حبيبه الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
عِنَايَةُ الإِسْلامِ بِالشَّبَابِ (1)
8/7/1432
الحَمْدُ للهِ الخَلاَّقِ العَلِيمِ، الرَّؤُوفِ الرَّحِيمِ؛ أَفَاضَ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَغْدَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِ؛ فَأَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ، وَكَسَاهُمْ مِنْ عُرْيٍ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ أَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ؛ [وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡق وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ ٥٧ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ] {الذاريات:56-58}.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَحِمَ بِهِ، وَهَدَاهُ سُبْحَانَهُ وَهَدَى بِهِ، وَابْتَلاهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَابْتَلَى بِهِ، فَأَرْسَلَهُ للنَّاسِ [شَٰهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا ٤٥ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجا مُّنِيرا] {الأحزاب:45-46}، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا لَهُ دِينَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ؛ [بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِن فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ] {البقرة:112}.
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَفِي جَمِيعِ أَدْوَارِ التَّارِيخِ البَشَرِيِّ كَانَ الشَّبَابُ هُمْ عِمَادَ الأُمَمِ، وَسَبَبَ نَهْضَتِهَا، وَمَنْبَعَ قُوَّتِهَا، وَعَاقِدِي أَلْوِيَتِهَا، وَوَقُودَ حُرُوبِهَا، وَمَبْعَثَ فَخْرِهَا وَعِزِّهَا؛ فَبِالشَّبَابِ بُلِّغَتْ دَعْوَةُ اللهِ تَعَالَى، وَأُقِيمَ تَوْحِيدُهُ فِي الأَرْضِ، وَكُسِرَتْ جَحَافِلُ الشِّرْكِ، وَهُدِمَتْ رُمُوزُ الوَثَنِيَّةِ.
حَمَلَ الخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَأْسَهُ وَكَسَرَ الأَصْنَامَ وَهُوَ شَابٌّ؛ فَقَالَ قَوْمُهُ: [سَمِعۡنَا فَتى يَذۡكُرُهُمۡ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبۡرَٰهِيمُ] {الأنبياء:60}؛ فَثَبَتَ حِينَ ابْتُلِيَ، حَتَّى نَجَّاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلاَّ شَابًّا، وَلا أُوتِيَ العِلْمَ عَالِمٌ إِلاَّ وَهُوَ شَابٌّ.
وَلَمَّا فَرِحَ الخَلِيلُ بِشَبَابِ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا السَّلامُ - وَاسْتَبْشَرَ بِفُتُوَّتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَانْتَظَرَ نَفْعَهُ وَمَعُونَتَهُ؛ ابْتُلِيَ بِذَبْحِهِ فَاسْتَشَارَهُ، فَكَانَتْ قُوَّةُ الشَّبَابِ -بَعْدَ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى- مُثَبِّتَةً لِلنَّبِيَّيْنِ الكَرِيمَيْنِ فِي هَذَا الابْتِلاءِ، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ شَابًّا يَافِعًا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ] {الصَّفات:102}؛ أَيْ بَلَغَ سِنَّ مَنْ يَمْشِي مَعَ أَبِيهِ فِي شُؤُونِهِ، فَكَانَ جَوَابُ إِسْمَاعِيلَ الشَّابِّ مُعِينًا لِأَبِيهِ فِي ابْتِلاَئِهِ، وَمُثَبِّتًا لَهُ فِي امْتِحَانِهِ؛ [قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ] {الصَّافات:102}.
وَاخْتَصَّ اللهُ تَعَالَى بِالذِّكْرِ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ شَبَابًا آمَنُوا، فَاعْتَزَلُوا شِرْكَ قَوْمِهِمْ، وَآوَوْا مَعَ كَلْبِهِمْ إِلَى كَهْفِهِمْ؛ فَضَرَبَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ النَّوْمَ ثَلاثَةَ قُرُونٍ وَتِسْعًا، فِي قِصَّةٍ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ القَصَصِ تَأْثِيرًا فِي النُّفُوسِ، وَمِنْ أَشَدِّهَا أَسْرًا لِلْقُلُوبِ؛ [نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم
بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدى] {الكهف:13}.
وَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَنْكَفَ شُيُوخُ قُرَيْشٍ وَحُكَمَاؤُهَا عَنِ اتِّبَاعِهِ؛ فَكَانَ شَبَابُ مَكَّةَ أَنْصَارَهَ وَعُصْبَتَهُ، وَأَغْلَبُ مَنْ تَقَدَّمَ إِسْلاَمُهُمْ هُمْ مِنَ الشَّبَابِ، وَأَعْضَاءُ الدَّعْوَةِ السِّرِّيَّةِ فِي دَارِ الأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الأَرْقَمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- كَانُوا أَرْبَعِينَ مِنْ خِيرَةِ شَبَابِ قُرَيْشٍ؛ فَأَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُهُ ثَمَانٌ وَثَلاثُونَ سَنَةً، وَكَانَ النَّصِيرَ وَالعَضِيدَ، وَالرَّفِيقَ فِي الهِجْرَةِ وَالغَارِ، وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- لَمَّا أَسْلَمَ كَانَ عُمْرُهُ قَرِيبًا مِنَ الثَّلاثِينَ، وَبِهِ اعْتَزَّ الإِسْلاَمُ، وَخَرَجُوا مِنْ دَارِ الأَرْقَمِ، حَتَّى قِيلَ: لَمْ يَزَلِ الإِسْلامُ فِي اخْتِفَاءٍ حَتَّى أَسْلَمَ عُمرُ! وَأَسْلَمَ عُثْمَانُ وَعُمْرُهُ أَرْبَعٌ وَثَلاثُونَ، وَكَانَ فِي الإِسْلامِ مِعْطَاءً بَاذِلاً، وَأَسْلَمَ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي التَّاسِعَةِ مِنْ عُمُرِهِ يَنْقُصُ مِنْهَا أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَحَمَلَ الرَّايَةَ فِي بَدْرٍ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَأَسْلَمَ الزُّبَيْرُ وَعُمْرُهُ سِتَّةَ عَشَرَ عَامًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، وَأَسْلَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُمْرُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، وَأَسْلَمَ طَلْحَةُ وَهُوَ يُنَاهِزُ الحُلُمَ، وَأَسْلَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَهُوَ فِي الثَّلاثِينَ مِنْ عُمُرِهِ، وَأَسْلَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ فِي العِشْرِينَ أَوْ فِي الثَّلاثِينَ مِنْ عُمُرِهِ، وَأَسْلَمُ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ دُونَ العِشْرِينَ، فَهَؤُلاءِ هُمُ العَشَرَةُ المُبَشَّرُونَ بِالجَنَّةِ سَبَقُوا إِلَى الإِسْلامِ وَهُمْ شَبَابٌ، وَتَحَمَّلُوا فِي سَبِيلِ ذَلِكَ أَنْوَاعَ الأَذَى.
شَبَابٌ قُرَشِيٌّ غَضٌّ طَرِيٌّ، نَقِيَّةً قُلُوبُهُمْ، كَرِيمَةً نُفُوسُهُمْ، غَضِيضَةً عَنِ الحَرَامِ أَبْصَارُهُمْ، عَفِيفَةً عَنِ السُّحْتِ أَيْدِيهِمْ، ثَقِيلَةً فِي الإِثْمِ أَرْجُلُهُمْ، اصْطَفَاهُمُ اللهُ تَعَالَى طَلائِعَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ المُبَارَكَةِ؛ فَقَامَ الإِسْلَامُ بِسَوَاعِدِهِمْ، وَأَرْسَى بُنْيَانَهُ عَلَى أَكْتَافِهِمْ، وَانْتَشَرَ فِي الأَصْقَاعِ بِلِسَانِهِمْ وَسِنَانِهِمْ، فَلِلَّهِ تَعَالَى دَرُّهُمْ مِنْ شَبَابٍ!
وَالهِجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ المُبَارَكَةُ نَجَحَتْ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى ثُمَّ بِتَفَانِي ثُلَّةٍ مِنْ شَبَابِ قُرَيْشٍ؛ فَعَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- نَامَ فِي فِرَاشِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُخَادِعَ المُشْرِكِينَ، وَيَأْخُذَ أَبْصَارَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَحْمِيَهِ مِنْ مُؤَامَرَتِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ يُقْتَلُ مَكَانَهُ!
وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ تُجَهِّزُ الطَّعَامَ وَتَذْهَبُ بِهِ إِلَيْهِمَا، فَتَشُقُّ نِطَاقَهَا نِصْفَيْنِ، تَتَحَزَّمُ بِوَاحِدٍ، وَتَحْزِمُ الطَّعَامَ بِالآخَرِ؛ حَتَّى سُمِّيَتْ: ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، وَكَانَتْ إِذْ ذَاكَ بِنْتَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَخُوهَا عَبْدُ اللهِ شَابًّا ثَقِفًا لَقِنًا يُزَوِّدُهُمَا بِأَخْبَارِ قُرَيْشٍ كُلَّ لَيْلَةٍ وَيَبِيتُ عِنْدَهُمَا، فَإِذَا كَانَ السَّحَر عَادَ إِلَى مَكَّةَ لاَ يَشْعُرُ بِهِ أَحَدٌ، وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ -وَقَدْ أَسْلَمَ وَهُوَ فِي بَحْرِ العِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ- يَرْعَى الغَنَمَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهَا إِلَى الغَارِ فَيَحْلِبَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَنَجَحَتِ الهِجْرَةُ عَلَى أَيْدِي هَؤُلاءِ الشَّبَابِ.
وَحَمَلَ الإِسْلامَ وَالقُرْآنَ إِلَى المَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بَعْدَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ المُبَارَكَةِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- وَهُوَ دُونَ الثَّلاثِينَ، فَكَانَ قَبْلَ الهِجْرَةِ دَاعِيَةَ المَدِينَةِ وَمُقْرِئَهَا، وَكَانَ أَغْنَى شَبَابِ مَكَّةَ وَأَعْطَرَهُمْ، وَعَلَى يَدَيْهِ أَسْلَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ سَيِّدُ الأَوْسِ وَلَهُ بِضْعٌ وَثَلاثُونَ سَنَةً، فَقَامَ سَعْدٌ فِي قَوْمِهِ خَطِيبًا فَقَالَ: كَلامُ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُسْلِمُوا، فَأَسْلَمُوا؛ فَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ بَرَكَةً فِي الإِسْلامِ!
وَعَالِمُ الأَنْصَارِ وَمُفْتِيهَا وَقَاضِيهَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْه-أَسْلَمَ وَهُو ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشْرَ عَامًا، وَبَعَثَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى اليَمَنِ قَاضِيًا وَمُعَلِّمًا وَمُفْتِيًا وَهُوَ فِي العِشْرِينَ.
وَكَانَ فِتْيَانُ الصَّحَابَةِ يَتَسَابَقُونَ إِلَى الوَغَى؛ نُصْرَةً لِدِينِ اللهِ تَعَالَى، وَيَعْرِضُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجَاءَ أَنْ يُجِيزَهُمْ لِلْقِتَالِ، فَيَرُدُّ الصِّغَارَ مِنْهُمْ رَأْفَةً بِهِمْ، فَيَحْزَنُونَ لِذَلِكَ أَشَدَّ الحُزْنِ!
قَالَ ابْنُ عُمَرَ - َضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: عَرَضَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ في الْقِتَالِ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَاسْتَصْغَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- فَحَشَا خُفَّيْهِ بِرِقَاعٍ حَتَّى تَرْفَعَ قَامَتَهُ، وَتَطَاوَلَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، وَأُخْبِرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ رَامِيًا فَأَجَازَهُ، فَقَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ لِزَوْجِ أُمِّهِ: أَجَازَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَافِعَ بْنَ خَدِيْجٍ وَرَدَّنِي وَأَنَا أَصْرَعُهُ، فَأُعْلِمَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: تَصَارَعَا؛ فَصَرَعَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رَافِعًا، فَأَجَازَهُ.
وَمِمَّنْ رَدَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ لِصِغَرِ سِنِّهِ سَعْدُ بْنُ حَبْتَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الخَنْدَقِ رَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَاتِلُ قِتَالاً شَدِيدًا، فَدَعَاهُ، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ، وَدَعَا لَهُ بِالبَرَكَةِ في وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ؛ فَكَانَ عَمًّا لِأَرْبَعِينَ، وَخَالاً لِأَرْبَعِينَ، وَأَبًا لِعِشْرِينَ، وَمِنْ وَلَدِهِ أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
هَكَذَا كَانَ شَبَابُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَتَحَمَّلُونَ مِنَ المَسْؤُولِيَّاتِ مَا يَلِيقُ بِقُوَّةِ الشَّبَابِ وَفُتُوَّتِهِ وَبَأْسِهِ، وَلاَ يَرْكَنُونَ إِلَى اللَّهْوِ وَالدَّعَةِ وَالكَسَلِ، وَمَا فُتِحَتِ الفُتُوحُ، وَمُصِّرَتِ الأَمْصَارُ، وَعَزَّ الإِسْلامُ، وَارْتَفَعَتْ رَايَتُهُ إِلاَّ بِهِمْ، وَمَا نَنْعَمُ بِهِ الآنَ مِنَ التَّدَيُّنِ بِالإِسْلامِ بَعْدَ قُرُونٍ مِنْ عَصْرِهِمْ مَا كَانَ وَاللهِ إِلاَّ بِسَبَبِهِمْ؛ فَهُمْ حَمَلَةُ الدِّينِ وَنَقَلَتُهُ.
شَبَابٌ اسْتَثْمَرُوا حِدَّةَ عُقُولِهِمْ، وَقُوَّةَ شَبَابِهِمْ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى، حَتَّى عَمَّ الإِسْلامُ البَسِيطَةَ، فَجَزَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَنَّا وَعَنِ المُسْلِمِينَ خَيْرَ الجَزَاءِ، وَجَمَعَنَا بِهِمْ فِي دَارَ كَرَامَتِهِ؛ [وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰن رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰت تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ] {التوبة:100}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، [وَٱتَّقُواْ يَوۡما تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى
ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡس مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ] {البقرة:281}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، كَانَ كِبَارُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَهْتَمُّونَ بِالشَّبَابِ، وَيُجَالِسُونَهُمْ وَيُصَاحِبُونَهُمْ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ، وَيَزْرَعُونَ فِيهِمُ العَمَلَ لِلإِسْلامِ، وَيُحَمِّلُونَهُمْ مَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ المُهِمَّاتِ.
رَأَى عَمْرُو بْنُ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- قَوْمًا نَحَّوْا فِتْيَانَهُمْ عَنْ مَجْلِسِهِمْ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ قَدْ نَحَّيْتُمْ هَؤُلاءِ الفِتْيَانَ عَنْ مَجْلِسِكُمْ؟! لا تَفْعَلُوا، أَوْسِعُوا لَهُمْ وَأَدْنُوهُمْ، وَحَدِّثُوهُمْ وَأَفْهِمُوهُمُ الحَدِيثَ؛ فَإِنَّهُمُ اليَوْمَ صِغَارُ قَوْمٍ، وَيُوشِكُونَ أَنْ يَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ، وَإِنَّا قَدْ كُنَّا صِغَارَ قَوْمٍ ثُمَّ أَصْبَحْنَا اليَوْمَ كِبَارَ قَوْمٍ.
وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَجْمَعُ بَنِيهِ فَيَقُولُ: يَا بَنِيَّ، تَعَلَّمُوا؛ فَإِنْ تَكُونُوا صِغَارَ قَوْمٍ فَعَسَى أنْ تَكُونُوا كِبَارَ آخَرِينَ، وَمَا أَقْبَحَ عَلَى شَيْخٍ يُسْأَلُ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ.
وَكَانَ رَاوِيَةُ الحَدِيثِ فِي زَمَنِهِ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يُشَجِّعُ الشَّبَابَ، وَيُولِيهِمْ عِنَايَتَهُ، وَيَزْرَعُ فِي نُفُوسِهِمْ مَعَالِيَ الأُمُورِ، قَالَ يُوسُفُ بْنُ المَاجِشُونِ: قَالَ لَنَا ابْنُ شِهَابٍ -أَنَا وَابْنُ أَخِي وَابْنُ عَمٍّ لِي وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَحْدَاثٌ نَسْأَلُهُ عَنِ الحَدِيثِ-: لاَ تَحْقِرُوا أَنْفُسَكُمْ لِحَدَاثَةِ أَسْنَانِكُمْ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- كَانَ إِذَا نَزَلَ بِه الأَمْرُ المُعْضَلُ دَعَا الشُّبَّانَ فَاسْتَشَارَهُمْ يَبْتَغِي حِدَّةَ عُقُولِهِمْ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: قَارِنُوا هَذَا الاهْتِمَامَ البَالِغَ بِالشَّبَابِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ بِتَقْصِيرِنَا فِي حَقِّ الشَّبَابِ، وَقَارِنُوا بَيْنَ شَبَابِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبَيْنَ شَبَابِ اليَوْمَ.
إِنَّ فِي الشَّبَابِ قُوَّةً دَافِعَةً، وَعَزِيمَةً مَاضِيَةً، وَحَرَكَةً دَائِبَةً، فَإِنْ لَمْ تُسْتَثْمَرْ فِيمَا يَعُودُ عَلَى النَّاسِ بِالخَيْرِ رَجَعَتْ بِالشَّرِّ عَلَى الشَّبَابِ أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى المُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ؛ حَتَّى نُقِل عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالحُكَمَاءِ قَوْلُهُمُ: الشَّبَابُ شُعْبَةٌ مِنَ الجُنُونِ.
إِنَّ مَنْ يَرَى شَبَابَنَا اليَوْمَ -وَلا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الاخْتِبَارَاتِ- وَهُمْ يَصُولُونَ وَيَجُولُونَ بِسَيَّارَاتِهِمْ يُؤذُونَ النَّاسَ بِهَا، وَيَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيُتْلِفُونَ أَمْوَالَ آبَائِهِمْ؛ لَيَأْسَى عَلَى حَالِهِمْ وَحَالِ المُجْتَمَعِ الَّذِي خَرَّجَهُمْ، وفي الشَّبَابِ طَاقَةٌ كَامِنَةٌ لا بُدَّ مِنَ اسْتِثْمَارِهَا وَإِلاَّ صُرِفَتْ فِيمَا يَضُرُّ وَلا يَنْفَعُ.
وَكَمْ تَقَعُ مِنْ مَآسٍ أَيَّامَ الاخْتِبَارَاتِ بِسَبَبِ الغَفْلَةِ عَنِ الشَّبَابِ؟! وَكَمْ تَكْثُرُ الحَوَادِثُ فِيهَا؟! وَكَمْ يُنْتَهَكُ مِنَ الحُرُمَاتِ خِلالَهَا؟! وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ مِنَ الجَرَائِمِ الأَخْلاقِيَّةِ مِنَ الفِتْيَانِ وَالفَتَيَاتِ يَكُونُ فِي أَيَّامِ الامْتِحَانَاتِ، وَيَنْشَطُ فِيهَا تَرْوِيجُ المُخَدِّرَاتِ؛ لافْتِرَاسِ شَبَابِ الإِسْلامِ وَفَتَيَاتِهِ بِهَا، حِينَ يُوقِعُهُمْ فِي شِبَاكِهَا تُجَّارُهَا وَقُرَنَاءُ السُّوءِ وَرَفِيقَاتُ الشَّرِّ.
إِنَّهَا أَخْطَرُ أَيَّامِ العَامِ عَلَى الشَّبَابِ وَالفَتَيَاتِ بِسَبَبِ ضَعْفِ رِقَابَةِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَبِسَبَبِ التَّسَاهُلِ فِي خُرُوجِ الأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ، وَبِسَبَبِ صُحْبَتِهِمْ لِرُفَقَاءِ السُّوءِ بَعْدَ الانْتِهَاءِ مِنَ الامْتِحَانِ لِلإِفْطَارِ أَوْ لِلتَّجْوَالِ، وَلا يَعْلَمُ الأَبُ أَيْنَ يَذْهَبُ وَلَدُهُ؟ وَلا مَعَ مَنْ يَكُونُ؟ وَلاَ مَاذَا يَفْعَلُ فِي تِلْكَ الفَتْرَةِ؟ وَيَسْتَثْقِلُ سُؤَالَهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِئَلاَّ يُؤَثِّرَ فِي نَفْسِيَّتِهِ، وَيَتَسَاهَلُ فِي تَوْفِيرِ البَدَائِلِ لَهُ لانْشِغَالِهِ، وَكَمْ ضَاعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ شَبَابٍ وَفَتَيَاتٍ افْتَرَسَتْهُمْ عِصَابَاتُ المُخَدِّرَاتِ وَالإِجْرَامِ!
فَالحَذَرَ الحَذَرَ يَا شَبَابَ الإِسْلامِ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَلا يَظُنَّنَّ الوَاحِدُ مِنْكُمْ أَنَّهُ يُدْرِكُ مَصْلَحَتَهُ أَكْثَرَ مِنْ وَالِدَيْهِ وَمُعَلِّمِيهِ، وَلا يَثِقُ بِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنَ اللاَّزِمِ، فَكَمْ مِنْ ضَحِيَّةٍ لِلمُخَدِّرَاتِ وَقَعَ فِيهَا وَهُوَ يَثِقُ أَنْ لاَ أَحَدَ يُؤَثِّرُ فِيهِ!
وَالحَذَرَ الحَذَرَ أَيُّهَا الآبَاءُ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي هَذَا الأَمْرِ؛ فَلَرُبَّمَا فَقَدَ الوَاحِدُ وَلَدَهُ فِي غَفْلَةٍ يَظُنُّهَا يَسِيرَةً فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، نَدِمَ بِسَبَبِهَا طُوَالَ عُمُرِهِ، وَكَمْ أَوْدَتْ بِالابْنِ وَالبِنْتِ ثِقَةٌ عَمْيَاءُ فِيهِمَا، وَمَنْ وَثِقَ فِي ابْنِهِ وَابْنَتِهِ فَعَلَيْهِ أَلاَّ يَثِقَ بِمَنْ يُغْوِيهِمَا وَيُرِيدُ إِلْحَاقَ الأَذَى بِهِمَا، فَيَتْرُكُهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَى أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ وَهُوَ لاَ يُحَرِّكُ سَاكِنًا، وَلِأَهْلِ الشَّرِّ حَبَائِلُ وَمَكَايِدُ فِي افْتِرَاسِ ضَحَايَاهُمْ لَا تَخْطُرُ عَلَى البَالِ، نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ شَرِّهِمْ، وَنُعِيذُ أَبْنَاءَنَا وَبَنَاتِنَا وَأَوْلادَ المُسْلِمِينَ كَافَّةً بِاللهِ العَظِيمِ مِنْهُمْ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَرُدَّ كَيْدَهُمْ إِلَى نُحُورِهِمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ.
عِنَايَةُ الإِسْلامِ بِالشَّبَابِ (1)
8/7/1432
الحَمْدُ للهِ الخَلاَّقِ العَلِيمِ، الرَّؤُوفِ الرَّحِيمِ؛ أَفَاضَ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَغْدَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِ؛ فَأَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ، وَكَسَاهُمْ مِنْ عُرْيٍ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ أَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ؛ [وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡق وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ ٥٧ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ] {الذاريات:56-58}.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَحِمَ بِهِ، وَهَدَاهُ سُبْحَانَهُ وَهَدَى بِهِ، وَابْتَلاهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَابْتَلَى بِهِ، فَأَرْسَلَهُ للنَّاسِ [شَٰهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا ٤٥ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجا مُّنِيرا] {الأحزاب:45-46}، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا لَهُ دِينَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ؛ [بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِن فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ] {البقرة:112}.
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَفِي جَمِيعِ أَدْوَارِ التَّارِيخِ البَشَرِيِّ كَانَ الشَّبَابُ هُمْ عِمَادَ الأُمَمِ، وَسَبَبَ نَهْضَتِهَا، وَمَنْبَعَ قُوَّتِهَا، وَعَاقِدِي أَلْوِيَتِهَا، وَوَقُودَ حُرُوبِهَا، وَمَبْعَثَ فَخْرِهَا وَعِزِّهَا؛ فَبِالشَّبَابِ بُلِّغَتْ دَعْوَةُ اللهِ تَعَالَى، وَأُقِيمَ تَوْحِيدُهُ فِي الأَرْضِ، وَكُسِرَتْ جَحَافِلُ الشِّرْكِ، وَهُدِمَتْ رُمُوزُ الوَثَنِيَّةِ.
حَمَلَ الخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَأْسَهُ وَكَسَرَ الأَصْنَامَ وَهُوَ شَابٌّ؛ فَقَالَ قَوْمُهُ: [سَمِعۡنَا فَتى يَذۡكُرُهُمۡ يُقَالُ لَهُۥٓ إِبۡرَٰهِيمُ] {الأنبياء:60}؛ فَثَبَتَ حِينَ ابْتُلِيَ، حَتَّى نَجَّاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلاَّ شَابًّا، وَلا أُوتِيَ العِلْمَ عَالِمٌ إِلاَّ وَهُوَ شَابٌّ.
وَلَمَّا فَرِحَ الخَلِيلُ بِشَبَابِ إِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا السَّلامُ - وَاسْتَبْشَرَ بِفُتُوَّتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَانْتَظَرَ نَفْعَهُ وَمَعُونَتَهُ؛ ابْتُلِيَ بِذَبْحِهِ فَاسْتَشَارَهُ، فَكَانَتْ قُوَّةُ الشَّبَابِ -بَعْدَ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى- مُثَبِّتَةً لِلنَّبِيَّيْنِ الكَرِيمَيْنِ فِي هَذَا الابْتِلاءِ، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ شَابًّا يَافِعًا؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ] {الصَّفات:102}؛ أَيْ بَلَغَ سِنَّ مَنْ يَمْشِي مَعَ أَبِيهِ فِي شُؤُونِهِ، فَكَانَ جَوَابُ إِسْمَاعِيلَ الشَّابِّ مُعِينًا لِأَبِيهِ فِي ابْتِلاَئِهِ، وَمُثَبِّتًا لَهُ فِي امْتِحَانِهِ؛ [قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ] {الصَّافات:102}.
وَاخْتَصَّ اللهُ تَعَالَى بِالذِّكْرِ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ شَبَابًا آمَنُوا، فَاعْتَزَلُوا شِرْكَ قَوْمِهِمْ، وَآوَوْا مَعَ كَلْبِهِمْ إِلَى كَهْفِهِمْ؛ فَضَرَبَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ النَّوْمَ ثَلاثَةَ قُرُونٍ وَتِسْعًا، فِي قِصَّةٍ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ القَصَصِ تَأْثِيرًا فِي النُّفُوسِ، وَمِنْ أَشَدِّهَا أَسْرًا لِلْقُلُوبِ؛ [نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم
بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدى] {الكهف:13}.
وَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَنْكَفَ شُيُوخُ قُرَيْشٍ وَحُكَمَاؤُهَا عَنِ اتِّبَاعِهِ؛ فَكَانَ شَبَابُ مَكَّةَ أَنْصَارَهَ وَعُصْبَتَهُ، وَأَغْلَبُ مَنْ تَقَدَّمَ إِسْلاَمُهُمْ هُمْ مِنَ الشَّبَابِ، وَأَعْضَاءُ الدَّعْوَةِ السِّرِّيَّةِ فِي دَارِ الأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الأَرْقَمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- كَانُوا أَرْبَعِينَ مِنْ خِيرَةِ شَبَابِ قُرَيْشٍ؛ فَأَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُهُ ثَمَانٌ وَثَلاثُونَ سَنَةً، وَكَانَ النَّصِيرَ وَالعَضِيدَ، وَالرَّفِيقَ فِي الهِجْرَةِ وَالغَارِ، وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- لَمَّا أَسْلَمَ كَانَ عُمْرُهُ قَرِيبًا مِنَ الثَّلاثِينَ، وَبِهِ اعْتَزَّ الإِسْلاَمُ، وَخَرَجُوا مِنْ دَارِ الأَرْقَمِ، حَتَّى قِيلَ: لَمْ يَزَلِ الإِسْلامُ فِي اخْتِفَاءٍ حَتَّى أَسْلَمَ عُمرُ! وَأَسْلَمَ عُثْمَانُ وَعُمْرُهُ أَرْبَعٌ وَثَلاثُونَ، وَكَانَ فِي الإِسْلامِ مِعْطَاءً بَاذِلاً، وَأَسْلَمَ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي التَّاسِعَةِ مِنْ عُمُرِهِ يَنْقُصُ مِنْهَا أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهَا، وَحَمَلَ الرَّايَةَ فِي بَدْرٍ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَأَسْلَمَ الزُّبَيْرُ وَعُمْرُهُ سِتَّةَ عَشَرَ عَامًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، وَأَسْلَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُمْرُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، وَأَسْلَمَ طَلْحَةُ وَهُوَ يُنَاهِزُ الحُلُمَ، وَأَسْلَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَهُوَ فِي الثَّلاثِينَ مِنْ عُمُرِهِ، وَأَسْلَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ فِي العِشْرِينَ أَوْ فِي الثَّلاثِينَ مِنْ عُمُرِهِ، وَأَسْلَمُ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ دُونَ العِشْرِينَ، فَهَؤُلاءِ هُمُ العَشَرَةُ المُبَشَّرُونَ بِالجَنَّةِ سَبَقُوا إِلَى الإِسْلامِ وَهُمْ شَبَابٌ، وَتَحَمَّلُوا فِي سَبِيلِ ذَلِكَ أَنْوَاعَ الأَذَى.
شَبَابٌ قُرَشِيٌّ غَضٌّ طَرِيٌّ، نَقِيَّةً قُلُوبُهُمْ، كَرِيمَةً نُفُوسُهُمْ، غَضِيضَةً عَنِ الحَرَامِ أَبْصَارُهُمْ، عَفِيفَةً عَنِ السُّحْتِ أَيْدِيهِمْ، ثَقِيلَةً فِي الإِثْمِ أَرْجُلُهُمْ، اصْطَفَاهُمُ اللهُ تَعَالَى طَلائِعَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ المُبَارَكَةِ؛ فَقَامَ الإِسْلَامُ بِسَوَاعِدِهِمْ، وَأَرْسَى بُنْيَانَهُ عَلَى أَكْتَافِهِمْ، وَانْتَشَرَ فِي الأَصْقَاعِ بِلِسَانِهِمْ وَسِنَانِهِمْ، فَلِلَّهِ تَعَالَى دَرُّهُمْ مِنْ شَبَابٍ!
وَالهِجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ المُبَارَكَةُ نَجَحَتْ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى ثُمَّ بِتَفَانِي ثُلَّةٍ مِنْ شَبَابِ قُرَيْشٍ؛ فَعَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- نَامَ فِي فِرَاشِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُخَادِعَ المُشْرِكِينَ، وَيَأْخُذَ أَبْصَارَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَحْمِيَهِ مِنْ مُؤَامَرَتِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ يُقْتَلُ مَكَانَهُ!
وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ تُجَهِّزُ الطَّعَامَ وَتَذْهَبُ بِهِ إِلَيْهِمَا، فَتَشُقُّ نِطَاقَهَا نِصْفَيْنِ، تَتَحَزَّمُ بِوَاحِدٍ، وَتَحْزِمُ الطَّعَامَ بِالآخَرِ؛ حَتَّى سُمِّيَتْ: ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، وَكَانَتْ إِذْ ذَاكَ بِنْتَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَخُوهَا عَبْدُ اللهِ شَابًّا ثَقِفًا لَقِنًا يُزَوِّدُهُمَا بِأَخْبَارِ قُرَيْشٍ كُلَّ لَيْلَةٍ وَيَبِيتُ عِنْدَهُمَا، فَإِذَا كَانَ السَّحَر عَادَ إِلَى مَكَّةَ لاَ يَشْعُرُ بِهِ أَحَدٌ، وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ -وَقَدْ أَسْلَمَ وَهُوَ فِي بَحْرِ العِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ- يَرْعَى الغَنَمَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهَا إِلَى الغَارِ فَيَحْلِبَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَنَجَحَتِ الهِجْرَةُ عَلَى أَيْدِي هَؤُلاءِ الشَّبَابِ.
وَحَمَلَ الإِسْلامَ وَالقُرْآنَ إِلَى المَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بَعْدَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ المُبَارَكَةِ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- وَهُوَ دُونَ الثَّلاثِينَ، فَكَانَ قَبْلَ الهِجْرَةِ دَاعِيَةَ المَدِينَةِ وَمُقْرِئَهَا، وَكَانَ أَغْنَى شَبَابِ مَكَّةَ وَأَعْطَرَهُمْ، وَعَلَى يَدَيْهِ أَسْلَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ سَيِّدُ الأَوْسِ وَلَهُ بِضْعٌ وَثَلاثُونَ سَنَةً، فَقَامَ سَعْدٌ فِي قَوْمِهِ خَطِيبًا فَقَالَ: كَلامُ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُسْلِمُوا، فَأَسْلَمُوا؛ فَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ بَرَكَةً فِي الإِسْلامِ!
وَعَالِمُ الأَنْصَارِ وَمُفْتِيهَا وَقَاضِيهَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْه-أَسْلَمَ وَهُو ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشْرَ عَامًا، وَبَعَثَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى اليَمَنِ قَاضِيًا وَمُعَلِّمًا وَمُفْتِيًا وَهُوَ فِي العِشْرِينَ.
وَكَانَ فِتْيَانُ الصَّحَابَةِ يَتَسَابَقُونَ إِلَى الوَغَى؛ نُصْرَةً لِدِينِ اللهِ تَعَالَى، وَيَعْرِضُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجَاءَ أَنْ يُجِيزَهُمْ لِلْقِتَالِ، فَيَرُدُّ الصِّغَارَ مِنْهُمْ رَأْفَةً بِهِمْ، فَيَحْزَنُونَ لِذَلِكَ أَشَدَّ الحُزْنِ!
قَالَ ابْنُ عُمَرَ - َضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: عَرَضَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ في الْقِتَالِ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَاسْتَصْغَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- فَحَشَا خُفَّيْهِ بِرِقَاعٍ حَتَّى تَرْفَعَ قَامَتَهُ، وَتَطَاوَلَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، وَأُخْبِرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ رَامِيًا فَأَجَازَهُ، فَقَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ لِزَوْجِ أُمِّهِ: أَجَازَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَافِعَ بْنَ خَدِيْجٍ وَرَدَّنِي وَأَنَا أَصْرَعُهُ، فَأُعْلِمَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: تَصَارَعَا؛ فَصَرَعَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رَافِعًا، فَأَجَازَهُ.
وَمِمَّنْ رَدَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ لِصِغَرِ سِنِّهِ سَعْدُ بْنُ حَبْتَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الخَنْدَقِ رَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَاتِلُ قِتَالاً شَدِيدًا، فَدَعَاهُ، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ، وَدَعَا لَهُ بِالبَرَكَةِ في وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ؛ فَكَانَ عَمًّا لِأَرْبَعِينَ، وَخَالاً لِأَرْبَعِينَ، وَأَبًا لِعِشْرِينَ، وَمِنْ وَلَدِهِ أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
هَكَذَا كَانَ شَبَابُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَتَحَمَّلُونَ مِنَ المَسْؤُولِيَّاتِ مَا يَلِيقُ بِقُوَّةِ الشَّبَابِ وَفُتُوَّتِهِ وَبَأْسِهِ، وَلاَ يَرْكَنُونَ إِلَى اللَّهْوِ وَالدَّعَةِ وَالكَسَلِ، وَمَا فُتِحَتِ الفُتُوحُ، وَمُصِّرَتِ الأَمْصَارُ، وَعَزَّ الإِسْلامُ، وَارْتَفَعَتْ رَايَتُهُ إِلاَّ بِهِمْ، وَمَا نَنْعَمُ بِهِ الآنَ مِنَ التَّدَيُّنِ بِالإِسْلامِ بَعْدَ قُرُونٍ مِنْ عَصْرِهِمْ مَا كَانَ وَاللهِ إِلاَّ بِسَبَبِهِمْ؛ فَهُمْ حَمَلَةُ الدِّينِ وَنَقَلَتُهُ.
شَبَابٌ اسْتَثْمَرُوا حِدَّةَ عُقُولِهِمْ، وَقُوَّةَ شَبَابِهِمْ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى، حَتَّى عَمَّ الإِسْلامُ البَسِيطَةَ، فَجَزَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَنَّا وَعَنِ المُسْلِمِينَ خَيْرَ الجَزَاءِ، وَجَمَعَنَا بِهِمْ فِي دَارَ كَرَامَتِهِ؛ [وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰن رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ وَأَعَدَّ لَهُمۡ جَنَّٰت تَجۡرِي تَحۡتَهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ] {التوبة:100}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، [وَٱتَّقُواْ يَوۡما تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى
ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡس مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ] {البقرة:281}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، كَانَ كِبَارُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَهْتَمُّونَ بِالشَّبَابِ، وَيُجَالِسُونَهُمْ وَيُصَاحِبُونَهُمْ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ، وَيَزْرَعُونَ فِيهِمُ العَمَلَ لِلإِسْلامِ، وَيُحَمِّلُونَهُمْ مَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ المُهِمَّاتِ.
رَأَى عَمْرُو بْنُ العَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- قَوْمًا نَحَّوْا فِتْيَانَهُمْ عَنْ مَجْلِسِهِمْ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ قَدْ نَحَّيْتُمْ هَؤُلاءِ الفِتْيَانَ عَنْ مَجْلِسِكُمْ؟! لا تَفْعَلُوا، أَوْسِعُوا لَهُمْ وَأَدْنُوهُمْ، وَحَدِّثُوهُمْ وَأَفْهِمُوهُمُ الحَدِيثَ؛ فَإِنَّهُمُ اليَوْمَ صِغَارُ قَوْمٍ، وَيُوشِكُونَ أَنْ يَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ، وَإِنَّا قَدْ كُنَّا صِغَارَ قَوْمٍ ثُمَّ أَصْبَحْنَا اليَوْمَ كِبَارَ قَوْمٍ.
وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَجْمَعُ بَنِيهِ فَيَقُولُ: يَا بَنِيَّ، تَعَلَّمُوا؛ فَإِنْ تَكُونُوا صِغَارَ قَوْمٍ فَعَسَى أنْ تَكُونُوا كِبَارَ آخَرِينَ، وَمَا أَقْبَحَ عَلَى شَيْخٍ يُسْأَلُ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ.
وَكَانَ رَاوِيَةُ الحَدِيثِ فِي زَمَنِهِ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يُشَجِّعُ الشَّبَابَ، وَيُولِيهِمْ عِنَايَتَهُ، وَيَزْرَعُ فِي نُفُوسِهِمْ مَعَالِيَ الأُمُورِ، قَالَ يُوسُفُ بْنُ المَاجِشُونِ: قَالَ لَنَا ابْنُ شِهَابٍ -أَنَا وَابْنُ أَخِي وَابْنُ عَمٍّ لِي وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَحْدَاثٌ نَسْأَلُهُ عَنِ الحَدِيثِ-: لاَ تَحْقِرُوا أَنْفُسَكُمْ لِحَدَاثَةِ أَسْنَانِكُمْ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- كَانَ إِذَا نَزَلَ بِه الأَمْرُ المُعْضَلُ دَعَا الشُّبَّانَ فَاسْتَشَارَهُمْ يَبْتَغِي حِدَّةَ عُقُولِهِمْ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: قَارِنُوا هَذَا الاهْتِمَامَ البَالِغَ بِالشَّبَابِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ بِتَقْصِيرِنَا فِي حَقِّ الشَّبَابِ، وَقَارِنُوا بَيْنَ شَبَابِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَبَيْنَ شَبَابِ اليَوْمَ.
إِنَّ فِي الشَّبَابِ قُوَّةً دَافِعَةً، وَعَزِيمَةً مَاضِيَةً، وَحَرَكَةً دَائِبَةً، فَإِنْ لَمْ تُسْتَثْمَرْ فِيمَا يَعُودُ عَلَى النَّاسِ بِالخَيْرِ رَجَعَتْ بِالشَّرِّ عَلَى الشَّبَابِ أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى المُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ؛ حَتَّى نُقِل عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالحُكَمَاءِ قَوْلُهُمُ: الشَّبَابُ شُعْبَةٌ مِنَ الجُنُونِ.
إِنَّ مَنْ يَرَى شَبَابَنَا اليَوْمَ -وَلا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الاخْتِبَارَاتِ- وَهُمْ يَصُولُونَ وَيَجُولُونَ بِسَيَّارَاتِهِمْ يُؤذُونَ النَّاسَ بِهَا، وَيَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَيُتْلِفُونَ أَمْوَالَ آبَائِهِمْ؛ لَيَأْسَى عَلَى حَالِهِمْ وَحَالِ المُجْتَمَعِ الَّذِي خَرَّجَهُمْ، وفي الشَّبَابِ طَاقَةٌ كَامِنَةٌ لا بُدَّ مِنَ اسْتِثْمَارِهَا وَإِلاَّ صُرِفَتْ فِيمَا يَضُرُّ وَلا يَنْفَعُ.
وَكَمْ تَقَعُ مِنْ مَآسٍ أَيَّامَ الاخْتِبَارَاتِ بِسَبَبِ الغَفْلَةِ عَنِ الشَّبَابِ؟! وَكَمْ تَكْثُرُ الحَوَادِثُ فِيهَا؟! وَكَمْ يُنْتَهَكُ مِنَ الحُرُمَاتِ خِلالَهَا؟! وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ مِنَ الجَرَائِمِ الأَخْلاقِيَّةِ مِنَ الفِتْيَانِ وَالفَتَيَاتِ يَكُونُ فِي أَيَّامِ الامْتِحَانَاتِ، وَيَنْشَطُ فِيهَا تَرْوِيجُ المُخَدِّرَاتِ؛ لافْتِرَاسِ شَبَابِ الإِسْلامِ وَفَتَيَاتِهِ بِهَا، حِينَ يُوقِعُهُمْ فِي شِبَاكِهَا تُجَّارُهَا وَقُرَنَاءُ السُّوءِ وَرَفِيقَاتُ الشَّرِّ.
إِنَّهَا أَخْطَرُ أَيَّامِ العَامِ عَلَى الشَّبَابِ وَالفَتَيَاتِ بِسَبَبِ ضَعْفِ رِقَابَةِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، وَبِسَبَبِ التَّسَاهُلِ فِي خُرُوجِ الأَبْنَاءِ وَالبَنَاتِ، وَبِسَبَبِ صُحْبَتِهِمْ لِرُفَقَاءِ السُّوءِ بَعْدَ الانْتِهَاءِ مِنَ الامْتِحَانِ لِلإِفْطَارِ أَوْ لِلتَّجْوَالِ، وَلا يَعْلَمُ الأَبُ أَيْنَ يَذْهَبُ وَلَدُهُ؟ وَلا مَعَ مَنْ يَكُونُ؟ وَلاَ مَاذَا يَفْعَلُ فِي تِلْكَ الفَتْرَةِ؟ وَيَسْتَثْقِلُ سُؤَالَهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِئَلاَّ يُؤَثِّرَ فِي نَفْسِيَّتِهِ، وَيَتَسَاهَلُ فِي تَوْفِيرِ البَدَائِلِ لَهُ لانْشِغَالِهِ، وَكَمْ ضَاعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ شَبَابٍ وَفَتَيَاتٍ افْتَرَسَتْهُمْ عِصَابَاتُ المُخَدِّرَاتِ وَالإِجْرَامِ!
فَالحَذَرَ الحَذَرَ يَا شَبَابَ الإِسْلامِ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَلا يَظُنَّنَّ الوَاحِدُ مِنْكُمْ أَنَّهُ يُدْرِكُ مَصْلَحَتَهُ أَكْثَرَ مِنْ وَالِدَيْهِ وَمُعَلِّمِيهِ، وَلا يَثِقُ بِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنَ اللاَّزِمِ، فَكَمْ مِنْ ضَحِيَّةٍ لِلمُخَدِّرَاتِ وَقَعَ فِيهَا وَهُوَ يَثِقُ أَنْ لاَ أَحَدَ يُؤَثِّرُ فِيهِ!
وَالحَذَرَ الحَذَرَ أَيُّهَا الآبَاءُ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي هَذَا الأَمْرِ؛ فَلَرُبَّمَا فَقَدَ الوَاحِدُ وَلَدَهُ فِي غَفْلَةٍ يَظُنُّهَا يَسِيرَةً فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، نَدِمَ بِسَبَبِهَا طُوَالَ عُمُرِهِ، وَكَمْ أَوْدَتْ بِالابْنِ وَالبِنْتِ ثِقَةٌ عَمْيَاءُ فِيهِمَا، وَمَنْ وَثِقَ فِي ابْنِهِ وَابْنَتِهِ فَعَلَيْهِ أَلاَّ يَثِقَ بِمَنْ يُغْوِيهِمَا وَيُرِيدُ إِلْحَاقَ الأَذَى بِهِمَا، فَيَتْرُكُهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَى أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ وَهُوَ لاَ يُحَرِّكُ سَاكِنًا، وَلِأَهْلِ الشَّرِّ حَبَائِلُ وَمَكَايِدُ فِي افْتِرَاسِ ضَحَايَاهُمْ لَا تَخْطُرُ عَلَى البَالِ، نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ شَرِّهِمْ، وَنُعِيذُ أَبْنَاءَنَا وَبَنَاتِنَا وَأَوْلادَ المُسْلِمِينَ كَافَّةً بِاللهِ العَظِيمِ مِنْهُمْ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَرُدَّ كَيْدَهُمْ إِلَى نُحُورِهِمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى