رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ/ إبراهيم بن صالح العجلان
صور مضيئة من نصرة المستضعفين
معاشر المسلمين :
كم تلجلجت في تاريخنا من أصوات لمنكوبين , وكم ترقرقت في ماضينا من دمعات لمظلومين , وكم تعالت في غابر دهرنا من استغاثات لمقهورين .
ولكنها لم تكن مجرد صيحات في الهواء , أو أنَّات محبوسة في الضمير , بل كان لها أثرها ووقعها في تهييج الأمة , وإشعال الغيرة الإسلامية فيها , وتحريك النخوة العـربية بين أهلها.
حفظ لنا التاريخ مواقف وضَّاءة لأسلافنا , حرَّكتهم صيحات المستغيثين , وألهبتهم آهات المكلومين .
فيوم أن كنا خير أمَّة كانت تكافؤا دماؤنا , ويسعى لذمَّتنا أدنانا , ونحن يد على من سوانا .
يوم أن كنا خير أمَّة فككنا العاني , وأجبنا الداعي , وأغثنا الملهوف , ونصرنا المظلوم .
يوم أن كنا مستجيبين لله وللرسول صدقا تمثلنا قول الله حقا (( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ....)) .
فتعالوا إخوة الإيمان .. نقطع حجب الزمان , ونستنطق صفحات التاريخ لنقف على لوحات مشرقة , وأحداث غير عابرة في تاريخنا المنسي ,,, حُقَّ لنا أن نفخر بها ونفاخر , في زمن التخاذل والخذلان .
إخوة الإيمان :
* وأول الاستغاثات التي حفظها لنا الزمان ..... هو خبر تلك المرأة الأنصارية المسلمة في سوق بني قينقاع , دخلت تلك المرأة السوق , وهي في كامل حشمتها وسترها , وحيائها وعفافها .
وكان سماسرة هذا السوق وأهله هم من يهود بني قينقاع , كانوا يعملون في صياغة الحلي والمجوهرات .
وقفت تلك المرأة الشريفة عند صائغ يهودي تساومه على بضاعة أرادتها ,,, فالتفَّ حولها مجموعة يهودية قذرة جعلوا يراودونها على كشف وجهها , والمرأة تأبى وتتمنَّع .
فما كان من أحدهم إلا أن عمد إلى ثوبها _ وهي قاعدة غافلة _ فعقده إلى ظهرها , فلما قامت انكشفت سوأتها ,,,, فتضاحك اليهود وتمايلوا ,, فصاحت المرأة المقهورة : يا أهل الإسلام ,, فقام رجل من المسلمين قد أحرقت الغيرة صدره , فقتل اليهودي ,, فتنادى اليهود وتمالؤوا حتى قتلوا الرجل المسلم .
وتطير الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام , ويقع هذا الحدث في قلوبهم موقعا عظيما , فاتفقت كلمتهم على نصرة الدم المسلم , وكرامة العرض المسلم , فعقد النبي صلى الله عليه وسلم لواء وأعطاه لعمه حمزة بن عبد المطلب .
مضى اللواء الإسلامي وهو مصمم على تأديب هذه السلالة المرذولة الخائنة .
وما إن تسامع اليهود بمقدم لواء حمزة بن عبد المطلب حتى تطايروا خلف أسوارهم , واختبؤوا في حصونهم .
فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة , وقذف الله في قلوبهم الرعب, فأيقنوا بالهلاك , أعلنوا بعدها الاستسلام , والنزول على حكم رسول الله.
أصدر النبي صلى الله عليه وسلم أوامره , وحكم فيهم أن يكتَّفوا , وتضرب أعناقهم .
هنا.. تدخل رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول وقال :أحسن في مواليي يا محمد , فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم , فأعاد ابن أُبيٍّ مقالته , وجعل يدخل يده في جيب درع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تغيَّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وعُرِف منه الغضب , وهو يقول : أرسلني ( أي اتركني ) , فقال المنافق : أربع مائة حاسر , وثلاثمائة دارع قد منعوني الأحمر والأسود , تحصدهم في غداة واحدة ! إني امرؤٌ أخشى الدوائر .
ومع هذا الإلحاح الشديد حكم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجلائهم من المدينة مع نسائهم وذراريهم , وللمسلمين أموالهم وأسلحتهم . وأنزل الله في إثر ذلك : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة )) .
عباد الله :
هذا التعاطف بين النفاق واليهود وجِد في صدر الإسلام , ولا تزال الأمة عبر تاريخها ترى نماذج ونماذج من هذا التزاوج ,, وها نحن نرى اليوم صوت النفاق يتكاتف مع مجازر اليهود , تارة بتأييدهم على حملتهم النازية الآثمة , وتارة بتبرير جرائمهم وأنهم في حالة دفاع عن النفس , وتارة بالصمت المطبق تجاه عدوان اليهود , وإرسال الألسنة الحداد على إخوانهم المجاهدين المرابطين المدافعين عن حقهم وأرضهم ومقدساتهم .
إخوة الإيمان :
* ومشهد آخر سجَّله التاريخ لرجل لم يكن يُعرف بصلاح السيرة , ولا باستقامة المسيرة , قال عنه الذهبي : كان من جبابرة الملوك , وفسَّاقهم , ومتمرديهم .
وقال ابن حزم : كان من المجاهرين بالمعاصي .
ملك هذا الرجل أمر الأندلس في أواخر القرن الثاني , إنه الحكم بن هشام الأموي.
هذا الأمير على ما ذكر عنه ـ عفا الله عنَّا وعنه ـ إلا أنه كان يحمل بين جنبيه غيرة وحمية .
دخل عليه شاعر من رجال دولته فأنشده قصيدة طويلة جاء فيها :
تدارك نساء العالمين بنصرة فإنك أحرى أن تغيث وتنصرا
فسأله عن الخبر والأمر ؟ فأخبره الشاعر : أنَّه لقي في أطراف دولته بالأندلس امرأة من البادية حسيرة كسيرة , داهم النصارى أرضهم , فقتلوا وأسروا منهم , فجعلت المرأة تستغيث بالحكم بن هشام وتقول : واغوثاه يا حكم , لقد أهملتنا , وأسلمتنا حتى استأسد العدو علينا , فأيَّمنا , وأيتمنا .
فما كاد الشاعر ينهي فصول ما رأى , إلا وقد رأى الحكم بن هشام قد ثار واستثار , ونادى من حينه بالاستعداد لنصرة من استنصر به .
وما هي إلا ثلاثة أيام إلا والحكم يجوب أطراف مملكته , فسأل عن العدو الذي أغار عليهم , فدُلَّ على مكانهم , فسار نحوهم , وحاصرهم حتى فتح حصونهم , وجاس ديارهم , واستباح ذمارهم , وأسر مقاتلتهم .
ثم أمر بإحضار المرأة , وجميع من أُسر له أحد من تلك البقاع المسلمة , فجاءوا وهم يرون من ظلمهم وقهرهم مأسوراً مربوطاً ذليلاً .
فأمر الحكم حينها بضرب أعناقهم ليشفي صدور قوم مؤمنين , ويذهب غيظ قلوبهم.
بعدها سأل الحكمُ المرأةَ : هل أغاثكم الحكم ؟ فقالت المرأة : أي والله , لقد أشفى الصدور , وأنكأ العدو , وأغاث الملهوف .
ثم ودَّعهم وودَّعوه بدعوات ملؤها الحفظ والعز والنصرة .
* ومشهد آخر من مشاهد نخوتنا وعزَّتنا :
امرأة هاشمية في بلد الغربة بين الروم النصارى في بلدة عمورية , تمشي في سوق المدينة فحاول أحد الروم أن يستميلها للحرام , ففوَّتت عليه غرضه , فأغلظ عليها , فردت عليه , فما كان من هذا الرومي إلا أن لطم المرأة , وصكها في وجهها .
وأمام قلة حيلتها وضعفها وغربتها لم تجد إلا أن تطلقها صيحة من قلبها قبل لسانها , فقالت : وامعتصماااااه .
إنها صيحة خرجت من فم امرأة مكلومة محروقة .
ولكنَّ هذه الصرخة أُزهقت من أجلها نفوس , وطارت بسببها رؤوس .
ربَّ وامعتصماه انطلقت ملئ أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
وأما الرجل الرومي فرد على استنجاد المرأة بغرور واستهتار وقال : عساه أن يأتيك على فرسه الأبلق .
ويشاء الله تعالى أن يرى هذا المشهد أحد تجار المسلمين , فتألم لما رأى , وتحركت في قلبه النخوة والغيرة , فانطلق من حينه ميمِّـاً وجهه إلى بغداد .
سافر هذا الرجل وقطع المفاوز , لا لمصلحة يرجوها , وإنما نصرة لقضية امرأة مقهورة مظلومة .
ويدخل الرجل الغيور على المعتصم , ويُصوِّر له ما رأى , من خبر المرأة واستصراخها به , فاستشاط المعتصم غضباً , وأعلن النفير , وأقسم بالله أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يدوس أرضهم بخيله الأبلق .
قال أهل عصره عنه : وكان إذا حلف حلف , وإذا أقسم أقسم .
نعم خرج المعتصم من بغداد نصرة لامرأة واحدة , ولكنَّه خرج أيضاً من أجل عزة الأمة , وكرامة الأمة , وهيبة الأمة .
كنا جبالا في الجبـال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعـابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزا وصاغ الحلي والدينارا
ويخرج جيش الإسلام بقادته وأبطاله وعلمائه يفتحون المدن والحصون حتى وصلوا مدينة عمورية , فحاصروها وضربوها بالمنجنيق , ودام الحصار خمسة وخمسين يوماً حتى استسلم النصارى الرومان , وأعلنوا تسليم المدينة للمسلمين , فدخل المسلمون مدينة عمورية فاتحين منتصرين غانمين .
وفي هذا الفتح حبَّر الشاعر أبو تمام قصيدته المشهورة :
السيف أصدق إنباء من الكتب في حدِّه الحـد بين الجد واللعب
فتح الفتـوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب
تلك ـ عباد الله ـ بعض من المشاهد المكورة المحفورة في تراثنا , والتاريخ لا ينس مثل هذه المواقف الشامخة البيضاء , ويدوِّن أيضا المواقف السوداء الخائنة الخائبة .
أقول قولي هذا ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى , والصلاة والسلام على عبده المصطفى , وعلى آله وصحبه ومن اجتبى , أما بعد فيا إخوة الإيمان :
وبعد هذه المشاهد المضيئة ها نحن نرى اليوم بأعيننا من الصور والمناظر ما يفتُّ الفؤاد فتَّا , ويقطع القلب كمدا , لأطفـال يمزَّقون , وجرحى يئنـون , ورجـال ونساء يستغيثون , تعالت صيحاتهم , وبحت أصواتهم يطلبون النصرة , ويستنجدون النخوة .
فإلى متى , وحتى متى هذا الصمت , وذاك الجمود :
إلى متى يبقى فـؤادك قاسيـا وإلى متى تبقى بغير شعـورِ
هلاَّ قـرأت ملامـح الأم التي ذَبُلَتْ محاسن وجهها المذعورِ
هلاَّ استمعت إلى بكاء صغيرها وإلى أنين فـؤادها المفطـور
هلاَّ نظرت إلى دمـوع عفافها وإلى جناح إبائها المكسـور
لا عذر لنا أمام الله , وقد رأينا وشاهدنا , ثم لا نتحرك لنصرة من استنصر بنا .
لا تلتفت أخي المبارك يمينا وشمالا , وترمي بالمسؤولية على فلان أو فلان , فكلنا مطالبون بنصرتهم وإغاثتهم , كل حسب قدرته ومكانته .
فالقادة مطالبون أن يتَّقوا الله ويصلحوا ذات بينهم , وأن يتحركوا سياسياً .
والتجار مأمورون ببذل المال في سبيل الله , والجهاد بالمال مقدَّم في مواضع كثيرة من كتاب الله على الجهاد بالنفس .
والعلماء والمفكرون مطالبون بجهاد الكلمة , والنصرة بالقلم واللسان .
وأئمة المساجد مأمورون بالدعاء , وإحياء سنة القنوت عند النوازل .
وكل غيور على دينه وأمَّته مطالب بإحياء قضية إخوانه في بيته وعمله وسائر مجلسه فالجميع مطالب بحمل السلاح الذي أنيط به , سلاح الدعاء , وسلاح المال, وسلاح الكلمة , وسلاح الشعر والقصيدة , قال صلى الله عليه وسلم : ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم )) .
أما إن بردت أحاسيسك , وتبلَّد شعورك , وقعدت عن نصرة من استغاث ! فنحن لا نرجو منك أُخي إلا الصمت , وأن تكفَّ لسانك عن إخوانك المجاهدين المرابطين هناك فهي صدقة تتصدق بها على نفسك , قال صلى الله عليه وسلم : (( ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه , وينتهك فيه من حرمته , إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته , وما من امرئ ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه , وينتهك فيه من حرمته , إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته )) رواه الإمام أحمد , وهو حديث حسن .
اللهم صل على محمد ..
صور مضيئة من نصرة المستضعفين
معاشر المسلمين :
كم تلجلجت في تاريخنا من أصوات لمنكوبين , وكم ترقرقت في ماضينا من دمعات لمظلومين , وكم تعالت في غابر دهرنا من استغاثات لمقهورين .
ولكنها لم تكن مجرد صيحات في الهواء , أو أنَّات محبوسة في الضمير , بل كان لها أثرها ووقعها في تهييج الأمة , وإشعال الغيرة الإسلامية فيها , وتحريك النخوة العـربية بين أهلها.
حفظ لنا التاريخ مواقف وضَّاءة لأسلافنا , حرَّكتهم صيحات المستغيثين , وألهبتهم آهات المكلومين .
فيوم أن كنا خير أمَّة كانت تكافؤا دماؤنا , ويسعى لذمَّتنا أدنانا , ونحن يد على من سوانا .
يوم أن كنا خير أمَّة فككنا العاني , وأجبنا الداعي , وأغثنا الملهوف , ونصرنا المظلوم .
يوم أن كنا مستجيبين لله وللرسول صدقا تمثلنا قول الله حقا (( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ....)) .
فتعالوا إخوة الإيمان .. نقطع حجب الزمان , ونستنطق صفحات التاريخ لنقف على لوحات مشرقة , وأحداث غير عابرة في تاريخنا المنسي ,,, حُقَّ لنا أن نفخر بها ونفاخر , في زمن التخاذل والخذلان .
إخوة الإيمان :
* وأول الاستغاثات التي حفظها لنا الزمان ..... هو خبر تلك المرأة الأنصارية المسلمة في سوق بني قينقاع , دخلت تلك المرأة السوق , وهي في كامل حشمتها وسترها , وحيائها وعفافها .
وكان سماسرة هذا السوق وأهله هم من يهود بني قينقاع , كانوا يعملون في صياغة الحلي والمجوهرات .
وقفت تلك المرأة الشريفة عند صائغ يهودي تساومه على بضاعة أرادتها ,,, فالتفَّ حولها مجموعة يهودية قذرة جعلوا يراودونها على كشف وجهها , والمرأة تأبى وتتمنَّع .
فما كان من أحدهم إلا أن عمد إلى ثوبها _ وهي قاعدة غافلة _ فعقده إلى ظهرها , فلما قامت انكشفت سوأتها ,,,, فتضاحك اليهود وتمايلوا ,, فصاحت المرأة المقهورة : يا أهل الإسلام ,, فقام رجل من المسلمين قد أحرقت الغيرة صدره , فقتل اليهودي ,, فتنادى اليهود وتمالؤوا حتى قتلوا الرجل المسلم .
وتطير الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام , ويقع هذا الحدث في قلوبهم موقعا عظيما , فاتفقت كلمتهم على نصرة الدم المسلم , وكرامة العرض المسلم , فعقد النبي صلى الله عليه وسلم لواء وأعطاه لعمه حمزة بن عبد المطلب .
مضى اللواء الإسلامي وهو مصمم على تأديب هذه السلالة المرذولة الخائنة .
وما إن تسامع اليهود بمقدم لواء حمزة بن عبد المطلب حتى تطايروا خلف أسوارهم , واختبؤوا في حصونهم .
فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة , وقذف الله في قلوبهم الرعب, فأيقنوا بالهلاك , أعلنوا بعدها الاستسلام , والنزول على حكم رسول الله.
أصدر النبي صلى الله عليه وسلم أوامره , وحكم فيهم أن يكتَّفوا , وتضرب أعناقهم .
هنا.. تدخل رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول وقال :أحسن في مواليي يا محمد , فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم , فأعاد ابن أُبيٍّ مقالته , وجعل يدخل يده في جيب درع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تغيَّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وعُرِف منه الغضب , وهو يقول : أرسلني ( أي اتركني ) , فقال المنافق : أربع مائة حاسر , وثلاثمائة دارع قد منعوني الأحمر والأسود , تحصدهم في غداة واحدة ! إني امرؤٌ أخشى الدوائر .
ومع هذا الإلحاح الشديد حكم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجلائهم من المدينة مع نسائهم وذراريهم , وللمسلمين أموالهم وأسلحتهم . وأنزل الله في إثر ذلك : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة )) .
عباد الله :
هذا التعاطف بين النفاق واليهود وجِد في صدر الإسلام , ولا تزال الأمة عبر تاريخها ترى نماذج ونماذج من هذا التزاوج ,, وها نحن نرى اليوم صوت النفاق يتكاتف مع مجازر اليهود , تارة بتأييدهم على حملتهم النازية الآثمة , وتارة بتبرير جرائمهم وأنهم في حالة دفاع عن النفس , وتارة بالصمت المطبق تجاه عدوان اليهود , وإرسال الألسنة الحداد على إخوانهم المجاهدين المرابطين المدافعين عن حقهم وأرضهم ومقدساتهم .
إخوة الإيمان :
* ومشهد آخر سجَّله التاريخ لرجل لم يكن يُعرف بصلاح السيرة , ولا باستقامة المسيرة , قال عنه الذهبي : كان من جبابرة الملوك , وفسَّاقهم , ومتمرديهم .
وقال ابن حزم : كان من المجاهرين بالمعاصي .
ملك هذا الرجل أمر الأندلس في أواخر القرن الثاني , إنه الحكم بن هشام الأموي.
هذا الأمير على ما ذكر عنه ـ عفا الله عنَّا وعنه ـ إلا أنه كان يحمل بين جنبيه غيرة وحمية .
دخل عليه شاعر من رجال دولته فأنشده قصيدة طويلة جاء فيها :
تدارك نساء العالمين بنصرة فإنك أحرى أن تغيث وتنصرا
فسأله عن الخبر والأمر ؟ فأخبره الشاعر : أنَّه لقي في أطراف دولته بالأندلس امرأة من البادية حسيرة كسيرة , داهم النصارى أرضهم , فقتلوا وأسروا منهم , فجعلت المرأة تستغيث بالحكم بن هشام وتقول : واغوثاه يا حكم , لقد أهملتنا , وأسلمتنا حتى استأسد العدو علينا , فأيَّمنا , وأيتمنا .
فما كاد الشاعر ينهي فصول ما رأى , إلا وقد رأى الحكم بن هشام قد ثار واستثار , ونادى من حينه بالاستعداد لنصرة من استنصر به .
وما هي إلا ثلاثة أيام إلا والحكم يجوب أطراف مملكته , فسأل عن العدو الذي أغار عليهم , فدُلَّ على مكانهم , فسار نحوهم , وحاصرهم حتى فتح حصونهم , وجاس ديارهم , واستباح ذمارهم , وأسر مقاتلتهم .
ثم أمر بإحضار المرأة , وجميع من أُسر له أحد من تلك البقاع المسلمة , فجاءوا وهم يرون من ظلمهم وقهرهم مأسوراً مربوطاً ذليلاً .
فأمر الحكم حينها بضرب أعناقهم ليشفي صدور قوم مؤمنين , ويذهب غيظ قلوبهم.
بعدها سأل الحكمُ المرأةَ : هل أغاثكم الحكم ؟ فقالت المرأة : أي والله , لقد أشفى الصدور , وأنكأ العدو , وأغاث الملهوف .
ثم ودَّعهم وودَّعوه بدعوات ملؤها الحفظ والعز والنصرة .
* ومشهد آخر من مشاهد نخوتنا وعزَّتنا :
امرأة هاشمية في بلد الغربة بين الروم النصارى في بلدة عمورية , تمشي في سوق المدينة فحاول أحد الروم أن يستميلها للحرام , ففوَّتت عليه غرضه , فأغلظ عليها , فردت عليه , فما كان من هذا الرومي إلا أن لطم المرأة , وصكها في وجهها .
وأمام قلة حيلتها وضعفها وغربتها لم تجد إلا أن تطلقها صيحة من قلبها قبل لسانها , فقالت : وامعتصماااااه .
إنها صيحة خرجت من فم امرأة مكلومة محروقة .
ولكنَّ هذه الصرخة أُزهقت من أجلها نفوس , وطارت بسببها رؤوس .
ربَّ وامعتصماه انطلقت ملئ أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
وأما الرجل الرومي فرد على استنجاد المرأة بغرور واستهتار وقال : عساه أن يأتيك على فرسه الأبلق .
ويشاء الله تعالى أن يرى هذا المشهد أحد تجار المسلمين , فتألم لما رأى , وتحركت في قلبه النخوة والغيرة , فانطلق من حينه ميمِّـاً وجهه إلى بغداد .
سافر هذا الرجل وقطع المفاوز , لا لمصلحة يرجوها , وإنما نصرة لقضية امرأة مقهورة مظلومة .
ويدخل الرجل الغيور على المعتصم , ويُصوِّر له ما رأى , من خبر المرأة واستصراخها به , فاستشاط المعتصم غضباً , وأعلن النفير , وأقسم بالله أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يدوس أرضهم بخيله الأبلق .
قال أهل عصره عنه : وكان إذا حلف حلف , وإذا أقسم أقسم .
نعم خرج المعتصم من بغداد نصرة لامرأة واحدة , ولكنَّه خرج أيضاً من أجل عزة الأمة , وكرامة الأمة , وهيبة الأمة .
كنا جبالا في الجبـال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعـابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزا وصاغ الحلي والدينارا
ويخرج جيش الإسلام بقادته وأبطاله وعلمائه يفتحون المدن والحصون حتى وصلوا مدينة عمورية , فحاصروها وضربوها بالمنجنيق , ودام الحصار خمسة وخمسين يوماً حتى استسلم النصارى الرومان , وأعلنوا تسليم المدينة للمسلمين , فدخل المسلمون مدينة عمورية فاتحين منتصرين غانمين .
وفي هذا الفتح حبَّر الشاعر أبو تمام قصيدته المشهورة :
السيف أصدق إنباء من الكتب في حدِّه الحـد بين الجد واللعب
فتح الفتـوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب
تلك ـ عباد الله ـ بعض من المشاهد المكورة المحفورة في تراثنا , والتاريخ لا ينس مثل هذه المواقف الشامخة البيضاء , ويدوِّن أيضا المواقف السوداء الخائنة الخائبة .
أقول قولي هذا ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى , والصلاة والسلام على عبده المصطفى , وعلى آله وصحبه ومن اجتبى , أما بعد فيا إخوة الإيمان :
وبعد هذه المشاهد المضيئة ها نحن نرى اليوم بأعيننا من الصور والمناظر ما يفتُّ الفؤاد فتَّا , ويقطع القلب كمدا , لأطفـال يمزَّقون , وجرحى يئنـون , ورجـال ونساء يستغيثون , تعالت صيحاتهم , وبحت أصواتهم يطلبون النصرة , ويستنجدون النخوة .
فإلى متى , وحتى متى هذا الصمت , وذاك الجمود :
إلى متى يبقى فـؤادك قاسيـا وإلى متى تبقى بغير شعـورِ
هلاَّ قـرأت ملامـح الأم التي ذَبُلَتْ محاسن وجهها المذعورِ
هلاَّ استمعت إلى بكاء صغيرها وإلى أنين فـؤادها المفطـور
هلاَّ نظرت إلى دمـوع عفافها وإلى جناح إبائها المكسـور
لا عذر لنا أمام الله , وقد رأينا وشاهدنا , ثم لا نتحرك لنصرة من استنصر بنا .
لا تلتفت أخي المبارك يمينا وشمالا , وترمي بالمسؤولية على فلان أو فلان , فكلنا مطالبون بنصرتهم وإغاثتهم , كل حسب قدرته ومكانته .
فالقادة مطالبون أن يتَّقوا الله ويصلحوا ذات بينهم , وأن يتحركوا سياسياً .
والتجار مأمورون ببذل المال في سبيل الله , والجهاد بالمال مقدَّم في مواضع كثيرة من كتاب الله على الجهاد بالنفس .
والعلماء والمفكرون مطالبون بجهاد الكلمة , والنصرة بالقلم واللسان .
وأئمة المساجد مأمورون بالدعاء , وإحياء سنة القنوت عند النوازل .
وكل غيور على دينه وأمَّته مطالب بإحياء قضية إخوانه في بيته وعمله وسائر مجلسه فالجميع مطالب بحمل السلاح الذي أنيط به , سلاح الدعاء , وسلاح المال, وسلاح الكلمة , وسلاح الشعر والقصيدة , قال صلى الله عليه وسلم : ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم )) .
أما إن بردت أحاسيسك , وتبلَّد شعورك , وقعدت عن نصرة من استغاث ! فنحن لا نرجو منك أُخي إلا الصمت , وأن تكفَّ لسانك عن إخوانك المجاهدين المرابطين هناك فهي صدقة تتصدق بها على نفسك , قال صلى الله عليه وسلم : (( ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه , وينتهك فيه من حرمته , إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته , وما من امرئ ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه , وينتهك فيه من حرمته , إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته )) رواه الإمام أحمد , وهو حديث حسن .
اللهم صل على محمد ..
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى