خلود
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
أميرةٌ لزمنٍ آخر.. من سلالة الناصر صلاح الدين الأيوبي محرِّر الأقصى وصاحب حطِّين..
كان لقاؤنا الأول منذ ما يقارب العشرين عاماً إلا قليلا.. تعرّفت عليها فإذا هي كالماء البارد على الظمأ طيبة ولطيفة وملتزمة وحكيمة وراقية.. وأكثر! حرصتُ على أخوّتها وتعمّقت معرفتنا حتى تجذّرت محبّتها في باطن القلب وسكنت الحنايا..
بعد خمس سنوات من تعارفنا تعرّضت لحادث سيرٍ خطير وتدهورت بها السيارة في وادٍ غير ذي زرع.. فكانت محنة تلتها محن.. لا زلت أذكر رقادها في المستشفى لأسابيع وكلنا إلى جانبها نودِّع دون قدرة على تصديق ما يحدث! ولكن الله جل وعلا شاء أن تعيش لتسجّل في موازين حسناتها ما يثقّله عند اللقاء.. وخرجت أميرتنا من محنتها تلك بحروق وكسور احتسبتها عند ربها جلّ وعلا.. وبقيت آثار تلك الحادثة على جسدها.. وكنت أتحسس مواضع الآثار على يديها آخر عهدي بها وأدعو لها بالأجر العظيم..
كانت قويةً بإيمانها فثبتت.. أصرّت على الحياة فرزقها الله جل وعلا إياها من جديد.. قويَت بعقيدتها وحبها لمن حولها واستمدّت من حنان محبّيها القدرة على الثبات والرغبة في البقاء.. وخرجت جومانة من الأزمة صابرة محتسبة راضية.. وبعدها بسنوات زففناها عروساً لزوجٍ طيب.. ورقصت قلوبنا طرباً وفرحاً في عرس الأميرة.. وعاشت العروس سنوات قليلة قبل أن تعود يد القدر لتخطّ سلسلة ابتلاءاتٍ جديدة..
لم يكن هذه المرة حادثاً.. وإنما مرضٌ عضال اقتات من جسدها فلم يبقِ ولم يذر.. وهو مأمورٌ.. ونحن راضون بالقضاءِ والقدر.. وبات يتنقل من زاوية إلى أُخرى في باطنها دون إذنٍ أو راحة.. وهي تأبى أن تخبر الناس حتى لا يصيبهم همّ وغمّ.. أرادت أن يعيش مَن حولها حياتهم دون زوبعة تحزنهم.. ليُفاجأ الكثيرون في السنة الأخيرة الماضية حين تكررت زياراتها للمستشفى بشكلٍ ملفِت أنها تعاني من مرض سيحصد شبابها ويخطف بسمة من أحبّها بصدق!
شُغِلتُ في فترة ما عن علاقتنا بهمومٍ وأعباء ومسؤوليات وأحلام.. ولكنها أبَت إلا أن تشاركني بعض وقتها فأرسلت لي تطلبني في إحدى جولات مكوثها في المستشفى للعلاج الكيمائي.. كنت في العمرة يومها وحين أُخبِرت غصصتُ بريقي وشعرت بمدى تقصيري تجاهها.. ومنذ ذلك الحين ووجهها لا يفارقني!
وزرتها.. وفي كل مرة كنت أحاول أن أُخفي لوعتي بأخبار ومواقف تضحكها وتُنسيها بعض ما هي فيه.. ودائماً ما كنت أستشعر مدى يقينها بالله جل وعلا وثباتها ورضاها بما هي فيه.. ولا أذكر أنها شكت لي ألماً أو تذمرت من أي ابتلاء ويشهد الله جل وعلا أنها كانت صابرة محتسبة في كل أمورها..
والمرة الوحيدة التي شكت لي فيها ما تجد كانت لعدم قدرتها على الصلاة إلا أن يكون أحد إلى جانبها وكان قد غزا ذلك “المأمور” دماغها ليغيّبها بعض وقتٍ قبل أن تعود..
سهرتُ معها في المستشفى في أيامها الأخيرة حيث ترددت كثيراً إلى مستشفىً قريب من بيتي.. فكنا نتجاذب أطراف الحديث ونتسامر.. وكنت أُخفي في كل مرة حرقتي وأبتلع غصتي وأنا أعلم أنني سأفارقها عن قريب..
كانت ما تلبث أن تخرج من المستشفى لتعود.. حتى كان دخولها الأخير لتخرج من أسبوعٍ لآخر مرة وقد ألقت عن كاهلها عناء التعب والمرض والألم!
قبل يومٍ من نهاية الصراع مع المرض كان تنفسها صعباً للغاية وكان المورفين قد غيّبها عنا فلم تكن ترانا.. حتى إذا ما انتهى مفعوله فتحت عينيها الذابلتين وجاهدت لنطق الشهادة فكان آخر كلامها.. لا إله إلا الله!
في كل مرة كنت أزورها في المستشفى أيامها الأخيرة كان أكثر من يحرقني أمها وهي ترى الموت يخطف كُبرى بناتها وأول العنقود.. حتى إذا ما أعلنوا وفاتها سكنها حزنٌ عارم وصبر عميق فكانت تتمتم كل حين عبارات طلب الرحمة والرضا والمغفرة لتوأم روحها..
حملوا جثمان أميرتنا في الإسعاف وسِرنا وراءها خطاً طويلاً وكأننا في موكب عروسٍ تُزفّ إلى السماء.. فقد ماتت مسلمة مؤمنة راضية محتسبة مبطونة.. نحسبها على خير ونرجو لها الرحمة والله تعالى أكرم..
وصلنا البيت وكان مليئاً بالنساء اللواتي أتين لوداع الأميرة.. وحين علا صوت بعضهنّ صرخ أخوها بهنّ وطلب الالتزام بالشريعة وعدم إعلاء الأصوات لئلا تتأذّى جومانة وتهرب الملائكة! ومرّت الدقائق ثقيلة وهي مجثاة دون حراك.. ثم غُسِّلَت وكُفِّنَت وودعناها إلى مثواها الأخير..
أحرقتني دموع أمها وهدّأني ثباتهم جميعاً بفضل ربي جل وعلا.. كانت الصابرة تردّد: هي وديعة استودعها ربنا جل وعلا عندنا واليوم أخذها فله ما أخذ وله ما أعطى ونحن راضون بحكمه وقدره..
أقبع في مكاني أحدّق في الأرض.. أحوقل وأسبّح وأصلي على الحبيب عليه أزكى الصلاة والسلام.. وأحياناً أعود بالذكرى إلى مواقف جمعتني بالحبيبة ونقاشاتنا الطويلة وضحكاتنا الجميلة ووشوشاتنا الهادئة.. كل ذلك قد غاب وانتهى!..
واجتاحتني في لحظاتٍ أفكار شتى.. تغلغل تفكيري في معاني الموت والحساب.. وشردتُ في هذه الدنيا الفانية وزخرفها.. وهي ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلّما.. ثم لا زلنا نتشبّث بها ونعضّ عليها بالنواجذ كي لا تتفلت منا في حين أنها دار مرور وابتلاء والموت نهاية المطاف! فيا سعدى من أحسن واتقى وتزوّد ليوم الحساب!
وقفتُ البارحة على ضريحها أحاول أن أستوعب أن أختي القريبة أصبحت دونه.. وأنها لم تعد تمشي على الأرض وإنما أصبحت تحتها وفرشها التراب! ارتقت إلى ربها جل وعلا بعد أن عانت سنوات مع المرض وإني لأرجو الله تعالى أن يرفع بما قاست درجتها في عليين.. وبكيت.. فراقها.. وقلة زادي.. وتساءلت.. متى سيقف من أحبني ليتساءل وأكون تحت التراب؟! أيا تُرى سأقضي تائبة مؤمنة أم ستعفِّر قلبي الفتن؟! اللهم توفني مؤمنة وألحقني بالصالحين!
إنّ العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنّا على فراقك يا جومانة لمحزونون.. ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا جلّ وعلا.. حسبنا الله ونِعم الوكيل وإنّا لله وإنّا إليه راجعون..
وصبراً آل أبي عمار.. أسأل الله جل وعلا أن تكونوا ممن يدخل عليكم الملائكة من كل باب ويُقال لهم: “سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ”.. وملتقانا في جنان الخلد إن.. قُبِلَت منا صلاةٌ وطاعات وأذكارُ!
وَخَبا وهج الجُمان..
أ.سحر المصري
كان لقاؤنا الأول منذ ما يقارب العشرين عاماً إلا قليلا.. تعرّفت عليها فإذا هي كالماء البارد على الظمأ طيبة ولطيفة وملتزمة وحكيمة وراقية.. وأكثر! حرصتُ على أخوّتها وتعمّقت معرفتنا حتى تجذّرت محبّتها في باطن القلب وسكنت الحنايا..
بعد خمس سنوات من تعارفنا تعرّضت لحادث سيرٍ خطير وتدهورت بها السيارة في وادٍ غير ذي زرع.. فكانت محنة تلتها محن.. لا زلت أذكر رقادها في المستشفى لأسابيع وكلنا إلى جانبها نودِّع دون قدرة على تصديق ما يحدث! ولكن الله جل وعلا شاء أن تعيش لتسجّل في موازين حسناتها ما يثقّله عند اللقاء.. وخرجت أميرتنا من محنتها تلك بحروق وكسور احتسبتها عند ربها جلّ وعلا.. وبقيت آثار تلك الحادثة على جسدها.. وكنت أتحسس مواضع الآثار على يديها آخر عهدي بها وأدعو لها بالأجر العظيم..
كانت قويةً بإيمانها فثبتت.. أصرّت على الحياة فرزقها الله جل وعلا إياها من جديد.. قويَت بعقيدتها وحبها لمن حولها واستمدّت من حنان محبّيها القدرة على الثبات والرغبة في البقاء.. وخرجت جومانة من الأزمة صابرة محتسبة راضية.. وبعدها بسنوات زففناها عروساً لزوجٍ طيب.. ورقصت قلوبنا طرباً وفرحاً في عرس الأميرة.. وعاشت العروس سنوات قليلة قبل أن تعود يد القدر لتخطّ سلسلة ابتلاءاتٍ جديدة..
لم يكن هذه المرة حادثاً.. وإنما مرضٌ عضال اقتات من جسدها فلم يبقِ ولم يذر.. وهو مأمورٌ.. ونحن راضون بالقضاءِ والقدر.. وبات يتنقل من زاوية إلى أُخرى في باطنها دون إذنٍ أو راحة.. وهي تأبى أن تخبر الناس حتى لا يصيبهم همّ وغمّ.. أرادت أن يعيش مَن حولها حياتهم دون زوبعة تحزنهم.. ليُفاجأ الكثيرون في السنة الأخيرة الماضية حين تكررت زياراتها للمستشفى بشكلٍ ملفِت أنها تعاني من مرض سيحصد شبابها ويخطف بسمة من أحبّها بصدق!
شُغِلتُ في فترة ما عن علاقتنا بهمومٍ وأعباء ومسؤوليات وأحلام.. ولكنها أبَت إلا أن تشاركني بعض وقتها فأرسلت لي تطلبني في إحدى جولات مكوثها في المستشفى للعلاج الكيمائي.. كنت في العمرة يومها وحين أُخبِرت غصصتُ بريقي وشعرت بمدى تقصيري تجاهها.. ومنذ ذلك الحين ووجهها لا يفارقني!
وزرتها.. وفي كل مرة كنت أحاول أن أُخفي لوعتي بأخبار ومواقف تضحكها وتُنسيها بعض ما هي فيه.. ودائماً ما كنت أستشعر مدى يقينها بالله جل وعلا وثباتها ورضاها بما هي فيه.. ولا أذكر أنها شكت لي ألماً أو تذمرت من أي ابتلاء ويشهد الله جل وعلا أنها كانت صابرة محتسبة في كل أمورها..
والمرة الوحيدة التي شكت لي فيها ما تجد كانت لعدم قدرتها على الصلاة إلا أن يكون أحد إلى جانبها وكان قد غزا ذلك “المأمور” دماغها ليغيّبها بعض وقتٍ قبل أن تعود..
سهرتُ معها في المستشفى في أيامها الأخيرة حيث ترددت كثيراً إلى مستشفىً قريب من بيتي.. فكنا نتجاذب أطراف الحديث ونتسامر.. وكنت أُخفي في كل مرة حرقتي وأبتلع غصتي وأنا أعلم أنني سأفارقها عن قريب..
كانت ما تلبث أن تخرج من المستشفى لتعود.. حتى كان دخولها الأخير لتخرج من أسبوعٍ لآخر مرة وقد ألقت عن كاهلها عناء التعب والمرض والألم!
قبل يومٍ من نهاية الصراع مع المرض كان تنفسها صعباً للغاية وكان المورفين قد غيّبها عنا فلم تكن ترانا.. حتى إذا ما انتهى مفعوله فتحت عينيها الذابلتين وجاهدت لنطق الشهادة فكان آخر كلامها.. لا إله إلا الله!
في كل مرة كنت أزورها في المستشفى أيامها الأخيرة كان أكثر من يحرقني أمها وهي ترى الموت يخطف كُبرى بناتها وأول العنقود.. حتى إذا ما أعلنوا وفاتها سكنها حزنٌ عارم وصبر عميق فكانت تتمتم كل حين عبارات طلب الرحمة والرضا والمغفرة لتوأم روحها..
حملوا جثمان أميرتنا في الإسعاف وسِرنا وراءها خطاً طويلاً وكأننا في موكب عروسٍ تُزفّ إلى السماء.. فقد ماتت مسلمة مؤمنة راضية محتسبة مبطونة.. نحسبها على خير ونرجو لها الرحمة والله تعالى أكرم..
وصلنا البيت وكان مليئاً بالنساء اللواتي أتين لوداع الأميرة.. وحين علا صوت بعضهنّ صرخ أخوها بهنّ وطلب الالتزام بالشريعة وعدم إعلاء الأصوات لئلا تتأذّى جومانة وتهرب الملائكة! ومرّت الدقائق ثقيلة وهي مجثاة دون حراك.. ثم غُسِّلَت وكُفِّنَت وودعناها إلى مثواها الأخير..
أحرقتني دموع أمها وهدّأني ثباتهم جميعاً بفضل ربي جل وعلا.. كانت الصابرة تردّد: هي وديعة استودعها ربنا جل وعلا عندنا واليوم أخذها فله ما أخذ وله ما أعطى ونحن راضون بحكمه وقدره..
أقبع في مكاني أحدّق في الأرض.. أحوقل وأسبّح وأصلي على الحبيب عليه أزكى الصلاة والسلام.. وأحياناً أعود بالذكرى إلى مواقف جمعتني بالحبيبة ونقاشاتنا الطويلة وضحكاتنا الجميلة ووشوشاتنا الهادئة.. كل ذلك قد غاب وانتهى!..
واجتاحتني في لحظاتٍ أفكار شتى.. تغلغل تفكيري في معاني الموت والحساب.. وشردتُ في هذه الدنيا الفانية وزخرفها.. وهي ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلّما.. ثم لا زلنا نتشبّث بها ونعضّ عليها بالنواجذ كي لا تتفلت منا في حين أنها دار مرور وابتلاء والموت نهاية المطاف! فيا سعدى من أحسن واتقى وتزوّد ليوم الحساب!
وقفتُ البارحة على ضريحها أحاول أن أستوعب أن أختي القريبة أصبحت دونه.. وأنها لم تعد تمشي على الأرض وإنما أصبحت تحتها وفرشها التراب! ارتقت إلى ربها جل وعلا بعد أن عانت سنوات مع المرض وإني لأرجو الله تعالى أن يرفع بما قاست درجتها في عليين.. وبكيت.. فراقها.. وقلة زادي.. وتساءلت.. متى سيقف من أحبني ليتساءل وأكون تحت التراب؟! أيا تُرى سأقضي تائبة مؤمنة أم ستعفِّر قلبي الفتن؟! اللهم توفني مؤمنة وألحقني بالصالحين!
إنّ العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنّا على فراقك يا جومانة لمحزونون.. ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا جلّ وعلا.. حسبنا الله ونِعم الوكيل وإنّا لله وإنّا إليه راجعون..
وصبراً آل أبي عمار.. أسأل الله جل وعلا أن تكونوا ممن يدخل عليكم الملائكة من كل باب ويُقال لهم: “سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ”.. وملتقانا في جنان الخلد إن.. قُبِلَت منا صلاةٌ وطاعات وأذكارُ!
وَخَبا وهج الجُمان..
أ.سحر المصري
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى