رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ/ عبدالله بن محمد البصري
يبتلون بالشر ونفتن بالخير
أَمَّا بَعدُ : فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ \" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ \"
أَيُّهَا المُسلِمُونَ : إِنَّهُ لَمِمَّا يُؤسِفُ كُلَّ مُسلِمٍ وَيُحزِنُهُ ، ويُقلِقُ كُلَّ مُؤمِنٍ وَيُقِضُّ مَضجَعَهُ ، مَا وَقَعَ وَيَقَعُ لإِخوَانِنَا المُستَضعَفِينَ في غَزَّةَ مِنِ ابتِلاءٍ، وَمَا أَصَابَهُم وَيُصِيبُهُم مِن مِحَنٍ وَفِتَنٍ ، خَوفٌ وَجُوعٌ وَاضطِرَابٌ، وَإِضعَافُ مَعنَوِيَّاتٍ وَزَلزَلَةٌ وَإِرجَافٌ ، وَنَقصٌ مِنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ . لَكِنَّ هَذَا الحَزَنَ وَذَلِكَ القَلَقَ ، مَا يَلبَثُ أَن يَقِلَّ وَيَتَلاشَى وَيَذهَبَ ، وَيَنقَلِبَ إِلى نَوعٍ مِنَ الفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالغِبطَةِ ، حِينَمَا نَرَى مَا يَصدُرُ عَن أُولَئِكَ الصَّامِدِينَ الصَّابِرِينَ ، مِن مُوَاجَهَةٍ شُجَاعَةٍ لِلبَاطِلِ ، وَتَحَدٍّ مُعلَنٍ لِلبَغيِ وَالعُدوَانِ ، وَمَا يَظهَرُ عَلَيهِم مِن صَبرٍ وَيَقِينٍ وَرِضًا بما قَدَّرَ اللهُ ، فَيَتَذَكَّرُ قَولَ المَولى ـ جَلَّ وَعَلا ـ : \" وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعونَ . أُولَئِكَ عَلَيهِم صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ \" وَإِنَّكَ لَتَفرَحُ حَقًّا يَومَ تَرَى رَجُلاً عَلَى جَنبِهِ ، قَد أَثخَنَتهُ الجِرَاحُ وَأَتَاهُ أَمرُ اللهِ ، وَهُوَ يَرفَعُ أَصبُعَهُ نَاطِقًا بِشَهَادَةِ الحَقِّ يُرَدِّدُهَا ، وَتَعجَبُ مِن حَالِ ذَلِكَ المُجَاهِدِ الَّذِي يَتَّصِلُ عَلَيهِ الأَعدَاءُ وَيُخبِرُونَهُ بِمَوعِدِ قَصفِ مَنزِلِهِ ، فَمَا يَتَحَرَّكُ لَهُ سَاكِنٌ وَلا تَرتَعِدُ لَهُ فَرِيصَةٌ ، بَل وَلا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلاَّ ثَبَاتًا وَيَقِينًا وَفَرَحًا وَاستِبشَارًا ، وَيَجمَعُ زَوجَاتِهِ الأَربَعَ وَأَبنَاءَهُ وَيُخبِرُهُم بِالخَبَرِ ، وَيُبَشِّرُهُم أَنَّ مَوعِدَ الشَّهَادَةِ قَد دَنَا وَلِقَاءَ اللهِ قَدِ اقتَرَبَ ، فَمَا يَلبَثُ حَتى يَأتِيَهُ أَمرُ اللهِ وَيَذهَبَ إِلى رَبِّهِ هُوَ وَكُلُّ عَائِلَتِهِ ، يَذهَبُونَ صَامِدِينَ صَابِرِينَ ، مُوقِنِينَ بِأَنَّهُم إِلى خَيرٍ يَصِيرُونَ ، غَيرَ عَابِئِينَ بِالأَعدَاءِ الخَاسِرِينَ ؛ وَكَيفَ يَعبَؤُونَ أَو يَهتَمُّونَ وَهُمُ المَنصُورُونَ الفَائِزُون ؟ كَيفَ وَهُم المُؤمِنُونَ بِقَولِ أَصدَقِ القَائِلِينَ : \" وَلَئِن قُتِلتُم في سَبِيلِ اللهِ أَو مُتُّم لَمَغفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحمَةٌ خَيرٌ ممَّا يَجمَعُونَ . وَلَئِن مُتُّم أَو قُتِلتُم لإِلى اللهِ تُحشَرُونَ \" وفي مَشهَدٍ آخَرَ تَرَى تِلكَ الأُسرَةَ يَمُوتُ مِن أَبنَائِهَا نِصفُهُم ، فَلا تَزِيدُ الأُمُّ عَلَى أَن تَحمَدَ اللهَ وَتَستَرجِعَ ، وَتُثنِيَ عَلَيهِ إِذْ أَخَذَ خَمسَةً وَأَبقَى لها خَمسَةً ، وَغَيرُ هَذَا كَثِيرٌ مِن مَشَاهِدِ الصَّبرِ وَمَوَاقِفِ اليَقِينِ ، فَالحَمدُ للهِ الَّذِي بَشَّرَ عِبَادَهُ الصَّابِرِينَ ، وَأَنزَلَ عَلَيهِم رَحمَتَهُ وَأَثنى عَلَيهِم وَهَدَاهُمُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لا شَكَّ أَنَّ إِخوَانَنَا في أَرضِ العِزَّةِ في غَزَّةَ ، يُوَاجِهُونَ فِتنَةً عَميَاءَ وَيَلقَونَ أَشَدَّ البَلاءِ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لا يَضُرُّهُم شَيئًا وَقَد سَلَكُوا سَبِيلَ الصَّبرِ وَالرِّضَا بما قَدَّرَ اللهُ ، إِنَّهُم وَاللهِ لَبَينَ حُسنَيَينِ مَطلُوبَتَينِ مَرغُوبَتَينِ ، نَصرٌ في الدُّنيَا وَعِزٌّ وَتَمكِينٌ ، أَو شَهَادَةٌ في سَبِيلِ اللهِ وَرِفعَةٌ في عِلِّيِّينَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : \" قُلْ هَل تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحدَى الحُسنَيَينِ وَنَحنُ نَتَرَبَّصُ بِكُم أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِن عِندِهِ أَو بِأَيدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُتَرَبِّصُونَ \" هَذِهِ هِيَ حَالُ إِخوَانِنَا في غَزَّةَ ، وَحَتى وَإِنْ قُتِلُوا وَسُفِكَت مِنهُمُ الدِّمَاءُ ، وَحَتى وَإِنْ تَغَلَّبَ عَلَيهِمُ العَدوُّ بَقَوِّةِ السِّلاحِ ، وَحَتى وَإِنْ هَدَمَ بُيُوتَهُم وَمَدَارِسَهُم وَأَفسَدَ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ ، فَيَكفِيهِم شَرَفًا وَفَخرًا أَنَّهُم لم يَركَعُوا وَلم يَخضَعُوا ، يَكفِيهِم عِزًّا وَرِفعَةً أَنهم قَاوَمُوا بِصُدُورِهِم عَدُوًّا ذَا عُدَّةٍ وَعَتَادٍ ، بَل قَاوَمُوا العَالَمَ كُلَّهُ وَرَفَعُوا الرُّؤُوسَ في عِزَّةٍ ، وَنَصَرُوا اللهَ وَصَبَرُوا في المِحنَةِ ، فَمَا يَحِقُّ بَعدَ هَذَا أَن يُبكَى عَلَيهِم بُكَاءَ النِّسَاءِ ، بَل هُم أَحَقُّ بِأَن يُغبَطُوا عَلَى أَدَائِهِم وَظِيفَةَ الحَالِ الَّتي هُم فِيهَا ، وَاللهُ لا يُقَدِّرُ عَلَى عِبَادِهِ شَرًّا مَحضًا \" لا تَحسَبُوهُ شَرًّا لَكُم بَل هُوَ خَيرٌ لَكُم \" رَوَى البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنّ أُمَّ الرَّبِيعِ بِنتَ البَرَاءِ ، وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بنِ سِرَاقَةَ أَتَتِ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَت : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَلا تُحَدِّثُني عَن حَارِثَةَ - وَكَانَ قُتِلَ يَومَ بَدرٍ أَصَابَهُ سَهمٌ غَربٌ - فَإِنْ كَانَ في الجَنَّةِ صَبَرتُ ، وَإِنْ كَانَ غَيرَ ذَلِكَ اجتَهَدتُ عَلَيهِ في البُكَاءِ ؟ قَالَ : \" يَا أُمَّ حَارِثَةَ ، إِنَّهَا جِنَانٌ في الجَنَّةِ ، وَإِنَّ ابنَكِ أَصَابَ الفِردَوسَ الأَعلَى \"
نَعَم ، أَيُّهَا الإِخوَةُ ، إِنَّ مَن يَسِيرُ في سَبِيلِ اللهِ مُجَاهِدًا مُرَابِطًا ، لا يَحِقُّ أَن يُبكَى عَلَيهِ بَقِيَ أَو قُتِلَ ، فَلَهُوَ في أَعلَى المَرَاتِبِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الدُّنيَا في سُفُولٍ ، وَلَهُوَ في أَهنَأِ العَيشِ وَإِنْ كَانَ يَتَقَلَّبُ بَينَ فَقرٍ وَجُوعٍ ، وَكَيفَ يُبكَى عَلَى مَن إِنْ يُقتَل يَحْيَ عِندَ رَبِّهِ فَرِحًا مُستَبشِرًا ، وَإِنْ يَغلِبْ يَعِشْ عَزِيزًا رَافِعَ الرَّأسِ غَيرَ ذَلِيلٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : \" وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقتَلُ في سَبيلِ اللهِ أَموَاتٌ بَلْ أَحيَاءٌ وَلَكِن لا تَشعُرُونَ \" وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : \" وَلاَ تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَموَاتًا بَلْ أَحيَاءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ وَيَستَبشِرُونَ بِالَّذِينَ لم يَلحَقُوا بِهِم مِن خَلفِهِم أَلاَّ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ . يَستَبشِرُونَ بِنِعمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجرَ المُؤمِنِينَ \" وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : \" وَمَن يُقَاتِلْ في سَبِيلِ اللهِ فَيُقتَلْ أَو يَغلِبْ فَسَوفَ نُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمًا \"
أَيُّهَا المُسلِمُونَ : إِنَّ مَن قَامَ بما يَجِبُ للهِ عَلَيهِ في الحَالِ الَّتي هُوَ فِيهَا فَلا خَوفٌ عَلَيهِ وَلا حَزَنٌ ، لا خَوفٌ عَلَيهِ وَلَو حُورِبَ وَعُودِيَ وَعُذِّبَ ، وَلا حَزَنٌ عَلَيهِ وَلَو سُجِنَ أَو شُنِقَ أَو قُتِلَ ، ذَلِكُم أَنَّ المُؤمِنَ في هَذِهِ الدُّنيَا عَلَى خَيرٍ مَا اتَّقَى اللهَ وَأَطَاعَهُ وَعَمِلَ بِمَرضَاتِهِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : \" عَجَبًا لأَمرِ المُؤمِنِ ، إِنَّ أَمرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيرٌ ، وَلَيسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلمُؤمِنِ ، إِنْ أَصَابَتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ \" وَإِنَّ مِن قِلَّةِ الفِقهِ أَن تَرَى مِنَّا مَن يَنظُرُ إِلى حَالِ إِخوَانِهِ في أَرضِ الجِهَادِ في فِلَسطِينَ وَغَيرِهَا بِعَينِ الأَسَفِ وَالإِشفَاقِ ، وَيَتَقَطَّعُ قَلبُهُ لِمَا يَرَاهُم فِيهِ مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَذَهَابِ الأَمنِ وَالطُّمَأنِينَةِ ، وَلَكِنَّهُ لم يَنظُرْ إِلى نَفسِهِ يَومًا بِعَينِ البَصِيرَةِ ، وَلم يَدُرْ في خَلَدِهِ أَنَّنَا في مُقَابِلِ فِتنَةِ الشَّرِّ الَّتي بُلُوا بها ، بُلِينَا نحنُ بِفِتنَةِ الخَيرِ في بِلادِنَا ، فَأَخطَأَ كَثِيرٌ مِنَّا الطَّرِيقَ في التَّعَامُلِ مَعَهَا ، وَوَاللهِ إِنَّهَا لَهِيَ الفِتنَةُ الَّتي مَا فِتنَةٌ أَضَرُّ مِنهَا ، نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ لِلسَّرَّاءِ فِتنَةً لا تَقِلُّ عَن فِتنَةِ الضَّرَّاءِ ، وَإِذَا كَانَ كَثِيرُونَ قَد يَرجِعُونَ إِلى اللهِ وَيَلجَؤُونَ إِلَيهِ وَيَتُوبُونَ في الضَّرَّاءِ ، فَإِنَّ قَلِيلِينَ يَنجَحُونَ في فِتنَةِ السَّرَّاءِ وَيَتَجَاوَزُونَ العَقَبَةَ الكَأدَاءَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : \" وَنَبلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ \" وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : \" وَقَطَّعنَاهُم في الأَرضِ أُمَمًا مِنهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنهُم دُونَ ذَلِكَ وَبَلَونَاهُم بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ \" وَانظُرُوا إِلى نَبِيِّ اللهِ سُلَيمَانَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ لَمَّا جَاءَهُ مَا أَرَادَ وَمَثَلَ أَمَامَ عَينَيهِ مَاذَا قَالَ ؟ قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ حِكَايَةً لِمَوقِفِهِ لَمَّا أَتَاهُ عَرشُ بِلقِيسَ :
\" فَلَمَّا رَآهُ مُستَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضلِ رَبِّي لِيَبلُوَني أَأَشكُرُ أَم أَكفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ \" وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : \" وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولاَدُكُم فِتنَةٌ \" وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : \" كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطغَى أَنْ رَآهُ استَغنى \" وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : \" فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلنَاهُ نِعمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلمٍ بَل هِيَ فِتنَةٌ وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمُونَ \" وَقَد كَانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَتَعَوَّذُ مِن \" شَرِّ فِتنَةِ الغِنى وَمِن شَرِّ فِتنَةِ الفَقرِ \" وَعَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ عَنِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : \" إِذَا رَأَيتَ اللهَ يُعطِي العَبدَ مِنَ الدُّنيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ استِدرَاجٌ ، ثم تَلا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : \" فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتى إِذَا فَرِحُوا بما أُوتُوا أَخَذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُبلِسُونَ \" وَعَن عَبدِاللهِ بنِ مَسعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : نَظَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِلى الجُوعِ في وُجُوهِ أَصحَابِهِ فَقَالَ : \" أَبشِرُوا ؛ فَإِنَّهُ سَيَأتي عَلَيكُم زَمَانٌ يُغدَى عَلَى أَحَدِكُم بِالقَصعَةِ مِنَ الثَّرِيدِ وَيُرَاحُ عَلَيهِ بِمِثلِهَا \" قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، نَحنُ يَومَئِذٍ خَيرٌ ! قَالَ : \" بَلْ أَنتُمُ اليَومَ خَيرٌ مِنكُم يَومَئِذٍ \" وَعَن عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : \" أَنتُمُ اليَومَ خَيرٌ أَم إِذَا غُدِيَ عَلَى أَحَدِكُم بِجَفنَةٍ مِن خُبزٍ وَلَحمٍ وَرِيحَ عَلَيهِ بِأُخرَى ، وَغَدَا في حُلَّةٍ وَرَاحَ في أُخرَى ، وَسَتَرتُم بُيُوتَكُم كَمَا الكَعبَةُ ؟ \" قُلنَا : بَل نَحنُ يَومَئِذٍ خَيرٌ ، نَتَفَرَّغُ لِلعِبَادَةِ . فَقَالَ : \" بَل أَنتُمُ اليَومَ خَيرٌ \" وَعَن أَبي أُمَامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : \" سَيَكُونُ رِجَالٌ مِن أُمَّتي يَأكُلُونَ أَلوَانَ الطَّعَامِ ، وَيَشرَبُونَ أَلوَانَ الشَّرَابِ ، وَيَلبَسُونَ أَلوَانَ الثِّيَابِ ، وَيَتَشَدَّقُونَ في الكَلامِ ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتي \" فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ! مَا أَشبَهَ حَالَ مَن ذَكَرَهُمُ الحَبِيبُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في هَذِهِ الأَحَادِيثِ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنَّا في البِلادِ الَّتي آمَنَهَا اللهُ مِن خَوفٍ وَأَطعَمَ أَهلَهَا مِن جُوعٍ ! نَأكُلُ مِنَ النِّعَمِ أَصنَافًا ، وَنَحتَسِي مِنَ الشَّرَابِ أَذوَاقًا ، وَنَلبَسُ مِنَ الثِّيَابِ أَلوَانًا ، في أَمنٍ وَطُمَأنِينَةٍ وَرَاحَةِ بَالٍ ، ثم تَرَانَا نُبَدِّدُ النِّعَمَ في إِسرَافٍ وَتَفَاخُرٍ وَتَكَاثُرٍ ، وَيَتَشَدَّقُ بعضُنَا مُمتَدِحًا نَفسَهُ وَقَبِيلَتَهُ ، وَكَأَنَّهُ لم يُخلَقْ في الأَرضِ مِثلُهُم أَحَدٌ ، وَآخَرُونَ لا هَمَّ لَهُم إِلاَّ التَّمَدُّحُ وَالتَّشَبُّعُ بما لم يُعطَوا ، وَآخَرُونَ يَنَامُونَ عَنِ الصَّلَوَاتِ وَيَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ ، وَثَمَّةَ مَن يَأكُلُونَ الرِّبَا وَيَتَهَاوَنُونَ بِالحَرَامِ وَالمُشتَبِهَاتِ ، وَيُعَقُّ الآبَاءُ وَيُسَاءُ إِلى الأُمَّهَاتِ ، وَتُقطَعُ الأَرحَامُ وَتُهجَرُ القَرَابَاتُ ، وَتُرفَعُ في سَاحَاتِ اللَّهوِ الرَّايَاتُ ، وَتُرهَنُ كَرَامَةُ الأُمَّةِ بِالمُنَافَسَاتِ وَالمُبَارَيَاتِ ، وَتُحسَبُ رِفعَتُهَا وَتَقَدُّمُهَا بِالكُؤُوسِ وَالمِيدَالِيَّاتِ ، أَلا فَمَا أَبرَدَهَا مِن نُفُوسٍ وَمَا أَقسَاهَا مِن قُلُوبٍ ! وَصَدَقَ الشَّاعِرُ حَيثُ قَالَ :
أَبُنَيَّ إِنَّ مِنَ الرِّجَالِ بَهِيمَةً في صُورَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ المُبصِرِ
فَطِنٌ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ في مَالِهِ فَإِذَا أُصِيبَ بِدِينِهِ لم يَشعُرِ
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ فَإِنَّ سُنَنَ اللهِ لا تَتَغَيَّرُ ولا تَتَحَوَّلُ \" وَلَقَد أَرسَلنَا إِلى أُمَمٍ مِن قَبلِكَ فَأَخَذنَاهُمْ بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ . فَلَولا إِذْ جَاءَهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بما أُوتُوا أَخَذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُبلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ \" اِتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَاحذَرُوا فِتنَةَ السَّرَّاءِ ، وَانصُرُوا إِخوَانَكُم وَادعُوا لَهُم وَادعَمُوهُم بما تُطِيقُونَ \" عَسَى اللهُ أَن يَكُفَّ بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً \"
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ : فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تَقوَاهُ ، وَاستَعِدُّوا بِصَالِحِ الأَعمَالِ لِيَومِ لِقَاهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ : لَقَد كَتَبَ إِخوَانُنَا في غَزَّةَ بِدِمَائِهِم سُطُورًا مِنَ العِزَّةِ ، أَلا فَلْنَكتُبْ نحنُ مِثلَهَا بِأَموَالِنَا وَصَالِحِ أَعمَالِنَا ، لَقَدِ اتَّقُوا اللهَ في فِتنَةِ الضَّرَّاءِ ، فَوَاجَهُوا العَدُوَّ بِصُدُورِهِم وَجَادُوا بِأَروَاحِهِم ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ نحنُ في فِتنَةِ السَّرَّاءِ ، وَلْنُؤَدِّ الحَقَّ الَّذِي عَلَينَا للهِ ، لِنَقِفْ للهِ مَعَ المُصَلِّينَ ، وَلْنَقُمْ مَعَ الرَّاكِعِينَ السَّاجِدِينَ ، وَلْنُنفِقْ مَعَ المُعطِينَ البَاذِلِينَ ، لِنَتَّقِ اللهَ فِيمَا رَزَقَنَا مِن أَموَالٍ وَأَولادٍ ، وَلْنُحافِظْ على مَا وَهَبَنَا مِن أَمنٍ وَطُمَأنِينَةٍ ، وَلْنَحذَرْ مِن أَن نُبَدِّلَ نِعمَةَ اللهِ كُفرًا ، لِنَأمُرْ بِالمَعرُوفِ وَلْنَنهَ عَنِ المُنكَرِ ، وَلْنَأخُذْ عَلَى أَيدِي سُفَهَائِنَا بِالحَقِّ ، وَلْنَأطِرْهُم عَلَيهِ أَطرًا ، وَلْنَقسِرْهُم َعَلَى اتِّبَاعِهِ قَسرًا ، إِنَّهُ لَيسَ بَينَنَا وَبينَ اللهِ نَسَبٌ وَلا وَاسِطَةٌ ، وَإِنَّمَا هِيَ الأَعمَالُ الصَّالِحَةُ \" مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ \" إن َاللهُ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم \" كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِم إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ . ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَذَّبُوا بآيَاتِ رَبِّهِم فَأَهلَكنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَأَغرَقنَا آلَ فِرعَونَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ \" اللَّهُمَّ رَبَّنَا عَزَّ جَارُكَ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ وَتَقَدَّسَت أَسمَاؤُكَ ، لا يُرَدُّ أَمرُكَ وَلا يُهزَمُ جُندُكَ ، سُبحَانَكَ وَبِحَمدِكَ ، اللَّهُمَّ انصُرْ جُندَكَ وَأَيِّدْهم ، اللَّهُمَّ بَارِكْ في حِجَارَتِهِم وَصَوَارِيخِهِم وَسَدِّدْ رَميَهُم ، اللَّهُمَّ كُن لهم وَلا تَكُنْ عَلَيهِم ، وَانصُرْهُم وَلا تَنصُرْ عَلَيهِم ، اللَّهُمَّ أَنزِلِ السَّكِينَةَ في قُلُوبِهِم ، وَزَلزِلِ الأَرضَ مِن تَحتِ أَعدَائِهِم ، اللَّهُمَّ طَهِّرِ المُقَدَّسَاتِ مِن دَنَسِ اليَهُودِ الحَاقِدِينَ وَرِجسِ الصَّلِيبِيِّينَ المُتَآمِِرينَ وَكَيدِ المُنَافِقِينَ المُتَخَاذِلِينَ ، اللَّهُمَّ اهزِمْهُم وَزَلزِلْهُم وَاشدُدْ وَطأَتَكَ عَلَيهِم ، اللَّهُمَّ خَالِفْ بَينَ كَلِمَتِهِم ، وَأَلقْ في قُلُوبِهِمُ الرُّعبَ ، وَأَلقِ عَلَيهِم رِجزَكَ وَعَذَابَكَ إِلَهَ الحَقِّ .
يبتلون بالشر ونفتن بالخير
أَمَّا بَعدُ : فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ \" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ \"
أَيُّهَا المُسلِمُونَ : إِنَّهُ لَمِمَّا يُؤسِفُ كُلَّ مُسلِمٍ وَيُحزِنُهُ ، ويُقلِقُ كُلَّ مُؤمِنٍ وَيُقِضُّ مَضجَعَهُ ، مَا وَقَعَ وَيَقَعُ لإِخوَانِنَا المُستَضعَفِينَ في غَزَّةَ مِنِ ابتِلاءٍ، وَمَا أَصَابَهُم وَيُصِيبُهُم مِن مِحَنٍ وَفِتَنٍ ، خَوفٌ وَجُوعٌ وَاضطِرَابٌ، وَإِضعَافُ مَعنَوِيَّاتٍ وَزَلزَلَةٌ وَإِرجَافٌ ، وَنَقصٌ مِنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ . لَكِنَّ هَذَا الحَزَنَ وَذَلِكَ القَلَقَ ، مَا يَلبَثُ أَن يَقِلَّ وَيَتَلاشَى وَيَذهَبَ ، وَيَنقَلِبَ إِلى نَوعٍ مِنَ الفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالغِبطَةِ ، حِينَمَا نَرَى مَا يَصدُرُ عَن أُولَئِكَ الصَّامِدِينَ الصَّابِرِينَ ، مِن مُوَاجَهَةٍ شُجَاعَةٍ لِلبَاطِلِ ، وَتَحَدٍّ مُعلَنٍ لِلبَغيِ وَالعُدوَانِ ، وَمَا يَظهَرُ عَلَيهِم مِن صَبرٍ وَيَقِينٍ وَرِضًا بما قَدَّرَ اللهُ ، فَيَتَذَكَّرُ قَولَ المَولى ـ جَلَّ وَعَلا ـ : \" وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعونَ . أُولَئِكَ عَلَيهِم صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ \" وَإِنَّكَ لَتَفرَحُ حَقًّا يَومَ تَرَى رَجُلاً عَلَى جَنبِهِ ، قَد أَثخَنَتهُ الجِرَاحُ وَأَتَاهُ أَمرُ اللهِ ، وَهُوَ يَرفَعُ أَصبُعَهُ نَاطِقًا بِشَهَادَةِ الحَقِّ يُرَدِّدُهَا ، وَتَعجَبُ مِن حَالِ ذَلِكَ المُجَاهِدِ الَّذِي يَتَّصِلُ عَلَيهِ الأَعدَاءُ وَيُخبِرُونَهُ بِمَوعِدِ قَصفِ مَنزِلِهِ ، فَمَا يَتَحَرَّكُ لَهُ سَاكِنٌ وَلا تَرتَعِدُ لَهُ فَرِيصَةٌ ، بَل وَلا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلاَّ ثَبَاتًا وَيَقِينًا وَفَرَحًا وَاستِبشَارًا ، وَيَجمَعُ زَوجَاتِهِ الأَربَعَ وَأَبنَاءَهُ وَيُخبِرُهُم بِالخَبَرِ ، وَيُبَشِّرُهُم أَنَّ مَوعِدَ الشَّهَادَةِ قَد دَنَا وَلِقَاءَ اللهِ قَدِ اقتَرَبَ ، فَمَا يَلبَثُ حَتى يَأتِيَهُ أَمرُ اللهِ وَيَذهَبَ إِلى رَبِّهِ هُوَ وَكُلُّ عَائِلَتِهِ ، يَذهَبُونَ صَامِدِينَ صَابِرِينَ ، مُوقِنِينَ بِأَنَّهُم إِلى خَيرٍ يَصِيرُونَ ، غَيرَ عَابِئِينَ بِالأَعدَاءِ الخَاسِرِينَ ؛ وَكَيفَ يَعبَؤُونَ أَو يَهتَمُّونَ وَهُمُ المَنصُورُونَ الفَائِزُون ؟ كَيفَ وَهُم المُؤمِنُونَ بِقَولِ أَصدَقِ القَائِلِينَ : \" وَلَئِن قُتِلتُم في سَبِيلِ اللهِ أَو مُتُّم لَمَغفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحمَةٌ خَيرٌ ممَّا يَجمَعُونَ . وَلَئِن مُتُّم أَو قُتِلتُم لإِلى اللهِ تُحشَرُونَ \" وفي مَشهَدٍ آخَرَ تَرَى تِلكَ الأُسرَةَ يَمُوتُ مِن أَبنَائِهَا نِصفُهُم ، فَلا تَزِيدُ الأُمُّ عَلَى أَن تَحمَدَ اللهَ وَتَستَرجِعَ ، وَتُثنِيَ عَلَيهِ إِذْ أَخَذَ خَمسَةً وَأَبقَى لها خَمسَةً ، وَغَيرُ هَذَا كَثِيرٌ مِن مَشَاهِدِ الصَّبرِ وَمَوَاقِفِ اليَقِينِ ، فَالحَمدُ للهِ الَّذِي بَشَّرَ عِبَادَهُ الصَّابِرِينَ ، وَأَنزَلَ عَلَيهِم رَحمَتَهُ وَأَثنى عَلَيهِم وَهَدَاهُمُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لا شَكَّ أَنَّ إِخوَانَنَا في أَرضِ العِزَّةِ في غَزَّةَ ، يُوَاجِهُونَ فِتنَةً عَميَاءَ وَيَلقَونَ أَشَدَّ البَلاءِ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لا يَضُرُّهُم شَيئًا وَقَد سَلَكُوا سَبِيلَ الصَّبرِ وَالرِّضَا بما قَدَّرَ اللهُ ، إِنَّهُم وَاللهِ لَبَينَ حُسنَيَينِ مَطلُوبَتَينِ مَرغُوبَتَينِ ، نَصرٌ في الدُّنيَا وَعِزٌّ وَتَمكِينٌ ، أَو شَهَادَةٌ في سَبِيلِ اللهِ وَرِفعَةٌ في عِلِّيِّينَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : \" قُلْ هَل تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحدَى الحُسنَيَينِ وَنَحنُ نَتَرَبَّصُ بِكُم أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِن عِندِهِ أَو بِأَيدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُتَرَبِّصُونَ \" هَذِهِ هِيَ حَالُ إِخوَانِنَا في غَزَّةَ ، وَحَتى وَإِنْ قُتِلُوا وَسُفِكَت مِنهُمُ الدِّمَاءُ ، وَحَتى وَإِنْ تَغَلَّبَ عَلَيهِمُ العَدوُّ بَقَوِّةِ السِّلاحِ ، وَحَتى وَإِنْ هَدَمَ بُيُوتَهُم وَمَدَارِسَهُم وَأَفسَدَ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ ، فَيَكفِيهِم شَرَفًا وَفَخرًا أَنَّهُم لم يَركَعُوا وَلم يَخضَعُوا ، يَكفِيهِم عِزًّا وَرِفعَةً أَنهم قَاوَمُوا بِصُدُورِهِم عَدُوًّا ذَا عُدَّةٍ وَعَتَادٍ ، بَل قَاوَمُوا العَالَمَ كُلَّهُ وَرَفَعُوا الرُّؤُوسَ في عِزَّةٍ ، وَنَصَرُوا اللهَ وَصَبَرُوا في المِحنَةِ ، فَمَا يَحِقُّ بَعدَ هَذَا أَن يُبكَى عَلَيهِم بُكَاءَ النِّسَاءِ ، بَل هُم أَحَقُّ بِأَن يُغبَطُوا عَلَى أَدَائِهِم وَظِيفَةَ الحَالِ الَّتي هُم فِيهَا ، وَاللهُ لا يُقَدِّرُ عَلَى عِبَادِهِ شَرًّا مَحضًا \" لا تَحسَبُوهُ شَرًّا لَكُم بَل هُوَ خَيرٌ لَكُم \" رَوَى البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنّ أُمَّ الرَّبِيعِ بِنتَ البَرَاءِ ، وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بنِ سِرَاقَةَ أَتَتِ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَت : يَا نَبِيَّ اللهِ ، أَلا تُحَدِّثُني عَن حَارِثَةَ - وَكَانَ قُتِلَ يَومَ بَدرٍ أَصَابَهُ سَهمٌ غَربٌ - فَإِنْ كَانَ في الجَنَّةِ صَبَرتُ ، وَإِنْ كَانَ غَيرَ ذَلِكَ اجتَهَدتُ عَلَيهِ في البُكَاءِ ؟ قَالَ : \" يَا أُمَّ حَارِثَةَ ، إِنَّهَا جِنَانٌ في الجَنَّةِ ، وَإِنَّ ابنَكِ أَصَابَ الفِردَوسَ الأَعلَى \"
نَعَم ، أَيُّهَا الإِخوَةُ ، إِنَّ مَن يَسِيرُ في سَبِيلِ اللهِ مُجَاهِدًا مُرَابِطًا ، لا يَحِقُّ أَن يُبكَى عَلَيهِ بَقِيَ أَو قُتِلَ ، فَلَهُوَ في أَعلَى المَرَاتِبِ وَإِنْ كَانَ مِنَ الدُّنيَا في سُفُولٍ ، وَلَهُوَ في أَهنَأِ العَيشِ وَإِنْ كَانَ يَتَقَلَّبُ بَينَ فَقرٍ وَجُوعٍ ، وَكَيفَ يُبكَى عَلَى مَن إِنْ يُقتَل يَحْيَ عِندَ رَبِّهِ فَرِحًا مُستَبشِرًا ، وَإِنْ يَغلِبْ يَعِشْ عَزِيزًا رَافِعَ الرَّأسِ غَيرَ ذَلِيلٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : \" وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقتَلُ في سَبيلِ اللهِ أَموَاتٌ بَلْ أَحيَاءٌ وَلَكِن لا تَشعُرُونَ \" وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : \" وَلاَ تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَموَاتًا بَلْ أَحيَاءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ وَيَستَبشِرُونَ بِالَّذِينَ لم يَلحَقُوا بِهِم مِن خَلفِهِم أَلاَّ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ . يَستَبشِرُونَ بِنِعمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجرَ المُؤمِنِينَ \" وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : \" وَمَن يُقَاتِلْ في سَبِيلِ اللهِ فَيُقتَلْ أَو يَغلِبْ فَسَوفَ نُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمًا \"
أَيُّهَا المُسلِمُونَ : إِنَّ مَن قَامَ بما يَجِبُ للهِ عَلَيهِ في الحَالِ الَّتي هُوَ فِيهَا فَلا خَوفٌ عَلَيهِ وَلا حَزَنٌ ، لا خَوفٌ عَلَيهِ وَلَو حُورِبَ وَعُودِيَ وَعُذِّبَ ، وَلا حَزَنٌ عَلَيهِ وَلَو سُجِنَ أَو شُنِقَ أَو قُتِلَ ، ذَلِكُم أَنَّ المُؤمِنَ في هَذِهِ الدُّنيَا عَلَى خَيرٍ مَا اتَّقَى اللهَ وَأَطَاعَهُ وَعَمِلَ بِمَرضَاتِهِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : \" عَجَبًا لأَمرِ المُؤمِنِ ، إِنَّ أَمرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيرٌ ، وَلَيسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلمُؤمِنِ ، إِنْ أَصَابَتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ \" وَإِنَّ مِن قِلَّةِ الفِقهِ أَن تَرَى مِنَّا مَن يَنظُرُ إِلى حَالِ إِخوَانِهِ في أَرضِ الجِهَادِ في فِلَسطِينَ وَغَيرِهَا بِعَينِ الأَسَفِ وَالإِشفَاقِ ، وَيَتَقَطَّعُ قَلبُهُ لِمَا يَرَاهُم فِيهِ مِنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَذَهَابِ الأَمنِ وَالطُّمَأنِينَةِ ، وَلَكِنَّهُ لم يَنظُرْ إِلى نَفسِهِ يَومًا بِعَينِ البَصِيرَةِ ، وَلم يَدُرْ في خَلَدِهِ أَنَّنَا في مُقَابِلِ فِتنَةِ الشَّرِّ الَّتي بُلُوا بها ، بُلِينَا نحنُ بِفِتنَةِ الخَيرِ في بِلادِنَا ، فَأَخطَأَ كَثِيرٌ مِنَّا الطَّرِيقَ في التَّعَامُلِ مَعَهَا ، وَوَاللهِ إِنَّهَا لَهِيَ الفِتنَةُ الَّتي مَا فِتنَةٌ أَضَرُّ مِنهَا ، نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ لِلسَّرَّاءِ فِتنَةً لا تَقِلُّ عَن فِتنَةِ الضَّرَّاءِ ، وَإِذَا كَانَ كَثِيرُونَ قَد يَرجِعُونَ إِلى اللهِ وَيَلجَؤُونَ إِلَيهِ وَيَتُوبُونَ في الضَّرَّاءِ ، فَإِنَّ قَلِيلِينَ يَنجَحُونَ في فِتنَةِ السَّرَّاءِ وَيَتَجَاوَزُونَ العَقَبَةَ الكَأدَاءَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : \" وَنَبلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ \" وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : \" وَقَطَّعنَاهُم في الأَرضِ أُمَمًا مِنهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنهُم دُونَ ذَلِكَ وَبَلَونَاهُم بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ \" وَانظُرُوا إِلى نَبِيِّ اللهِ سُلَيمَانَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ لَمَّا جَاءَهُ مَا أَرَادَ وَمَثَلَ أَمَامَ عَينَيهِ مَاذَا قَالَ ؟ قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ حِكَايَةً لِمَوقِفِهِ لَمَّا أَتَاهُ عَرشُ بِلقِيسَ :
\" فَلَمَّا رَآهُ مُستَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضلِ رَبِّي لِيَبلُوَني أَأَشكُرُ أَم أَكفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ \" وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : \" وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولاَدُكُم فِتنَةٌ \" وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : \" كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطغَى أَنْ رَآهُ استَغنى \" وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : \" فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلنَاهُ نِعمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلمٍ بَل هِيَ فِتنَةٌ وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمُونَ \" وَقَد كَانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَتَعَوَّذُ مِن \" شَرِّ فِتنَةِ الغِنى وَمِن شَرِّ فِتنَةِ الفَقرِ \" وَعَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ عَنِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : \" إِذَا رَأَيتَ اللهَ يُعطِي العَبدَ مِنَ الدُّنيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ استِدرَاجٌ ، ثم تَلا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : \" فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتى إِذَا فَرِحُوا بما أُوتُوا أَخَذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُبلِسُونَ \" وَعَن عَبدِاللهِ بنِ مَسعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : نَظَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِلى الجُوعِ في وُجُوهِ أَصحَابِهِ فَقَالَ : \" أَبشِرُوا ؛ فَإِنَّهُ سَيَأتي عَلَيكُم زَمَانٌ يُغدَى عَلَى أَحَدِكُم بِالقَصعَةِ مِنَ الثَّرِيدِ وَيُرَاحُ عَلَيهِ بِمِثلِهَا \" قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، نَحنُ يَومَئِذٍ خَيرٌ ! قَالَ : \" بَلْ أَنتُمُ اليَومَ خَيرٌ مِنكُم يَومَئِذٍ \" وَعَن عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : \" أَنتُمُ اليَومَ خَيرٌ أَم إِذَا غُدِيَ عَلَى أَحَدِكُم بِجَفنَةٍ مِن خُبزٍ وَلَحمٍ وَرِيحَ عَلَيهِ بِأُخرَى ، وَغَدَا في حُلَّةٍ وَرَاحَ في أُخرَى ، وَسَتَرتُم بُيُوتَكُم كَمَا الكَعبَةُ ؟ \" قُلنَا : بَل نَحنُ يَومَئِذٍ خَيرٌ ، نَتَفَرَّغُ لِلعِبَادَةِ . فَقَالَ : \" بَل أَنتُمُ اليَومَ خَيرٌ \" وَعَن أَبي أُمَامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : \" سَيَكُونُ رِجَالٌ مِن أُمَّتي يَأكُلُونَ أَلوَانَ الطَّعَامِ ، وَيَشرَبُونَ أَلوَانَ الشَّرَابِ ، وَيَلبَسُونَ أَلوَانَ الثِّيَابِ ، وَيَتَشَدَّقُونَ في الكَلامِ ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتي \" فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ! مَا أَشبَهَ حَالَ مَن ذَكَرَهُمُ الحَبِيبُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في هَذِهِ الأَحَادِيثِ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنَّا في البِلادِ الَّتي آمَنَهَا اللهُ مِن خَوفٍ وَأَطعَمَ أَهلَهَا مِن جُوعٍ ! نَأكُلُ مِنَ النِّعَمِ أَصنَافًا ، وَنَحتَسِي مِنَ الشَّرَابِ أَذوَاقًا ، وَنَلبَسُ مِنَ الثِّيَابِ أَلوَانًا ، في أَمنٍ وَطُمَأنِينَةٍ وَرَاحَةِ بَالٍ ، ثم تَرَانَا نُبَدِّدُ النِّعَمَ في إِسرَافٍ وَتَفَاخُرٍ وَتَكَاثُرٍ ، وَيَتَشَدَّقُ بعضُنَا مُمتَدِحًا نَفسَهُ وَقَبِيلَتَهُ ، وَكَأَنَّهُ لم يُخلَقْ في الأَرضِ مِثلُهُم أَحَدٌ ، وَآخَرُونَ لا هَمَّ لَهُم إِلاَّ التَّمَدُّحُ وَالتَّشَبُّعُ بما لم يُعطَوا ، وَآخَرُونَ يَنَامُونَ عَنِ الصَّلَوَاتِ وَيَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ ، وَثَمَّةَ مَن يَأكُلُونَ الرِّبَا وَيَتَهَاوَنُونَ بِالحَرَامِ وَالمُشتَبِهَاتِ ، وَيُعَقُّ الآبَاءُ وَيُسَاءُ إِلى الأُمَّهَاتِ ، وَتُقطَعُ الأَرحَامُ وَتُهجَرُ القَرَابَاتُ ، وَتُرفَعُ في سَاحَاتِ اللَّهوِ الرَّايَاتُ ، وَتُرهَنُ كَرَامَةُ الأُمَّةِ بِالمُنَافَسَاتِ وَالمُبَارَيَاتِ ، وَتُحسَبُ رِفعَتُهَا وَتَقَدُّمُهَا بِالكُؤُوسِ وَالمِيدَالِيَّاتِ ، أَلا فَمَا أَبرَدَهَا مِن نُفُوسٍ وَمَا أَقسَاهَا مِن قُلُوبٍ ! وَصَدَقَ الشَّاعِرُ حَيثُ قَالَ :
أَبُنَيَّ إِنَّ مِنَ الرِّجَالِ بَهِيمَةً في صُورَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ المُبصِرِ
فَطِنٌ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ في مَالِهِ فَإِذَا أُصِيبَ بِدِينِهِ لم يَشعُرِ
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ فَإِنَّ سُنَنَ اللهِ لا تَتَغَيَّرُ ولا تَتَحَوَّلُ \" وَلَقَد أَرسَلنَا إِلى أُمَمٍ مِن قَبلِكَ فَأَخَذنَاهُمْ بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ . فَلَولا إِذْ جَاءَهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بما أُوتُوا أَخَذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُبلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ \" اِتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَاحذَرُوا فِتنَةَ السَّرَّاءِ ، وَانصُرُوا إِخوَانَكُم وَادعُوا لَهُم وَادعَمُوهُم بما تُطِيقُونَ \" عَسَى اللهُ أَن يَكُفَّ بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً \"
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ : فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تَقوَاهُ ، وَاستَعِدُّوا بِصَالِحِ الأَعمَالِ لِيَومِ لِقَاهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ : لَقَد كَتَبَ إِخوَانُنَا في غَزَّةَ بِدِمَائِهِم سُطُورًا مِنَ العِزَّةِ ، أَلا فَلْنَكتُبْ نحنُ مِثلَهَا بِأَموَالِنَا وَصَالِحِ أَعمَالِنَا ، لَقَدِ اتَّقُوا اللهَ في فِتنَةِ الضَّرَّاءِ ، فَوَاجَهُوا العَدُوَّ بِصُدُورِهِم وَجَادُوا بِأَروَاحِهِم ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ نحنُ في فِتنَةِ السَّرَّاءِ ، وَلْنُؤَدِّ الحَقَّ الَّذِي عَلَينَا للهِ ، لِنَقِفْ للهِ مَعَ المُصَلِّينَ ، وَلْنَقُمْ مَعَ الرَّاكِعِينَ السَّاجِدِينَ ، وَلْنُنفِقْ مَعَ المُعطِينَ البَاذِلِينَ ، لِنَتَّقِ اللهَ فِيمَا رَزَقَنَا مِن أَموَالٍ وَأَولادٍ ، وَلْنُحافِظْ على مَا وَهَبَنَا مِن أَمنٍ وَطُمَأنِينَةٍ ، وَلْنَحذَرْ مِن أَن نُبَدِّلَ نِعمَةَ اللهِ كُفرًا ، لِنَأمُرْ بِالمَعرُوفِ وَلْنَنهَ عَنِ المُنكَرِ ، وَلْنَأخُذْ عَلَى أَيدِي سُفَهَائِنَا بِالحَقِّ ، وَلْنَأطِرْهُم عَلَيهِ أَطرًا ، وَلْنَقسِرْهُم َعَلَى اتِّبَاعِهِ قَسرًا ، إِنَّهُ لَيسَ بَينَنَا وَبينَ اللهِ نَسَبٌ وَلا وَاسِطَةٌ ، وَإِنَّمَا هِيَ الأَعمَالُ الصَّالِحَةُ \" مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ \" إن َاللهُ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم \" كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِم إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ . ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . كَدَأبِ آلِ فِرعَونَ وَالَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَذَّبُوا بآيَاتِ رَبِّهِم فَأَهلَكنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَأَغرَقنَا آلَ فِرعَونَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ \" اللَّهُمَّ رَبَّنَا عَزَّ جَارُكَ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ وَتَقَدَّسَت أَسمَاؤُكَ ، لا يُرَدُّ أَمرُكَ وَلا يُهزَمُ جُندُكَ ، سُبحَانَكَ وَبِحَمدِكَ ، اللَّهُمَّ انصُرْ جُندَكَ وَأَيِّدْهم ، اللَّهُمَّ بَارِكْ في حِجَارَتِهِم وَصَوَارِيخِهِم وَسَدِّدْ رَميَهُم ، اللَّهُمَّ كُن لهم وَلا تَكُنْ عَلَيهِم ، وَانصُرْهُم وَلا تَنصُرْ عَلَيهِم ، اللَّهُمَّ أَنزِلِ السَّكِينَةَ في قُلُوبِهِم ، وَزَلزِلِ الأَرضَ مِن تَحتِ أَعدَائِهِم ، اللَّهُمَّ طَهِّرِ المُقَدَّسَاتِ مِن دَنَسِ اليَهُودِ الحَاقِدِينَ وَرِجسِ الصَّلِيبِيِّينَ المُتَآمِِرينَ وَكَيدِ المُنَافِقِينَ المُتَخَاذِلِينَ ، اللَّهُمَّ اهزِمْهُم وَزَلزِلْهُم وَاشدُدْ وَطأَتَكَ عَلَيهِم ، اللَّهُمَّ خَالِفْ بَينَ كَلِمَتِهِم ، وَأَلقْ في قُلُوبِهِمُ الرُّعبَ ، وَأَلقِ عَلَيهِم رِجزَكَ وَعَذَابَكَ إِلَهَ الحَقِّ .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى