِفِ المرأة في قصَّة أمِّ موسى - عليه السلام، تلك الأُم التي ابتُلِيتْ بإلْقاء ابنها بيدها في اليمِّ إنْ خافت عليه! وقد أُمِرَتْ بذلك.
فيا لها من مشاعرَ أليمة عند كلِّ أمٍّ لا تُضاهيها مشاعِر! وقد لا يحسُّ بها إلاَّ مَن فقَدتْ رضيعَها في هذا العُمر.
وفي هذه المِحنة يُصوِّر القرآن الكريم، ويُفصِّل مشاعرَ الأمومة بشفافية واعتناء؛ ليتابعَ هذه المشاعر اللحظةَ بعدَ اللحظةِ، وينقل لنا تطورَها بدقَّة طَورًا بعْد طور، فمِن خوف وحزن على المفقود حين تُلْقي الأمُّ رضيعَها في النهر؛ ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ [القصص: 7].
ثم ليعوِّضها اللهُ - عزَّ وجلَّ - ويقذف في قلْبها الأمن والسَّلْوى؛ ﴿ وَلاَ تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7].
ثم يتابع نقْلَ مشاعرها بعدَ وضْعها لرضيعها في اليمِّ، تلك المشاعر الجِبلية التي خرجَتْ عن طوْعها، فأصبحتْ والهةً بابنها، ذاهلة عما سواه؛ يقول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [القصص: 10].
لقَدْ "أصبح فؤادُ أمِّ موسى فارغًا من ذِكْر كل شيء، إلا مِن ذكْر موسى"؛ ابن كثير.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فرَبَط الله - عزَّ وجلَّ - على قلْبها؛ تخفيفًا عليها من هول الفراق، وتهدئةً لرَوْعها ولهفها على ابْنها، ثم نتابع تطوُّرَ المشاعر بتطوُّر الأحداث؛ ﴿ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ﴾ [طه: 40].
ثُم ردّه إليها؛ "كي تقرَّ عينُها ولا تحزن، فبلَغ لُطف الله لها وله، أن ردَّ عليها ولدَها، وعطَف عليها نفْعَ فرِعون وأهْل بيته، مَعَ الأَمَنةِ مِن القتْل الذي يتخوَّف على غيره، فكأنَّهم كانوا مِن أهل بيت فرعون في الأمان والسَّعة، فكان على فرش فرعون وسُرره"؛ تفسير الطبري.
إنَّ كلَّ هذا الاهتمامِ بنقْل الأحاسيس بتلك الدِّقَّة، والتتابع لكلِّ حال من أحوال تلك المؤمِنة المبتلاة، يجعلنا نُدرك مدى احتفاء القرآن الكريم بالمرأة، بل بخلجات صدرِها، وخفقات فؤادها الرقراق، وعواطفها الجَيَّاشة، وتقويمه لها كيف أمسَتْ وكيف تغدو، ثم تصبح، يُكافئها الرحمنُ بفضْله ورحمته.
وتبليغنا بكلِّ هذا هو بمثابة إعلانٍ للبشرية لهذا الاهتمامِ الذي لا يُضاهيه نظيرٌ في الحياة الدنيا، وإنَّه لحرِيٌّ بكلِّ مؤمنة أن تطمئنَّ، فتقرَّ عينها ولا تحزن بعدَ سماع مِثْل هذه الآيات البيِّنات، ولتوقن بحقٍّ أنَّ لها ربًّا يعلم دقائق وتفاصيل الأمور، يستجيب لها إنْ دعتْه، ويحفظها إنْ هي حَفِظته.
وهو أيضًا دلالةٌ ظاهِرة على أنَّ العاطفة حينما تُوظَّف، فتتوجَّه لأوامِر الله - عزَّ وجلَّ - وأنَّ الهوى حينما يسير على مرادِ الله ينتج عنه بطولاتٌ فريدة.
ولو أسهبْنا الحديث عن نماذجَ أخرى لَمَا اكتفَيْنا، فتصوير القرآن الكريم لمشاعِر مريم - عليها السلام - حين قالت: ﴿ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 23]، ثم إنْطاق الله - عزَّ وجلَّ - لعيسي - عليه السلام - تطمينًا لها بقوله: ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ﴾ [مريم: 24]، إلى آخِر الآيات.
ومشاعِر التعجُّب والمفاجأة بالبُشرى في قول سارة زَوْج إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ﴿ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴾ [الذاريات: 29]، ثم مشاعِر النَّدم والذنب التي وجدْناها على وجهِ امرأة العزيز في قولها: ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ [يوسف: 51 - 52].
يقول ابن كثير: "تقول: إنَّما اعترفْتُ بهذا على نفسي؛ ذلك ليعلمَ زوْجي أنِّي لَم أخُنْه في نفس الأمر، ولا وقَع المحذور الأكبر، وإنَّما راودتُ هذا الشابَّ مراودة، فامتنع؛ فلهذا اعترفتُ ليعلمَ أني بريئة".
النقطة الثانية: توكيل أمْر المرأة بمَن يرْعاها، ويحمي شؤونها؛ حِرصًا عليها، هو حظٌّ اختُصَّتْ به المسلِمات:
فإسْناد القِوامة للرجل، وتكليفه بمهمَّة تُضاف لمهامِّه، وهي (رِعاية المرأة) ماديًّا ومعنويًّا، يُعدُّ تفضيلاً للمرأة، وتدليلاً لها ومنحها حقًّا خاصًّا، تفرَّد به الإسلام على مدَى التاريخ، فالتكليف في حدِّ ذاته هو مسؤولية عظيمة، نِيط بها الإنسان، وأمانة نأَى عن حمْلها السموات والأرض والجِبال، وأشفقْنَ منها؛ لذا فلا ضَيرَ مع عِظَم هذه الأمانة أن يُحاط حاملُها بجانب من الاحترام والتوقير؛ تخفيفًا عنه مشقَّة الحمْل، واعترافًا له بفضْله في حمْلها، وقد تفرَّد عن جميع مخلوقات الله - عزَّ وجلَّ - في ذلك، والتفاضُل بيْن الرجل والمرأة هو مِن تمام عدْله - عزَّ وجلَّ؛ يقول - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 32].
بل إنَّ التمنِّي من الجِنسين بما فضَّل الله به بعضَهم على بعضٍ يُورث البغي.
يقول الإمامُ الطبريُّ في تفسير الآية: "وذَكَر أنَّ ذلك نزل في نساءٍ تمنيْنَ منازلَ الرِّجال، وأن يكون لهن ما لهم، فنهَى الله عباده عن الأماني الباطلة، وأمرَهم أن يسألوه مِن فضْله؛ إذ كانت الأمانيُّ تُورِث أهلَها الحسدَ والبغي بغير الحقِّ، وفي قوله: ﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾، فإنَّ الرِّجال قالوا: "نريد أن يكونَ لنا من الأجْر الضِّعْفُ على أجْر النساء، كما لنا في السِّهام سهمان، فنُريد أن يكون لنا في الأجْر أجران، وقالت النساء: "نريد أن يكون لنا أجْرٌ مثْل أجر الرِّجال، فإنَّا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كُتِب علينا القِتالُ لقاتلْنا! فأنزل الله تعالى الآية، وقال لهم: سَلُوا اللهَ من فضْله، يرزقكم الأعمال، وهو خيرٌ لكم"؛ ا.هـ من تفسير الطبري.
فرغم أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قد منَح القِوامة للرجل، وأعْطاه قدراتٍ وميزاتٍ تُناسِب تكوينَه، إلا أنَّ هذه القُدراتِ قد جعلتْه في مناط التكليف، ممَّا حدَا به أن يُسأل ويُؤمر عمَّا أُسنِد إليه.
والألْفاظ التي أتَتْ تأمر الرجل تارةً، وتنذره تارةً في القرآن الكريم في تعامُله مع المرأة، تُفْصِح لنا عن مدَى حرْص الإسلام على المرأة، وعنايته بحقوقها، فقد عَرَضت السُّور (النساء والبقرة، والمائدة والنور، والأحزاب والمجادلة، والممتحنة والتحريم) آياتٍ تَصِف أحوالَ المرأة وشؤونها، ولكلِّ سورة من هذه السُّور جانبٌ أو جوانب عالجتْها، وهذه - بلا شك - عنايةٌ خاصَّة بالمرأة.
يقول د. محمد المدني: "وتلك عنايةٌ واضِحة من القرآن الكريم بشأن المرأة، واهتمام واستقصاء أحوالها في مختلف أطوارها، وفي جوانبِ حياتها، وحرْص على حمايتها، وبيان حقوقها على الرَّجُل، وحقوق الرجل عليها، ويَزيد في أمْرِ هذه العناية وهذا الاهتمام أنَّ حِكمةَ الله قضَتْ بأن تُسجَّل هذه الأحكامُ على وجهٍ فيه كثيرٌ من التفصيل والبيان في القرآن الكريم، وألاَّ يُكتفَى بتقريرها وتفصيلها في السُّنة، فإنَّ القرآن عادةً هو الذي يتكفَّل بما هو مِن قبيل الأصول الكُليَّة، وما يلتحق بها من الشؤون التي يَجِب أن تكونَ حاضرةً في الناس، متلوةً يذكرونها دائمًا ولا ينسونها، ولا يتفاوتون في درجةِ ثُبوتها، فتَبقى لديهم جميعًا متواترةً قاطعة"؛ ا.هـ؛ انظر: المجتمع المثالي كما تُنظِّمه سورةُ النساء ص: 22؛ د. محمَّد محمد المدني.
نظْرة تحليليَّة لغوية:
وبملاحظة بعضِ الآيات الكريمات التي تَعرِض قضايا المرأة، نستعرض لمحةً تحليليَّة سريعة لبعضها، وذلك في قوله تعالى:
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 231].
وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 232].
وقوله تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف ﴾ [البقرة: 233].
وقوله تعالى: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 236].
وقوله تعالى: ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 241].
وقوله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228].
وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: 20 - 21].
وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ﴾ [الطلاق: 6].
حيث نجد أنَّ الآياتِ تتفاوت في سِياقها اللُّغوي ما بيْن الوعْظ والإرشاد إلى حدٍّ يصل إلى الإنذار، كما أنَّ معظم الآيات تبدأُ بأفْعال أمْرٍ أو نهي مِن الله تعالى إلى معاشِر الرِّجال، وهم محلُّ التكليف، القائمون على النِّساء، فنجد فِعْلَ الأمر في مثل ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾، ﴿ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾، ﴿ عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾، ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ ﴾، ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ ﴾، ﴿ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾، هذا في حقِّ المطلَّقات، ناهيكم عن حقِّ الزوجة.
﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾، وتلاحظون في الآية السابقة وما بها مِن تحميل عِبْء نفقة الولَد منذ كان جنينًا، ثم رضيعًا على الأب، وفيه أيضًا مِن نسبة المسؤولية إلى الأب وإلْصاقها به.
والنهي في قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾، ﴿ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾، ﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ﴾، ﴿ فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ﴾؛ أي: المهر، ﴿ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾.
والآيات أحيانًا تأتي وَعْظية إرْشادية؛ كقوله تعالى: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾، ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾، وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.
إلى أن تصِل اللهجةُ القرآنية أحيانًا إلى حدِّ الإنذار في قولِ الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾، وفي قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ﴾، وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾، وقوله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾.
وخِتام الآيات الكريمات في الغالِب تنتهي بالتذكير بعِلم الله - عزَّ وجلَّ - واطِّلاعه على ظواهر الأمور وبواطنها، أو أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - عزيزٌ حكيم، وأنَّه عليٌّ كبيرٌ فهو أعْلى مِن كل مخلوق وأكْبر، وأعزُّ وأحْكَم؛ ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾، وقوله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾.
ثانيًا: مكانة المرأة في السُّنة المطهَّرة نظريًّا:
ومِن الجانبِ النظري تظهر وصايا الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - للصحابة - رضي الله عنهم - بالنِّساء، حتى في أواخِر الوصايا التي وصَّى بها، وذلك في خُطبة الوداع.
والوصايا الأخيرة للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانت تحمِل - بلا شك - القضايا الكُبرى والأحكام الكليَّة، وتركِّز على أُسُس ومختصر الرِّسالة النبويَّة، فنجده - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول في خُطبة الوداع: ((استَوْصوا بالنِّساء خيرًا؛ فإنَّهن عندكم عوانٍ، ليس تملكون منهنَّ شيئًا غير ذلك))؛ صحيح سنن ابن ماجه للألباني (حسن).
فالنِّساء أسيراتٌ عندهم، والكريم مَن أكرم الأسير، وعمِل على شأنِه، فأصلحَه إن اعوَّج حتى يستسلمَ لله، واللئيم مَن أهان أسيرَه وهو ضعيفٌ تحت يدِه، لا حولَ له ولا قوَّة؛ ((ما أكرمَهُنَّ إلا كريم....)).
والأحاديث النبويَّة المنصِفة للمرأة المسلِمة أكثرُ مِن أن تُحصَى:
• فقدِ اعتبرَها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثاني الضعيفَيْن، فقال: ((اتَّقوا الله في الضعيفَيْن؛ اليتيم والمرأة))، ونرى الكثيرين يبحثون عن حقوقِ اليتيم، ويبنون له الدُّورَ والمؤسَّسات، ويقطعون له الأوقاف، ولكن أين مَن بحَث عن حقوق الضَّعيف الثاني، وهي المرأة؟!
• وبيَّن للرجل إمكانياتِها المتواضِعة، لا تدليلاً على عجْزِها ولا احتقارها، ولكن رِفقًا بحالها، وتِبيانًا لما تحتاجه معاملتها من كثيرِ العناية والخصوصية والحُنو: ((ما رأيتُ من ناقصاتِ عقْل ودِين أغلب لذِي لُبٍّ منكنَّ))؛ أخرَجه البخاريُّ ومسلم.
ثم إنَّ هذه إشارةٌ لطيفة أيضًا لكلِّ امرأةٍ كيف تُذهِب قلْبَ الشديدِ الحازم مِن الرجال، وذلك في طاعة الله - عزَّ وجلَّ - فطريقها ليس بالمناظَرة، ولكن بالاستعطاف واللِّين.
• ثم قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ المرأة كالضِّلع، إنْ ذهبتَ تُقيمها كسرْتَها، وإن تركتَها استمتعتَ بها على عِوَج))؛ تبيانًا لاختلاف الطبائع بيْن الرِّجال والنِّساء، وتوضيحًا بأنَّ المرأة بها جانبٌ من العوج، الذي قد يَظهر في المعاندة، أو الغَيْرة، وما شابه ذلك، فلا يُقابل العناد الأُنثوي بعناد ذُكوري صَلْد، بل تحتاج المرأةُ إلى معالجة لهذا العِوَج بالطريقة النبويَّة، وليستْ بالطريقة المادية النِّديَّة، والتي قد تؤدِّي إلى الكَسْر.
وهكذا ففي كلِّ حديث نمرُّ عليه، نلاحظ اهتمامًا نبويًّا جديدًا لِمَعْلَم من معالِم المرأة، وتوضيحًا لطبْع من طبائعها، وكأنَّ الأحاديث والنصائح النبويَّة أشبهُ بكُتيِّب تعريفي (كتالوج) للرجل عن سِماتها المختلفة عنه، والتي ينبغي أنْ تُؤخذَ على المحْمل الذي قِيل من أجْله، وهو النصيحة والتنبيه والدِّراسة، وليس على محْمل التنقيص والسُّخرية، فكم هي عددُ الكتب التي صِيغت في طبائع الأطفال مثلاً، وتبيان ضعْفهم، واختلافهم عن البالِغين الراشدين بقِلَّة عقولهم وخبراتهم، وميلهم إلى اللَّعِب، ولم نجد رشيدًا كاملَ الأهلية يسخَر من الطفل؛ لأنَّه طفل إلا أنْ يكون هو الطفل.
• بل يَكفي تدليلاً على مكانة المرأة عند النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما تعدَّى حدودَ المرأة المسلِمة إلى تقدير حتَّى نساء الأعداء، فعن عبدالله: "أنَّ امرأةً وُجِدتْ في بعض مغازي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقتولةً، فأنكر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قتْلَ النِّساء والصبيان"؛ أخرجه البخاريُّ ومسلِم.
كان هذا الجانب النظري، ونترك الجانبَ العملي في حديث لاحِق - إن شاء الله.
العديدُ من الآيات المنصِفات البيِّنات، والعديد من الأحاديث النبويَّة، والتي لا يتَّسع المقام لذِكْرها كاملةً، فنحن نذكر بعضَها من قبيل المثال لا الحصْر، لكنها تشِي بهذا التغيُّر الفاصل في العَلاقات الإنسانية في هذا العهْد المشرِق من تاريخ البشَر، على يدِ خاتم المرسَلين - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولئن كان عصْر النبوَّة هو الأكْمل على الإطلاق، فمِن حقِّنا أن نقول: إنَّ المرأة الصحابية كانتْ - ولا تزال - ميزانَ الاعتدال، والمحرِّك الرئيسي المجدِّد لحقوق المرأة في المجتمع ككلٍّ.
في المقال القادم - بإذن الله تعالى - نتناول عن قُرْب المرأة الصحابية، ودورها المحوري في المجتمع؛ حيث كانت هي المجدِّدةَ والمغيِّرة لوجه التاريخ الجاهِلي المظلِم.
المرأة المجددة (2)
(المرأة في الإسلام تجربة تاريخية جديدة)
رحاب بنت محمد حسان
ثُم ردّه إليها؛ "كي تقرَّ عينُها ولا تحزن، فبلَغ لُطف الله لها وله، أن ردَّ عليها ولدَها، وعطَف عليها نفْعَ فرِعون وأهْل بيته، مَعَ الأَمَنةِ مِن القتْل الذي يتخوَّف على غيره، فكأنَّهم كانوا مِن أهل بيت فرعون في الأمان والسَّعة، فكان على فرش فرعون وسُرره"؛ تفسير الطبري.
إنَّ كلَّ هذا الاهتمامِ بنقْل الأحاسيس بتلك الدِّقَّة، والتتابع لكلِّ حال من أحوال تلك المؤمِنة المبتلاة، يجعلنا نُدرك مدى احتفاء القرآن الكريم بالمرأة، بل بخلجات صدرِها، وخفقات فؤادها الرقراق، وعواطفها الجَيَّاشة، وتقويمه لها كيف أمسَتْ وكيف تغدو، ثم تصبح، يُكافئها الرحمنُ بفضْله ورحمته.
وتبليغنا بكلِّ هذا هو بمثابة إعلانٍ للبشرية لهذا الاهتمامِ الذي لا يُضاهيه نظيرٌ في الحياة الدنيا، وإنَّه لحرِيٌّ بكلِّ مؤمنة أن تطمئنَّ، فتقرَّ عينها ولا تحزن بعدَ سماع مِثْل هذه الآيات البيِّنات، ولتوقن بحقٍّ أنَّ لها ربًّا يعلم دقائق وتفاصيل الأمور، يستجيب لها إنْ دعتْه، ويحفظها إنْ هي حَفِظته.
وهو أيضًا دلالةٌ ظاهِرة على أنَّ العاطفة حينما تُوظَّف، فتتوجَّه لأوامِر الله - عزَّ وجلَّ - وأنَّ الهوى حينما يسير على مرادِ الله ينتج عنه بطولاتٌ فريدة.
ولو أسهبْنا الحديث عن نماذجَ أخرى لَمَا اكتفَيْنا، فتصوير القرآن الكريم لمشاعِر مريم - عليها السلام - حين قالت: ﴿ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 23]، ثم إنْطاق الله - عزَّ وجلَّ - لعيسي - عليه السلام - تطمينًا لها بقوله: ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ﴾ [مريم: 24]، إلى آخِر الآيات.
ومشاعِر التعجُّب والمفاجأة بالبُشرى في قول سارة زَوْج إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ﴿ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴾ [الذاريات: 29]، ثم مشاعِر النَّدم والذنب التي وجدْناها على وجهِ امرأة العزيز في قولها: ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ [يوسف: 51 - 52].
يقول ابن كثير: "تقول: إنَّما اعترفْتُ بهذا على نفسي؛ ذلك ليعلمَ زوْجي أنِّي لَم أخُنْه في نفس الأمر، ولا وقَع المحذور الأكبر، وإنَّما راودتُ هذا الشابَّ مراودة، فامتنع؛ فلهذا اعترفتُ ليعلمَ أني بريئة".
النقطة الثانية: توكيل أمْر المرأة بمَن يرْعاها، ويحمي شؤونها؛ حِرصًا عليها، هو حظٌّ اختُصَّتْ به المسلِمات:
فإسْناد القِوامة للرجل، وتكليفه بمهمَّة تُضاف لمهامِّه، وهي (رِعاية المرأة) ماديًّا ومعنويًّا، يُعدُّ تفضيلاً للمرأة، وتدليلاً لها ومنحها حقًّا خاصًّا، تفرَّد به الإسلام على مدَى التاريخ، فالتكليف في حدِّ ذاته هو مسؤولية عظيمة، نِيط بها الإنسان، وأمانة نأَى عن حمْلها السموات والأرض والجِبال، وأشفقْنَ منها؛ لذا فلا ضَيرَ مع عِظَم هذه الأمانة أن يُحاط حاملُها بجانب من الاحترام والتوقير؛ تخفيفًا عنه مشقَّة الحمْل، واعترافًا له بفضْله في حمْلها، وقد تفرَّد عن جميع مخلوقات الله - عزَّ وجلَّ - في ذلك، والتفاضُل بيْن الرجل والمرأة هو مِن تمام عدْله - عزَّ وجلَّ؛ يقول - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 32].
بل إنَّ التمنِّي من الجِنسين بما فضَّل الله به بعضَهم على بعضٍ يُورث البغي.
يقول الإمامُ الطبريُّ في تفسير الآية: "وذَكَر أنَّ ذلك نزل في نساءٍ تمنيْنَ منازلَ الرِّجال، وأن يكون لهن ما لهم، فنهَى الله عباده عن الأماني الباطلة، وأمرَهم أن يسألوه مِن فضْله؛ إذ كانت الأمانيُّ تُورِث أهلَها الحسدَ والبغي بغير الحقِّ، وفي قوله: ﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾، فإنَّ الرِّجال قالوا: "نريد أن يكونَ لنا من الأجْر الضِّعْفُ على أجْر النساء، كما لنا في السِّهام سهمان، فنُريد أن يكون لنا في الأجْر أجران، وقالت النساء: "نريد أن يكون لنا أجْرٌ مثْل أجر الرِّجال، فإنَّا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كُتِب علينا القِتالُ لقاتلْنا! فأنزل الله تعالى الآية، وقال لهم: سَلُوا اللهَ من فضْله، يرزقكم الأعمال، وهو خيرٌ لكم"؛ ا.هـ من تفسير الطبري.
فرغم أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قد منَح القِوامة للرجل، وأعْطاه قدراتٍ وميزاتٍ تُناسِب تكوينَه، إلا أنَّ هذه القُدراتِ قد جعلتْه في مناط التكليف، ممَّا حدَا به أن يُسأل ويُؤمر عمَّا أُسنِد إليه.
والألْفاظ التي أتَتْ تأمر الرجل تارةً، وتنذره تارةً في القرآن الكريم في تعامُله مع المرأة، تُفْصِح لنا عن مدَى حرْص الإسلام على المرأة، وعنايته بحقوقها، فقد عَرَضت السُّور (النساء والبقرة، والمائدة والنور، والأحزاب والمجادلة، والممتحنة والتحريم) آياتٍ تَصِف أحوالَ المرأة وشؤونها، ولكلِّ سورة من هذه السُّور جانبٌ أو جوانب عالجتْها، وهذه - بلا شك - عنايةٌ خاصَّة بالمرأة.
يقول د. محمد المدني: "وتلك عنايةٌ واضِحة من القرآن الكريم بشأن المرأة، واهتمام واستقصاء أحوالها في مختلف أطوارها، وفي جوانبِ حياتها، وحرْص على حمايتها، وبيان حقوقها على الرَّجُل، وحقوق الرجل عليها، ويَزيد في أمْرِ هذه العناية وهذا الاهتمام أنَّ حِكمةَ الله قضَتْ بأن تُسجَّل هذه الأحكامُ على وجهٍ فيه كثيرٌ من التفصيل والبيان في القرآن الكريم، وألاَّ يُكتفَى بتقريرها وتفصيلها في السُّنة، فإنَّ القرآن عادةً هو الذي يتكفَّل بما هو مِن قبيل الأصول الكُليَّة، وما يلتحق بها من الشؤون التي يَجِب أن تكونَ حاضرةً في الناس، متلوةً يذكرونها دائمًا ولا ينسونها، ولا يتفاوتون في درجةِ ثُبوتها، فتَبقى لديهم جميعًا متواترةً قاطعة"؛ ا.هـ؛ انظر: المجتمع المثالي كما تُنظِّمه سورةُ النساء ص: 22؛ د. محمَّد محمد المدني.
نظْرة تحليليَّة لغوية:
وبملاحظة بعضِ الآيات الكريمات التي تَعرِض قضايا المرأة، نستعرض لمحةً تحليليَّة سريعة لبعضها، وذلك في قوله تعالى:
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 231].
وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 232].
وقوله تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف ﴾ [البقرة: 233].
وقوله تعالى: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 236].
وقوله تعالى: ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 241].
وقوله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 228].
وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: 20 - 21].
وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ﴾ [الطلاق: 6].
حيث نجد أنَّ الآياتِ تتفاوت في سِياقها اللُّغوي ما بيْن الوعْظ والإرشاد إلى حدٍّ يصل إلى الإنذار، كما أنَّ معظم الآيات تبدأُ بأفْعال أمْرٍ أو نهي مِن الله تعالى إلى معاشِر الرِّجال، وهم محلُّ التكليف، القائمون على النِّساء، فنجد فِعْلَ الأمر في مثل ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾، ﴿ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾، ﴿ عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾، ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ ﴾، ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ ﴾، ﴿ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾، هذا في حقِّ المطلَّقات، ناهيكم عن حقِّ الزوجة.
﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾، وتلاحظون في الآية السابقة وما بها مِن تحميل عِبْء نفقة الولَد منذ كان جنينًا، ثم رضيعًا على الأب، وفيه أيضًا مِن نسبة المسؤولية إلى الأب وإلْصاقها به.
والنهي في قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾، ﴿ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾، ﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ﴾، ﴿ فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ﴾؛ أي: المهر، ﴿ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾.
والآيات أحيانًا تأتي وَعْظية إرْشادية؛ كقوله تعالى: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾، ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾، وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.
إلى أن تصِل اللهجةُ القرآنية أحيانًا إلى حدِّ الإنذار في قولِ الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾، وفي قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ﴾، وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾، وقوله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾.
وخِتام الآيات الكريمات في الغالِب تنتهي بالتذكير بعِلم الله - عزَّ وجلَّ - واطِّلاعه على ظواهر الأمور وبواطنها، أو أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - عزيزٌ حكيم، وأنَّه عليٌّ كبيرٌ فهو أعْلى مِن كل مخلوق وأكْبر، وأعزُّ وأحْكَم؛ ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾، وقوله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾.
ثانيًا: مكانة المرأة في السُّنة المطهَّرة نظريًّا:
ومِن الجانبِ النظري تظهر وصايا الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - للصحابة - رضي الله عنهم - بالنِّساء، حتى في أواخِر الوصايا التي وصَّى بها، وذلك في خُطبة الوداع.
والوصايا الأخيرة للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانت تحمِل - بلا شك - القضايا الكُبرى والأحكام الكليَّة، وتركِّز على أُسُس ومختصر الرِّسالة النبويَّة، فنجده - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول في خُطبة الوداع: ((استَوْصوا بالنِّساء خيرًا؛ فإنَّهن عندكم عوانٍ، ليس تملكون منهنَّ شيئًا غير ذلك))؛ صحيح سنن ابن ماجه للألباني (حسن).
فالنِّساء أسيراتٌ عندهم، والكريم مَن أكرم الأسير، وعمِل على شأنِه، فأصلحَه إن اعوَّج حتى يستسلمَ لله، واللئيم مَن أهان أسيرَه وهو ضعيفٌ تحت يدِه، لا حولَ له ولا قوَّة؛ ((ما أكرمَهُنَّ إلا كريم....)).
والأحاديث النبويَّة المنصِفة للمرأة المسلِمة أكثرُ مِن أن تُحصَى:
• فقدِ اعتبرَها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثاني الضعيفَيْن، فقال: ((اتَّقوا الله في الضعيفَيْن؛ اليتيم والمرأة))، ونرى الكثيرين يبحثون عن حقوقِ اليتيم، ويبنون له الدُّورَ والمؤسَّسات، ويقطعون له الأوقاف، ولكن أين مَن بحَث عن حقوق الضَّعيف الثاني، وهي المرأة؟!
• وبيَّن للرجل إمكانياتِها المتواضِعة، لا تدليلاً على عجْزِها ولا احتقارها، ولكن رِفقًا بحالها، وتِبيانًا لما تحتاجه معاملتها من كثيرِ العناية والخصوصية والحُنو: ((ما رأيتُ من ناقصاتِ عقْل ودِين أغلب لذِي لُبٍّ منكنَّ))؛ أخرَجه البخاريُّ ومسلم.
ثم إنَّ هذه إشارةٌ لطيفة أيضًا لكلِّ امرأةٍ كيف تُذهِب قلْبَ الشديدِ الحازم مِن الرجال، وذلك في طاعة الله - عزَّ وجلَّ - فطريقها ليس بالمناظَرة، ولكن بالاستعطاف واللِّين.
• ثم قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ المرأة كالضِّلع، إنْ ذهبتَ تُقيمها كسرْتَها، وإن تركتَها استمتعتَ بها على عِوَج))؛ تبيانًا لاختلاف الطبائع بيْن الرِّجال والنِّساء، وتوضيحًا بأنَّ المرأة بها جانبٌ من العوج، الذي قد يَظهر في المعاندة، أو الغَيْرة، وما شابه ذلك، فلا يُقابل العناد الأُنثوي بعناد ذُكوري صَلْد، بل تحتاج المرأةُ إلى معالجة لهذا العِوَج بالطريقة النبويَّة، وليستْ بالطريقة المادية النِّديَّة، والتي قد تؤدِّي إلى الكَسْر.
وهكذا ففي كلِّ حديث نمرُّ عليه، نلاحظ اهتمامًا نبويًّا جديدًا لِمَعْلَم من معالِم المرأة، وتوضيحًا لطبْع من طبائعها، وكأنَّ الأحاديث والنصائح النبويَّة أشبهُ بكُتيِّب تعريفي (كتالوج) للرجل عن سِماتها المختلفة عنه، والتي ينبغي أنْ تُؤخذَ على المحْمل الذي قِيل من أجْله، وهو النصيحة والتنبيه والدِّراسة، وليس على محْمل التنقيص والسُّخرية، فكم هي عددُ الكتب التي صِيغت في طبائع الأطفال مثلاً، وتبيان ضعْفهم، واختلافهم عن البالِغين الراشدين بقِلَّة عقولهم وخبراتهم، وميلهم إلى اللَّعِب، ولم نجد رشيدًا كاملَ الأهلية يسخَر من الطفل؛ لأنَّه طفل إلا أنْ يكون هو الطفل.
• بل يَكفي تدليلاً على مكانة المرأة عند النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما تعدَّى حدودَ المرأة المسلِمة إلى تقدير حتَّى نساء الأعداء، فعن عبدالله: "أنَّ امرأةً وُجِدتْ في بعض مغازي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقتولةً، فأنكر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قتْلَ النِّساء والصبيان"؛ أخرجه البخاريُّ ومسلِم.
كان هذا الجانب النظري، ونترك الجانبَ العملي في حديث لاحِق - إن شاء الله.
العديدُ من الآيات المنصِفات البيِّنات، والعديد من الأحاديث النبويَّة، والتي لا يتَّسع المقام لذِكْرها كاملةً، فنحن نذكر بعضَها من قبيل المثال لا الحصْر، لكنها تشِي بهذا التغيُّر الفاصل في العَلاقات الإنسانية في هذا العهْد المشرِق من تاريخ البشَر، على يدِ خاتم المرسَلين - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولئن كان عصْر النبوَّة هو الأكْمل على الإطلاق، فمِن حقِّنا أن نقول: إنَّ المرأة الصحابية كانتْ - ولا تزال - ميزانَ الاعتدال، والمحرِّك الرئيسي المجدِّد لحقوق المرأة في المجتمع ككلٍّ.
في المقال القادم - بإذن الله تعالى - نتناول عن قُرْب المرأة الصحابية، ودورها المحوري في المجتمع؛ حيث كانت هي المجدِّدةَ والمغيِّرة لوجه التاريخ الجاهِلي المظلِم.
المرأة المجددة (2)
(المرأة في الإسلام تجربة تاريخية جديدة)
رحاب بنت محمد حسان
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى