صفحة 3 من اصل 3 • 1, 2, 3
مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
مجموع فتاوى ابن تيمية ، الجزء : 5 ، الصفحة : 90 ت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سئل شيخ الإسلام : العالم الرباني " تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية " رحمه الله تعالى .
ما قول السادة العلماء أئمة الدين في " آيات الصفات " كقوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } وقوله : { ثم استوى على العرش } وقوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } إلى غير ذلك من آيات الصفات و " أحاديث الصفات " كقوله : صلى الله عليه وسلم { إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن } وقوله : { يضع الجبار قدمه في النار } إلى غير ذلك وما قالت العلماء فيه وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى .
فأجاب - رضي الله عنه - : الحمد لله رب العالمين .
قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون : من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ; وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره ; فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ; ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد وشهد له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا وأمره أن يقول : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } .
فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وأنزل معه الكتاب بالحق ; ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته - محال مع هذا وغيره : أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسا مشتبها ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا وما يجوز عليه وما يمتنع عليه .
فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا ومن المحال أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة وقال : { تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك } وقال فيما صح عنه أيضا : { ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم } .
وقال أبو ذر : لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما .
وقال { عمر بن الخطاب : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فذكر بدء الخلق ; حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه } رواه البخاري .
ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين - وإن دقت - أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف وعبادته أشرف المقاصد والوصول إليه غاية المطالب .
بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام ثم إذا كان قد وقع ذلك منه : فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه .
ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة - القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق .
وكلاهما ممتنع .
( أما الأول : فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه ; أعني بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته .
وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر .
وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي - الذي هو من أقوى المقتضيات - أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق وأشدهم إعراضا عن الله وأعظمهم إكبابا على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله تعالى ; فكيف يقع في أولئك ؟ وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه : فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم .
ثم الكلام في هذا الباب عنهم : أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى وأضعافها يعرف ذلك من طلبه وتتبعه ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف ; بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها : من أن " طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم " - وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعني بها معنى صحيحا .
فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف : إنما أتوا من حيث ظنوا : أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات .
فهذا الظن الفاسد أوجب " تلك المقالة " التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر وقد كذبوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب طريقة الخلف ; فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم .
وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف .
وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين ; فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى - وهي التي يسمونها طريقة السلف - وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف - وهي التي يسمونها طريقة الخلف - فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع ; فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه .
فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين : كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنزلة الصالحين من العامة ; لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله .
ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة ; بل في غاية الضلالة .
كيف يكون هؤلاء المتأخرون - لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه أمرهم حيث يقول : لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم .
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية ; فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن .
اقرأ في الإثبات : { الرحمن على العرش استوى } { إليه يصعد الكلم الطيب } واقرأ في النفي : { ليس كمثله شيء } { ولا يحيطون به علما } ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ا ه .
ويقول الآخر منهم : لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان وها أنا أموت على عقيدة أمي ا هـ .
ويقول الآخر منهم : أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام .
ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر : لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر كيف يكون هؤلاء المحجوبون المفضلون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون : أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدجى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء فضلا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة - لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته - من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم ؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم : أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان وإنما قدمت " هذه المقدمة " لأن من استقرت هذه المقدمة عنده عرف طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره وعلم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم وإعراضهم عما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى وتركهم البحث عن طريقة السابقين والتابعين والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه وبشهادة الأمة على ذلك وبدلالات كثيرة ; وليس غرضي واحدا معينا وإنما أصف نوع هؤلاء ونوع هؤلاء .
وإذا كان كذلك : فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها ثم عامة كلام الصحابة والتابعين ثم كلام سائر الأئمة : مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى وهو فوق كل شيء وهو على كل شيء وإنه فوق العرش وأنه فوق السماء : مثل قوله تعالى { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } { إني متوفيك ورافعك إلي } { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا } { بل رفعه الله إليه } { تعرج الملائكة والروح إليه } { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } { يخافون ربهم من فوقهم } { ثم استوى على العرش } في ستة مواضع { الرحمن على العرش استوى } { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } { أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } { تنزيل من حكيم حميد } { منزل من ربك بالحق } إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة .
وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه ; وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار : فيخرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم .
وفي الصحيح في حديث الخوارج : { ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء } وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره { ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل : ربنا الله الذي في السماء } وذكره .
وقوله في حديث الأوعال { والعرش فوق ذلك والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه } رواه أحمد وأبو داود وغيرهما وقوله في الحديث الصحيح للجارية { أين الله ؟ قالت في السماء قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله قال : أعتقها فإنها مؤمنة } .
مجموع فتاوى ابن تيمية ، الجزء : 5 ، الصفحة : 90 ت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سئل شيخ الإسلام : العالم الرباني " تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية " رحمه الله تعالى .
ما قول السادة العلماء أئمة الدين في " آيات الصفات " كقوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } وقوله : { ثم استوى على العرش } وقوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } إلى غير ذلك من آيات الصفات و " أحاديث الصفات " كقوله : صلى الله عليه وسلم { إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن } وقوله : { يضع الجبار قدمه في النار } إلى غير ذلك وما قالت العلماء فيه وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى .
فأجاب - رضي الله عنه - : الحمد لله رب العالمين .
قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون : من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ; وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره ; فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ; ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد وشهد له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا وأمره أن يقول : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } .
فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وأنزل معه الكتاب بالحق ; ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته - محال مع هذا وغيره : أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسا مشتبها ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا وما يجوز عليه وما يمتنع عليه .
فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا ومن المحال أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة وقال : { تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك } وقال فيما صح عنه أيضا : { ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم } .
وقال أبو ذر : لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما .
وقال { عمر بن الخطاب : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فذكر بدء الخلق ; حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه } رواه البخاري .
ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين - وإن دقت - أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف وعبادته أشرف المقاصد والوصول إليه غاية المطالب .
بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام ثم إذا كان قد وقع ذلك منه : فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه .
ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة - القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق .
وكلاهما ممتنع .
( أما الأول : فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه ; أعني بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته .
وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر .
وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي - الذي هو من أقوى المقتضيات - أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق وأشدهم إعراضا عن الله وأعظمهم إكبابا على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله تعالى ; فكيف يقع في أولئك ؟ وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه : فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم .
ثم الكلام في هذا الباب عنهم : أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى وأضعافها يعرف ذلك من طلبه وتتبعه ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف ; بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها : من أن " طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم " - وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعني بها معنى صحيحا .
فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف : إنما أتوا من حيث ظنوا : أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات .
فهذا الظن الفاسد أوجب " تلك المقالة " التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر وقد كذبوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب طريقة الخلف ; فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم .
وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف .
وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين ; فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى - وهي التي يسمونها طريقة السلف - وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف - وهي التي يسمونها طريقة الخلف - فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع ; فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه .
فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين : كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنزلة الصالحين من العامة ; لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله .
ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة ; بل في غاية الضلالة .
كيف يكون هؤلاء المتأخرون - لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه أمرهم حيث يقول : لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم .
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية ; فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن .
اقرأ في الإثبات : { الرحمن على العرش استوى } { إليه يصعد الكلم الطيب } واقرأ في النفي : { ليس كمثله شيء } { ولا يحيطون به علما } ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ا ه .
ويقول الآخر منهم : لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان وها أنا أموت على عقيدة أمي ا هـ .
ويقول الآخر منهم : أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام .
ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر : لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر كيف يكون هؤلاء المحجوبون المفضلون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون : أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى ومصابيح الدجى الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء فضلا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة - لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته - من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم ؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم : أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان وإنما قدمت " هذه المقدمة " لأن من استقرت هذه المقدمة عنده عرف طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره وعلم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم وإعراضهم عما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى وتركهم البحث عن طريقة السابقين والتابعين والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه وبشهادة الأمة على ذلك وبدلالات كثيرة ; وليس غرضي واحدا معينا وإنما أصف نوع هؤلاء ونوع هؤلاء .
وإذا كان كذلك : فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها ثم عامة كلام الصحابة والتابعين ثم كلام سائر الأئمة : مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى وهو فوق كل شيء وهو على كل شيء وإنه فوق العرش وأنه فوق السماء : مثل قوله تعالى { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } { إني متوفيك ورافعك إلي } { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا } { بل رفعه الله إليه } { تعرج الملائكة والروح إليه } { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } { يخافون ربهم من فوقهم } { ثم استوى على العرش } في ستة مواضع { الرحمن على العرش استوى } { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } { أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } { تنزيل من حكيم حميد } { منزل من ربك بالحق } إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة .
وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه ; وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار : فيخرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم .
وفي الصحيح في حديث الخوارج : { ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء } وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره { ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل : ربنا الله الذي في السماء } وذكره .
وقوله في حديث الأوعال { والعرش فوق ذلك والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه } رواه أحمد وأبو داود وغيرهما وقوله في الحديث الصحيح للجارية { أين الله ؟ قالت في السماء قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله قال : أعتقها فإنها مؤمنة } .
مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
حق على ظاهره وهو سبحانه فوق العرش وهو قبل وجه المصلي ; بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات .
فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه .
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك - ولله المثل الأعلى ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه ; لا تشبيه الخالق بالمخلوق - فقال النبي صلى الله عليه وسلم { ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به فقال له أبو رزين العقيلي : كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله هذا القمر كلكم يراه مخليا به وهو آية من آيات الله ; فالله أكبر } أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال : { إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر } فشبه الرؤية بالرؤية وإن لم يكن المرئي مشابها للمرئي فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه كل يراه فوقه قبل وجهه ; كما يرى الشمس والقمر ولا منافاة أصلا .
ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله : يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد .
واعلم أن من المتأخرين من يقول : مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد وهذا اللفظ " مجمل " فإن قوله : ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين ; مثل أن يراد بكون " الله قبل وجه المصلي " أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه وإن " الله معنا " ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك فلا شك أن هذا غير مراد .
ومن قال : إن مذهب السلف أن هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث فإن هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع .
اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار معذورا في هذا الإطلاق .
فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس وهو من الأمور النسبية .
وكان أحسن من هذا أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر أن هذا ليس هو الظاهر حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظا ومعنى .
وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله : الظاهر غير مراد عندهم أن المعاني التي تظهر من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته ولا يختص بصفة المخلوقين بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازا ذهنيا أو جوازا خارجيا غير مراد فهذا قد أخطأ فيما نقله عن السلف أو تعمد الكذب ; فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل - لا نصا ولا ظاهرا - أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة .
وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف ويقولون إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف - بمعنى أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله سبحانه وتعالى - ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إلى ذلك ويقولون : الفرق بين الطريقين أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره .
وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف : أما في كثير من الصفات فقطعا : مثل أن الله تعالى فوق العرش فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم - الذي لم يحك هنا عشره - علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك .
والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم يدل - لا نصا ولا ظاهرا ولا بالقرائن - على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر ; بل الذي رأيته أن كثيرا من كلامهم يدل - إما نصا وإما ظاهرا - على تقرير جنس هذه الصفات ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة ; بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة ; وما رأيت أحدا منهم نفاها .
وإنما ينفون التشبيه وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه ; مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضا ; كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري : من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها .
وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا : هذا جهمي معطل ; وهذا كثير جدا في كلامهم فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئا من الصفات مشبها - كذبا منهم وافتراء - حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك حتى قال ثمامة بن الأشرس من رؤساء الجهمية : ثلاثة من الأنبياء مشبهة ; موسى حيث قال : { إن هي إلا فتنتك } وعيسى حيث قال : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } ومحمد صلى الله عليه وسلم حيث قال : { ينزل ربنا } .
وحتى إن جل المعتزلة تدخل عامة الأئمة : مثل مالك وأصحابه والثوري وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم في قسم المشبهة .
وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءا سماه : " تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة " ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب " أهل السنة " بلقب افتراه - يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد - كما أن المشركين كانوا يلقبون النبي بألقاب افتروها .
فالروافض تسميهم نواصب والقدرية يسمونهم مجبرة والمرجئة تسميهم شكاكا والجهمية تسميهم مشبهة وأهل الكلام يسمونهم حشوية ونوابت وغثاء وغثرا إلى أمثال ذلك .
كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم تارة مجنونا وتارة شاعرا وتارة كاهنا وتارة مفتريا .
قالوا فهذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتقادا واقتصادا وقولا وعملا ; فكما أن المنحرفين عنه يسمونهم بأسماء مذمومة مكذوبة - وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة - فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات ; باطنا وظاهرا .
وأما الذين وافقوه ببواطنهم وعجزوا عن إقامة الظواهر والذين وافقوه بظواهرهم وعجزوا عن تحقيق البواطن والذين وافقوه ظاهرا وباطنا بحسب الإمكان : فلا بد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصا يذمونهم به ويسمونهم بأسماء مكذوبة - وإن اعتقدوا صدقها - كقول الرافضي : من لم يبغض أبا بكر - رضي الله عنه - وعمر : فقد أبغض عليا ; لأنه لا ولاية لعلي إلا بالبراءة منهما ثم يجعل من أحب أبا بكر وعمر ناصبيا ; بناء على هذه الملازمة الباطلة التي اعتقدها صحيحة أو عاند فيها وهو الغالب .
وكقول القدري : من اعتقد أن الله أراد الكائنات وخلق أفعال العباد : فقد سلب من العباد الاختيار والقدرة وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا قدرة .
وكقول الجهمي : من قال إن الله فوق العرش : فقد زعم أنه محصور وأنه جسم مركب محدود وأنه مشابه لخلقه .
وكقول الجهمية المعتزلة : من قال إن لله علما وقدرة فقد زعم أنه جسم مركب وأنه مشبه ; لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجوهر متحيز وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد ومن قال ذلك فهو مشبه لأن الأجسام متماثلة .
ومن حكى عن الناس " المقالات " وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة - بناء على عقيدته التي هم مخالفون له فيها - فهو وربه والله من ورائه بالمرصاد ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله .
وجماع الأمر : أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها " ستة أقسام " كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة .
" قسمان " يقولان : تجري على ظواهرها .
و " قسمان " يقولان : هي على خلاف ظاهرها .
و " قسمان " يسكتون .
أما الأولون فقسمان : ( أحدهما من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين فهؤلاء المشبهة ومذهبهم باطل أنكره السلف وإليهم يتوجه الرد بالحق .
( الثاني : من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك ; على ظاهرها اللائق بجلال الله ; فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث وإما عرض قائم به .
فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك : في حق العبد أعراض ; والوجه واليد والعين في حقه أجسام فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما وقدرة وكلاما ومشيئة - وإن لم يكن ذلك عرضا ; يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين - جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين .
وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف وعليه يدل كلام جمهورهم وكلام الباقين لا يخالفه ; وهو أمر واضح فإن الصفات كالذات .
فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات فصفاته ثابتة حقيقية من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات .
فمن قال : لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودين .
قيل له : فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين ; ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته ; فمن لم يفهم من صفات الرب - الذي ليس كمثله شيء - إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه .
وما أحسن ما قال بعضهم : إذا قال لك الجهمي كيف استوى أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا أو كيف يداه ونحو ذلك فقل له : كيف هو في ذاته ؟ فإذا قال لك لا يعلم ما هو إلا هو وكنه الباري تعالى غير معلوم للبشر .
فقل له : فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف ; فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك .
بل هذه " المخلوقات في الجنة " قد ثبت عن ابن عباس أنه قال : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء وقد أخبر الله تعالى : أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من خلق الله كذلك فما ظنك بالخالق سبحانه وتعالى .
وهذه " الروح " التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها ; أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى ؟ مع أنا نقطع بأن الروح في البدن وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء ; وأنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومن وافقهم - حيث نفوا عنها الصعود والنزول والاتصال بالبدن والانفصال عنه وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص ; فيكونون قد أخطئوا في اللفظ وأنى لهم بذلك .
ولا نقول إنها مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلا ; أو صفة من صفات البدن والحياة وأنها مختلفة الأجساد ومساوية لسائر الأجساد في الحد والحقيقة كما يقول طوائف من أهل الكلام بل نتيقن أن الروح عين موجودة غير البدن ; وأنها ليست مماثلة له ; وهي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازا ; فإذا كان مذهبنا في حقيقة " الروح " وصفاتها بين المعطلة والممثلة : فكيف الظن بصفات رب العالمين ؟ .
وأما ( القسمان اللذان ينفيان ظاهرها ; أعني الذين يقولون : ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط وأن الله لا صفة له ثبوتية ; بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وإما مركبة منهما أو يثبتون بعض الصفات - وهي الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر - أو يثبتون الأحوال دون الصفات ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين .
فهؤلاء قسمان : ( قسم يتأولونها ويعينون المراد مثل قولهم : استوى بمعنى استولى ; أو بمعنى علو المكانة والقدر أو بمعنى ظهور نوره للعرش ; أو بمعنى انتهاء الخلق إليه ; إلى غير ذلك من معاني المتكلمين .
( وقسم يقولون : الله أعلم بما أراد بها ; لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه : وأما ( القسمان الواقفان : - فقوم يقولون : يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله ; ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك .
فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه .
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك - ولله المثل الأعلى ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه ; لا تشبيه الخالق بالمخلوق - فقال النبي صلى الله عليه وسلم { ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به فقال له أبو رزين العقيلي : كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله هذا القمر كلكم يراه مخليا به وهو آية من آيات الله ; فالله أكبر } أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال : { إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر } فشبه الرؤية بالرؤية وإن لم يكن المرئي مشابها للمرئي فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه كل يراه فوقه قبل وجهه ; كما يرى الشمس والقمر ولا منافاة أصلا .
ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله : يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد .
واعلم أن من المتأخرين من يقول : مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد وهذا اللفظ " مجمل " فإن قوله : ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين ; مثل أن يراد بكون " الله قبل وجه المصلي " أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه وإن " الله معنا " ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك فلا شك أن هذا غير مراد .
ومن قال : إن مذهب السلف أن هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث فإن هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع .
اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار معذورا في هذا الإطلاق .
فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس وهو من الأمور النسبية .
وكان أحسن من هذا أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر أن هذا ليس هو الظاهر حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظا ومعنى .
وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله : الظاهر غير مراد عندهم أن المعاني التي تظهر من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته ولا يختص بصفة المخلوقين بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازا ذهنيا أو جوازا خارجيا غير مراد فهذا قد أخطأ فيما نقله عن السلف أو تعمد الكذب ; فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل - لا نصا ولا ظاهرا - أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة .
وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف ويقولون إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف - بمعنى أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله سبحانه وتعالى - ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إلى ذلك ويقولون : الفرق بين الطريقين أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره .
وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف : أما في كثير من الصفات فقطعا : مثل أن الله تعالى فوق العرش فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم - الذي لم يحك هنا عشره - علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك .
والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم يدل - لا نصا ولا ظاهرا ولا بالقرائن - على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر ; بل الذي رأيته أن كثيرا من كلامهم يدل - إما نصا وإما ظاهرا - على تقرير جنس هذه الصفات ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة ; بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة ; وما رأيت أحدا منهم نفاها .
وإنما ينفون التشبيه وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه ; مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضا ; كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري : من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها .
وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا : هذا جهمي معطل ; وهذا كثير جدا في كلامهم فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئا من الصفات مشبها - كذبا منهم وافتراء - حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك حتى قال ثمامة بن الأشرس من رؤساء الجهمية : ثلاثة من الأنبياء مشبهة ; موسى حيث قال : { إن هي إلا فتنتك } وعيسى حيث قال : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } ومحمد صلى الله عليه وسلم حيث قال : { ينزل ربنا } .
وحتى إن جل المعتزلة تدخل عامة الأئمة : مثل مالك وأصحابه والثوري وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم في قسم المشبهة .
وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءا سماه : " تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة " ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب " أهل السنة " بلقب افتراه - يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد - كما أن المشركين كانوا يلقبون النبي بألقاب افتروها .
فالروافض تسميهم نواصب والقدرية يسمونهم مجبرة والمرجئة تسميهم شكاكا والجهمية تسميهم مشبهة وأهل الكلام يسمونهم حشوية ونوابت وغثاء وغثرا إلى أمثال ذلك .
كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم تارة مجنونا وتارة شاعرا وتارة كاهنا وتارة مفتريا .
قالوا فهذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتقادا واقتصادا وقولا وعملا ; فكما أن المنحرفين عنه يسمونهم بأسماء مذمومة مكذوبة - وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة - فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات ; باطنا وظاهرا .
وأما الذين وافقوه ببواطنهم وعجزوا عن إقامة الظواهر والذين وافقوه بظواهرهم وعجزوا عن تحقيق البواطن والذين وافقوه ظاهرا وباطنا بحسب الإمكان : فلا بد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصا يذمونهم به ويسمونهم بأسماء مكذوبة - وإن اعتقدوا صدقها - كقول الرافضي : من لم يبغض أبا بكر - رضي الله عنه - وعمر : فقد أبغض عليا ; لأنه لا ولاية لعلي إلا بالبراءة منهما ثم يجعل من أحب أبا بكر وعمر ناصبيا ; بناء على هذه الملازمة الباطلة التي اعتقدها صحيحة أو عاند فيها وهو الغالب .
وكقول القدري : من اعتقد أن الله أراد الكائنات وخلق أفعال العباد : فقد سلب من العباد الاختيار والقدرة وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا قدرة .
وكقول الجهمي : من قال إن الله فوق العرش : فقد زعم أنه محصور وأنه جسم مركب محدود وأنه مشابه لخلقه .
وكقول الجهمية المعتزلة : من قال إن لله علما وقدرة فقد زعم أنه جسم مركب وأنه مشبه ; لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجوهر متحيز وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد ومن قال ذلك فهو مشبه لأن الأجسام متماثلة .
ومن حكى عن الناس " المقالات " وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة - بناء على عقيدته التي هم مخالفون له فيها - فهو وربه والله من ورائه بالمرصاد ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله .
وجماع الأمر : أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها " ستة أقسام " كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة .
" قسمان " يقولان : تجري على ظواهرها .
و " قسمان " يقولان : هي على خلاف ظاهرها .
و " قسمان " يسكتون .
أما الأولون فقسمان : ( أحدهما من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين فهؤلاء المشبهة ومذهبهم باطل أنكره السلف وإليهم يتوجه الرد بالحق .
( الثاني : من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك ; على ظاهرها اللائق بجلال الله ; فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث وإما عرض قائم به .
فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك : في حق العبد أعراض ; والوجه واليد والعين في حقه أجسام فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما وقدرة وكلاما ومشيئة - وإن لم يكن ذلك عرضا ; يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين - جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين .
وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف وعليه يدل كلام جمهورهم وكلام الباقين لا يخالفه ; وهو أمر واضح فإن الصفات كالذات .
فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات فصفاته ثابتة حقيقية من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات .
فمن قال : لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودين .
قيل له : فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين ; ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته ; فمن لم يفهم من صفات الرب - الذي ليس كمثله شيء - إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه .
وما أحسن ما قال بعضهم : إذا قال لك الجهمي كيف استوى أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا أو كيف يداه ونحو ذلك فقل له : كيف هو في ذاته ؟ فإذا قال لك لا يعلم ما هو إلا هو وكنه الباري تعالى غير معلوم للبشر .
فقل له : فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف ; فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك .
بل هذه " المخلوقات في الجنة " قد ثبت عن ابن عباس أنه قال : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء وقد أخبر الله تعالى : أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من خلق الله كذلك فما ظنك بالخالق سبحانه وتعالى .
وهذه " الروح " التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها ; أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى ؟ مع أنا نقطع بأن الروح في البدن وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء ; وأنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومن وافقهم - حيث نفوا عنها الصعود والنزول والاتصال بالبدن والانفصال عنه وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص ; فيكونون قد أخطئوا في اللفظ وأنى لهم بذلك .
ولا نقول إنها مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلا ; أو صفة من صفات البدن والحياة وأنها مختلفة الأجساد ومساوية لسائر الأجساد في الحد والحقيقة كما يقول طوائف من أهل الكلام بل نتيقن أن الروح عين موجودة غير البدن ; وأنها ليست مماثلة له ; وهي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازا ; فإذا كان مذهبنا في حقيقة " الروح " وصفاتها بين المعطلة والممثلة : فكيف الظن بصفات رب العالمين ؟ .
وأما ( القسمان اللذان ينفيان ظاهرها ; أعني الذين يقولون : ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط وأن الله لا صفة له ثبوتية ; بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وإما مركبة منهما أو يثبتون بعض الصفات - وهي الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر - أو يثبتون الأحوال دون الصفات ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين .
فهؤلاء قسمان : ( قسم يتأولونها ويعينون المراد مثل قولهم : استوى بمعنى استولى ; أو بمعنى علو المكانة والقدر أو بمعنى ظهور نوره للعرش ; أو بمعنى انتهاء الخلق إليه ; إلى غير ذلك من معاني المتكلمين .
( وقسم يقولون : الله أعلم بما أراد بها ; لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه : وأما ( القسمان الواقفان : - فقوم يقولون : يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله ; ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك .
مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم .
وقوم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات .
فهذه " الأقسام الستة " لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها .
والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها ; القطع بالطريقة الثابتة كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله - سبحانه وتعالى - فوق عرشه ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك ; دلالة لا تحتمل النقيض ; وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .
ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن { عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي من الليل قال : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ; اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ; إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم } وفي رواية لأبي داود : { أنه كان يكبر في صلاته ثم يقول ذلك } .
فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين : انفتح له طريق الهدى ; ثم إن كان قد خبر نهايات أقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب ; وعرف أن غالب ما يزعمونه برهانا هو شبهة ورأى أن غالب ما يعتمدونه يؤول إلى دعوى لا حقيقة لها ; أو شبهة مركبة من قياس فاسد ; أو قضية كلية لا تصح إلا جزئية ; أو دعوى إجماع لا حقيقة له ; أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة .
ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة عمن لم يعرف اصطلاحهم - أوهمت الغر ما يوهمه السراب للعطشان - ازداد إيمانا وعلما بما جاء به الكتاب والسنة فإن " الضد يظهر حسنه الضد " وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيما وبقدره أعرف إذا هدي إليه .
فأما المتوسطون من المتكلمين فيخاف عليهم ما لا يخاف على من لم يدخل فيه وعلى من قد أنهاه نهايته فإن من لم يدخل فيه فهو في عافية ومن أنهاه فقد عرف الغاية فما بقي يخاف من شيء آخر فإذا ظهر له الحق وهو عطشان إليه قبله وأما المتوسط فيتوهم بما يتلقاه من المقالات المأخوذة تقليدا لمعظمة هؤلاء .
وقد قال بعض الناس : أكثر ما يفسد الدنيا : نصف متكلم ونصف متفقه ونصف متطبب ونصف نحوي هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان وهذا يفسد الأبدان وهذا يفسد اللسان .
ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب { لفي قول مختلف } { يؤفك عنه من أفك } يعلم الذكي منهم والعاقل : أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة وأن حجته ليست ببينة وإنما هي كما قيل فيها : - حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور ويعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه حيث قال : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال : هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام .
ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر - والحيرة مستولية عليهم والشيطان مستحوذ عليهم - رحمتهم وترفقت بهم ; أوتوا ذكاء وما أوتوا ذكاء وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة { فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } .
ومن كان عليما بهذه الأمور : تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه وذموا أهله وعابوهم وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعدا .
فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين .
والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على محمد خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين .
وقوم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات .
فهذه " الأقسام الستة " لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها .
والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها ; القطع بالطريقة الثابتة كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله - سبحانه وتعالى - فوق عرشه ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك ; دلالة لا تحتمل النقيض ; وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .
ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن { عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي من الليل قال : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ; اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ; إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم } وفي رواية لأبي داود : { أنه كان يكبر في صلاته ثم يقول ذلك } .
فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين : انفتح له طريق الهدى ; ثم إن كان قد خبر نهايات أقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب ; وعرف أن غالب ما يزعمونه برهانا هو شبهة ورأى أن غالب ما يعتمدونه يؤول إلى دعوى لا حقيقة لها ; أو شبهة مركبة من قياس فاسد ; أو قضية كلية لا تصح إلا جزئية ; أو دعوى إجماع لا حقيقة له ; أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة .
ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة عمن لم يعرف اصطلاحهم - أوهمت الغر ما يوهمه السراب للعطشان - ازداد إيمانا وعلما بما جاء به الكتاب والسنة فإن " الضد يظهر حسنه الضد " وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيما وبقدره أعرف إذا هدي إليه .
فأما المتوسطون من المتكلمين فيخاف عليهم ما لا يخاف على من لم يدخل فيه وعلى من قد أنهاه نهايته فإن من لم يدخل فيه فهو في عافية ومن أنهاه فقد عرف الغاية فما بقي يخاف من شيء آخر فإذا ظهر له الحق وهو عطشان إليه قبله وأما المتوسط فيتوهم بما يتلقاه من المقالات المأخوذة تقليدا لمعظمة هؤلاء .
وقد قال بعض الناس : أكثر ما يفسد الدنيا : نصف متكلم ونصف متفقه ونصف متطبب ونصف نحوي هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان وهذا يفسد الأبدان وهذا يفسد اللسان .
ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب { لفي قول مختلف } { يؤفك عنه من أفك } يعلم الذكي منهم والعاقل : أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة وأن حجته ليست ببينة وإنما هي كما قيل فيها : - حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور ويعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه حيث قال : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال : هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام .
ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر - والحيرة مستولية عليهم والشيطان مستحوذ عليهم - رحمتهم وترفقت بهم ; أوتوا ذكاء وما أوتوا ذكاء وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة { فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } .
ومن كان عليما بهذه الأمور : تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه وذموا أهله وعابوهم وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعدا .
فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين .
والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على محمد خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين .
صفحة 3 من اصل 3 • 1, 2, 3
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى