رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
أمنا خديجة .. كلا والله لا يخزيك الله أبدًا
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَلِيلٌ هُم أُولَئِكَ الأَفذَاذُ مِنَ البَشَرِ ، الَّذِينَ يُبقِي لهمُ التَّأرِيخُ سِيرَةً وَذِكرًا ، أَو يُعلِي لهم ثَنَاءً وَصِيتًا ، أَو يَحفَظُ لهم تَأثِيرَهُم في غَيرِهِم ، وَإِذَا كَانَ المُؤَثِّرُونَ في الحَيَاةِ مِنَ الرِّجَالِ قَلِيلِينَ في جِنسِهِمُ البَشرِيِّ ، فَإِنَّ النِّسَاءَ اللاَّتي خَلَّدَ التَّأرِيخُ أَسمَاءَهُنَّ بِمِدَادٍ مِن نُورٍ ، أَو حَفِظَ لهنَّ مَوَاقِفَهُنَّ المُشَرِّفَةَ عَلَى صَحَائِفَ مِن ذَهَبٍ ، كُنَّ أَقَلَّ مِنَ الرِّجَالِ بِكَثِيرٍ ، حَتى لَيَستَطِيعُ العَادُّ أَن يَعُدَّهُنَّ عَلَى الأَصَابِعِ أَو يَكَادُ .
أَلا وَإنَّ مِن أُولَئِكَ النِّسَاءِ العَظِيمَاتِ وَالعَقَائِلِ الشَّرِيفَاتِ ، خَدِيجَةَ بِنتَ خُوَيلِدٍ ، أُولى زَوجَاتِ النَّبيِّ الكَرِيمِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَأُمُّ أَولادِهِ وَبنَاتِهِ وَأَحفَادِهِ ، وَأَوَّلُ مَن آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ ، كَانَت تِلكَ السَّيِّدَةُ الكَرِيمَةُ وَالشَّرِيفَةُ العَفِيفَةُ مِن أَفضَلِ نِسَاءِ أَهلِ الأَرضِ وَالسَّمَاءِ ، شَهِدَ لها بِذَلِكَ مَن لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى فَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «خَيرُ نِسَائِهَا مَريمُ بِنتُ عِمرَانَ ، وَخَيرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنتُ خُوَيلِدٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «خَيرُ نِسَاءِ العَالمِينَ أَربَعٌ : مَريمُ بِنتُ عِمرَانَ ، وَخَدِيجَةُ بِنتُ خُوَيلِدٍ ، وَفَاطِمَةُ بِنتُ محمَّدٍ ، وَآسِيَةُ امرَأَةُ فِرعَونَ» رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وُلِدَت ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ وَنَشَأَت في بَيتٍ مِن أَعرَقِ بُيُوتِ قُرَيشٍ نَسَبًا وَأَعلاهُم حَسَبًا , فَوَرِثَت عَن أَبَوَيهَا جَمَالَ الخَلْقِ وَحُسنَ الخُلُقِ ، في بِيئَةٍ مُلتَزِمَةٍ بِالأَخلاقِ الفَاضِلَةِ , بَعِيدًا عَمَّا كَانَت كَثِيرٌ مِن بُيُوتِ قُرَيشٍ غَارِقَةً فِيهِ مِنَ المَلاهِي وَالشَّهَوَاتِ ، وَفي ظِلِّ هَذِهِ العَائِلَةِ الكَرِيمَةِ وَفي بَيتِ غِنىً وَنَعِيمٍ وَثَرَاءٍ , مَعرُوفٍ بِإِطعَامِ الطَّعَامِ وَإِكرَامِ الضَّيفِ وَمُسَاعَدَةِ الفَقِيرِ وَقَضَاءِ حَاجَةِ المُحتَاجِ ، عَاشَت ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ حَيَاةَ أَبنَاءِ العَوَائِلِ الشَّرِيفَةِ الكَبِيرَةِ ، فَشَبَّت مُنَعَّمَةً مُترَفَةً , غَيرَ أَنَّهَا لم تَتَأَثَّرْ في خُلُقِهَا بِكُلِّ ذَلِكَ ، فَبَقِيَت عَلَى أَفضَلِ مَا تَكُونُ عَلَيهِ الشَّرِيفَاتُ مِن رَجَاحَةِ العَقلِ وَرَزَانَةِ الفِكرِ وَنَزَاهَةِ السِّيرَةِ ، حَتى أُطلِقَ عَلَيهَا بَينَ قَومِهَا لَقَبَ الطَّاهِرَةِ ، وَحَتى عُرِفَت بِسَيِّدَةِ نِسَاءِ قُرَيشٍ ، وَحَتى كَانَت نِسَاءُ مَكَّةَ إِذَا خَرَجنَ مَعَهَا إِلى البَيتِ العَتِيقِ ، خَرَجنَ وَطُفنَ مُتَسَتِّرَاتٍ مُحتَشِمَاتٍ , لا تَجرُؤُ وَاحِدَةٌ مِنهُنَّ عَلَى إِطلاقِ لِسَانِهَا في لَغوٍ أَو أَن تَتَكَلَّمَ بِغَيرِ الجِدِّ وَالحَقِّ .
تَزَوَّجَت ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ في الجَاهِلِيَّةِ مَرَّتَينِ ، وَمَاتَ زَوجُهَا الثَّاني وَهِيَ في مُقتَبَلِ العُمُرِ وَزَهرَةِ الشَّبَابِ , فَاتَّجَهَت إِلى التِّجَارَةِ بِالبَيعِ وَالشِّرَاءِ ، وَاضطُّرَّت إِلى إِدَارَةِ أَموَالِهَا بِنَفسِهَا . وَبِقَلبٍ كَبِيرٍ مُنفَتِحٍ لِلمِسكِينِ وَالمُحتَاجِ وَالفَقِيرِ , وَبِآمَالٍ عَرِيضَةٍ تَمُدُّهَا رُوحٌ طَيِّبَةٌ ، وَيُبَارِكُهَا صِدقٌ وَنَزَاهَةٌ وَأَمَانَةٌ ، استَطَاعَت تِلكَ السَّيِّدَةُ الشَّرِيفَةُ أَن تَسبِقَ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ , فَبَارَكَ اللهُ في مَالِهَا وَزَكَت تِجَارَتُهَا ، وَذَاعَ صِيتُهَا وَغَدَت مِن أَكبَرِ تُجَّارِ مَكَّةَ , غَيرَ أَنَّ تِلكَ التِّجَارَةَ الرَّابِحَةَ وَالمَالَ المُبَارَكَ ، لم يُؤَثِّرْ في ذَلِكُمُ القَلبِ الصَّافي , وَلم يُعَكِّرْ صَفاءَ تِلكَ النَّفسِ الزَّكِيَّةِ , وَمَا كَانَ لِيُمِيتَ ذَلِكُمُ الضَّمِيرَ الحَيَّ , فَمَا زَالَت تَبحَثُ عَنِ الزَّوجِ المُوَافِقِ لِمَا هِيَ عَلَيهِ مِن خُلُقٍ كَرِيمٍ ، فَكَانَ أَن تَزَوَّجَت بِخَيرِ البَشَرِ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ ، حَيثُ عَرَفَتهُ مِن خِلالِ مُتَاجَرَتِهِ بِأَموَالِهَا بِالأَمَانَةِ وَالصِّدقِ وَكُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ ، فَكَانَ ذَلِكُمُ الزَّوَاجُ المُبَارَكُ بَينَ رُوحَينِ تَوَافَقَتَا عَلَى الخَيرِ ، وَكَانَ الأَولادُ وَوُلِدَتِ البَنَاتُ ، وبُعِثَ الحَبِيبُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فَكَانَت تِلكُمُ المُبَارَكَةُ أَوَّلَ المُؤمِنِينَ بِهِ ، وَعَمِلَت جُهدَهَا عَلَى تَثبِيتِهِ وَتَقوِيَةِ عَزمِهِ ، فَحَفِظَ التَّأرِيخُ لَنَا ممَّا يَدُلُّ عَلَى رَجَاحَةِ عَقلِهَا وَنَبَاهَتِهَا وَسَبرِهَا غَورَ الأُمُورِ ، تِلكَ الكَلِمَاتِ الخَالِدَةَ ، الَّتي يَعجِزُ عَن قَولِهَا كَثِيرٌ مِنَ العُقَلاءِ إِلاَّ مَن أُوتيَ فِقهًا وَسَعَةَ عِلمٍ وَفَهمًا لِسُنَنِ اللهِ في خَلقِهِ ، فَقَد رَوَى البُخَارِيُّ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهَا ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بَعدَ نُزُولِ الوَحيِ يَقُولُ : زَمِّلُوني زَمِّلُوني ، وَقَالَ لها : لَقَد خَشِيتُ عَلَى نَفسِي ، قَالَت لَهُ بِلِسَانِ عَارِفٍ مُحَقِّقٍ : كَلاَّ وَاللهِ لا يُخزِيكَ اللهُ أَبَدًا ؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصدُقُ الحَدِيثَ ، وَتَحمِلُ الكَلَّ وَتَكسِبُ المَعدُومَ ، وَتَقرِي الضَّيفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ ...
وَتَظَلُّ تِلكَ المُبَارَكَةُ تُخَفِّفُ عَلَى الحَبِيبِ مَا يَسمَعُهُ مِن رَدِّ الكُفَّارِ عَلَيهِ ، وَتُهَوِّنُ عَلَيهِ تَكذِيبَهُم لَهُ وَعِنَادَهُم إِيَّاهُ ، فَيُفَرِّجُ اللهُ عَنهُ بها شَيئًا كَثِيرًا ، وَيُذهِبُ عَن قَلبِهِ بِبَرَكَتِهَا عَامَّةَ مَا يَجِدُهُ ، حَتى إِذَا كَانَت سَنَةُ ثَمَانٍ مِنَ البِعثَةِ ، اختَارَ اللهُ هَذِهِ السَّيَّدَةَ المَصُونَةَ إِلَيهِ ، فَفَارَقَتِ الحَبِيبَ إِلى مَا بَشَّرَهَا بِهِ حَيثُ قَالَ فِيمَا رَوَاهُ مُسلِمٌ : «أَتَاني جِبرِيلُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَد أَتَتكَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَو طَعَامٌ أَو شَرَابٌ ، فَإِذَا هِيَ قَد أَتَتكَ فَاقرَأْ عَلَيهَا السَّلامَ مِن رَبِّهَا وَمِنِّي ، وَبَشِّرْهَا بِبَيتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ»
وَيَحزَنُ الحَبِيبُ عَلَى وَفَاةِ زَوجِهِ الكَرِيمَةِ وَيَحمِلُ مِنَ الهَمِّ أَعظَمَهُ ، فَيَظَلُّ وَفِيًّا لِتِلكَ الطَّاهِرَةِ طُولَ حَيَاتِهِ ، وَيَبقَى مُحسِنًا رِعَايَةَ عَهدِهَا لا يَنسَاهَا وَلا يَمَلُّ مِن تَكرَارِ ذِكرِهَا ، حَتى تَبلُغَ شِدَّةُ وَفَائِهِ لها وَكَثرَةُ ذِكرِهِ سِيرَتَهَا العَطِرَةَ مَبلَغًا عَظِيمًا ، تَتَحَرَّكُ لَهُ غَيرَةُ الصِّدِّيقَةِ بِنتِ الصِّدِّيقِ وَهِيَ الَّتي لم تَرَهَا ، فَفِي الصَّحِيحَينِ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا غِرتُ عَلَى أَحَدٍ مِن نِسَاءِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مَا غِرتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيتُهَا ، وَلَكِنْ كَانَ يُكثِرُ ذِكرَهَا ، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثم يُقَطِّعُهَا أَعضَاءً ثم يَبعَثُهَا في صَدَائِقِ خَدِيجَةَ ، فَيَقُولُ : «إِنَّهَا كَانَت وَكَانَت وَكَانَت ، وَكَان لي مِنهَا وَلَدٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وَفي رِوَايَةٍ لِمُسلِمٍ عَنهَا قَالَت : مَا غِرتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِلاَّ عَلَى خَدِيجَةَ وَإِني لم أُدرِكْهَا . قَالَت : وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ يَقُولُ : «أَرسِلُوا بها إِلى أَصدِقَاءِ خَدِيجَةَ» قَالَت : فَأَغضَبتُهُ يَومًا فَقُلتُ : خَدِيجَةُ ؟ فَقَالَ : «إِني رُزِقتُ حُبَّهَا»
وَفي البُخَارِيِّ عَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا غِرْتُ عَلَى امرَأَةٍ مَا غِرتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَد هَلَكَت قَبلَ أَن يَتَزَوَّجَني بِثَلاثِ سِنِينَ لِمَا كُنتُ أَسمَعُهُ يَذكُرُهَا ، وَلَقَد أَمَرَهُ رَبُّهُ أَن يُبَشِّرَهَا بِبَيتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لَيَذبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهدِي في خُلَّتِهَا مِنهَا .
وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : جَاءَت عَجُوزٌ إِلى النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ عِندِي ، فَقَالَ لها رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن أَنتِ ؟ " قَالَت : أَنَا جَثَّامَةُ المُزَنِيَّةُ . فَقَالَ : " بَل أَنتِ حَسَّانَةُ المُزَنِيَّةُ ، كَيفَ أَنتُم ؟ كَيفَ حَالُكُم ؟ كَيفَ كُنتُم بَعدَنَا ؟ " قَالَت : بِخَيرٍ بِأَبي أَنتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ .
فَلَمَّا خَرَجَت ؛ قُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، تُقبِلُ عَلَى هَذِهِ العَجُوزِ هَذَا الإِقبَالَ ؟ فَقَالَ : " إِنَّهَا كَانَت تَأتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ ، وَإِنَّ حُسنَ العَهدِ مِنَ الإِيمَانِ " رَوَاهُ الحَاكِمُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
تِلكُم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ لَمحَةٌ مُوجَزَةٌ عَن حَيَاةِ سَيِّدَةٍ مِن سَيِّدَاتِ نِسَاءِ العَالمِينَ ، خَدِيجَةُ بِنتُ خُوَيلَدٍ ، أُمُّ القَاسِمِ وَعبدِاللهِ وَزَينَبَ وَرُقَيَّةَ وَأُمِّ كُلثُومٍ وَفَاطِمَةَ أَبنَاءِ رَسُولِ اللهِ ، فَرَضِيَ اللهُ عَنهَا وَأَرضَاهَا ، وَرَضِيَ عَن جَمِيعِ أُمَّهَاتِ المُؤمِنِينَ ، وَجَمَعَنَا بهم وَنَبِيِّنَا في عِلِّيِّينَ ، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالحِينَ ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ، ذَلِكَ الفَضلُ مِنَ اللهِ ، وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا ، وَأَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ اللهَ لي وَلَكُم وَلجمِيعِ المُسلِمِينَ مِن كُلِّ ذَنبٍ .
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ [وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد نَقَلَ التَّأرِيخُ فِيمَا نَقَلَ مِن سِيرَةِ خَدِيجَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ كَثرَةَ الرَّاغِبِينَ في الاقتِرَانِ بها وَالطَّامِعِينَ في القُربِ مِنهَا لِثَرَائِهَا وَكَثرَةِ مَالِهَا ، غَيرَ أَنَّ تِلكَ العَفِيفَةَ الشَّرِيفَةَ الطَّاهِرَةَ لم تَرضَ أَن تَضَعَ عَينَيهَا عَلَى أَيٍّ مِن أُولَئِكَ السَّادَاتِ مِن قُرَيشٍ , وَلم تَحمِلْهَا تِجَارَتُهَا عَلَى أَن تَشتَرِكَ مَعَهُم في أُمُورٍ تَتَّصِلُ بِتِلكَ التِّجَارَةِ مُبَاشَرَةً , وَلم تَتَّخِذْ مِنَ التِّجَارَةِ ذَرِيعَةً لِلاتِّصَالِ بهم أَو سَبَبًا لِتَقوِيَةِ الرَّوَابِطِ بَينَهَا وَبَينَهُم ، لا في مَكَّةَ وَلا في غَيرِ مَكَّةَ , نَعَم ، لم يَنقُلِ التَّأرِيخُ أَنَّهَا اتَّصَلَت بِالتُّجَّارِ أَوِ اشتَرَكَت مَعَهُم في اجتِمَاعٍ خَاصٍّ أَو عَامٍّ , أَو أَنَّهَا سَارَت في رِكَابِهِم مُشَرِّقَةً أَو مُغَرِّبَةً أَو ذَاهِبَةً أَو آيِبَةً , أَو أَنَّها ذَهَبَت بِتِجَارَتِهَا إِلى الأَسوَاقِ في الدَّاخِلِ أَوِ الخَارِجِ ، لا وَاللهِ وَكَلاَّ ، بَل لَقَد كَانَت تُنِيبُ عَنهَا في ذَلِكَ الرِّجَالَ مِن خَدَمِهَا وَعَبِيدِهَا , أَو مِن رِجَالِ قُرَيشٍ الآخَرِينَ ، وَالَّذِينَ كَانَ عَلَى رَأسِهِم مَولاهَا المُخلِصُ مَيسَرَةُ ، وَالصَّادِقُ الأَمِينُ محمَّدٌ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ ، هَكَذَا كَانَت ـ عَلَيهَا مِنَ اللهِ الرَّحمَةُ وَالرِّضوَانُ ـ فَحِينَ تَأتي شَرَاذِمُ ممَّن رَضُوا بِأَن يَجعَلُوا ظُهُورَهُم جُسُورًا لِمُرُورِ مَشرُوعَاتِ تَغرِيبِ المَرأَةِ في هَذِهِ البِلادِ ، فَيُنَظِّمُوا مُؤتَمَرًا بِاسمِ هَذِهِ الطَّاهِرَةِ العَفِيفَةِ الشَّرِيفَةِ ، ثم لا تَرَى في ذَلِكَ المُؤتَمَرِ إِلاَّ اختِلاطَ الرِّجَالَ بِالنِّسَاءِ ، وَكَشفَ النِّسَاءِ وُجُوهَهُنَّ وَرُؤُوسَهُنَّ بَل وَسِيقَانَهُنَّ ، وَالدَّعوَةَ الصَّرِيحَةَ لِتَمَرُّدِ النِّسَاءِ عَلَى أَزوَاجِهِنَّ وَأَولِيَائِهِنَّ ، وَدَفعَهُنَّ لِلمُطَالَبَةِ بِالخُرُوجِ مِن مَنَازِلِهِنَّ وَالبَحثِ عَن عَمَلٍ بَينَ الرِّجَالِ في بِيئَاتٍ مُختَلِطَةٍ ، أَقُولُ حِينَ يَحصُلُ كُلُّ ذَلِكَ ، فَقَد ظُلِمَت هَذِهِ الكَرِيمَةُ العَظِيمَةُ ، وَأُسِيءَ إِلى تِلكُمُ الشَّرِيفَةِ العَفِيفَةِ ، بَل وَاعتُدِيَ مِن وَرَاءِ ذَلِكَ عَلَى زَوجِهَا الحَبِيبِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ الَّذِي جَاءَ مِن عِندِ رَبِّهِ بِأَمرِ النِّسَاءِ بِالقَرَارِ في بُيُوتِهِنَّ وَحِفظِ أَعرَاضِهِنَّ وَعَدَمِ خُضُوعِهِنَّ بِالقَولِ ،، فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَلْنَنتَبِهْ لِمَا يُرَادُ بِنَا في هَذِهِ البِلادِ ، فَإِنَّ الخِطَطَ المَاكِرَةَ عَادَت وَاضِحَةً لِكُلِّ ذِي عَقلٍ وَلُبٍّ .
وَإِنَّهُ حِينَ يُفتي الرَّاسِخُونَ في العِلمِ بِعَدَمِ جَوَازِ عَمَلِ المَرأَةِ مُختَلِطَةً بِالرِّجَالِ ، فَلا حَاجَةَ بِنَا بَعدُ إِلى مَؤتَمَرَاتٍ يُشَارِكُ فِيهَا مَن لم يُعرَفْ بِعلمٍ وَلا اجتِهَادٍ ، وَيُدعَى إِلَيهَا أَشخَاصٌ يَجلِسُونَ إِلى النِّسَاءِ جَنبًا لِجَنبٍ وَهُنَّ كَاشِفَاتٌ وُجُوهَهُنَّ وَنَحُورَهُنَّ بَل وَسِيقَانَهُنَّ .
وَإِنَّنَا لَعَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ لَن يَأتيَ خَيرٌ وَلا فَلاحٌ ولا صَلاحٌ مِن مُؤتَمَرَاتِ كَهَذِهِ المُؤتَمَرَاتِ بَلِ المُؤَامَرَاتِ ، نَعَم ، لَن يَأتيَ خَيرٌ مِن محفَلٍ تَختَلِطُ المَرأَةُ فِيهِ بِالرَّجُلِ ، وتُجلَبُ فِيهِ المُغَنِّيَاتُ وَيُحتَفَي فِيهِ بِالكَافِرَاتِ , وَتُتَّهَمُ فِيهِ الصَّحَابِيَاتُ بِالتَّقصِيرِ وَعَدَمِ المُطَالَبَةِ بِالحُقُوقِ , وَيُقَالُ فِيهِ عَلَى اللهِ بِغَيرِ عِلمٍ , وَتُنسَبُ فِيهِ أَحكَامُ الشَّرِيعَةِ لِلتَّقَالِيدِ , وَيُسخَرُ فِيهِ مِنَ المَحرَمِ , وَتُوصَفُ فِيهِ القِوَامَةُ بِأَنَّهَا تَدَخُّلٌ في الحُرِّيَّةِ وَتَكرِيسٌ لِسُلطَةِ الرَّجُلِ أَو نَحوِ ذَلِكَ , وَتَبلُغُ الوَقَاحَةُ بِأَحَدِ كُبَرَاءِ المُشَارِكِينَ إِلى أَن يُعلِنَ بِجُرأَةٍ سَافِرَةٍ أَنَّ العَمَلَ عَلَى تَوظِيفِ المَرأةِ لَن يَقِفَ إِلاَّ عِندَ حَدِّ التِحَامِ أَجسَادِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ . وأَمَّا حِينَ يَحصُلُ كُلُّ ذَلِكَ بِاسمِ أُمِّ المُؤمِنِينَ خَدِيجَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ فَمَا أَحَقَّنَا أَن نُبَرِّئَهَا مِن كُلِّ هَذَا الكَذِبِ وَالزُّورِ ، الَّذِي هُوَ تَدنِيسٌ لِمَكَانَتِهَا وَإِيذَاءٌ لِلحَبِيبِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَلا خَيرَ فِينَا إِذَا نَحنُ لم نَفعَلْ ذَلِكَ ، لا خَيرَ فِينَا إِذَا أُوذِيَ نَبِيُّنَا بِابتِذَالِ عِرضِهِ ثم سَكَتْنَا [وَالَّذِينَ يُؤذُونَ رَسُولَ اللهِ لهم عَذَابٌ أَلِيمُ] وإِنَّ مِثلَ هَذِهِ المُؤتَمَرَاتِ وَاللِّقَاءَاتِ المَشبُوهَةِ ، وَإِن رَأَسَهَا مَن رَأَسَهَا أَو شَارَكَ فِيهَا مَن شَارَكَ أَو دَعَمَهَا مَن دَعَمَهَا ، مِن أُمَرَاءَ أَو وُزَرَاءَ أَو كُبَرَاءَ , أَو استُضِيفَ فِيهَا بَعضُ مَن زِيُّهُم زِيُّ العُلَمَاءِ ، إِنَّهَا لَحَربٌ عَلَى الفَضِيلَةِ وَتَأصِيلٌ لِلرَّذِيلَةِ ، وَأَمَّا مَا يُرَدَّدُ فِيهَا مِن شِعَارَاتِ ، كَالحُرِّيَّةِ وَالمُسَاوَاةِ وَالعَدلِ ، وَالتَّنمِيَةِ وَالمُشَارَكَةِ ، وَغَيرِهَا مِنَ الشِّعَارَاتِ البَرَّاقَةِ الخَدَّاعَةِ , فَإِنَّمَا هِيَ في حَقِيقَتِهَا مُنَاقَضَةٌ سَافِرَةٌ لِكَثِيرٍ مِن تَشرِيعَاتِ الإِسلامِ وَمُبَادِئِهِ , مُصَادَمَةٌ لِقِيَمِ المُجتَمَعِ وَعَادَاتِهِ وَأَخلاقِ أَهلِهِ , وَأَيُّ حُرِّيَّةٍ تِلكَ الَّتي تُخرِجُ المَرأَةَ مِن عِصمَةِ الرَّجُلِ لِتُسَافِرَ وَحدَهَا , وَتَخلُوَ بِمَن أَرَادَت بِلا مَحرَمٍ . وَوَاللهِ لَو كَانُوا صَادِقِينَ في مُنَاقَشَةِ قَضَايَا المُجتَمَعِ وَمُشَارَكَةِ المَرأَةِ هُمُومَهَا ، لَمَا طَالَبُوا بِإِخرَاجِهَا مِن بَيتِهَا وَتَعرِيضِهَا لِمُخَالَفَةِ أَوَامِرِ رَبِّهَا ، وَكَيفَ يَحِقُّ لهم أَن يَزعُمُوا أَنهم حَرِيصُونَ عَلَى المَرأَةِ وَهُم أَنفُسُهُم مَن يُبَارِكُ أَعمَالَ الفَنِّ وَيَدعَمُ قَنَوَاتِ العُهرِ ؟ أَلا سَاءَ مَا يَحكُمُونَ . أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَلْنَنتَبِهْ لما يُرَادُ بِنَا ، فَإِنَّ السَّعِيدَ مَن وُعِظَ بِغَيرِهِ.
أمنا خديجة .. كلا والله لا يخزيك الله أبدًا
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَلِيلٌ هُم أُولَئِكَ الأَفذَاذُ مِنَ البَشَرِ ، الَّذِينَ يُبقِي لهمُ التَّأرِيخُ سِيرَةً وَذِكرًا ، أَو يُعلِي لهم ثَنَاءً وَصِيتًا ، أَو يَحفَظُ لهم تَأثِيرَهُم في غَيرِهِم ، وَإِذَا كَانَ المُؤَثِّرُونَ في الحَيَاةِ مِنَ الرِّجَالِ قَلِيلِينَ في جِنسِهِمُ البَشرِيِّ ، فَإِنَّ النِّسَاءَ اللاَّتي خَلَّدَ التَّأرِيخُ أَسمَاءَهُنَّ بِمِدَادٍ مِن نُورٍ ، أَو حَفِظَ لهنَّ مَوَاقِفَهُنَّ المُشَرِّفَةَ عَلَى صَحَائِفَ مِن ذَهَبٍ ، كُنَّ أَقَلَّ مِنَ الرِّجَالِ بِكَثِيرٍ ، حَتى لَيَستَطِيعُ العَادُّ أَن يَعُدَّهُنَّ عَلَى الأَصَابِعِ أَو يَكَادُ .
أَلا وَإنَّ مِن أُولَئِكَ النِّسَاءِ العَظِيمَاتِ وَالعَقَائِلِ الشَّرِيفَاتِ ، خَدِيجَةَ بِنتَ خُوَيلِدٍ ، أُولى زَوجَاتِ النَّبيِّ الكَرِيمِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَأُمُّ أَولادِهِ وَبنَاتِهِ وَأَحفَادِهِ ، وَأَوَّلُ مَن آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ ، كَانَت تِلكَ السَّيِّدَةُ الكَرِيمَةُ وَالشَّرِيفَةُ العَفِيفَةُ مِن أَفضَلِ نِسَاءِ أَهلِ الأَرضِ وَالسَّمَاءِ ، شَهِدَ لها بِذَلِكَ مَن لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى فَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «خَيرُ نِسَائِهَا مَريمُ بِنتُ عِمرَانَ ، وَخَيرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنتُ خُوَيلِدٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «خَيرُ نِسَاءِ العَالمِينَ أَربَعٌ : مَريمُ بِنتُ عِمرَانَ ، وَخَدِيجَةُ بِنتُ خُوَيلِدٍ ، وَفَاطِمَةُ بِنتُ محمَّدٍ ، وَآسِيَةُ امرَأَةُ فِرعَونَ» رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وُلِدَت ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ وَنَشَأَت في بَيتٍ مِن أَعرَقِ بُيُوتِ قُرَيشٍ نَسَبًا وَأَعلاهُم حَسَبًا , فَوَرِثَت عَن أَبَوَيهَا جَمَالَ الخَلْقِ وَحُسنَ الخُلُقِ ، في بِيئَةٍ مُلتَزِمَةٍ بِالأَخلاقِ الفَاضِلَةِ , بَعِيدًا عَمَّا كَانَت كَثِيرٌ مِن بُيُوتِ قُرَيشٍ غَارِقَةً فِيهِ مِنَ المَلاهِي وَالشَّهَوَاتِ ، وَفي ظِلِّ هَذِهِ العَائِلَةِ الكَرِيمَةِ وَفي بَيتِ غِنىً وَنَعِيمٍ وَثَرَاءٍ , مَعرُوفٍ بِإِطعَامِ الطَّعَامِ وَإِكرَامِ الضَّيفِ وَمُسَاعَدَةِ الفَقِيرِ وَقَضَاءِ حَاجَةِ المُحتَاجِ ، عَاشَت ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ حَيَاةَ أَبنَاءِ العَوَائِلِ الشَّرِيفَةِ الكَبِيرَةِ ، فَشَبَّت مُنَعَّمَةً مُترَفَةً , غَيرَ أَنَّهَا لم تَتَأَثَّرْ في خُلُقِهَا بِكُلِّ ذَلِكَ ، فَبَقِيَت عَلَى أَفضَلِ مَا تَكُونُ عَلَيهِ الشَّرِيفَاتُ مِن رَجَاحَةِ العَقلِ وَرَزَانَةِ الفِكرِ وَنَزَاهَةِ السِّيرَةِ ، حَتى أُطلِقَ عَلَيهَا بَينَ قَومِهَا لَقَبَ الطَّاهِرَةِ ، وَحَتى عُرِفَت بِسَيِّدَةِ نِسَاءِ قُرَيشٍ ، وَحَتى كَانَت نِسَاءُ مَكَّةَ إِذَا خَرَجنَ مَعَهَا إِلى البَيتِ العَتِيقِ ، خَرَجنَ وَطُفنَ مُتَسَتِّرَاتٍ مُحتَشِمَاتٍ , لا تَجرُؤُ وَاحِدَةٌ مِنهُنَّ عَلَى إِطلاقِ لِسَانِهَا في لَغوٍ أَو أَن تَتَكَلَّمَ بِغَيرِ الجِدِّ وَالحَقِّ .
تَزَوَّجَت ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ في الجَاهِلِيَّةِ مَرَّتَينِ ، وَمَاتَ زَوجُهَا الثَّاني وَهِيَ في مُقتَبَلِ العُمُرِ وَزَهرَةِ الشَّبَابِ , فَاتَّجَهَت إِلى التِّجَارَةِ بِالبَيعِ وَالشِّرَاءِ ، وَاضطُّرَّت إِلى إِدَارَةِ أَموَالِهَا بِنَفسِهَا . وَبِقَلبٍ كَبِيرٍ مُنفَتِحٍ لِلمِسكِينِ وَالمُحتَاجِ وَالفَقِيرِ , وَبِآمَالٍ عَرِيضَةٍ تَمُدُّهَا رُوحٌ طَيِّبَةٌ ، وَيُبَارِكُهَا صِدقٌ وَنَزَاهَةٌ وَأَمَانَةٌ ، استَطَاعَت تِلكَ السَّيِّدَةُ الشَّرِيفَةُ أَن تَسبِقَ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ , فَبَارَكَ اللهُ في مَالِهَا وَزَكَت تِجَارَتُهَا ، وَذَاعَ صِيتُهَا وَغَدَت مِن أَكبَرِ تُجَّارِ مَكَّةَ , غَيرَ أَنَّ تِلكَ التِّجَارَةَ الرَّابِحَةَ وَالمَالَ المُبَارَكَ ، لم يُؤَثِّرْ في ذَلِكُمُ القَلبِ الصَّافي , وَلم يُعَكِّرْ صَفاءَ تِلكَ النَّفسِ الزَّكِيَّةِ , وَمَا كَانَ لِيُمِيتَ ذَلِكُمُ الضَّمِيرَ الحَيَّ , فَمَا زَالَت تَبحَثُ عَنِ الزَّوجِ المُوَافِقِ لِمَا هِيَ عَلَيهِ مِن خُلُقٍ كَرِيمٍ ، فَكَانَ أَن تَزَوَّجَت بِخَيرِ البَشَرِ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ ، حَيثُ عَرَفَتهُ مِن خِلالِ مُتَاجَرَتِهِ بِأَموَالِهَا بِالأَمَانَةِ وَالصِّدقِ وَكُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ ، فَكَانَ ذَلِكُمُ الزَّوَاجُ المُبَارَكُ بَينَ رُوحَينِ تَوَافَقَتَا عَلَى الخَيرِ ، وَكَانَ الأَولادُ وَوُلِدَتِ البَنَاتُ ، وبُعِثَ الحَبِيبُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فَكَانَت تِلكُمُ المُبَارَكَةُ أَوَّلَ المُؤمِنِينَ بِهِ ، وَعَمِلَت جُهدَهَا عَلَى تَثبِيتِهِ وَتَقوِيَةِ عَزمِهِ ، فَحَفِظَ التَّأرِيخُ لَنَا ممَّا يَدُلُّ عَلَى رَجَاحَةِ عَقلِهَا وَنَبَاهَتِهَا وَسَبرِهَا غَورَ الأُمُورِ ، تِلكَ الكَلِمَاتِ الخَالِدَةَ ، الَّتي يَعجِزُ عَن قَولِهَا كَثِيرٌ مِنَ العُقَلاءِ إِلاَّ مَن أُوتيَ فِقهًا وَسَعَةَ عِلمٍ وَفَهمًا لِسُنَنِ اللهِ في خَلقِهِ ، فَقَد رَوَى البُخَارِيُّ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهَا ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بَعدَ نُزُولِ الوَحيِ يَقُولُ : زَمِّلُوني زَمِّلُوني ، وَقَالَ لها : لَقَد خَشِيتُ عَلَى نَفسِي ، قَالَت لَهُ بِلِسَانِ عَارِفٍ مُحَقِّقٍ : كَلاَّ وَاللهِ لا يُخزِيكَ اللهُ أَبَدًا ؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصدُقُ الحَدِيثَ ، وَتَحمِلُ الكَلَّ وَتَكسِبُ المَعدُومَ ، وَتَقرِي الضَّيفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ ...
وَتَظَلُّ تِلكَ المُبَارَكَةُ تُخَفِّفُ عَلَى الحَبِيبِ مَا يَسمَعُهُ مِن رَدِّ الكُفَّارِ عَلَيهِ ، وَتُهَوِّنُ عَلَيهِ تَكذِيبَهُم لَهُ وَعِنَادَهُم إِيَّاهُ ، فَيُفَرِّجُ اللهُ عَنهُ بها شَيئًا كَثِيرًا ، وَيُذهِبُ عَن قَلبِهِ بِبَرَكَتِهَا عَامَّةَ مَا يَجِدُهُ ، حَتى إِذَا كَانَت سَنَةُ ثَمَانٍ مِنَ البِعثَةِ ، اختَارَ اللهُ هَذِهِ السَّيَّدَةَ المَصُونَةَ إِلَيهِ ، فَفَارَقَتِ الحَبِيبَ إِلى مَا بَشَّرَهَا بِهِ حَيثُ قَالَ فِيمَا رَوَاهُ مُسلِمٌ : «أَتَاني جِبرِيلُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَد أَتَتكَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَو طَعَامٌ أَو شَرَابٌ ، فَإِذَا هِيَ قَد أَتَتكَ فَاقرَأْ عَلَيهَا السَّلامَ مِن رَبِّهَا وَمِنِّي ، وَبَشِّرْهَا بِبَيتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ»
وَيَحزَنُ الحَبِيبُ عَلَى وَفَاةِ زَوجِهِ الكَرِيمَةِ وَيَحمِلُ مِنَ الهَمِّ أَعظَمَهُ ، فَيَظَلُّ وَفِيًّا لِتِلكَ الطَّاهِرَةِ طُولَ حَيَاتِهِ ، وَيَبقَى مُحسِنًا رِعَايَةَ عَهدِهَا لا يَنسَاهَا وَلا يَمَلُّ مِن تَكرَارِ ذِكرِهَا ، حَتى تَبلُغَ شِدَّةُ وَفَائِهِ لها وَكَثرَةُ ذِكرِهِ سِيرَتَهَا العَطِرَةَ مَبلَغًا عَظِيمًا ، تَتَحَرَّكُ لَهُ غَيرَةُ الصِّدِّيقَةِ بِنتِ الصِّدِّيقِ وَهِيَ الَّتي لم تَرَهَا ، فَفِي الصَّحِيحَينِ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا غِرتُ عَلَى أَحَدٍ مِن نِسَاءِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مَا غِرتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيتُهَا ، وَلَكِنْ كَانَ يُكثِرُ ذِكرَهَا ، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثم يُقَطِّعُهَا أَعضَاءً ثم يَبعَثُهَا في صَدَائِقِ خَدِيجَةَ ، فَيَقُولُ : «إِنَّهَا كَانَت وَكَانَت وَكَانَت ، وَكَان لي مِنهَا وَلَدٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وَفي رِوَايَةٍ لِمُسلِمٍ عَنهَا قَالَت : مَا غِرتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِلاَّ عَلَى خَدِيجَةَ وَإِني لم أُدرِكْهَا . قَالَت : وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ يَقُولُ : «أَرسِلُوا بها إِلى أَصدِقَاءِ خَدِيجَةَ» قَالَت : فَأَغضَبتُهُ يَومًا فَقُلتُ : خَدِيجَةُ ؟ فَقَالَ : «إِني رُزِقتُ حُبَّهَا»
وَفي البُخَارِيِّ عَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا غِرْتُ عَلَى امرَأَةٍ مَا غِرتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَد هَلَكَت قَبلَ أَن يَتَزَوَّجَني بِثَلاثِ سِنِينَ لِمَا كُنتُ أَسمَعُهُ يَذكُرُهَا ، وَلَقَد أَمَرَهُ رَبُّهُ أَن يُبَشِّرَهَا بِبَيتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لَيَذبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهدِي في خُلَّتِهَا مِنهَا .
وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : جَاءَت عَجُوزٌ إِلى النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ عِندِي ، فَقَالَ لها رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن أَنتِ ؟ " قَالَت : أَنَا جَثَّامَةُ المُزَنِيَّةُ . فَقَالَ : " بَل أَنتِ حَسَّانَةُ المُزَنِيَّةُ ، كَيفَ أَنتُم ؟ كَيفَ حَالُكُم ؟ كَيفَ كُنتُم بَعدَنَا ؟ " قَالَت : بِخَيرٍ بِأَبي أَنتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ .
فَلَمَّا خَرَجَت ؛ قُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، تُقبِلُ عَلَى هَذِهِ العَجُوزِ هَذَا الإِقبَالَ ؟ فَقَالَ : " إِنَّهَا كَانَت تَأتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ ، وَإِنَّ حُسنَ العَهدِ مِنَ الإِيمَانِ " رَوَاهُ الحَاكِمُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
تِلكُم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ لَمحَةٌ مُوجَزَةٌ عَن حَيَاةِ سَيِّدَةٍ مِن سَيِّدَاتِ نِسَاءِ العَالمِينَ ، خَدِيجَةُ بِنتُ خُوَيلَدٍ ، أُمُّ القَاسِمِ وَعبدِاللهِ وَزَينَبَ وَرُقَيَّةَ وَأُمِّ كُلثُومٍ وَفَاطِمَةَ أَبنَاءِ رَسُولِ اللهِ ، فَرَضِيَ اللهُ عَنهَا وَأَرضَاهَا ، وَرَضِيَ عَن جَمِيعِ أُمَّهَاتِ المُؤمِنِينَ ، وَجَمَعَنَا بهم وَنَبِيِّنَا في عِلِّيِّينَ ، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالحِينَ ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ، ذَلِكَ الفَضلُ مِنَ اللهِ ، وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا ، وَأَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ اللهَ لي وَلَكُم وَلجمِيعِ المُسلِمِينَ مِن كُلِّ ذَنبٍ .
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ [وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد نَقَلَ التَّأرِيخُ فِيمَا نَقَلَ مِن سِيرَةِ خَدِيجَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ كَثرَةَ الرَّاغِبِينَ في الاقتِرَانِ بها وَالطَّامِعِينَ في القُربِ مِنهَا لِثَرَائِهَا وَكَثرَةِ مَالِهَا ، غَيرَ أَنَّ تِلكَ العَفِيفَةَ الشَّرِيفَةَ الطَّاهِرَةَ لم تَرضَ أَن تَضَعَ عَينَيهَا عَلَى أَيٍّ مِن أُولَئِكَ السَّادَاتِ مِن قُرَيشٍ , وَلم تَحمِلْهَا تِجَارَتُهَا عَلَى أَن تَشتَرِكَ مَعَهُم في أُمُورٍ تَتَّصِلُ بِتِلكَ التِّجَارَةِ مُبَاشَرَةً , وَلم تَتَّخِذْ مِنَ التِّجَارَةِ ذَرِيعَةً لِلاتِّصَالِ بهم أَو سَبَبًا لِتَقوِيَةِ الرَّوَابِطِ بَينَهَا وَبَينَهُم ، لا في مَكَّةَ وَلا في غَيرِ مَكَّةَ , نَعَم ، لم يَنقُلِ التَّأرِيخُ أَنَّهَا اتَّصَلَت بِالتُّجَّارِ أَوِ اشتَرَكَت مَعَهُم في اجتِمَاعٍ خَاصٍّ أَو عَامٍّ , أَو أَنَّهَا سَارَت في رِكَابِهِم مُشَرِّقَةً أَو مُغَرِّبَةً أَو ذَاهِبَةً أَو آيِبَةً , أَو أَنَّها ذَهَبَت بِتِجَارَتِهَا إِلى الأَسوَاقِ في الدَّاخِلِ أَوِ الخَارِجِ ، لا وَاللهِ وَكَلاَّ ، بَل لَقَد كَانَت تُنِيبُ عَنهَا في ذَلِكَ الرِّجَالَ مِن خَدَمِهَا وَعَبِيدِهَا , أَو مِن رِجَالِ قُرَيشٍ الآخَرِينَ ، وَالَّذِينَ كَانَ عَلَى رَأسِهِم مَولاهَا المُخلِصُ مَيسَرَةُ ، وَالصَّادِقُ الأَمِينُ محمَّدٌ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ ، هَكَذَا كَانَت ـ عَلَيهَا مِنَ اللهِ الرَّحمَةُ وَالرِّضوَانُ ـ فَحِينَ تَأتي شَرَاذِمُ ممَّن رَضُوا بِأَن يَجعَلُوا ظُهُورَهُم جُسُورًا لِمُرُورِ مَشرُوعَاتِ تَغرِيبِ المَرأَةِ في هَذِهِ البِلادِ ، فَيُنَظِّمُوا مُؤتَمَرًا بِاسمِ هَذِهِ الطَّاهِرَةِ العَفِيفَةِ الشَّرِيفَةِ ، ثم لا تَرَى في ذَلِكَ المُؤتَمَرِ إِلاَّ اختِلاطَ الرِّجَالَ بِالنِّسَاءِ ، وَكَشفَ النِّسَاءِ وُجُوهَهُنَّ وَرُؤُوسَهُنَّ بَل وَسِيقَانَهُنَّ ، وَالدَّعوَةَ الصَّرِيحَةَ لِتَمَرُّدِ النِّسَاءِ عَلَى أَزوَاجِهِنَّ وَأَولِيَائِهِنَّ ، وَدَفعَهُنَّ لِلمُطَالَبَةِ بِالخُرُوجِ مِن مَنَازِلِهِنَّ وَالبَحثِ عَن عَمَلٍ بَينَ الرِّجَالِ في بِيئَاتٍ مُختَلِطَةٍ ، أَقُولُ حِينَ يَحصُلُ كُلُّ ذَلِكَ ، فَقَد ظُلِمَت هَذِهِ الكَرِيمَةُ العَظِيمَةُ ، وَأُسِيءَ إِلى تِلكُمُ الشَّرِيفَةِ العَفِيفَةِ ، بَل وَاعتُدِيَ مِن وَرَاءِ ذَلِكَ عَلَى زَوجِهَا الحَبِيبِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ الَّذِي جَاءَ مِن عِندِ رَبِّهِ بِأَمرِ النِّسَاءِ بِالقَرَارِ في بُيُوتِهِنَّ وَحِفظِ أَعرَاضِهِنَّ وَعَدَمِ خُضُوعِهِنَّ بِالقَولِ ،، فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَلْنَنتَبِهْ لِمَا يُرَادُ بِنَا في هَذِهِ البِلادِ ، فَإِنَّ الخِطَطَ المَاكِرَةَ عَادَت وَاضِحَةً لِكُلِّ ذِي عَقلٍ وَلُبٍّ .
وَإِنَّهُ حِينَ يُفتي الرَّاسِخُونَ في العِلمِ بِعَدَمِ جَوَازِ عَمَلِ المَرأَةِ مُختَلِطَةً بِالرِّجَالِ ، فَلا حَاجَةَ بِنَا بَعدُ إِلى مَؤتَمَرَاتٍ يُشَارِكُ فِيهَا مَن لم يُعرَفْ بِعلمٍ وَلا اجتِهَادٍ ، وَيُدعَى إِلَيهَا أَشخَاصٌ يَجلِسُونَ إِلى النِّسَاءِ جَنبًا لِجَنبٍ وَهُنَّ كَاشِفَاتٌ وُجُوهَهُنَّ وَنَحُورَهُنَّ بَل وَسِيقَانَهُنَّ .
وَإِنَّنَا لَعَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ لَن يَأتيَ خَيرٌ وَلا فَلاحٌ ولا صَلاحٌ مِن مُؤتَمَرَاتِ كَهَذِهِ المُؤتَمَرَاتِ بَلِ المُؤَامَرَاتِ ، نَعَم ، لَن يَأتيَ خَيرٌ مِن محفَلٍ تَختَلِطُ المَرأَةُ فِيهِ بِالرَّجُلِ ، وتُجلَبُ فِيهِ المُغَنِّيَاتُ وَيُحتَفَي فِيهِ بِالكَافِرَاتِ , وَتُتَّهَمُ فِيهِ الصَّحَابِيَاتُ بِالتَّقصِيرِ وَعَدَمِ المُطَالَبَةِ بِالحُقُوقِ , وَيُقَالُ فِيهِ عَلَى اللهِ بِغَيرِ عِلمٍ , وَتُنسَبُ فِيهِ أَحكَامُ الشَّرِيعَةِ لِلتَّقَالِيدِ , وَيُسخَرُ فِيهِ مِنَ المَحرَمِ , وَتُوصَفُ فِيهِ القِوَامَةُ بِأَنَّهَا تَدَخُّلٌ في الحُرِّيَّةِ وَتَكرِيسٌ لِسُلطَةِ الرَّجُلِ أَو نَحوِ ذَلِكَ , وَتَبلُغُ الوَقَاحَةُ بِأَحَدِ كُبَرَاءِ المُشَارِكِينَ إِلى أَن يُعلِنَ بِجُرأَةٍ سَافِرَةٍ أَنَّ العَمَلَ عَلَى تَوظِيفِ المَرأةِ لَن يَقِفَ إِلاَّ عِندَ حَدِّ التِحَامِ أَجسَادِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ . وأَمَّا حِينَ يَحصُلُ كُلُّ ذَلِكَ بِاسمِ أُمِّ المُؤمِنِينَ خَدِيجَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ فَمَا أَحَقَّنَا أَن نُبَرِّئَهَا مِن كُلِّ هَذَا الكَذِبِ وَالزُّورِ ، الَّذِي هُوَ تَدنِيسٌ لِمَكَانَتِهَا وَإِيذَاءٌ لِلحَبِيبِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَلا خَيرَ فِينَا إِذَا نَحنُ لم نَفعَلْ ذَلِكَ ، لا خَيرَ فِينَا إِذَا أُوذِيَ نَبِيُّنَا بِابتِذَالِ عِرضِهِ ثم سَكَتْنَا [وَالَّذِينَ يُؤذُونَ رَسُولَ اللهِ لهم عَذَابٌ أَلِيمُ] وإِنَّ مِثلَ هَذِهِ المُؤتَمَرَاتِ وَاللِّقَاءَاتِ المَشبُوهَةِ ، وَإِن رَأَسَهَا مَن رَأَسَهَا أَو شَارَكَ فِيهَا مَن شَارَكَ أَو دَعَمَهَا مَن دَعَمَهَا ، مِن أُمَرَاءَ أَو وُزَرَاءَ أَو كُبَرَاءَ , أَو استُضِيفَ فِيهَا بَعضُ مَن زِيُّهُم زِيُّ العُلَمَاءِ ، إِنَّهَا لَحَربٌ عَلَى الفَضِيلَةِ وَتَأصِيلٌ لِلرَّذِيلَةِ ، وَأَمَّا مَا يُرَدَّدُ فِيهَا مِن شِعَارَاتِ ، كَالحُرِّيَّةِ وَالمُسَاوَاةِ وَالعَدلِ ، وَالتَّنمِيَةِ وَالمُشَارَكَةِ ، وَغَيرِهَا مِنَ الشِّعَارَاتِ البَرَّاقَةِ الخَدَّاعَةِ , فَإِنَّمَا هِيَ في حَقِيقَتِهَا مُنَاقَضَةٌ سَافِرَةٌ لِكَثِيرٍ مِن تَشرِيعَاتِ الإِسلامِ وَمُبَادِئِهِ , مُصَادَمَةٌ لِقِيَمِ المُجتَمَعِ وَعَادَاتِهِ وَأَخلاقِ أَهلِهِ , وَأَيُّ حُرِّيَّةٍ تِلكَ الَّتي تُخرِجُ المَرأَةَ مِن عِصمَةِ الرَّجُلِ لِتُسَافِرَ وَحدَهَا , وَتَخلُوَ بِمَن أَرَادَت بِلا مَحرَمٍ . وَوَاللهِ لَو كَانُوا صَادِقِينَ في مُنَاقَشَةِ قَضَايَا المُجتَمَعِ وَمُشَارَكَةِ المَرأَةِ هُمُومَهَا ، لَمَا طَالَبُوا بِإِخرَاجِهَا مِن بَيتِهَا وَتَعرِيضِهَا لِمُخَالَفَةِ أَوَامِرِ رَبِّهَا ، وَكَيفَ يَحِقُّ لهم أَن يَزعُمُوا أَنهم حَرِيصُونَ عَلَى المَرأَةِ وَهُم أَنفُسُهُم مَن يُبَارِكُ أَعمَالَ الفَنِّ وَيَدعَمُ قَنَوَاتِ العُهرِ ؟ أَلا سَاءَ مَا يَحكُمُونَ . أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَلْنَنتَبِهْ لما يُرَادُ بِنَا ، فَإِنَّ السَّعِيدَ مَن وُعِظَ بِغَيرِهِ.
- السبب في عدم زواج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة رضي الله عنها حتى ماتت
- رحمك الله يا خديجة عبدالماجد
- سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله وأكبر
- أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بين محبة الصادقين وتشويه المدعين
- السيرة - سيرة الصحابيات الجليلات - أمهات المؤمنين - سيرة السيدة خديجة بنت خويلد - الدرس 8-8 : قلادة خديجة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى