رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
الإمامة والبيعة في الإسلام
الخطبة الأولى
الحمد لله؛ خلق الخلق فدبرهم، وكلف الجن والإنس فهداهم، أحمده على ما أزجى من نعم، وأشكره على ما دفع من نقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقدوتنا محمدا عبد الله ورسوله؛ أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله تعالى بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة، وأنقذ به من الغواية، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوه حق التقوى، واعتبروا بمن قد مضى، ولا تغتروا بالدنيا؛ فإنها مهما رفعت وضعت، ومهما أغنت أفقرت، ومهما أضحكت أبكت، ومهما أبقت أفنت {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }فاطر6.
أيها الناس: حاجة الناس إلى من يسوسهم، ويتولى شؤونهم، كحاجتهم إلى ضروراتهم، بل إن ضروراتهم لا تتحقق، ولا تستقيم أحوالهم، ولا يهنئون في عيشهم إلا برأس يحكمهم.
وعلى هذا الأمر الضروري تواضع البشر واتفقوا منذ الأزمان الغابرة، إلى زمن الحضارة المعاصرة، ولم ينقل خلاف ذلك إلا في مذاهب نظرية، مبناها على فلسفات مثالية، قالها بعض الفلاسفة والمبتدعة قديما، ثم أحياها في العصر الحديث بعض المفكرين الغربيين فيما يعرف بالمذاهب الفوضوية التي ينادي أتباعها بإلغاء الملكية الفردية بدعوى أنها مبعث الظلم، كما يهتفون بالثورة على كل سلطة منظمة، وبالأخص نظام الدولة بحجة أنها أداة الاستبداد في كل نظام اجتماعي.
ولم يطبق هذا الشذوذ النظري عمليا في تاريخ البشر؛ لأنه لا يمكن العمل به على أرض الواقع، فاتخذ الناس على اختلاف مللهم وأديانهم، ومكانهم وزمانهم، اتخذوا رؤوسا تحكمهم ، وتدير شؤونهم، وتقضي بينهم، ولم يتخلف بشر في أي زمان أو مكان عن ذلك، ولم يمنع منه إطباق جهل، أو قلة معرفة، أو انزواء في أرض قفر، أو جبل وعر، أو عيش في أدغال مجهولة، أو جزر مهجورة؛ فالجهلة العراة في الأدغال يحكمهم كبيرهم أو قويهم، على ما هم فيه من الجهل والتخلف، والقبائل في الجاهلية لها مشايخ يصدر عنها الأمر والنهي فتمتثل القبيلة لذلك، ومن قرأ التاريخ البشري، وتأمل واقع البشر وأخلاقهم وصفاتهم بان له أن هذه القضية ضرورة بدهية لا تحتاج إلى جدال أو إثبات.
ولما أنعم الله تعالى على البشرية بإرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ كانت الرسل عليهم السلام تسوس الناس بالهدى الذي أنزل عليها، وكان أتباع الرسل يسيرون سيرتهم في ذلك، حتى يغلب الشيطان عليهم فيحرفهم عن شريعة الله تعالى إلى أهوائهم .
ولما ختمت النبوات ببعثة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وقضى الله عز وجل أن يكون دينه قائما إلى آخر الزمان؛ كان لزاما على المسلمين حكاما ومحكومين أن يستمسكوا بدينه، ويلتزموا سنته في شئونهم كلها، ومنها شئون الحكم والسياسة التي كثر في هذا الزمن الخوض فيها بلا علم، وضاع كثير من الناس في قيلها وقالها بين مشرقين ومغربين بحسب ما يصل إليهم من وسائل الإعلام.
وقد جاء بيان ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال:فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم)متفق عليه.
إن نصب إمام للناس يسوسهم من أهم المهمات، وأوجب الواجبات، كيف وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أقل الجماعة في السفر أن يؤمروا عليهم واحدا منهم؛ كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)رواه أبو داود.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -:(فإذا كان قد أوجب عليهم في أقل الجماعات، وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم؛ كان هذا تشبيها على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك؛ ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها دينا يتقرب به إلى الله تعالى، ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان من أفضل الأعمال الصالحة)اه
ولأهمية نصب إمام يسوس الناس بادر الصحابة - رضي الله عنهم - بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاجتماع في السقيفة، واختاروا أبا بكر- رضي الله عنه - خليفة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزال مسجى بينهم، فلم يشتغلوا بتجهيزه ودفنه عن هذا الأمر العظيم الذي يتقرر به مصير الأمة، ولا ردهم مصابهم الجلل بفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نصب إمام يسوسهم.
وتنصيب الإمام إما أن يكون بعهد من الإمام السابق إلى اللاحق، وترضى الأمة ذلك؛ كما عهد أبو بكر بالخلافة لعمر- رضي الله عنهما-، وهذه طريقة شرعية لا نزاع فيها؛ كما قال الماوردي - رحمه الله تعالى -:(وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الإجماع على جوازه ووقع الاتفاق على صحته).
أو يكون تنصيب الإمام اختيارا من أهل الحل والعقد يختارون الأصلح لذلك؛ كما فعل عمر- رضي الله عنه- حين جعل الأمر بين ستة من كبار الصحابة - رضي الله عنهم -، فانتهى الأمر إلى اختيار عثمان - رضي الله عنه -.
أو يكون تنصيبه بالقهر والغلبة؛ كما يقع فيما يسمى بالانقلابات العسكرية في العالم المعاصر، فإذا استقر له الأمر، وغلب على الحكم؛ وجبت طاعته، واعترف بإمامته، وهذا أيضا محل إجماع من العلماء، قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - : (ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما).
وقال الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى -:(أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء).
وهذا الحكم في الإمام المتغلب هو لمصلحة الناس؛ إذ لو رفضوا مبايعته لأنه أخذ الإمارة غصبا لأدى ذلك إلى سفك دمائهم، وحلت بسببه الفوضى في الناس، فلا يأمنون على أنفسهم ولا أعراضهم ولا أموالهم.
وقد يبدوا لبعض الناس أن هذا الحكم الشرعي يكرس الاستبداد، وربما طعن به بعض المفتونون في دين الإسلام، وليس الأمر كما يظنون؛ فدين الله تعالى لا يقر طلب الإمارة، ولا استشراف النفس لها، فضلا عن غصبها، وقهر الناس عليها، ولكن إذا وقع ذلك من بعض المستبدين، واستقر له الأمر وجبت بيعته؛ لدرء مفاسد سفك الدماء، وإحلال الفوضى، ولتحقيق مصالح المسلمين باجتماع كلمتهم، وإحلال الأمن في أوساطهم، فالقبول به من باب الضرورة وليس في ذلك إقرار له على غصبه.
وإذا نصب الإمام بعهد ممن كان قبله، أو باختيار أهل الحل والعقد، أو تغلب على السلطة بالقهر والقوة؛ وجبت مبايعته البيعة الشرعية التي تتضمن الطاعة في المعروف، وعدم المنازعة في السلطة.. يبايعه على ذلك كبار القوم، وعامة الناس لهم فيه تبع. وهذه البيعة عهد عظيم، وميثاق غليظ، يجب الوفاء به ديانة لله تعالى.
يقول المؤرخ ابن خلدون - رحمه الله تعالى - :(اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة؛ كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما كلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده؛ تأكيدا للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي. هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع، وهو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وعند الشجرة).
وتتضمن هذه البيعة ما جاء في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال:(بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان) وفي رواية:(وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، وألا نخاف في الله لومة لائم)متفق عليه .
والسمع والطاعة تكون حسب القدرة والاستطاعة؛ كما في الأوامر الشرعية الأخرى؛ فإن الله تعالى قد أوجبها على المكلف حسب قدرته {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}البقرة286 {اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا }الطلاق7 وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:(كنا نبايع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، يقول لنا: فيما استطعت)رواه مسلم.وفي حديث جرير- رضي الله عنه- قال:(على السمع والطاعة فلقنه رسول الله صلى الله عليه وسلم :فيما استطعت، والنصح لكل مسلم)متفق عليه.
ولا فائدة من البيعة إذا لم تنتج الطاعة عنها ؛ إذ المقصود أن تكون جهة الأمر والنهي واحدة؛ لتستقيم أحوال البلاد، وتنتظم مصالح العباد، ويجتمعوا على كلمة سواء، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:(لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا أمير، ولا أمير بلا طاعة).
ومن بايع إمامه لزمه الوفاء بمقتضى البيعة، وعدم نكث هذا العهد؛ لأمر الله تعالى بالوفاء بالعهود والمواثيق، ومن أعظمها البيعة:(وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون).
وإذا رأت الرعية من الإمام ما تكره لم يكن لها نكث البيعة، ولا نزع يد من طاعة؛ إلا في حالة الكفر البواح الظاهر، بعد إقامة الحجة، وإيضاح المحجة. والطاعة لم يقصرها النبي صلى الله عليه وسلم على ما تحب الرعية، بل أوجبها فيما تحب وتكره إلا الأمر بالمعصية، قال - عليه الصلاة والسلام -:(على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)رواه البخاري.
وليس معنى ذلك أن الشريعة تقر خطأ الحاكم إذا أخطأ، وترفع عنه المحاسبة؛ إذ الواجب مع السمع والطاعة: الصبر والنصيحة والاحتساب على الحاكم مع الدعاء له.
أما الصبر فبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية)متفق عليه.
والمراد بالمفارقة: السعي على حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير.
وأما النصيحة فقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسلم، فكيف بالإمام الأعظم؟!
وجاء تخصيص الإمام بها في أحاديث عدة منها : حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)رواه أحمد.
وقال -عليه الصلاة والسلام - :( إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - :( فقد جمع في هذه الأحاديث بين الخصال الثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة.
وأما الاحتساب على الإمام إذا أخطأ فشواهده من فعل الصحابة- رضي الله عنهم- أكثر من أن تحصر، بل كان الخلفاء يطلبون ذلك من رعيتهم؛ كما قال أبو بكر الصديق- رضي الله عنه - في خطبة بيعته بالخلافة:(فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني). بل كان الصحابة - رضي الله عنهم - يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من أوامره وهو المؤيد بالوحي، المعصوم من الخطأ؛ حتى إذا رأوا عزيمته امتثلوا، وكان -عليه الصلاة والسلام- يقرهم في ذلك.
وأما الدعاء فهو من أسباب رفع البلاء، وصلاح السلطان، ورجوعه عن خطئه إذا أخطأ وروجع في ذلك، وقد اشتهر عن الأئمة المتبوعين من السلف الصالح فعل ذلك؛ كما قال الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى-:(لو أن لي دعوةً مستجابة لجعلتها للإمام؛ لأن به صلاح الرعية، فإذا صلح أمنت العباد والبلاد).
وينتظم أمر الراعي والرعية بالعمل بشرع الله تعالى، وتحكيم الكتاب والسنة عند الاختلاف، والوفاء بالعهود، والقيام بالفروض، وأداء الحقوق على وفق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }النساء59.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يجعلنا من عباده المتقين، وأن يصلح أحوال المسلمين.
وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأخلصوا له الدين.
أيها المسلمون: قضية تنصيب إمام، ومبايعته على الكتاب والسنة؛ هي قضية شرعية يتعبد المسلم بها لربه كما يتعبد له بالعبادات الأخرى.
ولا يجوز للمسلم أن يحول هذه الشعيرة العظيمة إلى مجال من مجالات الكسب المادي؛ يقصد بها مالا أو جاها أو منفعة عاجلة؛ فإذا ما كان أمام الملأ، أو عند الولاة؛ أعلن ولاءه وطاعته لهم، والله تعالى أعلم بما يكنه لهم من الحسد لهم، والحقد عليهم، والغيرة منهم لأجل الدنيا؛ فهذا ليس بناصح ولو أظهر النصح؛ لأنه أناني الطبع يسير مع مصالحه ولو كان فيها غش الإمام والعباد والبلاد، ولا يفلح ولو نال شيئا من مال أو جاه، وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم من الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم:(رجلا بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط)رواه الشيخان.
ومنازعة الإمام في سلطانه لا خير فيها، وهي موجبة لقتل من نازعه في ذلك، فقتله خير من وقوع فتنة تسفك فيها الدماء، وتنتهك الأعراض، وتسلب الأموال، ويرفع الأمن ويقع الخوف.
روى عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)رواه مسلم.
والمخلص في بيعته من يؤدي ما أوجب الله تعالى عليه من السمع والطاعة، ولو أوثر غيره بجاه أو مال منع هو منه؛ إذ إنه لا يريد ببيعته إلا رضا الله تعالى، ولا يطلب بها حظا من حظوظ الدنيا، وبذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:(إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك ذلك منا؟ قال:(تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الحق الذي لكم)متفق عليه.
وأما ما يسمى في النظم السياسية المعاصرة بالمعارضة فلا خير فيها، وهي معارضة لما جاء في شريعة الله تعالى؛ لأنها أسست على مصالح الدنيا فحسب، ولم تراع الجزاء الأخروي والمصالح الشرعية؛ وهي ما خرجت إلا من النظام السياسي المادي الإلحادي الذي لا يقيم للعالم الغيبي أي وزن، وبنيت على الأفكار الذرائعية النفعية؛ فالسمع والطاعة، مع الصبر والمناصحة، والاحتساب على الحاكم، والدعاء بصلاحه خير من المعارضة سواء كانت المعارضة سلمية أم كانت خروجا مسلحا؛ لأنها سبب للفساد، وسفك الدماء، ويمتطيها الأعداء؛ لإضعاف البلاد، وربما احتلالها، ونهب خيراتها،ونشر الفساد فيها ؛ كما حصل في بلاد الأفغان والعراق.
والباعث على ما يسمى بالمعارضة أغراض دنيوية في الغالب، وأصحابها يُمَنُون أتباعهم والهاتفين لهم ويعدونهم، وما يعدونهم إلا غرورا؛ حتى إذا حققوا مرادهم، وزعزعوا أمن بلادهم، ووصلوا إلى ما يريدون من إسقاط حكومتهم، وصاروا هم في مواقع المسئولية؛ نكثوا ما وعدوا ، وصاروا على أتباعهم أعتى ممن كانوا قبلهم، وشواهد ذلك في هذا الزمن كثيرة، سواء في الأنظمة الجمهورية التي قضت على الأنظمة الملكية، أو في عصابات المعارضة التي مكن لها الأعداء ليكونوا ألعوبة في أيديهم، يعبثون بثروات بلدانهم، ويفقرون شعوبهم.
فاحمدوا الله تعالى الذي عافاكم وعافى بلادكم من هذه الشرور العظيمة، وأقيموا دينكم لله تعالى، واسألوه دوام الأمن والاستقرار، وصلاح الراعي والرعية، وقد قال الحكماء:(ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان).ومن أبصر أحوال أهل العراق أيقن صحة هذه المقولة.
أسأل الله تعالى أن يصلح ولاة أمرنا وولاة المسلمين أجمعين، وأن يفتح على قلوبهم، وينير بصائرهم، ويجعلهم رحمة لرعاياهم، وأن يرزقهم البطانة الصالحة، التي تحتسب عليهم، وتذكرهم إذا نسوا، وتنبههم إذا غفلوا، وتعينهم على نوائب الحق. كما أسأله تبارك وتعالى أن يبعد عنهم بطانة السوء من المنافقين والنفعيين، وأن يفضحهم لهم، ويبدلهم بهم خيرا منهم، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين
الإمامة والبيعة في الإسلام
الخطبة الأولى
الحمد لله؛ خلق الخلق فدبرهم، وكلف الجن والإنس فهداهم، أحمده على ما أزجى من نعم، وأشكره على ما دفع من نقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقدوتنا محمدا عبد الله ورسوله؛ أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله تعالى بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة، وأنقذ به من الغواية، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوه حق التقوى، واعتبروا بمن قد مضى، ولا تغتروا بالدنيا؛ فإنها مهما رفعت وضعت، ومهما أغنت أفقرت، ومهما أضحكت أبكت، ومهما أبقت أفنت {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }فاطر6.
أيها الناس: حاجة الناس إلى من يسوسهم، ويتولى شؤونهم، كحاجتهم إلى ضروراتهم، بل إن ضروراتهم لا تتحقق، ولا تستقيم أحوالهم، ولا يهنئون في عيشهم إلا برأس يحكمهم.
وعلى هذا الأمر الضروري تواضع البشر واتفقوا منذ الأزمان الغابرة، إلى زمن الحضارة المعاصرة، ولم ينقل خلاف ذلك إلا في مذاهب نظرية، مبناها على فلسفات مثالية، قالها بعض الفلاسفة والمبتدعة قديما، ثم أحياها في العصر الحديث بعض المفكرين الغربيين فيما يعرف بالمذاهب الفوضوية التي ينادي أتباعها بإلغاء الملكية الفردية بدعوى أنها مبعث الظلم، كما يهتفون بالثورة على كل سلطة منظمة، وبالأخص نظام الدولة بحجة أنها أداة الاستبداد في كل نظام اجتماعي.
ولم يطبق هذا الشذوذ النظري عمليا في تاريخ البشر؛ لأنه لا يمكن العمل به على أرض الواقع، فاتخذ الناس على اختلاف مللهم وأديانهم، ومكانهم وزمانهم، اتخذوا رؤوسا تحكمهم ، وتدير شؤونهم، وتقضي بينهم، ولم يتخلف بشر في أي زمان أو مكان عن ذلك، ولم يمنع منه إطباق جهل، أو قلة معرفة، أو انزواء في أرض قفر، أو جبل وعر، أو عيش في أدغال مجهولة، أو جزر مهجورة؛ فالجهلة العراة في الأدغال يحكمهم كبيرهم أو قويهم، على ما هم فيه من الجهل والتخلف، والقبائل في الجاهلية لها مشايخ يصدر عنها الأمر والنهي فتمتثل القبيلة لذلك، ومن قرأ التاريخ البشري، وتأمل واقع البشر وأخلاقهم وصفاتهم بان له أن هذه القضية ضرورة بدهية لا تحتاج إلى جدال أو إثبات.
ولما أنعم الله تعالى على البشرية بإرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ كانت الرسل عليهم السلام تسوس الناس بالهدى الذي أنزل عليها، وكان أتباع الرسل يسيرون سيرتهم في ذلك، حتى يغلب الشيطان عليهم فيحرفهم عن شريعة الله تعالى إلى أهوائهم .
ولما ختمت النبوات ببعثة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وقضى الله عز وجل أن يكون دينه قائما إلى آخر الزمان؛ كان لزاما على المسلمين حكاما ومحكومين أن يستمسكوا بدينه، ويلتزموا سنته في شئونهم كلها، ومنها شئون الحكم والسياسة التي كثر في هذا الزمن الخوض فيها بلا علم، وضاع كثير من الناس في قيلها وقالها بين مشرقين ومغربين بحسب ما يصل إليهم من وسائل الإعلام.
وقد جاء بيان ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال:فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم)متفق عليه.
إن نصب إمام للناس يسوسهم من أهم المهمات، وأوجب الواجبات، كيف وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أقل الجماعة في السفر أن يؤمروا عليهم واحدا منهم؛ كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)رواه أبو داود.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -:(فإذا كان قد أوجب عليهم في أقل الجماعات، وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم؛ كان هذا تشبيها على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك؛ ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها دينا يتقرب به إلى الله تعالى، ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان من أفضل الأعمال الصالحة)اه
ولأهمية نصب إمام يسوس الناس بادر الصحابة - رضي الله عنهم - بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاجتماع في السقيفة، واختاروا أبا بكر- رضي الله عنه - خليفة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزال مسجى بينهم، فلم يشتغلوا بتجهيزه ودفنه عن هذا الأمر العظيم الذي يتقرر به مصير الأمة، ولا ردهم مصابهم الجلل بفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نصب إمام يسوسهم.
وتنصيب الإمام إما أن يكون بعهد من الإمام السابق إلى اللاحق، وترضى الأمة ذلك؛ كما عهد أبو بكر بالخلافة لعمر- رضي الله عنهما-، وهذه طريقة شرعية لا نزاع فيها؛ كما قال الماوردي - رحمه الله تعالى -:(وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الإجماع على جوازه ووقع الاتفاق على صحته).
أو يكون تنصيب الإمام اختيارا من أهل الحل والعقد يختارون الأصلح لذلك؛ كما فعل عمر- رضي الله عنه- حين جعل الأمر بين ستة من كبار الصحابة - رضي الله عنهم -، فانتهى الأمر إلى اختيار عثمان - رضي الله عنه -.
أو يكون تنصيبه بالقهر والغلبة؛ كما يقع فيما يسمى بالانقلابات العسكرية في العالم المعاصر، فإذا استقر له الأمر، وغلب على الحكم؛ وجبت طاعته، واعترف بإمامته، وهذا أيضا محل إجماع من العلماء، قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - : (ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما).
وقال الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى -:(أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء).
وهذا الحكم في الإمام المتغلب هو لمصلحة الناس؛ إذ لو رفضوا مبايعته لأنه أخذ الإمارة غصبا لأدى ذلك إلى سفك دمائهم، وحلت بسببه الفوضى في الناس، فلا يأمنون على أنفسهم ولا أعراضهم ولا أموالهم.
وقد يبدوا لبعض الناس أن هذا الحكم الشرعي يكرس الاستبداد، وربما طعن به بعض المفتونون في دين الإسلام، وليس الأمر كما يظنون؛ فدين الله تعالى لا يقر طلب الإمارة، ولا استشراف النفس لها، فضلا عن غصبها، وقهر الناس عليها، ولكن إذا وقع ذلك من بعض المستبدين، واستقر له الأمر وجبت بيعته؛ لدرء مفاسد سفك الدماء، وإحلال الفوضى، ولتحقيق مصالح المسلمين باجتماع كلمتهم، وإحلال الأمن في أوساطهم، فالقبول به من باب الضرورة وليس في ذلك إقرار له على غصبه.
وإذا نصب الإمام بعهد ممن كان قبله، أو باختيار أهل الحل والعقد، أو تغلب على السلطة بالقهر والقوة؛ وجبت مبايعته البيعة الشرعية التي تتضمن الطاعة في المعروف، وعدم المنازعة في السلطة.. يبايعه على ذلك كبار القوم، وعامة الناس لهم فيه تبع. وهذه البيعة عهد عظيم، وميثاق غليظ، يجب الوفاء به ديانة لله تعالى.
يقول المؤرخ ابن خلدون - رحمه الله تعالى - :(اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة؛ كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما كلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده؛ تأكيدا للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي. هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع، وهو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وعند الشجرة).
وتتضمن هذه البيعة ما جاء في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال:(بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان) وفي رواية:(وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، وألا نخاف في الله لومة لائم)متفق عليه .
والسمع والطاعة تكون حسب القدرة والاستطاعة؛ كما في الأوامر الشرعية الأخرى؛ فإن الله تعالى قد أوجبها على المكلف حسب قدرته {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}البقرة286 {اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا }الطلاق7 وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:(كنا نبايع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، يقول لنا: فيما استطعت)رواه مسلم.وفي حديث جرير- رضي الله عنه- قال:(على السمع والطاعة فلقنه رسول الله صلى الله عليه وسلم :فيما استطعت، والنصح لكل مسلم)متفق عليه.
ولا فائدة من البيعة إذا لم تنتج الطاعة عنها ؛ إذ المقصود أن تكون جهة الأمر والنهي واحدة؛ لتستقيم أحوال البلاد، وتنتظم مصالح العباد، ويجتمعوا على كلمة سواء، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:(لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا أمير، ولا أمير بلا طاعة).
ومن بايع إمامه لزمه الوفاء بمقتضى البيعة، وعدم نكث هذا العهد؛ لأمر الله تعالى بالوفاء بالعهود والمواثيق، ومن أعظمها البيعة:(وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون).
وإذا رأت الرعية من الإمام ما تكره لم يكن لها نكث البيعة، ولا نزع يد من طاعة؛ إلا في حالة الكفر البواح الظاهر، بعد إقامة الحجة، وإيضاح المحجة. والطاعة لم يقصرها النبي صلى الله عليه وسلم على ما تحب الرعية، بل أوجبها فيما تحب وتكره إلا الأمر بالمعصية، قال - عليه الصلاة والسلام -:(على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)رواه البخاري.
وليس معنى ذلك أن الشريعة تقر خطأ الحاكم إذا أخطأ، وترفع عنه المحاسبة؛ إذ الواجب مع السمع والطاعة: الصبر والنصيحة والاحتساب على الحاكم مع الدعاء له.
أما الصبر فبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية)متفق عليه.
والمراد بالمفارقة: السعي على حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير.
وأما النصيحة فقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسلم، فكيف بالإمام الأعظم؟!
وجاء تخصيص الإمام بها في أحاديث عدة منها : حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)رواه أحمد.
وقال -عليه الصلاة والسلام - :( إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - :( فقد جمع في هذه الأحاديث بين الخصال الثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة.
وأما الاحتساب على الإمام إذا أخطأ فشواهده من فعل الصحابة- رضي الله عنهم- أكثر من أن تحصر، بل كان الخلفاء يطلبون ذلك من رعيتهم؛ كما قال أبو بكر الصديق- رضي الله عنه - في خطبة بيعته بالخلافة:(فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني). بل كان الصحابة - رضي الله عنهم - يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من أوامره وهو المؤيد بالوحي، المعصوم من الخطأ؛ حتى إذا رأوا عزيمته امتثلوا، وكان -عليه الصلاة والسلام- يقرهم في ذلك.
وأما الدعاء فهو من أسباب رفع البلاء، وصلاح السلطان، ورجوعه عن خطئه إذا أخطأ وروجع في ذلك، وقد اشتهر عن الأئمة المتبوعين من السلف الصالح فعل ذلك؛ كما قال الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى-:(لو أن لي دعوةً مستجابة لجعلتها للإمام؛ لأن به صلاح الرعية، فإذا صلح أمنت العباد والبلاد).
وينتظم أمر الراعي والرعية بالعمل بشرع الله تعالى، وتحكيم الكتاب والسنة عند الاختلاف، والوفاء بالعهود، والقيام بالفروض، وأداء الحقوق على وفق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }النساء59.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يجعلنا من عباده المتقين، وأن يصلح أحوال المسلمين.
وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأخلصوا له الدين.
أيها المسلمون: قضية تنصيب إمام، ومبايعته على الكتاب والسنة؛ هي قضية شرعية يتعبد المسلم بها لربه كما يتعبد له بالعبادات الأخرى.
ولا يجوز للمسلم أن يحول هذه الشعيرة العظيمة إلى مجال من مجالات الكسب المادي؛ يقصد بها مالا أو جاها أو منفعة عاجلة؛ فإذا ما كان أمام الملأ، أو عند الولاة؛ أعلن ولاءه وطاعته لهم، والله تعالى أعلم بما يكنه لهم من الحسد لهم، والحقد عليهم، والغيرة منهم لأجل الدنيا؛ فهذا ليس بناصح ولو أظهر النصح؛ لأنه أناني الطبع يسير مع مصالحه ولو كان فيها غش الإمام والعباد والبلاد، ولا يفلح ولو نال شيئا من مال أو جاه، وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم من الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم:(رجلا بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط)رواه الشيخان.
ومنازعة الإمام في سلطانه لا خير فيها، وهي موجبة لقتل من نازعه في ذلك، فقتله خير من وقوع فتنة تسفك فيها الدماء، وتنتهك الأعراض، وتسلب الأموال، ويرفع الأمن ويقع الخوف.
روى عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)رواه مسلم.
والمخلص في بيعته من يؤدي ما أوجب الله تعالى عليه من السمع والطاعة، ولو أوثر غيره بجاه أو مال منع هو منه؛ إذ إنه لا يريد ببيعته إلا رضا الله تعالى، ولا يطلب بها حظا من حظوظ الدنيا، وبذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:(إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك ذلك منا؟ قال:(تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الحق الذي لكم)متفق عليه.
وأما ما يسمى في النظم السياسية المعاصرة بالمعارضة فلا خير فيها، وهي معارضة لما جاء في شريعة الله تعالى؛ لأنها أسست على مصالح الدنيا فحسب، ولم تراع الجزاء الأخروي والمصالح الشرعية؛ وهي ما خرجت إلا من النظام السياسي المادي الإلحادي الذي لا يقيم للعالم الغيبي أي وزن، وبنيت على الأفكار الذرائعية النفعية؛ فالسمع والطاعة، مع الصبر والمناصحة، والاحتساب على الحاكم، والدعاء بصلاحه خير من المعارضة سواء كانت المعارضة سلمية أم كانت خروجا مسلحا؛ لأنها سبب للفساد، وسفك الدماء، ويمتطيها الأعداء؛ لإضعاف البلاد، وربما احتلالها، ونهب خيراتها،ونشر الفساد فيها ؛ كما حصل في بلاد الأفغان والعراق.
والباعث على ما يسمى بالمعارضة أغراض دنيوية في الغالب، وأصحابها يُمَنُون أتباعهم والهاتفين لهم ويعدونهم، وما يعدونهم إلا غرورا؛ حتى إذا حققوا مرادهم، وزعزعوا أمن بلادهم، ووصلوا إلى ما يريدون من إسقاط حكومتهم، وصاروا هم في مواقع المسئولية؛ نكثوا ما وعدوا ، وصاروا على أتباعهم أعتى ممن كانوا قبلهم، وشواهد ذلك في هذا الزمن كثيرة، سواء في الأنظمة الجمهورية التي قضت على الأنظمة الملكية، أو في عصابات المعارضة التي مكن لها الأعداء ليكونوا ألعوبة في أيديهم، يعبثون بثروات بلدانهم، ويفقرون شعوبهم.
فاحمدوا الله تعالى الذي عافاكم وعافى بلادكم من هذه الشرور العظيمة، وأقيموا دينكم لله تعالى، واسألوه دوام الأمن والاستقرار، وصلاح الراعي والرعية، وقد قال الحكماء:(ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان).ومن أبصر أحوال أهل العراق أيقن صحة هذه المقولة.
أسأل الله تعالى أن يصلح ولاة أمرنا وولاة المسلمين أجمعين، وأن يفتح على قلوبهم، وينير بصائرهم، ويجعلهم رحمة لرعاياهم، وأن يرزقهم البطانة الصالحة، التي تحتسب عليهم، وتذكرهم إذا نسوا، وتنبههم إذا غفلوا، وتعينهم على نوائب الحق. كما أسأله تبارك وتعالى أن يبعد عنهم بطانة السوء من المنافقين والنفعيين، وأن يفضحهم لهم، ويبدلهم بهم خيرا منهم، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى