خلود
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
كم هو صعبٌ أن ينحت الآباء في الصخر ليربّوا أبناءهم كما يحبّون فيودِعُهُم الأبناء حين ينبت ريشهم دُوراً أسموها “دور رعاية” ولكنها باردة من العواطف والحنان وكان حرياً بهم أن يطلقوا عليها اسم “دور انتظار الموت”!
انتشرت في الآونة الأخيرة دُور الرعاية للمسنّين بشكل مُلفِت.. ولا شك أن لهذه الظاهرة أسباب كثيرة قد يكون أهمها وأوّلها عدم وجود مَن يُعيل هؤلاء المسنّين.. وفي ظل غياب الرعاية عند الأهل أو الأقارب تصبح الحاجة إلى هذه الدور ماسّة لأنها تؤمّن المأوى والحاجات الأساسية والدعم النفسي لمَن ينتظر نهاية العمر..
ففي بعض الحالات يفقد المسِنّ أهله وكل من حوله فيبقى وحيداً.. كأن تفقد المرأة أهلها أو زوجها ولا يكون لها أولاد يعيلونها فتضطر إلى دخول دار للرعاية لتعيش بقيّة أيامها “بكرامة”..
وفي حالاتٍ أُخرى يلجأ الأهل أو الأقارب إلى وضع المسِنّ في دور الرعاية إن بسبب عدم مقدرتهم تحمّل إعالته مادياً بسبب الفقر أو صحياً كأن يكون مريضاً وبحاجة إلى رعاية صحيّة خاصة وأهله لا يستطيعون متابعته فيكون مصيره الدار..
أو ربما يلجأون إلى الدار بسبب ضيق صدرهم منه فلا الكنّة تستحمل حماتها فهي ليست مضطرة أن تكون ممرّضة لها!! ولا الرجل يستطيع أن يخالف رغبة زوجته في عدم خدمة أمّه أو أبيه.. وحين يُخيّر بينها وبين أحد والِدَيْه تكون النتيجة اختيار الزوجة – وكذلك الحال بالنسبة للإبنة التي تختار زوجها وعائلتها على أهلها - ويكون الحل هو إلقاء هذا المُسِنّ في دار بعيد وقد تمضي الأيام ولا يسأل عنه أحد حتى إذا ما أتت الأهل ورقة النعي تعجّبوا أنّ قريبهم هذا – وقد يكون أحد الوالِدَين – ما زال على قيد الحياة ولم يفارقها إلا للتو!
والكل يعرف أن العجوز يكثر كلامه وأمراضه واعتراضه على أبسط الأمور ويكثر تعصيبه من أمور ربما لا تكون تستحق هذا السخط ويصبح أكثر حساسية من ذي قبل وأيّ كلمة تؤثّر فيه.. وأغلب العجزة يصبحون كالأطفال بحاجة إلى كلمة جميلة ولمسة حنان وجلسة ودّ وكل هذا لا يستطيع مجاراتهم فيه إلا من ملك قلباً وسِع الله جل وعلا فوسِع عياله! ولذلك بعد أول مشكلة بين الزوج والزوجة – إن كانوا لا يتقون الله جل وعلا ولا يفكرون إلا في مصلحتهم الدنيويّة – يكون مصير الأهل ذلك الدار “البارد”!
مأساةٌ حقيقيّة تعانيها مجتمعاتنا العربية للأسف.. ففي حين هذا يكثر عند الغرب بسبب التفسخ الاجتماعي وتفتّت العُرى العائليّة هناك إلاّ أنّ هذا يبدو وضعاً غريباً في مجتمع شرقيّ يتميّز بقوة العلاقات الاجتماعية فيه وخاصة الروابط العائلية.. ومَن يدين بالإسلام في هذه المجتمعات المفترض أن يدرك أهمية وقدسيّة العلاقة بين الولد والأهل بصورة خاصة وبين ذوي الأرحام بصورة أعَم..
وفي حقيقة الأمر فإنّ على الأهل مسؤوليّة في مآلهم وذلك بسبب تقصيرهم في تربية أبنائهم على الدِّين ما أدّى إلى وجودهم في دور المسنّين مع أن أولادهم ما زالوا على قيد الحياة وبإمكانهم إعالتهم!.. وفي الأمر بعضُ تفصيل..
بداية هناك مثلٌ معروف نردّده دائماً: “كما تدين تُدان” فليتبيّن هذا الأب أو هذه الأمّ إن كان باراً بوالِديه حين كانوا على قيد الحياة.. فإن برّا أهلهم فسيأتي أبناؤهم بدورهم ليبرّوهم.. وإن قصّروا وتغاضوا عن أهلهم فلا يلوموا إلا أنفسهم حين يأتي الدور عليهم.. وفي هذا السياق كلام للحبيب عليه الصلاة والسلام إذ قال في الحديث الذي رواه الترمذي: “ما أكرم شاب شيخاً لسنّه إلا قيّض الله له من يكرمه عند سنّه”..
ولذلك يجب على الأهل أن يربّوا أولادهم – بالقدوة – على برّ الوالِدين لينشأ الأولاد وهم يرون تعلّق آبائهم وأمّهاتهم بمَن كانوا سبباً في وجودهم فتتأصّل هذه المعاني في أنفسهم وتصبح مَلَكة متمكِّنة في شخصياتهم ويُحسِنوا بدَوْرِهم إلى أهلهم..
وتربية الأولاد على الدِّين والالتزام بالشرع الحنيف دفعة إضافيّة لبرّ الأهل عند الكِبَر.. فحين ينشأ الأولاد على تقوى الله جل وعلا والآيات العظيمة التي تُظهِر مدى أهميّة برِّ الوالِدين وكذا الأحاديث النبوية الشريفة التي تشدّد على برّهما فحينها لا بد أن يُثمِر هذا الغرس أولاداً بارّين مرضيّين..
يقول الله جل وعلا “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” ويقول عز من قائل: “أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ” وفي آية أُخرى “إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا”.. فالإحسان إلى الوالِدين والشكر لهما يجب أن يكون في كِبَرهما أعظم وهو عرفان بالجميل الذي أنعماه على أولادهم وتضحياتهم في سبيل تربيتهم وخدمتهم ولو على حساب أنفسهم وراحتهم.. ويحرص القرآن الكريم على توجيه الأولاد في كيفيّة معاملة الولِدَين خاصة حين يغزو الشيب المفارق ويصبحوا ضعفاء.. عاجزين – ربما – عن خدمة أنفسهم بأنفسهم.. فحتى كلمة أفٍّ ينهاهم الله جل وعلا عنها فكيف بوضعهم في دار للمسنّين وتركهم هناك دون حتى سؤال.. إنّ العجوز وإن تقدّم به العمر لِيصبح “عالة” على مَن أنبته يوماً إلاّ أنه لا يزال في قلبه مشاعر قد تخنقه حين يرى عدم اكتراث أولاده به وإهمالهم له وإعراضهم عنه..
وليتذكّر هؤلاء الأبناء أنّ برّهم لآبائهم وأمّهاتهم هو أعظم سبب لدخول الجنّة ورضى الرحمن جلّ وعلا حتى لو كانوا كافرَين!!.. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: “رَغِمَ أنف، ثم رَغِمَ أنف، ثم رَغِمَ أنف”، قيل: من يا رسول الله؟ قال: “مَن أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة”. وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أي العمل أحبّ إلى الله؟ قال: “الصلاة على وقتها”، قال: ثم أيّ؟ قال: “برّ الوالدين”، قال: ثم أيّ؟ قال: “الجهاد في سبيل الله”.. كما وأن عقوق الوالدَين سبب في دخول النار فقد جاء في صحيح البخاري أن الحبيب عليه الصلاة والسلام قال: “أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ” ووالله إنّ مجرد دعاءهم لأبنائهم ووجودهم في كنفهم حتى لو كانوا عاجزين كلياً لهو بركة وخير ورضاهم يفتح أبواب السماء لتنهمر بالخيرات.. لو يَعون! وفي قصة أويس بن عامر خير دليل على فضل بر الوالدين وخاصة الأمّ.. فقد روى مسلم في صحيحه: كان عمر- رضي الله عنه- إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟! حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم.. قال: مِن مراد؟ قال: نعم، قال: كان بك برَص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم.. قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: “يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به أثرُ برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بارٌّ بها، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل” فاستغفر لي، فاستغفرَ له.
ولقد ” أقرت الحكومة الجزائرية مشروع قانون لحماية الأشخاص المسنين، يَنُصّ على معاقبة مَن يطرد والديه، ويتهاون في التكفّل بهما، بأحكام بالسجن قد تصل إلى 10 سنوات، إلى جانب غرامات مالية كبيرة قد تصل إلى ثمانين ألف دولار.” فهل سننتظر أن يخشى الابن من الدولة ليبرّ أهله ويرحمهم أم يجب أن ينبع هذا الأمر من إيمانه وعقيدته ومحبته لهم!؟
ومن الناحية الشرعيّة فقد سئل في الشبكة الإسلامية عن فتوى لهذا الأمر وكانت المسألة: “ما هو حكم وضع الوالدين في دور المسنين؟” فكانت الإجابة هي الآتية: “لا يجوز وضع الوالدين أو أحدهما في دور المسنين إلا إذا كان هذا برضاه وإذنه ورغبته، وبشرط أن لا يكون هذا الإذن بسبب الاضطرار من سوء معاملة الابن مثلا، فإن إذنه عندئذ لا يجدي شيئا. ولكن يكون ذلك بعذر يقبله الوالد كأن يكون الابن مضطرا للسفر، ولا يستطيع أن يترك والديه أو أحدهما بلا راع ولا من يقوم بشئونه، وهو يعلم أن والده لا يغضب لذلك، فيستأذنه فيأذن له، مع التأكد من أن الدار التي ستستضيفه ستقوم بخدمته ورعايته على وجه لائق.“
ولا شك أن وضع هؤلاء المسنّين مهما كانت الأسباب التي يتّخذها الأولاد ذريعة لرميهم في دور المسنّين بالنسبة لهم جوهريّة إلا أنها واهية عند رب العالمين جل وعلا الذي أمر بالبرّ والتقوى.. وما هذا الحال إلا نتيجة للحياة العصريّة الماديّة البعيدة عن الشرع الرباني..
مجموعة من الحجج يُبرِّرون بها لأنفسهم تقاعسهم عن احتواء المسنّين: خروج أصحاب الدار لساعات طويلة للعمل والدراسة أو سفرهم لأيام طويلة للاستجمام أو عدم القدرة على مراعاة المسِنّ هي مجرّد حجج – أو أنّ الدار يعتني بهذا المسِنّ بشكل أفضل! - كل هذه أسباب ظاهرها فيه العذر وباطنها جحود عظيم.. فالسبب الحقيقي لهذا الفِعل المشين هو البُعد عن الله جل وعلا وضعف الترابط الأُسري والأنانية.. إلا في الحالات النادرة والتي جاءت في الفتوى وهي قليلة جداً ومحصورة ومقيّدة وما دون ذلك فأوهام وتبريرات ويبقى الله جل وعلا هو الذي يعلم ما تُخفي الصدور ويعلم مَن هو صادق ومَن يدّعي..
ولو أنّه في بعض الأحيان البُعد عن الأهل الذين يسيئون معاملة هؤلاء العجائز ويحتقرونهم ويهملونهم ولا يراعونهم كما يجب يكون أفضل من البقاء بينهم ليتحمّل العجوز الضغط النفسي العميق جراء هذه الممارسات المؤلمة!
وهذه بعض الخطوات التي تحقِّق بعض الأمل في الحدّ من هذه الظاهرة أو في تحسين وضع هؤلاء المسنّين في تلك الدور..
- مساعدة الدولة للعائلات الفقيرة لتتكفّل بمسنِّيها
- زرع الوازع الديني في الأطفال والأولاد في البيت والمدارس
- زيارات ميدانيّة لدور العجزة تشمل الطلاب في كافة المراحل الدراسيّة للنصح واستشعار المشكلة عند العجزة وخاصة للشباب لنقاشهم ولأخذ العِبَر من هؤلاء المسنين فحياتهم غنية بالتجارب التي يمكن الاستفادة منها
- مخاطبة الدعاة وأئمّة المساجد للناس والتركيز على موضوع برّ الوالدين ونشر ثقافة قصص الصحابة كعلقمة الذي كان يؤثِر زوجته على أمه فلم يستطع النطق بالشهادة عند الموت وغيره من القصص المعبِّرة ذات الأثر..
- تنظيم حملات للجمعيات الأهلية من أجل شراء الهدايا للمسنّين ومحاولة إشعارهم بالحنان والحب وقضاء نهار كامل معهم
- محاولة السلطات متابعة هذه الدور وجعل المسنّين ينخرطون في المجتمع ليشعروا أنهم ما زالوا على قيد الحياة
- حث الخيِّرين على إنشاء نوادي ترفيهيّة للمسنّين وإشغالهم بالنشاطات لإخراجهم من العزلة النفسية التي يعانون منها وخاصة أولئك الذين يعانون من الاكتئاب
- اهتمام الحقوقيين بمسألة حثَ الدولة على سَنّ قوانين تحمي بموجبها المسنّين وحقوقهم وضمان عيشتهم الكريمة في عمر الشيخوخة من النواحي الصحيّة والاجتماعيّة والنفسيّة والماديّة
- حثّ الإعلاميين على طرح حملات في الصحف والفضائيات تتناول مشاكل وهموم وحاجات المسنّين للفت النظر إلى هذه القضية الشائكة
- تركيز الجميع على إرساء قواعد ثابتة للأسرة المسلمة للحفاظ على هذه الروابط الراقية في التعامل فيما بين أفرادها وأساسها: الرحمة!
..
دُوْرُ انتظار الموت..
أ.سحر المصري
انتشرت في الآونة الأخيرة دُور الرعاية للمسنّين بشكل مُلفِت.. ولا شك أن لهذه الظاهرة أسباب كثيرة قد يكون أهمها وأوّلها عدم وجود مَن يُعيل هؤلاء المسنّين.. وفي ظل غياب الرعاية عند الأهل أو الأقارب تصبح الحاجة إلى هذه الدور ماسّة لأنها تؤمّن المأوى والحاجات الأساسية والدعم النفسي لمَن ينتظر نهاية العمر..
ففي بعض الحالات يفقد المسِنّ أهله وكل من حوله فيبقى وحيداً.. كأن تفقد المرأة أهلها أو زوجها ولا يكون لها أولاد يعيلونها فتضطر إلى دخول دار للرعاية لتعيش بقيّة أيامها “بكرامة”..
وفي حالاتٍ أُخرى يلجأ الأهل أو الأقارب إلى وضع المسِنّ في دور الرعاية إن بسبب عدم مقدرتهم تحمّل إعالته مادياً بسبب الفقر أو صحياً كأن يكون مريضاً وبحاجة إلى رعاية صحيّة خاصة وأهله لا يستطيعون متابعته فيكون مصيره الدار..
أو ربما يلجأون إلى الدار بسبب ضيق صدرهم منه فلا الكنّة تستحمل حماتها فهي ليست مضطرة أن تكون ممرّضة لها!! ولا الرجل يستطيع أن يخالف رغبة زوجته في عدم خدمة أمّه أو أبيه.. وحين يُخيّر بينها وبين أحد والِدَيْه تكون النتيجة اختيار الزوجة – وكذلك الحال بالنسبة للإبنة التي تختار زوجها وعائلتها على أهلها - ويكون الحل هو إلقاء هذا المُسِنّ في دار بعيد وقد تمضي الأيام ولا يسأل عنه أحد حتى إذا ما أتت الأهل ورقة النعي تعجّبوا أنّ قريبهم هذا – وقد يكون أحد الوالِدَين – ما زال على قيد الحياة ولم يفارقها إلا للتو!
والكل يعرف أن العجوز يكثر كلامه وأمراضه واعتراضه على أبسط الأمور ويكثر تعصيبه من أمور ربما لا تكون تستحق هذا السخط ويصبح أكثر حساسية من ذي قبل وأيّ كلمة تؤثّر فيه.. وأغلب العجزة يصبحون كالأطفال بحاجة إلى كلمة جميلة ولمسة حنان وجلسة ودّ وكل هذا لا يستطيع مجاراتهم فيه إلا من ملك قلباً وسِع الله جل وعلا فوسِع عياله! ولذلك بعد أول مشكلة بين الزوج والزوجة – إن كانوا لا يتقون الله جل وعلا ولا يفكرون إلا في مصلحتهم الدنيويّة – يكون مصير الأهل ذلك الدار “البارد”!
مأساةٌ حقيقيّة تعانيها مجتمعاتنا العربية للأسف.. ففي حين هذا يكثر عند الغرب بسبب التفسخ الاجتماعي وتفتّت العُرى العائليّة هناك إلاّ أنّ هذا يبدو وضعاً غريباً في مجتمع شرقيّ يتميّز بقوة العلاقات الاجتماعية فيه وخاصة الروابط العائلية.. ومَن يدين بالإسلام في هذه المجتمعات المفترض أن يدرك أهمية وقدسيّة العلاقة بين الولد والأهل بصورة خاصة وبين ذوي الأرحام بصورة أعَم..
وفي حقيقة الأمر فإنّ على الأهل مسؤوليّة في مآلهم وذلك بسبب تقصيرهم في تربية أبنائهم على الدِّين ما أدّى إلى وجودهم في دور المسنّين مع أن أولادهم ما زالوا على قيد الحياة وبإمكانهم إعالتهم!.. وفي الأمر بعضُ تفصيل..
بداية هناك مثلٌ معروف نردّده دائماً: “كما تدين تُدان” فليتبيّن هذا الأب أو هذه الأمّ إن كان باراً بوالِديه حين كانوا على قيد الحياة.. فإن برّا أهلهم فسيأتي أبناؤهم بدورهم ليبرّوهم.. وإن قصّروا وتغاضوا عن أهلهم فلا يلوموا إلا أنفسهم حين يأتي الدور عليهم.. وفي هذا السياق كلام للحبيب عليه الصلاة والسلام إذ قال في الحديث الذي رواه الترمذي: “ما أكرم شاب شيخاً لسنّه إلا قيّض الله له من يكرمه عند سنّه”..
ولذلك يجب على الأهل أن يربّوا أولادهم – بالقدوة – على برّ الوالِدين لينشأ الأولاد وهم يرون تعلّق آبائهم وأمّهاتهم بمَن كانوا سبباً في وجودهم فتتأصّل هذه المعاني في أنفسهم وتصبح مَلَكة متمكِّنة في شخصياتهم ويُحسِنوا بدَوْرِهم إلى أهلهم..
وتربية الأولاد على الدِّين والالتزام بالشرع الحنيف دفعة إضافيّة لبرّ الأهل عند الكِبَر.. فحين ينشأ الأولاد على تقوى الله جل وعلا والآيات العظيمة التي تُظهِر مدى أهميّة برِّ الوالِدين وكذا الأحاديث النبوية الشريفة التي تشدّد على برّهما فحينها لا بد أن يُثمِر هذا الغرس أولاداً بارّين مرضيّين..
يقول الله جل وعلا “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” ويقول عز من قائل: “أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ” وفي آية أُخرى “إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا”.. فالإحسان إلى الوالِدين والشكر لهما يجب أن يكون في كِبَرهما أعظم وهو عرفان بالجميل الذي أنعماه على أولادهم وتضحياتهم في سبيل تربيتهم وخدمتهم ولو على حساب أنفسهم وراحتهم.. ويحرص القرآن الكريم على توجيه الأولاد في كيفيّة معاملة الولِدَين خاصة حين يغزو الشيب المفارق ويصبحوا ضعفاء.. عاجزين – ربما – عن خدمة أنفسهم بأنفسهم.. فحتى كلمة أفٍّ ينهاهم الله جل وعلا عنها فكيف بوضعهم في دار للمسنّين وتركهم هناك دون حتى سؤال.. إنّ العجوز وإن تقدّم به العمر لِيصبح “عالة” على مَن أنبته يوماً إلاّ أنه لا يزال في قلبه مشاعر قد تخنقه حين يرى عدم اكتراث أولاده به وإهمالهم له وإعراضهم عنه..
وليتذكّر هؤلاء الأبناء أنّ برّهم لآبائهم وأمّهاتهم هو أعظم سبب لدخول الجنّة ورضى الرحمن جلّ وعلا حتى لو كانوا كافرَين!!.. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: “رَغِمَ أنف، ثم رَغِمَ أنف، ثم رَغِمَ أنف”، قيل: من يا رسول الله؟ قال: “مَن أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة”. وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أي العمل أحبّ إلى الله؟ قال: “الصلاة على وقتها”، قال: ثم أيّ؟ قال: “برّ الوالدين”، قال: ثم أيّ؟ قال: “الجهاد في سبيل الله”.. كما وأن عقوق الوالدَين سبب في دخول النار فقد جاء في صحيح البخاري أن الحبيب عليه الصلاة والسلام قال: “أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ” ووالله إنّ مجرد دعاءهم لأبنائهم ووجودهم في كنفهم حتى لو كانوا عاجزين كلياً لهو بركة وخير ورضاهم يفتح أبواب السماء لتنهمر بالخيرات.. لو يَعون! وفي قصة أويس بن عامر خير دليل على فضل بر الوالدين وخاصة الأمّ.. فقد روى مسلم في صحيحه: كان عمر- رضي الله عنه- إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟! حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم.. قال: مِن مراد؟ قال: نعم، قال: كان بك برَص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم.. قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: “يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به أثرُ برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بارٌّ بها، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل” فاستغفر لي، فاستغفرَ له.
ولقد ” أقرت الحكومة الجزائرية مشروع قانون لحماية الأشخاص المسنين، يَنُصّ على معاقبة مَن يطرد والديه، ويتهاون في التكفّل بهما، بأحكام بالسجن قد تصل إلى 10 سنوات، إلى جانب غرامات مالية كبيرة قد تصل إلى ثمانين ألف دولار.” فهل سننتظر أن يخشى الابن من الدولة ليبرّ أهله ويرحمهم أم يجب أن ينبع هذا الأمر من إيمانه وعقيدته ومحبته لهم!؟
ومن الناحية الشرعيّة فقد سئل في الشبكة الإسلامية عن فتوى لهذا الأمر وكانت المسألة: “ما هو حكم وضع الوالدين في دور المسنين؟” فكانت الإجابة هي الآتية: “لا يجوز وضع الوالدين أو أحدهما في دور المسنين إلا إذا كان هذا برضاه وإذنه ورغبته، وبشرط أن لا يكون هذا الإذن بسبب الاضطرار من سوء معاملة الابن مثلا، فإن إذنه عندئذ لا يجدي شيئا. ولكن يكون ذلك بعذر يقبله الوالد كأن يكون الابن مضطرا للسفر، ولا يستطيع أن يترك والديه أو أحدهما بلا راع ولا من يقوم بشئونه، وهو يعلم أن والده لا يغضب لذلك، فيستأذنه فيأذن له، مع التأكد من أن الدار التي ستستضيفه ستقوم بخدمته ورعايته على وجه لائق.“
ولا شك أن وضع هؤلاء المسنّين مهما كانت الأسباب التي يتّخذها الأولاد ذريعة لرميهم في دور المسنّين بالنسبة لهم جوهريّة إلا أنها واهية عند رب العالمين جل وعلا الذي أمر بالبرّ والتقوى.. وما هذا الحال إلا نتيجة للحياة العصريّة الماديّة البعيدة عن الشرع الرباني..
مجموعة من الحجج يُبرِّرون بها لأنفسهم تقاعسهم عن احتواء المسنّين: خروج أصحاب الدار لساعات طويلة للعمل والدراسة أو سفرهم لأيام طويلة للاستجمام أو عدم القدرة على مراعاة المسِنّ هي مجرّد حجج – أو أنّ الدار يعتني بهذا المسِنّ بشكل أفضل! - كل هذه أسباب ظاهرها فيه العذر وباطنها جحود عظيم.. فالسبب الحقيقي لهذا الفِعل المشين هو البُعد عن الله جل وعلا وضعف الترابط الأُسري والأنانية.. إلا في الحالات النادرة والتي جاءت في الفتوى وهي قليلة جداً ومحصورة ومقيّدة وما دون ذلك فأوهام وتبريرات ويبقى الله جل وعلا هو الذي يعلم ما تُخفي الصدور ويعلم مَن هو صادق ومَن يدّعي..
ولو أنّه في بعض الأحيان البُعد عن الأهل الذين يسيئون معاملة هؤلاء العجائز ويحتقرونهم ويهملونهم ولا يراعونهم كما يجب يكون أفضل من البقاء بينهم ليتحمّل العجوز الضغط النفسي العميق جراء هذه الممارسات المؤلمة!
وهذه بعض الخطوات التي تحقِّق بعض الأمل في الحدّ من هذه الظاهرة أو في تحسين وضع هؤلاء المسنّين في تلك الدور..
- مساعدة الدولة للعائلات الفقيرة لتتكفّل بمسنِّيها
- زرع الوازع الديني في الأطفال والأولاد في البيت والمدارس
- زيارات ميدانيّة لدور العجزة تشمل الطلاب في كافة المراحل الدراسيّة للنصح واستشعار المشكلة عند العجزة وخاصة للشباب لنقاشهم ولأخذ العِبَر من هؤلاء المسنين فحياتهم غنية بالتجارب التي يمكن الاستفادة منها
- مخاطبة الدعاة وأئمّة المساجد للناس والتركيز على موضوع برّ الوالدين ونشر ثقافة قصص الصحابة كعلقمة الذي كان يؤثِر زوجته على أمه فلم يستطع النطق بالشهادة عند الموت وغيره من القصص المعبِّرة ذات الأثر..
- تنظيم حملات للجمعيات الأهلية من أجل شراء الهدايا للمسنّين ومحاولة إشعارهم بالحنان والحب وقضاء نهار كامل معهم
- محاولة السلطات متابعة هذه الدور وجعل المسنّين ينخرطون في المجتمع ليشعروا أنهم ما زالوا على قيد الحياة
- حث الخيِّرين على إنشاء نوادي ترفيهيّة للمسنّين وإشغالهم بالنشاطات لإخراجهم من العزلة النفسية التي يعانون منها وخاصة أولئك الذين يعانون من الاكتئاب
- اهتمام الحقوقيين بمسألة حثَ الدولة على سَنّ قوانين تحمي بموجبها المسنّين وحقوقهم وضمان عيشتهم الكريمة في عمر الشيخوخة من النواحي الصحيّة والاجتماعيّة والنفسيّة والماديّة
- حثّ الإعلاميين على طرح حملات في الصحف والفضائيات تتناول مشاكل وهموم وحاجات المسنّين للفت النظر إلى هذه القضية الشائكة
- تركيز الجميع على إرساء قواعد ثابتة للأسرة المسلمة للحفاظ على هذه الروابط الراقية في التعامل فيما بين أفرادها وأساسها: الرحمة!
..
دُوْرُ انتظار الموت..
أ.سحر المصري
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى