رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه (5)
من آثارها ونتائجها
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين؛ كلف عباده إقامة الدين، ودلهم على الحق المبين، بما أرسل إليهم من الرسل، وما أنزل عليهم من الكتب؛ ليهتدي من أراد هدايته، ويعمى عن الحق من عمل بجهله، أو اتبع هواه [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {البقرة:213} نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على إحسانه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قائلا: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أكثر هذه الأمة علما وعملا، وأشدُّ الناس اتباعا للحق، وتمسكا بالدين، ونبذا للبدع والهوى، من سار على هديهم فلن يضل أبدا، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- فإنه كلما تخلف الناس عن هدي نبيهم عليه الصلاة والسلام، وابتعدوا عن منهج سلفهم الصالح؛ عظمت مصيبتهم، واشتدت محنهم، وكثرت فتنهم، واختلفت قلوبهم، والناجي منهم من بقي على الطريق الأول وإن قلَّ السالكون، وتمسك بالشريعة وإن كثر المنحرفون والزائغون [فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ] {الزُّخرف:43-44}
أيها الناس: هذه الأمة أمة مباركة، معصومة من الإجماع على ضلالة، قد جعل الله تعالى عافيتها في أولها، وجُعل بلاؤها وفتنتها في آخرها، ومن سمات فتنها ومحنها أن بعضها يرقق بعضا، وأن عظيمها يخلف صغيرها، وأن شديدها ينسي خفيفها إلى أن يأذن الله تعالى بخروج آخر فتنة فيها وأكبرها وهي فتنة المسيح الدجال.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم من شدة نصحه لنا، ورحمته بنا، وشفقته علينا؛ ذكر لنا الفتن، ووصفها لنا، وحذرنا من شرها، وبين سبل النجاة منها. (استيقظ صلى الله عليه وسلم ليلة فزعا يقول: سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن ....)رواه البخاري من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-.
وذات مرة أشرف -عليه الصلاة والسلام- على أُطُم من آطام المدينة فقال:(هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا، قال: فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر)رواه الشيخان من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-.
وفي حديث آخر قال -عليه الصلاة والسلام-:(ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به)رواه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
قال العلماء:شبه -عليه الصلاة والسلام - سقوط الفتن وكثرتها بسقوط القطر في الكثرة والعموم ....وإنما اختصت المدينة بذلك لأن قتل عثمان -رضي الله عنه- كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالجمل وبصفين كان بسبب قتل عثمان، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين، وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد عن شيء من ذلك، أو عن شيء تولد عنه، ثم إن قتل عثمان كان أشدَّ أسبابه الطعنُ على أمرائه ثم عليه بتوليته لهم.
كان مقتل عثمان- رضي الله عنه- أعظم مصيبة أصيبت بها الأمة بعد موت نبييها صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الفاروق عمر- رضي الله عنه- قد قتل وهو أفضل من عثمان فإن قاتله كان علجا واحدا من المجوس لم يركع لله تعالى ركعة، ولا ادعى بقتله إصلاحا، بل إنه قتل نفسه على إثر ذلك لعلمه بشناعة ما فعل.
وأما قتلة عثمان -رضي الله عنه- فجماعة وليس واحدا، قد دانوا بالإسلام، وأظهروا التنسك والصلاح، وزعموا بقتله الخير والإصلاح، وهي أول فتنة سياسية في هذه الأمة افتات مشعلوها على أميرهم، ونازعوه في سلطانه، وأعلنوا الخروج عليه ثم قتلوه، ففتحوا باب الفتن السياسية، وسنوا في الأمة شق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة، ومنازعة الأمر أهله، ومضت سنتهم السيئة في الناس جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا، فكان ذلك أعظم أثر لفتنتهم، وأكبر نتيجة لها.
وظلت الفتن في الأمة كحلقات سلسلة متصلة، كلما فصمت منه حلقة تبعتها أختها منذ مقتل عثمان رضي الله عنه إلى يومنا هذا، وهي فتن متشابهة، ونتائجها واحدة، تتمثل في نفرة القلوب وتباعدها، واختلاف الناس وتفرقهم، ثم يعقب الاختلاف السباب والتلاسن، فالمحاربة وسفك الدماء، فلا يأمن الناس على أنفسهم ولا أعراضهم ولا أموالهم، ولا يعبدون الله تعالى كما ينبغي له أن يعبد، وهكذا تعطل شعائر الدين وأحكامه بسبب اشتعال الفتن واشتغال الناس بها.
ولما قتل عثمان -رضي الله عنه-، وانعقدت البيعة لأبي الحسن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كانت الفتنة لا تزال مشتعلة، فاختلفت الأمة من جديد في أمر قتلة عثمان وماذا يفعل بهم، فقوم رأوا وجوب المسارعة بالاقتصاص منهم، والقضاء عليهم، وآخرون رأوا أنه لا يمكن ذلك في ظل اشتعال الفتنة، وهيجان الناس، ولا بد من تسكينهم حتى إذا استقرت الأمور، وانكشفت الفتنة أخذوا بجرمهم، وكاد الفريقان أن يصطلحا، ولكن مشعلي الفتنة يعلمون أنهم إن اصطلحوا حوكموا بقتل عثمان، فما زالوا يوسعون دائرة الخلاف، ويزيدون الفرقة بين الطائفتين، حتى بلغوا ما أرادوا من اقتتال الطائفتين، فنتج عن ذلك حربان كبيرتان قتل فيهما خلق كثير من المسلمين في الجمل وصفين.
وقد شخص الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- ما وقع بينهم من الفرقة والاختلاف، والحيرة والأسى، وهم لا يملكون في هذه الفتنة العظيمة من أمرهم شيئا، بل يدورون معها حيث دارت، ويسكنون إذا سكنت، فروى علقمة الليثي -رضي الله عنه- فقال:(لما خرج طلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم- رأيت طلحة وأحب المجالس إليه أخلاها، وهو ضارب بلحيته على زوره، فقلت: يا أبا محمد، أرى أحب المجالس إليك أخلاها، وأنت ضارب بلحيتك على زورك، إن كرهت شيئا فاجلس. قال: فقال لي: يا علقمة بن وقاص، بينا نحن يد واحدة على من سوانا إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضا)
ويبين -رضي الله عنه- كيف طاشت عقولهم من عظم هذه الفتنة وشدتها فيقول:(إن هذه لهي الفتنة التي كنا نُحدَّث عنها، فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويحك إنا نبصر ولا نبصر، ما كان أمرٌ قط إلا علمت موضع قدمي فيه غير هذا الأمر؛ فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر)
لقد أكلت هذه الفتنة العمياء جملة من عظماء الرجال، وسادة الناس، على رأسهم علي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعمار بن ياسر، قتلهم من أثاروا الفتنة، وأججوا الخلاف، من الخوارج والدهماء والرعاع، وهم-رضي الله عنهم- من السابقين إلى الإسلام، ومن المشهود لهم بالجنة، فكيف يقتلهم من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؟! ويقتلونهم تقربا إلى الله تعالى بزعمهم!! ولكنها الفتن تعمي القلوب والأبصار، نعوذ بالله تعالى منها.
ونجم عن هذه الفتن العظيمة اختلال أمن المسلمين آنذاك، وظهور اللصوص، وقطاع الطريق؛ لأن الحدود لا تقام إلا حيث تكون دولة وولاية، ولا دولة إلا بإمام يجتمع الناس عليه، فيقيم العدل، ويرفع الظلم، وقد شَغَل سادةَ الناس وأئمتَهم آنذاك ما هم فيه من الفرقة والخلاف.
وتوقفت الفتوح التي كانت في عهد الخلفاء الثلاثة- رضي الله عنهم- ؛ لأن الجيوش تحولت من الثغور إلى مناصرة إحدى الطائفتين؛ ولذلك لم يكن هناك فتوح تذكر لا في آخر خلافة عثمان ولا في خلافة علي -رضي الله عنهما-. وقوي النفاق، وكثر المنافقون وطلاب الدنيا، وشمتت الفرس والروم وكل عدو بالمسلمين.
وما عادت الأمور إلى نصابها، ولا سكنت الفتنة إلا لما كانت البيعة للحسن بن علي -رضي الله عنهما-، فآثر مصلحة الأمة على مصلحته، ورأى أن حقن دماء المسلمين أولى بالرعاية من حقه في الخلافة، وما تركها -رضي الله عنه- لعجزه أو لقلة من يعينه وينصره!! كلا، بل تركها لله تعالى، وحقنا لدماء المسلمين، فمن يفعل فعل أمير المؤمنين أبي محمد الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، وقد جمع الله تعالى به كلمة المسلمين بعد تفرقها، وألف به بين قلوبهم بعد تنافرها واختلافها؟! فكان سيدا من سادة هذه الأمة، وحقَّ فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)رواه البخاري.
فاجتمع سواد الأمة على معاوية بعد تنازل الحسن -رضي الله عنهما-، فأُغمد السيف، وسكنت الفتنة، وعادت مهابة الأمة، وتوارى أهل النفاق والشقاق، فهم لا يظهرون إلا في أحوال التفرق والاختلاف، وأقيمت الحدود، وحُميت الثغور، وانطلقت جيوش أهل الإسلام تفتح البلدان، وتمصر الأمصار، وتنشر الإسلام، حتى حوصرت القسطنطينية في خلافة معاوية، ومات أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه تحت أسوارها، وبنيت مدينة القيروان، وعظمت الفتوح في خراسان والسند وسجستان وما وراء النهر، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وفاضت الخيرات، وازدهرت العلوم.
والفتوح التي وقعت في العهد الأموي كانت من أوسع الفتوح وأكثرها في تاريخ أمة الإسلام كلها، وكل ذلك كان ببركة الاجتماع على إمام واحد، والائتلاف بعد الاختلاف، وكان الفضل في ذلك بعد الله تعالى للحسن بن علي- رضي الله عنهما-.
وما اشتعلت بعد ذلك فتنة في قطر من أقطار المسلمين، فتفرق الناس فيها عن إمامهم إلا فرق الله تعالى قلوبهم، وصدع صفهم، وشتت كلمتهم، وأطمع فيهم أعداءهم، فحل فيهم الخوف، ورفع منهم الأمن، وعطلت الحدود، وظهر أهل الشر والفساد.
وما اجتمع الناس على إمام إلا اجتمعت قلوبهم، ورفع خوفهم، وزادت خيراتهم، وكل الدول القديمة والحديثة تشهد لهذه الحقيقة، ومن قرأ التاريخ استبان له الأمر، وعرف أن مواضع عزة الأمة ونصرها تكون حيث يجتمع أبناؤها، وأن ضعفهم وهوانهم يكون حيث يتفرقون [وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] {الأنفال:46} [وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {آل عمران:105} .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، [وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] {البقرة:203}
أيها المسلمون: كان أعلم الصحابة -رضي الله عنهم- بما سيئول إليه حال الناس من الفتنة والتفرق إن قتل عثمان -رضي الله عنه- : حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن سلام.
أما حذيفة -رضي الله عنه- فكان أعلم هذه الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم بالفتن وبالمنافقين، وكان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشر في حين أن الناس يسألونه عن الخير، ولما بلغه مقتل عثمان -رضي الله عنه- قال:(اعتبروا ما أقول لكم: والله إن كانت العرب أصابت بقتلها عثمان لتحتلبن به لبنا، ولئن كانت العرب أخطأت بقتلها عثمان لتحتلبن به دما) فوقع ما قال حذيفة رضي الله عنه فاحتلبت الأمة بمقتل عثمان - رضي الله عنه - دما كثيرا، ولا زالت تحتلب دما إلى يومنا هذا، وستظل تحتلب بقتله دما كثيرا إلى قيام الساعة.
وعن ميمون بن مهران -رحمه الله تعالى- قال: لما قتل عثمان قال حذيفة: فتق في الإسلام فتق لا يرتقه جبل.
وأما عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- فكان من علماء أهل الكتاب، وقد آتاه الله تعالى في الإسلام علما وحكمة، فحذر أشد التحذير من قتل عثمان -رضي الله عنه-، وقال لما حصروا عثمان في الدار:(لا تقتلوه فإنه لم يبق من أجله إلا قليل، والله لئن قتلتموه لا تصلون جميعا أبدا) وحذر من الاقتتال فقال -رضي الله عنه-:(لا تسلوا سيوفكم فلئن سللتموها لا تغمدُ إلى يوم القيامة) ولما بلغه مقتل عثمان جعل يبكي ويقول:( اليوم هلكت العرب)
وكان عثمان -رضي الله عنه- يعلم ما سيئول إليه حال رعيته إن هم قتلوه، فحذرهم وأنذرهم وقال لهم:(لا تقتلونني فو الله لئن قتلتموني لا تقاتلون عدوا جميعا، ولا تقتسمون فيئا جميعا أبدا، ولا تصلون جميعا أبدا، قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: فو الله إن صلى القوم جميعا فإن قلوبهم لمختلفة)
ووقع ما خافه عثمان وحذيفة وابن سلام -رضي الله عنهم -، ولا يزال يقع إلى يومنا هذا.
ومن كان له علم وعقل علم أن الخروج على السلاطين من أعظم الفتن التي تبتلى بها الأمة، وأن ذلك يجر إلى فتن ماحقة من أهمها:سفك الدماء، ورفع الأمن، وحلول الخوف والجوع، والإفساد في الأرض، وأن النصح والدعاء والصبر والطاعة خير من نكث البيعة، ومفارقة الجماعة، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على ذلك [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا] {آل عمران:103} [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] {النساء:59} وقال النبي عليه الصلاة والسلام:(من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية)متفق عليه. وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام:( من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)رواه مسلم.
ومما يأسى عليه المسلم ما وقع فيه بعض أبناء هذه البلاد من التدبير والتخطيط والجمع والعزم على التخريب والتفجير بعد أن فعل بعض أسلافهم ما فعلوا مما هو من الفساد في الأرض باجتهادات خاطئة، وتأويلات فاسدة، وشبهات فاتنة، والفساد في أرض فاسدة لا يحل، فكيف بالفساد في أرض آمنة؟! والله تعالى يقول [وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا] {الأعراف:56} .
وأي فساد أعظم من إفساد في بلاد قد أنعم الله تعالى عليها بالأمن والاستقرار، وهي مهوى أفئدة المسلمين في كل مكان، فإذا اختل أمنها كيف يحج الناس وكيف يعتمرون؟!
أوليسوا بأعمالهم الخاطئة، وتأويلاتهم الفاسدة قد أشمتوا بالمسلمين الكفار والمنافقين، ومهدوا الطرق للمنحرفين والشهوانيين أن يطعنوا في شريعة الله تعالى وأحكامها، وفي الدعوة والدعاة، وفي الحسبة والمحتسبين، وفي التعليم والمتعلمين وفي المناهج الدراسية التي بنيت عليها، وكم تأخرت الدعوة والإغاثة والإصلاح بسبب هذه الأعمال؟!
أليست أفعالهم المشينة كانت سببا في تسلق المرتزقة وذوي الأهواء ليتأكلوا بالأحداث، ويرتزقوا بأمن البلاد والعباد، ويقتاتوا على المصائب والنكبات؛ ليحوزوا مالا أو جاها أو ليُصَفُّوا حساباتهم مع الدين وحملته وأهله، ويسعوا بجد ونشاط في نشر الفساد والانحلال. وما رأينا إصلاحا من وراء ذلك.
فحري بكل عاقل أن يحذر الفتن وأهلها، وأن لا يسلم قلبه للشبهات، فإنها تفتك بالقلوب فتكا، وحري بكل من عرضت له شبهة في هذا الباب أن يسأل أهل العلم فيها، وأن لا يُقدم على قول أو فعل ليس عنده فيه من شريعة الله تعالى حجة ظاهرة؛ فإن الحساب عسير، وإن حرمة الدماء المعصومة عظيمة، ولعظمتها عند الله تعالى كانت أول شيء يقضى فيه بين العباد يوم القيامة، ولا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما؛ كما صح ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام.
ولما ثارت الفتنة الأولى اعتزلها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فنزل فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره فقال: أسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)رواه مسلم.
ولما قيل له رضي الله عنه:(ألا تقاتل فإنك من أهل الشورى وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟ قال رضي الله عنه:لا أقاتلُ حتى يأتوني بسيف له عينان ولسانٌ وشفتان يعرف الكافر من المؤمن، قد جاهدت وأنا أعرف الجهاد)رواه الحاكم:وقال صحيح على شرط الشيخين.
ولما جاء الخواج إلى مطرف بن عبد الله وهو من كبار التابعين، ومن أعلمهم بالفتن، جاءوه يدعونه إلى رأيهم فقال رحمه الله تعالى:(يا هؤلاء، لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما وأمسكت الأخرى فإن كان الذي تقولون هدى أتبعتها الأخرى وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس ولكن هي نفس واحدة لا أغرر بها) فخذوا رحمكم الله تعالى من سير من سبقوكم عظات وعبرا؛ فإن القوم أتقى لله تعالى منا، وأعلم بالشريعة، وأسدُّ رأيا، وأحكم عقلا، والسعيد من لقي الله تعالى وليس لأحد عليه شيء، والشقي من تشربته الفتن فلقي الله تعالى يوم القيامة مفلسا بما عليه من حقوق العباد.
وصلوا وسلموا على نبيكم.....
----------------------
مربع (1):
جاء في تاريخ الطبري (3/32-33) ما نصه:(لما جاءت وفود أهل البصرة إلى أهل الكوفة ورجع القعقاع من عند أم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم جمع علي الناس ثم قام على الغرائر فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله ثم الذي يليه ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة وأرادوا رد الأشياء على أدبارها والله بالغ أمره ومصيب ما أراد ألا وإني راحل غدا فارتحلوا ألا ولا يرتحلن غدا أحد أعان على عثمان بشيء في شيء من أمور الناس وليغن السفهاء عني أنفسهم، فاجتمع نفر منهم علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة العبسي وشريح بن أوفى بن ضبيعة والأشتر في عدة ممن سار إلى عثمان ورضي بسير من سار وجاء معهم المصريون ابن السوداء وخالد بن ملحم وتشاوروا فقالوا ما الرأي وهذا والله علي وهو أبصر الناس بكتاب الله وأقرب ممن يطلب قتلة عثمان وأقربهم إلى العمل بذلك وهو يقول ما يقول ولم ينفر إليه إلا هم والقليل من غيرهم فكيف به إذا شام القوم وشاموه وإذا رأوا قلتنا في كثرتهم أنتم والله ترادون وما أنتم بأنجى من شيء فقال الأشتر أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم ورأي الناس فينا والله واحد وإن يصطلحوا وعلي فعلى دمائنا فهلموا فلنتواثب على علي فنلحقه بعثمان فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكون.
فقال عبدالله بن السوداء بئس الرأي رأيت أنتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة وهذا ابن الحنظلية وأصحابه في خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلا فارقأ على ظلعك
وقال علباء بن الهيثم انصرفوا بنا عنهم ودعوهم فإن قلوا كان أقوى لعدوهم عليهم وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم دعوهم وارجعوا فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تتقون به وامتنعوا من الناس فقال ابن السوداء بئس ما رأيت ود والله الناس أنكم على جديلة ولم تكونوا مع أقوام براء ولو كان ذلك الذي تقول لتخطفكم كل شيء فقال عدي بن حاتم والله ما رضيت ولا كرهت ولقد عجبت من تردد من تردد عن قتله في خوض الحديث فأما إذ وقع ما وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة فإن لنا عتادا من خيول وسلاح محمودا فإن أقدمتم أقدمنا وإن أمسكتم أحجمنا فقال ابن السوداء أحسنت
وقال سالم بن ثعلبة من كان أراد بما أتى الدنيا فإني لم أرد ذلك والله لئن لقيتهم غدا لا أرجع إلى بيتي ولئن طال بقائي إذا أنا لاقيتهم لا يزد على جزر جزور وأحلف بالله إنكم لتفرقون السيوف فرق قوم لا تصير أمورهم إلا إلى السيف فقال ابن السوداء قد قال قولا
وقال شريح بن أوفى أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا ولا تؤخروا أمرا ينبغي لكم تعجيله ولا تعجلوا أمرا ينبغي لكم تأخيره فإنا عند الناس بشر المنازل فلا أدري ما الناس صانعون غدا إذا ما هم التقوا تكلم ابن السوداءء فقال يا قوم إن عزكم في خلطة الناس فصانعوهم وإذا التقى الناس غدا فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر فإذا من أنتم معه لا يجد بدا من أن يمتنع ويشغل الله عليا وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون) وانظر: الفتنة ووقعة الجمل لسيف بن عمر (149) والكامل لابن الأثير(3/125).
وقال الطحاوي رحمه الله تعالى:فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي ولا من طلحة والزبير وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين ثم جرت فتنة صفين لرأي وهو أن أهل الشام لم يعدل عليهم أو لا يتمكن من العدل عليهم وهم كافون حتى يجتمع أمر الأمة وأنهم يخافون طغيان من في العسكر كما طغوا على الشهيد المظلوم )شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز(546).
وقال ابن حزم رحمه الله تعالى:( وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن كان معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا جددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذي علم على أن كل لك لم يكن فإذ لا شك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافا عليه ولا نقضا لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا ما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان- رضي الله عنه- ظلما وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتله عثمان إلا أن الأراغة والتدبير عليهم فبينوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم في دعوى حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدأ بها بالقتال واختلط الأمر اختلاطا لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يغترون من شن الحرب وأضر أمه فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها ورجع الزبير وترك الحرب بحالها وأتى طلحة سهم غاير وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الإختلاط فصادف جرحا في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدري رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف ومات من وقته رضي الله عنه وقتل الزبير رضي الله عنه بوادي السباع على أقل من يوم من البصرة فهكذا كان الأمر) الفصل في الملل (4/123).
وقال القرطبي في تفسيره (16/318-319):وقال جلة من أهل العلم إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به لأن الأمر كان قد انتظم بينهم
وتم الصلح والتفرق على الرضا فخاف قتلة -عثمان رضي الله عنه- من التمكين منهم والإحاطة بهم فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين ويبدءوا بالحرب سحرة في العسكرين وتختلف السهام بينهم ويصيح الفريق الذي في عسكر علي غدر طلحة والزبير والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير غدر علي فتم لهم ذلك على ما دبروه ونشبت الحرب فكان كل فريق دافعا لمكرته عند نفسه ومانعا من الإشاطة بدمه وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذه السبيل وهذا هو الصحيح المشهور والله أعلم).
فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه (5)
من آثارها ونتائجها
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين؛ كلف عباده إقامة الدين، ودلهم على الحق المبين، بما أرسل إليهم من الرسل، وما أنزل عليهم من الكتب؛ ليهتدي من أراد هدايته، ويعمى عن الحق من عمل بجهله، أو اتبع هواه [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {البقرة:213} نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على إحسانه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قائلا: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أكثر هذه الأمة علما وعملا، وأشدُّ الناس اتباعا للحق، وتمسكا بالدين، ونبذا للبدع والهوى، من سار على هديهم فلن يضل أبدا، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- فإنه كلما تخلف الناس عن هدي نبيهم عليه الصلاة والسلام، وابتعدوا عن منهج سلفهم الصالح؛ عظمت مصيبتهم، واشتدت محنهم، وكثرت فتنهم، واختلفت قلوبهم، والناجي منهم من بقي على الطريق الأول وإن قلَّ السالكون، وتمسك بالشريعة وإن كثر المنحرفون والزائغون [فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ] {الزُّخرف:43-44}
أيها الناس: هذه الأمة أمة مباركة، معصومة من الإجماع على ضلالة، قد جعل الله تعالى عافيتها في أولها، وجُعل بلاؤها وفتنتها في آخرها، ومن سمات فتنها ومحنها أن بعضها يرقق بعضا، وأن عظيمها يخلف صغيرها، وأن شديدها ينسي خفيفها إلى أن يأذن الله تعالى بخروج آخر فتنة فيها وأكبرها وهي فتنة المسيح الدجال.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم من شدة نصحه لنا، ورحمته بنا، وشفقته علينا؛ ذكر لنا الفتن، ووصفها لنا، وحذرنا من شرها، وبين سبل النجاة منها. (استيقظ صلى الله عليه وسلم ليلة فزعا يقول: سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن ....)رواه البخاري من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-.
وذات مرة أشرف -عليه الصلاة والسلام- على أُطُم من آطام المدينة فقال:(هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا، قال: فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر)رواه الشيخان من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-.
وفي حديث آخر قال -عليه الصلاة والسلام-:(ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به)رواه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
قال العلماء:شبه -عليه الصلاة والسلام - سقوط الفتن وكثرتها بسقوط القطر في الكثرة والعموم ....وإنما اختصت المدينة بذلك لأن قتل عثمان -رضي الله عنه- كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالجمل وبصفين كان بسبب قتل عثمان، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين، وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد عن شيء من ذلك، أو عن شيء تولد عنه، ثم إن قتل عثمان كان أشدَّ أسبابه الطعنُ على أمرائه ثم عليه بتوليته لهم.
كان مقتل عثمان- رضي الله عنه- أعظم مصيبة أصيبت بها الأمة بعد موت نبييها صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الفاروق عمر- رضي الله عنه- قد قتل وهو أفضل من عثمان فإن قاتله كان علجا واحدا من المجوس لم يركع لله تعالى ركعة، ولا ادعى بقتله إصلاحا، بل إنه قتل نفسه على إثر ذلك لعلمه بشناعة ما فعل.
وأما قتلة عثمان -رضي الله عنه- فجماعة وليس واحدا، قد دانوا بالإسلام، وأظهروا التنسك والصلاح، وزعموا بقتله الخير والإصلاح، وهي أول فتنة سياسية في هذه الأمة افتات مشعلوها على أميرهم، ونازعوه في سلطانه، وأعلنوا الخروج عليه ثم قتلوه، ففتحوا باب الفتن السياسية، وسنوا في الأمة شق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة، ومنازعة الأمر أهله، ومضت سنتهم السيئة في الناس جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا، فكان ذلك أعظم أثر لفتنتهم، وأكبر نتيجة لها.
وظلت الفتن في الأمة كحلقات سلسلة متصلة، كلما فصمت منه حلقة تبعتها أختها منذ مقتل عثمان رضي الله عنه إلى يومنا هذا، وهي فتن متشابهة، ونتائجها واحدة، تتمثل في نفرة القلوب وتباعدها، واختلاف الناس وتفرقهم، ثم يعقب الاختلاف السباب والتلاسن، فالمحاربة وسفك الدماء، فلا يأمن الناس على أنفسهم ولا أعراضهم ولا أموالهم، ولا يعبدون الله تعالى كما ينبغي له أن يعبد، وهكذا تعطل شعائر الدين وأحكامه بسبب اشتعال الفتن واشتغال الناس بها.
ولما قتل عثمان -رضي الله عنه-، وانعقدت البيعة لأبي الحسن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كانت الفتنة لا تزال مشتعلة، فاختلفت الأمة من جديد في أمر قتلة عثمان وماذا يفعل بهم، فقوم رأوا وجوب المسارعة بالاقتصاص منهم، والقضاء عليهم، وآخرون رأوا أنه لا يمكن ذلك في ظل اشتعال الفتنة، وهيجان الناس، ولا بد من تسكينهم حتى إذا استقرت الأمور، وانكشفت الفتنة أخذوا بجرمهم، وكاد الفريقان أن يصطلحا، ولكن مشعلي الفتنة يعلمون أنهم إن اصطلحوا حوكموا بقتل عثمان، فما زالوا يوسعون دائرة الخلاف، ويزيدون الفرقة بين الطائفتين، حتى بلغوا ما أرادوا من اقتتال الطائفتين، فنتج عن ذلك حربان كبيرتان قتل فيهما خلق كثير من المسلمين في الجمل وصفين.
وقد شخص الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- ما وقع بينهم من الفرقة والاختلاف، والحيرة والأسى، وهم لا يملكون في هذه الفتنة العظيمة من أمرهم شيئا، بل يدورون معها حيث دارت، ويسكنون إذا سكنت، فروى علقمة الليثي -رضي الله عنه- فقال:(لما خرج طلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم- رأيت طلحة وأحب المجالس إليه أخلاها، وهو ضارب بلحيته على زوره، فقلت: يا أبا محمد، أرى أحب المجالس إليك أخلاها، وأنت ضارب بلحيتك على زورك، إن كرهت شيئا فاجلس. قال: فقال لي: يا علقمة بن وقاص، بينا نحن يد واحدة على من سوانا إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضا)
ويبين -رضي الله عنه- كيف طاشت عقولهم من عظم هذه الفتنة وشدتها فيقول:(إن هذه لهي الفتنة التي كنا نُحدَّث عنها، فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويحك إنا نبصر ولا نبصر، ما كان أمرٌ قط إلا علمت موضع قدمي فيه غير هذا الأمر؛ فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر)
لقد أكلت هذه الفتنة العمياء جملة من عظماء الرجال، وسادة الناس، على رأسهم علي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعمار بن ياسر، قتلهم من أثاروا الفتنة، وأججوا الخلاف، من الخوارج والدهماء والرعاع، وهم-رضي الله عنهم- من السابقين إلى الإسلام، ومن المشهود لهم بالجنة، فكيف يقتلهم من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؟! ويقتلونهم تقربا إلى الله تعالى بزعمهم!! ولكنها الفتن تعمي القلوب والأبصار، نعوذ بالله تعالى منها.
ونجم عن هذه الفتن العظيمة اختلال أمن المسلمين آنذاك، وظهور اللصوص، وقطاع الطريق؛ لأن الحدود لا تقام إلا حيث تكون دولة وولاية، ولا دولة إلا بإمام يجتمع الناس عليه، فيقيم العدل، ويرفع الظلم، وقد شَغَل سادةَ الناس وأئمتَهم آنذاك ما هم فيه من الفرقة والخلاف.
وتوقفت الفتوح التي كانت في عهد الخلفاء الثلاثة- رضي الله عنهم- ؛ لأن الجيوش تحولت من الثغور إلى مناصرة إحدى الطائفتين؛ ولذلك لم يكن هناك فتوح تذكر لا في آخر خلافة عثمان ولا في خلافة علي -رضي الله عنهما-. وقوي النفاق، وكثر المنافقون وطلاب الدنيا، وشمتت الفرس والروم وكل عدو بالمسلمين.
وما عادت الأمور إلى نصابها، ولا سكنت الفتنة إلا لما كانت البيعة للحسن بن علي -رضي الله عنهما-، فآثر مصلحة الأمة على مصلحته، ورأى أن حقن دماء المسلمين أولى بالرعاية من حقه في الخلافة، وما تركها -رضي الله عنه- لعجزه أو لقلة من يعينه وينصره!! كلا، بل تركها لله تعالى، وحقنا لدماء المسلمين، فمن يفعل فعل أمير المؤمنين أبي محمد الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، وقد جمع الله تعالى به كلمة المسلمين بعد تفرقها، وألف به بين قلوبهم بعد تنافرها واختلافها؟! فكان سيدا من سادة هذه الأمة، وحقَّ فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)رواه البخاري.
فاجتمع سواد الأمة على معاوية بعد تنازل الحسن -رضي الله عنهما-، فأُغمد السيف، وسكنت الفتنة، وعادت مهابة الأمة، وتوارى أهل النفاق والشقاق، فهم لا يظهرون إلا في أحوال التفرق والاختلاف، وأقيمت الحدود، وحُميت الثغور، وانطلقت جيوش أهل الإسلام تفتح البلدان، وتمصر الأمصار، وتنشر الإسلام، حتى حوصرت القسطنطينية في خلافة معاوية، ومات أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه تحت أسوارها، وبنيت مدينة القيروان، وعظمت الفتوح في خراسان والسند وسجستان وما وراء النهر، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وفاضت الخيرات، وازدهرت العلوم.
والفتوح التي وقعت في العهد الأموي كانت من أوسع الفتوح وأكثرها في تاريخ أمة الإسلام كلها، وكل ذلك كان ببركة الاجتماع على إمام واحد، والائتلاف بعد الاختلاف، وكان الفضل في ذلك بعد الله تعالى للحسن بن علي- رضي الله عنهما-.
وما اشتعلت بعد ذلك فتنة في قطر من أقطار المسلمين، فتفرق الناس فيها عن إمامهم إلا فرق الله تعالى قلوبهم، وصدع صفهم، وشتت كلمتهم، وأطمع فيهم أعداءهم، فحل فيهم الخوف، ورفع منهم الأمن، وعطلت الحدود، وظهر أهل الشر والفساد.
وما اجتمع الناس على إمام إلا اجتمعت قلوبهم، ورفع خوفهم، وزادت خيراتهم، وكل الدول القديمة والحديثة تشهد لهذه الحقيقة، ومن قرأ التاريخ استبان له الأمر، وعرف أن مواضع عزة الأمة ونصرها تكون حيث يجتمع أبناؤها، وأن ضعفهم وهوانهم يكون حيث يتفرقون [وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] {الأنفال:46} [وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {آل عمران:105} .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، [وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] {البقرة:203}
أيها المسلمون: كان أعلم الصحابة -رضي الله عنهم- بما سيئول إليه حال الناس من الفتنة والتفرق إن قتل عثمان -رضي الله عنه- : حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن سلام.
أما حذيفة -رضي الله عنه- فكان أعلم هذه الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم بالفتن وبالمنافقين، وكان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشر في حين أن الناس يسألونه عن الخير، ولما بلغه مقتل عثمان -رضي الله عنه- قال:(اعتبروا ما أقول لكم: والله إن كانت العرب أصابت بقتلها عثمان لتحتلبن به لبنا، ولئن كانت العرب أخطأت بقتلها عثمان لتحتلبن به دما) فوقع ما قال حذيفة رضي الله عنه فاحتلبت الأمة بمقتل عثمان - رضي الله عنه - دما كثيرا، ولا زالت تحتلب دما إلى يومنا هذا، وستظل تحتلب بقتله دما كثيرا إلى قيام الساعة.
وعن ميمون بن مهران -رحمه الله تعالى- قال: لما قتل عثمان قال حذيفة: فتق في الإسلام فتق لا يرتقه جبل.
وأما عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- فكان من علماء أهل الكتاب، وقد آتاه الله تعالى في الإسلام علما وحكمة، فحذر أشد التحذير من قتل عثمان -رضي الله عنه-، وقال لما حصروا عثمان في الدار:(لا تقتلوه فإنه لم يبق من أجله إلا قليل، والله لئن قتلتموه لا تصلون جميعا أبدا) وحذر من الاقتتال فقال -رضي الله عنه-:(لا تسلوا سيوفكم فلئن سللتموها لا تغمدُ إلى يوم القيامة) ولما بلغه مقتل عثمان جعل يبكي ويقول:( اليوم هلكت العرب)
وكان عثمان -رضي الله عنه- يعلم ما سيئول إليه حال رعيته إن هم قتلوه، فحذرهم وأنذرهم وقال لهم:(لا تقتلونني فو الله لئن قتلتموني لا تقاتلون عدوا جميعا، ولا تقتسمون فيئا جميعا أبدا، ولا تصلون جميعا أبدا، قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: فو الله إن صلى القوم جميعا فإن قلوبهم لمختلفة)
ووقع ما خافه عثمان وحذيفة وابن سلام -رضي الله عنهم -، ولا يزال يقع إلى يومنا هذا.
ومن كان له علم وعقل علم أن الخروج على السلاطين من أعظم الفتن التي تبتلى بها الأمة، وأن ذلك يجر إلى فتن ماحقة من أهمها:سفك الدماء، ورفع الأمن، وحلول الخوف والجوع، والإفساد في الأرض، وأن النصح والدعاء والصبر والطاعة خير من نكث البيعة، ومفارقة الجماعة، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على ذلك [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا] {آل عمران:103} [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] {النساء:59} وقال النبي عليه الصلاة والسلام:(من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية)متفق عليه. وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام:( من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)رواه مسلم.
ومما يأسى عليه المسلم ما وقع فيه بعض أبناء هذه البلاد من التدبير والتخطيط والجمع والعزم على التخريب والتفجير بعد أن فعل بعض أسلافهم ما فعلوا مما هو من الفساد في الأرض باجتهادات خاطئة، وتأويلات فاسدة، وشبهات فاتنة، والفساد في أرض فاسدة لا يحل، فكيف بالفساد في أرض آمنة؟! والله تعالى يقول [وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا] {الأعراف:56} .
وأي فساد أعظم من إفساد في بلاد قد أنعم الله تعالى عليها بالأمن والاستقرار، وهي مهوى أفئدة المسلمين في كل مكان، فإذا اختل أمنها كيف يحج الناس وكيف يعتمرون؟!
أوليسوا بأعمالهم الخاطئة، وتأويلاتهم الفاسدة قد أشمتوا بالمسلمين الكفار والمنافقين، ومهدوا الطرق للمنحرفين والشهوانيين أن يطعنوا في شريعة الله تعالى وأحكامها، وفي الدعوة والدعاة، وفي الحسبة والمحتسبين، وفي التعليم والمتعلمين وفي المناهج الدراسية التي بنيت عليها، وكم تأخرت الدعوة والإغاثة والإصلاح بسبب هذه الأعمال؟!
أليست أفعالهم المشينة كانت سببا في تسلق المرتزقة وذوي الأهواء ليتأكلوا بالأحداث، ويرتزقوا بأمن البلاد والعباد، ويقتاتوا على المصائب والنكبات؛ ليحوزوا مالا أو جاها أو ليُصَفُّوا حساباتهم مع الدين وحملته وأهله، ويسعوا بجد ونشاط في نشر الفساد والانحلال. وما رأينا إصلاحا من وراء ذلك.
فحري بكل عاقل أن يحذر الفتن وأهلها، وأن لا يسلم قلبه للشبهات، فإنها تفتك بالقلوب فتكا، وحري بكل من عرضت له شبهة في هذا الباب أن يسأل أهل العلم فيها، وأن لا يُقدم على قول أو فعل ليس عنده فيه من شريعة الله تعالى حجة ظاهرة؛ فإن الحساب عسير، وإن حرمة الدماء المعصومة عظيمة، ولعظمتها عند الله تعالى كانت أول شيء يقضى فيه بين العباد يوم القيامة، ولا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما؛ كما صح ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام.
ولما ثارت الفتنة الأولى اعتزلها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فنزل فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره فقال: أسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)رواه مسلم.
ولما قيل له رضي الله عنه:(ألا تقاتل فإنك من أهل الشورى وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟ قال رضي الله عنه:لا أقاتلُ حتى يأتوني بسيف له عينان ولسانٌ وشفتان يعرف الكافر من المؤمن، قد جاهدت وأنا أعرف الجهاد)رواه الحاكم:وقال صحيح على شرط الشيخين.
ولما جاء الخواج إلى مطرف بن عبد الله وهو من كبار التابعين، ومن أعلمهم بالفتن، جاءوه يدعونه إلى رأيهم فقال رحمه الله تعالى:(يا هؤلاء، لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما وأمسكت الأخرى فإن كان الذي تقولون هدى أتبعتها الأخرى وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس ولكن هي نفس واحدة لا أغرر بها) فخذوا رحمكم الله تعالى من سير من سبقوكم عظات وعبرا؛ فإن القوم أتقى لله تعالى منا، وأعلم بالشريعة، وأسدُّ رأيا، وأحكم عقلا، والسعيد من لقي الله تعالى وليس لأحد عليه شيء، والشقي من تشربته الفتن فلقي الله تعالى يوم القيامة مفلسا بما عليه من حقوق العباد.
وصلوا وسلموا على نبيكم.....
----------------------
مربع (1):
جاء في تاريخ الطبري (3/32-33) ما نصه:(لما جاءت وفود أهل البصرة إلى أهل الكوفة ورجع القعقاع من عند أم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم جمع علي الناس ثم قام على الغرائر فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله ثم الذي يليه ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة وأرادوا رد الأشياء على أدبارها والله بالغ أمره ومصيب ما أراد ألا وإني راحل غدا فارتحلوا ألا ولا يرتحلن غدا أحد أعان على عثمان بشيء في شيء من أمور الناس وليغن السفهاء عني أنفسهم، فاجتمع نفر منهم علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة العبسي وشريح بن أوفى بن ضبيعة والأشتر في عدة ممن سار إلى عثمان ورضي بسير من سار وجاء معهم المصريون ابن السوداء وخالد بن ملحم وتشاوروا فقالوا ما الرأي وهذا والله علي وهو أبصر الناس بكتاب الله وأقرب ممن يطلب قتلة عثمان وأقربهم إلى العمل بذلك وهو يقول ما يقول ولم ينفر إليه إلا هم والقليل من غيرهم فكيف به إذا شام القوم وشاموه وإذا رأوا قلتنا في كثرتهم أنتم والله ترادون وما أنتم بأنجى من شيء فقال الأشتر أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم ورأي الناس فينا والله واحد وإن يصطلحوا وعلي فعلى دمائنا فهلموا فلنتواثب على علي فنلحقه بعثمان فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكون.
فقال عبدالله بن السوداء بئس الرأي رأيت أنتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة وهذا ابن الحنظلية وأصحابه في خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلا فارقأ على ظلعك
وقال علباء بن الهيثم انصرفوا بنا عنهم ودعوهم فإن قلوا كان أقوى لعدوهم عليهم وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم دعوهم وارجعوا فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تتقون به وامتنعوا من الناس فقال ابن السوداء بئس ما رأيت ود والله الناس أنكم على جديلة ولم تكونوا مع أقوام براء ولو كان ذلك الذي تقول لتخطفكم كل شيء فقال عدي بن حاتم والله ما رضيت ولا كرهت ولقد عجبت من تردد من تردد عن قتله في خوض الحديث فأما إذ وقع ما وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة فإن لنا عتادا من خيول وسلاح محمودا فإن أقدمتم أقدمنا وإن أمسكتم أحجمنا فقال ابن السوداء أحسنت
وقال سالم بن ثعلبة من كان أراد بما أتى الدنيا فإني لم أرد ذلك والله لئن لقيتهم غدا لا أرجع إلى بيتي ولئن طال بقائي إذا أنا لاقيتهم لا يزد على جزر جزور وأحلف بالله إنكم لتفرقون السيوف فرق قوم لا تصير أمورهم إلا إلى السيف فقال ابن السوداء قد قال قولا
وقال شريح بن أوفى أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا ولا تؤخروا أمرا ينبغي لكم تعجيله ولا تعجلوا أمرا ينبغي لكم تأخيره فإنا عند الناس بشر المنازل فلا أدري ما الناس صانعون غدا إذا ما هم التقوا تكلم ابن السوداءء فقال يا قوم إن عزكم في خلطة الناس فصانعوهم وإذا التقى الناس غدا فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر فإذا من أنتم معه لا يجد بدا من أن يمتنع ويشغل الله عليا وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون) وانظر: الفتنة ووقعة الجمل لسيف بن عمر (149) والكامل لابن الأثير(3/125).
وقال الطحاوي رحمه الله تعالى:فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي ولا من طلحة والزبير وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين ثم جرت فتنة صفين لرأي وهو أن أهل الشام لم يعدل عليهم أو لا يتمكن من العدل عليهم وهم كافون حتى يجتمع أمر الأمة وأنهم يخافون طغيان من في العسكر كما طغوا على الشهيد المظلوم )شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز(546).
وقال ابن حزم رحمه الله تعالى:( وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن كان معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا جددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذي علم على أن كل لك لم يكن فإذ لا شك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافا عليه ولا نقضا لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا ما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان- رضي الله عنه- ظلما وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتله عثمان إلا أن الأراغة والتدبير عليهم فبينوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم في دعوى حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدأ بها بالقتال واختلط الأمر اختلاطا لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يغترون من شن الحرب وأضر أمه فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها ورجع الزبير وترك الحرب بحالها وأتى طلحة سهم غاير وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الإختلاط فصادف جرحا في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدري رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف ومات من وقته رضي الله عنه وقتل الزبير رضي الله عنه بوادي السباع على أقل من يوم من البصرة فهكذا كان الأمر) الفصل في الملل (4/123).
وقال القرطبي في تفسيره (16/318-319):وقال جلة من أهل العلم إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به لأن الأمر كان قد انتظم بينهم
وتم الصلح والتفرق على الرضا فخاف قتلة -عثمان رضي الله عنه- من التمكين منهم والإحاطة بهم فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين ويبدءوا بالحرب سحرة في العسكرين وتختلف السهام بينهم ويصيح الفريق الذي في عسكر علي غدر طلحة والزبير والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير غدر علي فتم لهم ذلك على ما دبروه ونشبت الحرب فكان كل فريق دافعا لمكرته عند نفسه ومانعا من الإشاطة بدمه وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذه السبيل وهذا هو الصحيح المشهور والله أعلم).
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى