رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
قنوات السحر والشعوذة (2)
حكمها وأسباب الإقبال عليها
الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:102} [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1} [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا] {الأحزاب:70-71}
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: أنعم الله تعالى على البشر بالوحي الرباني؛ هداية لهم في الدنيا من الضلال، ونجاة لهم في الآخرة من العذاب، لمن آمن به واتبعه [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ]{الشُّورى:7} ولولا هذا الوحي لما اهتدى المؤمنون من البشر إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا] {الشُّورى:52} قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فلا روح إلا فيما جاء به، ولا نور إلا في الاستضاءة به؛ فهو الحياة والنور والعصمة والشفاء والنجاة والأمن.
ولما كان الوحي نورا وهدى من الله تعالى للبشر كان الضلال والظلمات فيما عارضه من الديانات والأفكار والأفعال، يتيه فيها من لم يتبع نور الوحي [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ] {الأنعام:39} وفي الآية الأخرى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا] {الأنعام:122} وهؤلاء عميٌ عن الحق ولو كانوا يبصرون، وصمٌ عنه ولو كانوا يسمعون، ولم توفق عقولهم لإدراكه ولو كانوا يعقلون [وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ] {الأعراف:179} وفي آية أخرى [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46} وفي آية ثالثة [أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ] {الرعد:19} وفي آية رابعة [أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا] {الفرقان:44}
وأهل الضلال مجتهدون في طمس الهدى، ودائبون في صد الناس عن الحق والنور، إلى الضلال والظلمات [وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا] {الإسراء:73} وفي آية أخرى [وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ] {الزُّخرف:37}
وكل بُعْد عن وحي الله تعالى فإن مآل أصحابه إلى الضلال والعمى، ومن أعظم سبل أهل الضلال في صد الناس عن الحق: تعليق قلوبهم بغير الله تعالى، وصرفهم إلى الخرافات والشعوذات التي يقوم بها السحرة والكهان والمنجمون والعرافون فيخدعون بها من رقَّ دينهم، وضعفت عن إدراك الحقائق عقولهم، فلم يعودوا يميزون بين ما يضرهم وما ينفعهم، ولا يدركون من يصدق معهم ممن يكذب عليهم.
إن هذا العصر يوصف بأنه عصر العقل والعلم والحضارة والمعرفة بما فتح الله تعالى فيه للبشرية من مغاليق المعارف العلوم، وما هيأ لهم من وسائل الاتصال السريع، ولكنه في الوقت ذاته عصر الدجل والخرافة والكذب والشعوذة؛ إذ مع تطور وسائل الاتصال زادت نسبة خداع الناس، والكذب عليهم، والاستخفاف بعقولهم، وإفساد عقائدهم بزعم إيجاد حلول سريعة لمشاكلهم عن طريق السحر والكهانة والشعوذة، والإحصاءات العربية تفيد بأن العرب ينفقون سنويا على السحر وحده خمسة مليارات دولار، وأن هناك دجالا واحدا لكل ألف من العرب، وقد ازدهرت سوق ترويج السحر والكهانة حتى بلغت مبيعات كتبها أرقاما قياسية، وبعض الصحف في بعض الدول الإسلامية أرباحها الكبرى من موارد إعلانات السحر الشعوذة، وكل هذا يدل على ما آل إليه حال الناس في هذا العصر الموصوف بالعلم والحضارة!!
ولما تطور البث الفضائي، وتيسر الحصول عليه؛ استغل ذلك من يتاجرون بآلام الناس ومصائبهم، فبرزوا إليهم عبر الشاشات يزعمون حل مشاكلهم، وإنهاء معاناتهم، فكان الإقبال على هؤلاء الدجاجلة الكذابين يفوق حسابات الحاسبين، وما ذاك إلا لوجود القابلية عند كثير من الناس أن يُضحك عليهم، ويستخف بعقولهم، ويتلاعب بدينهم.
إنه ما ازدهرت سوق فضائيات السحر والشعوذة إلا لكثرة المتصلين بها، الشاكين لها، وهي في ازدياد يوما بعد يوم بقدر ازدياد زبائنها والمتصلين بها، وهذا ينذر بخطر عظيم، وإثم كبير لا بد أن يتداعى الغيورون لتخفيفه وإزالته؛ حماية الناس من شرها وإثمها.
إن أكبر سبب للإقبال على برامج السحر والشعوذة هو ضعف الإيمان بالله تعالى، وسوء الظن به، والاعتماد على غيره، وإلا فمن آمن بالله تعالى فإنه لا يرجو جلب نفع أو دفع ضر إلا منه سبحانه وتعالى؛ لعلمه أن البشر لا يملكون ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
ومن حسن ظنه بربه علم أنه لا يُقَدِّر عليه شرا محضا، وأن ما يصيبه من آلام وأحزان وأمراض وهموم ومشكلات فإنما هي كفارات لسيئاته، ورفعة في درجاته، وزيادة في حسناته، فلا يسعى في إزالتها بما حرم الله تعالى عليه.
إن الظروف المعيشية الضاغطة على الناس، ومحبتهم للثراء السريع، واستبداد الجشع بهم، وخوفهم من المستقبل المجهول، وإقبالهم على الدنيا، وإعراضهم عن الآخرة، قد أدى بكثير منهم إلى الخوف والاضطراب والقلق، فأتاهم أبالسة الناس من نقطة الضعف هذه، فأوردوهم مهالك لم تُزِلْ همومهم، ولا حلت مشاكلهم، ولكنها استنزفت أموالهم، وأفسدت عقائدهم، فلا أصلحوا لهم دنياهم، ولا أبقوا لهم دينهم، والنساء ضعيفات في هذا الباب.
والمشاكل الأسرية سواء بين الزوج وزوجته، أو بين الأب وبناته قد ألقت بظلالها على هذه الفتنة العظيمة، حتى هدمت أسر بسبب هذا البلاء، ومن أراد حفظ أهله وبناته فليكن قريبا منهن، متلمسا لمشاكلهن، ساعيا فيما يصلحهن، وإلا شكون إلى غيره، فاصطادهن أرباب السحر والكهانة والشعوذات.
إن كثيرا من الناس قد لا يمنعه مانع في حل مشاكله من الذهاب إلى السحرة والكهان؛ لضعف إيمانه، وقلة صبره، أو لجهله بخطورة هذا الأمر، ولكنه لا يستطيع الذهاب إليهم لأنه لا يجدهم بسهولة، أو يخاف على سمعته، وكانت ولا تزال الجهات المسئولة من الشرط وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلاحق السحرة والمشعوذين، وتكف شرهم عن الناس. أما الآن فقد سَهُل الاتصال بهم عن طريق قنواتهم الخبيثة، وصار المتصل بهم وبالأخص من النساء والفتيات تجد نفسها في مأمن من الفضيحة، مع سهولة وصولها إلى ما تريد منهم، وهذا هو مكمن الخطورة على نساء المسلمين وفتياتهم، وهن الفئة الأضعف، والأكثر تصديقا لهذا الدجل؛ ولذا تستهدفهن هذه القنوات الخبيثة أكثر من غيرهن، وفي بعض الإحصائيات أن أكثر من ثلثي المتابعين لهذه القنوات الشيطانية والمتصلين بها هم من النساء والفتيات.
فكيف ستكون حال بيوت المسلمين إذا وصلت إليها أدوات السحر والشعوذة عن طريق بناتها ونسائها، وبفعل هذه القنوات الشيطانية التي لا تنظر إلا إلى الربح ولو فرقت بين المرء وزوجه، وبينه وبين والديه أو أولاده، ولو قلبت بيوت المسلمين إلى بؤر للشياطين، وأحدثت ما أحدثت فيها من العداوات والبغضاء والشقاء.
والداعي إلى هذا التحذير وتكراره مرة بعد مرة: هو أن الإقبال على هذه القنوات الخبيثة كبير جدا، وهي تزداد يوما بعد يوم، حتى إن المتصل بها ربما اتصل عشر مرات ولا يستطيع الوصول إلى الساحر أو الكاهن من شدة الزحام عليه، وفي بعضها يأخذون رقم المتصل ويعدونه بالاتصال به بعد أسبوع أو أكثر لكثرة من ينتظرون قبله، فهل هذا إلا دليل على قابلية كثير من الناس أن يُضحك عليهم بسبب اليأس الذي أحاط بهم، أو الجهل الذي أطبق عليهم، مع ضعف إيمانهم وتوكلهم على الله تعالى، وقلة صبرهم واحتسابهم، وسوء ظنهم بربهم سبحانه وتعالى.
فما أسرع الناس إلى الخرافة في عصر يوصف بأنه عصر العلم والمعرفة والحضارة، التي ما زادت كثيرا من الناس إلا جهلا بدينهم، وتعلقا بالدجل والشعوذة، ولا تسل حينئذ عما يقع من فساد القلوب والعقول من جراء ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع... وسر ذلك: أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته ...اهـ
ولا يشك عاقل في أن هذه القنوات التي تبث السحر والكهانة تفرغ قلوب مشاهديها والمتصلين بها من محبة الله تعالى، والتعلق به، إلى التعلق بشياطين الإنس في سحرهم وشعوذاتهم، وربطهم بشياطين الجن، فيرجون نفعهم، ويخافون ضرهم، نعوذ بالله تعالى من الإثم والضلال.
فحري بكل مسلم أن يَحذر ويُحذر من هذا البلاء الماحق الذي غزا المسلمين في عقر دورهم، يستهدف دينهم، ويدمر توحيدهم، ويفسد قلوبهم، ويستنزف أموالهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ] {الأنعام:112-113} .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه [وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ] {النور:52}.
أيها المسلمون: لقد زاد هذا الأمرَ سوءًا واستفحالا تصديرُ بعض المفتونين المضلين في وسائل الإعلام، الذين لا يتركون شذوذا من القول والرأي إلا قذفوا به بين الناس، وأحدثوا به ضجة في وسائل الإعلام، قد ركبهم أرباب الأفكار المنحرفة لتمرير ما يريدون من ضلال عبرهم، بعد دمغه بفتاواهم الشاذة، وآرائهم المضلة. وقد أباح هذا الفريق المفتون المنحرف العلاج بالسحر، ورخص للناس في الاتصال بالسحرة وغشيان مجالسهم، في دعاية فجة، ودعم كبير، لكل ساحر ومشعوذ، مع مخالفة صريحة للنصوص الواضحة في ذلك، وما هذا الصنف من المفتونين المحرفين للشريعة إلا دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها.
والله تعالى يقول [وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى] {طه:69} فإذا كان الساحر لم يفلح في نفع نفسه حتى إن السحرة هم من شر الناس حالا ومآلا، وواقعهم يدل على ذلك، فكيف يفلح في نفع غيره؟ وكيف يفلح من أجاز للناس أن يذهبوا للسحرة والمشعوذين؟ نعوذ بالله تعالى من الهوى والردى.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد جعل السحر من السبع الموبقات التي أمر باجتنابها، وعده علماء الإسلام ناقضا من نواقض الإسلام، فكيف يسوغ لعاقل أن يفتي بجواز الاستشفاء به وهو من الموبقات؟ وكيف يرضى مسلم أن يوبق نفسه عند سحرة ومشعوذين؟
وعن جابر رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة، فقال: هو من عمل الشيطان) رواه أبو داود. والنشرة هي حل السحر بالسحر.ولو جازت النشرة السحرية لكانت الشريعة متناقضة تعالى الله عن ذلك؛ إذ كيف يُحكم بالكفر على متعلم السحر بنص القرآن في قول الله تعالى [وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ] {البقرة:102} ثم يباح حل السحر بمثله، والعلماء يستدلون بهذه الآية على أن ممارسة السحر كفر كما أن تعلمه كفر، ثم كيف تأتي النصوص تذم السحرة والكهان، وتحذر من سؤالهم واتباعهم والإصغاء إليهم، وتصديقهم فيما يقولون، ثم تجيز التداوي بسحرهم وشعوذاتهم؟! وهذا من أبين التناقض عند من يقول به من المفتونين المحرفين.
إن الاتصال ببرامج السحرة والكهان قد يؤدي إلى كفر المتصل بهم ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم، فإن طلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى من شفاء المرضى، أو رد غائب، أو حصول الرزق أو نحو ذلك فقد أشرك بالله تعالى في ربوبيته، وتلك من خصائص الربوبية التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، ولو كان هؤلاء السحرة والكهان يرزقون الناس أو يدلونهم على أسباب الرزق لرزقوا أنفسهم، ولم يرهقوها بالجلوس ساعات متتابعة أمام الشاشات يصيحون في زبائنهم، يخدعونهم، ويستدرون أموالهم.
ومن سألهم عن حظه أو مستقبله أو غير ذلك مما يُهمه فصدقهم كان كافرا بالله تعالى، مكذبا لصريح القرآن، الذي فيه أن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)رواه أحمد.
فإن سأله لكن لم يصدقه بما قال رُدت عليه صلاته بنص قول النبي صلى الله عليه وسلم:( من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)رواه مسلم. ويخشى أن يلحق هذا الوعيد من شاهد القنوات التي تبث السحر والكهانة للفرجة أو التسلية أو حب المعرفة؛ لأن مشاهدتها تشبه الحضور عند هؤلاء السحرة والكهان، مع ما في ذلك من خطر التأثر بها، وتصديق دجاجلتها فيقع في الكفر من حيث لا يشعر.
وواجب على كل من يهمه أمر إخوانه المسلمين أن يسعى بما يستطيع للحيلولة بين هذه القنوات المفسدة وبين الناس؛ نصحا لإخوانه المسلمين، وحفظا لدينهم ودنياهم، ودحرا لهؤلاء الدجالين المشعوذين، عسى الله أن يرد مكرهم عليهم، وأن يحفظنا والمسلمين من شرهم، إنه سميع قريب.
وصلوا وسلموا على نبيكم....
مربع (1):
نشرت صحيفة الحياة في 15/08/2005 تحقيقا عنوانه:
سياح يعودون من الخارج حاملين كتب سحر وشعوذة
وجاء فيه: أن أحد السعوديين يدعى سالم محمد عاد بكتاب ورقه رديء، يعرف باسم «ورق دشت»، وهو أبيض منطفئ، يميل إلى الاصفرار، وحروفه مطبوعة بطريقة بارزة، توحي أنه قديم جداً، ويحمل تاريخ نشر قديم أيضاً.
لم يكن الكتاب سوى «الجواهر اللماعة في استحضار ملوك الجن في الوقت والساعة». ويدعي سالم أن بائع الرصيف الذي اشترى منه الكتاب قال له: إن مؤلفه جني، من أصحاب نبي الله سليمان عليه السلام، وهو كتاب يجعل الجان تحت تصرفك وإمرتك، يدافعون عن حقوقك، ويغنونك ويطيلون عمرك.نعوذ بالله من الشرك.
وذكر التحقيق أنه زادت خلال السنوات الماضية بين السياح السعوديين جلب الكتب التي تتناول الشعوذة والسحر والدجل، فمن كتب قراءة الكف والفناجين وفتح المندل، إلى كتب تفريق الأزواج وأخذ الأرزاق وما شابه ذلك.
ويشير موظف في أحد المنافذ البرية السعودية، إلى أنهم غالباً ما يعثرون على تلك الكتب بين أمتعة العائدين من بعض الدول العربية، إذ تكون مخبأة بعناية واهتمام، في محاولة لتهريبها.
وتحوي أغلفة الكتب اسم مؤسسة طباعة ونشر، قد تكون معروفة، وقد تكون غير معروفة، وغالبا ما تطبعها دور نشر مصرح لها إعلامياً ونقابياً للحصول على الأرباح ولو على حساب عقائد الناس وأموالهم.
ومن تلك الكتب الخبيثة التي يعود بها بعض المسافرين «السحر الأحمر»، و»اللؤلؤ والمرجان في تسخير ملوك الجان»، وكتاب «سحر الكهان في حضور الجان»، و «المندل والخاتم السليماني والعلم الروحاني»، و«مفاتيح الكنوز في حل الطلاسم والرموز»
وتلعب الكتب على الوتر النفسي لدى القارئ في صورة مباشرة، ومن أول بدايات الكتاب، يحاول الكاتب الإيحاء أنه «متصل دينياً بالله تعالى في الكتاب، وما هو إلا تسخير من عند الله تعالى» وذلك لخداع الناس بأن هذه الكتب الشيطانية ليست تتعارض مع الشريعة. ويذكر أحد باعة تلك الكتب: «إن النساء أكثر المشترين لهذه النوعية من الكتب، تصديقاً منهن لما تحويه، بينما الرجال لا يحتاجون لهذه الكتب».
ونشرت صحيفة المغربية اليومية في عددها (6691) الأربعاء 16 مايو 2007 ملفا صحفيا عن هذه الظاهرة في المغرب بعنوان:
ظلاميات السحرة والمشعوذين "الشعوذة" تتحول إلى اقتصاد مواز يدر ملايين الدولارات
ذكروا فيه أن الدكتور محمد عبد العظيم بمركز البحوث الجنائية في القاهرة كشف في دراسة له حول السحر والشعوذة: أنَّ (250 ألف) دجَّال يمارسون أنشطة الشعوذة في عموم الدول العربية، وأنَّ العرب ينفقون زهاء خمسة مليارات دولار سنويًّا في هذا المجال، وأن نصف نساء العرب يعتقدن بفعل الخرافات والخزعبلات ويترددن على المشعوذين سراً وعلانية.
وأشار د. محمد إلى أن ممارسي السحر يخلطون بين السحر والدين ، ويزعمون أن لهم القدرة على علاج الأمراض ، وأن هناك زهاء 300 ألف شخص في مصر يدعون علاج الأمراض بتحضير الأرواح.
وتؤكد الإحصائيات أنه يوجد في العالم العربي عرَّافٌ أو مشعوذٌ لكل ألف نسمة .
وفي دراسة أخرى أعدتها الدكتورة سامية الساعاتي عن السحر والشعوذة ونشرها موقع -الجزيرة- أكدت أنَّ 55٪ من المترددات على السحرة هنَّ من المتعلمات ومن المثقفات، و24٪ ممن يُجدن القراءة.
وذكر عالم الأنتروبولوجيا د.محمد بلفقيه أن "المشعوذ" في المغرب أصبح لا يتقن إلا لغة "السحر والشعوذة"، وأن المجتمع يتحمل مسؤولية هذا الواقع، لأنه لم يعلم هذه الفئات مهن بديلة، وذكر أن المشارقة الذين يأتون للمغرب من أجل هذا الغرض يحملون معهم عقدا اجتماعية وجنسية وثقافية وتاريخية يبحثون عن حلول لها لدى السحرة والمشعوذين، وأن ذلك يمكن تصنيفه في خانة "عودة المكبوت"
وفي دبي كشفت إحصائية رسمية أن حجم الجرائم الاقتصادية عن طريق السحر وصل 1.4 مليار درهم سنويا!!.
وفي تقرير أعدته الباحثة فابيولا بدوي في جريدة الحياة 29 / 6 / 2003 قالت : إن الفقراء في مصر وهم الآن غالبية الشعب - يعدون الدجل والخرافات والشعوذة الزاد الحقيقي لمعظمهم.. فقد أثبتت أحدث الدراسات التي أجراها المركز القومي للبحوث الجنائية بالقاهرة أن المصريين ينفقون عشرة مليارات جنيه مصري سنوياً على قراءة الغيب وفك السحر والعلاج من الجان ، وهذا مبلغ يفوق فعلياً ما تحصل عليه مصر من قناة السويس نتيجة عبور السفن فيها ، كما أشارت الدراسة نفسها إلى أن هناك 274 خرافة تسيطر على سلوك أهل الريف والحضر
وهذا المبلغ الضخم الذي ينفقه المصريون على الشعوذة هو أكبر من ميزانية التعليم المصرية وتؤكد الدراسة المذكورة في إحدى فقراتها على أن هناك دجالاً لكل 240 مواطناً يعينه على كشف الغيب .
وذكر"عبدلاوي لخلافة" أن كثيرا من الصحف المغربية تقتات على مداخيل إشهارات للدجالين والمشعوذين إذ تخصص هذه الصحف حيزاً يومياً أو أسبوعياُ أو شهرياُ في أسفل صفحاتها لإعلانات الشعوذة والصداقة الوهمية وأرقام أصحابها الهاتفية لتسهيل الاتصال بهم.
هذا بالإضافة إلى وجود عدة محلات في مختلف مناطق المغرب مخصصة للشعوذة تقصدها شريحة متنوعة من المغاربة، كما أن بعض المشعوذين يستغلون مناسبة الأسواق التجارية والمناسبات الخاصة بالأولياء المزعومين للترويج لتجارتهم على مرأى من السلطات القريبة من أماكن هذه المناسبات .
وفي هذا السياق قال صاحب جريدة مغربية فضل عدم ذكر اسمه : إنه يقبض ثلاثة آلاف درهم مقابل إشهاره لإعلانات الدجالين والمشعوذات ونشر أرقامهم الهاتفية والذين يدعون قدرتهم على التنبؤ بالمستقبل وحل المشاكل العاطفية والتسريع بالزواج والشغل .
وتكلف المكالمات الهاتفية مع هؤلاء المشعوذين والمشعوذات تسعيرة عالية تتراوح بين ستة دراهم وسبعة للدقيقة الواحدة ويتم استهلاك جلّ وقتها - حسب أحد المجربين لها - في مقطوعات موسيقية لمزيد من ابتزاز الضحايا المغفلين .
وتقول منال الشريف في جريدة الوطن السعودية 18 / 6 / 2003 على لسان الشيخ عبدالحق المسغوي أشهر الشيوخ المعالجين بالرقية الشرعية في المغرب: إن فصل الصيف في المغرب يعد موسما لصيد الزبائن الأجانب وبالخصوص الخليجيين من قبل المشعوذين والدجالين الذين يوزعون السماسرة على المطارات والفنادق والشقق المفروشة أو يستعينون بسائقي سيارات الأجرة أو عمال الفنادق أو حراس الشقق المفروشة .
وقد أصبح قول إن فلانة قد عملت حجاباً لزوجها لكي يطلّق ضرتها أو لكي لا يتزوج غيرها من الأقوال المتعارف عليها بل إن بعض الأسر الثرية تحتفظ في منازلها بمشايخ من المغرب مرفوع عنهم الحجاب ومن أولياء الله لطرد الجان والشياطين ودفع المكروه . وتقول منال الشريف في جريدة الوطن السعودية أحب أن أخبركم بأنني في هذا الصيف التقيت رجل أعمال من الخليج على وشك شراء خادم جني بمبلغ خرافي حيث أخبره مشعوذ أنه سيشكل الخادم على شكل خنفساء ليتمكن من حمله وأخذه معه في الطائرة .
والعجائب في هذا الباب من الضلال كثيرة، والآن لا حاجة لكل ذلك؛ لأن قنوات السحر والشعوذة وصلت إلى من يريدها ومن لا يريدها في بيوتهم فلا يحتاجون السفر للبحث عن السحرة والمشعوذين.
مربع (2)
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:النشرة بضم النون نوع من التطبب بالاغتسال على هيئة مخصوصة بالتجربة لا يحتملها القياس الطبي. مشارق الأنوار (2/29)
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: النشرة إطلاق السحر عن المسحور ولا يكاد يقدر على ذلك إلا من يعرف السحر، ومع هذا فلا بأس بذلك. غريب الحديث.(2/408).
وقال ابن الأثير رحمه الله تعالى: النشرة بالضم ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي: يكشف ويزال، وقال الحسن: النشرة من السحر، وقد نشرت عنه تنشيرا، ومنه الحديث: فلعل طبا أصابه، ثم نشره بقل أعوذ برب الناس أي رقاه، والحديث الآخر هلا تنشرت.النهاية5/53
وقد روى مالك حديث عائشة- رضي الله عنها- في جارية سحرتها، فرأت في المنام أنها تغتسل من آبار ثلاثة فأحضر لها منها ماء فاغتسلت فشفيت، وهو حديث رماه مالك بآخرة من كتابه فليس عند يحيى وطائفة معه من رواة الموطأ كما أفاد ذلك ابن عبد البر، ثم قال ابن عبد البر تعليقا عليه: وفيه إثبات النشرة وأنها قد ينتفع بها وحسبك ما جاء منها في اغتسال العائن للمعين. الاستذكار (8/158-159)
ونقل ابن عبد البر عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن النشرة فكره نشرة الأطباء، وقال: لا أدري ما يصنعون فيها؟ وأما شيء تصنعه أنت فلا بأس به، ثم نقل عن يحيى بن سعيد رحمه الله تعالى قال: ليس بالنشرة التي يجمع فيها من الشجر والطيب ويغتسل به الإنسان بأس. التمهيد (6/245).
ونقل الحافظ ابن حجر عن حماد بن شاكر رحمه الله تعالى: أن النشرة أن يجمع أيام الربيع ما قدر عليه من ورد المفاره-هكذا في مطبوعة محب الدين الخطيب، ولعل الصواب: المفازة- وورد البساتين ثم يلقيها في إناء نظيف ويجعل فيهما ماء عذبا ثم يغلي ذلك الورد في الماء غليا يسيرا ثم يمهل حتى إذا فتر الماء أفاضه عليه فإنه يبرأ بإذن الله تعالى.الفتح10/234
وفي عون المعبود نقل قول الحسن رحمه الله تعالى: النشرة من السحر ، ثم نقل عن فتح الودود: لعله كان مشتملا على أسماء الشياطين أو كان بلسان غير معلوم؛ فلذلك جاء أنه سحر، سمي نشرة لانتشار الداء وانكشاف البلاء به، هو من عمل الشيطان، أي: من النوع الذي كان أهل الجاهلية يعالجون به ويعتقدون فيه، وأما ما كان من الآيات القرآنية والأسماء والصفات الربانية والدعوات المأثورة النبوية فلا بأس به.اهـ من عون المعبود (10/249).
والذي يظهر لي من خلال هذه النقول عن العلماء أن النشرة أنواع:
الأول: ما كان بأدوية مشروعة مأمور بها كالرقية الشرعية بآيات القرآن فهذه لا شك في إباحتها، بل هي مستحبة؛ لأنها من الاستشفاء بالقرآن.
الثاني: ما كان بأدوية مباحة لا محرم فيها، قد دلت التجربة على نفعها، كالحجامة وورق السدر، وبعض الأعشاب، ونوع من الاغتسال، وغير ذلك من الأدوية التي ثبت نفعها في ذلك، فالأظهر أنها مباحة.
الثالث: ما كان بأدوية سحرية، وهي التي يتناولها الحديث، وهي من عمل الشيطان، وهي محرمة ولو كان ظاهر كلام بعض الأئمة إجازتها، فيحمل قولهم على ما يجوز منها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: والنشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:
حل سحر بسحر مثله وهو الذي من عمل الشيطان؛ فإن السحر من عمله، فيتقرب إليه الناشر والمنتشر بما يحب فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة فهذا جائز بل مستحب، وعلى النوع المذموم يحمل قول الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر.إعلام الموقعين(4/396)
وقد جاء عن سعيد ابن المسيب ما قد يفيد أنه يجيز النشرة السحرية، وهو ما رواه البخاري عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيُحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه) أخرجه البخاري معلقا مجزوما به في الطب باب هل يستخرج السحر (5/2175).
وكلام ابن المسيب رحمه الله تعالى محتمل، وليس قاطعا في أنه يجيز النشرة السحرية، بل قد يريد ما هو مباح من الأدوية المجربة النافعة التي لا محرم فيها.
يقول الشيخ الحافظ سليمان بن عبد الله رحمه الله تعالى: وهذا الكلام من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم هل هو نوع من السحر أم لا، فأما أن يكون ابن المسيب يفتي بجواز قصد الساحر الكافر المأمور بقتله ليعمل السحر فلا يظن به ذلك، حاشاه منه، ويدل على ذلك قوله: إنما يريدون به الإصلاح. فأي إصلاح في السحر؟ بل كله فساد وكفر. تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (366)
وفي موضع آخر ذكر ما قرره ابن القيم من أن النشرة نوعان :محرمة وهو ما كان بالسحر ونحوه، والثاني: ما كان بالرقى الشرعية، ثم قال رحمه الله تعالى: هذا الثاني هو الذي يحمل عليه كلام ابن المسيب، أو على نوع لا يدري هل هو من السحر أم لا؟ وكذلك ما روي عن الإمام أحمد من إجازة النشرة فإنه محمول على ذلك، وغلط من ظن أنه أجاز النشرة السحرية، وليس في كلامه ما يدل على ذلك، بل لما سئل عن الرجل يحل السحر؟ قال: قد رخص فيه بعض الناس، قيل: إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه فنفض يده وقال: لا أدري ما هذا؟ قيل له: أفترى أن يؤتى مثل هذا؟ قال: لا أدري ما هذا؟ وهذا صريح في النهي عن النشرة على الوجه المكروه، وكيف!! وهو الذي روى الحديث (إنها من عمل الشيطان) لكن لما كان لفظ النشرة مشتركا بين الجائزة والتي من عمل الشيطان، ورأوه قد أجاز النشرة ظنوا أنه قد أجاز التي من عمل الشيطان، وحاشاه من ذلك.ا هـ من تيسير العزيز الحميد (1/367-368)
وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى: التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه في هذه المسألة أن استخراج السحر إن كان بالقرآن كالمعوذتين وآية الكرسي ونحو ذلك مما تجوز الرقيا به فلا مانع من ذلك، وإن كان بسحر أو بألفاظ عجمية أو بما لا يفهم معناه أو بنوع آخر مما لا يجوز فإنه ممنوع، وهذا واضح وهو الصواب إن شاء الله تعالى كما ترى.أضواء البيان(4/57).
وقال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله تعالى: أما حل السحر عن المسحور بسحر مثله فيحرم فإنه معاونة للساحر وإقرار له على عمله وتقرب إلى الشيطان بأنواع القرب ليبطل عمله عن المسحور؛ ولهذا قال الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر.معارج القبول(2/566).
مربع (3):
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، قال أصحابنا: ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر فإن حنبلا روى عنه قال: قال عمي في العراف والكاهن والساحر: أرى أن يستتاب من هذه الأفاعيل كلها؛ فإنه عندي في معنى المرتد فإن تاب وراجع، يعني: يخلى سبيله، قلت له: يقتل؟ قال: لا، يحبس لعله يرجع، قلت له: لم لا تقتله؟ قال: إذا كان يصلي لعله يتوب ويرجع، وهذا يدل على أنه لم يكفره؛ لأنه لو كفره لقتله، وقوله في معنى المرتد يعني: في الاستتابة.
وقال أصحاب أبي حنيفة إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء كفر، وإن اعتقد أنه تخييل لم يكفر.
وقال الشافعي: إن اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس، أو اعتقد حل السحر كفر؛ لأن القرآن نطق بتحريمه، وثبت بالنقل المتواتر والإجماع عليه، وإلا فسق ولم يكفر لأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها بمحضر من الصحابة، ولو كفرت لصارت مرتدة يجب قتلها، ولم يجز استرقاقها؛ ولأنه شيء يضر بالناس فلم يكفر بمجرده كأذاهم.
ولنا قول الله تعالى [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا] {البقرة:102} أي: وما كفر سليمان، أي: وما كان ساحرا كفر بسحره، وقولهما [إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ] {البقرة:102} أي: لا تتعلمه فتكفر بذلك .... وقول عائشة قد خالفها فيه كثير من الصحابة، وقال علي رضي الله عنه: كافر، ويحتمل أن المدبرة تابت فسقط عنها القتل والكفر بتوبتها، ويحتمل أنها سحرتها بمعنى أنها ذهبت إلى ساحر سحر لها.أهـ من المغني (9/34-35).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها وهو التعبد للشياطين أو للكواكب، وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلا. قال النووي عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرا، ومنه ما لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر، وعن مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب، بل يتحتم قتله كالزنديق، قال عياض: وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين اهـ من فتح الباري (10/224).
ثم ذكر الحافظ أن اختيار البخاري رحمه الله تعالى كفر الساحر فقال: وفي إيراد المصنف هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر لقوله فيها [وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ] {البقرة:102} فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الآية على لسان الملكين إنما نحن [إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ] {البقرة:102} فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر فيكون العمل به كفرا.اهـ فتح الباري (10/225).
ونقل الشنقيطي رحمه الله تعالى بعض كلام ابن حجر ثم قال: التحقيق في هذه المسألة إن شاء الله تعالى أن السحر نوعان: منه ما هو كفر، ومنه ما لا يبلغ بصاحبه الكفر؛ فإن كان الساحر استعمل السحر الذي هو كفر فلا شك في أنه يقتل كفرا.... وأظهر القولين عندي أن المرأة الساحرة حكمها حكم الرجل الساحر، وأنها إن كفرت بسحرها قتلت كما يقتل الرجل.....وأما إن كان الساحر عمل السحر الذي لا يبلغ بصاحبه الكفر فهذا هو محل الخلاف بين العلماء: فالذين قالوا يقتل ولو لم يكفر بسحره قال أكثرهم يقتل حدا ولو قتل إنسانا بسحره، وانفرد الشافعي في هذه الصورة بأنه يقتل قصاصا لا حدا...أما الذين قالوا: مطلقا إذا عمل بسحره ولو لم يقتل به أحدا، فاستدلوا بآثار عن الصحابة رضي الله عنهم وبحديث جاء بذلك إلا أنه لم يصح. أضواء البيان (4/52-53)
وقال في موضع آخر: اعلم أن الناس اختلفوا في تعلم السحر من غير عمل به هل يجوز أو لا؟ والتحقيق وهو الذي عليه الجمهور هو أنه لا يجوز، ومن أصرح الأدلة في ذلك تصريحه تعالى بأنه يضر ولا ينفع في قوله[وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ]{البقرة:102} وإذا أثبت الله أن السحر ضار ونفى أنه نافع فكيف يجوز تعلم ما هو ضرر محض لا نفع فيها؟! أضواء البيان(4/55).
قنوات السحر والشعوذة (2)
حكمها وأسباب الإقبال عليها
الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:102} [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1} [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا] {الأحزاب:70-71}
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: أنعم الله تعالى على البشر بالوحي الرباني؛ هداية لهم في الدنيا من الضلال، ونجاة لهم في الآخرة من العذاب، لمن آمن به واتبعه [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ]{الشُّورى:7} ولولا هذا الوحي لما اهتدى المؤمنون من البشر إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا] {الشُّورى:52} قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فلا روح إلا فيما جاء به، ولا نور إلا في الاستضاءة به؛ فهو الحياة والنور والعصمة والشفاء والنجاة والأمن.
ولما كان الوحي نورا وهدى من الله تعالى للبشر كان الضلال والظلمات فيما عارضه من الديانات والأفكار والأفعال، يتيه فيها من لم يتبع نور الوحي [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ] {الأنعام:39} وفي الآية الأخرى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا] {الأنعام:122} وهؤلاء عميٌ عن الحق ولو كانوا يبصرون، وصمٌ عنه ولو كانوا يسمعون، ولم توفق عقولهم لإدراكه ولو كانوا يعقلون [وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ] {الأعراف:179} وفي آية أخرى [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46} وفي آية ثالثة [أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ] {الرعد:19} وفي آية رابعة [أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا] {الفرقان:44}
وأهل الضلال مجتهدون في طمس الهدى، ودائبون في صد الناس عن الحق والنور، إلى الضلال والظلمات [وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا] {الإسراء:73} وفي آية أخرى [وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ] {الزُّخرف:37}
وكل بُعْد عن وحي الله تعالى فإن مآل أصحابه إلى الضلال والعمى، ومن أعظم سبل أهل الضلال في صد الناس عن الحق: تعليق قلوبهم بغير الله تعالى، وصرفهم إلى الخرافات والشعوذات التي يقوم بها السحرة والكهان والمنجمون والعرافون فيخدعون بها من رقَّ دينهم، وضعفت عن إدراك الحقائق عقولهم، فلم يعودوا يميزون بين ما يضرهم وما ينفعهم، ولا يدركون من يصدق معهم ممن يكذب عليهم.
إن هذا العصر يوصف بأنه عصر العقل والعلم والحضارة والمعرفة بما فتح الله تعالى فيه للبشرية من مغاليق المعارف العلوم، وما هيأ لهم من وسائل الاتصال السريع، ولكنه في الوقت ذاته عصر الدجل والخرافة والكذب والشعوذة؛ إذ مع تطور وسائل الاتصال زادت نسبة خداع الناس، والكذب عليهم، والاستخفاف بعقولهم، وإفساد عقائدهم بزعم إيجاد حلول سريعة لمشاكلهم عن طريق السحر والكهانة والشعوذة، والإحصاءات العربية تفيد بأن العرب ينفقون سنويا على السحر وحده خمسة مليارات دولار، وأن هناك دجالا واحدا لكل ألف من العرب، وقد ازدهرت سوق ترويج السحر والكهانة حتى بلغت مبيعات كتبها أرقاما قياسية، وبعض الصحف في بعض الدول الإسلامية أرباحها الكبرى من موارد إعلانات السحر الشعوذة، وكل هذا يدل على ما آل إليه حال الناس في هذا العصر الموصوف بالعلم والحضارة!!
ولما تطور البث الفضائي، وتيسر الحصول عليه؛ استغل ذلك من يتاجرون بآلام الناس ومصائبهم، فبرزوا إليهم عبر الشاشات يزعمون حل مشاكلهم، وإنهاء معاناتهم، فكان الإقبال على هؤلاء الدجاجلة الكذابين يفوق حسابات الحاسبين، وما ذاك إلا لوجود القابلية عند كثير من الناس أن يُضحك عليهم، ويستخف بعقولهم، ويتلاعب بدينهم.
إنه ما ازدهرت سوق فضائيات السحر والشعوذة إلا لكثرة المتصلين بها، الشاكين لها، وهي في ازدياد يوما بعد يوم بقدر ازدياد زبائنها والمتصلين بها، وهذا ينذر بخطر عظيم، وإثم كبير لا بد أن يتداعى الغيورون لتخفيفه وإزالته؛ حماية الناس من شرها وإثمها.
إن أكبر سبب للإقبال على برامج السحر والشعوذة هو ضعف الإيمان بالله تعالى، وسوء الظن به، والاعتماد على غيره، وإلا فمن آمن بالله تعالى فإنه لا يرجو جلب نفع أو دفع ضر إلا منه سبحانه وتعالى؛ لعلمه أن البشر لا يملكون ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
ومن حسن ظنه بربه علم أنه لا يُقَدِّر عليه شرا محضا، وأن ما يصيبه من آلام وأحزان وأمراض وهموم ومشكلات فإنما هي كفارات لسيئاته، ورفعة في درجاته، وزيادة في حسناته، فلا يسعى في إزالتها بما حرم الله تعالى عليه.
إن الظروف المعيشية الضاغطة على الناس، ومحبتهم للثراء السريع، واستبداد الجشع بهم، وخوفهم من المستقبل المجهول، وإقبالهم على الدنيا، وإعراضهم عن الآخرة، قد أدى بكثير منهم إلى الخوف والاضطراب والقلق، فأتاهم أبالسة الناس من نقطة الضعف هذه، فأوردوهم مهالك لم تُزِلْ همومهم، ولا حلت مشاكلهم، ولكنها استنزفت أموالهم، وأفسدت عقائدهم، فلا أصلحوا لهم دنياهم، ولا أبقوا لهم دينهم، والنساء ضعيفات في هذا الباب.
والمشاكل الأسرية سواء بين الزوج وزوجته، أو بين الأب وبناته قد ألقت بظلالها على هذه الفتنة العظيمة، حتى هدمت أسر بسبب هذا البلاء، ومن أراد حفظ أهله وبناته فليكن قريبا منهن، متلمسا لمشاكلهن، ساعيا فيما يصلحهن، وإلا شكون إلى غيره، فاصطادهن أرباب السحر والكهانة والشعوذات.
إن كثيرا من الناس قد لا يمنعه مانع في حل مشاكله من الذهاب إلى السحرة والكهان؛ لضعف إيمانه، وقلة صبره، أو لجهله بخطورة هذا الأمر، ولكنه لا يستطيع الذهاب إليهم لأنه لا يجدهم بسهولة، أو يخاف على سمعته، وكانت ولا تزال الجهات المسئولة من الشرط وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلاحق السحرة والمشعوذين، وتكف شرهم عن الناس. أما الآن فقد سَهُل الاتصال بهم عن طريق قنواتهم الخبيثة، وصار المتصل بهم وبالأخص من النساء والفتيات تجد نفسها في مأمن من الفضيحة، مع سهولة وصولها إلى ما تريد منهم، وهذا هو مكمن الخطورة على نساء المسلمين وفتياتهم، وهن الفئة الأضعف، والأكثر تصديقا لهذا الدجل؛ ولذا تستهدفهن هذه القنوات الخبيثة أكثر من غيرهن، وفي بعض الإحصائيات أن أكثر من ثلثي المتابعين لهذه القنوات الشيطانية والمتصلين بها هم من النساء والفتيات.
فكيف ستكون حال بيوت المسلمين إذا وصلت إليها أدوات السحر والشعوذة عن طريق بناتها ونسائها، وبفعل هذه القنوات الشيطانية التي لا تنظر إلا إلى الربح ولو فرقت بين المرء وزوجه، وبينه وبين والديه أو أولاده، ولو قلبت بيوت المسلمين إلى بؤر للشياطين، وأحدثت ما أحدثت فيها من العداوات والبغضاء والشقاء.
والداعي إلى هذا التحذير وتكراره مرة بعد مرة: هو أن الإقبال على هذه القنوات الخبيثة كبير جدا، وهي تزداد يوما بعد يوم، حتى إن المتصل بها ربما اتصل عشر مرات ولا يستطيع الوصول إلى الساحر أو الكاهن من شدة الزحام عليه، وفي بعضها يأخذون رقم المتصل ويعدونه بالاتصال به بعد أسبوع أو أكثر لكثرة من ينتظرون قبله، فهل هذا إلا دليل على قابلية كثير من الناس أن يُضحك عليهم بسبب اليأس الذي أحاط بهم، أو الجهل الذي أطبق عليهم، مع ضعف إيمانهم وتوكلهم على الله تعالى، وقلة صبرهم واحتسابهم، وسوء ظنهم بربهم سبحانه وتعالى.
فما أسرع الناس إلى الخرافة في عصر يوصف بأنه عصر العلم والمعرفة والحضارة، التي ما زادت كثيرا من الناس إلا جهلا بدينهم، وتعلقا بالدجل والشعوذة، ولا تسل حينئذ عما يقع من فساد القلوب والعقول من جراء ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع... وسر ذلك: أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته ...اهـ
ولا يشك عاقل في أن هذه القنوات التي تبث السحر والكهانة تفرغ قلوب مشاهديها والمتصلين بها من محبة الله تعالى، والتعلق به، إلى التعلق بشياطين الإنس في سحرهم وشعوذاتهم، وربطهم بشياطين الجن، فيرجون نفعهم، ويخافون ضرهم، نعوذ بالله تعالى من الإثم والضلال.
فحري بكل مسلم أن يَحذر ويُحذر من هذا البلاء الماحق الذي غزا المسلمين في عقر دورهم، يستهدف دينهم، ويدمر توحيدهم، ويفسد قلوبهم، ويستنزف أموالهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ] {الأنعام:112-113} .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه [وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ] {النور:52}.
أيها المسلمون: لقد زاد هذا الأمرَ سوءًا واستفحالا تصديرُ بعض المفتونين المضلين في وسائل الإعلام، الذين لا يتركون شذوذا من القول والرأي إلا قذفوا به بين الناس، وأحدثوا به ضجة في وسائل الإعلام، قد ركبهم أرباب الأفكار المنحرفة لتمرير ما يريدون من ضلال عبرهم، بعد دمغه بفتاواهم الشاذة، وآرائهم المضلة. وقد أباح هذا الفريق المفتون المنحرف العلاج بالسحر، ورخص للناس في الاتصال بالسحرة وغشيان مجالسهم، في دعاية فجة، ودعم كبير، لكل ساحر ومشعوذ، مع مخالفة صريحة للنصوص الواضحة في ذلك، وما هذا الصنف من المفتونين المحرفين للشريعة إلا دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها.
والله تعالى يقول [وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى] {طه:69} فإذا كان الساحر لم يفلح في نفع نفسه حتى إن السحرة هم من شر الناس حالا ومآلا، وواقعهم يدل على ذلك، فكيف يفلح في نفع غيره؟ وكيف يفلح من أجاز للناس أن يذهبوا للسحرة والمشعوذين؟ نعوذ بالله تعالى من الهوى والردى.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد جعل السحر من السبع الموبقات التي أمر باجتنابها، وعده علماء الإسلام ناقضا من نواقض الإسلام، فكيف يسوغ لعاقل أن يفتي بجواز الاستشفاء به وهو من الموبقات؟ وكيف يرضى مسلم أن يوبق نفسه عند سحرة ومشعوذين؟
وعن جابر رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة، فقال: هو من عمل الشيطان) رواه أبو داود. والنشرة هي حل السحر بالسحر.ولو جازت النشرة السحرية لكانت الشريعة متناقضة تعالى الله عن ذلك؛ إذ كيف يُحكم بالكفر على متعلم السحر بنص القرآن في قول الله تعالى [وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ] {البقرة:102} ثم يباح حل السحر بمثله، والعلماء يستدلون بهذه الآية على أن ممارسة السحر كفر كما أن تعلمه كفر، ثم كيف تأتي النصوص تذم السحرة والكهان، وتحذر من سؤالهم واتباعهم والإصغاء إليهم، وتصديقهم فيما يقولون، ثم تجيز التداوي بسحرهم وشعوذاتهم؟! وهذا من أبين التناقض عند من يقول به من المفتونين المحرفين.
إن الاتصال ببرامج السحرة والكهان قد يؤدي إلى كفر المتصل بهم ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم، فإن طلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى من شفاء المرضى، أو رد غائب، أو حصول الرزق أو نحو ذلك فقد أشرك بالله تعالى في ربوبيته، وتلك من خصائص الربوبية التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، ولو كان هؤلاء السحرة والكهان يرزقون الناس أو يدلونهم على أسباب الرزق لرزقوا أنفسهم، ولم يرهقوها بالجلوس ساعات متتابعة أمام الشاشات يصيحون في زبائنهم، يخدعونهم، ويستدرون أموالهم.
ومن سألهم عن حظه أو مستقبله أو غير ذلك مما يُهمه فصدقهم كان كافرا بالله تعالى، مكذبا لصريح القرآن، الذي فيه أن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)رواه أحمد.
فإن سأله لكن لم يصدقه بما قال رُدت عليه صلاته بنص قول النبي صلى الله عليه وسلم:( من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)رواه مسلم. ويخشى أن يلحق هذا الوعيد من شاهد القنوات التي تبث السحر والكهانة للفرجة أو التسلية أو حب المعرفة؛ لأن مشاهدتها تشبه الحضور عند هؤلاء السحرة والكهان، مع ما في ذلك من خطر التأثر بها، وتصديق دجاجلتها فيقع في الكفر من حيث لا يشعر.
وواجب على كل من يهمه أمر إخوانه المسلمين أن يسعى بما يستطيع للحيلولة بين هذه القنوات المفسدة وبين الناس؛ نصحا لإخوانه المسلمين، وحفظا لدينهم ودنياهم، ودحرا لهؤلاء الدجالين المشعوذين، عسى الله أن يرد مكرهم عليهم، وأن يحفظنا والمسلمين من شرهم، إنه سميع قريب.
وصلوا وسلموا على نبيكم....
مربع (1):
نشرت صحيفة الحياة في 15/08/2005 تحقيقا عنوانه:
سياح يعودون من الخارج حاملين كتب سحر وشعوذة
وجاء فيه: أن أحد السعوديين يدعى سالم محمد عاد بكتاب ورقه رديء، يعرف باسم «ورق دشت»، وهو أبيض منطفئ، يميل إلى الاصفرار، وحروفه مطبوعة بطريقة بارزة، توحي أنه قديم جداً، ويحمل تاريخ نشر قديم أيضاً.
لم يكن الكتاب سوى «الجواهر اللماعة في استحضار ملوك الجن في الوقت والساعة». ويدعي سالم أن بائع الرصيف الذي اشترى منه الكتاب قال له: إن مؤلفه جني، من أصحاب نبي الله سليمان عليه السلام، وهو كتاب يجعل الجان تحت تصرفك وإمرتك، يدافعون عن حقوقك، ويغنونك ويطيلون عمرك.نعوذ بالله من الشرك.
وذكر التحقيق أنه زادت خلال السنوات الماضية بين السياح السعوديين جلب الكتب التي تتناول الشعوذة والسحر والدجل، فمن كتب قراءة الكف والفناجين وفتح المندل، إلى كتب تفريق الأزواج وأخذ الأرزاق وما شابه ذلك.
ويشير موظف في أحد المنافذ البرية السعودية، إلى أنهم غالباً ما يعثرون على تلك الكتب بين أمتعة العائدين من بعض الدول العربية، إذ تكون مخبأة بعناية واهتمام، في محاولة لتهريبها.
وتحوي أغلفة الكتب اسم مؤسسة طباعة ونشر، قد تكون معروفة، وقد تكون غير معروفة، وغالبا ما تطبعها دور نشر مصرح لها إعلامياً ونقابياً للحصول على الأرباح ولو على حساب عقائد الناس وأموالهم.
ومن تلك الكتب الخبيثة التي يعود بها بعض المسافرين «السحر الأحمر»، و»اللؤلؤ والمرجان في تسخير ملوك الجان»، وكتاب «سحر الكهان في حضور الجان»، و «المندل والخاتم السليماني والعلم الروحاني»، و«مفاتيح الكنوز في حل الطلاسم والرموز»
وتلعب الكتب على الوتر النفسي لدى القارئ في صورة مباشرة، ومن أول بدايات الكتاب، يحاول الكاتب الإيحاء أنه «متصل دينياً بالله تعالى في الكتاب، وما هو إلا تسخير من عند الله تعالى» وذلك لخداع الناس بأن هذه الكتب الشيطانية ليست تتعارض مع الشريعة. ويذكر أحد باعة تلك الكتب: «إن النساء أكثر المشترين لهذه النوعية من الكتب، تصديقاً منهن لما تحويه، بينما الرجال لا يحتاجون لهذه الكتب».
ونشرت صحيفة المغربية اليومية في عددها (6691) الأربعاء 16 مايو 2007 ملفا صحفيا عن هذه الظاهرة في المغرب بعنوان:
ظلاميات السحرة والمشعوذين "الشعوذة" تتحول إلى اقتصاد مواز يدر ملايين الدولارات
ذكروا فيه أن الدكتور محمد عبد العظيم بمركز البحوث الجنائية في القاهرة كشف في دراسة له حول السحر والشعوذة: أنَّ (250 ألف) دجَّال يمارسون أنشطة الشعوذة في عموم الدول العربية، وأنَّ العرب ينفقون زهاء خمسة مليارات دولار سنويًّا في هذا المجال، وأن نصف نساء العرب يعتقدن بفعل الخرافات والخزعبلات ويترددن على المشعوذين سراً وعلانية.
وأشار د. محمد إلى أن ممارسي السحر يخلطون بين السحر والدين ، ويزعمون أن لهم القدرة على علاج الأمراض ، وأن هناك زهاء 300 ألف شخص في مصر يدعون علاج الأمراض بتحضير الأرواح.
وتؤكد الإحصائيات أنه يوجد في العالم العربي عرَّافٌ أو مشعوذٌ لكل ألف نسمة .
وفي دراسة أخرى أعدتها الدكتورة سامية الساعاتي عن السحر والشعوذة ونشرها موقع -الجزيرة- أكدت أنَّ 55٪ من المترددات على السحرة هنَّ من المتعلمات ومن المثقفات، و24٪ ممن يُجدن القراءة.
وذكر عالم الأنتروبولوجيا د.محمد بلفقيه أن "المشعوذ" في المغرب أصبح لا يتقن إلا لغة "السحر والشعوذة"، وأن المجتمع يتحمل مسؤولية هذا الواقع، لأنه لم يعلم هذه الفئات مهن بديلة، وذكر أن المشارقة الذين يأتون للمغرب من أجل هذا الغرض يحملون معهم عقدا اجتماعية وجنسية وثقافية وتاريخية يبحثون عن حلول لها لدى السحرة والمشعوذين، وأن ذلك يمكن تصنيفه في خانة "عودة المكبوت"
وفي دبي كشفت إحصائية رسمية أن حجم الجرائم الاقتصادية عن طريق السحر وصل 1.4 مليار درهم سنويا!!.
وفي تقرير أعدته الباحثة فابيولا بدوي في جريدة الحياة 29 / 6 / 2003 قالت : إن الفقراء في مصر وهم الآن غالبية الشعب - يعدون الدجل والخرافات والشعوذة الزاد الحقيقي لمعظمهم.. فقد أثبتت أحدث الدراسات التي أجراها المركز القومي للبحوث الجنائية بالقاهرة أن المصريين ينفقون عشرة مليارات جنيه مصري سنوياً على قراءة الغيب وفك السحر والعلاج من الجان ، وهذا مبلغ يفوق فعلياً ما تحصل عليه مصر من قناة السويس نتيجة عبور السفن فيها ، كما أشارت الدراسة نفسها إلى أن هناك 274 خرافة تسيطر على سلوك أهل الريف والحضر
وهذا المبلغ الضخم الذي ينفقه المصريون على الشعوذة هو أكبر من ميزانية التعليم المصرية وتؤكد الدراسة المذكورة في إحدى فقراتها على أن هناك دجالاً لكل 240 مواطناً يعينه على كشف الغيب .
وذكر"عبدلاوي لخلافة" أن كثيرا من الصحف المغربية تقتات على مداخيل إشهارات للدجالين والمشعوذين إذ تخصص هذه الصحف حيزاً يومياً أو أسبوعياُ أو شهرياُ في أسفل صفحاتها لإعلانات الشعوذة والصداقة الوهمية وأرقام أصحابها الهاتفية لتسهيل الاتصال بهم.
هذا بالإضافة إلى وجود عدة محلات في مختلف مناطق المغرب مخصصة للشعوذة تقصدها شريحة متنوعة من المغاربة، كما أن بعض المشعوذين يستغلون مناسبة الأسواق التجارية والمناسبات الخاصة بالأولياء المزعومين للترويج لتجارتهم على مرأى من السلطات القريبة من أماكن هذه المناسبات .
وفي هذا السياق قال صاحب جريدة مغربية فضل عدم ذكر اسمه : إنه يقبض ثلاثة آلاف درهم مقابل إشهاره لإعلانات الدجالين والمشعوذات ونشر أرقامهم الهاتفية والذين يدعون قدرتهم على التنبؤ بالمستقبل وحل المشاكل العاطفية والتسريع بالزواج والشغل .
وتكلف المكالمات الهاتفية مع هؤلاء المشعوذين والمشعوذات تسعيرة عالية تتراوح بين ستة دراهم وسبعة للدقيقة الواحدة ويتم استهلاك جلّ وقتها - حسب أحد المجربين لها - في مقطوعات موسيقية لمزيد من ابتزاز الضحايا المغفلين .
وتقول منال الشريف في جريدة الوطن السعودية 18 / 6 / 2003 على لسان الشيخ عبدالحق المسغوي أشهر الشيوخ المعالجين بالرقية الشرعية في المغرب: إن فصل الصيف في المغرب يعد موسما لصيد الزبائن الأجانب وبالخصوص الخليجيين من قبل المشعوذين والدجالين الذين يوزعون السماسرة على المطارات والفنادق والشقق المفروشة أو يستعينون بسائقي سيارات الأجرة أو عمال الفنادق أو حراس الشقق المفروشة .
وقد أصبح قول إن فلانة قد عملت حجاباً لزوجها لكي يطلّق ضرتها أو لكي لا يتزوج غيرها من الأقوال المتعارف عليها بل إن بعض الأسر الثرية تحتفظ في منازلها بمشايخ من المغرب مرفوع عنهم الحجاب ومن أولياء الله لطرد الجان والشياطين ودفع المكروه . وتقول منال الشريف في جريدة الوطن السعودية أحب أن أخبركم بأنني في هذا الصيف التقيت رجل أعمال من الخليج على وشك شراء خادم جني بمبلغ خرافي حيث أخبره مشعوذ أنه سيشكل الخادم على شكل خنفساء ليتمكن من حمله وأخذه معه في الطائرة .
والعجائب في هذا الباب من الضلال كثيرة، والآن لا حاجة لكل ذلك؛ لأن قنوات السحر والشعوذة وصلت إلى من يريدها ومن لا يريدها في بيوتهم فلا يحتاجون السفر للبحث عن السحرة والمشعوذين.
مربع (2)
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:النشرة بضم النون نوع من التطبب بالاغتسال على هيئة مخصوصة بالتجربة لا يحتملها القياس الطبي. مشارق الأنوار (2/29)
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: النشرة إطلاق السحر عن المسحور ولا يكاد يقدر على ذلك إلا من يعرف السحر، ومع هذا فلا بأس بذلك. غريب الحديث.(2/408).
وقال ابن الأثير رحمه الله تعالى: النشرة بالضم ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي: يكشف ويزال، وقال الحسن: النشرة من السحر، وقد نشرت عنه تنشيرا، ومنه الحديث: فلعل طبا أصابه، ثم نشره بقل أعوذ برب الناس أي رقاه، والحديث الآخر هلا تنشرت.النهاية5/53
وقد روى مالك حديث عائشة- رضي الله عنها- في جارية سحرتها، فرأت في المنام أنها تغتسل من آبار ثلاثة فأحضر لها منها ماء فاغتسلت فشفيت، وهو حديث رماه مالك بآخرة من كتابه فليس عند يحيى وطائفة معه من رواة الموطأ كما أفاد ذلك ابن عبد البر، ثم قال ابن عبد البر تعليقا عليه: وفيه إثبات النشرة وأنها قد ينتفع بها وحسبك ما جاء منها في اغتسال العائن للمعين. الاستذكار (8/158-159)
ونقل ابن عبد البر عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن النشرة فكره نشرة الأطباء، وقال: لا أدري ما يصنعون فيها؟ وأما شيء تصنعه أنت فلا بأس به، ثم نقل عن يحيى بن سعيد رحمه الله تعالى قال: ليس بالنشرة التي يجمع فيها من الشجر والطيب ويغتسل به الإنسان بأس. التمهيد (6/245).
ونقل الحافظ ابن حجر عن حماد بن شاكر رحمه الله تعالى: أن النشرة أن يجمع أيام الربيع ما قدر عليه من ورد المفاره-هكذا في مطبوعة محب الدين الخطيب، ولعل الصواب: المفازة- وورد البساتين ثم يلقيها في إناء نظيف ويجعل فيهما ماء عذبا ثم يغلي ذلك الورد في الماء غليا يسيرا ثم يمهل حتى إذا فتر الماء أفاضه عليه فإنه يبرأ بإذن الله تعالى.الفتح10/234
وفي عون المعبود نقل قول الحسن رحمه الله تعالى: النشرة من السحر ، ثم نقل عن فتح الودود: لعله كان مشتملا على أسماء الشياطين أو كان بلسان غير معلوم؛ فلذلك جاء أنه سحر، سمي نشرة لانتشار الداء وانكشاف البلاء به، هو من عمل الشيطان، أي: من النوع الذي كان أهل الجاهلية يعالجون به ويعتقدون فيه، وأما ما كان من الآيات القرآنية والأسماء والصفات الربانية والدعوات المأثورة النبوية فلا بأس به.اهـ من عون المعبود (10/249).
والذي يظهر لي من خلال هذه النقول عن العلماء أن النشرة أنواع:
الأول: ما كان بأدوية مشروعة مأمور بها كالرقية الشرعية بآيات القرآن فهذه لا شك في إباحتها، بل هي مستحبة؛ لأنها من الاستشفاء بالقرآن.
الثاني: ما كان بأدوية مباحة لا محرم فيها، قد دلت التجربة على نفعها، كالحجامة وورق السدر، وبعض الأعشاب، ونوع من الاغتسال، وغير ذلك من الأدوية التي ثبت نفعها في ذلك، فالأظهر أنها مباحة.
الثالث: ما كان بأدوية سحرية، وهي التي يتناولها الحديث، وهي من عمل الشيطان، وهي محرمة ولو كان ظاهر كلام بعض الأئمة إجازتها، فيحمل قولهم على ما يجوز منها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: والنشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:
حل سحر بسحر مثله وهو الذي من عمل الشيطان؛ فإن السحر من عمله، فيتقرب إليه الناشر والمنتشر بما يحب فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة فهذا جائز بل مستحب، وعلى النوع المذموم يحمل قول الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر.إعلام الموقعين(4/396)
وقد جاء عن سعيد ابن المسيب ما قد يفيد أنه يجيز النشرة السحرية، وهو ما رواه البخاري عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيُحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه) أخرجه البخاري معلقا مجزوما به في الطب باب هل يستخرج السحر (5/2175).
وكلام ابن المسيب رحمه الله تعالى محتمل، وليس قاطعا في أنه يجيز النشرة السحرية، بل قد يريد ما هو مباح من الأدوية المجربة النافعة التي لا محرم فيها.
يقول الشيخ الحافظ سليمان بن عبد الله رحمه الله تعالى: وهذا الكلام من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم هل هو نوع من السحر أم لا، فأما أن يكون ابن المسيب يفتي بجواز قصد الساحر الكافر المأمور بقتله ليعمل السحر فلا يظن به ذلك، حاشاه منه، ويدل على ذلك قوله: إنما يريدون به الإصلاح. فأي إصلاح في السحر؟ بل كله فساد وكفر. تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (366)
وفي موضع آخر ذكر ما قرره ابن القيم من أن النشرة نوعان :محرمة وهو ما كان بالسحر ونحوه، والثاني: ما كان بالرقى الشرعية، ثم قال رحمه الله تعالى: هذا الثاني هو الذي يحمل عليه كلام ابن المسيب، أو على نوع لا يدري هل هو من السحر أم لا؟ وكذلك ما روي عن الإمام أحمد من إجازة النشرة فإنه محمول على ذلك، وغلط من ظن أنه أجاز النشرة السحرية، وليس في كلامه ما يدل على ذلك، بل لما سئل عن الرجل يحل السحر؟ قال: قد رخص فيه بعض الناس، قيل: إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه فنفض يده وقال: لا أدري ما هذا؟ قيل له: أفترى أن يؤتى مثل هذا؟ قال: لا أدري ما هذا؟ وهذا صريح في النهي عن النشرة على الوجه المكروه، وكيف!! وهو الذي روى الحديث (إنها من عمل الشيطان) لكن لما كان لفظ النشرة مشتركا بين الجائزة والتي من عمل الشيطان، ورأوه قد أجاز النشرة ظنوا أنه قد أجاز التي من عمل الشيطان، وحاشاه من ذلك.ا هـ من تيسير العزيز الحميد (1/367-368)
وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى: التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه في هذه المسألة أن استخراج السحر إن كان بالقرآن كالمعوذتين وآية الكرسي ونحو ذلك مما تجوز الرقيا به فلا مانع من ذلك، وإن كان بسحر أو بألفاظ عجمية أو بما لا يفهم معناه أو بنوع آخر مما لا يجوز فإنه ممنوع، وهذا واضح وهو الصواب إن شاء الله تعالى كما ترى.أضواء البيان(4/57).
وقال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله تعالى: أما حل السحر عن المسحور بسحر مثله فيحرم فإنه معاونة للساحر وإقرار له على عمله وتقرب إلى الشيطان بأنواع القرب ليبطل عمله عن المسحور؛ ولهذا قال الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر.معارج القبول(2/566).
مربع (3):
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، قال أصحابنا: ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر فإن حنبلا روى عنه قال: قال عمي في العراف والكاهن والساحر: أرى أن يستتاب من هذه الأفاعيل كلها؛ فإنه عندي في معنى المرتد فإن تاب وراجع، يعني: يخلى سبيله، قلت له: يقتل؟ قال: لا، يحبس لعله يرجع، قلت له: لم لا تقتله؟ قال: إذا كان يصلي لعله يتوب ويرجع، وهذا يدل على أنه لم يكفره؛ لأنه لو كفره لقتله، وقوله في معنى المرتد يعني: في الاستتابة.
وقال أصحاب أبي حنيفة إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء كفر، وإن اعتقد أنه تخييل لم يكفر.
وقال الشافعي: إن اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس، أو اعتقد حل السحر كفر؛ لأن القرآن نطق بتحريمه، وثبت بالنقل المتواتر والإجماع عليه، وإلا فسق ولم يكفر لأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها بمحضر من الصحابة، ولو كفرت لصارت مرتدة يجب قتلها، ولم يجز استرقاقها؛ ولأنه شيء يضر بالناس فلم يكفر بمجرده كأذاهم.
ولنا قول الله تعالى [وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا] {البقرة:102} أي: وما كفر سليمان، أي: وما كان ساحرا كفر بسحره، وقولهما [إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ] {البقرة:102} أي: لا تتعلمه فتكفر بذلك .... وقول عائشة قد خالفها فيه كثير من الصحابة، وقال علي رضي الله عنه: كافر، ويحتمل أن المدبرة تابت فسقط عنها القتل والكفر بتوبتها، ويحتمل أنها سحرتها بمعنى أنها ذهبت إلى ساحر سحر لها.أهـ من المغني (9/34-35).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها وهو التعبد للشياطين أو للكواكب، وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلا. قال النووي عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرا، ومنه ما لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر، وعن مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب، بل يتحتم قتله كالزنديق، قال عياض: وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين اهـ من فتح الباري (10/224).
ثم ذكر الحافظ أن اختيار البخاري رحمه الله تعالى كفر الساحر فقال: وفي إيراد المصنف هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر لقوله فيها [وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ] {البقرة:102} فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الآية على لسان الملكين إنما نحن [إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ] {البقرة:102} فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر فيكون العمل به كفرا.اهـ فتح الباري (10/225).
ونقل الشنقيطي رحمه الله تعالى بعض كلام ابن حجر ثم قال: التحقيق في هذه المسألة إن شاء الله تعالى أن السحر نوعان: منه ما هو كفر، ومنه ما لا يبلغ بصاحبه الكفر؛ فإن كان الساحر استعمل السحر الذي هو كفر فلا شك في أنه يقتل كفرا.... وأظهر القولين عندي أن المرأة الساحرة حكمها حكم الرجل الساحر، وأنها إن كفرت بسحرها قتلت كما يقتل الرجل.....وأما إن كان الساحر عمل السحر الذي لا يبلغ بصاحبه الكفر فهذا هو محل الخلاف بين العلماء: فالذين قالوا يقتل ولو لم يكفر بسحره قال أكثرهم يقتل حدا ولو قتل إنسانا بسحره، وانفرد الشافعي في هذه الصورة بأنه يقتل قصاصا لا حدا...أما الذين قالوا: مطلقا إذا عمل بسحره ولو لم يقتل به أحدا، فاستدلوا بآثار عن الصحابة رضي الله عنهم وبحديث جاء بذلك إلا أنه لم يصح. أضواء البيان (4/52-53)
وقال في موضع آخر: اعلم أن الناس اختلفوا في تعلم السحر من غير عمل به هل يجوز أو لا؟ والتحقيق وهو الذي عليه الجمهور هو أنه لا يجوز، ومن أصرح الأدلة في ذلك تصريحه تعالى بأنه يضر ولا ينفع في قوله[وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ]{البقرة:102} وإذا أثبت الله أن السحر ضار ونفى أنه نافع فكيف يجوز تعلم ما هو ضرر محض لا نفع فيها؟! أضواء البيان(4/55).
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى