رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
المصطلحات بين الحق والباطل
(1) تزوير المصطلحات
الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:102} [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1} [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا] {الأحزاب:70-71}
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: الصراع بين الحق والباطل قائم ما دام في الناس كفر وإيمان، وبدعة وسنة؛ فأهل الحق يدعون الناس إلى الحق، وأهل الباطل يسعون جادين في صرف الناس إلى باطلهم.
والحرب بين الفريقين قد تكون حربا سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، أو ثقافية فكرية، والأخيرة أخطرها وأشدها فتكا؛ ذلك أن الحروب السياسية والاقتصادية والعسكرية تُوَلِّد التحدي لدى الأمم، وتستنهض همم الناس للمدافعة والمقاومة، أما حروب الثقافة والفكر فهي تتسلل إلى العقول فتتلفها، وإلى القلوب فتفسدها، وتدمر الناس وهم لا يشعرون.
وميادين الحروب الفكرية كثيرة، وأساليبها عديدة، ومن أخفاها وأخطرها: تزويرُ المصطلحات، وتغييرُ المسميات، والقذف بمصطلحات ظاهرها حق وباطنها باطل؛ لإقناع الناس بها، وبناء العقول والثقافات عليها، حتى تكون أمرا مسلَّما عند الناس لا يحق لأحد أن يجادل فيه، فضلا عن أن يردَّه أو يعترض عليه. ومن ثَمَّ إخضاعُ شريعة الله تعالى لهذه المصطلحات الحادثة، وتحكيمها فيها؛ لتُستبدل ألفاظ الشريعة، وتُعطلَ أحكامها، ويبطلَ العمل بنصوص الكتاب والسنة، أو تحرَّفَ وتُأَوَل لأنها تتعارض مع تلك المصطلحات التي استقرت في عقول أصحابها، وأضحت من المسلمات التي لا تناقش.
وكان اليهود -ولا يزالون- من أبرع الناس في هذا الباب من الإضلال والتزوير، وتغيير الألفاظ والمصطلحات؛ لفرض باطلهم، وإلغاء حق الله تعالى وحق غيرهم [مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ] {النساء:46} ولذا خوطبوا في القرآن بقول الله تعالى [وَلَا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {البقرة:42}وفي آية أخرى [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {آل عمران:71} فنهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمانه، ولَبْسُه به خلطه به حتى يلتبس أحدُهما بالآخر، فإذا لَبَسَ الحق بالباطل يكون قد أظهر الباطل في صورة الحق فالظاهر حق، والباطن باطل.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد حذَّر أمته من التلاعب بالمصطلحات والمسميات؛ لإسباغ الشرعية على الباطل، ولبسه بالحق، وأخبر أن هذا الداء سيقع في الناس؛ كما روى أبو مالك الأشعري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) رواه أبو داود وصححه ابن حبان.
ووقع ذلك كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ إذ سمَّوا الخمر في هذا العصر مشروبات روحية، والربا فائدة، والرقص والخلاعة فنَّاً، والزنا حرية جنسية، وسبَّ الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله حرية فكرية، ومحاربة العمل الدعوي والخيري وتجفيف منابعهما بدعوى مكافحة الإرهاب، والاعتراض على الحدود الشرعية باسم حقوق الإنسان، وهكذا في سلسلة لا تكاد تنتهي من تزوير المصطلحات، وتغيير المسميات، وفرض هذا اللَبْس والطمس على عقول الناس بأساليب متنوعة، ووسائل متعددة.
وقد عانى أئمة الإسلام قديما من الزنادقة والمبتدعة؛ إذ كانوا يُحْدثون المصطلحات، أو يستجلبونها من ثقافات أخرى، ويُلْبسونها ألبسة شرعية؛ ليجعلوها حجة على النصوص، ثم يُزَوِّرون المصطلحات الشرعية لكيلا تصطدم معها، كما فعل الفلاسفة وأهل الكلام من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، وهي طريقة لا تخرج عن كونها لبسا للحق بالباطل مع كتم الحق لإضلال العامة، والتشويش على عقائد الناس وإفسادها، وهي الطريقة التي حكاها الله تعالى عن اليهود، ونهاهم عنها.
ولذا فإن إمام أهل السنة في وقته أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى لما كتب ردَّه على الزنادقة والجهمية وصفهم في مقدمة ردِّه بقوله رحمه الله تعالى: فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يُلَبِّسُون عليهم.اهـ
وهذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس هو الذي يتضمن الألفاظ المتشابهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة، وتلك الألفاظ تكون موجودة مستعملة في الكتاب والسنة وكلام الناس لكن بمعان أُخَرَ غير المعاني التي قصدوها هم بها، فيقصدون هم بها معاني أخر فيحصل الاشتباه والإجمال.
وانبرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لمواجهة حملات المبتدعة في محاولاتهم إقناع الناس بمصطلحات حادثة، وتحكيمها في نصوص الوحي؛ لإلغاء معانيها، وإبطال أحكامها، وكان له صولات وجولات في هذا الميدان الدقيق، وكُتُبُه رحمه الله تعالى ملأى بإحقاق الحق، وإبطال الباطل في هذا المجال المهم، مع التأسيس والتقعيد له.
يقول رحمه الله تعالى: الذين يعارضون الكتاب والسنة بما يسمونه عقليات من الكلاميات والفلسفيات ونحو ذلك إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة مجملة تحتمل معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه لفظا ومعنى يوجب تناولها لحق وباطل، فبما فيها من الحق يُقبل ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوصَ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا، وهو منشأ البدع؛ فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لظهرت وبانت وما قُبلت، ولو كانت حقا محضا لا شوب فيه لكانت موافقة للسنة؛ فإن السنة لا تُناقض حقا محضا لا باطل فيه، ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل.اهـ
وفي موضع آخر يقرر وجوب التثبت والاستفصال في المصطلحات قبل قبولها، فيقول رحمه الله تعالى: إن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرَين ونفاها الآخر كان كلاهما مخطئا، وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فإذا ردَّ الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة.اهـ
وقال رحمه الله تعالى:الأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان:
نوع مذكور في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام أهل الإجماع فهذا يجب اعتبار معناه، وتعليق الحكم به؛ فإن كان المذكور به مدحا استحق صاحبه المدح، وإن كان ذما استحق الذم، وإن أثبت شيئا وجب إثباته، وإن نفى شيئا وجب نفيه؛ لأن كلام الله تعالى حق وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق وكلام أهل الإجماع حق....وأما الألفاظ التي لبس لها أصل في الشرع فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها إلا أن يَبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارضها النصوص هي من هذا الضرب.اهـ
وإذا كان أئمة الإسلام قد عانوا قديما من تلبيسات المبتدعة والمنافقين، وتحريفاتهم، فإن أهل الكفر وأهل البدعة والنفاق في زمننا هذا قد عملوا ما عمل أسلافهم من قبل، وأخذوا عنهم كثيرا من مصطلحاتهم المبتدعة، وأحدثوا مصطلحات جديدة يضربون بها الإسلام، ويصدون بها الناس عن سبيل الله تعالى، ويلبسون عليهم دينهم، ويفسدون عقائدهم، ويخربون عقولهم وقلوبهم، وكل المصطلحات التي ضلَّ بها من يسمون في هذا العصر بالمفكرين والمثقفين في بلاد المسلمين، ويلوكونها بألسنتهم، ويُسَوِّدن بها كتبهم وصحفهم إنما أخذوها عن نُظَّار الغرب وفلاسفتهم، وسلَّموا لهم بها على أنها حق محض، ثم حاكموا نصوص الكتاب والسنة إليها، فما وافقها قبلوه، وما عارضها رفضوه أو تأولوه، فجعلوها هي الأصل، وجعلوا نصوص الكتاب والسنة لها تبع، فكان في ذلك من الضلال والإضلال ما أفسد كثيرا من العقول، وحرفها عن شريعة الله تعالى لأقوال البشر وآرائهم، وتلك هي الفتنة التي حذرنا منها ربنا جل جلاله في قوله سبحانه [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {النور:63}.
نعوذ بالله تعالى من الضلال والإضلال، ونسأله سبحانه الهداية للحق، والموافاة على الإيمان والسنة، إنه سميع قريب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه، واعلموا أن الدنيا إلى فناء، وأن الآخرة هي دار القرار [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الغَرُورُ] {فاطر:5}.
أيها المسلمون: لئن كانت حملة تزوير المصطلحات بهذه الخطورة التي جعلت علماء المسلمين ينبرون لها؛ لإحقاق الحق منها، وإبطال باطلها، وإزالة ما يقع فيها من اللبس والغموض، وكشف معانيها للناس حتى لا يغتروا بها؛ فإنها في هذا الزمن أشد خطرا على الناس، وأمضى فتكا بالعقول، وإفسادا للقلوب، وذلك من جهات أربع:
الجهة الأولى: كثرة ما تنتجه دوائر الاستشراق النصرانية، ومكاتب الاستخبارات الصهيونية والغربية من الألفاظ والمصطلحات الجديدة التي يتلقفها عنهم وكلاؤهم، والمسوِّقُون لبضاعتهم في بلاد المسلمين، وهي مصطلحات تعارض شريعة الله تعالى جملة وتفصيلا، وتصادم الكتاب والسنة، ولازم القول بها فيه إبطال للنصوص المحكمة، وتعطيل لأحكام الشريعة، من مثل مصطلحات: الحرية، والمساواة، والحوار، وقبول الآخر، وحقوق الإنسان، والتعايش السلمي، وتجديد الخطاب الديني، والدولة المدنية، ونحو ذلك.
والجهة الثانية: أنها مصطلحات تفرض على عامة الناس، ويُرَوج لها عبر وسائل الإعلام المختلفة؛ لتبنى عليها عقول الناشئة والشباب، وتتلف بها عقول الكهول والشيوخ.
والجهة الثالثة: أنها مصطلحات ظاهرها حق، وملمسها جميل، ويرى أكثر الناس أن فيها خلاصا للعالم من مشكلات الاختلاف والاحتراب والاقتتال؛ ولذا سمعنا كثيرا من الألسن تلوكها، وتهتف لها، وتنادي بها، وتدعو إليها، ولكن الواقع يدل على أن من أحدثوها وروجوا لها لم يريدوا ما فيها من معان قد تكون حقا، وإنما أرادوا ما فيها من باطلهم؛ ليجعلوه حَكَما على شريعة الله تعالى، مبطلا لأحكامها.
والجهة الرابعة: أن أهل الكفر وأهل البدعة والنفاق استطاعوا بمكرهم وكثرة إلحاحهم أن يجعلوا تلك المصطلحات المبتدعة سيفا مصلتا على أهل الحق والإيمان، يرهبونهم بها، وينفرون الناس منهم بسببها، ويعرقلونهم عن نشر حقهم، وهداية الناس إليه. في الوقت الذي يفرضون فيه باطلهم على الناس بكل ما أوتوا من قوة؛ فَيَصمون من يعارضهم بأنهم أعداء الحرية والمساواة، ولا يقبلون الآخر، ولا يعرفون التعايش السلمي، إلى غير ذلك مما يخوفون به من يعترض طريقهم، أو يقف عقبة في طريق مشاريعهم الإجرامية.
هذا؛ وليعلم كل مخدوع بتلك المصطلحات البراقة أن ما فيها من معان جميلة فليس له، وإنما هو حكر على الأقوياء، ولا حقَّ للضعفاء فيه، ولو آمنوا بها، وهتفوا لها، ودعوا إليها؛ فهذه الدول القوية تدعو الناس إلى الحوار، وتفرضه عليهم، في الوقت الذي تغزو فيه بلادهم، فتضربهم وتقتلهم وتستعمرهم، وتدمر عمرانهم، وتنهب ثرواتهم ولا تحاورهم، ولا ترى لهم أي حق في حوار أو حرية، ومع ذلك تدعو إلى الحوار وإلى الحرية.
وفي مجال حقوق الأطفال كانت ولا زالت المنظمات الدولية النصرانية تعيب على دول العالم الإسلامي إهدار الطفولة، وقتل براءتها، وتلقي الدروس والمواعظ في ذلك، وتسن القوانين المشددة لحفظ حقوق الأطفال، وضمان حرياتهم، وتجعل هذه القضية من ضمن أوراق الضغط لتحقيق مزيد من النفوذ والإخضاع لتلك الدول المستهدفة.
ولكن ما ينادون به من حق الطفولة، وحفظ براءتها هو مقصور على أطفالهم دون أطفال العالمين الذين لا حق لهم، ولا براءة فيهم!!
وفي كل الأديان والأعراف والأفكار المعلنة، الحقِ منها والباطل لا يسوغ لأحد أن يقصد طفلا بريئا بأي ضرر لأي هدف كان، ومنظماتهم الدولية تنص على ذلك، وتشدد فيه، ومع ذلك وقف العالم الغربي المتحضر بدوله الكبرى، واتحاده الأوربي واستخدم كل نفوذه، وأدوات ضغطه؛ لحماية ثلة من الممرضات المجرمات قتلن براءة عشرات الأطفال فحقنوهم بفيروس الإيدز، فمنهم من قضى، ومنهم من يتقلب في أوجاع المرض وآلامه، لا ذنب لهم إلا أنهم مسلمون، وكوفئ المجرمون بإطلاق سراحهم، وبُثت احتفالاتهم على العالم كله، في جريمة لست أعلم جريمة معلنة في حق الأطفال هي أبشع منها، فأين هي حقوق الطفولة البريئة وحمايتها التي ما فتئوا يبتزون غيرهم بها، ويعاقبونهم من أجلها؟ إنها ذهبت أدراج الرياح لأن الأطفال هنا مسلمون، ولا حق لمسلم في شيء!!
كان الله تعالى في عون هؤلاء الأطفال وآبائهم وأمهاتهم، وأسأله سبحانه أن ينتصر لهم إذ لم ينتصر لهم أحد؛ فالبشر بين ظالم وعاجز.
فمتى -يا عباد الله- يعي المخدوعون أن تلك المصطلحات الوافدة، والشعارات البراقة لا يُراد لأهل الإسلام منها إلا ما فيها من باطل؛ لإفساد عقائدهم، وإبطال شريعتهم، وإخراجهم من دينهم إلى باطل الكفار والمنافقين، وأن ما فيها من حق فهو مقصور عليهم دون غيرهم، ولا نصيب للمسلم في شيء منه.
[يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] {التوبة:33} .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
-------
مربع (1)
وقد وقفت على مقال مميز للشيح بندر الشويقي عقب الإفراج عن الممرضات، رأيت إيراده هنا ليستفيد القارئ منه ، ويعلم تفاصيل بعض ما جرى في هذه الجريمة المنكرة ، والمقال بعنوان:
(يا بليهي! الضمير الأوربي ذبح أطفالنا)
سُئل المفكر العظيم إبراهيم البليهي عن تفسيره للانهيار الأخلاقي في الغرب، فجحظت عيناه (الجاحظتان أصلاً من شدة الانبهار بالغرب )، وأجاب بدهشةٍ وعَجَبٍ : "أيُّ انهيار أخلاقي؟! ...هذا غلط، الأخلاق ليست هي الجنس ... عندما يدخل الإنسان قصراً فخماً أنيقاً فيه كل ما يبعث الانبهار والروعة ثم لا ينظر إلا إلى صندوق الزبالة"!!
ثم أضاف المفكر ـ ولا زالت عيناه جاحظتين ـ : "أخلاقهم عالية. الجانب الإنساني عندهم قوي. الجانب الإنساني عندهم رائع إلى أبعد الحدود"! .. "هم ليس عندهم نفاق، لأن ليس عندهم ما يخفونه... لا يخافون مما يعلنونه حتى يخفوه".
أما مفكر جريدة الرياض محمد المحمود ، فقد سبق له أن ملأ الدنيا بمعلقات المديح للليبرالية الغربية و"تقدميتها التي تعانق إنسانية الإنسان"!
و عبدالرحمن الراشد سبق أن زاد في الغباوة فأعلن أن التسامح المثالي المنشود لا يمكن أن يأتي من جهة الشرق أبداً، وأعلن أنه سيبقى واقفاً ينتظر أن يتفرغ الغربيون ليشرحوا له دين الإسلام شرحاً "بروتستانتياً متسامحاً"!
هذه المقولات لهذا الثلاثي المستغرب كانت تمر بذاكرتي وأنا أتابع ردة فعل الضمير الغربي وحسه المرهف تجاه جريمة ذاك الطبيب القذر والممرضات البلغاريات التي ارتكبوها بحق أربعمائة وثمانية وثلاثين طفلاً بريئاً من أجل حفنة دولارات قبضوها لهم من جهة أجنبية.
هم متسامحون!
ليس عندهم نفاق!
الجانب الإنساني عندهم قوي!
تقدميتهم تعانق إنسانية الإنسان!
الجانب الإنساني عندهم رائع إلى أبعد الحدود!
هذا ما اتفقت عليه كلمة شعراء بلاط البيت الأبيض الأمريكي وسيراميك الاتحاد الأوربي.
فما الذي سيقوله الآن أولئك الشعراء الغاوون تعليقاً على هذه الإنسانية الراقية تجاه أطفال ليبيا الأطهار ؟!
أربعمائة وثمانية وثلاثون طفلاً بريئاً جاؤوا للمستشفى طلباً للدواء، فتُحشا أجسادهم الغضة الطرية الطاهرة بأفتك فيروس ممرض تعرفه البشرية ، فيهب الضمير الغربي الإنساني المتسامح مباشرة لا للمطالبة بحقوق أولئك الأطهار، وإنما للدفاع عن قتلتهم المجرمين ، بمجرد أن زعم القذافي أن محاكمه ستعاقبهم بالإعدام!
تحركت دول (محور الخير ) كلها.
الاتحاد الأوربي يهدد بإعادة النظر في تطبيع علاقاته مع ليبيبا إذا نفذت الحكم!
المنظمات الحقوقية تستنكر...و الإعلام يتابع ويحلل ويفسر!
الرئيس الأمريكي يدخل على الخط، ويعلن أن ليبيبا إذا نفذت الحكم، فسوف يكون ذلك عقبةً في سبيل خروجها من عزلتها الدولية.
وخلال ذلك كله كان القذافي يرقص على تلك الإيقاعات، ويتفنن في المتاجرة بأرواح أولئك الأطفال الطاهرة، وبعذابات أسرهم المنكوبة.
وبعد ثمانية سنوات من المفاوضات التجارية، يقدِّم العقيد للأوربيين عرضه الأخير المتضمن تخفيضات مغرية في قيمة رأس الطفل الليبي. عندها يقنع "الإنسانيون" "المتسامحون" بربحية الصفقة، ثم يوقع الطرفان العقد، ليتنازل العقيد الفذُّ عن عقوبة الإعدام ، ولتتحول العقوبة ـ مؤقتاً ـ إلى سجن مؤبَّد في سجون بلغاريا وليس ليبيا. وفي اليوم نفسه يصل المجرمون إلى بلغاريا فيستقبلهم الرئيس البلغاري بنفسه في المطار، ليعلن من فوره البندَ الثاني من بنود الصفقة، والمتضمن العفو عن المجرمين وإسقاط عقوبة السجن عنهم، فيمضي القتلة مبتسمين مع أهليهم الذين استقبلوهم بالزهور في المطار، وتنتهي القصة، وكأن شيئاً لم يكن!
ثم يأتي دور الرئيس الفرنسي، فيعلن أنه سيتوجه شخصياً في اليوم التالي إلى ليبيا لإكمال باقي متعلقات الصفقة. وكانت زوجته قد سبقته إلى هناك للمشاركة في المساومة والمفاوضات قبل التوقيع على العقد. عقد الإنسانية الفريدة!
الإعلام الغربي ـ بما فيه (قناة العربية ) ـ اجتهد في تغطية فرح البلغار والأوربيين بنهاية الأزمة متجاهلاً حال الأسر الليبية المفجوعة. بل ربما طُرحت إيحاءات بأن التهمة كلها ملفقة وأنه لم تكن هناك جريمة أصلاً. مع أن كلَّ عارفٍ بالأمور يدرك أن سيادة العقيد صاحب ثورة الفاتح أعجز من أن يحتجز فأراً تجري في عروقه الدماء الأوربية ما لم يكن هناك تهمةٌ حقيقيةٌ.
كما أن الأوربيين لديهم من العجرفة والتعالي ما يحول بينهم وبين الدخول في مفاوضات وتنازلات مع سيادة العقيد دون مبرِّرٍ.
السؤال الذي يبرز الآن : هل سيجرؤ شعراء البلاط الغربي بعد هذه الواقعة على الحديث عن "الإنسانية" و"التسامح" الغربيين؟!
وهل يستطيع أحدٌ منهم أن يذكر لنا من تواريخ الأمم السابقة (المتخلفة ) وحشيةً وهمجيةً كهذه التي أهداها لنا الغربيون أصحاب الحضارة الاستثنائية؟!
مذبحة مروِّعةٌ بكل المقاييس، غير أنها مذبحة عصرية حسب الشريعة الغربية الليبرالية الحرة المتسامحة!
مذبحةٍ لم ترتكب بحقٍ جنودٍ في معركةٍ، ولا معارضين سياسيين، ولا "إرهابيين" في تورا بورا، وإنما بحق أطفال في مستشفى!
كما تعاني ابنتي (جود ) من أعراض البرد ، دخلت الطفلة (هدير ) ذات الأربعين يوماً إلى المستشفى الليبي لتعالج التهاباً عادياً في الصدر. وبدل أن يُعالجَ صدرها، دسَّتْ الممرضة المتوحشة في وريد رجلها الصغيرة أنبوباً لتمرير الفيروس القاتل إلى جسدها الندي.
(منى ) و(عاشور ) أخوان دخلا المستشفى ليعالجا من الحساسية. ثم خرجا يحملان فيروس الإيدز.
أما (منى ) فلا زالت تعاني عذاباتها. وأما (عاشور ) فقد توفي بعد أن نقل الفيروس إلى أمه عن طريق الرضاعة.
وملفات القضية تقول إن هناك ثمانية عشر أماً أخريات انتقل لهن الإيدز من أطفالهن عن طريق الرضاعة.
(جمعة رمضان ) الذي أعطي حقنة الموت وعمره سنتان أصبح الآن معاقاً وهو في العاشرة من عمره، ولا زال يعاني من تطورات الفيروس.
(يحيى إدريس ) الذي يبلغ الآن سبعة عشر عاماً ، يذكر جيداً ما حدث له تلك الليلة حين كان عمره ثمان سنوات. يقول : كان ذلك في يوم العيد!! كان أكثر الأطباء في إجازة، وفي ظلمة الليل جاءت الممرضة وأخرجت أمي من الغرفة، ثم أحضرت الحقنة!
وتتكرر هذه الصور البشعة أكثر من أربعمائة وثلاثين مرة. والتقارير تقول إن خمسين طفلاً توفوا إلى الآن، والباقون لا زالوا يعانون آلام الموت البطيء دون جرمٍ ارتكبوه.
وحتى يكتمل القُبح، فإن الممرضات الحقيرات ذكرنَ في التحقيق أنهن اخترن الأطفال بالذات لأنهم غير قادرين على الكلام.
فهل هناك "إنسانية" أعظم من هذه يا بليهي!
أيُّ قلوبٍ هذه! وأيُّ وحشيةٍ تلبَّستْ أولئك الشياطين!
من كان لديه طفل (ابن أو ابنة ، أخ أو أخت )، فلينظر إلى براءته وهو يلهو ويلعب ويضحك. ثم ليسرحْ بخاطره متفكراً : ماذا لو تعرَّض طفلي هذا لمثل تلك الجريمة البشعة؟ عندها سوف يدرك بعض معاناة وآلام مئات الأطفال والأسر في ليبيا. علماً أن بعض الأطفال المجني عليهم لم يتجاوز عمرهم الثلاثة أشهر، وهم الآن مع أسرهم يعيشون عزلة اجتماعية شديدة بسبب خوف الناس من انتقال العدوى إليهم.
والعجيب أن الإعلام الغربي بضميره الحي ، ظل طيلة السنوات التي تلت الجريمة مشغولاً بمعاناة الممرضات مع المحاكم الليبية. وأما الأطفال وأسرهم، فليشربوا من ماء البحر إن لم ترضهم حفنة دولارات ستدفع لهم، ليقتسموها مع قائد ثورة الفاتح!
ماذا لو كان المجني عليهم أطفالاً أوربيين ؟
بل ماذا لو كان المجني عليه طفلاً واحداً يحمل في عروقه دماء الأوربيين الزرقاء؟
بل ماذا لو كان كلباً أو قطاً أوروبياً تعرض لانتهاك حقوقه ؟
في العام 1424هـ نشرت الواشنطن بوست خبراً مفاده أن الأمريكي جيمس أندرو ينتظر حكماً بالسجن المؤبد لأنه قتل كلباً بطريقة وحشية!
وفي العام الذي يليه نقلت البي بي سي أن محكمة أمريكية حكمت بتعويض مقداره (45000) دولار لامرأة ، لأن كلب جارتها قتل قطتها.
وفي هلسنكي بفنلندا حكمت محكمة بالغرامة على بائع أسماك ، لأنه كان يسيء معاملة أسماكه أثناء عرضها للبيع!
وأعجب من هذا كله أن مسلماً في الثمانينات في بلغاريا نفسها حكم عليه بالسجن خمس سنوات لأنه أجرى عملية ختان لابنه!
واليوم ما يقرب من خمسمائة طفلٍ يُحقن السم القاتل في عروقهم، فلا تتحرك "الإنسانية" الأوربية ولا "العدالة" الأمريكية، ولا يرف لهما جفن. لتبقى حركة الضمير الغربي معلقةً بإنسانية خاصة بعرقهم الأزرق.
الإنسانية الأوربية كلمة تقرأ من اليسار إلى اليمين فقط. أما من اليمين إلى اليسار فلا إنسانية هناك يمكن قراءتها!
أما القذافي فليس أهلاً لأن يشتم ؛ إذ ليس في القواميس لغة يمكن أن تنحط لمستواه السافل. وما كنا ننتظر منه أقل من هذه الخيانة.
وأما الطبيب والممرضات فهم من جنس سائر القتلة السفلة والمجرمين الهمجيين الذين لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً.
لكن ماذا عن حضارة "الإنسانية" و"العدالة" و"حقوق الإنسان"؟!!
أليست هذه الحضارة هي نفسها التي شنقت صدام حسين لأنه قتل (148) رجلاً في الدجيل بعد أن جرت محاولة لاغتياله هناك؟!!
أليست هذه هي الحضارة التي تصب علينا كلًَّ عامٍ تقاريرها عن انتهاكات حقوق الإنسان في بلادنا؟!!
أليست هذه هي الحضارة التي لا زالت تلهج بلعن طالبان وانتهاكاتها لحقوق الإنسان؟!
أليست هذه هي الحضارة التي أشعلت الدنيا غضباً لهدم أصنام بوذا في باميان؟!
أليست هذه هي الحضارة التي أعلن أحد شياطينها أنها تمثل "نهاية التاريخ" وخاتمة الارتقاء في سلم الإنسانية؟!
أليست هذه هي الحضارة التي باتت تفكر في فرض قوانين وعقوبات لمحاسبة الناس حتى على مشاعر الكراهية؟
بالنسبة لي لا جديد في هذه الحادثة سوى دليلٍ آخر يضاف لركام الأدلة على زيف تلك الدعاوى الماكرة وكذبها. وأظن الأمر كذلك بالنسبة للكثيرين.
لكن ماذا عن شعراء البلاط الأمريكي الأوربي ؟ هل سيتوقفون عند مثل هذه الحادثة لإعادة النظر في قناعاتهم الساذجة؟!
لست متفائلاً حيال ذلك . فالتجارب تدل على أن هذه النوعية من البشر لن تعتبر، ولن تتحرك فيها شعرة واحدة. بل إن شغفهم بالمدائح (البلاطية ) ربما يجعلهم لا يبصرون في هذه القصة كلها سوى جانبٍ واحدٍ ، وهو (عناية بلغاريا و الدول الغربية بمواطنيها ودفاعها عنهم ). وأما سائر جوانب القصة الأليمة فلا أظنهم يتوقفون عندها، ولا يبدو أنها ستغير من قناعاتهم شيئاً إلا أن يشاء الله.
وقد رأينا بعض هؤلاء حين ظهرت فظائع سجن أبي (غريب )، وضج لها الناس، رأيناهم يتحدثون فقط عن روعة النظام الذي أدى لاكتشاف مثل هذه الممارسات! فمن الواضح أن الغشاوة غطت على أبصارهم، بعد أن ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
حادثة الأطفال الليبيين ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة. وشعارات إنسانية الحضارة الغربية باتت مكشوفة العورة تماماً، فهي تغيب دائماً حين توجد المصالح والدولارات. وإذا كان الأطفال الليبيون ـ وبسبب جريمة أوربية ـ يعانون الآن ويلات الإيدز. فهناك ثمانية وعشرون مليون إفريقي آخر يعانون المرض نفسه. والقيم الغربية "الإنسانية" "الرائعة" لها يدٌ طولى في تعميق هذه المعاناة.
أدوية الإيدز تصنعها في أمريكا شركة (Pfizer) وتبيعها بأثمان باهضة تعادل تسعة أضعاف كلفة إنتاجها.
بالمقابل هناك ثلاث دول في العالم (الهند ـ البرازيل ـ الأرجنتين ) تستطيع تصنيع هذا الدواء وبيعه بثلث السعر الأمريكي. لكن الأمريكيين ظلوا لسنواتٍ يمنعونهم من ذلك بعد أن كبلوهم باتفاقيات منظمة التجارة الدولية. وليذهب الأفارقة إلى مصيرهم المظلم فداءً لقيم الحضارة الغربية الإنسانية الرائعة كما في رواية البليهي!
فما أعظم هذه "الإنسانية" ، وما أرقاها ؟
هذه "الإنسانية" الفريدة هي التي تحرك قريحة شعراء البلاط، وتهيج مواهبهم لتدبيج الثناء والمديح لمن يتفنن في قتل الشعوب ومص دمائها ودماء أطفالها في سبيل الدولار. ثم يرفع بعد ذلك بكل براءة شعارات "الإنسانية" وقيم "العدالة" و"العالم الحر".
حين أسمع أخبار تدخل "بوش" لمنع معاقبة الممرضات البلغاريات رغم جنايتهم بحق أطفال لا ذنب لهم، أتذكر بكائياته وعباراته التي يكررها دائماً في خطاباته المنافقة : "إذا ظل الشرق الأوسط، حتى بعد عشرين عاماً من الآن، خاضعاً لسيطرة حكام طغاة ... فإن ((أطفالنا وأحفادنا )) سيعيشون في عالم يسيطر عليه كابوس الخطر" ... "إذا تراجعنا وسمحنا بوجود حكومات استبدادية ... فسيكون العالم الذي سينمو فيه ((أطفالنا )) عالماً عدوانياً".
انظروا مقدار الشفقة التي يظهرها الفاجر على الأطفال، ثم تذكروا حكمة إبراهيم البليهي حين قال : (هم ليس عندهم نفاق )!!
وإذا كان النفاق يقبح من الضعيف، فهو أقبح وأقبح حين يأتي من القوي.
أذكر قبل سنوات حين هلك الجنرال السفاح(أوغستو بينوشيه ) حاكم تشيلي السابق خرج متحدث باسم البيت الأبيض يقول : "فترة استبداد أوغوستو بينوشيه شكلت أحد أصعب الفترات في تاريخ هذا البلد (تشيلي )"، ثم قال : "إن قلوبنا تتجه اليوم إلى ضحايا عهده وإلى أسرهم".
هذا ما قاله المتحدث باسم بيت الإنسانية الأبيض ، لكن مالم يقله هو أن بينوشيه وصل للحكم عن طريق انقلاب عسكري مدعوم من الرئيس الأمريكي نيكسون ضد رئيس تشيلي المنتخب. هذا الرئيس المنتخب الذي اختاره شعبه لم يكن "ديكتاتوراً" ولا "إرهابياً". لكن مشكلته أنه مؤمن بالاشتراكية، وهذا ما اعتبره الأمريكيون جريمةً وكفراً. فليسقط إذاً الرئيس المنتخب، وليحل مكانه المجرم الطاغية، وليقتل وليخطف وليعذب الآلاف من شعبه. ثم إذا مات بعد سنوات ، لا بأس بكلمات أمريكية تتباكي على ضحايا إجرام الجنرال الطاغية!
لاحرج في ذلك كله، فالعالم مليء بالأغبياء الذين سوف يتفهمون موقف العالم الحر ، و يكررون ببلاهةٍ : (الغرب ليس عنده نفاق )!
هذه صورة واحدة من ألبوم يحوي المئات من الصور.
والذي يريد الوقوف عليها لا يحتاج للتفتيش في كتب التواريخ.
بل يكفيه فقط أن يتابع الأخبار بعقل واعٍ غير قابل لأن يخدع. وسوف يرى الصورة كاملة أمام عينيه بكل قبحها وبشاعتها.
لكن إن كان من شعراء البلاط الغربي .. فهو يقيناً ، لن يبصر أمامه إلا صورة جمهورية أفلاطون الفاضلة، وجنة جون لوك الموعودة.
المصطلحات بين الحق والباطل
(1) تزوير المصطلحات
الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:102} [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1} [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا] {الأحزاب:70-71}
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: الصراع بين الحق والباطل قائم ما دام في الناس كفر وإيمان، وبدعة وسنة؛ فأهل الحق يدعون الناس إلى الحق، وأهل الباطل يسعون جادين في صرف الناس إلى باطلهم.
والحرب بين الفريقين قد تكون حربا سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، أو ثقافية فكرية، والأخيرة أخطرها وأشدها فتكا؛ ذلك أن الحروب السياسية والاقتصادية والعسكرية تُوَلِّد التحدي لدى الأمم، وتستنهض همم الناس للمدافعة والمقاومة، أما حروب الثقافة والفكر فهي تتسلل إلى العقول فتتلفها، وإلى القلوب فتفسدها، وتدمر الناس وهم لا يشعرون.
وميادين الحروب الفكرية كثيرة، وأساليبها عديدة، ومن أخفاها وأخطرها: تزويرُ المصطلحات، وتغييرُ المسميات، والقذف بمصطلحات ظاهرها حق وباطنها باطل؛ لإقناع الناس بها، وبناء العقول والثقافات عليها، حتى تكون أمرا مسلَّما عند الناس لا يحق لأحد أن يجادل فيه، فضلا عن أن يردَّه أو يعترض عليه. ومن ثَمَّ إخضاعُ شريعة الله تعالى لهذه المصطلحات الحادثة، وتحكيمها فيها؛ لتُستبدل ألفاظ الشريعة، وتُعطلَ أحكامها، ويبطلَ العمل بنصوص الكتاب والسنة، أو تحرَّفَ وتُأَوَل لأنها تتعارض مع تلك المصطلحات التي استقرت في عقول أصحابها، وأضحت من المسلمات التي لا تناقش.
وكان اليهود -ولا يزالون- من أبرع الناس في هذا الباب من الإضلال والتزوير، وتغيير الألفاظ والمصطلحات؛ لفرض باطلهم، وإلغاء حق الله تعالى وحق غيرهم [مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ] {النساء:46} ولذا خوطبوا في القرآن بقول الله تعالى [وَلَا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {البقرة:42}وفي آية أخرى [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {آل عمران:71} فنهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمانه، ولَبْسُه به خلطه به حتى يلتبس أحدُهما بالآخر، فإذا لَبَسَ الحق بالباطل يكون قد أظهر الباطل في صورة الحق فالظاهر حق، والباطن باطل.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد حذَّر أمته من التلاعب بالمصطلحات والمسميات؛ لإسباغ الشرعية على الباطل، ولبسه بالحق، وأخبر أن هذا الداء سيقع في الناس؛ كما روى أبو مالك الأشعري رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) رواه أبو داود وصححه ابن حبان.
ووقع ذلك كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ إذ سمَّوا الخمر في هذا العصر مشروبات روحية، والربا فائدة، والرقص والخلاعة فنَّاً، والزنا حرية جنسية، وسبَّ الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله حرية فكرية، ومحاربة العمل الدعوي والخيري وتجفيف منابعهما بدعوى مكافحة الإرهاب، والاعتراض على الحدود الشرعية باسم حقوق الإنسان، وهكذا في سلسلة لا تكاد تنتهي من تزوير المصطلحات، وتغيير المسميات، وفرض هذا اللَبْس والطمس على عقول الناس بأساليب متنوعة، ووسائل متعددة.
وقد عانى أئمة الإسلام قديما من الزنادقة والمبتدعة؛ إذ كانوا يُحْدثون المصطلحات، أو يستجلبونها من ثقافات أخرى، ويُلْبسونها ألبسة شرعية؛ ليجعلوها حجة على النصوص، ثم يُزَوِّرون المصطلحات الشرعية لكيلا تصطدم معها، كما فعل الفلاسفة وأهل الكلام من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، وهي طريقة لا تخرج عن كونها لبسا للحق بالباطل مع كتم الحق لإضلال العامة، والتشويش على عقائد الناس وإفسادها، وهي الطريقة التي حكاها الله تعالى عن اليهود، ونهاهم عنها.
ولذا فإن إمام أهل السنة في وقته أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى لما كتب ردَّه على الزنادقة والجهمية وصفهم في مقدمة ردِّه بقوله رحمه الله تعالى: فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يُلَبِّسُون عليهم.اهـ
وهذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس هو الذي يتضمن الألفاظ المتشابهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة، وتلك الألفاظ تكون موجودة مستعملة في الكتاب والسنة وكلام الناس لكن بمعان أُخَرَ غير المعاني التي قصدوها هم بها، فيقصدون هم بها معاني أخر فيحصل الاشتباه والإجمال.
وانبرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لمواجهة حملات المبتدعة في محاولاتهم إقناع الناس بمصطلحات حادثة، وتحكيمها في نصوص الوحي؛ لإلغاء معانيها، وإبطال أحكامها، وكان له صولات وجولات في هذا الميدان الدقيق، وكُتُبُه رحمه الله تعالى ملأى بإحقاق الحق، وإبطال الباطل في هذا المجال المهم، مع التأسيس والتقعيد له.
يقول رحمه الله تعالى: الذين يعارضون الكتاب والسنة بما يسمونه عقليات من الكلاميات والفلسفيات ونحو ذلك إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة مجملة تحتمل معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه لفظا ومعنى يوجب تناولها لحق وباطل، فبما فيها من الحق يُقبل ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوصَ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا، وهو منشأ البدع؛ فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لظهرت وبانت وما قُبلت، ولو كانت حقا محضا لا شوب فيه لكانت موافقة للسنة؛ فإن السنة لا تُناقض حقا محضا لا باطل فيه، ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل.اهـ
وفي موضع آخر يقرر وجوب التثبت والاستفصال في المصطلحات قبل قبولها، فيقول رحمه الله تعالى: إن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرَين ونفاها الآخر كان كلاهما مخطئا، وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فإذا ردَّ الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة.اهـ
وقال رحمه الله تعالى:الأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان:
نوع مذكور في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام أهل الإجماع فهذا يجب اعتبار معناه، وتعليق الحكم به؛ فإن كان المذكور به مدحا استحق صاحبه المدح، وإن كان ذما استحق الذم، وإن أثبت شيئا وجب إثباته، وإن نفى شيئا وجب نفيه؛ لأن كلام الله تعالى حق وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق وكلام أهل الإجماع حق....وأما الألفاظ التي لبس لها أصل في الشرع فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها إلا أن يَبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارضها النصوص هي من هذا الضرب.اهـ
وإذا كان أئمة الإسلام قد عانوا قديما من تلبيسات المبتدعة والمنافقين، وتحريفاتهم، فإن أهل الكفر وأهل البدعة والنفاق في زمننا هذا قد عملوا ما عمل أسلافهم من قبل، وأخذوا عنهم كثيرا من مصطلحاتهم المبتدعة، وأحدثوا مصطلحات جديدة يضربون بها الإسلام، ويصدون بها الناس عن سبيل الله تعالى، ويلبسون عليهم دينهم، ويفسدون عقائدهم، ويخربون عقولهم وقلوبهم، وكل المصطلحات التي ضلَّ بها من يسمون في هذا العصر بالمفكرين والمثقفين في بلاد المسلمين، ويلوكونها بألسنتهم، ويُسَوِّدن بها كتبهم وصحفهم إنما أخذوها عن نُظَّار الغرب وفلاسفتهم، وسلَّموا لهم بها على أنها حق محض، ثم حاكموا نصوص الكتاب والسنة إليها، فما وافقها قبلوه، وما عارضها رفضوه أو تأولوه، فجعلوها هي الأصل، وجعلوا نصوص الكتاب والسنة لها تبع، فكان في ذلك من الضلال والإضلال ما أفسد كثيرا من العقول، وحرفها عن شريعة الله تعالى لأقوال البشر وآرائهم، وتلك هي الفتنة التي حذرنا منها ربنا جل جلاله في قوله سبحانه [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {النور:63}.
نعوذ بالله تعالى من الضلال والإضلال، ونسأله سبحانه الهداية للحق، والموافاة على الإيمان والسنة، إنه سميع قريب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه، واعلموا أن الدنيا إلى فناء، وأن الآخرة هي دار القرار [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الغَرُورُ] {فاطر:5}.
أيها المسلمون: لئن كانت حملة تزوير المصطلحات بهذه الخطورة التي جعلت علماء المسلمين ينبرون لها؛ لإحقاق الحق منها، وإبطال باطلها، وإزالة ما يقع فيها من اللبس والغموض، وكشف معانيها للناس حتى لا يغتروا بها؛ فإنها في هذا الزمن أشد خطرا على الناس، وأمضى فتكا بالعقول، وإفسادا للقلوب، وذلك من جهات أربع:
الجهة الأولى: كثرة ما تنتجه دوائر الاستشراق النصرانية، ومكاتب الاستخبارات الصهيونية والغربية من الألفاظ والمصطلحات الجديدة التي يتلقفها عنهم وكلاؤهم، والمسوِّقُون لبضاعتهم في بلاد المسلمين، وهي مصطلحات تعارض شريعة الله تعالى جملة وتفصيلا، وتصادم الكتاب والسنة، ولازم القول بها فيه إبطال للنصوص المحكمة، وتعطيل لأحكام الشريعة، من مثل مصطلحات: الحرية، والمساواة، والحوار، وقبول الآخر، وحقوق الإنسان، والتعايش السلمي، وتجديد الخطاب الديني، والدولة المدنية، ونحو ذلك.
والجهة الثانية: أنها مصطلحات تفرض على عامة الناس، ويُرَوج لها عبر وسائل الإعلام المختلفة؛ لتبنى عليها عقول الناشئة والشباب، وتتلف بها عقول الكهول والشيوخ.
والجهة الثالثة: أنها مصطلحات ظاهرها حق، وملمسها جميل، ويرى أكثر الناس أن فيها خلاصا للعالم من مشكلات الاختلاف والاحتراب والاقتتال؛ ولذا سمعنا كثيرا من الألسن تلوكها، وتهتف لها، وتنادي بها، وتدعو إليها، ولكن الواقع يدل على أن من أحدثوها وروجوا لها لم يريدوا ما فيها من معان قد تكون حقا، وإنما أرادوا ما فيها من باطلهم؛ ليجعلوه حَكَما على شريعة الله تعالى، مبطلا لأحكامها.
والجهة الرابعة: أن أهل الكفر وأهل البدعة والنفاق استطاعوا بمكرهم وكثرة إلحاحهم أن يجعلوا تلك المصطلحات المبتدعة سيفا مصلتا على أهل الحق والإيمان، يرهبونهم بها، وينفرون الناس منهم بسببها، ويعرقلونهم عن نشر حقهم، وهداية الناس إليه. في الوقت الذي يفرضون فيه باطلهم على الناس بكل ما أوتوا من قوة؛ فَيَصمون من يعارضهم بأنهم أعداء الحرية والمساواة، ولا يقبلون الآخر، ولا يعرفون التعايش السلمي، إلى غير ذلك مما يخوفون به من يعترض طريقهم، أو يقف عقبة في طريق مشاريعهم الإجرامية.
هذا؛ وليعلم كل مخدوع بتلك المصطلحات البراقة أن ما فيها من معان جميلة فليس له، وإنما هو حكر على الأقوياء، ولا حقَّ للضعفاء فيه، ولو آمنوا بها، وهتفوا لها، ودعوا إليها؛ فهذه الدول القوية تدعو الناس إلى الحوار، وتفرضه عليهم، في الوقت الذي تغزو فيه بلادهم، فتضربهم وتقتلهم وتستعمرهم، وتدمر عمرانهم، وتنهب ثرواتهم ولا تحاورهم، ولا ترى لهم أي حق في حوار أو حرية، ومع ذلك تدعو إلى الحوار وإلى الحرية.
وفي مجال حقوق الأطفال كانت ولا زالت المنظمات الدولية النصرانية تعيب على دول العالم الإسلامي إهدار الطفولة، وقتل براءتها، وتلقي الدروس والمواعظ في ذلك، وتسن القوانين المشددة لحفظ حقوق الأطفال، وضمان حرياتهم، وتجعل هذه القضية من ضمن أوراق الضغط لتحقيق مزيد من النفوذ والإخضاع لتلك الدول المستهدفة.
ولكن ما ينادون به من حق الطفولة، وحفظ براءتها هو مقصور على أطفالهم دون أطفال العالمين الذين لا حق لهم، ولا براءة فيهم!!
وفي كل الأديان والأعراف والأفكار المعلنة، الحقِ منها والباطل لا يسوغ لأحد أن يقصد طفلا بريئا بأي ضرر لأي هدف كان، ومنظماتهم الدولية تنص على ذلك، وتشدد فيه، ومع ذلك وقف العالم الغربي المتحضر بدوله الكبرى، واتحاده الأوربي واستخدم كل نفوذه، وأدوات ضغطه؛ لحماية ثلة من الممرضات المجرمات قتلن براءة عشرات الأطفال فحقنوهم بفيروس الإيدز، فمنهم من قضى، ومنهم من يتقلب في أوجاع المرض وآلامه، لا ذنب لهم إلا أنهم مسلمون، وكوفئ المجرمون بإطلاق سراحهم، وبُثت احتفالاتهم على العالم كله، في جريمة لست أعلم جريمة معلنة في حق الأطفال هي أبشع منها، فأين هي حقوق الطفولة البريئة وحمايتها التي ما فتئوا يبتزون غيرهم بها، ويعاقبونهم من أجلها؟ إنها ذهبت أدراج الرياح لأن الأطفال هنا مسلمون، ولا حق لمسلم في شيء!!
كان الله تعالى في عون هؤلاء الأطفال وآبائهم وأمهاتهم، وأسأله سبحانه أن ينتصر لهم إذ لم ينتصر لهم أحد؛ فالبشر بين ظالم وعاجز.
فمتى -يا عباد الله- يعي المخدوعون أن تلك المصطلحات الوافدة، والشعارات البراقة لا يُراد لأهل الإسلام منها إلا ما فيها من باطل؛ لإفساد عقائدهم، وإبطال شريعتهم، وإخراجهم من دينهم إلى باطل الكفار والمنافقين، وأن ما فيها من حق فهو مقصور عليهم دون غيرهم، ولا نصيب للمسلم في شيء منه.
[يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] {التوبة:33} .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
-------
مربع (1)
وقد وقفت على مقال مميز للشيح بندر الشويقي عقب الإفراج عن الممرضات، رأيت إيراده هنا ليستفيد القارئ منه ، ويعلم تفاصيل بعض ما جرى في هذه الجريمة المنكرة ، والمقال بعنوان:
(يا بليهي! الضمير الأوربي ذبح أطفالنا)
سُئل المفكر العظيم إبراهيم البليهي عن تفسيره للانهيار الأخلاقي في الغرب، فجحظت عيناه (الجاحظتان أصلاً من شدة الانبهار بالغرب )، وأجاب بدهشةٍ وعَجَبٍ : "أيُّ انهيار أخلاقي؟! ...هذا غلط، الأخلاق ليست هي الجنس ... عندما يدخل الإنسان قصراً فخماً أنيقاً فيه كل ما يبعث الانبهار والروعة ثم لا ينظر إلا إلى صندوق الزبالة"!!
ثم أضاف المفكر ـ ولا زالت عيناه جاحظتين ـ : "أخلاقهم عالية. الجانب الإنساني عندهم قوي. الجانب الإنساني عندهم رائع إلى أبعد الحدود"! .. "هم ليس عندهم نفاق، لأن ليس عندهم ما يخفونه... لا يخافون مما يعلنونه حتى يخفوه".
أما مفكر جريدة الرياض محمد المحمود ، فقد سبق له أن ملأ الدنيا بمعلقات المديح للليبرالية الغربية و"تقدميتها التي تعانق إنسانية الإنسان"!
و عبدالرحمن الراشد سبق أن زاد في الغباوة فأعلن أن التسامح المثالي المنشود لا يمكن أن يأتي من جهة الشرق أبداً، وأعلن أنه سيبقى واقفاً ينتظر أن يتفرغ الغربيون ليشرحوا له دين الإسلام شرحاً "بروتستانتياً متسامحاً"!
هذه المقولات لهذا الثلاثي المستغرب كانت تمر بذاكرتي وأنا أتابع ردة فعل الضمير الغربي وحسه المرهف تجاه جريمة ذاك الطبيب القذر والممرضات البلغاريات التي ارتكبوها بحق أربعمائة وثمانية وثلاثين طفلاً بريئاً من أجل حفنة دولارات قبضوها لهم من جهة أجنبية.
هم متسامحون!
ليس عندهم نفاق!
الجانب الإنساني عندهم قوي!
تقدميتهم تعانق إنسانية الإنسان!
الجانب الإنساني عندهم رائع إلى أبعد الحدود!
هذا ما اتفقت عليه كلمة شعراء بلاط البيت الأبيض الأمريكي وسيراميك الاتحاد الأوربي.
فما الذي سيقوله الآن أولئك الشعراء الغاوون تعليقاً على هذه الإنسانية الراقية تجاه أطفال ليبيا الأطهار ؟!
أربعمائة وثمانية وثلاثون طفلاً بريئاً جاؤوا للمستشفى طلباً للدواء، فتُحشا أجسادهم الغضة الطرية الطاهرة بأفتك فيروس ممرض تعرفه البشرية ، فيهب الضمير الغربي الإنساني المتسامح مباشرة لا للمطالبة بحقوق أولئك الأطهار، وإنما للدفاع عن قتلتهم المجرمين ، بمجرد أن زعم القذافي أن محاكمه ستعاقبهم بالإعدام!
تحركت دول (محور الخير ) كلها.
الاتحاد الأوربي يهدد بإعادة النظر في تطبيع علاقاته مع ليبيبا إذا نفذت الحكم!
المنظمات الحقوقية تستنكر...و الإعلام يتابع ويحلل ويفسر!
الرئيس الأمريكي يدخل على الخط، ويعلن أن ليبيبا إذا نفذت الحكم، فسوف يكون ذلك عقبةً في سبيل خروجها من عزلتها الدولية.
وخلال ذلك كله كان القذافي يرقص على تلك الإيقاعات، ويتفنن في المتاجرة بأرواح أولئك الأطفال الطاهرة، وبعذابات أسرهم المنكوبة.
وبعد ثمانية سنوات من المفاوضات التجارية، يقدِّم العقيد للأوربيين عرضه الأخير المتضمن تخفيضات مغرية في قيمة رأس الطفل الليبي. عندها يقنع "الإنسانيون" "المتسامحون" بربحية الصفقة، ثم يوقع الطرفان العقد، ليتنازل العقيد الفذُّ عن عقوبة الإعدام ، ولتتحول العقوبة ـ مؤقتاً ـ إلى سجن مؤبَّد في سجون بلغاريا وليس ليبيا. وفي اليوم نفسه يصل المجرمون إلى بلغاريا فيستقبلهم الرئيس البلغاري بنفسه في المطار، ليعلن من فوره البندَ الثاني من بنود الصفقة، والمتضمن العفو عن المجرمين وإسقاط عقوبة السجن عنهم، فيمضي القتلة مبتسمين مع أهليهم الذين استقبلوهم بالزهور في المطار، وتنتهي القصة، وكأن شيئاً لم يكن!
ثم يأتي دور الرئيس الفرنسي، فيعلن أنه سيتوجه شخصياً في اليوم التالي إلى ليبيا لإكمال باقي متعلقات الصفقة. وكانت زوجته قد سبقته إلى هناك للمشاركة في المساومة والمفاوضات قبل التوقيع على العقد. عقد الإنسانية الفريدة!
الإعلام الغربي ـ بما فيه (قناة العربية ) ـ اجتهد في تغطية فرح البلغار والأوربيين بنهاية الأزمة متجاهلاً حال الأسر الليبية المفجوعة. بل ربما طُرحت إيحاءات بأن التهمة كلها ملفقة وأنه لم تكن هناك جريمة أصلاً. مع أن كلَّ عارفٍ بالأمور يدرك أن سيادة العقيد صاحب ثورة الفاتح أعجز من أن يحتجز فأراً تجري في عروقه الدماء الأوربية ما لم يكن هناك تهمةٌ حقيقيةٌ.
كما أن الأوربيين لديهم من العجرفة والتعالي ما يحول بينهم وبين الدخول في مفاوضات وتنازلات مع سيادة العقيد دون مبرِّرٍ.
السؤال الذي يبرز الآن : هل سيجرؤ شعراء البلاط الغربي بعد هذه الواقعة على الحديث عن "الإنسانية" و"التسامح" الغربيين؟!
وهل يستطيع أحدٌ منهم أن يذكر لنا من تواريخ الأمم السابقة (المتخلفة ) وحشيةً وهمجيةً كهذه التي أهداها لنا الغربيون أصحاب الحضارة الاستثنائية؟!
مذبحة مروِّعةٌ بكل المقاييس، غير أنها مذبحة عصرية حسب الشريعة الغربية الليبرالية الحرة المتسامحة!
مذبحةٍ لم ترتكب بحقٍ جنودٍ في معركةٍ، ولا معارضين سياسيين، ولا "إرهابيين" في تورا بورا، وإنما بحق أطفال في مستشفى!
كما تعاني ابنتي (جود ) من أعراض البرد ، دخلت الطفلة (هدير ) ذات الأربعين يوماً إلى المستشفى الليبي لتعالج التهاباً عادياً في الصدر. وبدل أن يُعالجَ صدرها، دسَّتْ الممرضة المتوحشة في وريد رجلها الصغيرة أنبوباً لتمرير الفيروس القاتل إلى جسدها الندي.
(منى ) و(عاشور ) أخوان دخلا المستشفى ليعالجا من الحساسية. ثم خرجا يحملان فيروس الإيدز.
أما (منى ) فلا زالت تعاني عذاباتها. وأما (عاشور ) فقد توفي بعد أن نقل الفيروس إلى أمه عن طريق الرضاعة.
وملفات القضية تقول إن هناك ثمانية عشر أماً أخريات انتقل لهن الإيدز من أطفالهن عن طريق الرضاعة.
(جمعة رمضان ) الذي أعطي حقنة الموت وعمره سنتان أصبح الآن معاقاً وهو في العاشرة من عمره، ولا زال يعاني من تطورات الفيروس.
(يحيى إدريس ) الذي يبلغ الآن سبعة عشر عاماً ، يذكر جيداً ما حدث له تلك الليلة حين كان عمره ثمان سنوات. يقول : كان ذلك في يوم العيد!! كان أكثر الأطباء في إجازة، وفي ظلمة الليل جاءت الممرضة وأخرجت أمي من الغرفة، ثم أحضرت الحقنة!
وتتكرر هذه الصور البشعة أكثر من أربعمائة وثلاثين مرة. والتقارير تقول إن خمسين طفلاً توفوا إلى الآن، والباقون لا زالوا يعانون آلام الموت البطيء دون جرمٍ ارتكبوه.
وحتى يكتمل القُبح، فإن الممرضات الحقيرات ذكرنَ في التحقيق أنهن اخترن الأطفال بالذات لأنهم غير قادرين على الكلام.
فهل هناك "إنسانية" أعظم من هذه يا بليهي!
أيُّ قلوبٍ هذه! وأيُّ وحشيةٍ تلبَّستْ أولئك الشياطين!
من كان لديه طفل (ابن أو ابنة ، أخ أو أخت )، فلينظر إلى براءته وهو يلهو ويلعب ويضحك. ثم ليسرحْ بخاطره متفكراً : ماذا لو تعرَّض طفلي هذا لمثل تلك الجريمة البشعة؟ عندها سوف يدرك بعض معاناة وآلام مئات الأطفال والأسر في ليبيا. علماً أن بعض الأطفال المجني عليهم لم يتجاوز عمرهم الثلاثة أشهر، وهم الآن مع أسرهم يعيشون عزلة اجتماعية شديدة بسبب خوف الناس من انتقال العدوى إليهم.
والعجيب أن الإعلام الغربي بضميره الحي ، ظل طيلة السنوات التي تلت الجريمة مشغولاً بمعاناة الممرضات مع المحاكم الليبية. وأما الأطفال وأسرهم، فليشربوا من ماء البحر إن لم ترضهم حفنة دولارات ستدفع لهم، ليقتسموها مع قائد ثورة الفاتح!
ماذا لو كان المجني عليهم أطفالاً أوربيين ؟
بل ماذا لو كان المجني عليه طفلاً واحداً يحمل في عروقه دماء الأوربيين الزرقاء؟
بل ماذا لو كان كلباً أو قطاً أوروبياً تعرض لانتهاك حقوقه ؟
في العام 1424هـ نشرت الواشنطن بوست خبراً مفاده أن الأمريكي جيمس أندرو ينتظر حكماً بالسجن المؤبد لأنه قتل كلباً بطريقة وحشية!
وفي العام الذي يليه نقلت البي بي سي أن محكمة أمريكية حكمت بتعويض مقداره (45000) دولار لامرأة ، لأن كلب جارتها قتل قطتها.
وفي هلسنكي بفنلندا حكمت محكمة بالغرامة على بائع أسماك ، لأنه كان يسيء معاملة أسماكه أثناء عرضها للبيع!
وأعجب من هذا كله أن مسلماً في الثمانينات في بلغاريا نفسها حكم عليه بالسجن خمس سنوات لأنه أجرى عملية ختان لابنه!
واليوم ما يقرب من خمسمائة طفلٍ يُحقن السم القاتل في عروقهم، فلا تتحرك "الإنسانية" الأوربية ولا "العدالة" الأمريكية، ولا يرف لهما جفن. لتبقى حركة الضمير الغربي معلقةً بإنسانية خاصة بعرقهم الأزرق.
الإنسانية الأوربية كلمة تقرأ من اليسار إلى اليمين فقط. أما من اليمين إلى اليسار فلا إنسانية هناك يمكن قراءتها!
أما القذافي فليس أهلاً لأن يشتم ؛ إذ ليس في القواميس لغة يمكن أن تنحط لمستواه السافل. وما كنا ننتظر منه أقل من هذه الخيانة.
وأما الطبيب والممرضات فهم من جنس سائر القتلة السفلة والمجرمين الهمجيين الذين لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً.
لكن ماذا عن حضارة "الإنسانية" و"العدالة" و"حقوق الإنسان"؟!!
أليست هذه الحضارة هي نفسها التي شنقت صدام حسين لأنه قتل (148) رجلاً في الدجيل بعد أن جرت محاولة لاغتياله هناك؟!!
أليست هذه هي الحضارة التي تصب علينا كلًَّ عامٍ تقاريرها عن انتهاكات حقوق الإنسان في بلادنا؟!!
أليست هذه هي الحضارة التي لا زالت تلهج بلعن طالبان وانتهاكاتها لحقوق الإنسان؟!
أليست هذه هي الحضارة التي أشعلت الدنيا غضباً لهدم أصنام بوذا في باميان؟!
أليست هذه هي الحضارة التي أعلن أحد شياطينها أنها تمثل "نهاية التاريخ" وخاتمة الارتقاء في سلم الإنسانية؟!
أليست هذه هي الحضارة التي باتت تفكر في فرض قوانين وعقوبات لمحاسبة الناس حتى على مشاعر الكراهية؟
بالنسبة لي لا جديد في هذه الحادثة سوى دليلٍ آخر يضاف لركام الأدلة على زيف تلك الدعاوى الماكرة وكذبها. وأظن الأمر كذلك بالنسبة للكثيرين.
لكن ماذا عن شعراء البلاط الأمريكي الأوربي ؟ هل سيتوقفون عند مثل هذه الحادثة لإعادة النظر في قناعاتهم الساذجة؟!
لست متفائلاً حيال ذلك . فالتجارب تدل على أن هذه النوعية من البشر لن تعتبر، ولن تتحرك فيها شعرة واحدة. بل إن شغفهم بالمدائح (البلاطية ) ربما يجعلهم لا يبصرون في هذه القصة كلها سوى جانبٍ واحدٍ ، وهو (عناية بلغاريا و الدول الغربية بمواطنيها ودفاعها عنهم ). وأما سائر جوانب القصة الأليمة فلا أظنهم يتوقفون عندها، ولا يبدو أنها ستغير من قناعاتهم شيئاً إلا أن يشاء الله.
وقد رأينا بعض هؤلاء حين ظهرت فظائع سجن أبي (غريب )، وضج لها الناس، رأيناهم يتحدثون فقط عن روعة النظام الذي أدى لاكتشاف مثل هذه الممارسات! فمن الواضح أن الغشاوة غطت على أبصارهم، بعد أن ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
حادثة الأطفال الليبيين ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة. وشعارات إنسانية الحضارة الغربية باتت مكشوفة العورة تماماً، فهي تغيب دائماً حين توجد المصالح والدولارات. وإذا كان الأطفال الليبيون ـ وبسبب جريمة أوربية ـ يعانون الآن ويلات الإيدز. فهناك ثمانية وعشرون مليون إفريقي آخر يعانون المرض نفسه. والقيم الغربية "الإنسانية" "الرائعة" لها يدٌ طولى في تعميق هذه المعاناة.
أدوية الإيدز تصنعها في أمريكا شركة (Pfizer) وتبيعها بأثمان باهضة تعادل تسعة أضعاف كلفة إنتاجها.
بالمقابل هناك ثلاث دول في العالم (الهند ـ البرازيل ـ الأرجنتين ) تستطيع تصنيع هذا الدواء وبيعه بثلث السعر الأمريكي. لكن الأمريكيين ظلوا لسنواتٍ يمنعونهم من ذلك بعد أن كبلوهم باتفاقيات منظمة التجارة الدولية. وليذهب الأفارقة إلى مصيرهم المظلم فداءً لقيم الحضارة الغربية الإنسانية الرائعة كما في رواية البليهي!
فما أعظم هذه "الإنسانية" ، وما أرقاها ؟
هذه "الإنسانية" الفريدة هي التي تحرك قريحة شعراء البلاط، وتهيج مواهبهم لتدبيج الثناء والمديح لمن يتفنن في قتل الشعوب ومص دمائها ودماء أطفالها في سبيل الدولار. ثم يرفع بعد ذلك بكل براءة شعارات "الإنسانية" وقيم "العدالة" و"العالم الحر".
حين أسمع أخبار تدخل "بوش" لمنع معاقبة الممرضات البلغاريات رغم جنايتهم بحق أطفال لا ذنب لهم، أتذكر بكائياته وعباراته التي يكررها دائماً في خطاباته المنافقة : "إذا ظل الشرق الأوسط، حتى بعد عشرين عاماً من الآن، خاضعاً لسيطرة حكام طغاة ... فإن ((أطفالنا وأحفادنا )) سيعيشون في عالم يسيطر عليه كابوس الخطر" ... "إذا تراجعنا وسمحنا بوجود حكومات استبدادية ... فسيكون العالم الذي سينمو فيه ((أطفالنا )) عالماً عدوانياً".
انظروا مقدار الشفقة التي يظهرها الفاجر على الأطفال، ثم تذكروا حكمة إبراهيم البليهي حين قال : (هم ليس عندهم نفاق )!!
وإذا كان النفاق يقبح من الضعيف، فهو أقبح وأقبح حين يأتي من القوي.
أذكر قبل سنوات حين هلك الجنرال السفاح(أوغستو بينوشيه ) حاكم تشيلي السابق خرج متحدث باسم البيت الأبيض يقول : "فترة استبداد أوغوستو بينوشيه شكلت أحد أصعب الفترات في تاريخ هذا البلد (تشيلي )"، ثم قال : "إن قلوبنا تتجه اليوم إلى ضحايا عهده وإلى أسرهم".
هذا ما قاله المتحدث باسم بيت الإنسانية الأبيض ، لكن مالم يقله هو أن بينوشيه وصل للحكم عن طريق انقلاب عسكري مدعوم من الرئيس الأمريكي نيكسون ضد رئيس تشيلي المنتخب. هذا الرئيس المنتخب الذي اختاره شعبه لم يكن "ديكتاتوراً" ولا "إرهابياً". لكن مشكلته أنه مؤمن بالاشتراكية، وهذا ما اعتبره الأمريكيون جريمةً وكفراً. فليسقط إذاً الرئيس المنتخب، وليحل مكانه المجرم الطاغية، وليقتل وليخطف وليعذب الآلاف من شعبه. ثم إذا مات بعد سنوات ، لا بأس بكلمات أمريكية تتباكي على ضحايا إجرام الجنرال الطاغية!
لاحرج في ذلك كله، فالعالم مليء بالأغبياء الذين سوف يتفهمون موقف العالم الحر ، و يكررون ببلاهةٍ : (الغرب ليس عنده نفاق )!
هذه صورة واحدة من ألبوم يحوي المئات من الصور.
والذي يريد الوقوف عليها لا يحتاج للتفتيش في كتب التواريخ.
بل يكفيه فقط أن يتابع الأخبار بعقل واعٍ غير قابل لأن يخدع. وسوف يرى الصورة كاملة أمام عينيه بكل قبحها وبشاعتها.
لكن إن كان من شعراء البلاط الغربي .. فهو يقيناً ، لن يبصر أمامه إلا صورة جمهورية أفلاطون الفاضلة، وجنة جون لوك الموعودة.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى