رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
إمبراطورة المخدرات .. من العرش إلى القاع !
داخل سجن النساء بالقناطر تعيش همت .. بعد لحظات من الحديث معها تكتشف أنك أمام بقايا امرأة فقدت كل شىء، حتى أحلامها! وإذا كانت أوراق وملفات النـزلاء فى السجن تحكى قصتهم مع الجريمة وخطة القبض عليهم والأحكام الصادرة ضدهم، فإن مالا تحكيه الملفات فى قضية همت ترويه دموعها وملامح وجهها التى تحولت خلف الأسوار العالية إلى لوحة واضحة للندم والحسرة !
كانت يومًا تحلم بالثراء السريع مثل أى إنسان يفكر فى تجارة المخدرات وأصبحت اليوم تحلم بالعودة إلى الحرية ولو ماتت من الجوع مثلما تنتهى قصة أى تاجر مخدرات أيضًا ! السيارة والموبايل والثروة وكل أدوات الشيطان التى يضحك بها على ضعاف النفوس تكرهها الآن همت وتلعن اليوم الذى تمنت أن ينتقل إليها بعد سجن زوجها وعائلتها تهرب منه الآن وتعتبره عارًا !
كل الأشياء والأحلام تساقطت منها تباعًا، حتى سمعتها، ولم يعد لها أمل فى الدنيا غير أن تعود إلى حياة الشرف والتوبة التى لم تعرف قيمتها إلا حينما وجدت نفسها تعيش فى زنزانة وتضع مولودها بعيدًا عن مبانى ومساكن الشرفاء !
التقينا بها، تحدثنا معها، وكان حوارها من بدايته إلى نهايته قصة من قصص السقوط والضياع، الجريمة والعقاب، لحظات الضعف واغراءات الشيطان! قصة امرأة تنتظر اليوم الذى يفرج عنها فيه لتعود إلى بئر الشرف، بكل إصرار وتحد، ترتشف منه ما يطهرها من الماضى الأسود !
وسط زحام نزيلات سجن النساء، كانت تتحرك فى فناء السجن وهى تحمل بين ذراعيها طفلة صغيرة، شد انتباهى ابتسامتها الحزينة التى ترتسم على وجهها ذى البشرة السمراء، والتى تميزها ونظرة الإصرار التى تطل من عينيها والحزن العميق بها، كأنها تفتقد الحرية وتعانى، خلف الأسوار العالية، وجدران السجن الباردة.
تابعت تحركاتها فترة من الوقت، تصرفاتها لم تتغير، انتظرت أن تأتى عليها لحظة الانكسار التى تلازم كل مسجون داخل أى سجن، مهما ضحك أو لعب، لكنها كما هى لم تتغير كأنها ارتضت بهذه الحياة ولم يعد سوط الحرمان من الحرية يكويها كل لحظة ويجعل الدموع رفيقها الدائم ! لأن تصرفاتها هذه كانت مختلفة عن باقى النـزيلات اللاتى مهما ضحكن أثناء فترة الفسحة، فإن علامات الحزن لا تفارق ملامحهن، اقتربت منها لأقرأ معها أوراق ملف حياتها داخل سجن النساء، وأتعرف على أسرار كل صفحة فى هذا الملف، وأيضًا لنتعرف على رحلتها مع الجريمة، وسبب دخولها السجن، وسر الابتسامة التى لم تبرح صاحبة البشرة السمراء.
حكاية همت !
جلست همت أمامنا، قالت إنها حضرت للسجن فى 25 مارس عام 2000، وسألناها عن أسرتها وطفولتها وحياتها التى سبقت مرحلة السقوط فى دائرة تجارة المخدرات، وقالت همت:
"نشأت أنا وأسرتى فى قرية شبرا بدمنهور البحيرة، كان الجميع يحبوننا أنا وأمى وأشقائى نيازى وحسام وأشواق وزيزى، وكنا مصدر رعاية من الجميع خاصة بعد انفصال أبى عن أمى منذ سنوات طويلة، وكان أكثر الناس عطفًا علينا هو عمى الكبير الذى مصدر شقائنا فيما بعد! المهم كنا نكبر بسرعة وزادت مطالبنا وبالتالى زادت حاجتنا للمزيد من المال. وكنا دائمًا نلجأ لعمى الذى كان يمتلك وكالة كبيرة لتجارة الخضراوات والذى كان يعطينا الأموال التى نحتاجها بلا تردد وفى أحد الأيام طلب من أمى أن تجعل أخى الكبير يساعده فى عمله مقابل أجر كبير فوافقت أمى على الفور. وبالفعل كان يأخذ أخى نيازى أموالاً كثيرة من عمى وكان يكفينا وكنا نعيش فى رغد من ورائه ولم يكن ينقصنا شىء. وطمع أخى حسام فى العمل مع عمى أيضًا ولم يرفض عمى وزاد المال معنا بلا حدود وكنا نعتقد أن كل هذه الأموال من وراء تجارتهم للخضروات والفاكهة حتى جاء يوم وعثرت أمى على حقيبة صغيرة كان يحملها أخى حسام وتركها تحت سريره وأثناء تنظيف أمى لحجرته عثرت عليها وبحسن نية فتحت الحقيبة لترى ما بها فوجدت كمية كبيرة من المخدرات فصرخت وأيقظت أخى حسام وسألته غاضبة من أين أتيت بهذه الحقيبة ؟! فقال لها بهدوء شديد اتركيها يا أمى ودعينى أنام فكررت له سؤالها بصراخ فقال لها غاضبًا إننا نعيش منذ سنوات بعيدة مما بداخل هذه الحقيبة ولتعلمى أن عمى هو أكبر تاجر للمخدرات فى البحيرة كلها.
زواج أمى ! وتستطرد همت قائلة:
أسرعت أمى بارتداء ملابسها واتجهت إلى وكالة عمى ولا أعلم ماذا دار هناك وكل ما أتذكره هو أن أمى عادت مع عمى بعد عقد قرانهما، وبعد أسابيع قليلة من زواجها أصبحت أمى هى اليد اليمنى لعمى. فكانت تقوم بتوزيع المخدرات بنفسها وامتلأت أيدينا وأعناقنا بالمجوهرات الثمينة وكان عمرى وقتها أثنى عشر عامًا وكانت أمى تقول لى دائمًا إن تجارة المخدرات مثلها مثل أى تجارة أخرى الفارق الوحيد هو أن ربحها أكثر بكثير من أى تجارة أخرى ومن شدة حبى لأمى وتعلقى بها كنت أعاونها أحيانًا دون أن أفهم شيئًا. وتوفى عمى بعد خمس سنوات تاركًا لنا تلالا من الأموال ورغم ذلك لم تكتف أسرتى أو تحاول أن تبدل تلك التجارة اللعينة بتجارة أخرى. وأصبحت أمى هى المعلمة الكبيرة وأخوتى نيازى وحسان هما أهم مساعديها.
شقيقاى بالسجن وتمضى همت قائلة:
وفى أحد الأيام ذهب أخى نيازى لتسليم كمية كبيرة من المخدرات لأحد التجار وفى الطريق طمع فى المال والمخدرات معًا. وعند لقائه بالتاجر قامت مشاجرة بينهما قام على أثرها أخى بطعنه عدة طعنات كادت أن تودى بحياته وسرق أموال التاجر وهرب بالمخدرات أيضًا وبعد عدة أيام قبض على أخى ودخل السجن بعد أن وجهت إليه تهمة السرقة والشروع فى القتل وبعد دخول أخى السجن أصبح أهل قريتنا يتعمدون الإساءة إلينا فكان أخى حسام يثور عليهم ويتشاجر معهم مستخدمًا "المطواة" والجنازير وذهب جيراننا إلى قسم الشرطة وأبلغوا عنه واتهموه بالبلطجة وأثناء إلقاء القبض عليه حاول أن يتعدى على رجال الشرطة فقامت الشرطة باعتقاله بعد أن اتهموه بالبلطجة وإثارة الشغب والتعدى على السلطات، وبعدها أصبحت أنا وأمى وأخواتى البنات وحدنا فى المنـزل نشعر بخوف شديد لأننا أصبحنا موضع شك وريبة من رجال الشرطة بسبب شقيقى نيازى وشقيقى حسام وكدنا أن نوشك على الإفلاس لولا ظهور طوق النجاة لأمى وهو نبيل ابن عمى الكبير والذى "تزوج" من قبل وقام بتطليق زوجته لعدم إنجابها". وتقدم نبيل لأمى ليطلب الزواج منى وكان عمرى 17 سنة ولم تتردد أمى ووافقت على الفور وتم زواجنا فى أقل من عام وبعد زواجنا بأسبوع علمت سر سعادة أمى بهذه الزيجة فقد كان نبيل فى البداية يعتقد أننى مصابة ببرد وعندما زادت حالتى سوءًا ذهبت إلى الطبيب الذى اخبرنى بأننى حامل وكدت أطير فرحًا بالخبر وفى نفس الوقت شعرت بخوف شديد على طفلى من المستقبل المظلم فى تجارة المخدرات واتفق مع أمى على دمج تجارتهما لتشمل معظم محافظات مصر وزادت الأرباح إلى الملايين فى خلال عدة أشهر، وبعد فترة شعرت بالآم فى معدتى وكنت أخشى على الذى ينتظره إذا دخل أبوه السجن، فذهبت إلى منـزلى وأخبرت زوجى بخبر حملى فقال لى إنه أسعد إنسان فى الوجود وطلب منى ألا أبذل مجهودًا حتى لا يتعرض ابنى للخطر فقلت له لن يعرض ابننا للخطر إلا ممارستك لتجارة المخدرات التى تحرمه من أبيه وأمه وأنا أخشى عليه أن يكبر وهو يأكل من المال الحرام ورجوته أن نعيش بالقليل من المال الحلال ويبارك لنا الله فى حياتنا وأولادنا على أن نعيش بمال كثير ويبتلينا الله بطفل مريض أو معوق. واقتنع زوجى بكلامى وعاهدنى بأنه سيتقرب إلى الله بمجرد تخلصه من المخدرات التى يمتلكها كلها وسوف يقوم ببيعها للتجار ولو بالخسارة. ونكفر عن ذنبنا سوف نبدأ تجارة الخضراوات والفاكهة فى وكالة أبى، واتفقنا على أن تذهب إلى أمى ونجعلها تتوب عن تجارة المخدرات هى الأخرى، فقلنا لها إن هذا الطريق لا نهاية له إلا السجن وأن جسدها المريض لن يتحمل حرارة السجن وذله. واقتنعت أمى بكلامنا وذهبت مع زوجى فى اليوم التالى وأخذوا كل المخدرات المتبقية لدينا ولكن القدر كان له رأى آخر، والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين.
حلم الإمبراطورة *
سألناها .. وبالتحديد كيف دخلت عالم المخدرات منذ البداية ؟!
قالت .. فى الحقيقة البداية كانت الإغراءات والفلوس. فبعد أن وجدت عددًا كبيرًا من الشباب الذين أعرفهم يعيشون فى هذا العالم وينفقون ببذخ شديد لم يتسلل إلى الخوف، تعرفت على شاب اسمه ياسر، كان ذائغ العين فى تجارة المخدرات من نفس المنطقة التى أقيم بها، علمنى كيف أقوم بتقطيع البانجو إلى باكتات بحيث أتقن الوزن حسب قيمة المال المدفوع، خلال أيام كنت قد أصبحت ماهرة جدًا فى شغلى الجديد، بل تفوقت على صاحب الشغل الذى أعمل معه، وأصبح يعتمد على فى شغله، لم أكتف بأن أكون مجرد مساعدة لهذا التاجر، قررت أن أخوض المغامرة واستقل بنفسى خاصة بعد أن تردد اسمى عند التجار والمتعاطين، بعد أن أحسست أن طريقى بات سهلاً لتحقيق النجومية التى أحلم بها، وهدفى الكبير كان الحصول على لقب "إمبراطورة البحيرة"، كنت أشعر بأننى قريبة جدًا من هذا اللقب، حيث بدأ تجار المخدرات وتجار التجزئة والمتعاطين يعرضون علىّ التعامل معى والاستفادة من مهارتى.
* وهل حققت المكاسب التى كنت تحلمين بها من تجارتك الجديدة ؟
- تضحك همت .."21 سنة" وهى تقول:
- كاذب من يدعى أن فلوس الحرام تنفع صاحبها وتعيش معه فتاجر المخدرات مهما حقق من أرباح وعاش فى قصور فخمة، وركب سيارات فارهة، وعاش حياة الملوك، فإن هذا لابد أن يزول لأن دخله من حرام فلا يمكن أن يبارك فيه ربنا، وفعلاً أنا نموذج حى لهذا الكلام، فرغم أننى بعت كثيرًا وكسبت، لا أعرف أين ذهب هذا المال، وأصبحت على البلاطة !
*حزينة على ضياع هذا المال ؟
- بالعكس .. أنا مقتنعة جدًا أن هذا جزائى الطبيعى، وأن الحرام لا ينفع صاحبه مهما فعل.
غروب مبكر ! *
والحب فى حياتك أين كانت محطته على هذا الطريق ؟
- تسكت همت برهة من الوقت وهى تستسلم لتنهيدة طويلة اجترت معها ذكريات أليمة، ثم تقول: - "كنت أتعامل مع الناس بجرأة، وخفة دم، وضحكة لا تغيب عن فمى مهما كانت الظروف، لذلك كان شباب كثيرين يحاولون إقامة علاقات عاطفية معى أو الزواج منى، لكن قلبى كان له اختيار آخر لم أسع إليه عندما دق قلبى لنبيل، رغم أننى أعلم شقاوته فى تجارة المخدرات لكننى أحببته، وأحسست أننى سأعيش معه أجمل سنين عمرى، وكنت أفكر أننا سنستمر فى تجارة المخدرات حتى أحقق أحلامى وتربعى على عرش الإمبراطورية وادخار مبلغ كبير يضمن لنا حياة سعيدة، لكن تزوجت نبيل بعد قصة حب سريعة ولم تدم أيام العسل بعد الزفاف سوى 50 يومًا بعدها تم القبض على نبيل وبحوزته كمية من البانجو ليدخل السجن، وكذلك دخلت أمى السجن وعرفنا بعد ذلك أن تجار المخدرات هم الذين أبلغوا عنهما.
*وماذا فعلت بعد ذلك ؟
- أبدًا، واصلت طريقى فى تجارة المخدرات لتحقيق نفس الهدف، كنت حاملاً فى شهرى الأولى، لكن رحلتى مع المخدرات لم يخطر ببالى أنها لن تدوم أكثر من أربعة أشهر بعد سقوط زوجى نبيل لألحق به !
*كيف تم ضبطك ؟
- كنت أركب سيارة تاكسى ومعى 5 كيلو بانجو داخل كيس فى طريقى لتوصيلها لأحد التجار الذين يتعاملون معى.
فوجئت بكمين يعترض طريقى من ضباط مكافحة المخدرات بالبحيرة، وألقوا القبض على، ومن وقتها دخلت السجن لأول مرة فى حياتى، وحلم الإمبراطورية لم يغب عن خاطرى بعد أن كان فى متناول يدى !
*وماذا انتهت إليه محاكمتك؟ - حبستنى المحكمة 3 سنوات، ودخلت السجن هنا فى 25 مارس العام الماضى.
*وهل وضعت أول مولود لك هنا؟
- أيوه، وضعت بنتى صابرية هنا داخل السجن فى 1/8/2000.
*وما هو شعورك باستقبال أول طفل لك هنا ؟
- طبعًا، كنت حزينة جدًا، لأن كان نفسى أن أضع بنتى وسط أهلى وأعمل لها "سبوع" كبير، لكن معلهش ربنا لم يرد لى بذلك ليعاقبنى على جريمتى وأدفع ثمنها بحرمانى من أحلى فرحة كنت أتمناها.
*وهل عملت لها سبوع هنا ؟
- نعم، زميلاتى كتر خيرهم، شاركونى الفرحة قدر استطاعتهم وامكاناتهم الضعيفة، وأقاموا لى ليلة فرح، زغاريد وطبل ورقص.
*هل هذا الفرح يغنيك عن فرحة الأهل ؟
- لا طبعًا، لكن ماذا أفعل، حتى أمى وأخوتى الكبار دخلوا السجن أيضًا.
*إزاى ؟
- أمى وأخويا نيازى اعتقلتهم الشرطة بتهمة تجارة المخدرات وأخى الثانى حسام تم حبسه 5 سنوات بتهمة السرقة بالإكراه والشروع فى القتل.
*وأين والدك ؟ -
أبويا عايش فى بلدنا بالزقازيق، يعمل سائقًا، تركنا منذ فترة بعد أن اختلف مع أمى بسبب مشاكل أخوتى الدائمة !
*بنتك صابرية ستعيش مع من بعد أن تكمل العامين من عمرها هنا ؟
- سأسلمها لمؤسسة الأمل أو جمعية أولادى بالمعادى لرعايتها حتى أخرج وأتسلمها.
*لكن والدتك ستخرج من السجن قبلك بفترة كبيرة ؟
- لا .. لن أسلمها لأمى، أريد أن أبعدها عن جو الجرائم، فما ذنبها ؟!
*وزوجك نبيل، هل ستعودين إليه بعد خروجك ؟
- طبعًا، أنا مازلت أحبه، وهو لم يفعل معى أى شىء يضرنى!
* وهل ستستمران فى التجارة المحرمة سعيًا وراء حلمك القديم؟
- تضحك وهى تهز رأسها وتقول: لا .. لن أعود إلى تجارة المخدرات أبدًا، ومش عايزة فلوس، ولا موبايل، ولا عربية، ولا حتى الإمبراطورية.
الحوادث 2012002
داخل سجن النساء بالقناطر تعيش همت .. بعد لحظات من الحديث معها تكتشف أنك أمام بقايا امرأة فقدت كل شىء، حتى أحلامها! وإذا كانت أوراق وملفات النـزلاء فى السجن تحكى قصتهم مع الجريمة وخطة القبض عليهم والأحكام الصادرة ضدهم، فإن مالا تحكيه الملفات فى قضية همت ترويه دموعها وملامح وجهها التى تحولت خلف الأسوار العالية إلى لوحة واضحة للندم والحسرة !
كانت يومًا تحلم بالثراء السريع مثل أى إنسان يفكر فى تجارة المخدرات وأصبحت اليوم تحلم بالعودة إلى الحرية ولو ماتت من الجوع مثلما تنتهى قصة أى تاجر مخدرات أيضًا ! السيارة والموبايل والثروة وكل أدوات الشيطان التى يضحك بها على ضعاف النفوس تكرهها الآن همت وتلعن اليوم الذى تمنت أن ينتقل إليها بعد سجن زوجها وعائلتها تهرب منه الآن وتعتبره عارًا !
كل الأشياء والأحلام تساقطت منها تباعًا، حتى سمعتها، ولم يعد لها أمل فى الدنيا غير أن تعود إلى حياة الشرف والتوبة التى لم تعرف قيمتها إلا حينما وجدت نفسها تعيش فى زنزانة وتضع مولودها بعيدًا عن مبانى ومساكن الشرفاء !
التقينا بها، تحدثنا معها، وكان حوارها من بدايته إلى نهايته قصة من قصص السقوط والضياع، الجريمة والعقاب، لحظات الضعف واغراءات الشيطان! قصة امرأة تنتظر اليوم الذى يفرج عنها فيه لتعود إلى بئر الشرف، بكل إصرار وتحد، ترتشف منه ما يطهرها من الماضى الأسود !
وسط زحام نزيلات سجن النساء، كانت تتحرك فى فناء السجن وهى تحمل بين ذراعيها طفلة صغيرة، شد انتباهى ابتسامتها الحزينة التى ترتسم على وجهها ذى البشرة السمراء، والتى تميزها ونظرة الإصرار التى تطل من عينيها والحزن العميق بها، كأنها تفتقد الحرية وتعانى، خلف الأسوار العالية، وجدران السجن الباردة.
تابعت تحركاتها فترة من الوقت، تصرفاتها لم تتغير، انتظرت أن تأتى عليها لحظة الانكسار التى تلازم كل مسجون داخل أى سجن، مهما ضحك أو لعب، لكنها كما هى لم تتغير كأنها ارتضت بهذه الحياة ولم يعد سوط الحرمان من الحرية يكويها كل لحظة ويجعل الدموع رفيقها الدائم ! لأن تصرفاتها هذه كانت مختلفة عن باقى النـزيلات اللاتى مهما ضحكن أثناء فترة الفسحة، فإن علامات الحزن لا تفارق ملامحهن، اقتربت منها لأقرأ معها أوراق ملف حياتها داخل سجن النساء، وأتعرف على أسرار كل صفحة فى هذا الملف، وأيضًا لنتعرف على رحلتها مع الجريمة، وسبب دخولها السجن، وسر الابتسامة التى لم تبرح صاحبة البشرة السمراء.
حكاية همت !
جلست همت أمامنا، قالت إنها حضرت للسجن فى 25 مارس عام 2000، وسألناها عن أسرتها وطفولتها وحياتها التى سبقت مرحلة السقوط فى دائرة تجارة المخدرات، وقالت همت:
"نشأت أنا وأسرتى فى قرية شبرا بدمنهور البحيرة، كان الجميع يحبوننا أنا وأمى وأشقائى نيازى وحسام وأشواق وزيزى، وكنا مصدر رعاية من الجميع خاصة بعد انفصال أبى عن أمى منذ سنوات طويلة، وكان أكثر الناس عطفًا علينا هو عمى الكبير الذى مصدر شقائنا فيما بعد! المهم كنا نكبر بسرعة وزادت مطالبنا وبالتالى زادت حاجتنا للمزيد من المال. وكنا دائمًا نلجأ لعمى الذى كان يمتلك وكالة كبيرة لتجارة الخضراوات والذى كان يعطينا الأموال التى نحتاجها بلا تردد وفى أحد الأيام طلب من أمى أن تجعل أخى الكبير يساعده فى عمله مقابل أجر كبير فوافقت أمى على الفور. وبالفعل كان يأخذ أخى نيازى أموالاً كثيرة من عمى وكان يكفينا وكنا نعيش فى رغد من ورائه ولم يكن ينقصنا شىء. وطمع أخى حسام فى العمل مع عمى أيضًا ولم يرفض عمى وزاد المال معنا بلا حدود وكنا نعتقد أن كل هذه الأموال من وراء تجارتهم للخضروات والفاكهة حتى جاء يوم وعثرت أمى على حقيبة صغيرة كان يحملها أخى حسام وتركها تحت سريره وأثناء تنظيف أمى لحجرته عثرت عليها وبحسن نية فتحت الحقيبة لترى ما بها فوجدت كمية كبيرة من المخدرات فصرخت وأيقظت أخى حسام وسألته غاضبة من أين أتيت بهذه الحقيبة ؟! فقال لها بهدوء شديد اتركيها يا أمى ودعينى أنام فكررت له سؤالها بصراخ فقال لها غاضبًا إننا نعيش منذ سنوات بعيدة مما بداخل هذه الحقيبة ولتعلمى أن عمى هو أكبر تاجر للمخدرات فى البحيرة كلها.
زواج أمى ! وتستطرد همت قائلة:
أسرعت أمى بارتداء ملابسها واتجهت إلى وكالة عمى ولا أعلم ماذا دار هناك وكل ما أتذكره هو أن أمى عادت مع عمى بعد عقد قرانهما، وبعد أسابيع قليلة من زواجها أصبحت أمى هى اليد اليمنى لعمى. فكانت تقوم بتوزيع المخدرات بنفسها وامتلأت أيدينا وأعناقنا بالمجوهرات الثمينة وكان عمرى وقتها أثنى عشر عامًا وكانت أمى تقول لى دائمًا إن تجارة المخدرات مثلها مثل أى تجارة أخرى الفارق الوحيد هو أن ربحها أكثر بكثير من أى تجارة أخرى ومن شدة حبى لأمى وتعلقى بها كنت أعاونها أحيانًا دون أن أفهم شيئًا. وتوفى عمى بعد خمس سنوات تاركًا لنا تلالا من الأموال ورغم ذلك لم تكتف أسرتى أو تحاول أن تبدل تلك التجارة اللعينة بتجارة أخرى. وأصبحت أمى هى المعلمة الكبيرة وأخوتى نيازى وحسان هما أهم مساعديها.
شقيقاى بالسجن وتمضى همت قائلة:
وفى أحد الأيام ذهب أخى نيازى لتسليم كمية كبيرة من المخدرات لأحد التجار وفى الطريق طمع فى المال والمخدرات معًا. وعند لقائه بالتاجر قامت مشاجرة بينهما قام على أثرها أخى بطعنه عدة طعنات كادت أن تودى بحياته وسرق أموال التاجر وهرب بالمخدرات أيضًا وبعد عدة أيام قبض على أخى ودخل السجن بعد أن وجهت إليه تهمة السرقة والشروع فى القتل وبعد دخول أخى السجن أصبح أهل قريتنا يتعمدون الإساءة إلينا فكان أخى حسام يثور عليهم ويتشاجر معهم مستخدمًا "المطواة" والجنازير وذهب جيراننا إلى قسم الشرطة وأبلغوا عنه واتهموه بالبلطجة وأثناء إلقاء القبض عليه حاول أن يتعدى على رجال الشرطة فقامت الشرطة باعتقاله بعد أن اتهموه بالبلطجة وإثارة الشغب والتعدى على السلطات، وبعدها أصبحت أنا وأمى وأخواتى البنات وحدنا فى المنـزل نشعر بخوف شديد لأننا أصبحنا موضع شك وريبة من رجال الشرطة بسبب شقيقى نيازى وشقيقى حسام وكدنا أن نوشك على الإفلاس لولا ظهور طوق النجاة لأمى وهو نبيل ابن عمى الكبير والذى "تزوج" من قبل وقام بتطليق زوجته لعدم إنجابها". وتقدم نبيل لأمى ليطلب الزواج منى وكان عمرى 17 سنة ولم تتردد أمى ووافقت على الفور وتم زواجنا فى أقل من عام وبعد زواجنا بأسبوع علمت سر سعادة أمى بهذه الزيجة فقد كان نبيل فى البداية يعتقد أننى مصابة ببرد وعندما زادت حالتى سوءًا ذهبت إلى الطبيب الذى اخبرنى بأننى حامل وكدت أطير فرحًا بالخبر وفى نفس الوقت شعرت بخوف شديد على طفلى من المستقبل المظلم فى تجارة المخدرات واتفق مع أمى على دمج تجارتهما لتشمل معظم محافظات مصر وزادت الأرباح إلى الملايين فى خلال عدة أشهر، وبعد فترة شعرت بالآم فى معدتى وكنت أخشى على الذى ينتظره إذا دخل أبوه السجن، فذهبت إلى منـزلى وأخبرت زوجى بخبر حملى فقال لى إنه أسعد إنسان فى الوجود وطلب منى ألا أبذل مجهودًا حتى لا يتعرض ابنى للخطر فقلت له لن يعرض ابننا للخطر إلا ممارستك لتجارة المخدرات التى تحرمه من أبيه وأمه وأنا أخشى عليه أن يكبر وهو يأكل من المال الحرام ورجوته أن نعيش بالقليل من المال الحلال ويبارك لنا الله فى حياتنا وأولادنا على أن نعيش بمال كثير ويبتلينا الله بطفل مريض أو معوق. واقتنع زوجى بكلامى وعاهدنى بأنه سيتقرب إلى الله بمجرد تخلصه من المخدرات التى يمتلكها كلها وسوف يقوم ببيعها للتجار ولو بالخسارة. ونكفر عن ذنبنا سوف نبدأ تجارة الخضراوات والفاكهة فى وكالة أبى، واتفقنا على أن تذهب إلى أمى ونجعلها تتوب عن تجارة المخدرات هى الأخرى، فقلنا لها إن هذا الطريق لا نهاية له إلا السجن وأن جسدها المريض لن يتحمل حرارة السجن وذله. واقتنعت أمى بكلامنا وذهبت مع زوجى فى اليوم التالى وأخذوا كل المخدرات المتبقية لدينا ولكن القدر كان له رأى آخر، والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين.
حلم الإمبراطورة *
سألناها .. وبالتحديد كيف دخلت عالم المخدرات منذ البداية ؟!
قالت .. فى الحقيقة البداية كانت الإغراءات والفلوس. فبعد أن وجدت عددًا كبيرًا من الشباب الذين أعرفهم يعيشون فى هذا العالم وينفقون ببذخ شديد لم يتسلل إلى الخوف، تعرفت على شاب اسمه ياسر، كان ذائغ العين فى تجارة المخدرات من نفس المنطقة التى أقيم بها، علمنى كيف أقوم بتقطيع البانجو إلى باكتات بحيث أتقن الوزن حسب قيمة المال المدفوع، خلال أيام كنت قد أصبحت ماهرة جدًا فى شغلى الجديد، بل تفوقت على صاحب الشغل الذى أعمل معه، وأصبح يعتمد على فى شغله، لم أكتف بأن أكون مجرد مساعدة لهذا التاجر، قررت أن أخوض المغامرة واستقل بنفسى خاصة بعد أن تردد اسمى عند التجار والمتعاطين، بعد أن أحسست أن طريقى بات سهلاً لتحقيق النجومية التى أحلم بها، وهدفى الكبير كان الحصول على لقب "إمبراطورة البحيرة"، كنت أشعر بأننى قريبة جدًا من هذا اللقب، حيث بدأ تجار المخدرات وتجار التجزئة والمتعاطين يعرضون علىّ التعامل معى والاستفادة من مهارتى.
* وهل حققت المكاسب التى كنت تحلمين بها من تجارتك الجديدة ؟
- تضحك همت .."21 سنة" وهى تقول:
- كاذب من يدعى أن فلوس الحرام تنفع صاحبها وتعيش معه فتاجر المخدرات مهما حقق من أرباح وعاش فى قصور فخمة، وركب سيارات فارهة، وعاش حياة الملوك، فإن هذا لابد أن يزول لأن دخله من حرام فلا يمكن أن يبارك فيه ربنا، وفعلاً أنا نموذج حى لهذا الكلام، فرغم أننى بعت كثيرًا وكسبت، لا أعرف أين ذهب هذا المال، وأصبحت على البلاطة !
*حزينة على ضياع هذا المال ؟
- بالعكس .. أنا مقتنعة جدًا أن هذا جزائى الطبيعى، وأن الحرام لا ينفع صاحبه مهما فعل.
غروب مبكر ! *
والحب فى حياتك أين كانت محطته على هذا الطريق ؟
- تسكت همت برهة من الوقت وهى تستسلم لتنهيدة طويلة اجترت معها ذكريات أليمة، ثم تقول: - "كنت أتعامل مع الناس بجرأة، وخفة دم، وضحكة لا تغيب عن فمى مهما كانت الظروف، لذلك كان شباب كثيرين يحاولون إقامة علاقات عاطفية معى أو الزواج منى، لكن قلبى كان له اختيار آخر لم أسع إليه عندما دق قلبى لنبيل، رغم أننى أعلم شقاوته فى تجارة المخدرات لكننى أحببته، وأحسست أننى سأعيش معه أجمل سنين عمرى، وكنت أفكر أننا سنستمر فى تجارة المخدرات حتى أحقق أحلامى وتربعى على عرش الإمبراطورية وادخار مبلغ كبير يضمن لنا حياة سعيدة، لكن تزوجت نبيل بعد قصة حب سريعة ولم تدم أيام العسل بعد الزفاف سوى 50 يومًا بعدها تم القبض على نبيل وبحوزته كمية من البانجو ليدخل السجن، وكذلك دخلت أمى السجن وعرفنا بعد ذلك أن تجار المخدرات هم الذين أبلغوا عنهما.
*وماذا فعلت بعد ذلك ؟
- أبدًا، واصلت طريقى فى تجارة المخدرات لتحقيق نفس الهدف، كنت حاملاً فى شهرى الأولى، لكن رحلتى مع المخدرات لم يخطر ببالى أنها لن تدوم أكثر من أربعة أشهر بعد سقوط زوجى نبيل لألحق به !
*كيف تم ضبطك ؟
- كنت أركب سيارة تاكسى ومعى 5 كيلو بانجو داخل كيس فى طريقى لتوصيلها لأحد التجار الذين يتعاملون معى.
فوجئت بكمين يعترض طريقى من ضباط مكافحة المخدرات بالبحيرة، وألقوا القبض على، ومن وقتها دخلت السجن لأول مرة فى حياتى، وحلم الإمبراطورية لم يغب عن خاطرى بعد أن كان فى متناول يدى !
*وماذا انتهت إليه محاكمتك؟ - حبستنى المحكمة 3 سنوات، ودخلت السجن هنا فى 25 مارس العام الماضى.
*وهل وضعت أول مولود لك هنا؟
- أيوه، وضعت بنتى صابرية هنا داخل السجن فى 1/8/2000.
*وما هو شعورك باستقبال أول طفل لك هنا ؟
- طبعًا، كنت حزينة جدًا، لأن كان نفسى أن أضع بنتى وسط أهلى وأعمل لها "سبوع" كبير، لكن معلهش ربنا لم يرد لى بذلك ليعاقبنى على جريمتى وأدفع ثمنها بحرمانى من أحلى فرحة كنت أتمناها.
*وهل عملت لها سبوع هنا ؟
- نعم، زميلاتى كتر خيرهم، شاركونى الفرحة قدر استطاعتهم وامكاناتهم الضعيفة، وأقاموا لى ليلة فرح، زغاريد وطبل ورقص.
*هل هذا الفرح يغنيك عن فرحة الأهل ؟
- لا طبعًا، لكن ماذا أفعل، حتى أمى وأخوتى الكبار دخلوا السجن أيضًا.
*إزاى ؟
- أمى وأخويا نيازى اعتقلتهم الشرطة بتهمة تجارة المخدرات وأخى الثانى حسام تم حبسه 5 سنوات بتهمة السرقة بالإكراه والشروع فى القتل.
*وأين والدك ؟ -
أبويا عايش فى بلدنا بالزقازيق، يعمل سائقًا، تركنا منذ فترة بعد أن اختلف مع أمى بسبب مشاكل أخوتى الدائمة !
*بنتك صابرية ستعيش مع من بعد أن تكمل العامين من عمرها هنا ؟
- سأسلمها لمؤسسة الأمل أو جمعية أولادى بالمعادى لرعايتها حتى أخرج وأتسلمها.
*لكن والدتك ستخرج من السجن قبلك بفترة كبيرة ؟
- لا .. لن أسلمها لأمى، أريد أن أبعدها عن جو الجرائم، فما ذنبها ؟!
*وزوجك نبيل، هل ستعودين إليه بعد خروجك ؟
- طبعًا، أنا مازلت أحبه، وهو لم يفعل معى أى شىء يضرنى!
* وهل ستستمران فى التجارة المحرمة سعيًا وراء حلمك القديم؟
- تضحك وهى تهز رأسها وتقول: لا .. لن أعود إلى تجارة المخدرات أبدًا، ومش عايزة فلوس، ولا موبايل، ولا عربية، ولا حتى الإمبراطورية.
الحوادث 2012002
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى