مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
في هذا الزمن الذي تختلط فيه الثقافات، وتتصارع الحضارات، وتتنافس
الأفكار، وتتشعب الآراء، وتتعدد المذاهب، تظل ثقافة المسلمين تُطل بوجهها
النضر الذي يزري بجماله وجلاله تيك الوجوه الكالحة التي مهما تزينت وتجملت
محاولة إخفاء قبحها، ومخادعة بتحسين وجهها، إلا أن القبح والبشاعة لا
تطمسها المساحيق، ولا تمحوها الألوان والأصباغ، إلا أن كثيرا من ذوي النفوس
الملتوية، والفِطَرِ المطموسة تعمى? أبصارهم، وتطيش أفكارهم ..
في هذا الزمن الذي تختلط فيه الثقافات، وتتصارع الحضارات، وتتنافس
الأفكار، وتتشعب الآراء، وتتعدد المذاهب، تظل ثقافة المسلمين تُطل بوجهها
النضر الذي يزري بجماله وجلاله تيك الوجوه الكالحة التي مهما تزينت وتجملت
محاولة إخفاء قبحها، ومخادعة بتحسين وجهها، إلا أن القبح والبشاعة لا
تطمسها المساحيق، ولا تمحوها الألوان والأصباغ، إلا أن كثيرا من ذوي النفوس
الملتوية، والفِطَرِ المطموسة تعمى أبصارهم، وتطيش أفكارهم، وتتعفَّن
أذواقهم، فيصبح القبيح لديهم حسنا، والخنا طيبا، والبشاعة جمالا.
إنك لو أتيت بالجعلان ففرشت له ورداً طائفياً، وضمخت سكنه عوداً هندياً،
وضوعت إقامته عطراً سويسرياً، فإنه سيرفض ذلك كله ويهرب منه مفضلا عليه ما
أحبَّتْه نفسُه، واعتاده هواه من أمكنة خسيسة.
في هذا العصر تناسى المسلمون ثقافتهم، وغفلوا عن مشاربهم، وتجاهلوا
مناهجهم، مع أنها كانت الشمس التي تشرق على الدنيا جميعها، تستنير بنورها،
وتسعى لدفئها، وتجني من فوائدها.
وهذه عجالة عابرة نتحدث فيها عن الثقافة الإسلامية وعن بعض خصائصها وفضائلها،
فالثقافة الإسلامية هي عبارة عن الــمُثُل والعلوم والمعارف الإسلامية التي
تقوم على عقيدة التوحيد وأسس الشريعة، وخلق الإيمان، وهذا هو الفرق بينها
وبين غيرها من الثقافات؛ فهي تستمد كيانها من نور الإسلام، وبهاء الإيمان،
وهدى القرآن، وحديث المصطفى؛ فهي شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي
أكلها كل حين بإذن ربها، لا شرقية ولا غربية، ولكن ربانية نورانية روحانية.
أما الثقافات الأخرى فهي يونانية، أو رومانية، أو تخريفات مسيحية. إن
ثقافتنا هي الثقافة التي تهدف للعدل، وتسعى للحق، وتدعو إلى الأخوَّة,
وتنبذ الظلم، وتأبى الجور، وتثور في وجه الطغيان. إنها الدوحة الغناء التي
سُقِيَت بغيث السماء، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
إنها ليست ثقافة الجور، وأفكار البغي، وظلام الاستعباد، وشؤم العنصرية،
وهمجية التسلط، وتعسف المبادئ، ونيران الحقد، ومهاوي التحلل، ومعاطن
الشهوانية، وإمتاع الأجساد، وتمزيق الأرواح، وغيرها من وصمات البؤس التي
تقوم عليها الثقافات الغربية وأخواتها، إن الفرق بين الثقافتين كالفرق بين
النور والظلام، والليل والنهار، والضلال والهدى، والبصر والعمى، والعذب
الفرات والملح الأجاج.
يا أُمَّةً ضّيَّعَتْ مِنْهَاجَ خَالِقِها *** تَهيمُ مِنْ غَيْرِ لا هَدْيٍ ولَا عَلَمِ
لنْ تهتَدي أُمَّةٌ في غَير مَنْهَجِه *** مَهما ارْتَضَتْ مِنْ بَديعِ الرأْيِ والنُّظُمِ
خصائص الثقافة الإسلامية: للثقافة الإسلامية خصائص عظمى، ومميزات مثلى،
تسمو بها إلى آفاق الخير، وترتقي بها عن ثقافات الغير، وهي خصائص باهرة،
وفضائل ظاهرة، ومعالم طاهرة، نختار منها بعضها، ونجس منها نبضها، ونعرض
عليكم ومضها.
تألَّقَتِ المـَحَاسِنُ حينَ تُتْلى *** علينَا في الصَّباحِ وفي المـَسَاءِ
تبُثُّ بأنْفُسِ العُشَّاقِ شوقاً *** إلى عِطْر المـَودَّةِ والصَّفاءِ
وتَعْرُجُ بالقُلُوبِ إلَى عُلُوٍّ *** تُجَلِّلُهُ أَفانينُ البَهاءِ
ومَا ظنُّ النُّفوسِ بما أتاها *** بهِ جبريلُ مِنْ رَبِّ السَّماءِ
أولا:- الربَّانية: إنها ثقافةٌ ربَّانيةُ المصدر، وهذا هو سر تألقها،
وأساس تفوقها، وبريق تأنقها؛ هذا هو عطر وجودها، ورفيع عمودها، وأساس
خلودها، وعبق ورودها؛ إنها لم تأتنا عن فرويد، أو دوركايم، أو ماركس، أو
غيره من تلك السلسلة العفنة النائمة في مزبلة التاريخ، بل جاءتنا عن محمد
عن جبريل عن الله.
سَنَدٌ كَأنَّ عليهِ مِنْ شمسِ الضُّحى *** نوراً ومِنْ أَلَقِ الضياءِ عَمودا
إنها الوحي الرباني الأجَلّ المسدى إلينا من خالق الكون، ومبدع الوجود، ومصور الإنسان، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء:82]، إن ثقافتنا مصدرها الوحي من كتاب وسنة، (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4]، (وَلَوْ
تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ
بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) [الحاقة:44-47].
وما دام هذا هو مصدر ثقافتنا فهي مبرأة من العيب، منزهة عن النقص، محفوظة
من الميل، مأمونة من الحيف؛ بينة الكمال، بديعة الجمال، عظيمة الجلال،
مهيبة الجانب، محترمة المقام، معظمة المكانة.
ثانيا:- الشمول: فهي ثقافة شاملة شافية، واسعة وافية، بديعة كافية؛ إنها
تلم بكل حاجيات الحياة ومتطلبات الإنسان، وإنها تقدم التصور الكامل الشامل
في الاعتقاد والحياة والوجود، وهي كذلك شاملة لكل الإنسانية، فليست حكرا
على فئة، أو رسالة إلى أمة، أو دعوة لقبيلة، أو ملكا لجنس، بل هي للبشرية
جمعاء، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ:28]، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) [الأعراف:158].
إن هذا الشمول الذي ارتدته الثقافة، الإسلامية وتزينت به، لم يجعلها في يوم
من الأيام على مَرِّ تأريخها تقصر أو تضعف عن تلبية مطالب البشرية في أي
شأن من شؤون حياتها المتجددة المتنوعة، وليس لأربابها أن يولوا وجوههم
قِبَلَ المشرق والمغرب، وبين أظهرهم هذا البحر الرقراق الذي لا ينضب
مَعِينُه، ولا تنقضي روافده، ولا تحجب فوائده.
ثالثا:- التوازن: تتسم الثقافة الإسلامية بتوازن بديع، وتناسق رفيع، فهي
أمر ونهي، وثواب وعقاب، وغيب وشهادة، وترغيب وترهيب، وخوف ورجاء، وحاضر
وماض، وجسد وروح، وفكر وعاطفة، وقلب وعقل؛ إنها مجموعة من الـمُثُل
والأخلاق, متوازنة متناسقة متناغمة متوائمة متفاهمة، لا يطغى جانب فيها على
جانب، ولا تحيف خلة منها على أخرى، فيها من كل فاكهة زوجان، فبأي آلاء
ربكما تكذبان؟! إن هذا التوازن هو الذي يبث في الإنسان الراحة والهدوء
والاستقرار والاطمئنان والسعادة والسلوان.
وانظر في المقابل إلى الثقافة حينما تفقد التوازن لأنها محجوبة عن الوحي،
يقول الفيلسوف الأمريكي ديورانت: وثقافتنا اليوم سطحية، ومعرفتنا خطِرة،
لأننا أغنياء في الآلات، فقراء في الأغراض، وقد ذهب اتزان العقل الذي نشأ
ذات يوم من حرارة الإيمان الديني، وانتَزَع العلم منا الأسس المتعالية
لأخلاقياتنا، ويبدو العالم كله مستغرقا في فردية مضطربة تعكس تجزُّؤ خلقنا
المضطرب.
رابعا:- الإيجابية: وهي الثقافة الباذلة العاملة الفاعلة المؤثرة المبصرة،
تشيد بالعمل، وتنادي بالكفاح، وتدعو للرقي، وتهتف بالعلم، وتنهى عن الخمول،
وتحذر من التقاعس، وتأبى التكاسل، وتمقت التواكل، لا ترضى لأربابها أن
يعيشوا على الهامش، أو يظلوا في الذيل، أو يقبلوا بالهوان، أو يعيشوا
سلبيين، أو يظلوا تقليديين، بل يجب أن يخترقوا بنور ثقافتهم ظلام
الجاهليات، وحلكة النظريات، وينيروا العقول، ويضيئوا النفوس، ويبثوا الهدى،
وينشروا الرضا.
إنها ليست طقوسا بالية، أو عبادات ذاويه، أو تقاليد واهية، بل هي مصابيح
الحياة؛ فمن تعلق بها نجى، ومن صدف عنها هوى، وضل الطريق وغوى؛ إنها تبث في
وجدان المسلم أن لا يهدأ له بال، ولا تستقر به حال، ولا تقر له عين، ولا
تطمئن له نفس، حتى يرى عطرها تتضمخ به الدنيا، ويبصر نورها تستنير به
البشرية، ويسمع صوتها تطرب على نغماته الإنسانية.
خامسا:- الثبات: إن الثبات في الثقافة الإسلامية يعني ثبات مصادرها، ومتانة
أسسها، وعراقة مناهلها؛ إن هذه ميزة للثقافة الإسلامية من غيرها من
الثقافات التي هي أشبه بالأزهار على أكوام الرمـل، أو الأشجار على الشواطئ
الرملية التي هي عرضة للزوال في أي ريح عاصف، ثم لا يبقى لها جذور، ولا
تثبت لها أصول.
أما ثقافة الإسلام فهي ثابتة بثبات الإسلام، راسخة رسوخ الإيمان، محفوظة
حفظ القرآن؛ إنها الثقافة التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، إنها تمتد
منذ فجر البشرية، فهي ثابتة الأصول، متطورة الثمار، متجددة الأغصان،
متزايدة الأفنان، متنوعة العطاء.
إن رسالة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- نفسها لم تبدأ من فراغ، بل هي إكمال
لبناء الأنبياء، وإتمام لرسالة السماء؛ فهي قامت على الأصل الراسخ الباذخ،
ثم أضافت عليه، وأكملت بنيانه، وتممت نقصانه، وجمـلت أفنانه؛ فهي قامت على
ركن ركين، وأساس متين، ثم أشرقت بنورها في العالمين، فكانت ثقافة قوية
أبية جلية نقية علية ندية، لا تضيق سبلها، ولا تقفل طرقها، ولا يتعثر
مسيرها، ولا يخفت جمالها، ولا تفنى حبالها، ولا يضعف رجالها.
يجب أن تتطور الثقافة وأن تواكب العصر، وتسابق الزمن، وتوسع المدارك، وتأخذ
بكل أسباب العلم والرقي والحضارة، وأن تستمد من كل الثقافات، ولكن مع
احتفاظها بأصولها الثابتة، وأركانها الراسخة، وأن تسير في طريق الفطرة
والخير والجمال والجـلال والكمال، وهذا هو الموقف الأسَدُّ، والطريق
الأقوم.
إن هنالك ثوابت لا يجب المساس بها أو تجاهلها أو التقليل من شأنها، بل إن أي صدوف عنها أو خروج عليها يخرج بالثقافة عن إسلامها.
إن ثقافتنا تحمل في طياتها كل معاني المرونة المطلوبة لتطورات المستقبل، وتحمل في ثناياها كل عناصر بقائها وصفائها ووفائها.
وإن التطور حينما ينطلق من الأسس الثابتة للإسلام، يصبح تطورا محمودا نافعا
مثمرا، أما حينما يتنصل من تعاليم الدين، وأوامر الشريعة، فهو ليس تقدما
أو تطورا أو تغييرا للأحسن، بل هو تدهور وضياع وضلال، ولم يكن الإسلام في
يوم من الأيام حجر عثرة في طريق العلم والتقدم والرقي.
إن الإسلام قد وضع التشريعات التفصيلية الثابتة في الأمور الثابتة في أعماق الفطرة،
أما الأمور المتغيرة فلم ترد فيها أحكام تفصيلية، وتلك من رحمة الله تعالى،
وقد تركت لأولي العلم والفهم في كل زمان ومكان يتكيفون معها منطلقين من
أصولهم الثابتة.
إن التجديد مطلوب، والتغيير محبوب، والتنويع مرغوب، ولكن إلى السمو، إلى
النمو، إلى الرفعة، إلى الكمال، إلى الجمال، الذي يدعونا إليه ديننا؛
واستمع إلى شهادة أحد الفلاسفة الغربيين عن إسلامنا وثقافتنا لو أننا أخذنا
بها كما ينبغي، يقول: إننا إذا طالعنا مبادئ الإسلام ودرسنا قواعده بنظر
عميق وبصيرة نافذة تجلت لنا حقيقة ناصعة، وهي أن المسلمين المعاصرين قد
بعدوا عن هذه المبادىء السامية بعدا شاسعا، وإن ظهرت فيهم روح قوية ذات
عزيمة ثابتة توجههم للتمسك بركائز الإسلام، فإن قوتهم ستبلغ عنان السماء،
ويكونون باعتبار الأخلاق والعلم والاجتماع منارة العالم كله.
يجب على علماء المسلمين ومفكريهم أن يشمروا عن سواعد الجد لنفي الزيف
والحيف عن ثقافة الإسلام، ولنشر نورها وهداها للعالمين، ولمزاحمة الثقافات
الباهتة المارقة الضالة؛ يجب عليهم السعي لإعادة ثقة المسلمين برسالتهم
وثقافتهم وتاريخهم ومستقبلهم، والسعي في رد الاعتبار للقيم الإسلامية التي
يحاول الأعداء تمزيق حللها الغالية.
ويجب السير بالثقافة الإسلامية من الركود أو الجمود إلى آفاق التقـدم
والترقي والتحدي، ويجب بذل النقد والتوجيه المخلص البنَّاء الوضَّاء، ويجب
الاستفادة من الثقافة الغربية وغيرها فيما ينفع المسلمين ويقوِّي شوكتهم،
ويضيف إلى أفهامهم، بعد أن نصبغه بصبغتنا الإسلامية، ونبث فيه طيب روحنا،
ونكسوه من طهرنا وصفائنا ونقائنا وبهائنا.
يجب أن نسعى جميعا لنكون سدودا منيعة أمام سيول جارفة من الكفر والخنا,
تريد أن تجتثنا من أصولنا، وتطمس مناهجنا، وتغير ثقافتنا، وتمحو هويتنا؛
فلنعض على ديننا وثقافتنا بالنواجذ، ولنعتصم بحبل ربنا، ولنتوكل عليه؛ فهو
مولانا, نعم المولى ونعم النصير.
الأفكار، وتتشعب الآراء، وتتعدد المذاهب، تظل ثقافة المسلمين تُطل بوجهها
النضر الذي يزري بجماله وجلاله تيك الوجوه الكالحة التي مهما تزينت وتجملت
محاولة إخفاء قبحها، ومخادعة بتحسين وجهها، إلا أن القبح والبشاعة لا
تطمسها المساحيق، ولا تمحوها الألوان والأصباغ، إلا أن كثيرا من ذوي النفوس
الملتوية، والفِطَرِ المطموسة تعمى? أبصارهم، وتطيش أفكارهم ..
في هذا الزمن الذي تختلط فيه الثقافات، وتتصارع الحضارات، وتتنافس
الأفكار، وتتشعب الآراء، وتتعدد المذاهب، تظل ثقافة المسلمين تُطل بوجهها
النضر الذي يزري بجماله وجلاله تيك الوجوه الكالحة التي مهما تزينت وتجملت
محاولة إخفاء قبحها، ومخادعة بتحسين وجهها، إلا أن القبح والبشاعة لا
تطمسها المساحيق، ولا تمحوها الألوان والأصباغ، إلا أن كثيرا من ذوي النفوس
الملتوية، والفِطَرِ المطموسة تعمى أبصارهم، وتطيش أفكارهم، وتتعفَّن
أذواقهم، فيصبح القبيح لديهم حسنا، والخنا طيبا، والبشاعة جمالا.
إنك لو أتيت بالجعلان ففرشت له ورداً طائفياً، وضمخت سكنه عوداً هندياً،
وضوعت إقامته عطراً سويسرياً، فإنه سيرفض ذلك كله ويهرب منه مفضلا عليه ما
أحبَّتْه نفسُه، واعتاده هواه من أمكنة خسيسة.
في هذا العصر تناسى المسلمون ثقافتهم، وغفلوا عن مشاربهم، وتجاهلوا
مناهجهم، مع أنها كانت الشمس التي تشرق على الدنيا جميعها، تستنير بنورها،
وتسعى لدفئها، وتجني من فوائدها.
وهذه عجالة عابرة نتحدث فيها عن الثقافة الإسلامية وعن بعض خصائصها وفضائلها،
فالثقافة الإسلامية هي عبارة عن الــمُثُل والعلوم والمعارف الإسلامية التي
تقوم على عقيدة التوحيد وأسس الشريعة، وخلق الإيمان، وهذا هو الفرق بينها
وبين غيرها من الثقافات؛ فهي تستمد كيانها من نور الإسلام، وبهاء الإيمان،
وهدى القرآن، وحديث المصطفى؛ فهي شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي
أكلها كل حين بإذن ربها، لا شرقية ولا غربية، ولكن ربانية نورانية روحانية.
أما الثقافات الأخرى فهي يونانية، أو رومانية، أو تخريفات مسيحية. إن
ثقافتنا هي الثقافة التي تهدف للعدل، وتسعى للحق، وتدعو إلى الأخوَّة,
وتنبذ الظلم، وتأبى الجور، وتثور في وجه الطغيان. إنها الدوحة الغناء التي
سُقِيَت بغيث السماء، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
إنها ليست ثقافة الجور، وأفكار البغي، وظلام الاستعباد، وشؤم العنصرية،
وهمجية التسلط، وتعسف المبادئ، ونيران الحقد، ومهاوي التحلل، ومعاطن
الشهوانية، وإمتاع الأجساد، وتمزيق الأرواح، وغيرها من وصمات البؤس التي
تقوم عليها الثقافات الغربية وأخواتها، إن الفرق بين الثقافتين كالفرق بين
النور والظلام، والليل والنهار، والضلال والهدى، والبصر والعمى، والعذب
الفرات والملح الأجاج.
يا أُمَّةً ضّيَّعَتْ مِنْهَاجَ خَالِقِها *** تَهيمُ مِنْ غَيْرِ لا هَدْيٍ ولَا عَلَمِ
لنْ تهتَدي أُمَّةٌ في غَير مَنْهَجِه *** مَهما ارْتَضَتْ مِنْ بَديعِ الرأْيِ والنُّظُمِ
خصائص الثقافة الإسلامية: للثقافة الإسلامية خصائص عظمى، ومميزات مثلى،
تسمو بها إلى آفاق الخير، وترتقي بها عن ثقافات الغير، وهي خصائص باهرة،
وفضائل ظاهرة، ومعالم طاهرة، نختار منها بعضها، ونجس منها نبضها، ونعرض
عليكم ومضها.
تألَّقَتِ المـَحَاسِنُ حينَ تُتْلى *** علينَا في الصَّباحِ وفي المـَسَاءِ
تبُثُّ بأنْفُسِ العُشَّاقِ شوقاً *** إلى عِطْر المـَودَّةِ والصَّفاءِ
وتَعْرُجُ بالقُلُوبِ إلَى عُلُوٍّ *** تُجَلِّلُهُ أَفانينُ البَهاءِ
ومَا ظنُّ النُّفوسِ بما أتاها *** بهِ جبريلُ مِنْ رَبِّ السَّماءِ
أولا:- الربَّانية: إنها ثقافةٌ ربَّانيةُ المصدر، وهذا هو سر تألقها،
وأساس تفوقها، وبريق تأنقها؛ هذا هو عطر وجودها، ورفيع عمودها، وأساس
خلودها، وعبق ورودها؛ إنها لم تأتنا عن فرويد، أو دوركايم، أو ماركس، أو
غيره من تلك السلسلة العفنة النائمة في مزبلة التاريخ، بل جاءتنا عن محمد
عن جبريل عن الله.
سَنَدٌ كَأنَّ عليهِ مِنْ شمسِ الضُّحى *** نوراً ومِنْ أَلَقِ الضياءِ عَمودا
إنها الوحي الرباني الأجَلّ المسدى إلينا من خالق الكون، ومبدع الوجود، ومصور الإنسان، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء:82]، إن ثقافتنا مصدرها الوحي من كتاب وسنة، (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4]، (وَلَوْ
تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ
بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) [الحاقة:44-47].
وما دام هذا هو مصدر ثقافتنا فهي مبرأة من العيب، منزهة عن النقص، محفوظة
من الميل، مأمونة من الحيف؛ بينة الكمال، بديعة الجمال، عظيمة الجلال،
مهيبة الجانب، محترمة المقام، معظمة المكانة.
ثانيا:- الشمول: فهي ثقافة شاملة شافية، واسعة وافية، بديعة كافية؛ إنها
تلم بكل حاجيات الحياة ومتطلبات الإنسان، وإنها تقدم التصور الكامل الشامل
في الاعتقاد والحياة والوجود، وهي كذلك شاملة لكل الإنسانية، فليست حكرا
على فئة، أو رسالة إلى أمة، أو دعوة لقبيلة، أو ملكا لجنس، بل هي للبشرية
جمعاء، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [سبأ:28]، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) [الأعراف:158].
إن هذا الشمول الذي ارتدته الثقافة، الإسلامية وتزينت به، لم يجعلها في يوم
من الأيام على مَرِّ تأريخها تقصر أو تضعف عن تلبية مطالب البشرية في أي
شأن من شؤون حياتها المتجددة المتنوعة، وليس لأربابها أن يولوا وجوههم
قِبَلَ المشرق والمغرب، وبين أظهرهم هذا البحر الرقراق الذي لا ينضب
مَعِينُه، ولا تنقضي روافده، ولا تحجب فوائده.
ثالثا:- التوازن: تتسم الثقافة الإسلامية بتوازن بديع، وتناسق رفيع، فهي
أمر ونهي، وثواب وعقاب، وغيب وشهادة، وترغيب وترهيب، وخوف ورجاء، وحاضر
وماض، وجسد وروح، وفكر وعاطفة، وقلب وعقل؛ إنها مجموعة من الـمُثُل
والأخلاق, متوازنة متناسقة متناغمة متوائمة متفاهمة، لا يطغى جانب فيها على
جانب، ولا تحيف خلة منها على أخرى، فيها من كل فاكهة زوجان، فبأي آلاء
ربكما تكذبان؟! إن هذا التوازن هو الذي يبث في الإنسان الراحة والهدوء
والاستقرار والاطمئنان والسعادة والسلوان.
وانظر في المقابل إلى الثقافة حينما تفقد التوازن لأنها محجوبة عن الوحي،
يقول الفيلسوف الأمريكي ديورانت: وثقافتنا اليوم سطحية، ومعرفتنا خطِرة،
لأننا أغنياء في الآلات، فقراء في الأغراض، وقد ذهب اتزان العقل الذي نشأ
ذات يوم من حرارة الإيمان الديني، وانتَزَع العلم منا الأسس المتعالية
لأخلاقياتنا، ويبدو العالم كله مستغرقا في فردية مضطربة تعكس تجزُّؤ خلقنا
المضطرب.
رابعا:- الإيجابية: وهي الثقافة الباذلة العاملة الفاعلة المؤثرة المبصرة،
تشيد بالعمل، وتنادي بالكفاح، وتدعو للرقي، وتهتف بالعلم، وتنهى عن الخمول،
وتحذر من التقاعس، وتأبى التكاسل، وتمقت التواكل، لا ترضى لأربابها أن
يعيشوا على الهامش، أو يظلوا في الذيل، أو يقبلوا بالهوان، أو يعيشوا
سلبيين، أو يظلوا تقليديين، بل يجب أن يخترقوا بنور ثقافتهم ظلام
الجاهليات، وحلكة النظريات، وينيروا العقول، ويضيئوا النفوس، ويبثوا الهدى،
وينشروا الرضا.
إنها ليست طقوسا بالية، أو عبادات ذاويه، أو تقاليد واهية، بل هي مصابيح
الحياة؛ فمن تعلق بها نجى، ومن صدف عنها هوى، وضل الطريق وغوى؛ إنها تبث في
وجدان المسلم أن لا يهدأ له بال، ولا تستقر به حال، ولا تقر له عين، ولا
تطمئن له نفس، حتى يرى عطرها تتضمخ به الدنيا، ويبصر نورها تستنير به
البشرية، ويسمع صوتها تطرب على نغماته الإنسانية.
خامسا:- الثبات: إن الثبات في الثقافة الإسلامية يعني ثبات مصادرها، ومتانة
أسسها، وعراقة مناهلها؛ إن هذه ميزة للثقافة الإسلامية من غيرها من
الثقافات التي هي أشبه بالأزهار على أكوام الرمـل، أو الأشجار على الشواطئ
الرملية التي هي عرضة للزوال في أي ريح عاصف، ثم لا يبقى لها جذور، ولا
تثبت لها أصول.
أما ثقافة الإسلام فهي ثابتة بثبات الإسلام، راسخة رسوخ الإيمان، محفوظة
حفظ القرآن؛ إنها الثقافة التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، إنها تمتد
منذ فجر البشرية، فهي ثابتة الأصول، متطورة الثمار، متجددة الأغصان،
متزايدة الأفنان، متنوعة العطاء.
إن رسالة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- نفسها لم تبدأ من فراغ، بل هي إكمال
لبناء الأنبياء، وإتمام لرسالة السماء؛ فهي قامت على الأصل الراسخ الباذخ،
ثم أضافت عليه، وأكملت بنيانه، وتممت نقصانه، وجمـلت أفنانه؛ فهي قامت على
ركن ركين، وأساس متين، ثم أشرقت بنورها في العالمين، فكانت ثقافة قوية
أبية جلية نقية علية ندية، لا تضيق سبلها، ولا تقفل طرقها، ولا يتعثر
مسيرها، ولا يخفت جمالها، ولا تفنى حبالها، ولا يضعف رجالها.
يجب أن تتطور الثقافة وأن تواكب العصر، وتسابق الزمن، وتوسع المدارك، وتأخذ
بكل أسباب العلم والرقي والحضارة، وأن تستمد من كل الثقافات، ولكن مع
احتفاظها بأصولها الثابتة، وأركانها الراسخة، وأن تسير في طريق الفطرة
والخير والجمال والجـلال والكمال، وهذا هو الموقف الأسَدُّ، والطريق
الأقوم.
إن هنالك ثوابت لا يجب المساس بها أو تجاهلها أو التقليل من شأنها، بل إن أي صدوف عنها أو خروج عليها يخرج بالثقافة عن إسلامها.
إن ثقافتنا تحمل في طياتها كل معاني المرونة المطلوبة لتطورات المستقبل، وتحمل في ثناياها كل عناصر بقائها وصفائها ووفائها.
وإن التطور حينما ينطلق من الأسس الثابتة للإسلام، يصبح تطورا محمودا نافعا
مثمرا، أما حينما يتنصل من تعاليم الدين، وأوامر الشريعة، فهو ليس تقدما
أو تطورا أو تغييرا للأحسن، بل هو تدهور وضياع وضلال، ولم يكن الإسلام في
يوم من الأيام حجر عثرة في طريق العلم والتقدم والرقي.
إن الإسلام قد وضع التشريعات التفصيلية الثابتة في الأمور الثابتة في أعماق الفطرة،
أما الأمور المتغيرة فلم ترد فيها أحكام تفصيلية، وتلك من رحمة الله تعالى،
وقد تركت لأولي العلم والفهم في كل زمان ومكان يتكيفون معها منطلقين من
أصولهم الثابتة.
إن التجديد مطلوب، والتغيير محبوب، والتنويع مرغوب، ولكن إلى السمو، إلى
النمو، إلى الرفعة، إلى الكمال، إلى الجمال، الذي يدعونا إليه ديننا؛
واستمع إلى شهادة أحد الفلاسفة الغربيين عن إسلامنا وثقافتنا لو أننا أخذنا
بها كما ينبغي، يقول: إننا إذا طالعنا مبادئ الإسلام ودرسنا قواعده بنظر
عميق وبصيرة نافذة تجلت لنا حقيقة ناصعة، وهي أن المسلمين المعاصرين قد
بعدوا عن هذه المبادىء السامية بعدا شاسعا، وإن ظهرت فيهم روح قوية ذات
عزيمة ثابتة توجههم للتمسك بركائز الإسلام، فإن قوتهم ستبلغ عنان السماء،
ويكونون باعتبار الأخلاق والعلم والاجتماع منارة العالم كله.
يجب على علماء المسلمين ومفكريهم أن يشمروا عن سواعد الجد لنفي الزيف
والحيف عن ثقافة الإسلام، ولنشر نورها وهداها للعالمين، ولمزاحمة الثقافات
الباهتة المارقة الضالة؛ يجب عليهم السعي لإعادة ثقة المسلمين برسالتهم
وثقافتهم وتاريخهم ومستقبلهم، والسعي في رد الاعتبار للقيم الإسلامية التي
يحاول الأعداء تمزيق حللها الغالية.
ويجب السير بالثقافة الإسلامية من الركود أو الجمود إلى آفاق التقـدم
والترقي والتحدي، ويجب بذل النقد والتوجيه المخلص البنَّاء الوضَّاء، ويجب
الاستفادة من الثقافة الغربية وغيرها فيما ينفع المسلمين ويقوِّي شوكتهم،
ويضيف إلى أفهامهم، بعد أن نصبغه بصبغتنا الإسلامية، ونبث فيه طيب روحنا،
ونكسوه من طهرنا وصفائنا ونقائنا وبهائنا.
يجب أن نسعى جميعا لنكون سدودا منيعة أمام سيول جارفة من الكفر والخنا,
تريد أن تجتثنا من أصولنا، وتطمس مناهجنا، وتغير ثقافتنا، وتمحو هويتنا؛
فلنعض على ديننا وثقافتنا بالنواجذ، ولنعتصم بحبل ربنا، ولنتوكل عليه؛ فهو
مولانا, نعم المولى ونعم النصير.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى