رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
راشد بن عبد الرحمن البداح
بين غزة والأحزاب
الخطبة الأولى :
الحمد لله مُسبِغ النّعَم، دافع النّقَم، أجاب عبدَه إذ ناداه في الظُّلَم، ووعدَ بالنصر من صبر والْتزم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة وأدّى الأمانة وتركَنا على البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغُ عنها إلا هالِك، صلّى الله وسلم عليه وعلى آله وصحابته ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهاهم يهود ومن حالَفهم يأتون بحَدِّهم وحديدهم ليقتلوا المسلمين..أين؟ ليس في غزة الفلسطينية؛ بل في المدينة النبوية..متى؟ في غزوة الأحزاب التي وقعت قبل ألف أربعمائة وخمس وعشرين سنة ، فأنزل لأجلها سورة تتلى، لنذكر نعمة الله علينا فيتجدد الصبر والشكر كلما تجددت النعماء والضراء.
وهذه الغزوة في هذه السورة كأنها تحكي الحال الذي يقع الآن من دول الكفر على أهلنا في غزة.. فاقرؤا سورة الأحزاب، واسمعوا قصة غزوة الأحزاب.والقصة: ( أنَّ الْمُسْلِمِينَ تَحَزَّبَ عَلَيْهِمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ والْيَهُودُ .. فَاجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَحْزَابُ الْعَظِيمَةُ وَهُمْ بِقَدْرِ الْمُسْلِمِينَ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ . فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي آطَامِّ الْمَدِينَةِ . وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ خَنْدَقًا . وَالْعَدُوُّ قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ الْعَالِيَةِ وَالسَّافِلَةِ .
وَكَانَ عَدُوًّا شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَتْ نِكَايَتُهُ فِيهِمْ أَعْظَمَ النِّكَايَاتِ..وَدَامَ الْحِصَارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَامَ الْخَنْدَقِ - عَلَى مَا قِيلَ - بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً . وَقِيلَ : عِشْرِينَ لَيْلَةً . . { إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } .. فَلِذَلِكَ اسْتَوْلَتْ الْحِيرَةُ عَلَى مَنْ كَانَ مُتَّسِمًا بِالِاهْتِدَاءِ وَتَرَاجَمَتْ بِهِ الْآرَاءُ تَرَاجِمَ الصِّبْيَانِ بِالْحَصْبَاءِ . { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}.
ابْتَلَاهُمْ اللَّهُ بِهَذَا الِابْتِلَاءِ الَّذِي يُكَفِّرُ بِهِ خَطِيئَاتِهِمْ وَيَرْفَعُ بِهِ دَرَجَاتِهِمْ وَزُلْزِلُوا بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الرَّجَفَاتِ مَا اسْتَوْجَبُوا بِهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ ..لِيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَهُمْ الثَّابِتُونَ الصَّابِرُونَ لِيَنْصُرُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ . وَنَحْنُ نَرْجُو مِنْ اللَّهِ أَنْ يَتُوبَ .. عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَالَطَ قُلُوبَهُمْ مَرَضٌ أَوْ نِفَاقٌ بِأَنْ يُنِيبُوا إلَى رَبِّهِمْ وَيَحْسُنَ ظَنُّهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَتَقْوَى عَزِيمَتُهُمْ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ . فَقَدْ أَرَاهُمْ اللَّهُ مِنْ الْآيَاتِ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ، كَمَا قَالَ : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا }..
ولَمَّا أَلْقَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَلْقَى مِنْ الِاهْتِمَامِ وَالْعَزْمِ : أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِ عَدُوِّهِمْ الرَّوْعَ وَالِانْصِرَافَ..فَلَمَّا ثَبَّتَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ صَرَفَ الْعَدُوَّ جَزَاءً مِنْهُ وَبَيَانًا أَنَّ النِّيَّةَ الْخَالِصَةَ وَالْهِمَّةَ الصَّادِقَةَ يَنْصُرُ اللَّهُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ وَإِنْ تَبَاعَدَتْ الدِّيَارُ )( ) .
ثم بعث الله تعالى ريحًا شديدة في ليلةٍ شاتية باردة مظلِمة، فجعلت تقلِب القدورَ وتطرح الأبنيةَ وتقلب عليهم الحِجارة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلّي، يقول حذيفة رضي الله عنه كما عند الحاكم والبيهقي: لقد رأيتُنا ليلةَ الأحزاب وأبو سفيان والأحزاب فوقَنا وقريظةُ اليهود أسفَل منّا، نخافهم على ذرارِينا، وما أتَت علينا قطّ ليلةٌ أشدّ منها ظلمةً ولا أشدّ ريحًا، في أصواتِ ريحها أمثالُ الصواعق، وهي ظلمةٌ ما يرى أحدُنا أصبعَه ـ إلى أن قال:
ـ فسمعتُ المشركينَ يقولون: الرحيلَ الرحيلَ لا مُقام لكم، وإذا الريحُ في عسكرهم، فوالله إني لأسمع صوتَ في رحالهم وفُرشِهم، والرّيح تضربهم بها.
معاشر المسلمين: وفي أحلك المواقف كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على الثقة بموعود الله وعلى التفاؤل وعدم اليأس والاستكانة للكافرين. فحين كان الصحابة يعانون في حفر الخندق تعترض لهم صخرة أعيتهم ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول فقال: بسم الله ثم ضرب ضربة، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني) رواه أحمد والنسائي وحسنه ابن حجر.
وفي قلب هذه المحنة يقول: (إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن أموالهم في سبيل الله) وصدَّق المؤمنون بهذه البشارات لما في قلوبهم من قوة الإيمان..أما المنافقون فقد قال قائلهم : محمد يعدنا أن ناكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً.
أيّها المسلمون: من المواقف العجيبة في هذه الغزوة غزوة الأحزاب أنه قد جاء نُعيم بن مسعود رضي الله عنه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم مسلمًا، ثم رجَع بين الأحزاب مخذِّلاً لهم، وقد نفع الله به نفعًا عظيمًا، مع أنه حديثُ عهدٍ بالإسلام، وهكذا المؤمِن الغيور على دينه يعمل لله في كلِّ حال بما يستطيع ولو كان وحيدًا،فلربما يفتح الله على يديه فتحًا لم يكن بالحسبان.
هذا وصلوا وسلموا ...
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون :وحين تنقص الوسائل ويتفوق الكافرون بسلاحهم وأحلافهم؛ فالله بعد ذلك وقبله هو الذي يتولى عباده المؤمنين. فإن نصرهم فلا غالب لهم ولو خذلهم من بأقطارها[إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ]( ).
أيّها المسلمون: حين تدلهمّ الخطوب وتشتدّ الكروب قد تتضعضع القلوب حتى يقول المؤمنون: متى نصر الله؟ وإنّ هذه الحالَ الشديدة في هذه الغزوة أقربُ ما تكون انطباقًا على حال المسلمين اليَومَ وقد عصفت بهم المحَن وأحاطت بهم الفِتن ( ).
فَإِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ كَانَ فِيهَا أُمُورٌ عَظِيمَةٌ جَازَتْ حَدَّ الْقِيَاسِ . وَخَرَجَتْ عَنْ سَنَنِ الْعَادَةِ . وَظَهَرَ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ مِنْ تَأْيِيدِ اللَّهِ لِهَذَا الدِّينِ وَعِنَايَتِهِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَحِفْظِهِ لِلْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ - بَعْدَ أَنْ كَادَ الْإِسْلَامُ أَنْ يَنْثَلِمَ..وَخُذِلَ النَّاصِرُونَ فَلَمْ يَلْوُوا عَلَى أحد..وَانْقَطَعَتْ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ..وَتَخَاذَلَتْ الْقُلُوبُ الْمُتَنَاصِرَةُ وَثَبَتَتْ الْفِئَةُ النَّاصِرَةُ وَأَيْقَنَتْ بِالنَّصْرِ الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ وَاسْتَنْجَزَتْ مِنْ اللَّهِ وَعْدَهُ الْعِصَابَةُ الْمَنْصُورَةُ الظَّاهِرَةُ فَفَتَحَ اللَّهُ أَبْوَابَ سَمَوَاتِهِ لِجُنُودِهِ الْقَاهِرَةِ وَأَظْهَرَ عَلَى الْحَقِّ آيَاتِهِ الْبَاهِرَةَ وَأَقَامَ عَمُودَ الْكِتَابِ بَعْدَ مَيْلِهِ وَثَبَتَ لِوَاءُ الدِّينِ بِقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ وَأَرْغَمَ مَعَاطِسَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إلَى يَوْمِ التلاق . فَاَللَّهُ يُتِمُّ هَذِهِ النِّعْمَةَ بِجَمْعِ قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الطُّغْيَانِ وَيَجْعَلُ هَذِهِ الْمِنَّةَ الْجَسِيمَةَ مَبْدَأً لِكُلِّ مِنْحَةٍ كَرِيمَةٍ وَأَسَاسًا لِإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ الْقَوِيمَةِ وَيَشْفِي صُدُورَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُعَادِيهِمْ وَيُمَكِّنُهُمْ مِنْ دَانِيهِمْ وَقَاصِيهِمْ( ) .
وإنا بنصر الله واثقون، وفي أمر الأمن والخوف لرادون إلى الله ورسوله وأولي أمرنا أمرائهم وعلمائهم. وأملنا في الله ثم بهم أن يقوموا بما يدفع عنا وعنهم وعن إخواننا الضيم والظلم. وما هذه المساعي الحميدة من الرعاة والرعية، من تبرعات ومعونات ونداءات إلا دليل على الصدق والغيرة.
والمسلمون إخوان في تراحمهم وتوادِّهم، فلنعذر أنفسنا بتقديم ما نستطيعه، ولو على الحال التي ذكر الله [ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ]{التوبة:92 }.
وفي الغد ينفرج كرب إخواننا، وتنكشف الغمة عنهم بإذنه تعالى، ثم يندم من قدر على بذل ماله أو لسانه بدعائه وندائه. وأما المعذور فهو شريك في الأجر ولو لم يعمل . قال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ. خ م.
فاللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم.اللهم انصر دينك وعبادك الصالحين، اللهم انتقم للمظلومين من الظالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك واجعل عليهم رجزك وعذابك ، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق.
____________
( ) مجموع الفتاوى ( الباز المعدلة ) - (28 / 443 - 462)
( ) موسوعة خطب المنبر - (1 / 2228)ماجد بن عبد الرحمن الفريان-الرياض-سليمان بن مقيرن
( ) موسوعة خطب المنبر(1 / 3581) صالح بن محمد آل طالب-مكة المكرمة7/10/1425-المسجد الحرام
( ) مجموع الفتاوى ( الباز المعدلة ) - (28 / 466)
بين غزة والأحزاب
الخطبة الأولى :
الحمد لله مُسبِغ النّعَم، دافع النّقَم، أجاب عبدَه إذ ناداه في الظُّلَم، ووعدَ بالنصر من صبر والْتزم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة وأدّى الأمانة وتركَنا على البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغُ عنها إلا هالِك، صلّى الله وسلم عليه وعلى آله وصحابته ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهاهم يهود ومن حالَفهم يأتون بحَدِّهم وحديدهم ليقتلوا المسلمين..أين؟ ليس في غزة الفلسطينية؛ بل في المدينة النبوية..متى؟ في غزوة الأحزاب التي وقعت قبل ألف أربعمائة وخمس وعشرين سنة ، فأنزل لأجلها سورة تتلى، لنذكر نعمة الله علينا فيتجدد الصبر والشكر كلما تجددت النعماء والضراء.
وهذه الغزوة في هذه السورة كأنها تحكي الحال الذي يقع الآن من دول الكفر على أهلنا في غزة.. فاقرؤا سورة الأحزاب، واسمعوا قصة غزوة الأحزاب.والقصة: ( أنَّ الْمُسْلِمِينَ تَحَزَّبَ عَلَيْهِمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ والْيَهُودُ .. فَاجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَحْزَابُ الْعَظِيمَةُ وَهُمْ بِقَدْرِ الْمُسْلِمِينَ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ . فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي آطَامِّ الْمَدِينَةِ . وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ خَنْدَقًا . وَالْعَدُوُّ قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ الْعَالِيَةِ وَالسَّافِلَةِ .
وَكَانَ عَدُوًّا شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَتْ نِكَايَتُهُ فِيهِمْ أَعْظَمَ النِّكَايَاتِ..وَدَامَ الْحِصَارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَامَ الْخَنْدَقِ - عَلَى مَا قِيلَ - بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً . وَقِيلَ : عِشْرِينَ لَيْلَةً . . { إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } .. فَلِذَلِكَ اسْتَوْلَتْ الْحِيرَةُ عَلَى مَنْ كَانَ مُتَّسِمًا بِالِاهْتِدَاءِ وَتَرَاجَمَتْ بِهِ الْآرَاءُ تَرَاجِمَ الصِّبْيَانِ بِالْحَصْبَاءِ . { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}.
ابْتَلَاهُمْ اللَّهُ بِهَذَا الِابْتِلَاءِ الَّذِي يُكَفِّرُ بِهِ خَطِيئَاتِهِمْ وَيَرْفَعُ بِهِ دَرَجَاتِهِمْ وَزُلْزِلُوا بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الرَّجَفَاتِ مَا اسْتَوْجَبُوا بِهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ ..لِيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَهُمْ الثَّابِتُونَ الصَّابِرُونَ لِيَنْصُرُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ . وَنَحْنُ نَرْجُو مِنْ اللَّهِ أَنْ يَتُوبَ .. عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَالَطَ قُلُوبَهُمْ مَرَضٌ أَوْ نِفَاقٌ بِأَنْ يُنِيبُوا إلَى رَبِّهِمْ وَيَحْسُنَ ظَنُّهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَتَقْوَى عَزِيمَتُهُمْ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ . فَقَدْ أَرَاهُمْ اللَّهُ مِنْ الْآيَاتِ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ، كَمَا قَالَ : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا }..
ولَمَّا أَلْقَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَلْقَى مِنْ الِاهْتِمَامِ وَالْعَزْمِ : أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِ عَدُوِّهِمْ الرَّوْعَ وَالِانْصِرَافَ..فَلَمَّا ثَبَّتَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ صَرَفَ الْعَدُوَّ جَزَاءً مِنْهُ وَبَيَانًا أَنَّ النِّيَّةَ الْخَالِصَةَ وَالْهِمَّةَ الصَّادِقَةَ يَنْصُرُ اللَّهُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ وَإِنْ تَبَاعَدَتْ الدِّيَارُ )( ) .
ثم بعث الله تعالى ريحًا شديدة في ليلةٍ شاتية باردة مظلِمة، فجعلت تقلِب القدورَ وتطرح الأبنيةَ وتقلب عليهم الحِجارة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلّي، يقول حذيفة رضي الله عنه كما عند الحاكم والبيهقي: لقد رأيتُنا ليلةَ الأحزاب وأبو سفيان والأحزاب فوقَنا وقريظةُ اليهود أسفَل منّا، نخافهم على ذرارِينا، وما أتَت علينا قطّ ليلةٌ أشدّ منها ظلمةً ولا أشدّ ريحًا، في أصواتِ ريحها أمثالُ الصواعق، وهي ظلمةٌ ما يرى أحدُنا أصبعَه ـ إلى أن قال:
ـ فسمعتُ المشركينَ يقولون: الرحيلَ الرحيلَ لا مُقام لكم، وإذا الريحُ في عسكرهم، فوالله إني لأسمع صوتَ في رحالهم وفُرشِهم، والرّيح تضربهم بها.
معاشر المسلمين: وفي أحلك المواقف كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على الثقة بموعود الله وعلى التفاؤل وعدم اليأس والاستكانة للكافرين. فحين كان الصحابة يعانون في حفر الخندق تعترض لهم صخرة أعيتهم ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول فقال: بسم الله ثم ضرب ضربة، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني) رواه أحمد والنسائي وحسنه ابن حجر.
وفي قلب هذه المحنة يقول: (إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن أموالهم في سبيل الله) وصدَّق المؤمنون بهذه البشارات لما في قلوبهم من قوة الإيمان..أما المنافقون فقد قال قائلهم : محمد يعدنا أن ناكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً.
أيّها المسلمون: من المواقف العجيبة في هذه الغزوة غزوة الأحزاب أنه قد جاء نُعيم بن مسعود رضي الله عنه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم مسلمًا، ثم رجَع بين الأحزاب مخذِّلاً لهم، وقد نفع الله به نفعًا عظيمًا، مع أنه حديثُ عهدٍ بالإسلام، وهكذا المؤمِن الغيور على دينه يعمل لله في كلِّ حال بما يستطيع ولو كان وحيدًا،فلربما يفتح الله على يديه فتحًا لم يكن بالحسبان.
هذا وصلوا وسلموا ...
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون :وحين تنقص الوسائل ويتفوق الكافرون بسلاحهم وأحلافهم؛ فالله بعد ذلك وقبله هو الذي يتولى عباده المؤمنين. فإن نصرهم فلا غالب لهم ولو خذلهم من بأقطارها[إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ]( ).
أيّها المسلمون: حين تدلهمّ الخطوب وتشتدّ الكروب قد تتضعضع القلوب حتى يقول المؤمنون: متى نصر الله؟ وإنّ هذه الحالَ الشديدة في هذه الغزوة أقربُ ما تكون انطباقًا على حال المسلمين اليَومَ وقد عصفت بهم المحَن وأحاطت بهم الفِتن ( ).
فَإِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ كَانَ فِيهَا أُمُورٌ عَظِيمَةٌ جَازَتْ حَدَّ الْقِيَاسِ . وَخَرَجَتْ عَنْ سَنَنِ الْعَادَةِ . وَظَهَرَ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ مِنْ تَأْيِيدِ اللَّهِ لِهَذَا الدِّينِ وَعِنَايَتِهِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَحِفْظِهِ لِلْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ - بَعْدَ أَنْ كَادَ الْإِسْلَامُ أَنْ يَنْثَلِمَ..وَخُذِلَ النَّاصِرُونَ فَلَمْ يَلْوُوا عَلَى أحد..وَانْقَطَعَتْ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ..وَتَخَاذَلَتْ الْقُلُوبُ الْمُتَنَاصِرَةُ وَثَبَتَتْ الْفِئَةُ النَّاصِرَةُ وَأَيْقَنَتْ بِالنَّصْرِ الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ وَاسْتَنْجَزَتْ مِنْ اللَّهِ وَعْدَهُ الْعِصَابَةُ الْمَنْصُورَةُ الظَّاهِرَةُ فَفَتَحَ اللَّهُ أَبْوَابَ سَمَوَاتِهِ لِجُنُودِهِ الْقَاهِرَةِ وَأَظْهَرَ عَلَى الْحَقِّ آيَاتِهِ الْبَاهِرَةَ وَأَقَامَ عَمُودَ الْكِتَابِ بَعْدَ مَيْلِهِ وَثَبَتَ لِوَاءُ الدِّينِ بِقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ وَأَرْغَمَ مَعَاطِسَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إلَى يَوْمِ التلاق . فَاَللَّهُ يُتِمُّ هَذِهِ النِّعْمَةَ بِجَمْعِ قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الطُّغْيَانِ وَيَجْعَلُ هَذِهِ الْمِنَّةَ الْجَسِيمَةَ مَبْدَأً لِكُلِّ مِنْحَةٍ كَرِيمَةٍ وَأَسَاسًا لِإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ الْقَوِيمَةِ وَيَشْفِي صُدُورَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُعَادِيهِمْ وَيُمَكِّنُهُمْ مِنْ دَانِيهِمْ وَقَاصِيهِمْ( ) .
وإنا بنصر الله واثقون، وفي أمر الأمن والخوف لرادون إلى الله ورسوله وأولي أمرنا أمرائهم وعلمائهم. وأملنا في الله ثم بهم أن يقوموا بما يدفع عنا وعنهم وعن إخواننا الضيم والظلم. وما هذه المساعي الحميدة من الرعاة والرعية، من تبرعات ومعونات ونداءات إلا دليل على الصدق والغيرة.
والمسلمون إخوان في تراحمهم وتوادِّهم، فلنعذر أنفسنا بتقديم ما نستطيعه، ولو على الحال التي ذكر الله [ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ]{التوبة:92 }.
وفي الغد ينفرج كرب إخواننا، وتنكشف الغمة عنهم بإذنه تعالى، ثم يندم من قدر على بذل ماله أو لسانه بدعائه وندائه. وأما المعذور فهو شريك في الأجر ولو لم يعمل . قال صلى الله عليه وسلم: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ. خ م.
فاللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم.اللهم انصر دينك وعبادك الصالحين، اللهم انتقم للمظلومين من الظالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك واجعل عليهم رجزك وعذابك ، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق.
____________
( ) مجموع الفتاوى ( الباز المعدلة ) - (28 / 443 - 462)
( ) موسوعة خطب المنبر - (1 / 2228)ماجد بن عبد الرحمن الفريان-الرياض-سليمان بن مقيرن
( ) موسوعة خطب المنبر(1 / 3581) صالح بن محمد آل طالب-مكة المكرمة7/10/1425-المسجد الحرام
( ) مجموع الفتاوى ( الباز المعدلة ) - (28 / 466)
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى