رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
أو لحم خنزير فإنه رجس
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، دِينُ الإِسلامِ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى خَيرِ المُرسِلِينَ ، لا رَيبَ فِيهِ مِن رَبِّ العَالَمِينَ ، هُدًى لِلمُتَّقِينَ وَحُجَّةً عَلَى الخَلقِ أَجمَعِينَ ، فِيهِ صَلاحُ الدُّنيَا وَقِيَامُ مَصَالِحِ العِبَادِ ، وَبِهِ نَجَاتُهُم في الآخِرَةِ وَفَوزُهُم في المَعَادِ ، هُوَ دِينُ الرُّوحِ وَالجَسَدِ ، وَمَنهَجُ الفَردِ وَالجَمَاعَةِ ، وَسَبِيلُ الكَمَالِ في كُلِّ مَجَالٍ ، مَا سَبَقَ عَالِمٌ إِلى اكتِشَافٍ ، وَلا تَوَصَّلَ خَبِيرٌ إِلى اختِرَاعٍ ، وَلا وَجَدَ بَاحِثٌ في مَادَّةٍ سِرًّا نَفعًا كَانَ أَو ضُرًّا ، إِلاَّ وَفي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَيهِ أَو يُغني عَنهُ ، وَحِينَ يَنزِلُ في الكِتَابِ أَو تَأتي السُّنَّةُ بِتَحرِيمِ أَمرٍ مَا ، مَأكُولاً كَانَ أَو مَشرُوبًا ، أَو مَلبُوسًا أَو مَركُوبًا ، فَإِنَّمَا هُوَ حُكمٌ مُحكَمٌ مِن لَُدنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ " أَلا يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ " وَكَم مِن مُحَرَّمٍ نَزَلَ تَحرِيمُهُ قَبلَ أَلفٍ وَأَربَعِ مِئَةِ سَنَةٍ ، فَلَم يَكتَشِفِ العَالَمُ مَا فِيهِ مِن أَضرَارٍ جَسِيمَةٍ وَنَتَائِجَ وَخِيمَةٍ إِلاَّ في عَصرِ المَعَامِلِ المُتَخَصِّصَةِ وَالأَجهِزَةِ المُتَقَدِّمَةِ ، وَبِوَاسِطَةِ المَجَاهِرِ الدَّقِيقَةِ وَالآلاتِ الفَاحِصَةِ ، وَإِنَّهُ حِينَ تَنتَشِرُ في العَالَمِ هَذِهِ الأَيَّامَ أَنبَاءٌ عَنِ انتِشَارِ وَبَاءٍ سَبَبُهُ الخَنَازِيرُ ، فَيَفزَعُونَ لِذَلِكَ وَيَضِجُّونَ ، وَيَتَّخِذُونَ التَّدابِيرَ الوَاقِيَةَ وَيَحذَرُونَ ، وَيَفِرُّ بَعضُهُم مِن بِلادِهِم خَوفًا وَيَنفِرُونَ ، فَقَد كُنَّا نَحنُ المُسلِمِينَ عَلَى دِرَايَةٍ لا مِريَةَ فِيهَا ، بِأَنَّ أُولَئِكَ الخَارِجِينَ عَن أَمرِ رَبِّهِم وَالوَاقِعِينَ فِيمَا نَهَاهُم عَنهُ وَالمُتَعَمِّدِينَ لِمَا حَرَّمَهُ عَلَيهِم ، سَتُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَو تَحُلُّ قَرِيبًا مِن دَارِهِم ، نَقُولُ ذَلِكَ لِمَا جَاءَنَا في كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَأَجمَعَ عَلَيهِ المُسلِمُونَ مُنذُ كَانُوا مِن تَحرِيمِ لحمِ الخِنزِيرِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيكُمُ المَيتَةَ وَالدَّمَ وَلَحمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيرِ اللهِ فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثمَ عَلَيهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " حُرِّمَت عَلَيكُمُ المَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ وَالمُنخَنِقَةُ وَالمَوقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيتُم وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَستَقسِمُوا بِالأَزلاَمِ " الآيةَ ، وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيتَةً أَو دَمًا مَسفُوحًا أَو لَحمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجسٌ أَوْ فِسقًا أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " وَقَالَ ـ جَلَّ شَأنُهُ ـ : " إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيكُمُ المَيتَةَ وَالدَّمَ وَلَحمَ الخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " وَإِذَا كَانَتِ المَيتَةُ أَوِ المُتَرَدِّيَةُ أَوِ النَّطِيحَةُ وَنَحوُهَا ممَّا ذُكِرَ في هَذِهِ الآيَاتِ مِنَ الدَّمِ المَسفُوحِ أَو مَا أَكَلَ السَّبُعُ أَو مَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ ، قَد حُرِّمَت لِعِلَلٍ عَارِضَةٍ عَلَيهَا ، فَإِنَّ لحمَ الخِنزِيرِ قَدِ انفَرَدَ مِن بَينِهَا بِأَنَّهُ حَرَامٌ لِذَاتِهِ ، وَمَنهِيٌّ عَنهُ لِعِلَّةٍ مُستَقِرَّةٍ فِيهِ ، وَمُنَفَّرٌ مِنهُ لِوَصفٍ لاصِقٍ بِهِ ، ذَلِكَ أَنَّهُ رِجسٌ نَجِسٌ خَبِيثٌ قَذِرٌ ، لا خَيرَ فِيهِ وَلا مَنفَعَةَ وَلا بَرَكَةَ ، بَل كُلُّهُ شَرٌّ وَضُرٌّ وَدَاءٌ وَبِيلٌ وَمَرَضٌ وَخِيمٌ . وَكَمَا جَاءَ تَحرِيمُ لحمِ الخِنزِيرِ في القُرآنِ الكَرِيمِ ، فَقَد وَرَدَتِ الأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ دَالَّةً عَلَى تَحرِيمِ أَكلِهِ وَبَيعِهِ وَالاستِفَادَةِ مِن أَيِّ جُزءٍ مِنهُ ، حَتى وَلَو حُوِّلَ إِلى شَيءٍ آخَرَ , مِن ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسلِمٌ عَن جَابِرِ بنِ عَبدِاللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ عَامَ الفَتحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ : " إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيعَ الخَمرِ وَالمَيتَةِ وَالخِنزِيرِ وَالأَصنَامِ " فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيتَ شُحُومَ المَيتَةِ فَإِنَّهُ يُطلَى بها السُّفُنُ وَيُدهَنُ بها الجُلُودُ وَيَستَصبِحُ بها النَّاسُ ؟ فَقَالَ : " لا ، هُوَ حَرَامٌ " ثم قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عِندَ ذَلِكَ : " قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ ، إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيهِم شُحُومَهَا أَجمَلُوهُ ثم بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ " وَمِمَّا جَاءَ في بَيَانِ شَنَاعَةِ هَذَا الحَيَوَانِ وَقَذَارَتِهِ ، مَا صَحَّ عَنهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ : " مَن لَعِبَ بِالنَّردَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ في لحمِ خِنزِيرٍ وَدَمِهِ " وَهَذَا تَشبِيهٌ لِلَّعَبِ بِالنَّردَشِيرِ بِغَمسِ اليَدِ في لحمِ الخِنزِيرِ وَدَمِهِ , بِجَامِعِ القُبحِ في كِلا الأَمرَينِ , وَقَد أَجمَعَ عُلَمَاءُ الإِسلامِ عَلَى تَحرِيمِ لحمِ الخِنزِيرِ , بَل وَأَفتَوا بِتَحرِيمِ كُلِّ أَجزَائِهِ , لِمَا نَصَّت عَلَيهِ الآيَاتُ مِن تَحرِيمِ لَحمِهِ عَلَى جِهَةِ القَطعِ وَبيَّنَت عِلَّةَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا نَجَاسَتُهُ وَخُبثُهُ , وَقَد نَصَّ اللهُ ـ تَعَالى ـ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ عَلَى تَحرِيمِ الخَبَائِثِ وَتَجَنُّبِهَا , وَلَمَّا كَانَتِ النَّصَارَى تَتَقَوَّلُ عَلَى عِيسَى وَتَأكُلُ الخِنزِيرَ زَعمًا بِأَنَّهُ قَد أَحَلَّهُ لهم ، جَاءَ تَكذِيبُهُم عَلَى لِسَانِ الصَّادِقِ المَصدُوقِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حَيثُ قَالَ : " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَن يَنزِلَ فِيكُمُ ابنُ مَريَمَ حَكَمًا مُقسِطًا ، فَيَكسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقتُلَ الخِنزِيرَ وَيَضَعَ الجِزيَةَ ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لا يَقبَلَهُ أَحَدٌ " قَالَ ابنُ حَجَرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : قَولُهُ : " وَيَقتُلُ الخِنزِيرَ " أَيْ يَأمُرُ بِإِعدَامِهِ مُبَالَغَةً في تَحرِيمِ أَكلِهِ ، وَفِيهِ تَوبِيخٌ عَظِيمٌ لِلنَّصَارَى الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُم عَلَى طَرِيقَةِ عِيسَى ثُمَّ يَستَحِلُّونَ أَكلَ الخِنزِيرِ وَيُبَالِغُونَ في مَحَبَّتِهِ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد جَاءَت نُصُوصُ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُبَيِّنَةً مَا يَحِلُّ وَمَا يَحرُمُ , وَوُضِعَت لِلأَطعِمَةِ وَالأَشرِبَةِ في الإِسلامِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ , وَهِيَ إِبَاحَةُ الطَّيِّبَاتِ وَتَحرِيمُ الخَبَائِثِ , قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ آمِرًا جَمِيعَ البَشَرِ بِأَكلِ الطَّيِّبَاتِ عَلَى سَبِيلِ الإِبَاحَةِ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا ممَّا في الأَرضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ " وَبِهَذَا وَضَعَتِ الشَّرِيعَةُ لِلبَشَرِ قَانُونًا ثَابِتًا وَمِيزَانًا دَقِيقًا ، يَقِيسُونَ بِهِ كُلِّ المُستَجِدَّاتِ إِلى قِيَامِ السَّاعَةِ ؛ لِيَعرِفُوا طَيِّبَهَا النَّافِعَ فَيَأكُلُوهُ ، وَيُمَيِّزُوا خَبِيثَهَا الضَّارَّ فَيَجتَنِبُوهُ . وَإِنَّهُ لَمَّا تَتَطَابَقُ نَتَائِجُ أَبحَاثِ العُلَمَاءِ مَعَ مَا في القُرآنِ وَالسُّنَّةِ ، فَإِنَّ في ذَلِكَ مَا يُؤَكِّدُ وَبِكُلِّ وُضُوحٍ وَجَلاءٍ أَنَّ شَرِيعَةَ الإِسلامِ وَحيٌ رَبَّانيٌّ كَرِيمٌ ، وَأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَحَالٍ ، وَلَقَد أَثبَتَتِ الأَبحَاثُ العِلمِيَّةُ وَالدِّرَاسَاتُ الطِّبِّيَّةُ أَنَّ الخِنزِيرَ مِن بِينِ سَائِرِ الحَيَوَانَاتِ يُعَدُّ أَكبَرَ مُستَودَعٍ لِمَا يَضُرُّ جِسمَ الإِنسَانِ ، وَأَنَّهُ يَنشَأُ عَن أَكلِ لَحمِهِ أَمرَاضٌ وَأَدوَاءٌ لا تُحصَى كَثرَةً وَتَنَوُّعًا وَضَرَرًا ، وَقَد أَعرَضنَا عَن ذِكرِهَا في هَذَا المَقَامِ لِكَثرَتِهَا وَبَشَاعَتِهَا ، وتَنزِيهًا لأَسمَاعِ المُؤمِنِينَ مِن كُلِّ سُوءٍ، وَهِي أَضرَارٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ الحَكِيمَ لم يُحرِّمْ لحمَ الخِنزِيرِ إِلاَّ لِحِكَمٍ جَلِيلَةٍ وَأَسرَارٍ عَظِيمَةٍ ، تَعُودُ كُلُّهَا إِلى الحِفَاظِ عَلَى النَّفسِ البشرية المُكَرَّمَةِ ، وَالَّتي جَعَلَ الإِسلامُ الحِفَاظَ عَلَيهَا أَحَدَ الضَّرُورِيَّاتِ الخَمسِ الَّتي جَاءَ بِحِفظِهَا .
الخطبة الثانية
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهَا سَتَتَكَشَّفُ لِلنَّاسِ مَزِيدٌ مِن جَوَانِبِ الإِعجَازِ التَّشرِيعِيِّ في تَحرِيمِ لحمِ الخِنزِيرِ يَومًا بَعدَ آخَرَ ، وَأَنَّهُم مَهمَا بَلَغُوا مِن تَقَدُّمٍ عِلمِيٍّ وَثَورَةٍ في عَالَمِ البَحثِ وَالاكتِشَافِ , فَسَيَبقَى عِلمُهُم بَشَرِيًّا قاصِرًا , وَسَيَظَلُّ إِدرَاكُهُم مَحصُورًا مَحدُودًا , وَاللهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ " وَمَا أُوتِيتُم مِنَ العِلمِ إِلاَّ قَلِيلاً " أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: " وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ فَسَأَكتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوبًا عِندَهُم في التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهَاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلاَلَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيكُم جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُم تهتَدُونَ "
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ...
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ لَنَا دِينًا عَظِيمًا وَمَنهَجًا كَرِيمًا ، لا خَيرَ وَلا بِرَّ في دُنيَا أَو آخِرَةٍ إِلاَّ هُوَ مُشتَمِلٌ عَلَيهِ آمِرٌ بِهِ نَادِبٌ إِلَيهِ ، وَلا شَرَّ وَلا ضَرَرَ في مَعَاشٍ أَو مَعَادٍ إِلاَّ هُوَ مُستَنكِرٌ لَهُ نَاهٍ عَنهُ مُحَذِّرٌ مِنهُ ، وَحِينَ يَغِيبُ عَن العُقُولِ لِضَعفِهَا أو تقصُرُ الأَفهَامُ عَن إِدرَاكِ حِكمَةِ الشَّارِعِ في أَمرِهِ بِشَيءٍ أَو نَهيِهِ عَن آخَرَ ، فَإِنَّ وَاجِبَهَا التَّسلِيمُ لأَمرِ اللهِ وَنَهيِهِ ، وَالوُقُوفُ عِندَ حُدُودِهِ وَاجتِنَابُ مَحَارِمِهِ ، وَالتَّنفِيذُ التَّامُّ عَن طَوَاعِيَةٍ وَاختِيَارٍ وَاطمِئنَانٍ ، فَإِنْ تَبَيَّنَ بَعدَ ذَلِكَ شَيءٌ مِنَ الحِكَمِ الإِلَهِيَّةِ وَأَسرَارِ التَّشرِيعِ البَدِيعِ ، فَنُورٌ عَلَى نُورٍ ، وَإِلاَّ فَقَد بَرِئَتِ الذِّمَمُ وَوَجَبَ الأَجرُ عَلَى اللهِ .
وَلَقَد تَبَيَّنَت لَنَا في زَمَانِنَا كَثِيرٌ مِن حِكَمِ التَّشرِيعِ كَضَوءِ الشَّمسِ في رَابِعَةِ النَّهَارِ ، في جَوَانِبَ صِحِيَّةٍ وَاقتِصَادِيَّةٍ وَاجتِمَاعِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ ، فَمَتى نَقتَنِعُ تَمَامَ الاقتِنَاعِ بِأَنَّنَا عَلَى الحَقِّ وَنُوقِنُ بِهِ حَقَّ اليَقِينِ ؟ مَتى نَأتَمِرُ بِمَا أُمِرنَا بِهِ وَنَنتَهِي عَمَّا نُهِينَا عَنهُ عَن قَنَاعَةٍ قُلُوبٍ وَثِقَةِ نُفُوسٍ ، لَيسَ فِيمَا يَضُرُّ بِالصِّحَّةِ فَحَسَبُ ، بَل في كُلِّ مَا يَضُرُّ الدِّينَ أَوِ الجَسَدَ أَوِ العَقَلَ أَوِ العِرضَ أَوِ المَالَ ، مِن أَفكَارٍ ضَالَّةٍ وَشُبُهَاتٍ وَشَهَوَاتٍ ، ومُسكِرَاتٍ وَمُخَدِّرَاتٍ وَمُفَتِّرَاتٍ ، وَمُعَامَلاتٍ رِبَوِيَّةٍ وَمُسَاهَمَاتٍ مَشبُوهَةٍ ، وَأَخلاقٍ مَذمُومَةٍ وَصِفَاتٍ مُستَنكَرَةٍ ، وَعَادَاتٍ جَاهِلِيَّةٍ وَرُسُومٍ عُنصُرِيَّةٍ ، فَلا وَاللهِ لَنَا قِوَامٌ في عَيشٍ وَلا قِيَامٌ لِمَصَالِحَ ، وَلا سَعَادَةٌ في حَيَاةٍ وَلا رِضًا في عِيشَةٍ ، وَلا أَمنٌ وَلا طُمَأنِينَةٌ وَلا تَقَدُّمٌ ، إِلاَّ بِالسَّيرِ عَلَى الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ ، وَالحَذَرِ مِن سُبُلِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَالضَّالِّينَ " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ " عَن جَابِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ عَنِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ أَتَاهُ عُمَرُ فَقَالَ : إِنَّا نَسمَعُ أَحَادِيثَ مِن يَهُودَ تُعجِبُنَا ، أَفَتَرَى أَن نَكتُبَ بَعضَهَا ؟ فَقَالَ : " أَمُتَهَوِّكُونَ أَنتُم كَمَا تَهَوَّكَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ لَقَد جِئتُكُم بها بَيضَاءَ نَقِيَّةً ، وَلَو كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتِّبَاعِي "
أو لحم خنزير فإنه رجس
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، دِينُ الإِسلامِ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى خَيرِ المُرسِلِينَ ، لا رَيبَ فِيهِ مِن رَبِّ العَالَمِينَ ، هُدًى لِلمُتَّقِينَ وَحُجَّةً عَلَى الخَلقِ أَجمَعِينَ ، فِيهِ صَلاحُ الدُّنيَا وَقِيَامُ مَصَالِحِ العِبَادِ ، وَبِهِ نَجَاتُهُم في الآخِرَةِ وَفَوزُهُم في المَعَادِ ، هُوَ دِينُ الرُّوحِ وَالجَسَدِ ، وَمَنهَجُ الفَردِ وَالجَمَاعَةِ ، وَسَبِيلُ الكَمَالِ في كُلِّ مَجَالٍ ، مَا سَبَقَ عَالِمٌ إِلى اكتِشَافٍ ، وَلا تَوَصَّلَ خَبِيرٌ إِلى اختِرَاعٍ ، وَلا وَجَدَ بَاحِثٌ في مَادَّةٍ سِرًّا نَفعًا كَانَ أَو ضُرًّا ، إِلاَّ وَفي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَيهِ أَو يُغني عَنهُ ، وَحِينَ يَنزِلُ في الكِتَابِ أَو تَأتي السُّنَّةُ بِتَحرِيمِ أَمرٍ مَا ، مَأكُولاً كَانَ أَو مَشرُوبًا ، أَو مَلبُوسًا أَو مَركُوبًا ، فَإِنَّمَا هُوَ حُكمٌ مُحكَمٌ مِن لَُدنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ " أَلا يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ " وَكَم مِن مُحَرَّمٍ نَزَلَ تَحرِيمُهُ قَبلَ أَلفٍ وَأَربَعِ مِئَةِ سَنَةٍ ، فَلَم يَكتَشِفِ العَالَمُ مَا فِيهِ مِن أَضرَارٍ جَسِيمَةٍ وَنَتَائِجَ وَخِيمَةٍ إِلاَّ في عَصرِ المَعَامِلِ المُتَخَصِّصَةِ وَالأَجهِزَةِ المُتَقَدِّمَةِ ، وَبِوَاسِطَةِ المَجَاهِرِ الدَّقِيقَةِ وَالآلاتِ الفَاحِصَةِ ، وَإِنَّهُ حِينَ تَنتَشِرُ في العَالَمِ هَذِهِ الأَيَّامَ أَنبَاءٌ عَنِ انتِشَارِ وَبَاءٍ سَبَبُهُ الخَنَازِيرُ ، فَيَفزَعُونَ لِذَلِكَ وَيَضِجُّونَ ، وَيَتَّخِذُونَ التَّدابِيرَ الوَاقِيَةَ وَيَحذَرُونَ ، وَيَفِرُّ بَعضُهُم مِن بِلادِهِم خَوفًا وَيَنفِرُونَ ، فَقَد كُنَّا نَحنُ المُسلِمِينَ عَلَى دِرَايَةٍ لا مِريَةَ فِيهَا ، بِأَنَّ أُولَئِكَ الخَارِجِينَ عَن أَمرِ رَبِّهِم وَالوَاقِعِينَ فِيمَا نَهَاهُم عَنهُ وَالمُتَعَمِّدِينَ لِمَا حَرَّمَهُ عَلَيهِم ، سَتُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَو تَحُلُّ قَرِيبًا مِن دَارِهِم ، نَقُولُ ذَلِكَ لِمَا جَاءَنَا في كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَأَجمَعَ عَلَيهِ المُسلِمُونَ مُنذُ كَانُوا مِن تَحرِيمِ لحمِ الخِنزِيرِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيكُمُ المَيتَةَ وَالدَّمَ وَلَحمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيرِ اللهِ فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثمَ عَلَيهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " حُرِّمَت عَلَيكُمُ المَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ وَالمُنخَنِقَةُ وَالمَوقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيتُم وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَستَقسِمُوا بِالأَزلاَمِ " الآيةَ ، وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيتَةً أَو دَمًا مَسفُوحًا أَو لَحمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجسٌ أَوْ فِسقًا أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " وَقَالَ ـ جَلَّ شَأنُهُ ـ : " إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيكُمُ المَيتَةَ وَالدَّمَ وَلَحمَ الخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " وَإِذَا كَانَتِ المَيتَةُ أَوِ المُتَرَدِّيَةُ أَوِ النَّطِيحَةُ وَنَحوُهَا ممَّا ذُكِرَ في هَذِهِ الآيَاتِ مِنَ الدَّمِ المَسفُوحِ أَو مَا أَكَلَ السَّبُعُ أَو مَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ بِهِ ، قَد حُرِّمَت لِعِلَلٍ عَارِضَةٍ عَلَيهَا ، فَإِنَّ لحمَ الخِنزِيرِ قَدِ انفَرَدَ مِن بَينِهَا بِأَنَّهُ حَرَامٌ لِذَاتِهِ ، وَمَنهِيٌّ عَنهُ لِعِلَّةٍ مُستَقِرَّةٍ فِيهِ ، وَمُنَفَّرٌ مِنهُ لِوَصفٍ لاصِقٍ بِهِ ، ذَلِكَ أَنَّهُ رِجسٌ نَجِسٌ خَبِيثٌ قَذِرٌ ، لا خَيرَ فِيهِ وَلا مَنفَعَةَ وَلا بَرَكَةَ ، بَل كُلُّهُ شَرٌّ وَضُرٌّ وَدَاءٌ وَبِيلٌ وَمَرَضٌ وَخِيمٌ . وَكَمَا جَاءَ تَحرِيمُ لحمِ الخِنزِيرِ في القُرآنِ الكَرِيمِ ، فَقَد وَرَدَتِ الأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ دَالَّةً عَلَى تَحرِيمِ أَكلِهِ وَبَيعِهِ وَالاستِفَادَةِ مِن أَيِّ جُزءٍ مِنهُ ، حَتى وَلَو حُوِّلَ إِلى شَيءٍ آخَرَ , مِن ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسلِمٌ عَن جَابِرِ بنِ عَبدِاللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ عَامَ الفَتحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ : " إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيعَ الخَمرِ وَالمَيتَةِ وَالخِنزِيرِ وَالأَصنَامِ " فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيتَ شُحُومَ المَيتَةِ فَإِنَّهُ يُطلَى بها السُّفُنُ وَيُدهَنُ بها الجُلُودُ وَيَستَصبِحُ بها النَّاسُ ؟ فَقَالَ : " لا ، هُوَ حَرَامٌ " ثم قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عِندَ ذَلِكَ : " قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ ، إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيهِم شُحُومَهَا أَجمَلُوهُ ثم بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ " وَمِمَّا جَاءَ في بَيَانِ شَنَاعَةِ هَذَا الحَيَوَانِ وَقَذَارَتِهِ ، مَا صَحَّ عَنهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ : " مَن لَعِبَ بِالنَّردَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ في لحمِ خِنزِيرٍ وَدَمِهِ " وَهَذَا تَشبِيهٌ لِلَّعَبِ بِالنَّردَشِيرِ بِغَمسِ اليَدِ في لحمِ الخِنزِيرِ وَدَمِهِ , بِجَامِعِ القُبحِ في كِلا الأَمرَينِ , وَقَد أَجمَعَ عُلَمَاءُ الإِسلامِ عَلَى تَحرِيمِ لحمِ الخِنزِيرِ , بَل وَأَفتَوا بِتَحرِيمِ كُلِّ أَجزَائِهِ , لِمَا نَصَّت عَلَيهِ الآيَاتُ مِن تَحرِيمِ لَحمِهِ عَلَى جِهَةِ القَطعِ وَبيَّنَت عِلَّةَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا نَجَاسَتُهُ وَخُبثُهُ , وَقَد نَصَّ اللهُ ـ تَعَالى ـ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ عَلَى تَحرِيمِ الخَبَائِثِ وَتَجَنُّبِهَا , وَلَمَّا كَانَتِ النَّصَارَى تَتَقَوَّلُ عَلَى عِيسَى وَتَأكُلُ الخِنزِيرَ زَعمًا بِأَنَّهُ قَد أَحَلَّهُ لهم ، جَاءَ تَكذِيبُهُم عَلَى لِسَانِ الصَّادِقِ المَصدُوقِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حَيثُ قَالَ : " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَن يَنزِلَ فِيكُمُ ابنُ مَريَمَ حَكَمًا مُقسِطًا ، فَيَكسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقتُلَ الخِنزِيرَ وَيَضَعَ الجِزيَةَ ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لا يَقبَلَهُ أَحَدٌ " قَالَ ابنُ حَجَرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : قَولُهُ : " وَيَقتُلُ الخِنزِيرَ " أَيْ يَأمُرُ بِإِعدَامِهِ مُبَالَغَةً في تَحرِيمِ أَكلِهِ ، وَفِيهِ تَوبِيخٌ عَظِيمٌ لِلنَّصَارَى الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُم عَلَى طَرِيقَةِ عِيسَى ثُمَّ يَستَحِلُّونَ أَكلَ الخِنزِيرِ وَيُبَالِغُونَ في مَحَبَّتِهِ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد جَاءَت نُصُوصُ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُبَيِّنَةً مَا يَحِلُّ وَمَا يَحرُمُ , وَوُضِعَت لِلأَطعِمَةِ وَالأَشرِبَةِ في الإِسلامِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ , وَهِيَ إِبَاحَةُ الطَّيِّبَاتِ وَتَحرِيمُ الخَبَائِثِ , قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ آمِرًا جَمِيعَ البَشَرِ بِأَكلِ الطَّيِّبَاتِ عَلَى سَبِيلِ الإِبَاحَةِ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا ممَّا في الأَرضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ " وَبِهَذَا وَضَعَتِ الشَّرِيعَةُ لِلبَشَرِ قَانُونًا ثَابِتًا وَمِيزَانًا دَقِيقًا ، يَقِيسُونَ بِهِ كُلِّ المُستَجِدَّاتِ إِلى قِيَامِ السَّاعَةِ ؛ لِيَعرِفُوا طَيِّبَهَا النَّافِعَ فَيَأكُلُوهُ ، وَيُمَيِّزُوا خَبِيثَهَا الضَّارَّ فَيَجتَنِبُوهُ . وَإِنَّهُ لَمَّا تَتَطَابَقُ نَتَائِجُ أَبحَاثِ العُلَمَاءِ مَعَ مَا في القُرآنِ وَالسُّنَّةِ ، فَإِنَّ في ذَلِكَ مَا يُؤَكِّدُ وَبِكُلِّ وُضُوحٍ وَجَلاءٍ أَنَّ شَرِيعَةَ الإِسلامِ وَحيٌ رَبَّانيٌّ كَرِيمٌ ، وَأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَحَالٍ ، وَلَقَد أَثبَتَتِ الأَبحَاثُ العِلمِيَّةُ وَالدِّرَاسَاتُ الطِّبِّيَّةُ أَنَّ الخِنزِيرَ مِن بِينِ سَائِرِ الحَيَوَانَاتِ يُعَدُّ أَكبَرَ مُستَودَعٍ لِمَا يَضُرُّ جِسمَ الإِنسَانِ ، وَأَنَّهُ يَنشَأُ عَن أَكلِ لَحمِهِ أَمرَاضٌ وَأَدوَاءٌ لا تُحصَى كَثرَةً وَتَنَوُّعًا وَضَرَرًا ، وَقَد أَعرَضنَا عَن ذِكرِهَا في هَذَا المَقَامِ لِكَثرَتِهَا وَبَشَاعَتِهَا ، وتَنزِيهًا لأَسمَاعِ المُؤمِنِينَ مِن كُلِّ سُوءٍ، وَهِي أَضرَارٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ الحَكِيمَ لم يُحرِّمْ لحمَ الخِنزِيرِ إِلاَّ لِحِكَمٍ جَلِيلَةٍ وَأَسرَارٍ عَظِيمَةٍ ، تَعُودُ كُلُّهَا إِلى الحِفَاظِ عَلَى النَّفسِ البشرية المُكَرَّمَةِ ، وَالَّتي جَعَلَ الإِسلامُ الحِفَاظَ عَلَيهَا أَحَدَ الضَّرُورِيَّاتِ الخَمسِ الَّتي جَاءَ بِحِفظِهَا .
الخطبة الثانية
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّهَا سَتَتَكَشَّفُ لِلنَّاسِ مَزِيدٌ مِن جَوَانِبِ الإِعجَازِ التَّشرِيعِيِّ في تَحرِيمِ لحمِ الخِنزِيرِ يَومًا بَعدَ آخَرَ ، وَأَنَّهُم مَهمَا بَلَغُوا مِن تَقَدُّمٍ عِلمِيٍّ وَثَورَةٍ في عَالَمِ البَحثِ وَالاكتِشَافِ , فَسَيَبقَى عِلمُهُم بَشَرِيًّا قاصِرًا , وَسَيَظَلُّ إِدرَاكُهُم مَحصُورًا مَحدُودًا , وَاللهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ " وَمَا أُوتِيتُم مِنَ العِلمِ إِلاَّ قَلِيلاً " أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: " وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ فَسَأَكتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوبًا عِندَهُم في التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهَاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلاَلَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيكُم جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُم تهتَدُونَ "
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ...
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ لَنَا دِينًا عَظِيمًا وَمَنهَجًا كَرِيمًا ، لا خَيرَ وَلا بِرَّ في دُنيَا أَو آخِرَةٍ إِلاَّ هُوَ مُشتَمِلٌ عَلَيهِ آمِرٌ بِهِ نَادِبٌ إِلَيهِ ، وَلا شَرَّ وَلا ضَرَرَ في مَعَاشٍ أَو مَعَادٍ إِلاَّ هُوَ مُستَنكِرٌ لَهُ نَاهٍ عَنهُ مُحَذِّرٌ مِنهُ ، وَحِينَ يَغِيبُ عَن العُقُولِ لِضَعفِهَا أو تقصُرُ الأَفهَامُ عَن إِدرَاكِ حِكمَةِ الشَّارِعِ في أَمرِهِ بِشَيءٍ أَو نَهيِهِ عَن آخَرَ ، فَإِنَّ وَاجِبَهَا التَّسلِيمُ لأَمرِ اللهِ وَنَهيِهِ ، وَالوُقُوفُ عِندَ حُدُودِهِ وَاجتِنَابُ مَحَارِمِهِ ، وَالتَّنفِيذُ التَّامُّ عَن طَوَاعِيَةٍ وَاختِيَارٍ وَاطمِئنَانٍ ، فَإِنْ تَبَيَّنَ بَعدَ ذَلِكَ شَيءٌ مِنَ الحِكَمِ الإِلَهِيَّةِ وَأَسرَارِ التَّشرِيعِ البَدِيعِ ، فَنُورٌ عَلَى نُورٍ ، وَإِلاَّ فَقَد بَرِئَتِ الذِّمَمُ وَوَجَبَ الأَجرُ عَلَى اللهِ .
وَلَقَد تَبَيَّنَت لَنَا في زَمَانِنَا كَثِيرٌ مِن حِكَمِ التَّشرِيعِ كَضَوءِ الشَّمسِ في رَابِعَةِ النَّهَارِ ، في جَوَانِبَ صِحِيَّةٍ وَاقتِصَادِيَّةٍ وَاجتِمَاعِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ ، فَمَتى نَقتَنِعُ تَمَامَ الاقتِنَاعِ بِأَنَّنَا عَلَى الحَقِّ وَنُوقِنُ بِهِ حَقَّ اليَقِينِ ؟ مَتى نَأتَمِرُ بِمَا أُمِرنَا بِهِ وَنَنتَهِي عَمَّا نُهِينَا عَنهُ عَن قَنَاعَةٍ قُلُوبٍ وَثِقَةِ نُفُوسٍ ، لَيسَ فِيمَا يَضُرُّ بِالصِّحَّةِ فَحَسَبُ ، بَل في كُلِّ مَا يَضُرُّ الدِّينَ أَوِ الجَسَدَ أَوِ العَقَلَ أَوِ العِرضَ أَوِ المَالَ ، مِن أَفكَارٍ ضَالَّةٍ وَشُبُهَاتٍ وَشَهَوَاتٍ ، ومُسكِرَاتٍ وَمُخَدِّرَاتٍ وَمُفَتِّرَاتٍ ، وَمُعَامَلاتٍ رِبَوِيَّةٍ وَمُسَاهَمَاتٍ مَشبُوهَةٍ ، وَأَخلاقٍ مَذمُومَةٍ وَصِفَاتٍ مُستَنكَرَةٍ ، وَعَادَاتٍ جَاهِلِيَّةٍ وَرُسُومٍ عُنصُرِيَّةٍ ، فَلا وَاللهِ لَنَا قِوَامٌ في عَيشٍ وَلا قِيَامٌ لِمَصَالِحَ ، وَلا سَعَادَةٌ في حَيَاةٍ وَلا رِضًا في عِيشَةٍ ، وَلا أَمنٌ وَلا طُمَأنِينَةٌ وَلا تَقَدُّمٌ ، إِلاَّ بِالسَّيرِ عَلَى الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ ، وَالحَذَرِ مِن سُبُلِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَالضَّالِّينَ " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ " عَن جَابِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ عَنِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ أَتَاهُ عُمَرُ فَقَالَ : إِنَّا نَسمَعُ أَحَادِيثَ مِن يَهُودَ تُعجِبُنَا ، أَفَتَرَى أَن نَكتُبَ بَعضَهَا ؟ فَقَالَ : " أَمُتَهَوِّكُونَ أَنتُم كَمَا تَهَوَّكَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ لَقَد جِئتُكُم بها بَيضَاءَ نَقِيَّةً ، وَلَو كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتِّبَاعِي "
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى