رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / محمد بن علي السعوي
الكسب
الخطبة الأولى
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقاته فإن تقواه سبحانه شعار المؤمنين ودثار المتقين ووصية الله للناس أجمعين، فاتـقوا الله تعالى في كل ما تأتون و تذرون، واتـقوا الله لعلكم تفلحون.
عـباد الله: لقد جبل الله عز وجل الخلق على حب المال ورَكَّب في الطباع الحرص على طلبه وتحصيله لأن به قوام حياة الناس و انتظام أمر معايشهم وتمام مصالحهم.
وقد جاء الشرع الحنيف بالحث على السعي في تحصيل المال واكتسابه على أنه وسيلة لغايات محمودة ومقاصد مشروعة، وجعـل للحصول عليه ضوابط وقواعـد واضحة المعالم لا يجوز تجاوزها ولا التعدي لحدودها كي تتحقق منه المصالح للفرد وللجماعة.
وقد أوجب الشارع على المسلم أن يطلب المال ويسعى في أسباب تحصيله مما أذن الله به وشرعه من طرق الكسب الحلال والعمل المباح حتى يستغني المرء به عن ذل السؤال للغير والحاجة للخلق؛ فطلب الرزق وتحصيله شرف للمؤمن وعزة للمسلم، به تُصان الأعراض وتحفظ الكرامة وبه يستعان على كثيرٍ من أعمال البر والطاعة فنعم المال الصالح للمرء الصالح، يقول الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف t: ( يا حبذا المال أصون به عرضي و أُرضي به ربي ).
الكسب الطيب والمال الحلال ينير القلب ويشرح الصدر و يورث الطمأنينة والسكينة والخشية من الله ويعين الجوارح على العبادة والطاعة، ومن أسباب قبول العمل الصالح وإجابة الدعاء.
أما الكسب الخبيث فإنه شؤم وبلاء على صاحبه؛ بسببه يقسو القلب وينطفئ نور الإيمان ويحل غضب الجبار ويمنع إجابة الدعاء، المال الحرام مستخبث الأصول ممحوق البركة والمحصول، إن صرفه صاحبه في برٍ لم يُؤجر، وإن بذله في نفعٍ لم يُشكر، ثم هو لأوزاره مُحتَمِل وعليه معاقب.
قال بعض الحكماء: شر المال ما لزمك إثم مكسبه وحُرمت أجر إنفاقه.
· · وفي الحديث عند الطبراني وغيره أن سعد بن أبي وقاص t قال: يا رسول الله: ادعوا الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له النبي e " يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذى نفس محمدٍ بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يُتقبل منه عملٌ أربعين صباحًا وأيما عبدٍ نبت لحمه من سحت فالنار أولى به ".
· · وروى مسلم في صحيحه: " أن رسول الله r ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك ؟ " فلقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة إلى ربه ما يدعو إلى رثاء حاله ويؤكد شدة افتقاره، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحَرَمَ نفسه من مدد الله وفضله، وحال بينه وبين قبول دعائه ما هو عليه من استعمال للحرام في المأكل والمشرب والملبس، وماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه وحُجب دعاؤه وحيل بينه وبين رحمة الله؟ ولذا كان السلف الصالح في غاية الخوف من أكل الحرام والمبالغة في التحذير منه حتى قال بعضهم:( لو قُمتَ في العبادة قيام السارية ما نفعك ذلك حتى تنظر فيما دخل بطنك).
· · وروى البخاري، عن عائشة -رضي الله عنها - قالت:( كان لأبي بكر الصديق t غلام فجاء له يومًا بشيء فأكل منه، فقال له الغلام: أتدري ما هذا ؟ فقال أبو بكر و ما هو؟ فقال: تكهنتُ لإنسان في الجاهلية وما أُحسنُ الكِهانة إلا أني خدعته فَلقينِي فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه) وفي رواية أنه قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، اللهم إني أبرؤ إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء.
· · ورُوي أن عمر بن الخطاب t شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه من أين لك هذا ؟ فقال مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء.
· · وأوصت إحدى الصالحات زوجها وقالت له: يا هذا، اتق الله في رزقنا فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.
وإن من العجب أن يحتمي بعض الناس من الحلال مخافة المرض ولا يحتمون من الحرام مخافة النار! وما ذاك إلا لقسوة القلوب واستيلاء الغفلة على النفوس وضعف الإيمان وقلة البصيرة في الدين.
عباد الله، إن للمكاسب المحرمة آثارًا سيئة على الفرد والمجتمع فإنها تُضعف الديانة وتعمي البصيرة، ومن أسباب محق البركة في الأرزاق وحلول المصائب والرزايا وحصول الأزمات المالية المستحكِمة والبطالة المتفشية وانتشار المحن والشحناء والعداء والبغضاء.
وإن مما يؤسى له عظيم الأسى أن في الناس من لا يتحاشون عن اكتساب المال الحرام وتحصيله من أي طريق وعبر أي وسيلة، إذ ليس لهم همٌّ إلا تكديس الأموال وتضخيم الثروات، فالحلال في عرفهم ما قدروا عليه والحرام ما تعذر وصولهم إليه، يسلكون في طلبه مسالك معوَّجة وسبلاً مشبوهة، بل وقد لا يكترثون من المجاهرة بالمكاسب الخبيثة والاستيلاء على الأموال المحرمة التي لا شبهة في تحريمها،حتى أصبح هذا المسلك المشين لشيوعه وانتشاره ظاهرة مألوفة في كثير من مجتمعات المسلمين، حيث فشا فيها أكل الربا وتعاطي الرشوة والغصب والسرقة، والمتاجرة بالمحرمات كالخمور والمخدرات وآلات اللهو والغناء ونحوها، وتطفيف المكاييل والموازين والغش والخداع في البيوع والمعاملات وإنفاق السلع بالأيمان الفاجرة، وأكل أموال اليتامى والقاصرين والاستيلاء على الحقوق والممتلكات واختلاس الأموال الخاصة والعامة بأساليب مختلفة وسبلٍ متنوعة بلا خوفٍ من الله ولا حياءٍ من عباد الله، في صور مهينة من صور البطر والأشر والجشع والطمع لدى بعض النفوس حين يضعف فيها وازع الإيمان وتتحلل من المروءة ومكارم الأخلاق، وإنه ليكاد يصدق على هذا الزمان ما جاء في الحديث عند البخاري وغيره: أن رسول الله r قال:" يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام" فأين هؤلاء عن قوارع التنزيل التي تُتلى والأحاديث التي تُروى في التحذير من أكل الحرام وبيان عاقبة صاحبه وسوء مصيره و منقلبه ؟ أليس لهم فيها مُدّكرٌ وواعظ ومزدجرٌ ورادع؟
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }محمد24.
· · يقول الحق جل وعلا في التحذير من الربا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ, فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }البقرة279
· · ويقول عز شأنه في بيان ما أعد من العذاب لأكلة أموال اليتامى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً }النساء10.
· · ويقول جل وعلا متوعدًا أهـل التطفيف للمكاييل والموازين:) {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ% الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ% وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ % أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ %لِيَوْمٍ عَظِيمٍ %يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }المطففين6.
· · وفي الحديث، عن أبي أمامة الحارثي t أن رسول الله r قال:" من اقتطع حق امرئ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يارسول الله، قال وإن كان قضيبًا من أراك" رواه مسلم في صحيحه.
· · ورُوي أيضًاعن عدي بن عميرة t قال سمعت رسول اللهr يقول:" من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة".
· · والله U يقول: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }آل عمران161.
فاتقوا الله عباد الله ولتجتنبوا ما حرم ربكم عليكم ونهاكم عنه من المكاسب الخبيثة و الأموال المحرمة ولتقنعوا بما أحل لكم من الطيبات ففي الحلال الغنية والكفاية والسعادة في الدنيا والآخرة، اللهم اغننا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك يا واسع الفضل والإحسان يا أكرم الأكرمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }البقرة172 نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فيا عباد الله ، اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أن من دلائل التوفيق، وأمارة السعادة والفلاح للعبد أن يكف عما حرم الله من المكاسب الخبيثة، وما نهى عنه من الأموال المحرمة، وأن يتورع عما يشتبه عليه من ذلك، حرصًا على سلامة دينه وصيانة عرضه،كما قال - عليه الصلاة والسلام - :" فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " رواه البخاري ومسلم .
وروى الترمذي وابن ماجه عنه r أنه قال : " لايبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذرًا مما به بأس".
وقال الإمام الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام .
ولتعلموا عباد الله أن المشتبهات يحصل للقلوب عندها قلق واضطراب يحمل على الشك والتردد في حِلها، والورِع من عباد الله يكون وقافًا عند المشتبهات، فيدع ما يريبه إلى ما لا يريبه فذلك مسلك الصالحين، ونهج المتقين، فاتقوا الله أيها المؤمنون، ولتستطيبوا مطاعمكم ومشاربكم وسائر مكاسبكم.
{وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }البقرة281.
ألا وصلوا عباد الله على نبي الرحمة والهدى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا بقوله : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد إمام المتقين وسيد الأولين والآخرين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعملون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وعنَّا معهم بعفوك ومنِّك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين .
اللهم آمنا في أوطاننا واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم لهداك واجعل عملهم في رضاك يا رب العالمين.
اللهم احفظ إمامنا بحفظك وأيده بتأييدك وأعز به دينك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين، اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل الطاعة، وُيذل فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك المضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وفي الشيشان وكشمير وغيرها من سائر الأوطان، اللهم كن لهم عونًا وظهيرًا، وهيئ لهم من لدنك وليًا ونصيرًا، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في فلسطين، اللهم سدد سهامهم وآراءهم اللهم ارحم ضعفهم واجبر كسرهم واشف مرضاهم واغفر لموتاهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك باليهود المعتدين وسائر الكفرة الظالمين، اللهم ألق الرعب في قلوبهم، وفرق جمعهم وشتت شملهم ، وأنزل بهم بأسك الذي لايرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز .
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولاتجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا، واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالغيث الشامل المدرار يا رب العالمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ %وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }النحل91.
فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الكسب
الخطبة الأولى
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقاته فإن تقواه سبحانه شعار المؤمنين ودثار المتقين ووصية الله للناس أجمعين، فاتـقوا الله تعالى في كل ما تأتون و تذرون، واتـقوا الله لعلكم تفلحون.
عـباد الله: لقد جبل الله عز وجل الخلق على حب المال ورَكَّب في الطباع الحرص على طلبه وتحصيله لأن به قوام حياة الناس و انتظام أمر معايشهم وتمام مصالحهم.
وقد جاء الشرع الحنيف بالحث على السعي في تحصيل المال واكتسابه على أنه وسيلة لغايات محمودة ومقاصد مشروعة، وجعـل للحصول عليه ضوابط وقواعـد واضحة المعالم لا يجوز تجاوزها ولا التعدي لحدودها كي تتحقق منه المصالح للفرد وللجماعة.
وقد أوجب الشارع على المسلم أن يطلب المال ويسعى في أسباب تحصيله مما أذن الله به وشرعه من طرق الكسب الحلال والعمل المباح حتى يستغني المرء به عن ذل السؤال للغير والحاجة للخلق؛ فطلب الرزق وتحصيله شرف للمؤمن وعزة للمسلم، به تُصان الأعراض وتحفظ الكرامة وبه يستعان على كثيرٍ من أعمال البر والطاعة فنعم المال الصالح للمرء الصالح، يقول الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف t: ( يا حبذا المال أصون به عرضي و أُرضي به ربي ).
الكسب الطيب والمال الحلال ينير القلب ويشرح الصدر و يورث الطمأنينة والسكينة والخشية من الله ويعين الجوارح على العبادة والطاعة، ومن أسباب قبول العمل الصالح وإجابة الدعاء.
أما الكسب الخبيث فإنه شؤم وبلاء على صاحبه؛ بسببه يقسو القلب وينطفئ نور الإيمان ويحل غضب الجبار ويمنع إجابة الدعاء، المال الحرام مستخبث الأصول ممحوق البركة والمحصول، إن صرفه صاحبه في برٍ لم يُؤجر، وإن بذله في نفعٍ لم يُشكر، ثم هو لأوزاره مُحتَمِل وعليه معاقب.
قال بعض الحكماء: شر المال ما لزمك إثم مكسبه وحُرمت أجر إنفاقه.
· · وفي الحديث عند الطبراني وغيره أن سعد بن أبي وقاص t قال: يا رسول الله: ادعوا الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له النبي e " يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذى نفس محمدٍ بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يُتقبل منه عملٌ أربعين صباحًا وأيما عبدٍ نبت لحمه من سحت فالنار أولى به ".
· · وروى مسلم في صحيحه: " أن رسول الله r ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك ؟ " فلقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة إلى ربه ما يدعو إلى رثاء حاله ويؤكد شدة افتقاره، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحَرَمَ نفسه من مدد الله وفضله، وحال بينه وبين قبول دعائه ما هو عليه من استعمال للحرام في المأكل والمشرب والملبس، وماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه وحُجب دعاؤه وحيل بينه وبين رحمة الله؟ ولذا كان السلف الصالح في غاية الخوف من أكل الحرام والمبالغة في التحذير منه حتى قال بعضهم:( لو قُمتَ في العبادة قيام السارية ما نفعك ذلك حتى تنظر فيما دخل بطنك).
· · وروى البخاري، عن عائشة -رضي الله عنها - قالت:( كان لأبي بكر الصديق t غلام فجاء له يومًا بشيء فأكل منه، فقال له الغلام: أتدري ما هذا ؟ فقال أبو بكر و ما هو؟ فقال: تكهنتُ لإنسان في الجاهلية وما أُحسنُ الكِهانة إلا أني خدعته فَلقينِي فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه) وفي رواية أنه قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، اللهم إني أبرؤ إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء.
· · ورُوي أن عمر بن الخطاب t شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه من أين لك هذا ؟ فقال مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء.
· · وأوصت إحدى الصالحات زوجها وقالت له: يا هذا، اتق الله في رزقنا فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.
وإن من العجب أن يحتمي بعض الناس من الحلال مخافة المرض ولا يحتمون من الحرام مخافة النار! وما ذاك إلا لقسوة القلوب واستيلاء الغفلة على النفوس وضعف الإيمان وقلة البصيرة في الدين.
عباد الله، إن للمكاسب المحرمة آثارًا سيئة على الفرد والمجتمع فإنها تُضعف الديانة وتعمي البصيرة، ومن أسباب محق البركة في الأرزاق وحلول المصائب والرزايا وحصول الأزمات المالية المستحكِمة والبطالة المتفشية وانتشار المحن والشحناء والعداء والبغضاء.
وإن مما يؤسى له عظيم الأسى أن في الناس من لا يتحاشون عن اكتساب المال الحرام وتحصيله من أي طريق وعبر أي وسيلة، إذ ليس لهم همٌّ إلا تكديس الأموال وتضخيم الثروات، فالحلال في عرفهم ما قدروا عليه والحرام ما تعذر وصولهم إليه، يسلكون في طلبه مسالك معوَّجة وسبلاً مشبوهة، بل وقد لا يكترثون من المجاهرة بالمكاسب الخبيثة والاستيلاء على الأموال المحرمة التي لا شبهة في تحريمها،حتى أصبح هذا المسلك المشين لشيوعه وانتشاره ظاهرة مألوفة في كثير من مجتمعات المسلمين، حيث فشا فيها أكل الربا وتعاطي الرشوة والغصب والسرقة، والمتاجرة بالمحرمات كالخمور والمخدرات وآلات اللهو والغناء ونحوها، وتطفيف المكاييل والموازين والغش والخداع في البيوع والمعاملات وإنفاق السلع بالأيمان الفاجرة، وأكل أموال اليتامى والقاصرين والاستيلاء على الحقوق والممتلكات واختلاس الأموال الخاصة والعامة بأساليب مختلفة وسبلٍ متنوعة بلا خوفٍ من الله ولا حياءٍ من عباد الله، في صور مهينة من صور البطر والأشر والجشع والطمع لدى بعض النفوس حين يضعف فيها وازع الإيمان وتتحلل من المروءة ومكارم الأخلاق، وإنه ليكاد يصدق على هذا الزمان ما جاء في الحديث عند البخاري وغيره: أن رسول الله r قال:" يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام" فأين هؤلاء عن قوارع التنزيل التي تُتلى والأحاديث التي تُروى في التحذير من أكل الحرام وبيان عاقبة صاحبه وسوء مصيره و منقلبه ؟ أليس لهم فيها مُدّكرٌ وواعظ ومزدجرٌ ورادع؟
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }محمد24.
· · يقول الحق جل وعلا في التحذير من الربا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ, فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }البقرة279
· · ويقول عز شأنه في بيان ما أعد من العذاب لأكلة أموال اليتامى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً }النساء10.
· · ويقول جل وعلا متوعدًا أهـل التطفيف للمكاييل والموازين:) {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ% الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ% وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ % أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ %لِيَوْمٍ عَظِيمٍ %يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }المطففين6.
· · وفي الحديث، عن أبي أمامة الحارثي t أن رسول الله r قال:" من اقتطع حق امرئ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يارسول الله، قال وإن كان قضيبًا من أراك" رواه مسلم في صحيحه.
· · ورُوي أيضًاعن عدي بن عميرة t قال سمعت رسول اللهr يقول:" من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة".
· · والله U يقول: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }آل عمران161.
فاتقوا الله عباد الله ولتجتنبوا ما حرم ربكم عليكم ونهاكم عنه من المكاسب الخبيثة و الأموال المحرمة ولتقنعوا بما أحل لكم من الطيبات ففي الحلال الغنية والكفاية والسعادة في الدنيا والآخرة، اللهم اغننا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك يا واسع الفضل والإحسان يا أكرم الأكرمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }البقرة172 نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشكره،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فيا عباد الله ، اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أن من دلائل التوفيق، وأمارة السعادة والفلاح للعبد أن يكف عما حرم الله من المكاسب الخبيثة، وما نهى عنه من الأموال المحرمة، وأن يتورع عما يشتبه عليه من ذلك، حرصًا على سلامة دينه وصيانة عرضه،كما قال - عليه الصلاة والسلام - :" فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " رواه البخاري ومسلم .
وروى الترمذي وابن ماجه عنه r أنه قال : " لايبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذرًا مما به بأس".
وقال الإمام الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام .
ولتعلموا عباد الله أن المشتبهات يحصل للقلوب عندها قلق واضطراب يحمل على الشك والتردد في حِلها، والورِع من عباد الله يكون وقافًا عند المشتبهات، فيدع ما يريبه إلى ما لا يريبه فذلك مسلك الصالحين، ونهج المتقين، فاتقوا الله أيها المؤمنون، ولتستطيبوا مطاعمكم ومشاربكم وسائر مكاسبكم.
{وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }البقرة281.
ألا وصلوا عباد الله على نبي الرحمة والهدى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا بقوله : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد إمام المتقين وسيد الأولين والآخرين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعملون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وعنَّا معهم بعفوك ومنِّك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين .
اللهم آمنا في أوطاننا واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم لهداك واجعل عملهم في رضاك يا رب العالمين.
اللهم احفظ إمامنا بحفظك وأيده بتأييدك وأعز به دينك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين، اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل الطاعة، وُيذل فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك المضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وفي الشيشان وكشمير وغيرها من سائر الأوطان، اللهم كن لهم عونًا وظهيرًا، وهيئ لهم من لدنك وليًا ونصيرًا، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في فلسطين، اللهم سدد سهامهم وآراءهم اللهم ارحم ضعفهم واجبر كسرهم واشف مرضاهم واغفر لموتاهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك باليهود المعتدين وسائر الكفرة الظالمين، اللهم ألق الرعب في قلوبهم، وفرق جمعهم وشتت شملهم ، وأنزل بهم بأسك الذي لايرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز .
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولاتجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا، واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالغيث الشامل المدرار يا رب العالمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ %وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }النحل91.
فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى