رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
عشر ذي الحجة - خصائصها ومزاياها
الحمد لله العليم القدير؛ دلَّ خلقُه ورزقُه على قدرته، وبرهن تدبيرُه لما خلق على علمه وحكمته [إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلَّاقُ العَلِيمُ] {الحجر:86} وقال الملائكة عليهم السلام [سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ] {البقرة:32} نحمده ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ امتن على عباده فخلقهم ورزقهم وكفاهم، وإلى دينه ومرضاته هداهم [وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ] {البقرة:198} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ نصح لأمته فدلهم على ما ينفعهم، وحذرهم مما يضرهم [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {التوبة:128} صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه فكانوا خير هذه الأمة إقامةً لدين الله تعالى، ونصرة لنبيه ^، وقياما بحقه، ووفاء له، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واغتنموا ما بقي من أعماركم، واعتبروا بما ضاع من أوقاتكم، واتعظوا بمن مضوا قبلكم؛ فإنكم سائرون على دربهم، صائرون إلى مصيرهم، ولا مفر من الله تعالى إلا إليه، ولا نجاة إلا بصدق التوجه إليه سبحانه، وتعلق القلوب به عز وجل، وإخلاص العمل له وحده دون سواه [وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ] {البيِّنة:5} .
أيها الناس: اختص الله تعالى بعض الأزمنة بعبادات فُضِلت بها على غيرها من الزمان، كما اختص ثلث الليل الآخر دون سائر الليل والنهار بتجليه سبحانه للمستغفرين من عباده و والسائلين والداعين، واختص يوم الجمعة بهذه الصلاة العظيمة، وبساعة الإجابة فيها، واختص رمضان بوجوب صيامه، ومشروعية الجماعة في قيامه.
واختُصت عشرُ ذي الحجة باجتماع أمهات العبادات فيها، فكان العمل الصالح فيها أفضلَ منه في غيرها؛ فالصلاة والدعاء والصدقة والجهاد وقراءة القرآن وذكر الله تعالى وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من القربات هي في عشر ذي الحجة أفضل منها في غيرها؛ لحديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عز وجل ولا أَعْظَمَ أَجْرًا من خَيْرٍ يعمله في عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله عز وجل إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ» رواه البخاري والدارمي واللفظ له.
إن هذه العشر المباركات التي نبتدئها اليوم أو غدا هي أفضل أيام السنة، والعمل الصالح فيها أيَّاً كان نوعه أفضل منه في غيرها، وهي تقع في آخر شهر من السنة، فكأنها تعويض للمفرطين في عامهم ليتداركوا أنفسهم، ويعوضوا فيها ما فاتهم، ويدركوا بها منزلة من سبقهم، ومن فضل الله تعالى أنها كانت في آخر العام؛ فإن العبد يتذكر بنهاية سنته نهاية عمره، ويندم على ما فرط في أيامه الخالية، ويعقد العزم على استثمار ما بقي من حياته؛ فإذا هو يستقبل هذه العشر المباركة؛ ليفي بوعده لربه، ويصدق مع نفسه.
إن الله تعالى حين جعل هذه العشر المباركات أفضل أيام السنة فإنه سبحانه اختصها بخصائص ليست في غيرها، وجعلها زمناً لعبادات لا تكون في سواها؛ فهي زمن أداء ركن الإسلام الخامس، فأولُ أيام الحج فيها وهو يوم التروية، وفيها ركنُه الأعظمُ وهو الوقوفُ بعرفة، ويُتَوَّجُ خاتمتُها وهو يوم النحر بأكثر أعمال الحج وهي الرمي والنحر والحلق والحل من الإحرام، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة.
إنها اختُصت بهذه الأيام الثلاثة العظيمة، وفيها مناسك الحج وشعائره الكبيرة، ففي اليوم الثامن يبدأ الحجاج مناسكهم، وفي اليوم التاسع يقفون بعرفة، وهو من أعظم الأيام وأفضلها، ويعتق الله تعالى فيه من النار ما لا يعتق في غيره من سائر الأيام؛ كما في حديث عَائِشَة رضي الله عنها أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما من يَوْمٍ أَكْثَرَ من أَنْ يُعْتِقَ الله فيه عَبْدًا من النَّارِ من يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فيقول: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ»رواه مسلم.
وهو اليوم الذي نزلت فيه آية الإخبار بكمال الدين، وتمام النعمة على النبي ^ وهو واقف بعرفة، عن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه«أَنَّ رَجُلًا من الْيَهُودِ قال له: يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تقرؤونها لو عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذلك الْيَوْمَ عِيدًا، قال: أَيُّ آيَةٍ؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا، قال عُمَرُ: قد عَرَفْنَا ذلك الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الذي نَزَلَتْ فيه على النبي ^ وهو قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يوم جُمُعَةٍ»رواه الشيخان.
فكان الإخبار عن كمال دين الإسلام، وتمام نعمة الله تعالى به علينا، ورضاه بالإسلام لنا دينا في اليوم التاسع من هذه العشر المباركة فاختصت بهذا الفضل العظيم.
وفيها ليلة جَمْعٍ حين يبيت الحجاجُ بمزدلفة، ويذكرون الله تعالى فيها بعد الفجر إلى الإسفار، قال الله تعالى في فضل هذا الذكر في ذلك المشعر المبارك [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ] {البقرة:198}.
واختُصت العشر بيوم النحر، وهو العيد الأكبر، وهو أفضل من عيد الفطر؛ لاختصاصه بكثير من الشعائر والعبادات، وفيه تُراق الدماء تعظيما لله تعالى، ولا تذبح الضحايا والهدايا قبله [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ] {الكوثر:2} فكان التَنَسُّك بالدماء لله تعالى في خاتمة هذه العشر المباركة، وكان آخر يوم منها وهو اليوم العاشر عيدا كبيرا للمسلمين، يذكرون الله تعالى فيه على ما هداهم، ويشكرونه على ما أعطاهم [فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {الحج:36-37} وثبت فضله في حديث عبد الله بن قُرْطٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» رواه أبو داود.
ومن أراد أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره من دخول العشر إلى أن يذبح أضحيته؛ لأمر النبي ^ بذلك.
ومن خصائص هذه العشر المباركة أن الله تعالى نص في كتابه العزيز على ذكره فيها فقال سبحانه [وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ] {الحج:27}.
فالأيام المعلومات هي العشر في قول أكثر السلف والعلماء، ومِنْ ذكره سبحانه فيها ما شرع فيها من التكبير؛ تعظيما لله تعالى، وإعلاما بفضيلة هذه العشر، وإظهارا لشعائرها.
وروى ابن عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ الله وَلاَ أَحَبُّ إليه الْعَمَلُ فِيهِنَّ من هذه الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ والتحميد»رواه أحمد، قال البخاري رحمه الله تعالى:«وكان ابن عُمَرَ وأبو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إلى السُّوقِ في أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ الناس بِتَكْبِيرِهِمَا» وروى الدارمي عن سَعِيد بن جُبَيْرٍ رحمه الله تعالى أنه «كان إذا دخل أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حتى ما يَكَادُ يَقْدِرُ عليه».
فحري بالمسلم أن يشكر الله تعالى على فضلها وفضل العمل الصالح فيها وهي أيام قلائل، وأن يشكره عز وجل على ما شرع فيها من أمهات العبادات والأعمال الصالحة، وأن يشكره عز وجل على بلوغها وهو في أمن وعافية، ولديه قدرة على الاجتهاد فيها بما يرضي الله تعالى، ومن دلائل الشكر فيها حبس النفس على الطاعات، ومجانبة المحرمات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] {إبراهيم:34}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {الحشر:18-19}.
أيها المسلمون: هذه الدنيا التي نعيشها لن نخلد فيها، وهي لن تبقى إلى الأبد؛ فلها نهاية كما كان لها بداية، ونحن نعلم أنه في كل يوم يموت خلق كثير ويدفنون، ولا بد أن نكون يوما من الأيام منهم، طال ذلك أم قصر.
والدنيا بأفراحها وأتراحها، ومسراتها وأحزانها، ويسرها وعسرها ينساها الناس بمفارقتها، بل إن الواحد يصيبه عسر شديد، ومصيبة كبيرة، ثم مع مرور الأيام يزول عسرُه، وينسى مصيبتَه، ويذهب همُه وغمه، وكذلك الإنسان تصيبه سراءُ فيفرح بها فرحا شديدا ومع الأيام ينساها ويزول فرحه.
وهكذا ما يلحق أهل الإيمان والتقوى من مشقة حبس النفس على الطاعات، وكفها عن الشهوات؛ فإنهم ينسون ذلك بمجرد انتهاء وقته، وذهاب مشقته؛ فالصائم الذي جاع وعطش ينسى معاناته مع الجوع والعطش بمجرد فطره، والحاج الذي لحقه من المشقة والزحام وطول الانتظار ما لحقه ينسى ذلك بمجرد إتمام حجه، وانقضاء نسكه.
وأهل الشهوات المحرمة ينسون لذة شهواتهم ومتعتها بمجرد مفارقتها، وتبقى السيئات في صحائفهم، والأوزار تثقلهم، والهموم والأحزان تملأ قلوبهم، وهذا من عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة.
ونجد هذا المعنى واضحا كل الوضوح في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا من أَهْلِ النَّارِ يوم الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يا بن آدَمَ، هل رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيقول: لَا والله يا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الناس بُؤْسًا في الدُّنْيَا من أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الْجَنَّةِ فَيُقَالُ له: يا بن آدَمَ، هل رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هل مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيقول: لَا والله يا رَبِّ ما مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ ولا رأيت شِدَّةً قَطُّ»رواه مسلم
فحري بالمسلم أن يعتبر بذلك، وأن يعمر وقته بطاعة الله عز وجل؛ لعلمه أن ما يلحقه من مشقة العبادة يزول ويبقى له أجرها، يتنعم به خالدا مخلدا في دار النعيم، وأن يجانب المحرمات ليقينه أن لذتها تزول بزوالها، ويبقى وزرها عليه، وأن يستفيد من الأزمان الفاضلة، والأوقات المباركة التي اختصها الله تعالى بشعائره العظيمة، فيعظمها كما عظمها الرب تبارك وتعالى، ويخصها بكثرة النوافل والقربات، وإن الخسران كل الخسران أن يصرفها العبد في اللهو والغفلة، والتمتع بما حرم الله تعالى عليه، ولربما كانت هذه العشر آخر موسم مبارك يدركه العبد في حياته، فلعل الموت يبغته في أي لحظة [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ] {آل عمران:30}.
وصلوا وسلموا.....
عشر ذي الحجة - خصائصها ومزاياها
الحمد لله العليم القدير؛ دلَّ خلقُه ورزقُه على قدرته، وبرهن تدبيرُه لما خلق على علمه وحكمته [إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلَّاقُ العَلِيمُ] {الحجر:86} وقال الملائكة عليهم السلام [سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ] {البقرة:32} نحمده ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ امتن على عباده فخلقهم ورزقهم وكفاهم، وإلى دينه ومرضاته هداهم [وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ] {البقرة:198} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ نصح لأمته فدلهم على ما ينفعهم، وحذرهم مما يضرهم [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {التوبة:128} صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه فكانوا خير هذه الأمة إقامةً لدين الله تعالى، ونصرة لنبيه ^، وقياما بحقه، ووفاء له، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واغتنموا ما بقي من أعماركم، واعتبروا بما ضاع من أوقاتكم، واتعظوا بمن مضوا قبلكم؛ فإنكم سائرون على دربهم، صائرون إلى مصيرهم، ولا مفر من الله تعالى إلا إليه، ولا نجاة إلا بصدق التوجه إليه سبحانه، وتعلق القلوب به عز وجل، وإخلاص العمل له وحده دون سواه [وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ] {البيِّنة:5} .
أيها الناس: اختص الله تعالى بعض الأزمنة بعبادات فُضِلت بها على غيرها من الزمان، كما اختص ثلث الليل الآخر دون سائر الليل والنهار بتجليه سبحانه للمستغفرين من عباده و والسائلين والداعين، واختص يوم الجمعة بهذه الصلاة العظيمة، وبساعة الإجابة فيها، واختص رمضان بوجوب صيامه، ومشروعية الجماعة في قيامه.
واختُصت عشرُ ذي الحجة باجتماع أمهات العبادات فيها، فكان العمل الصالح فيها أفضلَ منه في غيرها؛ فالصلاة والدعاء والصدقة والجهاد وقراءة القرآن وذكر الله تعالى وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من القربات هي في عشر ذي الحجة أفضل منها في غيرها؛ لحديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عز وجل ولا أَعْظَمَ أَجْرًا من خَيْرٍ يعمله في عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله عز وجل إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ» رواه البخاري والدارمي واللفظ له.
إن هذه العشر المباركات التي نبتدئها اليوم أو غدا هي أفضل أيام السنة، والعمل الصالح فيها أيَّاً كان نوعه أفضل منه في غيرها، وهي تقع في آخر شهر من السنة، فكأنها تعويض للمفرطين في عامهم ليتداركوا أنفسهم، ويعوضوا فيها ما فاتهم، ويدركوا بها منزلة من سبقهم، ومن فضل الله تعالى أنها كانت في آخر العام؛ فإن العبد يتذكر بنهاية سنته نهاية عمره، ويندم على ما فرط في أيامه الخالية، ويعقد العزم على استثمار ما بقي من حياته؛ فإذا هو يستقبل هذه العشر المباركة؛ ليفي بوعده لربه، ويصدق مع نفسه.
إن الله تعالى حين جعل هذه العشر المباركات أفضل أيام السنة فإنه سبحانه اختصها بخصائص ليست في غيرها، وجعلها زمناً لعبادات لا تكون في سواها؛ فهي زمن أداء ركن الإسلام الخامس، فأولُ أيام الحج فيها وهو يوم التروية، وفيها ركنُه الأعظمُ وهو الوقوفُ بعرفة، ويُتَوَّجُ خاتمتُها وهو يوم النحر بأكثر أعمال الحج وهي الرمي والنحر والحلق والحل من الإحرام، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة.
إنها اختُصت بهذه الأيام الثلاثة العظيمة، وفيها مناسك الحج وشعائره الكبيرة، ففي اليوم الثامن يبدأ الحجاج مناسكهم، وفي اليوم التاسع يقفون بعرفة، وهو من أعظم الأيام وأفضلها، ويعتق الله تعالى فيه من النار ما لا يعتق في غيره من سائر الأيام؛ كما في حديث عَائِشَة رضي الله عنها أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما من يَوْمٍ أَكْثَرَ من أَنْ يُعْتِقَ الله فيه عَبْدًا من النَّارِ من يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فيقول: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ»رواه مسلم.
وهو اليوم الذي نزلت فيه آية الإخبار بكمال الدين، وتمام النعمة على النبي ^ وهو واقف بعرفة، عن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه«أَنَّ رَجُلًا من الْيَهُودِ قال له: يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تقرؤونها لو عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذلك الْيَوْمَ عِيدًا، قال: أَيُّ آيَةٍ؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا، قال عُمَرُ: قد عَرَفْنَا ذلك الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الذي نَزَلَتْ فيه على النبي ^ وهو قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يوم جُمُعَةٍ»رواه الشيخان.
فكان الإخبار عن كمال دين الإسلام، وتمام نعمة الله تعالى به علينا، ورضاه بالإسلام لنا دينا في اليوم التاسع من هذه العشر المباركة فاختصت بهذا الفضل العظيم.
وفيها ليلة جَمْعٍ حين يبيت الحجاجُ بمزدلفة، ويذكرون الله تعالى فيها بعد الفجر إلى الإسفار، قال الله تعالى في فضل هذا الذكر في ذلك المشعر المبارك [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ] {البقرة:198}.
واختُصت العشر بيوم النحر، وهو العيد الأكبر، وهو أفضل من عيد الفطر؛ لاختصاصه بكثير من الشعائر والعبادات، وفيه تُراق الدماء تعظيما لله تعالى، ولا تذبح الضحايا والهدايا قبله [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ] {الكوثر:2} فكان التَنَسُّك بالدماء لله تعالى في خاتمة هذه العشر المباركة، وكان آخر يوم منها وهو اليوم العاشر عيدا كبيرا للمسلمين، يذكرون الله تعالى فيه على ما هداهم، ويشكرونه على ما أعطاهم [فَاذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {الحج:36-37} وثبت فضله في حديث عبد الله بن قُرْطٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» رواه أبو داود.
ومن أراد أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره من دخول العشر إلى أن يذبح أضحيته؛ لأمر النبي ^ بذلك.
ومن خصائص هذه العشر المباركة أن الله تعالى نص في كتابه العزيز على ذكره فيها فقال سبحانه [وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ] {الحج:27}.
فالأيام المعلومات هي العشر في قول أكثر السلف والعلماء، ومِنْ ذكره سبحانه فيها ما شرع فيها من التكبير؛ تعظيما لله تعالى، وإعلاما بفضيلة هذه العشر، وإظهارا لشعائرها.
وروى ابن عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ الله وَلاَ أَحَبُّ إليه الْعَمَلُ فِيهِنَّ من هذه الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ والتحميد»رواه أحمد، قال البخاري رحمه الله تعالى:«وكان ابن عُمَرَ وأبو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إلى السُّوقِ في أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ الناس بِتَكْبِيرِهِمَا» وروى الدارمي عن سَعِيد بن جُبَيْرٍ رحمه الله تعالى أنه «كان إذا دخل أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حتى ما يَكَادُ يَقْدِرُ عليه».
فحري بالمسلم أن يشكر الله تعالى على فضلها وفضل العمل الصالح فيها وهي أيام قلائل، وأن يشكره عز وجل على ما شرع فيها من أمهات العبادات والأعمال الصالحة، وأن يشكره عز وجل على بلوغها وهو في أمن وعافية، ولديه قدرة على الاجتهاد فيها بما يرضي الله تعالى، ومن دلائل الشكر فيها حبس النفس على الطاعات، ومجانبة المحرمات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] {إبراهيم:34}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {الحشر:18-19}.
أيها المسلمون: هذه الدنيا التي نعيشها لن نخلد فيها، وهي لن تبقى إلى الأبد؛ فلها نهاية كما كان لها بداية، ونحن نعلم أنه في كل يوم يموت خلق كثير ويدفنون، ولا بد أن نكون يوما من الأيام منهم، طال ذلك أم قصر.
والدنيا بأفراحها وأتراحها، ومسراتها وأحزانها، ويسرها وعسرها ينساها الناس بمفارقتها، بل إن الواحد يصيبه عسر شديد، ومصيبة كبيرة، ثم مع مرور الأيام يزول عسرُه، وينسى مصيبتَه، ويذهب همُه وغمه، وكذلك الإنسان تصيبه سراءُ فيفرح بها فرحا شديدا ومع الأيام ينساها ويزول فرحه.
وهكذا ما يلحق أهل الإيمان والتقوى من مشقة حبس النفس على الطاعات، وكفها عن الشهوات؛ فإنهم ينسون ذلك بمجرد انتهاء وقته، وذهاب مشقته؛ فالصائم الذي جاع وعطش ينسى معاناته مع الجوع والعطش بمجرد فطره، والحاج الذي لحقه من المشقة والزحام وطول الانتظار ما لحقه ينسى ذلك بمجرد إتمام حجه، وانقضاء نسكه.
وأهل الشهوات المحرمة ينسون لذة شهواتهم ومتعتها بمجرد مفارقتها، وتبقى السيئات في صحائفهم، والأوزار تثقلهم، والهموم والأحزان تملأ قلوبهم، وهذا من عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة.
ونجد هذا المعنى واضحا كل الوضوح في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا من أَهْلِ النَّارِ يوم الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يا بن آدَمَ، هل رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيقول: لَا والله يا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الناس بُؤْسًا في الدُّنْيَا من أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الْجَنَّةِ فَيُقَالُ له: يا بن آدَمَ، هل رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هل مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيقول: لَا والله يا رَبِّ ما مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ ولا رأيت شِدَّةً قَطُّ»رواه مسلم
فحري بالمسلم أن يعتبر بذلك، وأن يعمر وقته بطاعة الله عز وجل؛ لعلمه أن ما يلحقه من مشقة العبادة يزول ويبقى له أجرها، يتنعم به خالدا مخلدا في دار النعيم، وأن يجانب المحرمات ليقينه أن لذتها تزول بزوالها، ويبقى وزرها عليه، وأن يستفيد من الأزمان الفاضلة، والأوقات المباركة التي اختصها الله تعالى بشعائره العظيمة، فيعظمها كما عظمها الرب تبارك وتعالى، ويخصها بكثرة النوافل والقربات، وإن الخسران كل الخسران أن يصرفها العبد في اللهو والغفلة، والتمتع بما حرم الله تعالى عليه، ولربما كانت هذه العشر آخر موسم مبارك يدركه العبد في حياته، فلعل الموت يبغته في أي لحظة [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ] {آل عمران:30}.
وصلوا وسلموا.....
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى