رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
ذكرى الآمل وبشرى العامل
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، رَوَى التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَالَ : «أَعمَارُ أُمَّتي مَا بَينَ السِّتِّينَ إِلى السَّبعِينَ ، وَأَقَلُّهُم مَن يَجُوزُ ذَلِكَ» لَقَد قَضَى اللهُ أن تَكُونَ أَعمَارُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَصِيرَةً وَعَيشُهُم في هذِهِ الدُّنيا قَليلاً ، نَعَم ، إِنَّ سِتِّينَ سَنَةً أَو سَبعِينَ عَامًا ، إنها لَقَصِيرَةٌ في حِسَابِ القُرُونِ المُتَطَاوِلَةِ وَالسِّنِينَ المُتَكَاثِرَةِ ، غَيرَ أَنَّ العُمُرَ الحَقِيقِيَّ في هَذِهِ الحَيَاةِ ، مَا قَضَاهُ المُؤمِنُ في طَاعَةِ رَبِّهِ وَعِبَادَةِ خَالِقِهِ القَائِلِ ـ سُبحَانَهُ ـ : [وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ] وَإِذَا كانَ الأَمرُ كَذَلِكَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَمَا أَقصَرَ العُمُرَ الفِعلِيَّ وَمَا أَقَلَّهُ !! إِذْ يَذهَبُ ثُلُثُهُ في النَّومِ أَو يَزِيدُ ، وَتَضِيعُ أَجزَاءٌ مِنهُ في غَفلَةِ الطُّفُولَةِ وَطَيشِ الصِّبَا وَسَكرَةِ الشَّبَابِ ، وَتُستَهلَكُ أَوقَاتٌ مِنهُ في الأَكلِ وَالشُّربِ وَقَضَاءِ حَاجَاتِ النَّفسِ مِنَ المُبَاحَاتِ وَاللَّهوِ ، وَأَوقَاتٌ أُخرَى تَمضِي في طَلَبِ مَا زَادَ عَلَى الحَاجَةِ مِن مَتَاعِ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَزِينَتِهَا ، فَإِذَا مَا أُضِيفَ إِلى ذَلِكَ مَا بُلِيَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنِ اتِّبَاعِ هَوَى الأَنفُسِ وَالانتِصَارِ لها وَمُقَاضَاةِ الآخَرِينَ في كُلِّ مَوقِفٍ ، وَمُفَاخَرَتِهِم وَمُكَاثَرَتِهِم هُنَا وَهُنَاكَ ، فَإِنَّ العَبدَ يَخرُجُ مِن دُنيَاهُ مُفلِسًا وَإِن صَلَّى وَصَامَ وَزَكَّى وَفَعَلَ مَا فَعَلَ ، رَوَى مُسلِمٌ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : «أَتَدرُونَ مَا المُفلِسُ ؟» قَالُوا : المُفلِسُ فِينَا مَن لا دِرهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ . فَقَالَ : «إِنَّ المُفلِسَ مِن أُمَّتي مَن يَأتي يَومَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأتي وَقَد شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعطَى هَذَا مِن حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِن حَسَنَاتِهِ ، فَإِن فَنِيَت حَسَنَاتُهُ قَبلَ أَن يُقضَى مَا عَلَيهِ أُخِذَ مِن خَطَايَاهُم فَطُرِحَت عَلَيهِ ثم طُرِحَ في النَّارِ» وَفي خِضَمِّ هَذِهِ الخَسَارَةِ الفَادِحَةِ الَّتي يُمنى بها كَثِيرُونَ ، فَإِنَّ ثَمَّةَ عِبَادًا مُوَفَّقِينَ وَعُقَلاءَ مُسَدَّدِينَ وَمُؤمِنِينَ مَهدِيِّينَ ، عَرَفُوا قِصَرَ العُمُرِ وَقِلَّةَ مَتَاعِ الحَيَاةِ الدُّنيَا ، وَعِظَمَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ ـ تعالى ـ في الآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ لمن أَطَاعَهُ وَاتَّقَاهُ ، فَجَعَلُوا نُصبَ أَعيُنِهِم قَولَ المَولى ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : [قُلْ مَتَاعُ الدُّنيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيرٌ لِمَنِ اتَّقَى] وَقَولَهُ ـ سُبحَانَهُ ـ : [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنعَامِ وَالحَرثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسنُ المَآبِ . قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيرٍ مِن ذَلِكُم لِلَّذِينَ اتَّقَوا عِندَ رَبِّهِم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ . الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقَانِتِينَ وَالمُنفِقِينَ وَالمُستَغفِرِينَ بِالأَسحَار] وَقَولَهُ ـ تَعَالى ـ : [كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّونَ أُجُورَكُم يَومَ القِيَامَةِ فَمَن زُحزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ] وَقَولَهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «مَا الدُّنيَا في الآخِرَةِ إِلاَّ كَمَا يَجعَلُ أَحَدُكُم أُصبُعَهُ هَذِهِ في اليَمِّ فَلْيَنظُرْ بم يَرجِعُ» رَوَاهُ مُسلِمٌ . نَعَم ـ عِبَادَ اللهِ ـ لَقَد عَرَفَ المُؤمِنُونَ المُوَفَّقُونَ أَنَّ الحَيَاةَ الدُّنيَا بِكُلِّ مَا فِيهَا لَيسَت بِرَأسِ مَالٍ حَقِيقِيٍّ ، وَمِن ثَمَّ فَقَدِ اتَّخَذُوهَا مَطِيَّةً لهم لِلوُصُولِ إِلى النَّعِيمِ المُقِيمِ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ .
إِنَّ للهِ عِبَادًا فُطَنَا *** طَلَّقُوا الدُّنيَا وَخَافُوا الفِتَنَا
نَظَرُوا فِيهَا فَلَمَّا عَلِمُوا *** أَنَّهَا لَيسَت لِحَيٍّ سَكَنَا
جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا *** صَالحَ الأَعمَالِ فِيهَا سُفُنَا
وَلَقَد كَانَ عَلَى رَأسِ هَؤُلاءِ الزَّاهِدِينَ في الدُّنيَا الرَّاغِبِينَ في الآخِرَةِ المُسَابِقِينَ إِلى الخَيرَاتِ ، إِمَامُ الهُدَى وَقَائِدُ أَهلِ التُّقَى وَسَيِّدُ أُولي العَقلِ وَالنُّهَى ، محمَّدٌ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ كَانَت حَيَاتُهُ مِثَالاً عَمَلِيًّا لِلتَّجَافي عَنِ الدُّنيَا وَالزُّهدِ في دَارِ الغُرُورِ ، وَالالتِفَاتِ عَن مَتَاعِهَا وَنَبذِ شَهَوَاتِهَا ، فَقَنِعَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مِنهَا بِالقَلِيلِ الَّذِي يَكفِي وَلا يُلهِي ، حَتى كَانَ يَقُولُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ كَمَا رَوَاهُ الشَّيخَانِ : «اللَّهُمَّ اجعَلْ رِزقَ آلِ محمدٍ قُوتًا» وَفي رِوَايَةٍ : «اللَّهُمَّ اجعلْ رِزقَ آلِ محمدٍ كَفَافًا» بَل لَقَد جَعَلَ عَيشَ الكَفَافِ مَعَ القَنَاعَةِ هُوَ عُنوَانَ الفَلاحِ وَالسَّعَادَةِ ، وَحَكَمَ بِالتَّعَاسَةِ وَالشَّقَاءِ عَلَى مَن عَبَدَهَا وَأَغرَقَ في طَلَبِهَا ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «قَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ» رَوَاهُ مُسلِمٌ ، وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «تَعِسَ عَبدُ الدِّينَارِ وَعَبدُ الدِّرهَمِ وَعَبدُ الخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لم يُعطَ سَخِطَ ، تَعِسَ وَانتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلا انتَقَشَ» رَوَاهُ البُخارِيُّ . وَحَذَّرَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أُمَّتَهُ مِنَ الدُّنيَا وَشَهَوَاتِهَا تَحذِيرَ العَارِفِ بِأَثَرِ الرُّكُونِ إِلَيهَا ، وَخَافَ عَلَيهِم مِن بَسطِهَا وَسَعَتِهَا وَالتَّنَافُسِ فِيهَا ، فَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «إِنَّ الدُّنيَا حُلوَةٌ خَضِرَةٌ ، وَإِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ مُستَخلِفُكُم فِيهَا فَيَنظُرُ كَيفَ تَعمَلُونَ ، فَاتَّقُوا الدُّنيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ» رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ لأَصحَابِهِ يَومًا : «أَبشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُم ، فَوَاللهِ مَا الفَقرَ أَخشَى عَلَيكُم ، وَلَكِنْ أَخشَى أَن تُبسَطَ الدُّنيَا عَلَيكُم كَمَا بُسِطَت عَلَى مَن كَانَ قَبلَكُم فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهلِكَكُم كَمَا أَهلَكَتهُمُ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . هَكَذَا عَرَّفَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أُمَّتَهُ بِطَبِيعَةِ الدُّنيَا ، وَهَكَذَا جَلَّى لهم حَقِيقَتَهَا وَعَرَّاهَا وَحَذَّرَ مِنهَا ، فَكَيفَ كَانَت حَيَاتُهُ فِيهَا ؟ كَيفَ عَاشَ وَمَاذَا أَكَلَ وَعَلَى أَيِّ شَيءٍ نَامَ ؟ هَل كَانَ يُزَهِّدُ أَصحَابَهُ فِيهَا ثم يَأكُلَهَا دُونَهُم أَو يَتَمَتَّعَ بها مِن وَرَائِهِم ؟! لا وَاللهِ وَحَاشَاهُ بِأَبي هُوَ وَأُمِّي ! بَل لَقَد كَانَت حَيَاتُهُ مَضرِبَ المَثَلِ في الزُّهدِ وَالتَّقَلُّلِ مِنَ المَتَاعِ ، وَشَغلِ العُمُرِ في العِبَادَةِ وَمَلءِ الوَقتِ بِالطَّاعَةِ ، وإنفاقِ مَا أُوتيَ مِن مَالٍ في سَبِيلِ اللهِ ، رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : وَالَّذِي نَفسُ أَبي هُرَيرَةَ بِيَدِهِ ، مَا شَبِعَ نَبيُّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِن خُبزِ حِنطَةٍ حَتى فَارَقَ الدُّنيَا . وَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا شَبِعَ آلُ محمدٍ مِن خُبزِ الشَّعِيرِ يَومَينِ مُتَتَابِعَينِ حَتى قُبِضَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَعَن أَنسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : لم يَأكُلِ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى خِوَانٍ حَتى مَاتَ ، وَلم يَأكُلْ خُبزًا مُرَقَّقًا حَتى مَاتَ . وَفي رِوَايَةٍ : وَلا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَينِهِ قَطُّ . رَوَاهُ البُخَارِيُّ . وَعَنِ النُّعمَانِ بنِ بَشِيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ قَالَ : أَلَستُم في طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئتُم ؟! لَقَد رَأَيتُ نَبِيَّكُم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقلِ مَا يَملأُ بَطنَهُ . رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ ، وَعَن عُروَةَ بنِ الزُّبيرِ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ أَنَّهَا كَانَت تَقُولُ : وَاللهِ يَا بنَ أُختي ، إِنْ كُنَّا لَنَنظُرُ إِلى الهِلالِ ثم الهِلالِ ثم الهِلالِ ، ثَِلاثَةِ أَهِلَّةٍ في شَهرَينِ ، وَمَا أُوقِدَ في أَبيَاتِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ نَارٌ . قُلتُ : يَا خَالَةُ ، فَمَا كَانَ يَعِيشُكُم ؟ قَالَتِ : الأَسوَدَانِ التَّمرُ وَالمَاءُ ، إِلاَّ أَنَّهُ قَد كَانَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ جِيرَانٌ مِنَ الأَنصَارِ وَكَانَت لهم مَنَايِحُ ، فَكَانُوا يُرسِلُونَ إِلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مِن أَلبَانِهَا فَيَسقِينَاهُ . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ دَخَلَ عَلَيهِ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَد أَثَّرَ في جَنبِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، لَوِ اتَّخَذتَ فِرَاشًا أَوثَرَ مِن هَذَا ! فَقَالَ : " مَا لي وَلِلدُّنيَا ، مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ سَارَ في يَومٍ صَائِفٍ فَاستَظَلَّ تَحتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً ثم رَاحَ وَتَرَكَهَا " هَذَا طَرَفٌ مِن حَيَاتِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَتِلكُم لمَحَاتٌ مِن فَقرِهِ وَصُوَرٌ مِن قِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ ، فَمَا سَبَبُ ذَلِكُمُ الفَقرِ وَمَا مَنشَأُ تِلكُمُ القِلَّةِ ؟! لَقَد كَانَ ذَلِكَ عَنِ اختِيَارِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ لِنَفسِهِ أَن يَكُونَ عَبدًا رَسُولاً ، وَأَن يُحيِيَهُ رَبُّهُ مِسكِينًا وَيُمِيتَهُ مِسكِينًا وَيَحشُرَهُ في زُمرَةِ المَسَاكِينِ ، اِختَارَ ذَلِكَ لِيُكرِمَهُ ـ تَعَالى ـ بِأَعلَى جَنَّتِهِ وَيُورِثَهُ المَقَامَ المَحمُودَ في الآخِرَةِ ، نَعَم ، لَقَد كَانَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ لا يَدَّخِرُ شَيئًا لِغَدِهِ ، بَل كَانَ يُؤثِرُ غَيرَهُ بما في يَدِهِ ، وَيُغني الآخَرِينَ وَيَظَلُّ هُوَ فَقِيرًا مُتَفَرِّغًا لِطَاعَةِ مَولاهُ وَالدَّعوَةِ إِلَيهِ وَالجِهَادِ في سَبِيلِهِ ، في البُخَارِيِّ عَن عُقبَةَ بنِ الحَارِثِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : صَلَيتُ مَعَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ العَصرَ ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ سَرِيعًا فَدَخَلَ عَلَى بَعضِ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ ، وَرَأَى مَا في وُجُوهِ القَومِ مِن تَعَجُّبِهِم لِسُرعَتِهِ ، فَقَالَ : " ذَكَرتُ وَأَنَا في الصَّلاةِ تِبرًا عِندَنَا فَكَرِهتُ أَن يُمسِيَ أَو يَبِيتَ عِندَنَا ، فَأَمَرتُ بِقِسمَتِهِ " وفي صَحِيحِ مُسلِمٍ عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : " مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الإِسلامِ شَيئًا إِلاَّ أَعطَاهُ ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعطَاهُ غَنَمًا بَينَ جَبَلَينِ ، فَرَجَعَ إِلى قَومِهِ فَقَالَ : يَا قَومِ ، أَسلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعطِي عَطَاءَ مَن لا يَخشَى الفَاقَةَ " وَمَعَ هَذَا الفَقرِ فَقَد جَاهَدَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَقَاتَلَ في سَبِيلِ اللهِ ، وَقَامَ اللَّيلَ حَتى تَفَطَّرَت قَدَمَاهُ ، وَدَعَا إِلى اللهِ وَبَذَلَ في ذَلِكَ النَّفسَ وَالجَاهَ ، فَعَنِ المُغِيرَةِ بنِ شُعبَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَامَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حتى تَوَرَّمَت قَدَمَاهُ ، فَقِيلَ لَهُ : لِمَ تَصنَعُ هَذَا وَقَد غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ : «أَفَلا أَكُونُ عَبدًا شَكُورًا» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : «كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَصُومُ حَتى نَقُولَ لا يُفطِرُ ، وَيُفطِرُ حَتى نَقُولَ لا يَصُومُ ، فَمَا رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ استَكمَلَ صِيَامَ شَهرٍ إِلاَّ رَمَضَانَ...» الحَدِيثَ ، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ وَاللَّفظُ لِلبُخَارِيِّ . وَعَن عَمرِو بنِ الحَارِثِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عِندَ مَوتِهِ دِرهمًا وَلا دِينَارًا وَلا عَبدًا وَلا أَمَةً وَلا شَيئًا ، إِلاَّ بَغلَتَهُ البَيضَاءَ الَّتي كَانَ يَركَبُهَا وَسِلاحَهُ وَأَرضًا جَعَلَهَا لابنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
الخطبة الثانية
فَاتَّقُوا اللهَ ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ وَاقتَدُوا بِنَبِيِّكُم تُفلِحُوا وَتَفُوزُوا ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : [مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً . لِيَجزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدقِهِم وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَو يَتُوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهُ ـ تَعَالى ـ حَقَّ تَقوَاهُ ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِأَوثَقِ عُرَاهُ ، وَاستَعِدُّوا بِالصَّالحاتِ لِيَومِ لِقَاهُ [وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ لَيسَ لِلعَبدِ مِن حَيَاتِهِ إِلاَّ صَالحُ الأَعمَالِ وَمَا قَدَّمَهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «يَتبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ : أَهلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ ، فَيَرجِعُ اثنَانِ وَيَبقَى وَاحِدٌ ، يَرجِعُ أَهلُهُ وَمَالُهُ ، وَيَبقَى عَمَلُهُ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : أَتَيتُ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يَقرَأُ «أَلهَاكُمُ التَّكَاثُرُ» قَالَ : يَقُولُ ابنُ آدَمَ : مَالي مَالي . وَهَل لَكَ يَا بنَ آدَمَ مِن مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلتَ فَأَفنَيتَ ، أَو لَبِستَ فَأَبلَيتَ ، أَو تَصَدَّقتَ فَأَمضَيتَ ؟ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «إِذَا مَاتَ الإِنسَانُ انقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِن ثَلاثٍ : صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ، أَو عِلمٌ يُنتَفَعُ بِهِ ، أَو وَلَدٌ صَالحٌ يَدعُو لَهُ» رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وَقَالَ : «إِنَّ ممَّا يَلحَقُ المُؤمِنَ مِن عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعدَ مَوتِهِ : عِلمًا نَشَرَهُ ، وَوَلَدًا صَالحًا تَرَكَهُ ، وَمُصحَفًا وَرَّثَهُ ، أَو مَسجِدًا بَنَاهُ ، أَو بَيتًا لابنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ ، أَو نَهَرًا أَجرَاهُ ، أَو صَدَقَةً أَخرَجَهَا مِن مَالِهِ في صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلحَقُهُ مِن بَعدِ مَوتِهِ» رَوَاهُ ابنُ مَاجَه وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . فَمَاذَا قَدَّمتُم ـ عِبَادَ اللهِ ـ ؟ وَبِأَيِّ شَيءٍ سَتُقدِمُونَ عَلَى رَبِّكُم ؟ إِنَّ الجَنَّةَ دَرَجَاتٌ وَغُرُفَاتٌ ، وَإِنَْ سُكنَاهَا لا يَكُونَ إِلاَّ بِالصَّالحاتِ وَالقُرُبَاتِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «إِنَّ في الجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِن بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِن ظَاهِرِهَا ، أَعَدَّهَا اللهُ لِمَن آلانَ الكَلامَ وَأَطعَمَ الطَّعَامَ وَتَابَعَ الصِّيَامَ وَصَلَّى بِاللَّيلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» رَوَاهُ البَيهَقِيُّ في الشُّعَبِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «مَن بَنى للهِ مَسجِدًا وَلَو كَمَفحَصِ قَطَاةٍ بَنى اللهُ لَهُ بَيتًا في الجَنَّةِ» وَقَالَ : «فَوَاللهِ لأَن يَهدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيرٌ لَكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ» وَقَالَ : «خَيرُكُم مَن تَعَلَّمَ القُرآنَ وَعَلَّمَهُ» فَهَنيئًا لمن بَنى للهِ مَسجِدًا يُذكَرُ فِيهِ اسمُهُ ، أَو دَعَمَ تَعلِيمَ القُرآنِ أَو سَاعَدَ في نَشرِ حَلَقَاتِهِ وَدُورِ تَعلِيمِهِ ، أِوِ اهتَدَى عَلَى يَدِهِ أَو بِمَالِهِ أَو رَأيِهِ رَجُلٌ فَأَخرَجَهُ اللهُ بِسَبَبِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ ، بَلْ هَنِيئًا لِمَن إِنْ فَعَلَ خَيرًا وَإِلاَّ كَفَّ شَرَّهُ وَتَرَكَ مَا لا يَعنِيهِ ، في الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : «عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ صَدَقَةٌ» قَالُوا : فَإِنْ لم يَجِدْ ؟ قَالَ : «فَلْيَعمَلْ بِيَدَيهِ فَيَنفَعَ نَفسَهُ وَيَتَصَدَّقَ» قَالُوا : فَإِنْ لم يَستَطِعْ ، أَو لم يَفعَلْ ؟ قَالَ : «فَيُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلهُوفَ» قَالُوا : فَإِن لم يَفعَلْ ؟ قَالَ : «فَيَأمُرُ بِالخَيرِ» قَالُوا : فَإِن لم يَفعَلْ ؟ قَالَ : «فَيُمسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ» أَلا فَاتَّقُوا اللهَ واعلموا صَالحًا يُنجِيكُم مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ ، و «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبشِرُوا ؛ فَإِنَّهُ لَن يُدخِلَ الجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ» «وَاعلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ العَمَلِ إِلى اللهِ أَدوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» ثم اعلَمُوا أَنَّكُم في شَهرِ اللهِ المُحَرَّمِ فَعَظِّمُوهُ بِتَعظِيمِ اللهِ لَهُ ، وَصُومُوهُ أَو مَا تَيَسَّرَ مِنهُ ، فَإِنْ عَجزتم فَلا تُغلَبُنَّ عَلَى صِيَامِ يَومِ عَاشُورَاءَ ، فَقَد قَالَ نَبِيُّكُم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «أَفضَلُ الصِّيَامِ بَعدَ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ ، وَأَفضَلُ الصَّلاةِ بَعدَ الفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيلِ» رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «صِيَامُ يَومِ عَاشُورَاءَ أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبلَه» رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَدِمَ المَدِينَةَ فَوَجَدَ اليَهُودَ صِيَامًا يَومَ عَاشُورَاءَ ، فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «مَا هَذَا اليَومُ الَّذِي تَصُومُونَهُ ؟» فَقَالُوا : هَذَا يَومٌ عَظِيمٌ أَنجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَومَهُ وَغَرَّقَ فِرعَونَ وَقَومَهُ ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكرًا فَنَحنُ نَصُومُهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «فَنَحنُ أَحَقُّ وَأَولى بمُوسَى مِنكُم ، فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» . رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وَعَنُه ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَومَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّهُ يَومٌ تُعَظِّمُهُ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «فَإِذَا كَانَ العَامُ المُقبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمنَا اليَومَ التَّاسِعَ» قَالَ : فَلم يَأتِ العَامُ المُقبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ رَوَاهُ مُسلِمٌ .
4/1/1432هـ
ذكرى الآمل وبشرى العامل
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، رَوَى التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَالَ : «أَعمَارُ أُمَّتي مَا بَينَ السِّتِّينَ إِلى السَّبعِينَ ، وَأَقَلُّهُم مَن يَجُوزُ ذَلِكَ» لَقَد قَضَى اللهُ أن تَكُونَ أَعمَارُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَصِيرَةً وَعَيشُهُم في هذِهِ الدُّنيا قَليلاً ، نَعَم ، إِنَّ سِتِّينَ سَنَةً أَو سَبعِينَ عَامًا ، إنها لَقَصِيرَةٌ في حِسَابِ القُرُونِ المُتَطَاوِلَةِ وَالسِّنِينَ المُتَكَاثِرَةِ ، غَيرَ أَنَّ العُمُرَ الحَقِيقِيَّ في هَذِهِ الحَيَاةِ ، مَا قَضَاهُ المُؤمِنُ في طَاعَةِ رَبِّهِ وَعِبَادَةِ خَالِقِهِ القَائِلِ ـ سُبحَانَهُ ـ : [وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ] وَإِذَا كانَ الأَمرُ كَذَلِكَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَمَا أَقصَرَ العُمُرَ الفِعلِيَّ وَمَا أَقَلَّهُ !! إِذْ يَذهَبُ ثُلُثُهُ في النَّومِ أَو يَزِيدُ ، وَتَضِيعُ أَجزَاءٌ مِنهُ في غَفلَةِ الطُّفُولَةِ وَطَيشِ الصِّبَا وَسَكرَةِ الشَّبَابِ ، وَتُستَهلَكُ أَوقَاتٌ مِنهُ في الأَكلِ وَالشُّربِ وَقَضَاءِ حَاجَاتِ النَّفسِ مِنَ المُبَاحَاتِ وَاللَّهوِ ، وَأَوقَاتٌ أُخرَى تَمضِي في طَلَبِ مَا زَادَ عَلَى الحَاجَةِ مِن مَتَاعِ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَزِينَتِهَا ، فَإِذَا مَا أُضِيفَ إِلى ذَلِكَ مَا بُلِيَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنِ اتِّبَاعِ هَوَى الأَنفُسِ وَالانتِصَارِ لها وَمُقَاضَاةِ الآخَرِينَ في كُلِّ مَوقِفٍ ، وَمُفَاخَرَتِهِم وَمُكَاثَرَتِهِم هُنَا وَهُنَاكَ ، فَإِنَّ العَبدَ يَخرُجُ مِن دُنيَاهُ مُفلِسًا وَإِن صَلَّى وَصَامَ وَزَكَّى وَفَعَلَ مَا فَعَلَ ، رَوَى مُسلِمٌ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : «أَتَدرُونَ مَا المُفلِسُ ؟» قَالُوا : المُفلِسُ فِينَا مَن لا دِرهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ . فَقَالَ : «إِنَّ المُفلِسَ مِن أُمَّتي مَن يَأتي يَومَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأتي وَقَد شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعطَى هَذَا مِن حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِن حَسَنَاتِهِ ، فَإِن فَنِيَت حَسَنَاتُهُ قَبلَ أَن يُقضَى مَا عَلَيهِ أُخِذَ مِن خَطَايَاهُم فَطُرِحَت عَلَيهِ ثم طُرِحَ في النَّارِ» وَفي خِضَمِّ هَذِهِ الخَسَارَةِ الفَادِحَةِ الَّتي يُمنى بها كَثِيرُونَ ، فَإِنَّ ثَمَّةَ عِبَادًا مُوَفَّقِينَ وَعُقَلاءَ مُسَدَّدِينَ وَمُؤمِنِينَ مَهدِيِّينَ ، عَرَفُوا قِصَرَ العُمُرِ وَقِلَّةَ مَتَاعِ الحَيَاةِ الدُّنيَا ، وَعِظَمَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ ـ تعالى ـ في الآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ لمن أَطَاعَهُ وَاتَّقَاهُ ، فَجَعَلُوا نُصبَ أَعيُنِهِم قَولَ المَولى ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : [قُلْ مَتَاعُ الدُّنيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيرٌ لِمَنِ اتَّقَى] وَقَولَهُ ـ سُبحَانَهُ ـ : [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنعَامِ وَالحَرثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسنُ المَآبِ . قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيرٍ مِن ذَلِكُم لِلَّذِينَ اتَّقَوا عِندَ رَبِّهِم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ . الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقَانِتِينَ وَالمُنفِقِينَ وَالمُستَغفِرِينَ بِالأَسحَار] وَقَولَهُ ـ تَعَالى ـ : [كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّونَ أُجُورَكُم يَومَ القِيَامَةِ فَمَن زُحزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ] وَقَولَهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «مَا الدُّنيَا في الآخِرَةِ إِلاَّ كَمَا يَجعَلُ أَحَدُكُم أُصبُعَهُ هَذِهِ في اليَمِّ فَلْيَنظُرْ بم يَرجِعُ» رَوَاهُ مُسلِمٌ . نَعَم ـ عِبَادَ اللهِ ـ لَقَد عَرَفَ المُؤمِنُونَ المُوَفَّقُونَ أَنَّ الحَيَاةَ الدُّنيَا بِكُلِّ مَا فِيهَا لَيسَت بِرَأسِ مَالٍ حَقِيقِيٍّ ، وَمِن ثَمَّ فَقَدِ اتَّخَذُوهَا مَطِيَّةً لهم لِلوُصُولِ إِلى النَّعِيمِ المُقِيمِ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ .
إِنَّ للهِ عِبَادًا فُطَنَا *** طَلَّقُوا الدُّنيَا وَخَافُوا الفِتَنَا
نَظَرُوا فِيهَا فَلَمَّا عَلِمُوا *** أَنَّهَا لَيسَت لِحَيٍّ سَكَنَا
جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا *** صَالحَ الأَعمَالِ فِيهَا سُفُنَا
وَلَقَد كَانَ عَلَى رَأسِ هَؤُلاءِ الزَّاهِدِينَ في الدُّنيَا الرَّاغِبِينَ في الآخِرَةِ المُسَابِقِينَ إِلى الخَيرَاتِ ، إِمَامُ الهُدَى وَقَائِدُ أَهلِ التُّقَى وَسَيِّدُ أُولي العَقلِ وَالنُّهَى ، محمَّدٌ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ كَانَت حَيَاتُهُ مِثَالاً عَمَلِيًّا لِلتَّجَافي عَنِ الدُّنيَا وَالزُّهدِ في دَارِ الغُرُورِ ، وَالالتِفَاتِ عَن مَتَاعِهَا وَنَبذِ شَهَوَاتِهَا ، فَقَنِعَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مِنهَا بِالقَلِيلِ الَّذِي يَكفِي وَلا يُلهِي ، حَتى كَانَ يَقُولُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ كَمَا رَوَاهُ الشَّيخَانِ : «اللَّهُمَّ اجعَلْ رِزقَ آلِ محمدٍ قُوتًا» وَفي رِوَايَةٍ : «اللَّهُمَّ اجعلْ رِزقَ آلِ محمدٍ كَفَافًا» بَل لَقَد جَعَلَ عَيشَ الكَفَافِ مَعَ القَنَاعَةِ هُوَ عُنوَانَ الفَلاحِ وَالسَّعَادَةِ ، وَحَكَمَ بِالتَّعَاسَةِ وَالشَّقَاءِ عَلَى مَن عَبَدَهَا وَأَغرَقَ في طَلَبِهَا ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «قَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ» رَوَاهُ مُسلِمٌ ، وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «تَعِسَ عَبدُ الدِّينَارِ وَعَبدُ الدِّرهَمِ وَعَبدُ الخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لم يُعطَ سَخِطَ ، تَعِسَ وَانتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلا انتَقَشَ» رَوَاهُ البُخارِيُّ . وَحَذَّرَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أُمَّتَهُ مِنَ الدُّنيَا وَشَهَوَاتِهَا تَحذِيرَ العَارِفِ بِأَثَرِ الرُّكُونِ إِلَيهَا ، وَخَافَ عَلَيهِم مِن بَسطِهَا وَسَعَتِهَا وَالتَّنَافُسِ فِيهَا ، فَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «إِنَّ الدُّنيَا حُلوَةٌ خَضِرَةٌ ، وَإِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ مُستَخلِفُكُم فِيهَا فَيَنظُرُ كَيفَ تَعمَلُونَ ، فَاتَّقُوا الدُّنيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ» رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ لأَصحَابِهِ يَومًا : «أَبشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُم ، فَوَاللهِ مَا الفَقرَ أَخشَى عَلَيكُم ، وَلَكِنْ أَخشَى أَن تُبسَطَ الدُّنيَا عَلَيكُم كَمَا بُسِطَت عَلَى مَن كَانَ قَبلَكُم فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهلِكَكُم كَمَا أَهلَكَتهُمُ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . هَكَذَا عَرَّفَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أُمَّتَهُ بِطَبِيعَةِ الدُّنيَا ، وَهَكَذَا جَلَّى لهم حَقِيقَتَهَا وَعَرَّاهَا وَحَذَّرَ مِنهَا ، فَكَيفَ كَانَت حَيَاتُهُ فِيهَا ؟ كَيفَ عَاشَ وَمَاذَا أَكَلَ وَعَلَى أَيِّ شَيءٍ نَامَ ؟ هَل كَانَ يُزَهِّدُ أَصحَابَهُ فِيهَا ثم يَأكُلَهَا دُونَهُم أَو يَتَمَتَّعَ بها مِن وَرَائِهِم ؟! لا وَاللهِ وَحَاشَاهُ بِأَبي هُوَ وَأُمِّي ! بَل لَقَد كَانَت حَيَاتُهُ مَضرِبَ المَثَلِ في الزُّهدِ وَالتَّقَلُّلِ مِنَ المَتَاعِ ، وَشَغلِ العُمُرِ في العِبَادَةِ وَمَلءِ الوَقتِ بِالطَّاعَةِ ، وإنفاقِ مَا أُوتيَ مِن مَالٍ في سَبِيلِ اللهِ ، رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : وَالَّذِي نَفسُ أَبي هُرَيرَةَ بِيَدِهِ ، مَا شَبِعَ نَبيُّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِن خُبزِ حِنطَةٍ حَتى فَارَقَ الدُّنيَا . وَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا شَبِعَ آلُ محمدٍ مِن خُبزِ الشَّعِيرِ يَومَينِ مُتَتَابِعَينِ حَتى قُبِضَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَعَن أَنسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : لم يَأكُلِ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى خِوَانٍ حَتى مَاتَ ، وَلم يَأكُلْ خُبزًا مُرَقَّقًا حَتى مَاتَ . وَفي رِوَايَةٍ : وَلا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَينِهِ قَطُّ . رَوَاهُ البُخَارِيُّ . وَعَنِ النُّعمَانِ بنِ بَشِيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ قَالَ : أَلَستُم في طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئتُم ؟! لَقَد رَأَيتُ نَبِيَّكُم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقلِ مَا يَملأُ بَطنَهُ . رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ ، وَعَن عُروَةَ بنِ الزُّبيرِ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ أَنَّهَا كَانَت تَقُولُ : وَاللهِ يَا بنَ أُختي ، إِنْ كُنَّا لَنَنظُرُ إِلى الهِلالِ ثم الهِلالِ ثم الهِلالِ ، ثَِلاثَةِ أَهِلَّةٍ في شَهرَينِ ، وَمَا أُوقِدَ في أَبيَاتِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ نَارٌ . قُلتُ : يَا خَالَةُ ، فَمَا كَانَ يَعِيشُكُم ؟ قَالَتِ : الأَسوَدَانِ التَّمرُ وَالمَاءُ ، إِلاَّ أَنَّهُ قَد كَانَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ جِيرَانٌ مِنَ الأَنصَارِ وَكَانَت لهم مَنَايِحُ ، فَكَانُوا يُرسِلُونَ إِلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مِن أَلبَانِهَا فَيَسقِينَاهُ . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ دَخَلَ عَلَيهِ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَد أَثَّرَ في جَنبِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، لَوِ اتَّخَذتَ فِرَاشًا أَوثَرَ مِن هَذَا ! فَقَالَ : " مَا لي وَلِلدُّنيَا ، مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ سَارَ في يَومٍ صَائِفٍ فَاستَظَلَّ تَحتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً ثم رَاحَ وَتَرَكَهَا " هَذَا طَرَفٌ مِن حَيَاتِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَتِلكُم لمَحَاتٌ مِن فَقرِهِ وَصُوَرٌ مِن قِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ ، فَمَا سَبَبُ ذَلِكُمُ الفَقرِ وَمَا مَنشَأُ تِلكُمُ القِلَّةِ ؟! لَقَد كَانَ ذَلِكَ عَنِ اختِيَارِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ لِنَفسِهِ أَن يَكُونَ عَبدًا رَسُولاً ، وَأَن يُحيِيَهُ رَبُّهُ مِسكِينًا وَيُمِيتَهُ مِسكِينًا وَيَحشُرَهُ في زُمرَةِ المَسَاكِينِ ، اِختَارَ ذَلِكَ لِيُكرِمَهُ ـ تَعَالى ـ بِأَعلَى جَنَّتِهِ وَيُورِثَهُ المَقَامَ المَحمُودَ في الآخِرَةِ ، نَعَم ، لَقَد كَانَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ لا يَدَّخِرُ شَيئًا لِغَدِهِ ، بَل كَانَ يُؤثِرُ غَيرَهُ بما في يَدِهِ ، وَيُغني الآخَرِينَ وَيَظَلُّ هُوَ فَقِيرًا مُتَفَرِّغًا لِطَاعَةِ مَولاهُ وَالدَّعوَةِ إِلَيهِ وَالجِهَادِ في سَبِيلِهِ ، في البُخَارِيِّ عَن عُقبَةَ بنِ الحَارِثِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : صَلَيتُ مَعَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ العَصرَ ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ سَرِيعًا فَدَخَلَ عَلَى بَعضِ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ ، وَرَأَى مَا في وُجُوهِ القَومِ مِن تَعَجُّبِهِم لِسُرعَتِهِ ، فَقَالَ : " ذَكَرتُ وَأَنَا في الصَّلاةِ تِبرًا عِندَنَا فَكَرِهتُ أَن يُمسِيَ أَو يَبِيتَ عِندَنَا ، فَأَمَرتُ بِقِسمَتِهِ " وفي صَحِيحِ مُسلِمٍ عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : " مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الإِسلامِ شَيئًا إِلاَّ أَعطَاهُ ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعطَاهُ غَنَمًا بَينَ جَبَلَينِ ، فَرَجَعَ إِلى قَومِهِ فَقَالَ : يَا قَومِ ، أَسلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعطِي عَطَاءَ مَن لا يَخشَى الفَاقَةَ " وَمَعَ هَذَا الفَقرِ فَقَد جَاهَدَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَقَاتَلَ في سَبِيلِ اللهِ ، وَقَامَ اللَّيلَ حَتى تَفَطَّرَت قَدَمَاهُ ، وَدَعَا إِلى اللهِ وَبَذَلَ في ذَلِكَ النَّفسَ وَالجَاهَ ، فَعَنِ المُغِيرَةِ بنِ شُعبَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَامَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حتى تَوَرَّمَت قَدَمَاهُ ، فَقِيلَ لَهُ : لِمَ تَصنَعُ هَذَا وَقَد غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ : «أَفَلا أَكُونُ عَبدًا شَكُورًا» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : «كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَصُومُ حَتى نَقُولَ لا يُفطِرُ ، وَيُفطِرُ حَتى نَقُولَ لا يَصُومُ ، فَمَا رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ استَكمَلَ صِيَامَ شَهرٍ إِلاَّ رَمَضَانَ...» الحَدِيثَ ، مُتَّفَقٌ عَلَيهِ وَاللَّفظُ لِلبُخَارِيِّ . وَعَن عَمرِو بنِ الحَارِثِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عِندَ مَوتِهِ دِرهمًا وَلا دِينَارًا وَلا عَبدًا وَلا أَمَةً وَلا شَيئًا ، إِلاَّ بَغلَتَهُ البَيضَاءَ الَّتي كَانَ يَركَبُهَا وَسِلاحَهُ وَأَرضًا جَعَلَهَا لابنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
الخطبة الثانية
فَاتَّقُوا اللهَ ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ وَاقتَدُوا بِنَبِيِّكُم تُفلِحُوا وَتَفُوزُوا ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : [مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً . لِيَجزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدقِهِم وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَو يَتُوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهُ ـ تَعَالى ـ حَقَّ تَقوَاهُ ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِأَوثَقِ عُرَاهُ ، وَاستَعِدُّوا بِالصَّالحاتِ لِيَومِ لِقَاهُ [وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ لَيسَ لِلعَبدِ مِن حَيَاتِهِ إِلاَّ صَالحُ الأَعمَالِ وَمَا قَدَّمَهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «يَتبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ : أَهلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ ، فَيَرجِعُ اثنَانِ وَيَبقَى وَاحِدٌ ، يَرجِعُ أَهلُهُ وَمَالُهُ ، وَيَبقَى عَمَلُهُ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَعَن عَبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : أَتَيتُ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يَقرَأُ «أَلهَاكُمُ التَّكَاثُرُ» قَالَ : يَقُولُ ابنُ آدَمَ : مَالي مَالي . وَهَل لَكَ يَا بنَ آدَمَ مِن مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلتَ فَأَفنَيتَ ، أَو لَبِستَ فَأَبلَيتَ ، أَو تَصَدَّقتَ فَأَمضَيتَ ؟ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «إِذَا مَاتَ الإِنسَانُ انقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِن ثَلاثٍ : صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ، أَو عِلمٌ يُنتَفَعُ بِهِ ، أَو وَلَدٌ صَالحٌ يَدعُو لَهُ» رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وَقَالَ : «إِنَّ ممَّا يَلحَقُ المُؤمِنَ مِن عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعدَ مَوتِهِ : عِلمًا نَشَرَهُ ، وَوَلَدًا صَالحًا تَرَكَهُ ، وَمُصحَفًا وَرَّثَهُ ، أَو مَسجِدًا بَنَاهُ ، أَو بَيتًا لابنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ ، أَو نَهَرًا أَجرَاهُ ، أَو صَدَقَةً أَخرَجَهَا مِن مَالِهِ في صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلحَقُهُ مِن بَعدِ مَوتِهِ» رَوَاهُ ابنُ مَاجَه وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . فَمَاذَا قَدَّمتُم ـ عِبَادَ اللهِ ـ ؟ وَبِأَيِّ شَيءٍ سَتُقدِمُونَ عَلَى رَبِّكُم ؟ إِنَّ الجَنَّةَ دَرَجَاتٌ وَغُرُفَاتٌ ، وَإِنَْ سُكنَاهَا لا يَكُونَ إِلاَّ بِالصَّالحاتِ وَالقُرُبَاتِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «إِنَّ في الجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِن بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِن ظَاهِرِهَا ، أَعَدَّهَا اللهُ لِمَن آلانَ الكَلامَ وَأَطعَمَ الطَّعَامَ وَتَابَعَ الصِّيَامَ وَصَلَّى بِاللَّيلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» رَوَاهُ البَيهَقِيُّ في الشُّعَبِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «مَن بَنى للهِ مَسجِدًا وَلَو كَمَفحَصِ قَطَاةٍ بَنى اللهُ لَهُ بَيتًا في الجَنَّةِ» وَقَالَ : «فَوَاللهِ لأَن يَهدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيرٌ لَكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ» وَقَالَ : «خَيرُكُم مَن تَعَلَّمَ القُرآنَ وَعَلَّمَهُ» فَهَنيئًا لمن بَنى للهِ مَسجِدًا يُذكَرُ فِيهِ اسمُهُ ، أَو دَعَمَ تَعلِيمَ القُرآنِ أَو سَاعَدَ في نَشرِ حَلَقَاتِهِ وَدُورِ تَعلِيمِهِ ، أِوِ اهتَدَى عَلَى يَدِهِ أَو بِمَالِهِ أَو رَأيِهِ رَجُلٌ فَأَخرَجَهُ اللهُ بِسَبَبِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ ، بَلْ هَنِيئًا لِمَن إِنْ فَعَلَ خَيرًا وَإِلاَّ كَفَّ شَرَّهُ وَتَرَكَ مَا لا يَعنِيهِ ، في الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : «عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ صَدَقَةٌ» قَالُوا : فَإِنْ لم يَجِدْ ؟ قَالَ : «فَلْيَعمَلْ بِيَدَيهِ فَيَنفَعَ نَفسَهُ وَيَتَصَدَّقَ» قَالُوا : فَإِنْ لم يَستَطِعْ ، أَو لم يَفعَلْ ؟ قَالَ : «فَيُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلهُوفَ» قَالُوا : فَإِن لم يَفعَلْ ؟ قَالَ : «فَيَأمُرُ بِالخَيرِ» قَالُوا : فَإِن لم يَفعَلْ ؟ قَالَ : «فَيُمسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ» أَلا فَاتَّقُوا اللهَ واعلموا صَالحًا يُنجِيكُم مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ ، و «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبشِرُوا ؛ فَإِنَّهُ لَن يُدخِلَ الجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ» «وَاعلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ العَمَلِ إِلى اللهِ أَدوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» ثم اعلَمُوا أَنَّكُم في شَهرِ اللهِ المُحَرَّمِ فَعَظِّمُوهُ بِتَعظِيمِ اللهِ لَهُ ، وَصُومُوهُ أَو مَا تَيَسَّرَ مِنهُ ، فَإِنْ عَجزتم فَلا تُغلَبُنَّ عَلَى صِيَامِ يَومِ عَاشُورَاءَ ، فَقَد قَالَ نَبِيُّكُم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «أَفضَلُ الصِّيَامِ بَعدَ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ ، وَأَفضَلُ الصَّلاةِ بَعدَ الفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيلِ» رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «صِيَامُ يَومِ عَاشُورَاءَ أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبلَه» رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَدِمَ المَدِينَةَ فَوَجَدَ اليَهُودَ صِيَامًا يَومَ عَاشُورَاءَ ، فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «مَا هَذَا اليَومُ الَّذِي تَصُومُونَهُ ؟» فَقَالُوا : هَذَا يَومٌ عَظِيمٌ أَنجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَومَهُ وَغَرَّقَ فِرعَونَ وَقَومَهُ ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكرًا فَنَحنُ نَصُومُهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «فَنَحنُ أَحَقُّ وَأَولى بمُوسَى مِنكُم ، فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» . رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وَعَنُه ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَومَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّهُ يَومٌ تُعَظِّمُهُ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «فَإِذَا كَانَ العَامُ المُقبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمنَا اليَومَ التَّاسِعَ» قَالَ : فَلم يَأتِ العَامُ المُقبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ رَوَاهُ مُسلِمٌ .
4/1/1432هـ
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى