رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ :
فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَالإِحسَانِ إِلى عِبَادِهِ ، فَبِذَلِكَ تُنَالُ مَعِيَّتُهُ وَتُدرَكُ رَحمتُهُ ، وَيُستَدَرُّ جُودُهُ وَيُستَنزَلُ إِحسَانُهُ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ :" هَل جَزَاءُ الإِحسَانِ إِلاَّ الإِحسَانُ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَبَينَ الفَينَةِ وَالأُخرَى يَخرَجُ المُسلِمُونَ يَستَسقُونَ ، يَطلُبُونَ الغَيثَ وَيَستَنزِلُونَ الرَّحمَةَ ، وَالغَيثُ ـ وَلا شَكَّ ـ رَحمَةٌ مِنَ اللهِ يُصِيبُ بها مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَهُوَ الَّذِي أَرسَلَ الرِّيَاحَ بُشرًا بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ وَأَنزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيثَ مِن بَعدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحمَتَهُ وَهُوَ الوَليُّ الحَمِيدُ "
نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ الغَيثَ رَحمَةٌ مِنَ اللهِ لا يَقدِرُ عَلَى إِنزَالِهَا إِلاَّ اللهُ ، وَإِنما يَرحَمُ اللهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ ، وَالرَّاحِمُونَ يَرحمُهُمُ الرَّحمنُ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ ممَّا تُستَجلَبُ بِهِ رَحمَةُ اللهِ وَتُستَنزَلُ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ ، أَن يَتَرَاحَمَ مَن في الأَرضِ وَيُشِيعُوا الإِحسَانَ فِيمَا بَينَهُم ، وَأَن يَعطِفَ بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ وَيَرفُقَ بَعضُهُم بِبَعضٍ ، وَأَن يُحِبَّ كُلٌّ مِنهُم لإِخوانِهِ مِنَ الخَيرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفسِهِ ، وَإِنَّ اللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ إِذَا أَرَادَ رَحمَةَ قَومٍ أَسكَنَ في قُلُوبِهِم الرَّحمَةَ وَأَودَعَهَا الرَّأفَةَ، وَوَفَّقَهُم إلى التَّوَاصِي بِالصَّبرِ وَالمَرحَمَةِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَن يُعَذِّبَهُم نَزَعَ مِن قُلُوبِهِمُ الرَّحمَةَ وَسَلَبَهُمُ الرَّأفَةَ ، وَأَبدَلَهُم بِهِمَا الغِلظَةَ وَالجَفَاءَ وَالقَسوَةَ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ مُمتَدِحٍا أَهلَ المَيمَنَةِ : " وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ وَتَوَاصَوا بِالمَرحَمَةِ " وفي الحَدِيثِ أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَالَ : " اِرحَمُوا مَن في الأَرضِ يَرحَمْكُم مَن في السَّمَاءِ" وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ؛ لا يَضَعُ اللهُ رَحمَتَهُ إِلاَّ عَلَى رَحِيمٍ " قَالُوا : كُلُّنَا يَرحَمُ . قال : " لَيسَ بِرَحمَةِ أَحَدِكُم صَاحِبَهُ ؛ يَرحَمُ النَّاسَ كَافَّةً " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لا تُنزَعُ الرَّحمَةُ إِلاَّ مِن شَقِيٍّ " وفي الصَّحِيحِ أيضًا : " مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِذَا أَشرَقَ نُورُ الإِيمَانِ في قَلبٍ وَمُلِئَ بِاليَقِينِ بِوَعدِ اللهِ وَامتَلأَ مِن مَحَبَّتِهِ وَإِجلالِهِ ، فَإِنَّهُ يَرِقُّ وَيَلِينُ وَيَخشَعُ ، فَلا تَرَاهُ إِلاَّ رَحِيمًا رَفِيقًا رَقِيقًا ، يَرحَمُ النَّملَةَ في جُحرِهَا وَالطَّيرَ في وَكرِهِ ، فَضلاً عَن بَني جِنسِهِ مِنَ الآدَمِيِّينَ ، فَكَيفَ بِمَن لَهُ عَلَيهِ حَقٌّ مِن وَالِدٍ وَوَلَدٍ وَأَخٍ وَقَرِيبٍ ، وَابنِ عَمٍّ وَذِي رَحِمٍ أَو صَدِيقٍ ، أَو جَارٍ أَو صَاحِبٍ أَو رَفِيقٍ ؟ فَهَذَا أَقرَبُ القُلُوبِ مِنَ اللهِ وَأَحرَاهَا بِرَحمَتِهِ وَإِجَابَةِ دَعوَةِ صَاحِبِهِ ، وَإِنَّهُ مَا مُنِعَ النَّاسُ رَحمَةَ رَبِّهِم وَأَبطَأَت إِجَابَةُ دُعَائِهِم في كَثِيرٍ مِنَ الأَحيَانِ ، إِلاَّ يَومَ أَن نُزِعَتِ الرَّحمَةُ مِن قُلُوبِهِم وَأُلقِيَ الشُّحُّ في نُفُوسِهِم ، وَاتَّصَفُوا بِالأَثَرَةِ وَاستِعلاءِ النُّفُوسِ وَالانكِفَاءِ عَلَى الذَّاتِ ، فَتَرَكُوا الأَمرَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيَ عَنِ المُنكَرِ ، وَتَهَاوَنُوا بما يُملِيهِ عَلَيهِم وَاجِبُ الوِلايَةِ لِلمُؤمِنِينَ وَأُخُوَّتِهِم مِن مَحَبَّتِهِم وَالنُّصحِ لهم ، لَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ مُبَيِّنًا عِظَمَ ذَلِكَ الأَمرِ وَعُلُوَّ شَأنِ أَهلِهِ ، وَضَرُورَتَهُ في تَنَزُّلِ الرَّحمَةِ وَشُمُولِهَا : " وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرحمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ فَسَأَكتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوبًا عِندَهُم في التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهَاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلاَلَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ " فَهَذِهِ صِفَاتُ مَن تَشمَلُهُم رَحمَةُ اللهِ ، إِيمَانٌ بِاللهِ وَتَقوَى ، وَمَحَبَّةٌ لِلمُؤمِنِينَ وَوِلايَةٌ لهم ، وَأَمرٌ بِالمَعرُوفِ وَنَهيٌ عَنِ المُنكَرِ ، وَإِقَامَةٌ لِلصَّلاةِ وَإِيتَاءٌ لِلزَّكَاةِ ، وَطَاعَةٌ للهِ وَلِرَسُولِهِ ، وَتَنَاوُلٌ لِلطَّيِّبَاتِ وَاجتِنَابٌ لِلخَبَائِثِ ، فَمَتى تَحَقَّقَت هَذِهِ الصِّفَاتُ الكَرِيمَةُ في مُجتَمَعِ المُسلِمِينَ فَلْيَرتَقِبُوا رَحمَةَ اللهِ وَلْيَنتَظِرُوهَا فَإِنَّهَا قَرِيبَةٌ ، وَمَا لم يُحَقِّقُوهَا وَعَمِلُوا بِضِدِّهَا ، فَلا يَلُومُوا إِلاَّ أَنفُسَهُم إِذَا ارتَفَعَتِ الرَّحمَةُ عَنهُم وَحَلَّ بِهِمُ الشَّقَاءُ ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ إِخوَةَ الإِسلامِ ـ وَلْنَتَرَاحَمْ وَلْنَفعَلِ الخَيرَ وَلْنَصنَعِ المَعرُوفَ ، وَلْنُفَرِّجِ الكُرُبَاتِ وَلْنُكثِرْ مِنَ الصَّدَقَاتِ ، وَلْنَشكُرِ اللهَ عَلَى مَا في أَيدِينَا وِلْنُحسِنْ ، يُبَارِكْ لَنَا فِيهِ وَيَزِدْنَا وَيَرحَمْنَا وَيُفَرِّجْ عَنَّا ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابي لَشَدِيدٌ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيَا وَأَحسِنْ كَمَا أَحسَنَ اللهُ إِلَيكَ وَلا تَبغِ الفَسَادَ في الأَرضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفسِدِينَ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن نَفَّسَ عَن مُؤمِنٍ كُربَةً مِن كُرَبِ الدُّنيَا نَفَّسَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ ، وَمَن يَسَّرَ عَلَى مُعسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، وَاللهُ في عَونِ العَبدِ مَا كَانَ العَبدُ في عَونِ أَخِيهِ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ"
أَيُّهَا المُسلِمونَ ، يَقُولُ ـ سُبحَانَهُ ـ وَاصِفًا نَبِيَّهُ الكَرِيمَ وَصَحبَهُ المُؤمِنِينَ : " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاء بَينَهُم تَرَاهُم رُكَّعًا سُجَّدًا يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضوَانًا سِيمَاهُم في وُجُوهِهِم مِن أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُم في التَّورَاةِ وَمَثَلُهُم في الإِنجِيلِ كَزَرعٍ أَخرَجَ شَطأَهُ فَآزَرَهُ فَاستَغلَظَ فَاستَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنهُم مَغفِرَةً وَأَجرًا عَظِيمًا " .
تَأَمَّلُوا ـ يَا رَعَاكُمُ اللهُ ـ بِمَ وَصَفَهُمُ اللهُ ؟! إِنَّهُم رُكَّعٌ سُجَّدٌ ، مُقِيمُونَ لِلصَّلاةِ مُحَافِظُونَ عَلَيهَا ، يَبتَغُونَ فَضلَ اللهِ وَرِضوَانَهُ ، طَالِبِينَ جُودَهُ وَرَحمتَهُ وَإِحسَانَهُ ، وَلَكِنْ ، هَلْ تَأَمَّلَ مِنَّا مُتَأَمِّلٌ في بِدَايَةِ صِفَاتِهِم الَّتي وَصَفَهُم بها رَبُّهُم ؟! إِنَّهَا لم تَكُنِ الصَّلاةَ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا وَعِظَمِ شَأنِهَا وَجَلالَةِ قَدرِهَا ، فَبِمَاذَا بَدَأَت إِذًا ؟!
لَقَد بَدَأَت صِفَاتُهُم بِأَن وَسَمَهُمُ اللهُ بِأَنَّهُم رُحَمَاءُ بَينَهُم ، اللهَ أَكبَرُ ، إِنَّهُم رُحَمَاءُ رَفِيقُو القُلُوبِ رَقِيقُو الأَفئِدَةِ ، هَينُونَ لَينُونَ مُتَوَاضِعُونَ ، مُوَطَّؤُو الأَكنَافِ سَمحَةٌ وُجُوهُهُم ، يُشفِقُ بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ وَيَرحَمُ بَعضُهُم بَعضًا ، فَهَل رَأَيتُم مَدحًا لِلتَّرَاحُمِ أَعظَمَ مِن هَذَا ؟ اللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ يُقَدِّمُ الوَصفَ بِالتَّرَاحُمِ عَلَى الوَصفِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، فَلِمَاذَا يَا أُمَّةَ الإِسلامِ وَالإِيمَانِ ؟ لماذا يَا أُمَّةَ الصَّلاةِ وَالقُرآنِ ؟ لِيُبَيِّنَ لِلأُمَّةِ أَن لا خَيرَ في أُنَاسٍ يَركَعُونَ وَيَسجُدُونَ ، فَإِذَا خَرَجُوا مِن مَسَاجِدِهِم تَشَاحُّوا وَتَظَالَمُوا ، وَلم يَتَسَامَحُوا بَينَهُم وَلم يَتَرَاحَمُوا ، إِنَّ مَن يَفعَلُ هَذَا فَلَيسَ عَلَى طَرِيقَةِ محمدٍ وَأَصحَابِهِ ، إِنَّ مَن يَتَّصِفُ بهذا فَلَيسَ عَلَى هَديِهِم وَلا سَبِيلِهِم ، يُؤَكِّدُ هَذَا الأَمرَ الحَبِيبُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَيُصَرِّحُ بِهِ حَيثُ يَقُولُ : " لَيسَ مِنَّا مَن لم يَرحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا " وَإِنَّكَ لَتَرَى في مُجتَمَعَاتِنَا اليَومَ مِن ذَلِكَ عَجَبًا عُجَابًا ، وَتَتَمَلَّكُكَ الدَّهشَةُ وَأَنتَ تَرَى أُنَاسًا يُصَلُّونَ وَيَركَعُونَ وَيَسجُدُونَ ، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالجُمَعِ وَالجَمَاعَاتِ ، ثم تَرَى مِنهُم بَعدَ ذَلِكَ مَن يَظلِمُ وَيعتَدِي ، تَرَى مِنهُم مَن يَأكُلُ حَقَّ غَيرِهِ وَلا يَنتَهِي ، تَرَى مَن يَشهَدُ بِالزُّورِ وَيَرتَشِي ، تَرَى القَاطِعَ لِرَحِمِهِ الهَاجِرَ لِقَرَابَاتِهِ ، تَرَى العَاقَّ لِوَالِدَيهِ المُسِيءَ إِلى مَن لَهُ حَقٌّ عَلَيهِ ، فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ! أَينَ التَّرَاحُمُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ مِن آثَارِ الصَّلاةِ ؟ أَينَ أَثَرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ؟ إِنَّ مَن يَحنِي ظَهرَهُ للهِ رَاكِعًا ، ويُعَفِّرُ جَبهَتَهُ لِمَولاهُ سَاجِدًا ، إِنَّ مَن يَفعَلُ ذَلِكَ وَهُوَ مُخلِصٌ صَادِقٌ ، فَقَد سَلَكَ سَبِيلَ الخُشُوعِ وَالخُضُوعِ للهِ وَحَقَّقَ العُبُودِيَّةَ في أَكمَلِ صُوَرِهَا وَأَبهَاهَا ، وَسَيَظهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ في مَلامِحِ وَجهِهِ وَفي سُلُوكِهِ وَلا بُدَّ ، حَيثُ تَتَوَارَى الخُيَلاءُ وَالكِبرِيَاءُ وَالاستِعلاءُ ، وَيَحِلُّ مَحَلَّهَا التَّوَاضُعُ وَالتَّطَامُنُ وَالشَّفَقَةُ ، وَمَحَبَّةُ الخَلقِ وَالإِحسَانُ إِلَيهِم وَالرَّحمَةُ بهم ، وَإِذَا هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَن يُخزِيَهُ اللهُ أَبَدًا ، لَن يَتَخَلَّى عَنهُ رَبُّهُ ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلْنَقتَدِ بِخَيرِ الأُمَّةِ وَأعلَمِهَا بِاللهِ ، وَلْنَتَرَاحَمْ وَلَيُحسِنْ غَنِيُّنَا لِفقِيرِنَا ، وَلْيَرحَمْ قَوِيُّنَا ضَعِيفَنَا ، فَإِنَّ الإِحسَانَ فَوزٌ وَنَجَاةٌ ، وَتَركَهُ خَسَارَةٌ وَهَلَكَةٌ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَأَنفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلقُوا بِأَيدِيكُم إِلى التَّهلُكَةِ وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ " وَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ محمدُ بنُ عَبدِاللهِ ـ صَلَوَاتُ رَبي عَلَيهِ وَسَلامُهُ ـ مِن أَكثَرِ النَّاسِ إِحسَانًا فَقَد عَرَفَ مُعَاصِرُوهُ مِمَّن رُزِقُوا الفِرَاسَةَ قَبلَ الإِيمَانَ أَنَّهُ لَيسَ بِخَائِبٍ وَلا مُخزًى أَبَدًا ، فَفِي البُخَارِيِّ أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ النَّامُوسُ في غَارِ حِرَاءٍ وَرَجَعَ إِلى بَيتِهِ يَرتَجِفُ فُؤَادُهُ وَقَالَ لِزَوجِهِ خَدِيجَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ : " لَقَد خَشِيتُ عَلَى نَفسِي " وَأَخبَرَهَا الخَبَرَ قَالَت : كَلاَّ ، أَبشِرْ فَوَاللهِ لا يُخزِيكَ اللهُ أَبَدًا ، فَوَاللهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصدُقُ الحَدِيثَ وَتَحمِلُ الكَلَّ وَتَكسِبُ المَعدُومَ وَتَقرِي الضَّيفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ . وَقَد كَانَ مِن أَمرِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مَا كَانَ ، وَصَدَقَت فِرَاسَةُ تِلكَ المُؤمِنَةِ الطَّاهِرَةِ ، فَلَم يُخزِهِ اللهُ في الدُّنيَا وَلَن يُخزِيَهُ في الآخِرَةِ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَحسِنُوا ؛ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ .
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ :
فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَالإِحسَانِ إِلى عِبَادِهِ ، فَبِذَلِكَ تُنَالُ مَعِيَّتُهُ وَتُدرَكُ رَحمتُهُ ، وَيُستَدَرُّ جُودُهُ وَيُستَنزَلُ إِحسَانُهُ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ :" هَل جَزَاءُ الإِحسَانِ إِلاَّ الإِحسَانُ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَبَينَ الفَينَةِ وَالأُخرَى يَخرَجُ المُسلِمُونَ يَستَسقُونَ ، يَطلُبُونَ الغَيثَ وَيَستَنزِلُونَ الرَّحمَةَ ، وَالغَيثُ ـ وَلا شَكَّ ـ رَحمَةٌ مِنَ اللهِ يُصِيبُ بها مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَهُوَ الَّذِي أَرسَلَ الرِّيَاحَ بُشرًا بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ وَأَنزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيثَ مِن بَعدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحمَتَهُ وَهُوَ الوَليُّ الحَمِيدُ "
نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ الغَيثَ رَحمَةٌ مِنَ اللهِ لا يَقدِرُ عَلَى إِنزَالِهَا إِلاَّ اللهُ ، وَإِنما يَرحَمُ اللهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ ، وَالرَّاحِمُونَ يَرحمُهُمُ الرَّحمنُ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ ممَّا تُستَجلَبُ بِهِ رَحمَةُ اللهِ وَتُستَنزَلُ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ ، أَن يَتَرَاحَمَ مَن في الأَرضِ وَيُشِيعُوا الإِحسَانَ فِيمَا بَينَهُم ، وَأَن يَعطِفَ بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ وَيَرفُقَ بَعضُهُم بِبَعضٍ ، وَأَن يُحِبَّ كُلٌّ مِنهُم لإِخوانِهِ مِنَ الخَيرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفسِهِ ، وَإِنَّ اللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ إِذَا أَرَادَ رَحمَةَ قَومٍ أَسكَنَ في قُلُوبِهِم الرَّحمَةَ وَأَودَعَهَا الرَّأفَةَ، وَوَفَّقَهُم إلى التَّوَاصِي بِالصَّبرِ وَالمَرحَمَةِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَن يُعَذِّبَهُم نَزَعَ مِن قُلُوبِهِمُ الرَّحمَةَ وَسَلَبَهُمُ الرَّأفَةَ ، وَأَبدَلَهُم بِهِمَا الغِلظَةَ وَالجَفَاءَ وَالقَسوَةَ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ مُمتَدِحٍا أَهلَ المَيمَنَةِ : " وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ وَتَوَاصَوا بِالمَرحَمَةِ " وفي الحَدِيثِ أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَالَ : " اِرحَمُوا مَن في الأَرضِ يَرحَمْكُم مَن في السَّمَاءِ" وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ؛ لا يَضَعُ اللهُ رَحمَتَهُ إِلاَّ عَلَى رَحِيمٍ " قَالُوا : كُلُّنَا يَرحَمُ . قال : " لَيسَ بِرَحمَةِ أَحَدِكُم صَاحِبَهُ ؛ يَرحَمُ النَّاسَ كَافَّةً " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لا تُنزَعُ الرَّحمَةُ إِلاَّ مِن شَقِيٍّ " وفي الصَّحِيحِ أيضًا : " مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِذَا أَشرَقَ نُورُ الإِيمَانِ في قَلبٍ وَمُلِئَ بِاليَقِينِ بِوَعدِ اللهِ وَامتَلأَ مِن مَحَبَّتِهِ وَإِجلالِهِ ، فَإِنَّهُ يَرِقُّ وَيَلِينُ وَيَخشَعُ ، فَلا تَرَاهُ إِلاَّ رَحِيمًا رَفِيقًا رَقِيقًا ، يَرحَمُ النَّملَةَ في جُحرِهَا وَالطَّيرَ في وَكرِهِ ، فَضلاً عَن بَني جِنسِهِ مِنَ الآدَمِيِّينَ ، فَكَيفَ بِمَن لَهُ عَلَيهِ حَقٌّ مِن وَالِدٍ وَوَلَدٍ وَأَخٍ وَقَرِيبٍ ، وَابنِ عَمٍّ وَذِي رَحِمٍ أَو صَدِيقٍ ، أَو جَارٍ أَو صَاحِبٍ أَو رَفِيقٍ ؟ فَهَذَا أَقرَبُ القُلُوبِ مِنَ اللهِ وَأَحرَاهَا بِرَحمَتِهِ وَإِجَابَةِ دَعوَةِ صَاحِبِهِ ، وَإِنَّهُ مَا مُنِعَ النَّاسُ رَحمَةَ رَبِّهِم وَأَبطَأَت إِجَابَةُ دُعَائِهِم في كَثِيرٍ مِنَ الأَحيَانِ ، إِلاَّ يَومَ أَن نُزِعَتِ الرَّحمَةُ مِن قُلُوبِهِم وَأُلقِيَ الشُّحُّ في نُفُوسِهِم ، وَاتَّصَفُوا بِالأَثَرَةِ وَاستِعلاءِ النُّفُوسِ وَالانكِفَاءِ عَلَى الذَّاتِ ، فَتَرَكُوا الأَمرَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيَ عَنِ المُنكَرِ ، وَتَهَاوَنُوا بما يُملِيهِ عَلَيهِم وَاجِبُ الوِلايَةِ لِلمُؤمِنِينَ وَأُخُوَّتِهِم مِن مَحَبَّتِهِم وَالنُّصحِ لهم ، لَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ مُبَيِّنًا عِظَمَ ذَلِكَ الأَمرِ وَعُلُوَّ شَأنِ أَهلِهِ ، وَضَرُورَتَهُ في تَنَزُّلِ الرَّحمَةِ وَشُمُولِهَا : " وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرحمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ فَسَأَكتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوبًا عِندَهُم في التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهَاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلاَلَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ " فَهَذِهِ صِفَاتُ مَن تَشمَلُهُم رَحمَةُ اللهِ ، إِيمَانٌ بِاللهِ وَتَقوَى ، وَمَحَبَّةٌ لِلمُؤمِنِينَ وَوِلايَةٌ لهم ، وَأَمرٌ بِالمَعرُوفِ وَنَهيٌ عَنِ المُنكَرِ ، وَإِقَامَةٌ لِلصَّلاةِ وَإِيتَاءٌ لِلزَّكَاةِ ، وَطَاعَةٌ للهِ وَلِرَسُولِهِ ، وَتَنَاوُلٌ لِلطَّيِّبَاتِ وَاجتِنَابٌ لِلخَبَائِثِ ، فَمَتى تَحَقَّقَت هَذِهِ الصِّفَاتُ الكَرِيمَةُ في مُجتَمَعِ المُسلِمِينَ فَلْيَرتَقِبُوا رَحمَةَ اللهِ وَلْيَنتَظِرُوهَا فَإِنَّهَا قَرِيبَةٌ ، وَمَا لم يُحَقِّقُوهَا وَعَمِلُوا بِضِدِّهَا ، فَلا يَلُومُوا إِلاَّ أَنفُسَهُم إِذَا ارتَفَعَتِ الرَّحمَةُ عَنهُم وَحَلَّ بِهِمُ الشَّقَاءُ ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ إِخوَةَ الإِسلامِ ـ وَلْنَتَرَاحَمْ وَلْنَفعَلِ الخَيرَ وَلْنَصنَعِ المَعرُوفَ ، وَلْنُفَرِّجِ الكُرُبَاتِ وَلْنُكثِرْ مِنَ الصَّدَقَاتِ ، وَلْنَشكُرِ اللهَ عَلَى مَا في أَيدِينَا وِلْنُحسِنْ ، يُبَارِكْ لَنَا فِيهِ وَيَزِدْنَا وَيَرحَمْنَا وَيُفَرِّجْ عَنَّا ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابي لَشَدِيدٌ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيَا وَأَحسِنْ كَمَا أَحسَنَ اللهُ إِلَيكَ وَلا تَبغِ الفَسَادَ في الأَرضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفسِدِينَ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن نَفَّسَ عَن مُؤمِنٍ كُربَةً مِن كُرَبِ الدُّنيَا نَفَّسَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ ، وَمَن يَسَّرَ عَلَى مُعسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، وَاللهُ في عَونِ العَبدِ مَا كَانَ العَبدُ في عَونِ أَخِيهِ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ"
أَيُّهَا المُسلِمونَ ، يَقُولُ ـ سُبحَانَهُ ـ وَاصِفًا نَبِيَّهُ الكَرِيمَ وَصَحبَهُ المُؤمِنِينَ : " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاء بَينَهُم تَرَاهُم رُكَّعًا سُجَّدًا يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضوَانًا سِيمَاهُم في وُجُوهِهِم مِن أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُم في التَّورَاةِ وَمَثَلُهُم في الإِنجِيلِ كَزَرعٍ أَخرَجَ شَطأَهُ فَآزَرَهُ فَاستَغلَظَ فَاستَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنهُم مَغفِرَةً وَأَجرًا عَظِيمًا " .
تَأَمَّلُوا ـ يَا رَعَاكُمُ اللهُ ـ بِمَ وَصَفَهُمُ اللهُ ؟! إِنَّهُم رُكَّعٌ سُجَّدٌ ، مُقِيمُونَ لِلصَّلاةِ مُحَافِظُونَ عَلَيهَا ، يَبتَغُونَ فَضلَ اللهِ وَرِضوَانَهُ ، طَالِبِينَ جُودَهُ وَرَحمتَهُ وَإِحسَانَهُ ، وَلَكِنْ ، هَلْ تَأَمَّلَ مِنَّا مُتَأَمِّلٌ في بِدَايَةِ صِفَاتِهِم الَّتي وَصَفَهُم بها رَبُّهُم ؟! إِنَّهَا لم تَكُنِ الصَّلاةَ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا وَعِظَمِ شَأنِهَا وَجَلالَةِ قَدرِهَا ، فَبِمَاذَا بَدَأَت إِذًا ؟!
لَقَد بَدَأَت صِفَاتُهُم بِأَن وَسَمَهُمُ اللهُ بِأَنَّهُم رُحَمَاءُ بَينَهُم ، اللهَ أَكبَرُ ، إِنَّهُم رُحَمَاءُ رَفِيقُو القُلُوبِ رَقِيقُو الأَفئِدَةِ ، هَينُونَ لَينُونَ مُتَوَاضِعُونَ ، مُوَطَّؤُو الأَكنَافِ سَمحَةٌ وُجُوهُهُم ، يُشفِقُ بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ وَيَرحَمُ بَعضُهُم بَعضًا ، فَهَل رَأَيتُم مَدحًا لِلتَّرَاحُمِ أَعظَمَ مِن هَذَا ؟ اللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ يُقَدِّمُ الوَصفَ بِالتَّرَاحُمِ عَلَى الوَصفِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، فَلِمَاذَا يَا أُمَّةَ الإِسلامِ وَالإِيمَانِ ؟ لماذا يَا أُمَّةَ الصَّلاةِ وَالقُرآنِ ؟ لِيُبَيِّنَ لِلأُمَّةِ أَن لا خَيرَ في أُنَاسٍ يَركَعُونَ وَيَسجُدُونَ ، فَإِذَا خَرَجُوا مِن مَسَاجِدِهِم تَشَاحُّوا وَتَظَالَمُوا ، وَلم يَتَسَامَحُوا بَينَهُم وَلم يَتَرَاحَمُوا ، إِنَّ مَن يَفعَلُ هَذَا فَلَيسَ عَلَى طَرِيقَةِ محمدٍ وَأَصحَابِهِ ، إِنَّ مَن يَتَّصِفُ بهذا فَلَيسَ عَلَى هَديِهِم وَلا سَبِيلِهِم ، يُؤَكِّدُ هَذَا الأَمرَ الحَبِيبُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَيُصَرِّحُ بِهِ حَيثُ يَقُولُ : " لَيسَ مِنَّا مَن لم يَرحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا " وَإِنَّكَ لَتَرَى في مُجتَمَعَاتِنَا اليَومَ مِن ذَلِكَ عَجَبًا عُجَابًا ، وَتَتَمَلَّكُكَ الدَّهشَةُ وَأَنتَ تَرَى أُنَاسًا يُصَلُّونَ وَيَركَعُونَ وَيَسجُدُونَ ، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالجُمَعِ وَالجَمَاعَاتِ ، ثم تَرَى مِنهُم بَعدَ ذَلِكَ مَن يَظلِمُ وَيعتَدِي ، تَرَى مِنهُم مَن يَأكُلُ حَقَّ غَيرِهِ وَلا يَنتَهِي ، تَرَى مَن يَشهَدُ بِالزُّورِ وَيَرتَشِي ، تَرَى القَاطِعَ لِرَحِمِهِ الهَاجِرَ لِقَرَابَاتِهِ ، تَرَى العَاقَّ لِوَالِدَيهِ المُسِيءَ إِلى مَن لَهُ حَقٌّ عَلَيهِ ، فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ! أَينَ التَّرَاحُمُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ مِن آثَارِ الصَّلاةِ ؟ أَينَ أَثَرُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ؟ إِنَّ مَن يَحنِي ظَهرَهُ للهِ رَاكِعًا ، ويُعَفِّرُ جَبهَتَهُ لِمَولاهُ سَاجِدًا ، إِنَّ مَن يَفعَلُ ذَلِكَ وَهُوَ مُخلِصٌ صَادِقٌ ، فَقَد سَلَكَ سَبِيلَ الخُشُوعِ وَالخُضُوعِ للهِ وَحَقَّقَ العُبُودِيَّةَ في أَكمَلِ صُوَرِهَا وَأَبهَاهَا ، وَسَيَظهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ في مَلامِحِ وَجهِهِ وَفي سُلُوكِهِ وَلا بُدَّ ، حَيثُ تَتَوَارَى الخُيَلاءُ وَالكِبرِيَاءُ وَالاستِعلاءُ ، وَيَحِلُّ مَحَلَّهَا التَّوَاضُعُ وَالتَّطَامُنُ وَالشَّفَقَةُ ، وَمَحَبَّةُ الخَلقِ وَالإِحسَانُ إِلَيهِم وَالرَّحمَةُ بهم ، وَإِذَا هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَن يُخزِيَهُ اللهُ أَبَدًا ، لَن يَتَخَلَّى عَنهُ رَبُّهُ ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلْنَقتَدِ بِخَيرِ الأُمَّةِ وَأعلَمِهَا بِاللهِ ، وَلْنَتَرَاحَمْ وَلَيُحسِنْ غَنِيُّنَا لِفقِيرِنَا ، وَلْيَرحَمْ قَوِيُّنَا ضَعِيفَنَا ، فَإِنَّ الإِحسَانَ فَوزٌ وَنَجَاةٌ ، وَتَركَهُ خَسَارَةٌ وَهَلَكَةٌ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَأَنفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلقُوا بِأَيدِيكُم إِلى التَّهلُكَةِ وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ " وَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ محمدُ بنُ عَبدِاللهِ ـ صَلَوَاتُ رَبي عَلَيهِ وَسَلامُهُ ـ مِن أَكثَرِ النَّاسِ إِحسَانًا فَقَد عَرَفَ مُعَاصِرُوهُ مِمَّن رُزِقُوا الفِرَاسَةَ قَبلَ الإِيمَانَ أَنَّهُ لَيسَ بِخَائِبٍ وَلا مُخزًى أَبَدًا ، فَفِي البُخَارِيِّ أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ النَّامُوسُ في غَارِ حِرَاءٍ وَرَجَعَ إِلى بَيتِهِ يَرتَجِفُ فُؤَادُهُ وَقَالَ لِزَوجِهِ خَدِيجَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ : " لَقَد خَشِيتُ عَلَى نَفسِي " وَأَخبَرَهَا الخَبَرَ قَالَت : كَلاَّ ، أَبشِرْ فَوَاللهِ لا يُخزِيكَ اللهُ أَبَدًا ، فَوَاللهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصدُقُ الحَدِيثَ وَتَحمِلُ الكَلَّ وَتَكسِبُ المَعدُومَ وَتَقرِي الضَّيفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ . وَقَد كَانَ مِن أَمرِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مَا كَانَ ، وَصَدَقَت فِرَاسَةُ تِلكَ المُؤمِنَةِ الطَّاهِرَةِ ، فَلَم يُخزِهِ اللهُ في الدُّنيَا وَلَن يُخزِيَهُ في الآخِرَةِ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَحسِنُوا ؛ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى