حبيبه الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
أَقْسَامُ النَّاسِ فِي الآخِرَةِ
1/7/1432
الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ؛ سَرِيعِ الحِسَابِ، شَدِيدِ العِقَابِ، جَزِيلِ العَطَاءِ؛ وَعَدَ المُؤْمِنِينَ جَنَّةً عَرْضُهَا الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ، وَتَوَعَّدَ الكَافِرِينَ بِنَارٍ تَلَظَّى، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، فَلا خَيْرَ إِلاَّ مِنْهُ، وَلا يُدْفَعُ ضُرٌّ إِلاَّ بِهِ؛ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَهَدَانَا وَكَفَانَا، وَمِنْ كُلِّ خَيْرٍ أَعْطَانَا، وَدَفَعَ عَنَّا مِنَ البَلاءِ مَا عَلِمْنَا وَمَا لَمْ نَعْلَمْ؛ {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ 35 سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} (يّـس:35-36)
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ اصْطَفَاهُ اللهُ تَعَالَى وَابْتَلاهُ، وَأَظْهَرَ دِينَهُ وَأَبْقَاهُ، وَأَعْلَى مَقَامَهُ، وَرَفَعَ ذِكْرَهُ، وَآتَاهُ الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، فَقَابَلَ عَطَايَا رَبِّهِ سُبْحَانَهُ بِالشُّكْرِ، وَلَهَجَ لَهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالحَمْدِ وَالذِّكْرِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ؛ وَهَبُوا نُفُوسَهُمْ للهِ تَعَالَى، وَنَصَبُوا أَرْكَانَهُمْ فِي طَاعَتِهِ، وَيَمَّمُوا وُجُوهَهُمْ تُجَاهَ الآخِرَةِ، وَلَمْ يَحْفَلُوا بِالدُّنْيَا وَمُتَعِهَا الزَّائِلَةِ؛{تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (الفتح: من الآية29) ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى، وَتَزَوَّدُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يُنْجِيكُمْ فِي الأُخْرَى؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ قُبُورًا فِيهَا ضِيقٌ وَظُلْمَةٌ وَوَحْشَةٌ وَوَحْدَةٌ، وَإِنَّ أَمَامَكُمْ بَعْثًا وَنُشُورًا، وَوُقُوفًا طَوِيلاً، وَحِسَابًا عَسِيرًا، وَلاَ مَنْجَاةَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى؛{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الزمر:61) .
أَيُّهَا النَّاسُ: لِلاخْتِبَارِ فِي النَّفْسِ رَهْبَتُهُ، وَلِلسُّؤَالِ عَلَى القَلْبِ وَقْعُهُ، وَلِلْجَوَابِ الصَّحِيحِ حَلاوَتُهُ، وَلِلْإِخْفَاقِ حَسْرَتُهُ، وَعَلَى قَدْرِ أَهَمِّيَّةِ الاخْتِبَارِ يَهْتَمُّ الإِنْسَانُ، وَتَتَوَتَّرُ نَفْسُهُ، وَيَضْطَرِبُ قَلْبُهُ؛ فَلَيْسَ مَنْ يُسْأَلُ فِي مُسَابَقَةٍ تَرْفِيهِيَّةٍ كَمَنْ يُخْتَبَرُ لِنَيْلِ شَهَادَةٍ مَصِيرِيَّةٍ، وَلَيْسَ مَنْ يُسَابِقُ عَلَى وَظِيفَةٍ مَضْمُونَةٍ كَمَنْ يُزَاحِمُ الأُلُوفَ عَلَى وَظِيفَةٍ شِبْهِ مَعْدُومَةٍ!
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي حَيَاةِ النَّاسِ وَطَلَبِ مَعَاشِهِمْ، وَتَنَافُسِهِمْ عَلَى مَرَاتِبِ دُنْيَاهُمْ، فَكَيْفَ الحَالُ إِذَنْ بِامْتِحَانٍ مَنِ اجْتَازَهُ فَازَ فَوْزًا أَبَدِيًّا، وَمَنْ أَخْفَقَ فِيهِ خَسِرَ خُسْرَانًا نِهَائِيًّا، فَلَيْسَ ثَمَّةَ إِعَادَةٌ وَلاَ تَعْوِيضٌ وَلا فُرَصٌ أُخْرَى، حَيَاةٌ فِي الدُّنْيَا وَاحِدَةٌ، وَفُرْصَةٌ لِلْعَمَلِ فِيهَا وَاحِدَةٌ، وَالجَزَاءُ يَكُونُ عَلَى عَمَلِ الإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الفُرْصَةِ، وَأَيُّ جَزَاءٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الجَزَاءِ، الَّذِي أَدْنَاهُ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ فِي الدُّنْيَا وَعَشَرَةِ أَضْعَافِهِ، وَأَعْلاهُ القُرْبُ مِنَ الرَّحْمَنِ فِي جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ، فَيَا لَهُ مِنْ فَوْزٍ؟!
وَكَيْفَ إِذَنْ بِامْتِحَانٍ نَتِيجَتُهُ سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ، أَوْ شَقَاءٌ أَبَدِيٌّ، نَتِيجَتُهُ نَعِيمٌ مُقِيمٌ لاَ يَحُولُ وَلا يَزُولُ، فِيمَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، أَوْ فِي عَذَابٍ أَلِيمٍ مُهِينٍ، شَدِيدٍ لا يُخَفَّفُ، وَدِائِمٍ لاَ يَنْقَطِعُ؛ {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} (النساء: من الآية56).
ذَلِكُمْ يَا عِبَادَ اللهِ امْتِحَانُ الآخِرَةِ وَسُؤُالُهَا، وَجَزَاءُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَلَى أَعْمَالِ العِبَادِ فِيهَا، فَيَا لَكَيَاسَةَ مَنِ اعْتَبَرَ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا لِلآخِرَةِ، وَتَزَوَّدَ مِنَ الفَانِيَةِ لِلْبَاقِيَةِ، وَيَا لَسَعَادَةَ مَنْ قَدِمَ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَقَدْ بَلَغَ دَرَجَةَ السَّابِقِينَ، وَيَا لَشَقْوَةَ مَنْ لَقِيَ اللهَ تَعَالَى بِأَعْمَالِ الظَّالِمِينَ!
فِي يَوْمِ القِيَامَةِ حِينَ يَجِيءُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ لِفَصْلِ القَضَاءِ، وَالمَلائِكَةُ صُفُوفٌ فِي ذَلِكَ المَقَامِ العَظِيمِ، سَيُرْفَعُ أُنَاسٌ وَيُدْنَوْنَ مِنَ الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ؛ كَرَامَةً لَهُمْ عَلَى سَبْقِهِمْ فِي الدُّنْيَا، تَرْقُصُ قُلُوبُهُمْ طَرَبًا مِمَّا يَرَوْنَ مِنْ سَبْقِهِمْ وَكَرَامَةِ الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ، وَدُونَهُمْ فَائِزُونَ آخَرُونَ يُقَالُ لَهُمْ: أَصْحَابُ اليَمِينِ، قَدْ أَسْفَرَتْ وُجُوهُهُمْ، وَفَرِحَتْ بِالفَوْزِ قُلُوبُهُمْ، وَآخَرُونَ خَاسِرُونَ يَقِفُونَ بِوُجُوهٍ مُظْلِمَةٍ، وَحَالٍ مُحْزِنَةٍ، وَبِقُلُوبٍ قَدْ مَلَأَهَا الهَمُّ وَالغَمُّ، وَتَقَطَّعَتْ بِالحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ 22 إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ 23 وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ 24 تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} (القيامة:22-25) ، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ 38 ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ 39 وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ 40 تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (عبس:38-41).
أَقْسَامٌ ثَلاثَةٌ لَا رَابِعَ لَهَا، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ فِي أَحَدِهَا، وَهِيَ المَذْكُورَةُ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً 7 فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ 8 وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ 9 وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (الواقعة:7-10).
وَهُمُ المَذْكُورُونَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32).
فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً، وَأَكْثَرُهُمْ نَعِيمًا، وَأَحَضُّهُمْ بِالقُرْبِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، ونَيْلِ رِضْوَانِهِ، وَالفَوْزِ بِرُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ - فِئَةُ السَّابِقِينَ، الَّذِينَ سَبَقُوا غَيْرَهُمْ إِلَى الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَمْضَوْا حَيَاتَهُمْ لَا يَرَوْنَ مَيْدَانًا فِيهِ رِضَا الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ إِلاَّ سَبَقُوا إِلَيْهِ، وَنَافَسُوا النَّاسَ عَلَيْهِ، وَتَرَكُوا الدُّنْيَا لِأَجْلِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى بَعْضًا مِنْ نَعِيمِهِمْ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ؛ لِإِغْرَاءِ أَهْلِ الإِيمَانِ، وَحَثِّ قُرَّاءِ القُرْآنِ عَلَى التَّنَافُسِ لِبُلُوغِ مَنْزِلَتِهِمْ، وَالاسْتِبَاقِ إِلَى أَعْمَالِهِمْ؛ {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ 10 أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ 11 فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 12 ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ 13 وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ 14 عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ 15 مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ 16 يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ 17 بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ 18 لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ 19 وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ 20 وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ 21 وَحُورٌ عِينٌ 22 كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ 23 جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 24 لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً 25 إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} (الواقعة:10-26). ، وَلَهُمْ عَيْنُ التَّسْنِيمِ خَاصَّةً خَالِصَةً، بَيْنَمَا تُمْزَجُ لِغَيْرِهِمْ بِغَيْرِهَا؛ {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ 27 عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (المطففين:27-28).
يَعْلَمُونَ بِفَوْزِهِمْ وَبِرِضَا الرَّحْمَنِ عَنْهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ؛ {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ 88 فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} (الواقعة:88-89) ، تِلْكَ بُشْرَاهُمْ، وَهَذَا مَآلُهُمْ، جَعَلَنَا اللهُ وَوَالِدِينَا وَذُرِّيَّاتِنَا مِنْهُمْ.
وَلِلسَّابِقِينَ المُقَرَّبِينَ أَوْصَافٌ مَذْكُورَةٌ فِي القُرْآنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا فَيَكُونَ مِنْهُمْ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ 57 وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ 58 وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ 59 وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ 60 أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (المؤمنون:57-61).
وَأَمَّا القِسْمُ الثَّانِي مِنَ النَّاسِ فَيَلِي السَّابِقِينَ فِي المَنْزِلَةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ اليَمِينِ، أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ هَذَا الوَصْفُ؛ لِأَنَّهُمْ فِي أَصْلِ الخَلْقِ كَانُوا عَنْ يَمِينِ أَبِيهِمْ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وَيُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَيْمَانِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلاَمَةَ فَوْزِهِمْ، وَهُمْ مَيَامِينُ مُبَارَكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوا رَبَّهُمْ فَدَخَلُوا الجَنَّةَ، وَاليُمْنُ هُوَ البَرَكَةُ، وَمِنْ بَرَكَتِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا دَعْوَتُهُمْ لَهُمْ إِلَى الخَيْرِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الشَّرِّ، وَمِنْ بَرَكَتِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ شَفَاعَتُهُمْ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الشَّفَاعَةَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى جُمْلَةً مِنْ نَعِيمِهِمْ فِي الآخِرَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ 27 فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ 28 وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ 29 وَظِلٍّ مَمْدُودٍ 30 وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ 31 وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ 32 لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ 33 وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ 34 إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً 35 فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً 36 عُرُباً أَتْرَاباً 37 لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} (الواقعة:27-38).
وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ: {فَكُّ رَقَبَةٍ 13 أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ 14 يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ 15 أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ 16 ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ 17 أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} (البلد:13-18).
وَيَعْلَمٌونَ بِسَلامَتِهِم حَالَ احْتِضَارِهِم {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ 90 فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} (الواقعة:90-91).
وَأَمَّا القِسْمُ الثَّالِثُ: فَأَصْحَابُ الشِّمَالِ - أَعَاذَنَا اللهُ تَعَالَى مِنْ حَالِهِمْ وَمَآلِهِمْ - سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَنْ شِمَالِ أَبِيهِمْ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فِي أَصْلِ الخَلْقِ، وَيُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ بِشَمَائِلِهِمْ، وَهُمْ شُؤْمٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى مَنِ اقْتَرَنَ بِهِمْ فَوَافَقَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا النَّارَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالعَرَبُ تُسَمِّي الشِّمَالَ شُؤْمًا، كَمَا تُسَمِّي اليَمِينَ يُمْنًا، وَهُمُ المُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ مِنَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ عَذَابِهِمْ فِي الآخِرَةِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ 41 فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ 42 وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ 43 لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} (الواقعة:41-44) ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى كُفْرَهُمْ، وَعَاقِبَةَ كُفْرِهِمْ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ 19 عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} (البلد:19-20).
وَيَعْلَمُونَ بِمَصِيرِهِمُ المَشْؤُمِ عِنْدَ مَوتِهِمْ {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ 92 فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ 93 وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} (الواقعة:92-94)، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ الأَقْسَامِ الثَّلاَثَةِ قِسْمٌ رَابِعٌ، فَقِسْمَانِ فِي الجَنَّةِ، وَقِسْمٌ فِي النَّارِ، فَلْيَخْتَرِ الإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ مَا يُرِيدُ مِنْهَا، وَلْيَعْمَلْ بِعَمَلِ أَهْلِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الدُّنْيَا وَأَكْدَارَهَا وَسُرْعَةَ زَوَالِهَا وَكَثْرَةَ مَوْتِ النَّاسِ فِيهَا؛ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا، وَلَمْ يُقَدِّمْهَا عَلَى الآخِرَةِ؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (فاطر:5).
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ....
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ 131 وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران:131-132).
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مَنْ تَأَمَّلَ حَالَ الفَائِزِينَ فِي دِرَاسَةٍ أَوْ مُسَابَقَةٍ أَوْ وَظِيفَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ أَيِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا - أَبْصَرَ مَا هُمَ فِيهِ مِنَ الفَرَح وَالسُّرُورِ، وَمَا يَجِدُونَهُ مِن اللَّذَّةِ وَالحُبُورِ، وَهُوَ فَوْزٌ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ مَهْمَا عَظُمَ، وَرُبَّمَا خُبِّئَ لَهُمْ فِي القَدَرِ حُزْنٌ يَعْقُبُ هَذَا الفَرَحَ، وَمُصِيبَةٌ تَلِي هَذَا الرِّبْحَ، وَهُوَ فَوْزٌ زَائِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَذَّتُهُ فِي لَحْظَتِهِ ثُمَّ تَضْمَحِلُّ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ مَنْ أَخْفَقُوا فِي دِرَاسَةٍ أَوْ مُسَابَقَةٍ أَوْ وَظِيفَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ أَيِّ أَمْرٍ آخَرَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا - أَبْصَرَ الظُّلْمَةَ تَعْلُوهُمْ، وَرَأَى الحَسْرَةَ تَكْسُوهُمْ، وَلَوْ تَجَلَّدُوا وَكَتَمُوا وَتَصَنَّعُوا، وَهُوَ إِخْفَاقٌ يُمْكِنُ تَعْوِيضُهُ، وَخَسَارَةٌ مُؤَقَّتَةٌ سَرْعَانَ مَا يَزُولُ أَلَمُهَا وَحَسْرَتُهَا.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِفَوْزِ الآخِرَةِ وَخَسَارَتِهَا، ذَلِكَ الفَوْزُ الأَبَدِيُّ وَالخَسَارَةُ الأَبَدِيَّةُ.
وَلِلْفَوْزِ مَيَادِينُهُ، وَلِلْمُسَابَقَةِ أَعْمَالُهَا، وَلِمَنَازِلِ السَّابِقِينَ المُقَرَّبِينَ رِجَالُهَا وَنِسَاؤُهَا؛ مِنْهُمْ مَنْ يُسَابِقُ فِي كُلِّ طَاعَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، كَمَا كَانَ عُمَرُ يُسَابِقُ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - إِلَى الطَّاعَاتِ، فَكَانَ الصِّدِّيقُ يَسْبِقُهُ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «واللهِ مَا سَابَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلاَّ سَبَقَنِي»، وَهَذَا فِي النَّاسِ قَلِيلٌ؛ وَلِذَا يُدْعَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ كُلِّ أَبْوَابِ الجَنَّةِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ إِلَى طَاعَاتِ تِلْكَ الأَبْوَابِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَلْزَمُ طَاعَةً يَسْبِقُ غَيْرَهُ فِيهَا، وَيَأْخُذُ بِحَظٍّ مِنَ الطَّاعَاتِ الأُخْرَى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ سَبْقَ لَهُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ اللَّهْوَ وَالغَفْلَةَ!
وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ أَنْ جَعَلَ مَيَادِينَ المُسَابِقَةِ لَهُمْ فِي الخَيْرِ كَثِيرَةً، وَأَعْمَالَهَا وَفِيرَةً فِي أَزْمَانِهَا وَأَمَاكِنِهَا وَأَنْوَاعِهَا؛ حَتَّى إِذَا عَجَزَ العَبْدُ عَنْ بَعْضِهَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْ كُلِّهَا، وَإِنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْهَا أَدْرَكَ عَمَلاً غَيْرَهُ.
وَهِيَ مَيَادِينُ يَوْمِيَّةٌ وَأُسْبُوعِيَّةٌ، وَشَهْرِيَّةٌ وَحَوْلِيَّةٌ:
فَمِنَ اليَّوْمِيَّةِ: الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ؛ فَمَنْ سَابَقَ عَلَى النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلَ سَبَقَ، وَمَنْ تَأَخَّرَ إِلَى إِقَامَةِ الصَّلاةِ فَقَدْ فَرَّطَ، وَمَنْ تَرَكَهَا بِالكُلِّيَّةِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَبَخَسَ حَظَّهُ!
وَمِنَ المَيَادِينِ الأُسْبُوعِيَّةِ: صِيَامُ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، وَالتَّبْكِيرُ لِلْجُمُعَةِ وَالْتِزَامُ سُنَنِهَا وَآدَابِهَا.
وَمِنَ المَيَادِينِ الشَّهْرِيَّةِ: صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.
وَمِنَ المَيَادِينِ الحَوْلِيَّةِ: الإِكْثَارُ مِنْ صِيَامِ شَعْبَانَ، وَاغْتِنَامُ رَمَضَانَ بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ، وَكَمْ فِي هَذِهِ المَيَادِينِ مِنْ مُسَابِقٍ! وَكَمْ فِيهَا مِنْ مُقْتَصِدٍ! وَكَمْ فِيهَا مِنْ ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ! مُضَيِّعٍ لِفُرَصِ عُمُرِهِ!
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ فَيَجْعَلُهُ يَفِرُّ مِنْ أَسْوَاقِ الآخِرَةِ، وَمَيَادِينِ التَّنَافُسِ فِي الطَّاعَةِ، كَمَا يُدْبِرُ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضِرَاطٌ إِذَا سَمِعَ الأَذَانَ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُضَيِّعُونَ المَوَاسِمَ الحَوْلِيَّةَ؛ كَرَمَضَانَ وَالحَجِّ فِي أَسْفَارٍ مُحَرَّمَةٍ، أوِ انْكِبَابٍ عَلَى الشَّهَوَاتِ، فَأَيْنَ أُولَئِكَ مِنَ التَّنَافُسِ فِي الطَّاعَاتِ وَاسْتِبَاقِ الخَيْرَاتِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ فِي الآخِرَةِ فَائِزِينَ وَخَاسِرِينَ، وَلِلْفَائِزِينَ دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةً بِحَسْبِ سَبْقِهِمْ فِي الدُّنْيَا؛ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران:185).
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا....
أَقْسَامُ النَّاسِ فِي الآخِرَةِ
1/7/1432
الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ؛ سَرِيعِ الحِسَابِ، شَدِيدِ العِقَابِ، جَزِيلِ العَطَاءِ؛ وَعَدَ المُؤْمِنِينَ جَنَّةً عَرْضُهَا الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ، وَتَوَعَّدَ الكَافِرِينَ بِنَارٍ تَلَظَّى، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، فَلا خَيْرَ إِلاَّ مِنْهُ، وَلا يُدْفَعُ ضُرٌّ إِلاَّ بِهِ؛ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَهَدَانَا وَكَفَانَا، وَمِنْ كُلِّ خَيْرٍ أَعْطَانَا، وَدَفَعَ عَنَّا مِنَ البَلاءِ مَا عَلِمْنَا وَمَا لَمْ نَعْلَمْ؛ {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ 35 سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} (يّـس:35-36)
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ اصْطَفَاهُ اللهُ تَعَالَى وَابْتَلاهُ، وَأَظْهَرَ دِينَهُ وَأَبْقَاهُ، وَأَعْلَى مَقَامَهُ، وَرَفَعَ ذِكْرَهُ، وَآتَاهُ الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، فَقَابَلَ عَطَايَا رَبِّهِ سُبْحَانَهُ بِالشُّكْرِ، وَلَهَجَ لَهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالحَمْدِ وَالذِّكْرِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ؛ وَهَبُوا نُفُوسَهُمْ للهِ تَعَالَى، وَنَصَبُوا أَرْكَانَهُمْ فِي طَاعَتِهِ، وَيَمَّمُوا وُجُوهَهُمْ تُجَاهَ الآخِرَةِ، وَلَمْ يَحْفَلُوا بِالدُّنْيَا وَمُتَعِهَا الزَّائِلَةِ؛{تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (الفتح: من الآية29) ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى، وَتَزَوَّدُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يُنْجِيكُمْ فِي الأُخْرَى؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ قُبُورًا فِيهَا ضِيقٌ وَظُلْمَةٌ وَوَحْشَةٌ وَوَحْدَةٌ، وَإِنَّ أَمَامَكُمْ بَعْثًا وَنُشُورًا، وَوُقُوفًا طَوِيلاً، وَحِسَابًا عَسِيرًا، وَلاَ مَنْجَاةَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى؛{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الزمر:61) .
أَيُّهَا النَّاسُ: لِلاخْتِبَارِ فِي النَّفْسِ رَهْبَتُهُ، وَلِلسُّؤَالِ عَلَى القَلْبِ وَقْعُهُ، وَلِلْجَوَابِ الصَّحِيحِ حَلاوَتُهُ، وَلِلْإِخْفَاقِ حَسْرَتُهُ، وَعَلَى قَدْرِ أَهَمِّيَّةِ الاخْتِبَارِ يَهْتَمُّ الإِنْسَانُ، وَتَتَوَتَّرُ نَفْسُهُ، وَيَضْطَرِبُ قَلْبُهُ؛ فَلَيْسَ مَنْ يُسْأَلُ فِي مُسَابَقَةٍ تَرْفِيهِيَّةٍ كَمَنْ يُخْتَبَرُ لِنَيْلِ شَهَادَةٍ مَصِيرِيَّةٍ، وَلَيْسَ مَنْ يُسَابِقُ عَلَى وَظِيفَةٍ مَضْمُونَةٍ كَمَنْ يُزَاحِمُ الأُلُوفَ عَلَى وَظِيفَةٍ شِبْهِ مَعْدُومَةٍ!
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي حَيَاةِ النَّاسِ وَطَلَبِ مَعَاشِهِمْ، وَتَنَافُسِهِمْ عَلَى مَرَاتِبِ دُنْيَاهُمْ، فَكَيْفَ الحَالُ إِذَنْ بِامْتِحَانٍ مَنِ اجْتَازَهُ فَازَ فَوْزًا أَبَدِيًّا، وَمَنْ أَخْفَقَ فِيهِ خَسِرَ خُسْرَانًا نِهَائِيًّا، فَلَيْسَ ثَمَّةَ إِعَادَةٌ وَلاَ تَعْوِيضٌ وَلا فُرَصٌ أُخْرَى، حَيَاةٌ فِي الدُّنْيَا وَاحِدَةٌ، وَفُرْصَةٌ لِلْعَمَلِ فِيهَا وَاحِدَةٌ، وَالجَزَاءُ يَكُونُ عَلَى عَمَلِ الإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الفُرْصَةِ، وَأَيُّ جَزَاءٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الجَزَاءِ، الَّذِي أَدْنَاهُ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ فِي الدُّنْيَا وَعَشَرَةِ أَضْعَافِهِ، وَأَعْلاهُ القُرْبُ مِنَ الرَّحْمَنِ فِي جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ، فَيَا لَهُ مِنْ فَوْزٍ؟!
وَكَيْفَ إِذَنْ بِامْتِحَانٍ نَتِيجَتُهُ سَعَادَةٌ أَبَدِيَّةٌ، أَوْ شَقَاءٌ أَبَدِيٌّ، نَتِيجَتُهُ نَعِيمٌ مُقِيمٌ لاَ يَحُولُ وَلا يَزُولُ، فِيمَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، أَوْ فِي عَذَابٍ أَلِيمٍ مُهِينٍ، شَدِيدٍ لا يُخَفَّفُ، وَدِائِمٍ لاَ يَنْقَطِعُ؛ {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} (النساء: من الآية56).
ذَلِكُمْ يَا عِبَادَ اللهِ امْتِحَانُ الآخِرَةِ وَسُؤُالُهَا، وَجَزَاءُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَلَى أَعْمَالِ العِبَادِ فِيهَا، فَيَا لَكَيَاسَةَ مَنِ اعْتَبَرَ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا لِلآخِرَةِ، وَتَزَوَّدَ مِنَ الفَانِيَةِ لِلْبَاقِيَةِ، وَيَا لَسَعَادَةَ مَنْ قَدِمَ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَقَدْ بَلَغَ دَرَجَةَ السَّابِقِينَ، وَيَا لَشَقْوَةَ مَنْ لَقِيَ اللهَ تَعَالَى بِأَعْمَالِ الظَّالِمِينَ!
فِي يَوْمِ القِيَامَةِ حِينَ يَجِيءُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ لِفَصْلِ القَضَاءِ، وَالمَلائِكَةُ صُفُوفٌ فِي ذَلِكَ المَقَامِ العَظِيمِ، سَيُرْفَعُ أُنَاسٌ وَيُدْنَوْنَ مِنَ الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ؛ كَرَامَةً لَهُمْ عَلَى سَبْقِهِمْ فِي الدُّنْيَا، تَرْقُصُ قُلُوبُهُمْ طَرَبًا مِمَّا يَرَوْنَ مِنْ سَبْقِهِمْ وَكَرَامَةِ الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ لَهُمْ، وَدُونَهُمْ فَائِزُونَ آخَرُونَ يُقَالُ لَهُمْ: أَصْحَابُ اليَمِينِ، قَدْ أَسْفَرَتْ وُجُوهُهُمْ، وَفَرِحَتْ بِالفَوْزِ قُلُوبُهُمْ، وَآخَرُونَ خَاسِرُونَ يَقِفُونَ بِوُجُوهٍ مُظْلِمَةٍ، وَحَالٍ مُحْزِنَةٍ، وَبِقُلُوبٍ قَدْ مَلَأَهَا الهَمُّ وَالغَمُّ، وَتَقَطَّعَتْ بِالحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ 22 إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ 23 وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ 24 تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} (القيامة:22-25) ، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ 38 ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ 39 وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ 40 تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (عبس:38-41).
أَقْسَامٌ ثَلاثَةٌ لَا رَابِعَ لَهَا، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ فِي أَحَدِهَا، وَهِيَ المَذْكُورَةُ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً 7 فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ 8 وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ 9 وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (الواقعة:7-10).
وَهُمُ المَذْكُورُونَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32).
فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً، وَأَكْثَرُهُمْ نَعِيمًا، وَأَحَضُّهُمْ بِالقُرْبِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، ونَيْلِ رِضْوَانِهِ، وَالفَوْزِ بِرُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ - فِئَةُ السَّابِقِينَ، الَّذِينَ سَبَقُوا غَيْرَهُمْ إِلَى الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَمْضَوْا حَيَاتَهُمْ لَا يَرَوْنَ مَيْدَانًا فِيهِ رِضَا الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ إِلاَّ سَبَقُوا إِلَيْهِ، وَنَافَسُوا النَّاسَ عَلَيْهِ، وَتَرَكُوا الدُّنْيَا لِأَجْلِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى بَعْضًا مِنْ نَعِيمِهِمْ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ؛ لِإِغْرَاءِ أَهْلِ الإِيمَانِ، وَحَثِّ قُرَّاءِ القُرْآنِ عَلَى التَّنَافُسِ لِبُلُوغِ مَنْزِلَتِهِمْ، وَالاسْتِبَاقِ إِلَى أَعْمَالِهِمْ؛ {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ 10 أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ 11 فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 12 ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ 13 وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ 14 عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ 15 مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ 16 يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ 17 بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ 18 لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ 19 وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ 20 وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ 21 وَحُورٌ عِينٌ 22 كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ 23 جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 24 لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً 25 إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} (الواقعة:10-26). ، وَلَهُمْ عَيْنُ التَّسْنِيمِ خَاصَّةً خَالِصَةً، بَيْنَمَا تُمْزَجُ لِغَيْرِهِمْ بِغَيْرِهَا؛ {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ 27 عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (المطففين:27-28).
يَعْلَمُونَ بِفَوْزِهِمْ وَبِرِضَا الرَّحْمَنِ عَنْهُمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ؛ {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ 88 فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} (الواقعة:88-89) ، تِلْكَ بُشْرَاهُمْ، وَهَذَا مَآلُهُمْ، جَعَلَنَا اللهُ وَوَالِدِينَا وَذُرِّيَّاتِنَا مِنْهُمْ.
وَلِلسَّابِقِينَ المُقَرَّبِينَ أَوْصَافٌ مَذْكُورَةٌ فِي القُرْآنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا فَيَكُونَ مِنْهُمْ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ 57 وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ 58 وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ 59 وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ 60 أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (المؤمنون:57-61).
وَأَمَّا القِسْمُ الثَّانِي مِنَ النَّاسِ فَيَلِي السَّابِقِينَ فِي المَنْزِلَةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ اليَمِينِ، أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ هَذَا الوَصْفُ؛ لِأَنَّهُمْ فِي أَصْلِ الخَلْقِ كَانُوا عَنْ يَمِينِ أَبِيهِمْ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وَيُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَيْمَانِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلاَمَةَ فَوْزِهِمْ، وَهُمْ مَيَامِينُ مُبَارَكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوا رَبَّهُمْ فَدَخَلُوا الجَنَّةَ، وَاليُمْنُ هُوَ البَرَكَةُ، وَمِنْ بَرَكَتِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا دَعْوَتُهُمْ لَهُمْ إِلَى الخَيْرِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الشَّرِّ، وَمِنْ بَرَكَتِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ شَفَاعَتُهُمْ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الشَّفَاعَةَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى جُمْلَةً مِنْ نَعِيمِهِمْ فِي الآخِرَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ 27 فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ 28 وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ 29 وَظِلٍّ مَمْدُودٍ 30 وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ 31 وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ 32 لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ 33 وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ 34 إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً 35 فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً 36 عُرُباً أَتْرَاباً 37 لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} (الواقعة:27-38).
وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ: {فَكُّ رَقَبَةٍ 13 أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ 14 يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ 15 أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ 16 ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ 17 أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} (البلد:13-18).
وَيَعْلَمٌونَ بِسَلامَتِهِم حَالَ احْتِضَارِهِم {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ 90 فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} (الواقعة:90-91).
وَأَمَّا القِسْمُ الثَّالِثُ: فَأَصْحَابُ الشِّمَالِ - أَعَاذَنَا اللهُ تَعَالَى مِنْ حَالِهِمْ وَمَآلِهِمْ - سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَنْ شِمَالِ أَبِيهِمْ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فِي أَصْلِ الخَلْقِ، وَيُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ بِشَمَائِلِهِمْ، وَهُمْ شُؤْمٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى مَنِ اقْتَرَنَ بِهِمْ فَوَافَقَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا النَّارَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالعَرَبُ تُسَمِّي الشِّمَالَ شُؤْمًا، كَمَا تُسَمِّي اليَمِينَ يُمْنًا، وَهُمُ المُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ مِنَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ عَذَابِهِمْ فِي الآخِرَةِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ 41 فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ 42 وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ 43 لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} (الواقعة:41-44) ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى كُفْرَهُمْ، وَعَاقِبَةَ كُفْرِهِمْ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ 19 عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} (البلد:19-20).
وَيَعْلَمُونَ بِمَصِيرِهِمُ المَشْؤُمِ عِنْدَ مَوتِهِمْ {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ 92 فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ 93 وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} (الواقعة:92-94)، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ الأَقْسَامِ الثَّلاَثَةِ قِسْمٌ رَابِعٌ، فَقِسْمَانِ فِي الجَنَّةِ، وَقِسْمٌ فِي النَّارِ، فَلْيَخْتَرِ الإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ مَا يُرِيدُ مِنْهَا، وَلْيَعْمَلْ بِعَمَلِ أَهْلِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الدُّنْيَا وَأَكْدَارَهَا وَسُرْعَةَ زَوَالِهَا وَكَثْرَةَ مَوْتِ النَّاسِ فِيهَا؛ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا، وَلَمْ يُقَدِّمْهَا عَلَى الآخِرَةِ؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (فاطر:5).
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ....
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ 131 وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران:131-132).
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مَنْ تَأَمَّلَ حَالَ الفَائِزِينَ فِي دِرَاسَةٍ أَوْ مُسَابَقَةٍ أَوْ وَظِيفَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ أَيِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا - أَبْصَرَ مَا هُمَ فِيهِ مِنَ الفَرَح وَالسُّرُورِ، وَمَا يَجِدُونَهُ مِن اللَّذَّةِ وَالحُبُورِ، وَهُوَ فَوْزٌ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ مَهْمَا عَظُمَ، وَرُبَّمَا خُبِّئَ لَهُمْ فِي القَدَرِ حُزْنٌ يَعْقُبُ هَذَا الفَرَحَ، وَمُصِيبَةٌ تَلِي هَذَا الرِّبْحَ، وَهُوَ فَوْزٌ زَائِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَذَّتُهُ فِي لَحْظَتِهِ ثُمَّ تَضْمَحِلُّ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ مَنْ أَخْفَقُوا فِي دِرَاسَةٍ أَوْ مُسَابَقَةٍ أَوْ وَظِيفَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ أَيِّ أَمْرٍ آخَرَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا - أَبْصَرَ الظُّلْمَةَ تَعْلُوهُمْ، وَرَأَى الحَسْرَةَ تَكْسُوهُمْ، وَلَوْ تَجَلَّدُوا وَكَتَمُوا وَتَصَنَّعُوا، وَهُوَ إِخْفَاقٌ يُمْكِنُ تَعْوِيضُهُ، وَخَسَارَةٌ مُؤَقَّتَةٌ سَرْعَانَ مَا يَزُولُ أَلَمُهَا وَحَسْرَتُهَا.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِفَوْزِ الآخِرَةِ وَخَسَارَتِهَا، ذَلِكَ الفَوْزُ الأَبَدِيُّ وَالخَسَارَةُ الأَبَدِيَّةُ.
وَلِلْفَوْزِ مَيَادِينُهُ، وَلِلْمُسَابَقَةِ أَعْمَالُهَا، وَلِمَنَازِلِ السَّابِقِينَ المُقَرَّبِينَ رِجَالُهَا وَنِسَاؤُهَا؛ مِنْهُمْ مَنْ يُسَابِقُ فِي كُلِّ طَاعَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، كَمَا كَانَ عُمَرُ يُسَابِقُ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - إِلَى الطَّاعَاتِ، فَكَانَ الصِّدِّيقُ يَسْبِقُهُ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «واللهِ مَا سَابَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلاَّ سَبَقَنِي»، وَهَذَا فِي النَّاسِ قَلِيلٌ؛ وَلِذَا يُدْعَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ كُلِّ أَبْوَابِ الجَنَّةِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ إِلَى طَاعَاتِ تِلْكَ الأَبْوَابِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَلْزَمُ طَاعَةً يَسْبِقُ غَيْرَهُ فِيهَا، وَيَأْخُذُ بِحَظٍّ مِنَ الطَّاعَاتِ الأُخْرَى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ سَبْقَ لَهُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ اللَّهْوَ وَالغَفْلَةَ!
وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ أَنْ جَعَلَ مَيَادِينَ المُسَابِقَةِ لَهُمْ فِي الخَيْرِ كَثِيرَةً، وَأَعْمَالَهَا وَفِيرَةً فِي أَزْمَانِهَا وَأَمَاكِنِهَا وَأَنْوَاعِهَا؛ حَتَّى إِذَا عَجَزَ العَبْدُ عَنْ بَعْضِهَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْ كُلِّهَا، وَإِنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْهَا أَدْرَكَ عَمَلاً غَيْرَهُ.
وَهِيَ مَيَادِينُ يَوْمِيَّةٌ وَأُسْبُوعِيَّةٌ، وَشَهْرِيَّةٌ وَحَوْلِيَّةٌ:
فَمِنَ اليَّوْمِيَّةِ: الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ؛ فَمَنْ سَابَقَ عَلَى النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلَ سَبَقَ، وَمَنْ تَأَخَّرَ إِلَى إِقَامَةِ الصَّلاةِ فَقَدْ فَرَّطَ، وَمَنْ تَرَكَهَا بِالكُلِّيَّةِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَبَخَسَ حَظَّهُ!
وَمِنَ المَيَادِينِ الأُسْبُوعِيَّةِ: صِيَامُ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، وَالتَّبْكِيرُ لِلْجُمُعَةِ وَالْتِزَامُ سُنَنِهَا وَآدَابِهَا.
وَمِنَ المَيَادِينِ الشَّهْرِيَّةِ: صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.
وَمِنَ المَيَادِينِ الحَوْلِيَّةِ: الإِكْثَارُ مِنْ صِيَامِ شَعْبَانَ، وَاغْتِنَامُ رَمَضَانَ بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ، وَكَمْ فِي هَذِهِ المَيَادِينِ مِنْ مُسَابِقٍ! وَكَمْ فِيهَا مِنْ مُقْتَصِدٍ! وَكَمْ فِيهَا مِنْ ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ! مُضَيِّعٍ لِفُرَصِ عُمُرِهِ!
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ فَيَجْعَلُهُ يَفِرُّ مِنْ أَسْوَاقِ الآخِرَةِ، وَمَيَادِينِ التَّنَافُسِ فِي الطَّاعَةِ، كَمَا يُدْبِرُ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضِرَاطٌ إِذَا سَمِعَ الأَذَانَ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُضَيِّعُونَ المَوَاسِمَ الحَوْلِيَّةَ؛ كَرَمَضَانَ وَالحَجِّ فِي أَسْفَارٍ مُحَرَّمَةٍ، أوِ انْكِبَابٍ عَلَى الشَّهَوَاتِ، فَأَيْنَ أُولَئِكَ مِنَ التَّنَافُسِ فِي الطَّاعَاتِ وَاسْتِبَاقِ الخَيْرَاتِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ فِي الآخِرَةِ فَائِزِينَ وَخَاسِرِينَ، وَلِلْفَائِزِينَ دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةً بِحَسْبِ سَبْقِهِمْ فِي الدُّنْيَا؛ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران:185).
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا....
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى