رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. رياض بن محمد المسيميري
أنواع التوحيد وأقسامه **
الخطبة الأولى
الحمد لله، أحمده سبحانه على كل حال، وأشكره على دوام الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله المتفرد بالجلال والكمال، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، يعلم ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، بلغ البلاغ المبين، صلى الله عليه وعلى خلفائه الراشدين، وآل بيته الطيبين، وصحابته الكرام الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
أيها الأحبة في الله:
إنّ المتتبع لآي القرآن الكريم تمرّ به آيات من مثل قوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). وقوله كذلك: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ). وقوله: (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ).
وغير ذلك من الآيات بمعناها، وهذه الآيات الكريمات تسجّل اعترافات المشركين الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم يعترفون ويقرّون بأنّ الله تعالى هو الذي خلقهم وخلق السموات والأرض، وأنّه ربّهم ورب السموات والأرض، ورب العرش العظيم.
وأنّ بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه - سبحانه وبحمده - فإذا كان هذا هو واقعهم، وتلك هي اعترافاتهم، فلماذا يا ترى بُعث إليهم نبينا - عليه الصلاة والسلام - ؟!.
وإلى أي شيء كان يدعوهم؟!.
ثم ما الذي حملهم على عداوته وبغضه؟!.
بل ومحاربته ومجالدته بالسيوف؟!.
وحقيقة الأمر - أيها المسلمون - أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ، بل كل الأنبياء من قبله، ما جاءوا ليقرروا الناس بأنّ الله هو الرب الخالق المدبّر، إذ أن ذلك أمر مستقر في الفطر: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا).
والبشرية قاطبة تقرّ بذلك وتعترف، إلا ما عُرف من إنكار فرعون وأضرابه من الدهريين الجهلة والحمقى.
ولكن الرسالة التي حملها الرسل ونزلت من أجلها الكتب ووقعت فيها الخصومة بين الرسل وأقوامهم هي إخلاص العبادة لله وحده، وهو ما يعبر عنه العلماء بتوحيد الألوهية، ذلك التوحيد الذي كفرت به قريش، وأعلنت العداوة والبغضاء من أجله، واضطرت المسلمين للفرار من مكة إلى الحبشة مرتين، ثم إلى المدينة بعد ذلك.
ومن أجله وقعت المصادمات والحروب وأريقت الدماء؛ بدءاً من سرية عبد الله بن جحش، وغزوة بدر الكبرى، ومروراً بأحد والأحزاب، وانتهاءاً بفتح مكة وغزوة حين.
ومن هنا وجب على كل من ينشد السلامة والعافية ويحب الفوز برضا رب السموات والأرض ورب العرش العظيم أن يدرك الفرق جيداً بين التوحيد الذي أقرّ به المشركون وهو توحيد الربوبية، وبين التوحيد الذي كفروا به وهو توحيد الألوهية، حتى لا يقع فيما وقع فيه المشركون الأوائل، وأتباعهم من المشركين المعاصرين، وذلك من حيث لا يشعر، فيخسر الدنيا والآخرة: (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
وعلى اللبيب الفطن أن يعي بوضوح أن أيّ تفريط منه في فهم التوحيد وإدراكه، ومن ثم تحقيقه واعتقاده، يجعله عرضة للوقوع في الشرك الأكبر، الذي لا يقبل الله ممن وقع فيه صرفاً ولا عدلاً.
ثم اعلم أيها الأخ الكريم أن التوحيد ثلاثة أقسام:
الأول: توحيد الربوبية:
ومعناه الاعتراف والإقرار بأنّ الله تعالى هو الرب الخالق المدبر المتصرف وحده في هذا الكون.
وهذا النوع – كما تقدم – اعترف به المشركون قديماً وحديثاً، يقول الله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). ويقول كذلك: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).
وهذا التوحيد مستقر في الفطر، وقد اعترفت به البشرية قاطبة، ولم ينكره إلا شواذٌّ من الناس كفرعون وأضرابه من الدهريين والشيوعيين.
وما أنكره هؤلاء إلا كبراً وغروراً، وذلك بألسنتهم فقط، مع اعترافهم بقلوبهم بوجود الرب الخالق جل جلالة، يقول تعالى عنهم: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً).
أي جحدوا الربوبية بألسنتهم، وأقرّوا بها في قلوبهم.
وهؤلاء الدهريون والملاحدة الذين ينكرون الرب الخالق المدبر، يزعمون لتفاهة عقولهم وسخافة تفكيرهم بأنّ الكون وُجِدَ هكذا مصادفة، وأنّ الطبيعة هي التي تسيّر نفسها بلا مدبّر ولا مسيّر، سبحانه هذا بهتان عظيم.
ولله در أبي حنيفة - رحمه الله – لما جاءه قومٌ من أهل الجدل والفلسفة والكلام يجادلونه في توحيد الربوبية فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها وتعود بنفسها فترسي بنفسها وتفرغ حمولتها وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟! فقالوا هذا محال لا يمكن أبداً!
فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة، فكيف في هذا العالم كله؛ علوه وسفله؟!.
أما النوع الثاني فهو: توحيد الألوهية:
وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل، وأُنزلت من أجله الكتب، ووقعت فيه الخصومة بين الرسل وأقوامهم.
ومعنى توحيد الألوهية: إخلاص العبادة لله تعالى وحده لا شريك له، فالألوهية هي العبادة، والعبادة: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة". عرفها بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.
فلا يجوز للعبد أن يصرف شيئاً من العبادة لغير الله تعالى؛ لا لنبي مرسل، ولا لملك مقرّب، فضلاً عن أن يصرفها لمن دونهم من البشر والشجر والحجر والقبور والأموات!.
ولا تكمل العبادة إلا إذا استوفت أركانها الثلاثة، وهي الحب، والخوف، والرجاء.
فالصحيح أن يعبد العبد ربّه سبحانه لأنه يحب الله، ولأنه يخافه، ولأنه يرجو ما عنده من الرحمة والثواب.
فمن عبد الله بالحب وحده فهو صوفيّ ضال.
ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ منحرف يتمنى على الله الأماني.
ومن عبد الله بالخوف وحده فهو خارجي يئس من رحمة الله.
ولقد أعلن القران الكريم صراحة عن الغاية التي من أجلها خلق الإنس والجن فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).
والعبادة لها أنواع كثيرة:
فالصلاة والزكاة والصوم والحج وصدق الحديث، والأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين والعلمانيين، والإحسان إلى الجيران والأيتام المساكين وابن السبيل والبهائم والحيوان، والدعاء والذكر، وحب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، والذبح والنذر والحلف والاستعاذة والاستعانة والاستغاثة، كل ذلك من أنواع العبادة التي لا يجوز صرف شيء منها قليل أو كثير لغير الله تعالى.
فمن صرف منها شيئاً لغير الله؛ كمن دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو استعان أو استغاث بميت أو غائب، أو بحي حاضر، فيما لا يقدر عليه إلا الله، فقد أشرك الشرك الأكبر، وهو الذنب الذي لا يُغفر، سواء صرف هذا النوع من العبادة لصنم أو شجر أو حجر أو نبي أو ولي أو حي أو ميت.
قال تعالى (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً) وقال: (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) وقال: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
والقرآن من أوله إلى آخره مليء بالآيات التي تدعو إلى التوحيد بعامةٍ، وتوحيد الألوهية على وجه الخصوص.
وهو ملئ أيضاً بالآيات التي تحذّر من الشرك، وتصف عاقبته الوخيمة ونهايته البائسة، ولو لم يكن في هذا التحذير إلا الآية التالية لكفى: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ).
فهل استجاب الناس لتلك النداءات الربّانية. وتلك التحذيرات الإلهية؟!.
كلا، إنّ المستجيبين لها قلة على مرّ العصور والأجيال، فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ).
وقد ضرب الشرك بإطنابه قديماً وحديثاً، ووصل اليوم حدّاً مخيفاً في بلاد يدّعي أهلها أنهم مسلمون موحدّون.
فتشييد القبور وتحسينها، وبناء الأضرحة وإضاءتها، ووضع السرج حولها؛ كلُّ ذلك يسير على قدم وساق، والحجّاج إلى تلك القبور والمزارات يفوقون حجاج البيت الحرام.
لأن الحج إلى البيت الحرام يكون مرة في العام، بينما الحج إلى تلك المزارات والأضرحة على مدار العام.
ولا تبرأ ذمة العلماء المخلصين إلا إذا أنكروا ذلك الأمر العظيم والجرم الأثيم.
ولا تبرأ ذمة الحكام والملوك والأمراء إلا إذا أزالوا تلك الأوثان والشركيات من بلادهم، وخلصوا أبناء المسلمين من شرها وشؤمها.
لـقد أسمعت لو ناديت حيّاً ** ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت ** ولكن أنت تنفخ في رماد
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد ألا إله إلا الله تعظيماً لشأنه.
وأشهد أنّ نبينا محمداً صلى الله عليه وسلّم الداعي إلى رضوانه، صلوات الله وتسليماته عليه، وآله وصحبه وإخوانه. أما بعد.
فالقسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات:
ومعنى هذا التوحيد أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، كما يليق بجلالة وعظمته.
وأن نثبت تلك الأسماء والصفات وما دلّت عليه من المعاني، مع تنزيهه سبحانه أن تشابه صفاته صفات المخلوقين.
فكما أن لله ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين، فكذلك صفاته لا تشبه صفات المخلوقين.
فنحن نثبت لله تعالى الأسماء والصفات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل.
ومن الأسس والقواعد التي تقوم عليها عقيدة السلف في الأسماء والصفات:
أولاً: أن أسماء الله وصفاته توقيفية؛ بمعنى إنهم لا يثبتون لله إلا ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من الأسماء والصفات، ولا يثبتون شيئاً من ذلك بمقتضى عقولهم وأفكارهم، كما أنهم ينفون عن الله تعالى ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله من صفات النقص.
وما لم يصرح الكتاب أو السنة بنفيه أو إثباته من الأسماء والصفات فإنهم يتوقفون فيه بناء على ذلك الأصل العظيم.
ثانيا: سئل الإمام مالك - رحمه الله - عن قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟! قال - رحمه الله -: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه".
وما قاله الإمام مالك يُعَدُّ قاعدة عظيمة في جميع الصفات، وقد أجمع عليها أهل السنة قاطبة.
فمن نسب إلى السلف أنهم يفوّضون المعاني؛ أي يقولون: لا نعرف معانيها فقد افترى عليهم كذباً عظيماً.
ومن زعم أنّ السلف يجعلون نصوص الصفات من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه فقد أبعد النجعة وكذب عليهم كذباً بيناً.
ثالثاً: السلف يثبتون الصفات إثباتاً بلا تمثيل، ولا تشبيه بشيء من مخلوقاته سبحانه.
وتوضيح ذلك أنّ الله تعالى يسمع ويبصر، ولكن سمعه وبصره - سبحانه - لا يماثل ولا يشابه سمع المخلوق وبصره، لقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ).
وما يقال في السمع والبصر يقال في غيرهما من الصفات.
رابعاً: نزيه الرب جل جلالة عن صفات النقص والعيب تنزيها لا يفضي بهم إلى تعطيله عن صفات الكمال، أو تأويلها أو تحريفها.
خامساً: طريقة أهل السنة والجماعة فيما يثبتون لله من الصفات وما ينفون عنه من النقص هي طريقة الكتاب والسنة، وهي الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات، كما في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ). فأجمل في النفي، وهو قوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وفصّل في الإثبات، وهو قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ).
وأخيراً: فكل نفي في صفات الله فانّه يتضمن إثبات الكمال، وليس هو نفياً محضاً، لأنّ النفي المحض ليس فيه مدح.
ومن أمثلة النفي المتضمن لإثبات الكمال قوله تعالى: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).
عباد الله:
صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
أنواع التوحيد وأقسامه **
الخطبة الأولى
الحمد لله، أحمده سبحانه على كل حال، وأشكره على دوام الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله المتفرد بالجلال والكمال، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، يعلم ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، بلغ البلاغ المبين، صلى الله عليه وعلى خلفائه الراشدين، وآل بيته الطيبين، وصحابته الكرام الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
أيها الأحبة في الله:
إنّ المتتبع لآي القرآن الكريم تمرّ به آيات من مثل قوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). وقوله كذلك: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ). وقوله: (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ).
وغير ذلك من الآيات بمعناها، وهذه الآيات الكريمات تسجّل اعترافات المشركين الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم يعترفون ويقرّون بأنّ الله تعالى هو الذي خلقهم وخلق السموات والأرض، وأنّه ربّهم ورب السموات والأرض، ورب العرش العظيم.
وأنّ بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه - سبحانه وبحمده - فإذا كان هذا هو واقعهم، وتلك هي اعترافاتهم، فلماذا يا ترى بُعث إليهم نبينا - عليه الصلاة والسلام - ؟!.
وإلى أي شيء كان يدعوهم؟!.
ثم ما الذي حملهم على عداوته وبغضه؟!.
بل ومحاربته ومجالدته بالسيوف؟!.
وحقيقة الأمر - أيها المسلمون - أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ، بل كل الأنبياء من قبله، ما جاءوا ليقرروا الناس بأنّ الله هو الرب الخالق المدبّر، إذ أن ذلك أمر مستقر في الفطر: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا).
والبشرية قاطبة تقرّ بذلك وتعترف، إلا ما عُرف من إنكار فرعون وأضرابه من الدهريين الجهلة والحمقى.
ولكن الرسالة التي حملها الرسل ونزلت من أجلها الكتب ووقعت فيها الخصومة بين الرسل وأقوامهم هي إخلاص العبادة لله وحده، وهو ما يعبر عنه العلماء بتوحيد الألوهية، ذلك التوحيد الذي كفرت به قريش، وأعلنت العداوة والبغضاء من أجله، واضطرت المسلمين للفرار من مكة إلى الحبشة مرتين، ثم إلى المدينة بعد ذلك.
ومن أجله وقعت المصادمات والحروب وأريقت الدماء؛ بدءاً من سرية عبد الله بن جحش، وغزوة بدر الكبرى، ومروراً بأحد والأحزاب، وانتهاءاً بفتح مكة وغزوة حين.
ومن هنا وجب على كل من ينشد السلامة والعافية ويحب الفوز برضا رب السموات والأرض ورب العرش العظيم أن يدرك الفرق جيداً بين التوحيد الذي أقرّ به المشركون وهو توحيد الربوبية، وبين التوحيد الذي كفروا به وهو توحيد الألوهية، حتى لا يقع فيما وقع فيه المشركون الأوائل، وأتباعهم من المشركين المعاصرين، وذلك من حيث لا يشعر، فيخسر الدنيا والآخرة: (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).
وعلى اللبيب الفطن أن يعي بوضوح أن أيّ تفريط منه في فهم التوحيد وإدراكه، ومن ثم تحقيقه واعتقاده، يجعله عرضة للوقوع في الشرك الأكبر، الذي لا يقبل الله ممن وقع فيه صرفاً ولا عدلاً.
ثم اعلم أيها الأخ الكريم أن التوحيد ثلاثة أقسام:
الأول: توحيد الربوبية:
ومعناه الاعتراف والإقرار بأنّ الله تعالى هو الرب الخالق المدبر المتصرف وحده في هذا الكون.
وهذا النوع – كما تقدم – اعترف به المشركون قديماً وحديثاً، يقول الله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). ويقول كذلك: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).
وهذا التوحيد مستقر في الفطر، وقد اعترفت به البشرية قاطبة، ولم ينكره إلا شواذٌّ من الناس كفرعون وأضرابه من الدهريين والشيوعيين.
وما أنكره هؤلاء إلا كبراً وغروراً، وذلك بألسنتهم فقط، مع اعترافهم بقلوبهم بوجود الرب الخالق جل جلالة، يقول تعالى عنهم: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً).
أي جحدوا الربوبية بألسنتهم، وأقرّوا بها في قلوبهم.
وهؤلاء الدهريون والملاحدة الذين ينكرون الرب الخالق المدبر، يزعمون لتفاهة عقولهم وسخافة تفكيرهم بأنّ الكون وُجِدَ هكذا مصادفة، وأنّ الطبيعة هي التي تسيّر نفسها بلا مدبّر ولا مسيّر، سبحانه هذا بهتان عظيم.
ولله در أبي حنيفة - رحمه الله – لما جاءه قومٌ من أهل الجدل والفلسفة والكلام يجادلونه في توحيد الربوبية فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها وتعود بنفسها فترسي بنفسها وتفرغ حمولتها وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟! فقالوا هذا محال لا يمكن أبداً!
فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة، فكيف في هذا العالم كله؛ علوه وسفله؟!.
أما النوع الثاني فهو: توحيد الألوهية:
وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل، وأُنزلت من أجله الكتب، ووقعت فيه الخصومة بين الرسل وأقوامهم.
ومعنى توحيد الألوهية: إخلاص العبادة لله تعالى وحده لا شريك له، فالألوهية هي العبادة، والعبادة: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة". عرفها بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.
فلا يجوز للعبد أن يصرف شيئاً من العبادة لغير الله تعالى؛ لا لنبي مرسل، ولا لملك مقرّب، فضلاً عن أن يصرفها لمن دونهم من البشر والشجر والحجر والقبور والأموات!.
ولا تكمل العبادة إلا إذا استوفت أركانها الثلاثة، وهي الحب، والخوف، والرجاء.
فالصحيح أن يعبد العبد ربّه سبحانه لأنه يحب الله، ولأنه يخافه، ولأنه يرجو ما عنده من الرحمة والثواب.
فمن عبد الله بالحب وحده فهو صوفيّ ضال.
ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ منحرف يتمنى على الله الأماني.
ومن عبد الله بالخوف وحده فهو خارجي يئس من رحمة الله.
ولقد أعلن القران الكريم صراحة عن الغاية التي من أجلها خلق الإنس والجن فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).
والعبادة لها أنواع كثيرة:
فالصلاة والزكاة والصوم والحج وصدق الحديث، والأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين والعلمانيين، والإحسان إلى الجيران والأيتام المساكين وابن السبيل والبهائم والحيوان، والدعاء والذكر، وحب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، والذبح والنذر والحلف والاستعاذة والاستعانة والاستغاثة، كل ذلك من أنواع العبادة التي لا يجوز صرف شيء منها قليل أو كثير لغير الله تعالى.
فمن صرف منها شيئاً لغير الله؛ كمن دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو استعان أو استغاث بميت أو غائب، أو بحي حاضر، فيما لا يقدر عليه إلا الله، فقد أشرك الشرك الأكبر، وهو الذنب الذي لا يُغفر، سواء صرف هذا النوع من العبادة لصنم أو شجر أو حجر أو نبي أو ولي أو حي أو ميت.
قال تعالى (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً) وقال: (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) وقال: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
والقرآن من أوله إلى آخره مليء بالآيات التي تدعو إلى التوحيد بعامةٍ، وتوحيد الألوهية على وجه الخصوص.
وهو ملئ أيضاً بالآيات التي تحذّر من الشرك، وتصف عاقبته الوخيمة ونهايته البائسة، ولو لم يكن في هذا التحذير إلا الآية التالية لكفى: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ).
فهل استجاب الناس لتلك النداءات الربّانية. وتلك التحذيرات الإلهية؟!.
كلا، إنّ المستجيبين لها قلة على مرّ العصور والأجيال، فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ).
وقد ضرب الشرك بإطنابه قديماً وحديثاً، ووصل اليوم حدّاً مخيفاً في بلاد يدّعي أهلها أنهم مسلمون موحدّون.
فتشييد القبور وتحسينها، وبناء الأضرحة وإضاءتها، ووضع السرج حولها؛ كلُّ ذلك يسير على قدم وساق، والحجّاج إلى تلك القبور والمزارات يفوقون حجاج البيت الحرام.
لأن الحج إلى البيت الحرام يكون مرة في العام، بينما الحج إلى تلك المزارات والأضرحة على مدار العام.
ولا تبرأ ذمة العلماء المخلصين إلا إذا أنكروا ذلك الأمر العظيم والجرم الأثيم.
ولا تبرأ ذمة الحكام والملوك والأمراء إلا إذا أزالوا تلك الأوثان والشركيات من بلادهم، وخلصوا أبناء المسلمين من شرها وشؤمها.
لـقد أسمعت لو ناديت حيّاً ** ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت ** ولكن أنت تنفخ في رماد
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد ألا إله إلا الله تعظيماً لشأنه.
وأشهد أنّ نبينا محمداً صلى الله عليه وسلّم الداعي إلى رضوانه، صلوات الله وتسليماته عليه، وآله وصحبه وإخوانه. أما بعد.
فالقسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات:
ومعنى هذا التوحيد أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، كما يليق بجلالة وعظمته.
وأن نثبت تلك الأسماء والصفات وما دلّت عليه من المعاني، مع تنزيهه سبحانه أن تشابه صفاته صفات المخلوقين.
فكما أن لله ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين، فكذلك صفاته لا تشبه صفات المخلوقين.
فنحن نثبت لله تعالى الأسماء والصفات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل.
ومن الأسس والقواعد التي تقوم عليها عقيدة السلف في الأسماء والصفات:
أولاً: أن أسماء الله وصفاته توقيفية؛ بمعنى إنهم لا يثبتون لله إلا ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من الأسماء والصفات، ولا يثبتون شيئاً من ذلك بمقتضى عقولهم وأفكارهم، كما أنهم ينفون عن الله تعالى ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله من صفات النقص.
وما لم يصرح الكتاب أو السنة بنفيه أو إثباته من الأسماء والصفات فإنهم يتوقفون فيه بناء على ذلك الأصل العظيم.
ثانيا: سئل الإمام مالك - رحمه الله - عن قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟! قال - رحمه الله -: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه".
وما قاله الإمام مالك يُعَدُّ قاعدة عظيمة في جميع الصفات، وقد أجمع عليها أهل السنة قاطبة.
فمن نسب إلى السلف أنهم يفوّضون المعاني؛ أي يقولون: لا نعرف معانيها فقد افترى عليهم كذباً عظيماً.
ومن زعم أنّ السلف يجعلون نصوص الصفات من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه فقد أبعد النجعة وكذب عليهم كذباً بيناً.
ثالثاً: السلف يثبتون الصفات إثباتاً بلا تمثيل، ولا تشبيه بشيء من مخلوقاته سبحانه.
وتوضيح ذلك أنّ الله تعالى يسمع ويبصر، ولكن سمعه وبصره - سبحانه - لا يماثل ولا يشابه سمع المخلوق وبصره، لقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ).
وما يقال في السمع والبصر يقال في غيرهما من الصفات.
رابعاً: نزيه الرب جل جلالة عن صفات النقص والعيب تنزيها لا يفضي بهم إلى تعطيله عن صفات الكمال، أو تأويلها أو تحريفها.
خامساً: طريقة أهل السنة والجماعة فيما يثبتون لله من الصفات وما ينفون عنه من النقص هي طريقة الكتاب والسنة، وهي الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات، كما في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ). فأجمل في النفي، وهو قوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وفصّل في الإثبات، وهو قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ).
وأخيراً: فكل نفي في صفات الله فانّه يتضمن إثبات الكمال، وليس هو نفياً محضاً، لأنّ النفي المحض ليس فيه مدح.
ومن أمثلة النفي المتضمن لإثبات الكمال قوله تعالى: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).
عباد الله:
صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى