حبيبه الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
سُبُلُ التَّصَدِّي لِلْإِفْسَادِ اللِّيبْرَالِي
24/6/1432
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ اللَّطِيفِ الخَبِيرِ؛ أَمَرَ بِالإِصْلاَحِ، وَأَثْنَى عَلَى المُصْلِحِينَ، وَنَهَى عَنِ الفَسَادِ، وَذَمَّ المُفْسِدِينَ؛ {إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ} [النحل: 90]، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى عَطَائِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ فَالخَيْرُ بِيَدَيْهِ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، وَهُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ نَشْرَ الصَّلاَحِ وَالإِصْلاَحِ، وَمُقَاوَمَةَ الفَسَادِ وَالإِفْسَادِ سَبَبًا فِي دَفْعِ العُقُوبَاتِ، وَحُلُولِ البَرَكَاتِ؛ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ بِظُلۡم وَأَهۡلُهَا مُصۡلِحُونَ} [هود: 117]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ سَاوَمَتْهُ قُرَيْشٌ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ مُهِمَّةَ الإِصْلاَحِ الَّتِي بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى لِأَجْلِهَا، وَأَغْرَوْهُ بِأَعْلَى الجَاهِ، وَأَوْفَرِ المَالِ، وَأَجْمَلِ النِّسَاءِ؛ فَمَا قَبِلَ مُسَاوَمَتَهُمْ، وَلَمْ يَخْضَعْ لِإِرْهَابِهِمْ، وَمَضَى فِي إِصْلاحِهِ حَتَّى أَظْهَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَأَصْلَحَ حَالَ البَشَرِيَّةِ بِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ -عِبَادَ اللهِ- بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ، وَفِي الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، وَفِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ؛ فَفِي لُزُومِ التَّقْوَى تَفْرِيجُ الهُمُومِ، وَزَوَالُ الكُرُوبِ، وَسَعَةُ الرِّزْقِ، وَاسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ؛ {وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ} [الطَّلاق: 2-3]، وَفِي الحَدِيثِ: «تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ؛ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ».
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي البَشَرِ أَنْ أَوْجَدَ فِيهِمُ المُصْلِحِينَ وَالمُفْسِدِينَ، وَجَعَلَ الصِّرَاعَ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، وَحِينَ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ مُسْتَخْلِفٌ بَشَرًا فِي الأَرْضَ خَافَ المَلاَئِكَةُ مِنْ فَسَادِ البَشَرِ؛ {قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]، فَأَجَابَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} [البقرة: 30]، وَمَا يَعْلَمُهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ سَعْيَ المُصْلِحِينَ بِالصَّلاَحِ فِي الأَرْضِ فِيهِ مِنَ المَصَالِحِ مَا يَرْبُو عَلَى فَسَادِ المُفْسِدِينَ، وَيَكْفِي المُصْلِحِينَ شَرَفًا وَعِزًّا أَنَّ اللهَ تَعَالَى نَوَّهَ بِهِمْ فِي أَوَّلِ خِطَابَاتِ خَلْقِ البَشَرِ، كَمَا تَدُلُّ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الإِصْلاَحِ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كَثْرَةَ المُصْلِحِينَ خَيْرٌ لِلْبَشَرِيَّةِ كَمَا أَنَّ وُجُودَ المُفْسِدِينَ شُؤْمٌ عَلَيْهَا.
وَتَتَابَعَتْ شَرَائِعُ النَّبِيِّينَ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ- تَسْعَى بِكُلِّ أَنْوَاعِ الإِصْلاَحِ، وَتُحَارِبُ الفَسَادَ فِي كُلِّ مَجَالاَتِهِ؛ {وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَا} [الأعراف: 56]، وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ أَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى صَالِحٍ وَمُوسَى وَشُعَيْبٍ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ- لِأَقْوَامِهِمْ عَلَى قَوْلِهِمْ:{وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ}، وَذَكَّرَ شُعَيْبٌ قَوْمَهُ بِمَصِيرِ المُفْسِدِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: {وَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [الأعراف: 86]، وَقِيلَ لِقَارُونَ -وَقَدْ آتَاهُ اللهُ تَعَالَى الغِنَى-: {وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [القصص: 77]، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَبْغُونَ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ، وَيَنْشُرُونَهُ فِي النَّاسِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ تَبِعَهُمْ فِي فَسَادِهِمْ أَوْ أَعَانَهُمْ عَلَيْهِ، بِكَلِمَةٍ، أَوْ مَقَالَةٍ، أَوْ بِسُكُوتِهِ عَنْ فَسَادِهِمْ؛ إِذْ يُحْرَمُونَ مَحَبَّةَ اللهِ تَعَالَى الَّتِي مَنْ حُرِمَهَا شَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَقِيلَ لِفِرْعَوْنَ لَمَّا رَأَى المَوْتَ -فَأَعْلَنَ إِيمَانَهُ فَلَمْ يَنْفَعْهُ-: {ءَآلۡـَٰٔنَ وَقَدۡ عَصَيۡتَ قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [يونس: 91].
وَبُعِثَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالقُرْآنِ وَهُوَ مَلِيءٌ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الفَسَادِ وَالمُفْسِدِينَ؛ لِأَنَّ الهَلاَكَ يَكُونُ بِسَبَبِهِمْ، وَمَا أُخِذَتْ أُمَّةٌ إِلاَّ بِمُفْسِدِيهَا حِينَ تُرِكُوا يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ؛ وَلِذَا لَفَتَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ لِمَصِيرِ المُفْسِدِينَ مِنْ قَبْلُ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [الأعراف: 103]، وَأَخْبَرَ -عَزَّ وَجَلَّ- بِلَعْنِ المُفْسِدِينَ، وَشُؤْمِ عَاقِبَتِهِمْ؛ {وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوٓءُ ٱلدَّارِ} [الرعد: 25]، وَيُحْرَمُونَ مِنَ الفَوْزِ فِي الآخِرَةِ؛ {تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَاداۚ} [القصص: 83]، وَعَذَابُهُمْ فِي الآخِرَةِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ إِفْسَادِهِمْ؛ {زِدۡنَٰهُمۡ عَذَابا فَوۡقَ ٱلۡعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفۡسِدُونَ} [النحل: 88].
وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مُصْلِحٌ وَهُوَ مُفْسِدٌ، وَقَدْ يَدَّعِي المُفْسِدُونَ الإِصْلاَحَ، وَيُسَمُّونَ إِفْسَادَهُمْ: عَمَلِيَّاتٍ إِصْلاَحِيَّةً؛ لِأَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَتَبَرَّؤُونَ مِنَ الفَسَادِ، وَالمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى خَالِقِ العِبَادِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ ٱلۡمُفۡسِدَ مِنَ ٱلۡمُصۡلِحِۚ} [البقرة: 220]، فَيُعْرَضُ كُلُّ عَمَلٍ عَلَى شَرْعِهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ فَهُوَ إِصْلاحٌ، وَإِنْ عَارَضَهُ فَهُوَ إِفْسَادٌ وَلَوِ ادَّعَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ إِصْلاَحٌ، وَإِلاَّ فَإِنَّ المُنَافِقِينَ يَخْلَعُونَ صِفَةَ الإِصْلاحِ عَلَى إِفْسَادِهِمْ، فَيَقُولُونَ: {إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} [البقرة: 11]، فَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَقِيقَتِهِمْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ} [البقرة: 12].
وجُلُّ مَا يَقَعُ مِنْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ سَبَبُهُ الهَوَى؛ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ يُرِيدُونَ نَشْرَ فَسَادِهِمْ عَلَى أَنَّهُ إِصْلاَحٌ، وَمَا نَكَسَ قُلُوبَهُمْ، وَقَلَبَ مَفَاهِيمَهُمْ إِلاَّ اتِّبَاعُ الهَوَى، الَّذِي يَكُونُ بِهِ فَسَادُ العَالَمِ؛ حَتَّى إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ المُفْسِدِينَ وَهُمْ أَهْلُ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَواتِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ} [المؤمنون: 71]، وَأَهْلُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الفَسَادِ يُجَادِلُونَ عَنْهُ بِشِدَّةٍ، وَيُرِيدُونَ فَرْضَهُ عَلَى النَّاسِ بِالقُوَّةِ؛ {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ ٢٠٤ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ} [البقرة: 204-205].
وَمِنْ أَعْظَمِ السَّعْيِ بِالفَسَادِ فِي الأَرْضِ: تَنْحِيَةُ شَرْعِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالمَرْأَةِ، وَالقَفْزُ عَلَى الأَحْكَامِ المُحْكَمَةِ فِي مَنْعِ الاخْتِلاطِ بِالرِّجَالِ، وَالخُلْوَةِ بِهِمْ، وَقَرَارِ المَرْأَةِ فِي المَنْزِلِ، بِزُخْرُفٍ مِنَ القَوْلِ يُعْجِبُ ضِعَافَ الإِيمَانِ، وَالسَّيْرِ فِي خُطُوَاتٍ تَغْرِيبِيَّةٍ شَيْطَانِيَّةٍ تَكُونُ سَبَبًا لِلْفَسَادِ الأَخْلاقِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، وَفَتْحِ أَبْوَابِ الفَوَاحِشِ عَلَى مَصَارِيعِهَا، وَلا يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ بِنَشْرِ ثَقَافَةِ السُّفُورِ وَالاخْتِلاَطِ وَالتَّعَرِّي وَالرِّيَاضَةِ النِّسْوِيَّةِ، وَجَعْلِ خُرُوجِ المَرْأَةِ هُوَ الأَصْلَ، وَنَزْعِ الحَيَاءِ مِنْهَا؛ حَتَّى تَأْلَفَ المَرْأَةُ الرِّجَالَ، وَلا تَأْنَفَ مِنْ مُجَالَسَتِهِمْ.
وَمِنْ أَشْهَرِ الأُمَمِ السَّالِفَةِ فِي نَشْرِ الفَوَاحِشِ قَوْمُ لُوطٍ -عَلَيْهِ السَّلامُ- حَتَّى عُذِّبُوا بِكُفْرِهِمْ وَفَسَادِهِمُ الأَخْلاَقِيِّ بِأَشَدِّ أَنْوَاعِ العَذَابِ حِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِدَعْوَةِ لُوطٍ -عَلَيْهِ السَّلامُ- وَلَمْ يُقْلِعُوا عَنْ فَسَادِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ قَائِلاً: {رَبِّ ٱنصُرۡنِي عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [العنكبوت: 30]، فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِمْ بَأْسَهُ وَعُقُوبَتَهُ.
وَاليَهُودُ مِنْ أَبْرَعِ الأُمَمِ فِي نَشْرِ الفَسَادِ الأَخْلاقِيِّ، وَإِشَاعَةِ الفَوَاحِشِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَهُمُ اليَدُ الطُّولَى فِي تَقْنِينِ الثَّقَافَةِ الانْحِلالِيَّةِ فِي الغَرْبِ، وَتَشْرِيعِ قَوَانِينِهَا، ثُمَّ تَصْدِيرِهَا إِلَى سَائِر الدُّوَلِ، وَلَهُمْ سَطْوَةٌ عَلَى المُنَظَّمَاتِ الدَّوْلِيَّةِ الَّتِي تَتَزَعَّمُ إِلْغَاءَ الفَوَارِقِ الخِلْقِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، فِيمَا يُعْرَفُ بِاتِّفَاقِيَّةِ: (السِّيدَاو)، وَهِيَ مُكَافَحَةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ، وَفِي وَصْفِ اللهِ تَعَالَى لِلْيَهُودِ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَاداۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [المائدة: 64]، وَأَتْبَاعُ اليَهُودِ مِنَ المُنَافِقِينَ وَمَرْضَى القُلُوبِ يَجِدُّونَ وَيَجْتَهِدُونَ فِي نَشْرِ ثَقَافَةِ الفَسَادِ بَيْنَ الشُّعُوبِ، وَلا سِيَّمَا الشُّعُوبَ الإِسْلاَمِيَّةَ؛ لِأَنَّ نِظَامَ الإِسْلاَمِ فِيهِ مِنَ الصَّرَامَةِ فِي الجَوَانِبِ الأَخْلاقِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، وَسَدِّ مَنَافِذِ الفَوَاحِشِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ.
وَفِي الوَقْتِ الَّذِي يَدْعُو فِيهِ التَّغْرِيبِيُّونَ إِلَى الاخْتِلاطِ، وَالرِّيَاضَةِ النِّسْويَّةِ، وَقِيَادَةِ المَرْأَةِ لِلسَّيَّارَةِ، وَاسْتِقْلالِ المَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ، وَنَزْعِ قِوَامَتِهِ عَلَيْهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَنْصَارُ المَرْأَةِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُسْهِمُوا فِي حَلِّ مَشَاكِلِ المُطَلَّقَاتِ وَالمُعَلَّقَاتِ وَالمَظْلُومَاتِ، وَالمَحْرُومَاتِ مِنْ إِرْثِهِنَّ أَوْ أَوْلادِهِنَّ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا لِلْأَرَامِلِ وَالفَقِيرَاتِ؛ لِأَنَّ نُصْرَةَ المَرْأَةِ لَيْسَتْ غَايَتَهُمْ، وَلَمْ يَكُنِ الإِصْلاَحُ مَقْصِدَهُمْ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ نَشْرَ الفَوَاحِشِ بِاسْمِ الإِصْلاَحِ، وَفَرْضَ أَمْرَاضِهِمُ الشَّهْوَانِيَّةِ عَلَى البِلادِ وَالعِبَادِ فِي تَحَدٍّ وَاسْتِكْبَارٍ، وَعَمَالَةٍ لِأَرْبَابِ الاسْتِعْمَارِ، نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَكْبِتَهُمْ، وَيُذْهِبَ رَيحَهُمْ، وَيَكْشِفَ أَمْرَهُمْ، وَيُنْزِلَ بِهِمُ الذُّلَّ وَالهَوَانَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلَي هَذَا....
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ وَلا تَكْفُرُوهُ؛ {كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} [البقرة: 60].
أَيُّهَا النَّاسُ: لاَ يَرُدُّ المُفْسِدِينَ عَنْ إِفْسَادِهِمْ إِلاَّ احْتِسَابُ الجَمَاعَةِ عَلَيْهِمْ، بِوَعْظِهِمْ وَتَذْكِيرِهِمْ، َوَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى، فَإِنْ أَبَوْا وَجَبَ الأَخْذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَأَطْرُهُمْ عَلَى الحَقِّ.
وَبِمَا أَنَّ ضَرَرَ المُفْسِدِينَ يَصِلُ إِلَى النَّاسِ فِي بُيُوتِهِمْ، وَيُمَرِّدُ عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَبَنَاتِهِمْ، وَيُفْسِدُ أَخْلاَقَ أُسَرِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ، وَيَكُونُ سَبَبًا فِي زَوَالِ دِينِهِمُ الَّذِي بِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ؛ فَإِنَّ أَهَمَّ شَيْءٍ لِإِفْسَادِ خُطَطِ المُفْسِدِينَ عَدَمُ طَاعَتِهِمْ فِيمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ مِنْ خُطُوَاتٍ تَغْرِيبِيَّةٍ تَخْرِيبِيَّةٍ وَلَوِ ادَّعَوْا أَنَّهَا إِصْلاَحٌ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تُطِيعُوٓاْ أَمۡرَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ ١٥١ ٱلَّذِينَ يُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا يُصۡلِحُونَ} [الشُّعَراء: 152].
وَمِنْ سُبُلِ دَرْءِ إِفْسَادِهِمْ: مُقَاوَمَتُهُمْ فِي مَشْرُوعَاتِهِمُ التَّغْرِيبِيَّةِ بِالمَقَالَةِ وَالكَلِمَةِ، وَتَحْذِيرُ الوُلاَةِ وَالعَامَّةِ مِنْهُمْ، وَكَشْفُ خُطَطِهِمْ وَاتِّصَالاَتِهِمْ بِالأَعْدَاءِ؛ نُصْحًا للهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ؛ {فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّة يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ} [هود: 116].
وَلَوْ كَانَ المُفْسِدُونَ أَكْثَرِيَّةً لَمَا سَاغَ لِأَقَلِّيَّةِ المُصْلِحِينَ أَنْ يَسْكُتُوا عَنْ إِفْسَادِهِمْ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحْتَسِبُوا عَلَيْهِمْ، وَيُحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُمْ، وَقَدْ بُعِثَ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلامُ- {وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيل} [هود: 40]، فَمَا تَرَكَ الاِحْتِسَابَ عَلَى الأَكْثَرِيَّةِ عَشْرَةَ قُرُونٍ إِلاَّ قَلِيلاً! وبُعِثُ أَنْبِيَاءٌ لَمْ يَتْبَعْهُمْ أَحَدٌ أَبَدًا وَمَا فَتَرُوا عَنِ الاحْتِسَابِ وَالأَخْذِ عَلَى أَيْدِي المُفسِدِينَ حَتَّى لَقُوا اللهَ تَعَالَى! فَكَيْفَ إِذَا كَانَ المُفْسِدُونَ حُثَالَةً قَلِيلَةً، فَلا يَسَعُ الأَكْثَرِيَّةَ إِلاَّ الاحْتِسَابُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْكَارُ فَسَادِهِمْ، وَالأَخْذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَمَا تَمَكَّنَتْ هَذِهِ الحُثَالَةُ المَوْبُوءَةُ فِي فِكْرِهَا وَعُقُولِهَا مِنْ تَحْقِيقِ شَيْءٍ في إِفْسَادِ البِلادِ وَالعِبَادِ إِلاَّ بِسُكُوتِ الأَكْثَرِيَّةِ، وَاسْتِسْلامِهِمْ لِمَشْرُوعاتِ المُفْسِدِينَ التَّغْرِيبِيَّةِ.
وَمِنْ سُبُلِ مُقَاوَمَةِ المُفْسِدِينَ: نَشْرُ الإِصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَعْلِيمُهُمْ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى التَّمَسُّكِ بِهِ؛ لِإِيجَادِ مَنَاعَةٍ ضِدَّ الفَسَادِ وَالمُفْسِدِينَ، فَمَا تَمَكَّنَ التَّغْرِيبِيُّونَ مِنْ نَشْرِ فَسَادِهِمْ فِي الشُّعُوبِ الإِسْلامِيَّةِ إِلاَّ بَعْدَ تَجْهِيلِهَا، وَصَرْفِهَا عَنْ تَعَلُّمِ دِينِهَا؛ وَلِذَا نَرَى طَعْنَ المُفْسِدِينَ الدَّائِمَ عَلَى تَحْفِيظِ القُرْآنِ، وَالدَّورَاتِ العِلْمِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَسَعْيَهُمْ إِلَى تَقْلِيصِ المَوَادِّ الشَّرْعِيَّةِ في التَّعْلِيمِ؛ لِنَشْرِ الجَهْلِ بِالدِّينِ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى يَفْقِدُوا مَنَاعَتَهُمْ، فَيَسْهُلَ اخْتِرَاقُ عُقُولِهِمْ، وَمَسْخُهُمْ فِكْرِيًّا وَأَخْلاقِيًّا، وَنَقْلُهُمْ إِلَى مَرَاتِعِ الفَسَادِ وَالإِفْسَادِ؛ {وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَتَّبِعۡ سَبِيلَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [الأعراف: 142].
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يَنْعَمُونَ بِالأَمْنِ وَرَغَدِ العَيْشِ: شُكْرُ اللهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ دَلائِلِ الشُّكْرِ اجْتِنَابُ طُرُقِ المُفْسِدِينَ، وَالاحْتِسَابُ عَلَيْهِمْ، وَإِفْشَالُ خُطَطِهِمْ؛ {فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} [الأعراف: 74].
هَذَا؛ وَلِلْمُفْسِدِينَ مَشْرُوعَاتٌ كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالمَرْأَةِ، يُثِيرُونَهَا بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ؛ لِجَسِّ نَبْضِ الشَّارِعِ تُجَاهَهَا، فَإِنْ رَأَوْا غَضْبَةَ النَّاسِ تَرَيَّثُوا، وَإِلاَّ أَقْدَمُوا عَلَى إِفْسَادِهِمْ، وَمَا الضَّجَّةُ الَّتِي افْتَعَلُوهَا فِي قِيَادَةِ المَرْأَةِ لِلسَّيَّارَةِ إِلاَّ جُزْءٌ مِنَ المَشْرُوعِ التَّغْرِيبِيِّ الكَبِيرِ، وَلَيْسَ المَقْصِدُ مِنْهُ إِعْطَاءَ المَرْأَةِ حَقَّهَا؛ كَلاَّ، وَلاَ يُخْدَعُ بِذَلِكَ إِلاَّ مُغَفَّلٌ؛ فَالَّذِينَ يَصِيحُونَ بِهَذَا الحَقِّ فِي الإِعْلامِ، وَالَّذِينَ يَرْسُمُونَ خُطَّتَهُ خَلْفَ مَكَاتِبِهِمْ هُمُ الَّذِينَ ضَيَّقُوا فُرَصَ العَمَلِ غَيْرِ المُخْتَلَطِ عَلَى المَرْأَةِ، وَأَلْزَمُوهَا بِوَظَائِفَ مُخْتَلَطَةٍ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِيَتَحَرَّشُوا بِهَا، وَجَعَلُوهَا تَحْتَ سُلْطَةِ رِجَالٍ قَدْ يُسَاوِمُونَهَا عَلَى عِرْضِهَا؛ لِتَثْبِيتٍ فِي وَظِيفَةٍ أَوْ تَرْقِيَةٍ أَوْ مَيْزَاتٍ أُخْرَى، وَمَا أَشَدَّ خِيَانَتَهُمْ لِلنَّاسِ حِينَ أَرَادُوا نَزْعَ سُلْطَةِ مَحَارِمِ المَرْأةِ عَلَيْهَا؛ لِيَرْمُوهَا تَحْتَ سُلْطَةِ الأَغْرَابِ عَنْهَا، وَهُمُ الَّذِينَ شَرَّعُوا الاخْتِلاَطَ فِي مُسْتَشْفَيَاتِ التَّوْلِيدِ وَوَسَّعُوهُ لِيَكْشِفَ الرِّجَالُ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ جُهْدٌ يُذْكَرُ فِي بَحْثِ مُشْكِلاتِ المَرْأَةِ وَعِلاجِهَا وَحِمَايَتِهَا، رَغْمَ مَا يَمْلِكُونَهُ مِنْ نُفُوذٍ وَإِمْكَانِيَّاتٍ مَالِيَّةٍ وَإِعْلامِيَّةٍ ضَخْمَةٍ، وَكُلُّ مَطَالِبِهِمْ تَدُورُ حَوْلَ تَعْبِيدِ الطُّرُقِ لِنَشْرِ الفَوَاحِشِ وَالمُنْكَرَاتِ فِي النَّاسِ، وَجَعْلِ المَرْأَةِ سِلْعَةً رَخِيصَةً تُدَارُ بَيْنَ أَرَاذِلِ الرِّجَالِ، فَلا يُخْدَعُ بِهِمْ إِلاَّ مَغْرُورٌ، وَلاَ يَتْبَعُهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ إِلاَّ مَرِيضُ قَلْبٍ، وَلا يُعِينُهُمْ عَلَى إِثْمِهِمْ إِلاَّ مَغْمُوسٌ فِي النِّفَاقِ أَوْ فِي الشَّهَوَاتِ، وَلاَ يَتْرُكُ الإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ إِلاَّ مَهْزُومُ النَّفْسِ، ضَعِيفُ الدِّينِ؛ {وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيما} [النساء: 27]، {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيم فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُون} [النور: 19].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ...
سُبُلُ التَّصَدِّي لِلْإِفْسَادِ اللِّيبْرَالِي
24/6/1432
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ اللَّطِيفِ الخَبِيرِ؛ أَمَرَ بِالإِصْلاَحِ، وَأَثْنَى عَلَى المُصْلِحِينَ، وَنَهَى عَنِ الفَسَادِ، وَذَمَّ المُفْسِدِينَ؛ {إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ} [النحل: 90]، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى عَطَائِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ فَالخَيْرُ بِيَدَيْهِ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، وَهُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ نَشْرَ الصَّلاَحِ وَالإِصْلاَحِ، وَمُقَاوَمَةَ الفَسَادِ وَالإِفْسَادِ سَبَبًا فِي دَفْعِ العُقُوبَاتِ، وَحُلُولِ البَرَكَاتِ؛ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ بِظُلۡم وَأَهۡلُهَا مُصۡلِحُونَ} [هود: 117]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ سَاوَمَتْهُ قُرَيْشٌ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ مُهِمَّةَ الإِصْلاَحِ الَّتِي بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى لِأَجْلِهَا، وَأَغْرَوْهُ بِأَعْلَى الجَاهِ، وَأَوْفَرِ المَالِ، وَأَجْمَلِ النِّسَاءِ؛ فَمَا قَبِلَ مُسَاوَمَتَهُمْ، وَلَمْ يَخْضَعْ لِإِرْهَابِهِمْ، وَمَضَى فِي إِصْلاحِهِ حَتَّى أَظْهَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَأَصْلَحَ حَالَ البَشَرِيَّةِ بِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ -عِبَادَ اللهِ- بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ، وَفِي الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، وَفِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ؛ فَفِي لُزُومِ التَّقْوَى تَفْرِيجُ الهُمُومِ، وَزَوَالُ الكُرُوبِ، وَسَعَةُ الرِّزْقِ، وَاسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ؛ {وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ} [الطَّلاق: 2-3]، وَفِي الحَدِيثِ: «تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ؛ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ».
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي البَشَرِ أَنْ أَوْجَدَ فِيهِمُ المُصْلِحِينَ وَالمُفْسِدِينَ، وَجَعَلَ الصِّرَاعَ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، وَحِينَ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ مُسْتَخْلِفٌ بَشَرًا فِي الأَرْضَ خَافَ المَلاَئِكَةُ مِنْ فَسَادِ البَشَرِ؛ {قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]، فَأَجَابَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} [البقرة: 30]، وَمَا يَعْلَمُهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ سَعْيَ المُصْلِحِينَ بِالصَّلاَحِ فِي الأَرْضِ فِيهِ مِنَ المَصَالِحِ مَا يَرْبُو عَلَى فَسَادِ المُفْسِدِينَ، وَيَكْفِي المُصْلِحِينَ شَرَفًا وَعِزًّا أَنَّ اللهَ تَعَالَى نَوَّهَ بِهِمْ فِي أَوَّلِ خِطَابَاتِ خَلْقِ البَشَرِ، كَمَا تَدُلُّ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الإِصْلاَحِ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كَثْرَةَ المُصْلِحِينَ خَيْرٌ لِلْبَشَرِيَّةِ كَمَا أَنَّ وُجُودَ المُفْسِدِينَ شُؤْمٌ عَلَيْهَا.
وَتَتَابَعَتْ شَرَائِعُ النَّبِيِّينَ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ- تَسْعَى بِكُلِّ أَنْوَاعِ الإِصْلاَحِ، وَتُحَارِبُ الفَسَادَ فِي كُلِّ مَجَالاَتِهِ؛ {وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَا} [الأعراف: 56]، وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ أَنْبِيَاءِ اللهِ تَعَالَى صَالِحٍ وَمُوسَى وَشُعَيْبٍ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ- لِأَقْوَامِهِمْ عَلَى قَوْلِهِمْ:{وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ}، وَذَكَّرَ شُعَيْبٌ قَوْمَهُ بِمَصِيرِ المُفْسِدِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: {وَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [الأعراف: 86]، وَقِيلَ لِقَارُونَ -وَقَدْ آتَاهُ اللهُ تَعَالَى الغِنَى-: {وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [القصص: 77]، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَبْغُونَ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ، وَيَنْشُرُونَهُ فِي النَّاسِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ تَبِعَهُمْ فِي فَسَادِهِمْ أَوْ أَعَانَهُمْ عَلَيْهِ، بِكَلِمَةٍ، أَوْ مَقَالَةٍ، أَوْ بِسُكُوتِهِ عَنْ فَسَادِهِمْ؛ إِذْ يُحْرَمُونَ مَحَبَّةَ اللهِ تَعَالَى الَّتِي مَنْ حُرِمَهَا شَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَقِيلَ لِفِرْعَوْنَ لَمَّا رَأَى المَوْتَ -فَأَعْلَنَ إِيمَانَهُ فَلَمْ يَنْفَعْهُ-: {ءَآلۡـَٰٔنَ وَقَدۡ عَصَيۡتَ قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [يونس: 91].
وَبُعِثَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالقُرْآنِ وَهُوَ مَلِيءٌ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الفَسَادِ وَالمُفْسِدِينَ؛ لِأَنَّ الهَلاَكَ يَكُونُ بِسَبَبِهِمْ، وَمَا أُخِذَتْ أُمَّةٌ إِلاَّ بِمُفْسِدِيهَا حِينَ تُرِكُوا يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ؛ وَلِذَا لَفَتَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ لِمَصِيرِ المُفْسِدِينَ مِنْ قَبْلُ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [الأعراف: 103]، وَأَخْبَرَ -عَزَّ وَجَلَّ- بِلَعْنِ المُفْسِدِينَ، وَشُؤْمِ عَاقِبَتِهِمْ؛ {وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوٓءُ ٱلدَّارِ} [الرعد: 25]، وَيُحْرَمُونَ مِنَ الفَوْزِ فِي الآخِرَةِ؛ {تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَاداۚ} [القصص: 83]، وَعَذَابُهُمْ فِي الآخِرَةِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ إِفْسَادِهِمْ؛ {زِدۡنَٰهُمۡ عَذَابا فَوۡقَ ٱلۡعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفۡسِدُونَ} [النحل: 88].
وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ مُصْلِحٌ وَهُوَ مُفْسِدٌ، وَقَدْ يَدَّعِي المُفْسِدُونَ الإِصْلاَحَ، وَيُسَمُّونَ إِفْسَادَهُمْ: عَمَلِيَّاتٍ إِصْلاَحِيَّةً؛ لِأَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَتَبَرَّؤُونَ مِنَ الفَسَادِ، وَالمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى خَالِقِ العِبَادِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ ٱلۡمُفۡسِدَ مِنَ ٱلۡمُصۡلِحِۚ} [البقرة: 220]، فَيُعْرَضُ كُلُّ عَمَلٍ عَلَى شَرْعِهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ فَهُوَ إِصْلاحٌ، وَإِنْ عَارَضَهُ فَهُوَ إِفْسَادٌ وَلَوِ ادَّعَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ إِصْلاَحٌ، وَإِلاَّ فَإِنَّ المُنَافِقِينَ يَخْلَعُونَ صِفَةَ الإِصْلاحِ عَلَى إِفْسَادِهِمْ، فَيَقُولُونَ: {إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ} [البقرة: 11]، فَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَقِيقَتِهِمْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ} [البقرة: 12].
وجُلُّ مَا يَقَعُ مِنْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ سَبَبُهُ الهَوَى؛ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ يُرِيدُونَ نَشْرَ فَسَادِهِمْ عَلَى أَنَّهُ إِصْلاَحٌ، وَمَا نَكَسَ قُلُوبَهُمْ، وَقَلَبَ مَفَاهِيمَهُمْ إِلاَّ اتِّبَاعُ الهَوَى، الَّذِي يَكُونُ بِهِ فَسَادُ العَالَمِ؛ حَتَّى إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ المُفْسِدِينَ وَهُمْ أَهْلُ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَواتِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ} [المؤمنون: 71]، وَأَهْلُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الفَسَادِ يُجَادِلُونَ عَنْهُ بِشِدَّةٍ، وَيُرِيدُونَ فَرْضَهُ عَلَى النَّاسِ بِالقُوَّةِ؛ {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ ٢٠٤ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ} [البقرة: 204-205].
وَمِنْ أَعْظَمِ السَّعْيِ بِالفَسَادِ فِي الأَرْضِ: تَنْحِيَةُ شَرْعِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالمَرْأَةِ، وَالقَفْزُ عَلَى الأَحْكَامِ المُحْكَمَةِ فِي مَنْعِ الاخْتِلاطِ بِالرِّجَالِ، وَالخُلْوَةِ بِهِمْ، وَقَرَارِ المَرْأَةِ فِي المَنْزِلِ، بِزُخْرُفٍ مِنَ القَوْلِ يُعْجِبُ ضِعَافَ الإِيمَانِ، وَالسَّيْرِ فِي خُطُوَاتٍ تَغْرِيبِيَّةٍ شَيْطَانِيَّةٍ تَكُونُ سَبَبًا لِلْفَسَادِ الأَخْلاقِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، وَفَتْحِ أَبْوَابِ الفَوَاحِشِ عَلَى مَصَارِيعِهَا، وَلا يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ بِنَشْرِ ثَقَافَةِ السُّفُورِ وَالاخْتِلاَطِ وَالتَّعَرِّي وَالرِّيَاضَةِ النِّسْوِيَّةِ، وَجَعْلِ خُرُوجِ المَرْأَةِ هُوَ الأَصْلَ، وَنَزْعِ الحَيَاءِ مِنْهَا؛ حَتَّى تَأْلَفَ المَرْأَةُ الرِّجَالَ، وَلا تَأْنَفَ مِنْ مُجَالَسَتِهِمْ.
وَمِنْ أَشْهَرِ الأُمَمِ السَّالِفَةِ فِي نَشْرِ الفَوَاحِشِ قَوْمُ لُوطٍ -عَلَيْهِ السَّلامُ- حَتَّى عُذِّبُوا بِكُفْرِهِمْ وَفَسَادِهِمُ الأَخْلاَقِيِّ بِأَشَدِّ أَنْوَاعِ العَذَابِ حِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِدَعْوَةِ لُوطٍ -عَلَيْهِ السَّلامُ- وَلَمْ يُقْلِعُوا عَنْ فَسَادِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ قَائِلاً: {رَبِّ ٱنصُرۡنِي عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [العنكبوت: 30]، فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِمْ بَأْسَهُ وَعُقُوبَتَهُ.
وَاليَهُودُ مِنْ أَبْرَعِ الأُمَمِ فِي نَشْرِ الفَسَادِ الأَخْلاقِيِّ، وَإِشَاعَةِ الفَوَاحِشِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَهُمُ اليَدُ الطُّولَى فِي تَقْنِينِ الثَّقَافَةِ الانْحِلالِيَّةِ فِي الغَرْبِ، وَتَشْرِيعِ قَوَانِينِهَا، ثُمَّ تَصْدِيرِهَا إِلَى سَائِر الدُّوَلِ، وَلَهُمْ سَطْوَةٌ عَلَى المُنَظَّمَاتِ الدَّوْلِيَّةِ الَّتِي تَتَزَعَّمُ إِلْغَاءَ الفَوَارِقِ الخِلْقِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، فِيمَا يُعْرَفُ بِاتِّفَاقِيَّةِ: (السِّيدَاو)، وَهِيَ مُكَافَحَةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالمَرْأَةِ، وَفِي وَصْفِ اللهِ تَعَالَى لِلْيَهُودِ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَاداۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [المائدة: 64]، وَأَتْبَاعُ اليَهُودِ مِنَ المُنَافِقِينَ وَمَرْضَى القُلُوبِ يَجِدُّونَ وَيَجْتَهِدُونَ فِي نَشْرِ ثَقَافَةِ الفَسَادِ بَيْنَ الشُّعُوبِ، وَلا سِيَّمَا الشُّعُوبَ الإِسْلاَمِيَّةَ؛ لِأَنَّ نِظَامَ الإِسْلاَمِ فِيهِ مِنَ الصَّرَامَةِ فِي الجَوَانِبِ الأَخْلاقِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، وَسَدِّ مَنَافِذِ الفَوَاحِشِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ.
وَفِي الوَقْتِ الَّذِي يَدْعُو فِيهِ التَّغْرِيبِيُّونَ إِلَى الاخْتِلاطِ، وَالرِّيَاضَةِ النِّسْويَّةِ، وَقِيَادَةِ المَرْأَةِ لِلسَّيَّارَةِ، وَاسْتِقْلالِ المَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ، وَنَزْعِ قِوَامَتِهِ عَلَيْهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَنْصَارُ المَرْأَةِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُسْهِمُوا فِي حَلِّ مَشَاكِلِ المُطَلَّقَاتِ وَالمُعَلَّقَاتِ وَالمَظْلُومَاتِ، وَالمَحْرُومَاتِ مِنْ إِرْثِهِنَّ أَوْ أَوْلادِهِنَّ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا لِلْأَرَامِلِ وَالفَقِيرَاتِ؛ لِأَنَّ نُصْرَةَ المَرْأَةِ لَيْسَتْ غَايَتَهُمْ، وَلَمْ يَكُنِ الإِصْلاَحُ مَقْصِدَهُمْ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ نَشْرَ الفَوَاحِشِ بِاسْمِ الإِصْلاَحِ، وَفَرْضَ أَمْرَاضِهِمُ الشَّهْوَانِيَّةِ عَلَى البِلادِ وَالعِبَادِ فِي تَحَدٍّ وَاسْتِكْبَارٍ، وَعَمَالَةٍ لِأَرْبَابِ الاسْتِعْمَارِ، نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَكْبِتَهُمْ، وَيُذْهِبَ رَيحَهُمْ، وَيَكْشِفَ أَمْرَهُمْ، وَيُنْزِلَ بِهِمُ الذُّلَّ وَالهَوَانَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلَي هَذَا....
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ وَلا تَكْفُرُوهُ؛ {كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} [البقرة: 60].
أَيُّهَا النَّاسُ: لاَ يَرُدُّ المُفْسِدِينَ عَنْ إِفْسَادِهِمْ إِلاَّ احْتِسَابُ الجَمَاعَةِ عَلَيْهِمْ، بِوَعْظِهِمْ وَتَذْكِيرِهِمْ، َوَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى، فَإِنْ أَبَوْا وَجَبَ الأَخْذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَأَطْرُهُمْ عَلَى الحَقِّ.
وَبِمَا أَنَّ ضَرَرَ المُفْسِدِينَ يَصِلُ إِلَى النَّاسِ فِي بُيُوتِهِمْ، وَيُمَرِّدُ عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَبَنَاتِهِمْ، وَيُفْسِدُ أَخْلاَقَ أُسَرِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ، وَيَكُونُ سَبَبًا فِي زَوَالِ دِينِهِمُ الَّذِي بِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ؛ فَإِنَّ أَهَمَّ شَيْءٍ لِإِفْسَادِ خُطَطِ المُفْسِدِينَ عَدَمُ طَاعَتِهِمْ فِيمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ مِنْ خُطُوَاتٍ تَغْرِيبِيَّةٍ تَخْرِيبِيَّةٍ وَلَوِ ادَّعَوْا أَنَّهَا إِصْلاَحٌ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تُطِيعُوٓاْ أَمۡرَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ ١٥١ ٱلَّذِينَ يُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا يُصۡلِحُونَ} [الشُّعَراء: 152].
وَمِنْ سُبُلِ دَرْءِ إِفْسَادِهِمْ: مُقَاوَمَتُهُمْ فِي مَشْرُوعَاتِهِمُ التَّغْرِيبِيَّةِ بِالمَقَالَةِ وَالكَلِمَةِ، وَتَحْذِيرُ الوُلاَةِ وَالعَامَّةِ مِنْهُمْ، وَكَشْفُ خُطَطِهِمْ وَاتِّصَالاَتِهِمْ بِالأَعْدَاءِ؛ نُصْحًا للهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ؛ {فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّة يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ} [هود: 116].
وَلَوْ كَانَ المُفْسِدُونَ أَكْثَرِيَّةً لَمَا سَاغَ لِأَقَلِّيَّةِ المُصْلِحِينَ أَنْ يَسْكُتُوا عَنْ إِفْسَادِهِمْ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحْتَسِبُوا عَلَيْهِمْ، وَيُحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُمْ، وَقَدْ بُعِثَ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلامُ- {وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيل} [هود: 40]، فَمَا تَرَكَ الاِحْتِسَابَ عَلَى الأَكْثَرِيَّةِ عَشْرَةَ قُرُونٍ إِلاَّ قَلِيلاً! وبُعِثُ أَنْبِيَاءٌ لَمْ يَتْبَعْهُمْ أَحَدٌ أَبَدًا وَمَا فَتَرُوا عَنِ الاحْتِسَابِ وَالأَخْذِ عَلَى أَيْدِي المُفسِدِينَ حَتَّى لَقُوا اللهَ تَعَالَى! فَكَيْفَ إِذَا كَانَ المُفْسِدُونَ حُثَالَةً قَلِيلَةً، فَلا يَسَعُ الأَكْثَرِيَّةَ إِلاَّ الاحْتِسَابُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْكَارُ فَسَادِهِمْ، وَالأَخْذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَمَا تَمَكَّنَتْ هَذِهِ الحُثَالَةُ المَوْبُوءَةُ فِي فِكْرِهَا وَعُقُولِهَا مِنْ تَحْقِيقِ شَيْءٍ في إِفْسَادِ البِلادِ وَالعِبَادِ إِلاَّ بِسُكُوتِ الأَكْثَرِيَّةِ، وَاسْتِسْلامِهِمْ لِمَشْرُوعاتِ المُفْسِدِينَ التَّغْرِيبِيَّةِ.
وَمِنْ سُبُلِ مُقَاوَمَةِ المُفْسِدِينَ: نَشْرُ الإِصْلاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَعْلِيمُهُمْ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى التَّمَسُّكِ بِهِ؛ لِإِيجَادِ مَنَاعَةٍ ضِدَّ الفَسَادِ وَالمُفْسِدِينَ، فَمَا تَمَكَّنَ التَّغْرِيبِيُّونَ مِنْ نَشْرِ فَسَادِهِمْ فِي الشُّعُوبِ الإِسْلامِيَّةِ إِلاَّ بَعْدَ تَجْهِيلِهَا، وَصَرْفِهَا عَنْ تَعَلُّمِ دِينِهَا؛ وَلِذَا نَرَى طَعْنَ المُفْسِدِينَ الدَّائِمَ عَلَى تَحْفِيظِ القُرْآنِ، وَالدَّورَاتِ العِلْمِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَسَعْيَهُمْ إِلَى تَقْلِيصِ المَوَادِّ الشَّرْعِيَّةِ في التَّعْلِيمِ؛ لِنَشْرِ الجَهْلِ بِالدِّينِ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى يَفْقِدُوا مَنَاعَتَهُمْ، فَيَسْهُلَ اخْتِرَاقُ عُقُولِهِمْ، وَمَسْخُهُمْ فِكْرِيًّا وَأَخْلاقِيًّا، وَنَقْلُهُمْ إِلَى مَرَاتِعِ الفَسَادِ وَالإِفْسَادِ؛ {وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَتَّبِعۡ سَبِيلَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [الأعراف: 142].
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يَنْعَمُونَ بِالأَمْنِ وَرَغَدِ العَيْشِ: شُكْرُ اللهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ دَلائِلِ الشُّكْرِ اجْتِنَابُ طُرُقِ المُفْسِدِينَ، وَالاحْتِسَابُ عَلَيْهِمْ، وَإِفْشَالُ خُطَطِهِمْ؛ {فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} [الأعراف: 74].
هَذَا؛ وَلِلْمُفْسِدِينَ مَشْرُوعَاتٌ كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالمَرْأَةِ، يُثِيرُونَهَا بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ؛ لِجَسِّ نَبْضِ الشَّارِعِ تُجَاهَهَا، فَإِنْ رَأَوْا غَضْبَةَ النَّاسِ تَرَيَّثُوا، وَإِلاَّ أَقْدَمُوا عَلَى إِفْسَادِهِمْ، وَمَا الضَّجَّةُ الَّتِي افْتَعَلُوهَا فِي قِيَادَةِ المَرْأَةِ لِلسَّيَّارَةِ إِلاَّ جُزْءٌ مِنَ المَشْرُوعِ التَّغْرِيبِيِّ الكَبِيرِ، وَلَيْسَ المَقْصِدُ مِنْهُ إِعْطَاءَ المَرْأَةِ حَقَّهَا؛ كَلاَّ، وَلاَ يُخْدَعُ بِذَلِكَ إِلاَّ مُغَفَّلٌ؛ فَالَّذِينَ يَصِيحُونَ بِهَذَا الحَقِّ فِي الإِعْلامِ، وَالَّذِينَ يَرْسُمُونَ خُطَّتَهُ خَلْفَ مَكَاتِبِهِمْ هُمُ الَّذِينَ ضَيَّقُوا فُرَصَ العَمَلِ غَيْرِ المُخْتَلَطِ عَلَى المَرْأَةِ، وَأَلْزَمُوهَا بِوَظَائِفَ مُخْتَلَطَةٍ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِيَتَحَرَّشُوا بِهَا، وَجَعَلُوهَا تَحْتَ سُلْطَةِ رِجَالٍ قَدْ يُسَاوِمُونَهَا عَلَى عِرْضِهَا؛ لِتَثْبِيتٍ فِي وَظِيفَةٍ أَوْ تَرْقِيَةٍ أَوْ مَيْزَاتٍ أُخْرَى، وَمَا أَشَدَّ خِيَانَتَهُمْ لِلنَّاسِ حِينَ أَرَادُوا نَزْعَ سُلْطَةِ مَحَارِمِ المَرْأةِ عَلَيْهَا؛ لِيَرْمُوهَا تَحْتَ سُلْطَةِ الأَغْرَابِ عَنْهَا، وَهُمُ الَّذِينَ شَرَّعُوا الاخْتِلاَطَ فِي مُسْتَشْفَيَاتِ التَّوْلِيدِ وَوَسَّعُوهُ لِيَكْشِفَ الرِّجَالُ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ جُهْدٌ يُذْكَرُ فِي بَحْثِ مُشْكِلاتِ المَرْأَةِ وَعِلاجِهَا وَحِمَايَتِهَا، رَغْمَ مَا يَمْلِكُونَهُ مِنْ نُفُوذٍ وَإِمْكَانِيَّاتٍ مَالِيَّةٍ وَإِعْلامِيَّةٍ ضَخْمَةٍ، وَكُلُّ مَطَالِبِهِمْ تَدُورُ حَوْلَ تَعْبِيدِ الطُّرُقِ لِنَشْرِ الفَوَاحِشِ وَالمُنْكَرَاتِ فِي النَّاسِ، وَجَعْلِ المَرْأَةِ سِلْعَةً رَخِيصَةً تُدَارُ بَيْنَ أَرَاذِلِ الرِّجَالِ، فَلا يُخْدَعُ بِهِمْ إِلاَّ مَغْرُورٌ، وَلاَ يَتْبَعُهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ إِلاَّ مَرِيضُ قَلْبٍ، وَلا يُعِينُهُمْ عَلَى إِثْمِهِمْ إِلاَّ مَغْمُوسٌ فِي النِّفَاقِ أَوْ فِي الشَّهَوَاتِ، وَلاَ يَتْرُكُ الإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ إِلاَّ مَهْزُومُ النَّفْسِ، ضَعِيفُ الدِّينِ؛ {وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيما} [النساء: 27]، {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيم فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُون} [النور: 19].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى