رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ /صالح بن عبد الرحمن الخضيري
إلى همة عالية
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله الكريم الوهاب , الحكيم التوَّاب , أنزل القرآن يحثُّ فيه على اكتساب الثواب , ويزجرُ عن أسباب العقاب , قسَّم الخلق إلى تقيٍّ أوَّاب همَّتُه طلب الخيرات والاكتساب , وإخلاص العبادة لربِّ الأرباب , أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب , والقسم الآخر فاجرٌ كذَّاب , يعمر الجسم والقلب خراب , وهمَّته لهوٌ وطعام وشراب .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ الأرباب , ومسبِّب الأسباب , وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله الشَّافع المشفَّع يوم الحشر والحساب , صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الآل والأصحاب , صلاةً مستمرةً إلى يوم المآب .
أمَّا بعدُ فيَا أيُّها المسلِمون : اتَّقوا الله تعالى وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون .
أيُّها الإِخوة : إنَّ مِن النفوس نفساً قويَّةً إرادتها جازمة , ونيَّتها صادقة , ورغبتها في الخير عظيمة , توصَف بعلوِّ الهمَّة وكِبَرِها .
إنَّ علوَّ الهمة أنْ لا تقف دون السَّعي إلى الخير والبرّ , وأن تواصل في تربية نفسك على العلم والعبادة والفضائل والأخلاق , مستسهلاً جميع الصِّعاب , ناظراً بقلبك إلى عظيم الثَّواب في دار المآب . ومتى عَلَتِ الهمة فلا تقنع بالدُّون , ولا تبيع حظَّها من الله وقربها والأنس به بشيء من الحظوظ الدُّنيويَّة الخسيسة الفانية , فعلوُّ همة المرء عنوان فلاحه , وسُفُول همته ودناءة مطالبه عنوان حرمانه , وكمال الإنسان إنما يتمُّ بنوعين : همةٌ في سبيل الخير ترقِّيه , وعلم نافعٌ يبصِّره ويهديه [مستفادة من كلام ابن القيم رحمه الله] , ومن إشارة ابن الجوزي إلى هذا الأمر أنه قال : (الهمة تُولد مع الآدميِّ , وإنما تقصُر بعض الهممِ في بعض الأوقات , فإذا حُثَّت سارت , ومتى رأيت في نفسك عجزاً فسَلِ المنعم , أو كسلاً فسَلِ الموفِّق , فلن تنال خيراً إلا بطاعته , فمن الذي أقبل عليه ولم ير كل مراد ؟ ومن الذي أعرض عنه ففاز بخيرٍ وفائدةٍ أو حَظِيَ بغرضٍ نفيس ) أهـ .
نعم – أحيانا بسبب العجز أو الكسل أو استحواذ الشيطان وتسويل النَّفس الأمَّارة بالسُّوء تقصر بعض الهمم أحياناً , فهنا تحتاج إلى إيقاظٍ وتنبيه , وحثٍّ وتذكير , برضا من تطلب ؟ وفي أي نعيم ترغب ؟ ومن أي عقاب ترهب ؟ .
كما فعل بعض الصَّالحين , فحين قُتل جعفر بن أبي طالب t في غزوة مؤتة أخذ الرَّاية عبد الله بن رواحة t ثم قدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزِل نفسَه , ويتردَّد بعض التردُّد ثم قال :
أقسمتُ يـَـا نفسُ لَتَنْزِلِنَّـهْ لَتَنْزِلـِنَّ أو لَتُكْرَهِنَّــهْ
إِن أجلبَ النَّاسُ و شدُّوا الرَّنَّة مَا لي أراكِ تكرهينَ الجنَّة
وَقال :
يَا نفسُ إن لا تُقتَلي تَموتِي هَذا حِمَامُ الموتِ قد صَلِيتِ
ومَا تـمنَّيتِ فقَـد أُعطِيتِ إنْ تفعلي فِعلَهُمَا* هُـدِيتِ
وَإنْ تأخَّرتِ فقَد شَـقِيتِ
* يريدُ صاحبيه زيداً وجعفراً , ثم قاتل حتى قُتل .
أيُّها الإِخوة : الطباع الحميدة والأخلاق الفاضلة غريزيَّة فطريَّة , لكنها تحصل بالممارسة والمجاهدة , يقول تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} (9) سورة الشمس . وفي الحديث : (( إنَّما العلمُ بالتعلُّم , وإنَّما الحِلم بالتحلُّم , ومَن يَخْتَرِ الخيرَ يُعْطَهُ , ومَن يتوقَّ الشَّرَّ يوقَه )) [التخريج في كتاب الهمة العالية للحمد ص101] .
فعلى المرء أن يسعى – بنيَّةٍ صادقة – إلى تربية الفضائل في نفسه , والسعي إلى تكميلها بعلم أو عبادة ليبني له مستقبلاً زاهراً في جناتٍ ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر , مع ما يناله من خيرٍ في دنياه , ولذلك (لما كان مجد الآخرة أعظم المجد , كان ابتغاؤُه أعظم الغايات , وكان هو الهمُّ الأكبر للمؤمنين الصادقين ذوي الهمم العالية والنُّفوس الكبيرة الزَّكية , أمَّا الدنيا فإنها في نظرهم – مهما بلغت أمجادُها – قليلة القيمة في جنب الآخرة , لذلك فهم يحاولون أن يبتغوا فيما آتاهم الله الدَّار الآخرة مع أنهم لا ينسون نصيبهم من الدُّنيا) أ هـ [الأخلاق الإسلامية 2/475] . قال تعالى : {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (38) سورة التوبة .
المؤمنون الصادقون لا يدنِّسون أنفسهم بالدَّناءات ومحقِّرات الأمور , ولا يُريقون ماء وجوههم في سبيل الحصول على عرضٍ من أعراض الدُّنيا , ولا يفنون أعمارَهم ويبدِّدون طاقاتهم بحثاً عن منصبٍ أو جاهٍ سرعان ما يزول , بل يرون الآخرة هي أولى ما إليه يُسعى , فنعيمها خيرٌ وأبقى , وملكها لا ينقطع ولا يبلى , يقول تعالى : {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}(16-17) سورة الأعلى . وإذا سمعت قوله تعالى في وصف بعض نعيم الجنة : {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} (20) سورة الإنسان . فما ظنُّك بنعيمٍ ومُلكٍ وصفه العظيم سبحانه بأنه كبير , وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لَمَوْضِعُ سوطِ أحدِكم في الجنَّة خيرٌ منَ الدُّنيا ومَا فيها , ولَغَدْوَةٌ في سبيلِ الله أو روحةٌ خيرٌ منَ الدُّنيا ومَا فيها )) . ومن هنا فكلما عَلَتْ همة الإنسان كانت مطالبهُ أسمى , وصغُرت في عينه مطالب الدنيا فلا يتعلق بها كثيراً إلا بمقدار الحاجات .
قيل لبعضهم : فلانٌ بعيدُ الهمة . فقال : إذاً ليس له غايةٌ دون الجنة .
يقول ابن حزم رحمه الله : (لا تبذِل نفسك إلا في ما هو أعلى منها , وليس ذلك إلا في ذات الله عزَّ وجل في دعاء إلى حقّ , وفي حماية الحريم , وفي رفع هوان لم يوجبه عليك خالقك – تعالى - , وفي نصر مظلومٍ , وباذل نفسِهِ في عرض دنيا كبائع الياقوت بالحصى) .
وفي الحديث : (( إنَّ اللهَ يحبُّ معالِيَ الأمورِ وأشرافَها , ويكرهُ سفَاسِفها )) . [صححه الألباني] .
أيُّها الأحِبَّة : النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها , وأحمدِها عاقبة , فمن عَلَتْ همته وخشعت نفسه اتَّصف بكل خلُقٍ جميلٍ , ومن تلمح حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصبر , ومرارات المبادئ حلاوات العواقب , ومن لم تكن له بدايةٌ محرقة لم تكن له نهايةٌ مشرقة . [من كلام ابن القيم رحمه الله] .
أيُّها المؤمنُون : الهمَّة العالية والرغبة في الوصول إلى معالي الأمور لها أسبابٌ تعين على اكتسابها منها : التربية الصالحة , والتشجيع على الخير , ولزوم الدعاء , والإقبال على القرآن العظيم , والتَّجافي عن التَّرف والنعيم , وتنظيم الوقت , والتَّوازن في الأمور , واستشارة العقلاء , وتصحيح الأخطاء , وقبول النصيحة , وإخلاص العمل لله , والإعراضِ عن الجاهلي ,ن ومقابلةُ الإساءة بالإحسان , وتقصير الأمل , وتذكُّر الآخرة , والصبر على المشقّة , والتَّرف عن الدَّنايا . يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله : (إنَّ لي نفساً توَّاقة لم تزل تتوقُ إلى الإمارة , فلما نلتُها تاقَت إلى الخلافة , فلما نلتُها تاقت إلى الجنة) [عيون الأخبار 1/231] .
ولْيَعلم – العاقل – أنه مهما بذل نفسه في سبيل الخير والطَّاعة , والعلم والعبادة فإن هذا لا يضرُّها أبداً بل هو غاية نفعها , وهذه الأبدان سوف تفنى والأعمار تُطوى , ثم يُنشئ الله عباده نشأةً للبقاء لا للفناء , فعند ذلك يُسَرُّ العاملون , ويفرح المؤمنون , وعند ذلك أيضاٍ يخسر المُبطلون ويقولون : {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} (31) سورة الأنعام .
فيَا ذَوي الهممِ العَالية : إلى الخيرات فسارعوا , وإلى القُربات فبادروا , ولا تغرنَّكم الحياة الدنيا ولا يغرنَّكم بالله الغرور , ومن لم يباشر حرَّ الهجير في طلب المجد لم يَقِلْ في ظلِّ الشَّرف ...خُلق الإنسان في كبدٍ ونَصَب ... وهناك من يكدح في سبيل شهوةٍ ونزوة , والموفَّق من يكدح في سبيل عقيدةٍ ودعوة , وليس للعبد مستراحٌ إلا في الجنَّة .
يا هذا من جاهد نفسه و جَدَّ وجد , وليس من سهِر كمن رقَد , وأبواب الفضائل تحتاج إلى وثبة أسَد , ومن أراد حلاوة العبادة فليخالف هوى النَّفس , ولْيجعل بينه وبين الشهوات حائطاً من حديد , ومن قصَّر الأمل اندفع إلى علوِّ الهمة وحسن العمل . قال حاتم الأحم : (ما من صباحٍ إلا والشيطان يقول لي : ما تأكل ؟ وما تلبس ؟ وأين تسكن ؟ فأقول : آكل الموتَ , وألبس الكفنَ , وأسكن القبر) .
ومن وصايا معاذ بن جبل رضي الله عنه : (اعلمْ أنه لا غنى بك عن نصيبك من الدُّنيا , وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر , فابدأ بنصيبك من الآخرة فإنه سيمرُّ بك على نصيبك من الدنيا فينتظمه ثم يزول معك أينما زِلت) .
وأصدق الوصايا وأنفعها ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يقول جل وعلا : {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} (148) سورة البقرة , {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (197) سورة البقرة , {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (195) سورة البقرة , {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} (195) سورة البقرة , {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} (150) سورة البقرة , {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (281) سورة البقرة .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لم يزل واحداً أحداً , ولم يتَّخذ صاحبة ولا ولداً , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمَّداً عبده ورسوله أشرف متبوعٍ وأفضل مقتَدَى , صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً مستمرةً على مرِّ الزَّمان أبدا .
أمَّا بعدُ : فإن مما يُعين على تنمية جوانب الخير في النفس وعلوِّ الهمة إلى طلب الكمال معرفة سِيَرِ الأبطال الأخيار , من العبَّاد والعلماء والمصلحين , ولا سيَّما السيرة النبوية وسير الصحابة والتابعين , وكثيراً ما دفع الناس إلى العمل الجليل حكايةً قرءوها عن رجلٍ عظيمٍ أو حادثةٍ رُويت عنه , فإذا سمع ضعيف الهمة المتهاون بشأن الصلاة ما جاء في الشرع من النصوص العظيمة , فيها ترغيبٌ وترهيب , ثم سمع من أحوال الصالحين شيئاً , أحدث هذا عنده شيئاً من الرَّغبة في الخير والاستقامة على الجادَّة إن كان في قلبه حياة والله المستعان .
ولهذا فاستمع إلى بعضٍ ممَّا أُثر عن الصالحين من تعظيم قدر الصلاة وخاصةً صلاة الجماعة التي ضيَّعها بعض المسلمين اليوم .
كان المحدِّث بشر بن الحسن يسمى ((الصَّفِّيّ)) لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة .
وكان سليمان بن حمزة المقدسي قاضي الشام يقول : (لم أصلِّ الفريضة قطّ منفرداً إلا مرّةً أو مرتين , وكأني لم أصلِّها قطّ) مع أنه قارب التسعين- رحمه الله -, وكان الحافظ ابن عساكر منذ أربعين سنة يلزم الصلوات في الصف الأول إلا من عُذر , ويعتكف في رمضان وعشر ذي الحجة .
أما الداعية المحدث إبراهيم المروزي فقد كان صائغاً يطرق الذهب والفضة , قال عنه ابن معين : (كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يرُدَّهَا) .
وقيل لـ كثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سَهوه في الصلاة قط وقد أمَّ أهل حمص ستين سنة فقال : (ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله) .
وكان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تَفُتْهُ التكبيرة الأولى . فأين من يحاول اللحاق بهم , ويسلك سبيلهم , أقوام أخلصوا الأعمال وحقَّقوها , وقيَّدوا شهواتهم بالخوف وأوثقوها , وسابقوا الساعات بالطاعات فسبقوها , فما أسعدهم وما أعظم فوزهم .
وفقنا الله لطاعته , وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته , اللهم صلِّ على محمد .
إلى همة عالية
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله الكريم الوهاب , الحكيم التوَّاب , أنزل القرآن يحثُّ فيه على اكتساب الثواب , ويزجرُ عن أسباب العقاب , قسَّم الخلق إلى تقيٍّ أوَّاب همَّتُه طلب الخيرات والاكتساب , وإخلاص العبادة لربِّ الأرباب , أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب , والقسم الآخر فاجرٌ كذَّاب , يعمر الجسم والقلب خراب , وهمَّته لهوٌ وطعام وشراب .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ الأرباب , ومسبِّب الأسباب , وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله الشَّافع المشفَّع يوم الحشر والحساب , صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الآل والأصحاب , صلاةً مستمرةً إلى يوم المآب .
أمَّا بعدُ فيَا أيُّها المسلِمون : اتَّقوا الله تعالى وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون .
أيُّها الإِخوة : إنَّ مِن النفوس نفساً قويَّةً إرادتها جازمة , ونيَّتها صادقة , ورغبتها في الخير عظيمة , توصَف بعلوِّ الهمَّة وكِبَرِها .
إنَّ علوَّ الهمة أنْ لا تقف دون السَّعي إلى الخير والبرّ , وأن تواصل في تربية نفسك على العلم والعبادة والفضائل والأخلاق , مستسهلاً جميع الصِّعاب , ناظراً بقلبك إلى عظيم الثَّواب في دار المآب . ومتى عَلَتِ الهمة فلا تقنع بالدُّون , ولا تبيع حظَّها من الله وقربها والأنس به بشيء من الحظوظ الدُّنيويَّة الخسيسة الفانية , فعلوُّ همة المرء عنوان فلاحه , وسُفُول همته ودناءة مطالبه عنوان حرمانه , وكمال الإنسان إنما يتمُّ بنوعين : همةٌ في سبيل الخير ترقِّيه , وعلم نافعٌ يبصِّره ويهديه [مستفادة من كلام ابن القيم رحمه الله] , ومن إشارة ابن الجوزي إلى هذا الأمر أنه قال : (الهمة تُولد مع الآدميِّ , وإنما تقصُر بعض الهممِ في بعض الأوقات , فإذا حُثَّت سارت , ومتى رأيت في نفسك عجزاً فسَلِ المنعم , أو كسلاً فسَلِ الموفِّق , فلن تنال خيراً إلا بطاعته , فمن الذي أقبل عليه ولم ير كل مراد ؟ ومن الذي أعرض عنه ففاز بخيرٍ وفائدةٍ أو حَظِيَ بغرضٍ نفيس ) أهـ .
نعم – أحيانا بسبب العجز أو الكسل أو استحواذ الشيطان وتسويل النَّفس الأمَّارة بالسُّوء تقصر بعض الهمم أحياناً , فهنا تحتاج إلى إيقاظٍ وتنبيه , وحثٍّ وتذكير , برضا من تطلب ؟ وفي أي نعيم ترغب ؟ ومن أي عقاب ترهب ؟ .
كما فعل بعض الصَّالحين , فحين قُتل جعفر بن أبي طالب t في غزوة مؤتة أخذ الرَّاية عبد الله بن رواحة t ثم قدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزِل نفسَه , ويتردَّد بعض التردُّد ثم قال :
أقسمتُ يـَـا نفسُ لَتَنْزِلِنَّـهْ لَتَنْزِلـِنَّ أو لَتُكْرَهِنَّــهْ
إِن أجلبَ النَّاسُ و شدُّوا الرَّنَّة مَا لي أراكِ تكرهينَ الجنَّة
وَقال :
يَا نفسُ إن لا تُقتَلي تَموتِي هَذا حِمَامُ الموتِ قد صَلِيتِ
ومَا تـمنَّيتِ فقَـد أُعطِيتِ إنْ تفعلي فِعلَهُمَا* هُـدِيتِ
وَإنْ تأخَّرتِ فقَد شَـقِيتِ
* يريدُ صاحبيه زيداً وجعفراً , ثم قاتل حتى قُتل .
أيُّها الإِخوة : الطباع الحميدة والأخلاق الفاضلة غريزيَّة فطريَّة , لكنها تحصل بالممارسة والمجاهدة , يقول تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} (9) سورة الشمس . وفي الحديث : (( إنَّما العلمُ بالتعلُّم , وإنَّما الحِلم بالتحلُّم , ومَن يَخْتَرِ الخيرَ يُعْطَهُ , ومَن يتوقَّ الشَّرَّ يوقَه )) [التخريج في كتاب الهمة العالية للحمد ص101] .
فعلى المرء أن يسعى – بنيَّةٍ صادقة – إلى تربية الفضائل في نفسه , والسعي إلى تكميلها بعلم أو عبادة ليبني له مستقبلاً زاهراً في جناتٍ ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر , مع ما يناله من خيرٍ في دنياه , ولذلك (لما كان مجد الآخرة أعظم المجد , كان ابتغاؤُه أعظم الغايات , وكان هو الهمُّ الأكبر للمؤمنين الصادقين ذوي الهمم العالية والنُّفوس الكبيرة الزَّكية , أمَّا الدنيا فإنها في نظرهم – مهما بلغت أمجادُها – قليلة القيمة في جنب الآخرة , لذلك فهم يحاولون أن يبتغوا فيما آتاهم الله الدَّار الآخرة مع أنهم لا ينسون نصيبهم من الدُّنيا) أ هـ [الأخلاق الإسلامية 2/475] . قال تعالى : {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (38) سورة التوبة .
المؤمنون الصادقون لا يدنِّسون أنفسهم بالدَّناءات ومحقِّرات الأمور , ولا يُريقون ماء وجوههم في سبيل الحصول على عرضٍ من أعراض الدُّنيا , ولا يفنون أعمارَهم ويبدِّدون طاقاتهم بحثاً عن منصبٍ أو جاهٍ سرعان ما يزول , بل يرون الآخرة هي أولى ما إليه يُسعى , فنعيمها خيرٌ وأبقى , وملكها لا ينقطع ولا يبلى , يقول تعالى : {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}(16-17) سورة الأعلى . وإذا سمعت قوله تعالى في وصف بعض نعيم الجنة : {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} (20) سورة الإنسان . فما ظنُّك بنعيمٍ ومُلكٍ وصفه العظيم سبحانه بأنه كبير , وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لَمَوْضِعُ سوطِ أحدِكم في الجنَّة خيرٌ منَ الدُّنيا ومَا فيها , ولَغَدْوَةٌ في سبيلِ الله أو روحةٌ خيرٌ منَ الدُّنيا ومَا فيها )) . ومن هنا فكلما عَلَتْ همة الإنسان كانت مطالبهُ أسمى , وصغُرت في عينه مطالب الدنيا فلا يتعلق بها كثيراً إلا بمقدار الحاجات .
قيل لبعضهم : فلانٌ بعيدُ الهمة . فقال : إذاً ليس له غايةٌ دون الجنة .
يقول ابن حزم رحمه الله : (لا تبذِل نفسك إلا في ما هو أعلى منها , وليس ذلك إلا في ذات الله عزَّ وجل في دعاء إلى حقّ , وفي حماية الحريم , وفي رفع هوان لم يوجبه عليك خالقك – تعالى - , وفي نصر مظلومٍ , وباذل نفسِهِ في عرض دنيا كبائع الياقوت بالحصى) .
وفي الحديث : (( إنَّ اللهَ يحبُّ معالِيَ الأمورِ وأشرافَها , ويكرهُ سفَاسِفها )) . [صححه الألباني] .
أيُّها الأحِبَّة : النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها , وأحمدِها عاقبة , فمن عَلَتْ همته وخشعت نفسه اتَّصف بكل خلُقٍ جميلٍ , ومن تلمح حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصبر , ومرارات المبادئ حلاوات العواقب , ومن لم تكن له بدايةٌ محرقة لم تكن له نهايةٌ مشرقة . [من كلام ابن القيم رحمه الله] .
أيُّها المؤمنُون : الهمَّة العالية والرغبة في الوصول إلى معالي الأمور لها أسبابٌ تعين على اكتسابها منها : التربية الصالحة , والتشجيع على الخير , ولزوم الدعاء , والإقبال على القرآن العظيم , والتَّجافي عن التَّرف والنعيم , وتنظيم الوقت , والتَّوازن في الأمور , واستشارة العقلاء , وتصحيح الأخطاء , وقبول النصيحة , وإخلاص العمل لله , والإعراضِ عن الجاهلي ,ن ومقابلةُ الإساءة بالإحسان , وتقصير الأمل , وتذكُّر الآخرة , والصبر على المشقّة , والتَّرف عن الدَّنايا . يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله : (إنَّ لي نفساً توَّاقة لم تزل تتوقُ إلى الإمارة , فلما نلتُها تاقَت إلى الخلافة , فلما نلتُها تاقت إلى الجنة) [عيون الأخبار 1/231] .
ولْيَعلم – العاقل – أنه مهما بذل نفسه في سبيل الخير والطَّاعة , والعلم والعبادة فإن هذا لا يضرُّها أبداً بل هو غاية نفعها , وهذه الأبدان سوف تفنى والأعمار تُطوى , ثم يُنشئ الله عباده نشأةً للبقاء لا للفناء , فعند ذلك يُسَرُّ العاملون , ويفرح المؤمنون , وعند ذلك أيضاٍ يخسر المُبطلون ويقولون : {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} (31) سورة الأنعام .
فيَا ذَوي الهممِ العَالية : إلى الخيرات فسارعوا , وإلى القُربات فبادروا , ولا تغرنَّكم الحياة الدنيا ولا يغرنَّكم بالله الغرور , ومن لم يباشر حرَّ الهجير في طلب المجد لم يَقِلْ في ظلِّ الشَّرف ...خُلق الإنسان في كبدٍ ونَصَب ... وهناك من يكدح في سبيل شهوةٍ ونزوة , والموفَّق من يكدح في سبيل عقيدةٍ ودعوة , وليس للعبد مستراحٌ إلا في الجنَّة .
يا هذا من جاهد نفسه و جَدَّ وجد , وليس من سهِر كمن رقَد , وأبواب الفضائل تحتاج إلى وثبة أسَد , ومن أراد حلاوة العبادة فليخالف هوى النَّفس , ولْيجعل بينه وبين الشهوات حائطاً من حديد , ومن قصَّر الأمل اندفع إلى علوِّ الهمة وحسن العمل . قال حاتم الأحم : (ما من صباحٍ إلا والشيطان يقول لي : ما تأكل ؟ وما تلبس ؟ وأين تسكن ؟ فأقول : آكل الموتَ , وألبس الكفنَ , وأسكن القبر) .
ومن وصايا معاذ بن جبل رضي الله عنه : (اعلمْ أنه لا غنى بك عن نصيبك من الدُّنيا , وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر , فابدأ بنصيبك من الآخرة فإنه سيمرُّ بك على نصيبك من الدنيا فينتظمه ثم يزول معك أينما زِلت) .
وأصدق الوصايا وأنفعها ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يقول جل وعلا : {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} (148) سورة البقرة , {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (197) سورة البقرة , {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (195) سورة البقرة , {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} (195) سورة البقرة , {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} (150) سورة البقرة , {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (281) سورة البقرة .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لم يزل واحداً أحداً , ولم يتَّخذ صاحبة ولا ولداً , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمَّداً عبده ورسوله أشرف متبوعٍ وأفضل مقتَدَى , صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً مستمرةً على مرِّ الزَّمان أبدا .
أمَّا بعدُ : فإن مما يُعين على تنمية جوانب الخير في النفس وعلوِّ الهمة إلى طلب الكمال معرفة سِيَرِ الأبطال الأخيار , من العبَّاد والعلماء والمصلحين , ولا سيَّما السيرة النبوية وسير الصحابة والتابعين , وكثيراً ما دفع الناس إلى العمل الجليل حكايةً قرءوها عن رجلٍ عظيمٍ أو حادثةٍ رُويت عنه , فإذا سمع ضعيف الهمة المتهاون بشأن الصلاة ما جاء في الشرع من النصوص العظيمة , فيها ترغيبٌ وترهيب , ثم سمع من أحوال الصالحين شيئاً , أحدث هذا عنده شيئاً من الرَّغبة في الخير والاستقامة على الجادَّة إن كان في قلبه حياة والله المستعان .
ولهذا فاستمع إلى بعضٍ ممَّا أُثر عن الصالحين من تعظيم قدر الصلاة وخاصةً صلاة الجماعة التي ضيَّعها بعض المسلمين اليوم .
كان المحدِّث بشر بن الحسن يسمى ((الصَّفِّيّ)) لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة .
وكان سليمان بن حمزة المقدسي قاضي الشام يقول : (لم أصلِّ الفريضة قطّ منفرداً إلا مرّةً أو مرتين , وكأني لم أصلِّها قطّ) مع أنه قارب التسعين- رحمه الله -, وكان الحافظ ابن عساكر منذ أربعين سنة يلزم الصلوات في الصف الأول إلا من عُذر , ويعتكف في رمضان وعشر ذي الحجة .
أما الداعية المحدث إبراهيم المروزي فقد كان صائغاً يطرق الذهب والفضة , قال عنه ابن معين : (كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يرُدَّهَا) .
وقيل لـ كثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سَهوه في الصلاة قط وقد أمَّ أهل حمص ستين سنة فقال : (ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله) .
وكان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تَفُتْهُ التكبيرة الأولى . فأين من يحاول اللحاق بهم , ويسلك سبيلهم , أقوام أخلصوا الأعمال وحقَّقوها , وقيَّدوا شهواتهم بالخوف وأوثقوها , وسابقوا الساعات بالطاعات فسبقوها , فما أسعدهم وما أعظم فوزهم .
وفقنا الله لطاعته , وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته , اللهم صلِّ على محمد .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى