رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
عمود الإسلام (1)
تكبيرة الإحرام
الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:102
} [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1} [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا] {الأحزاب:70-71} .
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: خلق الله تعالى الخلق لعبادته، وكلفهم بحمل أمانته، وفتح لهم أبواب الأجور والخيرات، وابتلاهم بالفتن والشهوات، فالأزواج والأولاد والأموال والجيران فتن يبتلى بها العباد، ولكن الأعمال الصالحة من فرائض وسنن تكفر هذه الفتن، قال عمر ـ رضي الله عنه ـ :(من يحفظ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ: أنا سمعته يقول: فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة)رواه الشيخان.
وأعظم المكفرات بعد توحيد الله تعالى: الصلوات الخمس التي فرضها الله تعالى ليلة الإسراء والمعراج، وخاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بلا واسطة.. فرضها الرب جل جلاله خمسين صلاة في اليوم والليلة، فأشار موسى ـ عليه السلام ـ على محمد صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه عز وجل التخفيف، فلا تطيق أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة، فما زال نبينا صلى الله عليه وسلم يراجع ربه عز وجل فيها يسأله التخفيف؛ رحمة بأمته، وشفقة عليهم، وخشية من تضييعهم لهذا الفرض العظيم؛ فرحم الله تعالى هذه الأمة بمشورة موسى ـ عليه السلام ـ ، وبمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه وتعالى، فخففها عنهم من خمسين إلى خمس، وقال الرب جل جلاله:(هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي)رواه الشيخان.
وفي رواية للنسائي فقال الله عز وجل:(إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك، فعرفت أنها من الله تبارك وتعالى صَرَّى) أي: حتم لازمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم :(فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي)رواه البخاري.
إن الصلاة ليست كسائر الأعمال الأخرى لا في فرضها، ولا في تكرارها في اليوم والليلة، ولا في أثرها على من أداها؛ فهي عمود الإسلام، وركنه الأول بعد الشهادتين، وهي صلة بين العبد وربه، ولا حظ في الإسلام لمن ضيعها.
إنها ذل وخضوع للعزيز الجبار؛ فقيامها قنوت، وركوعها خضوع، وسجودها خشوع، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
أفضل الذكر يقرأ في قيامها، وركوعها وسجودها تسبيح وتعظيم ودعاء، والانتقال بين أركانها بالتكبير، وفيها دعاء الثناء ودعاء المسألة، فهل تعرفون عبادة فيها ما في الصلاة؟! وحقيق بالعباد أن يلهجوا لربهم بالحمد والشكر والثناء بما منَّ به عليهم من فرض الصلاة.
تفتتح الصلاة بالتكبير (الله أكبر) وتكبير الله تعالى يشرع في المواطن الكبيرة العظيمة؛ ولذا شرع عند لقاء العدو، وله تأثير عجيب في إلقاء الرعب في قلوب الأعداء، حتى إنهم ليهزمون بالتكبير أكثر من هزيمتهم بالسلاح، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن فتح القسطنطينية في آخر الزمان أخبر أنها تسقط في أيدي المسلمين بالتكبير بلا قتال، وشرع التكبير في الحج، وفي العيدين الكبيرين، وشرع أيضا إذا علا نشزا من الأرض، وشرع لدفع أذى المؤذين من إنس وجن وسبع ونار، قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ :(وهذا كله يبين أن التكبير مشروع في المواضع الكبار؛ لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل، أو لقوة الحال، أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة؛ ليبين أن الله تعالى أكبر، وتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء تلك الأمور الكبار، فيكون الدين كله لله تعالى، ويكون العباد له مكبرون، فيحصل لهم مقصودان: مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله تعالى، ومقصود الاستعانة بانقياد سائر المطالب لكبريائه؛ ولهذا شرع التكبير على الهداية والرزق والنصر؛ لأن هذه الثلاث أكبر ما يطلبه العبد، وهي جماع مصالحه....فجماع هذا: أن التكبير مشروع عند كل أمر كبير من مكان وزمان وحال ورجال، فتبين أن الله تعالى أكبر لتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء ما سواه، ويكون له الشرف على كل شرف، قال تعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم :(العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته ).
وكان يقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال (الله أكبر) أي: وصفه بأنه أكبر من كل شيء، وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ :(قول العبد: الله أكبر؛ خير من الدنيا وما فيها) وعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال:(إن لكل شيء شعارا وإن شعار الصلاة التكبير).
وإذا علمنا معنى التكبير، ومنزلته من الدين، وأنه حق رب العالمين، وعلمنا أن الصلاة افتتحت به؛ عرفنا قدر الصلاة، وقدر تكبيرة الإحرام.
إن المصلي حين يستقبل القبلة فهو ينقطع عن كل أحد، ويترك كل عمل، ويهجر كل قول، ويقوم قانتا بلا حركة، متجها إلى الله تعالى بقلبه وجسده، ثم يكبر رافعا يديه ليحرم بالصلاة، معلنا أن الله تعالى أكبر في ذاته وأسمائه وصفاته من كل شيء، مستحضرا كبرياء الله تعالى وعظمته [مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحج:74} [وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] {الزُّمر:67} [وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {الجاثية:37} ولذا أمر سبحانه بتكبيره [وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا] {الإسراء:111}أي: عظمه عظمة تامة.
قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ :(والحكمة في ابتداء الصلاة بالتكبير: افتتاحها بالتنزيه والتعظيم لله تعالى، ونعته بصفات الكمال).
إن المصلي قد ترك الدنيا بأسرها ليعلن أن الله تعالى أكبر منها ومن أشغالها؛ ولذلك فهو ينبذ الدنيا، ويترك شغله مهما كبر في نفسه؛ لأن الله تعالى أكبر، وحقه عليه أعظم وأجلُّ، فيذل له قانتا وراكعا وساجدا.
ومن المعاني المذكورة في رفع اليدين مع التكبير، أن في رفعهما حال التكبير: إشارة إلى اطراح المصلي للدنيا، والإقبال بكليته على الصلاة، ومناجاة ربه سبحانه وتعالى، كما تضمن ذلك قوله (الله أكبر) وفيه الاستسلام والانقياد ليناسب فعله قوله، وفيه استعظام ما سيدخل فيه وهو الصلاة، وفيه إشارة إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود.
والمحافظة على تكبيرة الإحرام مع جماعة المسلمين هي من الرباط على الصلاة، وهي دليل على تعلق القلب بالمساجد، وثواب ذلك: محو الخطيئات، ورفع الدرجات، والاستظلال في الموقف العظيم بظل الرحمن.
ومن حافظ على تكبيرة الإحرام أثبت براءته من النفاق؛ لأن المنافقين [إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى] {النساء:142} ولا يحافظ على التكبيرة الأولى كسلان. ومن حافظ عليها كان كذلك حريا بالنجاة من النار؛ كما جاء في الحديث عن أنس رضي الله عنه: (من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق )رواه الترمذي.
ولأهميتها شرع لمن كان في نافلة أن يقطعها ليدرك تكبيرة الإحرام، إلا إذا أمكنه أن يتم نافلته قبل أن يحرم الإمام، وإدراكها يكون بوقوفه في الصف حين يكبر الإمام، فإذا كبر الإمام تابعه بالتكبير.
وهي في الصلاة ركن لا تصح الصلاة إلا بها، وهي أول شيء يبدأ العبد به صلاته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي.
إن السلف الصالح ـ عليهم رحمة الله تعالى ـ قد أدركوا منزلة الصلاة من دين الإسلام، وعرفوا قيمة المحافظة على تكبيرة الإحرام؛ فما أقعدهم عن إدراكها عجز ولا كسل، ولا حال بينهم وبينها مال ولا ولد، ولا أخرهم عنها صنعة ولا عمل؛ فلقد كانوا يتهيئون لصلاتهم قبل النداء، ومنهم من لم يسمع النداء إلا من داخل المسجد من مبالغته في التبكير إلى الجماعة، والمسابقة على الصف الأول، والحرص على تكبيرة الإحرام، وليس هذا منهم يوما أو يومين، أو شهرا أو شهرين، بل هو والله جلُّ أعمارهم، وأكثر أيامهم، فلله درهم ما أصبرهم، وما أشد رغبتهم في الخير! وما أعظم جهادهم لأنفسهم ! اقرءوا إن شئتم سيرهم، وقارنوا حالنا بحالهم!!
يقول عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء، وما دخل وقت صلاة حتى أشتاق إليها.
وعن سعيد بن المسيب ـ رحمه الله تعالى ـ قال:(ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد) وقال أيضا:(ما فاتتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة).
وعن ربيعة بن يزيد ـ رحمه الله تعالى ـ قال:(ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضا أو مسافرا).
وبشر بن منصور ـ رحمه الله تعالى ـ ما فاتته التكبيرة الأولى قط. وقال أبو عبد الله بن سماعة التيمي ـ رحمه الله تعالى ـ:(مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي). وكان إبراهيم بن ميمون المروزي يمتهن صياغة الذهب والفضة، فكان إذا رفع المطرقة فسمع النداء ألقاها، فلم يردها، ولم يطرق بها.
وقال وكيع:( كان الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه قريبا من سنتين فما رأيته يقضي ركعة).
وكانوا ـ رحمة الله تعالى عليهم ـ يأسون لحال من يتهاون بتكبيرة الإحرام، ويسقط من أعينهم؛ كما قال إبراهيم النخعي ـ رحمه الله تعالى ـ :(إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه).
تلك بعض أخبارهم مع تكبيرة الإحرام، وعسى أن نتأسى بهم في الخير والهدى، ونسأل الله تعالى أن يلحقنا بهم،إنه سميع قريب مجيب.
وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه [وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ] {النور:52}
أيها المسلمون: لصلاة الجماعة رجال يحافظون عليها، وللتكبيرة الأولى أفذاذ لا يفوتونها، وهم عُمَّار المساجد الذين امتدحهم الله تعالى بقوله جل جلاله [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {النور:36-38}
قال ابن بطال ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيرها: كانوا حدادين وخرازين، فكان أحدهم إذا رفع المطرقة، أو غرز الإشفي-وهو ما يخرز به- فسمع الأذان لم يخرج الإشفى من الغرزة، ولم يوقع المطرقة، ورمى بها، وقام إلى الصلاة).
وقد كان السلف يبتدرون عند الأذان، ويخلون الأسواق للصبيان وأهل الذمة، وكانوا يستأجرون بالقراريط لحفظ الحوانيت في أوقات الصلوات وكان ذلك معيشة لهم.
ولا زالت سنة تعطيل البيع والشراء والأعمال أثناء الصلاة قائمة في هذه البلاد المباركة بحمد الله تعالى وتوفيقه؛ سيرا على سنن أولئك، والتزاما بهديهم، ويريد المفسدون في الأرض إلغاء تلك السنة المباركة، بالقضاء على نظام الحسبة، أخزاهم الله تعالى وكبتهم، ولا بلغهم ما يريدون.
ورأى ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قوما من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة فقال: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه [رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله] {النور:37} وقال مطر الوراق:(كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة).
وإذا كان حال السلف مع التكبيرة الأولى ما قد سمعتم فإن في هذا الزمن من التزموا هذا الهدي، وساروا على السنة؛ فتراهم يسابقون إلى النداء والصف الأول، ويحرصون على إدراك التكبيرة الأولى، أكثرهم شيوخ وكهول، ومنهم شباب وفتيان، وما من مسجد من مساجد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلا وفيه منهم بضعة رجال، وهم مع محافظتهم على الجماعة، وحرصهم على التكبيرة الأولى لم يفتهم من الدنيا ما أدركه غيرهم ممن ضيعوا الصلوات، وهجروا الجماعات!! بل ربما أدركوا هم منها أكثر مما أدركه أولئك المفرطون.
ولكن الفرق بينهم وبين المفرطين أنهم ضبطوا أوقات الصلوات، وفرغوها من المشاغل والأعمال، وساروا في حياتهم على هذا النظام؛ فما يؤذن للصلاة إلا وهم في المسجد، إن كانوا في السوق ففي مسجد السوق، وإن كانوا في وظائفهم ففي مصليات أعمالهم، وإن كانوا في بيوتهم ففي مساجد حاراتهم، وإن كانوا في الطريق قصدوا أقرب المساجد. وإذا أراد واحدهم أن يعمل عملا، أو كانت له وجهة يقصدها نظر إلى ساعته، فقدَّر أن يبلغ وجهته قبل الأذان أو أرجأ سيره إلى ما بعد الصلاة، وبذا اعتادوا ضبط أوقاتهم على النداء، وليس في ذلك كبير عناء أو مشقة، بخلاف أكثر الناس الذين لا يأبهون بذلك، ولربما كان ضبطهم لأوقاتهم على الإقامة لا على الأذان، وكثيرا ما تفوتهم تكبيرة الإحرام ، ويفوتهم معها خير كثير.
ومن نظر إلى تزاحم الناس على البنوك عند الاكتتاب في الأسهم، حتى نقلت صور مخجلة في ذلك، وقارنه مع فراغ المساجد عند النداء، وفي بعض المساجد عند الإقامة؛ علم مدى تمكن الدنيا من القلوب، وتفريط أكثر الناس في الخير الدائم، وتقاعسهم عن تحصيل أسباب النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.
ألا فاتقوا الله ربكم، وخذوا من الخير حظكم، واعلموا أن ناسا عاشوا قبلكم، وآخرين معكم، منهم من لم تفته التكبيرة الأولى ثلاثين سنة وأربعين وسبعين، ومنهم من فاتتهم كثيرا، وكانوا معا في مآكلهم ومساكنهم وأعمالهم، المحسنون منهم والمفرطون!! وقد مضوا إلى قبورهم: المحسن منهم بإحسانه، والمفرط بتفريطه وحرمانه، وستمضون كما مضوا، وتجدون ما وجدوا، فأعدوا لذلك اليوم عدته، بالإيمان والعمل الصالح.
وصلوا وسلموا على نبيكم....
عمود الإسلام (1)
تكبيرة الإحرام
الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] {آل عمران:102
} [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] {النساء:1} [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا] {الأحزاب:70-71} .
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: خلق الله تعالى الخلق لعبادته، وكلفهم بحمل أمانته، وفتح لهم أبواب الأجور والخيرات، وابتلاهم بالفتن والشهوات، فالأزواج والأولاد والأموال والجيران فتن يبتلى بها العباد، ولكن الأعمال الصالحة من فرائض وسنن تكفر هذه الفتن، قال عمر ـ رضي الله عنه ـ :(من يحفظ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ: أنا سمعته يقول: فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة)رواه الشيخان.
وأعظم المكفرات بعد توحيد الله تعالى: الصلوات الخمس التي فرضها الله تعالى ليلة الإسراء والمعراج، وخاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة بلا واسطة.. فرضها الرب جل جلاله خمسين صلاة في اليوم والليلة، فأشار موسى ـ عليه السلام ـ على محمد صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه عز وجل التخفيف، فلا تطيق أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة، فما زال نبينا صلى الله عليه وسلم يراجع ربه عز وجل فيها يسأله التخفيف؛ رحمة بأمته، وشفقة عليهم، وخشية من تضييعهم لهذا الفرض العظيم؛ فرحم الله تعالى هذه الأمة بمشورة موسى ـ عليه السلام ـ ، وبمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه وتعالى، فخففها عنهم من خمسين إلى خمس، وقال الرب جل جلاله:(هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي)رواه الشيخان.
وفي رواية للنسائي فقال الله عز وجل:(إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك، فعرفت أنها من الله تبارك وتعالى صَرَّى) أي: حتم لازمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم :(فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي)رواه البخاري.
إن الصلاة ليست كسائر الأعمال الأخرى لا في فرضها، ولا في تكرارها في اليوم والليلة، ولا في أثرها على من أداها؛ فهي عمود الإسلام، وركنه الأول بعد الشهادتين، وهي صلة بين العبد وربه، ولا حظ في الإسلام لمن ضيعها.
إنها ذل وخضوع للعزيز الجبار؛ فقيامها قنوت، وركوعها خضوع، وسجودها خشوع، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
أفضل الذكر يقرأ في قيامها، وركوعها وسجودها تسبيح وتعظيم ودعاء، والانتقال بين أركانها بالتكبير، وفيها دعاء الثناء ودعاء المسألة، فهل تعرفون عبادة فيها ما في الصلاة؟! وحقيق بالعباد أن يلهجوا لربهم بالحمد والشكر والثناء بما منَّ به عليهم من فرض الصلاة.
تفتتح الصلاة بالتكبير (الله أكبر) وتكبير الله تعالى يشرع في المواطن الكبيرة العظيمة؛ ولذا شرع عند لقاء العدو، وله تأثير عجيب في إلقاء الرعب في قلوب الأعداء، حتى إنهم ليهزمون بالتكبير أكثر من هزيمتهم بالسلاح، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن فتح القسطنطينية في آخر الزمان أخبر أنها تسقط في أيدي المسلمين بالتكبير بلا قتال، وشرع التكبير في الحج، وفي العيدين الكبيرين، وشرع أيضا إذا علا نشزا من الأرض، وشرع لدفع أذى المؤذين من إنس وجن وسبع ونار، قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ :(وهذا كله يبين أن التكبير مشروع في المواضع الكبار؛ لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل، أو لقوة الحال، أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة؛ ليبين أن الله تعالى أكبر، وتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء تلك الأمور الكبار، فيكون الدين كله لله تعالى، ويكون العباد له مكبرون، فيحصل لهم مقصودان: مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله تعالى، ومقصود الاستعانة بانقياد سائر المطالب لكبريائه؛ ولهذا شرع التكبير على الهداية والرزق والنصر؛ لأن هذه الثلاث أكبر ما يطلبه العبد، وهي جماع مصالحه....فجماع هذا: أن التكبير مشروع عند كل أمر كبير من مكان وزمان وحال ورجال، فتبين أن الله تعالى أكبر لتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء ما سواه، ويكون له الشرف على كل شرف، قال تعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم :(العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته ).
وكان يقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال (الله أكبر) أي: وصفه بأنه أكبر من كل شيء، وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ :(قول العبد: الله أكبر؛ خير من الدنيا وما فيها) وعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال:(إن لكل شيء شعارا وإن شعار الصلاة التكبير).
وإذا علمنا معنى التكبير، ومنزلته من الدين، وأنه حق رب العالمين، وعلمنا أن الصلاة افتتحت به؛ عرفنا قدر الصلاة، وقدر تكبيرة الإحرام.
إن المصلي حين يستقبل القبلة فهو ينقطع عن كل أحد، ويترك كل عمل، ويهجر كل قول، ويقوم قانتا بلا حركة، متجها إلى الله تعالى بقلبه وجسده، ثم يكبر رافعا يديه ليحرم بالصلاة، معلنا أن الله تعالى أكبر في ذاته وأسمائه وصفاته من كل شيء، مستحضرا كبرياء الله تعالى وعظمته [مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحج:74} [وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] {الزُّمر:67} [وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {الجاثية:37} ولذا أمر سبحانه بتكبيره [وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا] {الإسراء:111}أي: عظمه عظمة تامة.
قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ :(والحكمة في ابتداء الصلاة بالتكبير: افتتاحها بالتنزيه والتعظيم لله تعالى، ونعته بصفات الكمال).
إن المصلي قد ترك الدنيا بأسرها ليعلن أن الله تعالى أكبر منها ومن أشغالها؛ ولذلك فهو ينبذ الدنيا، ويترك شغله مهما كبر في نفسه؛ لأن الله تعالى أكبر، وحقه عليه أعظم وأجلُّ، فيذل له قانتا وراكعا وساجدا.
ومن المعاني المذكورة في رفع اليدين مع التكبير، أن في رفعهما حال التكبير: إشارة إلى اطراح المصلي للدنيا، والإقبال بكليته على الصلاة، ومناجاة ربه سبحانه وتعالى، كما تضمن ذلك قوله (الله أكبر) وفيه الاستسلام والانقياد ليناسب فعله قوله، وفيه استعظام ما سيدخل فيه وهو الصلاة، وفيه إشارة إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود.
والمحافظة على تكبيرة الإحرام مع جماعة المسلمين هي من الرباط على الصلاة، وهي دليل على تعلق القلب بالمساجد، وثواب ذلك: محو الخطيئات، ورفع الدرجات، والاستظلال في الموقف العظيم بظل الرحمن.
ومن حافظ على تكبيرة الإحرام أثبت براءته من النفاق؛ لأن المنافقين [إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى] {النساء:142} ولا يحافظ على التكبيرة الأولى كسلان. ومن حافظ عليها كان كذلك حريا بالنجاة من النار؛ كما جاء في الحديث عن أنس رضي الله عنه: (من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق )رواه الترمذي.
ولأهميتها شرع لمن كان في نافلة أن يقطعها ليدرك تكبيرة الإحرام، إلا إذا أمكنه أن يتم نافلته قبل أن يحرم الإمام، وإدراكها يكون بوقوفه في الصف حين يكبر الإمام، فإذا كبر الإمام تابعه بالتكبير.
وهي في الصلاة ركن لا تصح الصلاة إلا بها، وهي أول شيء يبدأ العبد به صلاته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي.
إن السلف الصالح ـ عليهم رحمة الله تعالى ـ قد أدركوا منزلة الصلاة من دين الإسلام، وعرفوا قيمة المحافظة على تكبيرة الإحرام؛ فما أقعدهم عن إدراكها عجز ولا كسل، ولا حال بينهم وبينها مال ولا ولد، ولا أخرهم عنها صنعة ولا عمل؛ فلقد كانوا يتهيئون لصلاتهم قبل النداء، ومنهم من لم يسمع النداء إلا من داخل المسجد من مبالغته في التبكير إلى الجماعة، والمسابقة على الصف الأول، والحرص على تكبيرة الإحرام، وليس هذا منهم يوما أو يومين، أو شهرا أو شهرين، بل هو والله جلُّ أعمارهم، وأكثر أيامهم، فلله درهم ما أصبرهم، وما أشد رغبتهم في الخير! وما أعظم جهادهم لأنفسهم ! اقرءوا إن شئتم سيرهم، وقارنوا حالنا بحالهم!!
يقول عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء، وما دخل وقت صلاة حتى أشتاق إليها.
وعن سعيد بن المسيب ـ رحمه الله تعالى ـ قال:(ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد) وقال أيضا:(ما فاتتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة).
وعن ربيعة بن يزيد ـ رحمه الله تعالى ـ قال:(ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضا أو مسافرا).
وبشر بن منصور ـ رحمه الله تعالى ـ ما فاتته التكبيرة الأولى قط. وقال أبو عبد الله بن سماعة التيمي ـ رحمه الله تعالى ـ:(مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي). وكان إبراهيم بن ميمون المروزي يمتهن صياغة الذهب والفضة، فكان إذا رفع المطرقة فسمع النداء ألقاها، فلم يردها، ولم يطرق بها.
وقال وكيع:( كان الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه قريبا من سنتين فما رأيته يقضي ركعة).
وكانوا ـ رحمة الله تعالى عليهم ـ يأسون لحال من يتهاون بتكبيرة الإحرام، ويسقط من أعينهم؛ كما قال إبراهيم النخعي ـ رحمه الله تعالى ـ :(إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه).
تلك بعض أخبارهم مع تكبيرة الإحرام، وعسى أن نتأسى بهم في الخير والهدى، ونسأل الله تعالى أن يلحقنا بهم،إنه سميع قريب مجيب.
وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه [وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ] {النور:52}
أيها المسلمون: لصلاة الجماعة رجال يحافظون عليها، وللتكبيرة الأولى أفذاذ لا يفوتونها، وهم عُمَّار المساجد الذين امتدحهم الله تعالى بقوله جل جلاله [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {النور:36-38}
قال ابن بطال ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيرها: كانوا حدادين وخرازين، فكان أحدهم إذا رفع المطرقة، أو غرز الإشفي-وهو ما يخرز به- فسمع الأذان لم يخرج الإشفى من الغرزة، ولم يوقع المطرقة، ورمى بها، وقام إلى الصلاة).
وقد كان السلف يبتدرون عند الأذان، ويخلون الأسواق للصبيان وأهل الذمة، وكانوا يستأجرون بالقراريط لحفظ الحوانيت في أوقات الصلوات وكان ذلك معيشة لهم.
ولا زالت سنة تعطيل البيع والشراء والأعمال أثناء الصلاة قائمة في هذه البلاد المباركة بحمد الله تعالى وتوفيقه؛ سيرا على سنن أولئك، والتزاما بهديهم، ويريد المفسدون في الأرض إلغاء تلك السنة المباركة، بالقضاء على نظام الحسبة، أخزاهم الله تعالى وكبتهم، ولا بلغهم ما يريدون.
ورأى ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قوما من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة فقال: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه [رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله] {النور:37} وقال مطر الوراق:(كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة).
وإذا كان حال السلف مع التكبيرة الأولى ما قد سمعتم فإن في هذا الزمن من التزموا هذا الهدي، وساروا على السنة؛ فتراهم يسابقون إلى النداء والصف الأول، ويحرصون على إدراك التكبيرة الأولى، أكثرهم شيوخ وكهول، ومنهم شباب وفتيان، وما من مسجد من مساجد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلا وفيه منهم بضعة رجال، وهم مع محافظتهم على الجماعة، وحرصهم على التكبيرة الأولى لم يفتهم من الدنيا ما أدركه غيرهم ممن ضيعوا الصلوات، وهجروا الجماعات!! بل ربما أدركوا هم منها أكثر مما أدركه أولئك المفرطون.
ولكن الفرق بينهم وبين المفرطين أنهم ضبطوا أوقات الصلوات، وفرغوها من المشاغل والأعمال، وساروا في حياتهم على هذا النظام؛ فما يؤذن للصلاة إلا وهم في المسجد، إن كانوا في السوق ففي مسجد السوق، وإن كانوا في وظائفهم ففي مصليات أعمالهم، وإن كانوا في بيوتهم ففي مساجد حاراتهم، وإن كانوا في الطريق قصدوا أقرب المساجد. وإذا أراد واحدهم أن يعمل عملا، أو كانت له وجهة يقصدها نظر إلى ساعته، فقدَّر أن يبلغ وجهته قبل الأذان أو أرجأ سيره إلى ما بعد الصلاة، وبذا اعتادوا ضبط أوقاتهم على النداء، وليس في ذلك كبير عناء أو مشقة، بخلاف أكثر الناس الذين لا يأبهون بذلك، ولربما كان ضبطهم لأوقاتهم على الإقامة لا على الأذان، وكثيرا ما تفوتهم تكبيرة الإحرام ، ويفوتهم معها خير كثير.
ومن نظر إلى تزاحم الناس على البنوك عند الاكتتاب في الأسهم، حتى نقلت صور مخجلة في ذلك، وقارنه مع فراغ المساجد عند النداء، وفي بعض المساجد عند الإقامة؛ علم مدى تمكن الدنيا من القلوب، وتفريط أكثر الناس في الخير الدائم، وتقاعسهم عن تحصيل أسباب النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.
ألا فاتقوا الله ربكم، وخذوا من الخير حظكم، واعلموا أن ناسا عاشوا قبلكم، وآخرين معكم، منهم من لم تفته التكبيرة الأولى ثلاثين سنة وأربعين وسبعين، ومنهم من فاتتهم كثيرا، وكانوا معا في مآكلهم ومساكنهم وأعمالهم، المحسنون منهم والمفرطون!! وقد مضوا إلى قبورهم: المحسن منهم بإحسانه، والمفرط بتفريطه وحرمانه، وستمضون كما مضوا، وتجدون ما وجدوا، فأعدوا لذلك اليوم عدته، بالإيمان والعمل الصالح.
وصلوا وسلموا على نبيكم....
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى