رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
إصلاح ذات البين (2)
مجالات الصلح
الخطبة الأولى
الحمد لله؛ شرح قلوب من شاء من عباده بالإسلام، وألف بينهم بالإيمان، فكانوا إخوة في الله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] {آل عمران:103} نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛امتن على رسوله عليه الصلاة والسلام بإزالة الشحناء من قلوب أصحابه، وملأها محبة ومودة ووئاما [وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {الأنفال:63} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أمر بالصلح بين الناس، ودعا إليه، ورغب فيه، وبين ما رتب عليه من عظيم الأجر والثواب؛ حتى أخبرـ عليه الصلاة والسلام ـ أن السعي في إصلاح ذات البين أفضل من نوافل الصلاة والصدقة والصيام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وطَيِّبُوا قلوبكم على إخوانكم، ولينوا لهم، واحذروا الخصومة والشحناء فإنها الحالقة التي تحلق الدين [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] {الحجرات:10}.
أيها الناس: الاختلاف من سجايا البشر، والتنازع من عاداتهم؛ وذلك لاختلاف أخلاقهم وطباعهم؛ ولتنافسهم في حظوظ الدنيا من المال والشرف وغيرهما [وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ] {هود:119}.
وأكثر الناس يغضبون لأجل الدنيا ولا يغضبون للدين، وتنتهك حرمات الله تعالى فلا يتحرك قلب أحدهم، ولكنه يغضب أشد الغضب إذا انتقص شيء من دنياه، أو اعتدي على كرامته، ولأجل ذلك تكثر الخصومة فيما بينهم، بل قد تكون الخصومة على أمور حقيرة، وأسبابها تافهة ولكن الشيطان ينفخ فيها حتى تعظم في نفوس المتخاصمين، وقديما اشتعلت حرب البسوس بين بكر وتغلب فدامت أربعين سنة أكلت القبيلتين من أجل ناقة عقرت!! واشتعلت حرب داحس والغبراء في خيل سُبقت!! وليس ثمن الناقة أو الخيل أعلى من ثمن الرجال والقبائل حتى تُسَعَّر الحروب في سبيلها، ولكنه الشيطان الذي يُشعل الفتن الكبيرة من مستصغر شررها، فإن قضي على أسبابها في بادئها وإلا نفخ الشيطان في نارها حتى تُفنى قبائل فيها، وكم من قتيل ذهبت روحه في خصومة بدأت صغيرة فكبرت حتى فقدته أسرته؟! وكم من رحم قُطِعت سنوات طويلة بسبب كلام قيل فيه أو نقل عنه؟! وكم من إخوان تهاجروا في وشاية سرت بينهم؟!
إن الإسلام جاء بإصلاح ذات البين، وأوصد الطرق المؤدية إلى فسادها، وأمر المسلمين بالإصلاح بين المتخاصمين، كما حث المتخاصمين على قبول أيِّ مبادرة للصلح وفض النزاع والشقاق، وإنهاء القطيعة.
والخصومة قد تقع بين زعماء الدول حتى تصل إلى حروب يكتوي بنارها شعوب لا ذنب لها، وقد تقع الخصومة بين طائفتين من المسلمين: قبيلتين أو أسرتين أو جماعتين أو حزبين، فَتُفَرِّق أفرادَهما الخصومةُ وقد جمعهم الإسلام، وقد يوالون أعداء الله تعالى من الكفار والمنافقين في سبيل النيل من خصومهم وهم مسلمون مثلهم، وقد وقع ذلك كثيرا في القديم والحديث، ويعظم الإثم إن قطعت أرحامٌ بسبب ذلك، فإن نتج عن الخصومة اقتتال فالأمر أشد؛ لأنه عَوْدٌ إلى أمر الجاهلية التي أنقذنا الله تعالى منها بالإسلام، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للناس في حَجَّةِ الْوَدَاعِ:(لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)متفق عليه.
من أجل ذلك جاء الأمر الرباني بقطع دابر الخصومة، والسعي بين المتقاتلين من المسلمين بالإصلاح، وردع الفئة الباغية حتى تستكين إلى الصلح [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ]{الحجرات:9} .
روى أَنَسٌ ـ رضي الله عنه ـ قال:(قِيلَ لِلنَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لو أَتَيْتَ عَبْدَ الله بنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَرَكِبَ حِمَارًا فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ معه وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ فلما أَتَاهُ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِلَيْكَ عَنِّي، والله لقد آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ، فقال رَجُلٌ من الْأَنْصَارِ منهم: والله لَحِمَارُ رسول الله ^ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ فَغَضِبَ لِعَبْدِ الله رَجُلٌ من قَوْمِهِ فَشَتَمَهُ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أنها أُنْزِلَتْ: وَإِنْ طَائِفَتَانِ من الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)متفق عليه.
وحاز الحسنُ بن صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنهما ـ فضيلةَ حقنِ دماء المسلمين، وأخمد الله تعالى نار الفتنة على يديه، حين صالح معاويةَ ـ رضي الله عنه ـ، وتنازل عن الخلافة له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه:(إِنَّ ابْنِي هذا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بين فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ من الْمُسْلِمِينَ)رواه البخاري.
ووقعت خصومةٌ بين حيين من الأنصار فسعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للصلح بينهما؛ كما روى سَهْلُ بنُ سَعْدٍ ـ رضي الله عنه ـ :(أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حتى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فقال: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ)رواه البخاري.
وفي رواية لأبي داود:(فقال لِبِلَالٍ: إن حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ ولم آتِكَ فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ)
فَهَمَّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ بترك إمامة الناس في الصلاة مع عظيم شأنها من أجل الإصلاح بين المتخاصمين.
وقد تقع الخصومة بين الزوجين، وتشتد حتى يكون الطلاق نتيجتها، ويكون الأولاد ضحيتها. ولئلا تبلغ الخصومة بين الزوجين هذا المبلغ فإن الشارع الحكيم سبحانه شرع الصلح بين الزوجين، وأمر بتحكيم حكمين من أهلهما للقضاء على الخصومة، وإزالة أسباب التوتر والشقاق، والحفاظ على استقرار الأسرة، وسلامة الأولاد [وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا] {النساء:35}
وروى سَهْلُ بنُ سَعْدٍ ـ رضي الله عنه ـ قال:(جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَيْتَ فَاطِمَةَ فلم يَجِدْ عَلِيًّا في الْبَيْتِ فقال: أَيْنَ ابنُ عَمِّكِ؟ قالت: كان بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فلم يَقِلْ عِنْدِي، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِإِنْسَانٍ: انْظُرْ أَيْنَ هو، فَجَاءَ فقال: يا رَسُولَ الله، هو في الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مُضْطَجِعٌ قد سَقَطَ رِدَاؤُهُ عن شِقِّهِ وَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَمْسَحُهُ عنه وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ) متفق عليه
لاحظوا -أيها الإخوة- أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لفاطمة: أين ابنُ عمك، ولم يقل:أين ابنُ عمي، أو أين زوجُك، أو أين علي؛ لأنه عليه الصلاة والسلام فهم أنه جرى بينهما خصومة فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة النسبية التي بينهما، ثم تلطف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع علي ومسح التراب عنه ومازحه ليطيب خاطره، ويلين قلبه على زوجه، وهذا من الأسلوب الحسن في الإصلاح بين الزوجين.
وقد تكون الخصومة بسبب الأموال -وهي أكثر أنواع الخصومة وقوعا- إما في دينٍ لم يقضه صاحبه، أو في شركة اختصم الشركاء بسببها، أو في إرث تأخر الورثة في قسمته، أو وقف اختلفوا في فهم مراد الواقف فيه، أو وصية لوارث أخطأ فيها الموصي، أو غير ذلك.
وحري بمن هو قريب من المتخاصمين أن يسعى بالصلح فيما بينهم، ولو أن يقترح وضع بعض الدين أو تأجيله أو تقسيطه، فإن كانت الخصومة بين شركاء أزال أسبابها، أو سعى في فض شراكتهما بالعدل، فإن كانت الخصومة بسبب إرث سعى في قسمته وفق شرع الله تعالى، وإن كانت بسبب وصية جور رفع الظلم وصحح الخطأ [فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {البقرة:182} وما من خصومة إلا لها أسبابٌ إن سعى المصلح في إزالتها زال الشقاق، وحلَّ مكانه الوفاق.
روى كَعْبُ بنُ مَالِكٍ رضي الله عنه:(أنه تَقَاضَى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَيْنًا له عليه في عَهْدِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حتى سَمِعَهَا رسول الله وهو في بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رسول الله حتى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ وَنَادَى: يا كَعْبَ بن مَالِكٍ، يا كَعْبُ، قال: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله، فَأَشَارَ بيده أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ من دَيْنِكَ. قال كَعْبٌ: قد فَعَلْتُ يا رَسُولَ الله قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قُمْ فَاقْضِهِ) متفق عليه.
وروت عَائِشَةُ ـ رضي الله عنها ـ :(أن النبي سمع صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا وإذا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الْآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ في شَيْءٍ -أي دينٍ- وهو يقول: والله لَا أَفْعَلُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أَيْنَ الْمُتَأَلِّي على الله لَا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟ فقال: أنا يا رَسُولَ الله وَلَهُ أَيُّ ذلك أَحَبَّ) متفق عليه.
أسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا هداة مهتدين، صالحين مصلحين، لا ضالين ولا مضلين، إنه جواد كريم.أقول ما تسمعون....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واعملوا صالحا تجدوه أمامكم [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:7-8}.
أيها المسلمون: من أشد أنواع الخصومة ضررا وإثما ما يكون بين القرابة فتقطع بسببه الأرحام، ويتهاجر الإخوان والأعمام والأخوال والأصهار، وربما مكثوا سنواتٍ عدة على حال لا ترضي الله عز وجل، ولا ترضيهم وهم يؤمنون بالله تعالى، ويعلمون عظيم حق الرحم عليهم، ولكنه الشيطان الذي يئس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم، فيوهم كل واحد من الخصمين أن كرامته تقتضي الإصرار على رأيه، والبقاء على قطيعته لرحمه، وهجرانه لقريبه، وهذه نقطة الضعف التي يتسلل الشيطان منها إلى قلوب المتخاصمين.
ألا وإن القوة كل القوة، وإن منتهى الشجاعة والجرأة في دحر الشيطان، والانتصار على النفس، والمبادرة إلى الصلح، والسابق من الخصمين هو المنتصر، والمسبوق منهما يود بعد الصلح لو كان هو السابق، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
وواجب على كبراء الأسر، ووجهاء القبائل، ومديري الدوائر أن يصلحوا بين المتخاصمين في أسرهم وقبائلهم وإداراتهم، وكل ذي مال وجاه يقبل المتخاصمون منه ما لا يقبلون من غيره؛ فليزك ما أنعم الله تعالى عليه من المال والجاه بالصلح بين الناس؛ فينال رضوان الله تعالى، ومحبة الناس له.
عن عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ حُدِّثَتْ:(أَنَّ عَبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ قال في بَيْعٍ أو عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: والله لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أو لَأَحْجُرَنَّ عليها، فقالت: أَهُوَ قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لَا أُكَلِّمَ ابن الزُّبَيْرِ أَبَدًا -وكانت خالته ـ رضي الله عنهما- فَاسْتَشْفَعَ ابنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حين طَالَتْ الْهِجْرَةُ فقالت: لَا والله لَا أُشَفِّعُ فيه أَبَدًا، ولا أَتَحَنَّثُ إلى نَذْرِي، فلما طَالَ ذلك على ابنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرحمنِ بنَ الْأَسْوَدِ بنِ عبد يَغُوثَ وَهُمَا من بَنِي زُهْرَةَ، وقال لَهُمَا: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي على عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لَا يَحِلُّ لها أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي، فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرحمن مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حتى اسْتَأْذَنَا على عَائِشَةَ، فَقَالَا: السَّلَامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، أَنَدْخُلُ؟ قالت عَائِشَةُ: ادْخُلُوا، قالوا: كُلُّنَا؟ قالت: نَعَم ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، ولا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابنَ الزُّبَيْرِ، فلما دَخَلُوا دخل ابنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي، وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرحمن يُنَاشِدَانِهَا إلا ما كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ منه، وَيَقُولَانِ: إِنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عَمَّا قد عَلِمْتِ من الْهِجْرَةِ فإنه لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فلما أَكْثَرُوا على عَائِشَةَ من التَّذْكِرَةِ وَ التَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا وَتَبْكِي وَتَقُولُ: إني نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ، فلم يَزَالَا بها حتى كَلَّمَتْ ابنَ الزُّبَيْرِ، وَأَعْتَقَتْ في نَذْرِهَا ذلك أَرْبَعِينَ رقبةً وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذلك فَتَبْكِي حتى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا) رواه البخاري.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واسعوا في الصلح بين المتخاصمين من إخوانكم وقرابتكم وجيرانكم وزملائكم؛ فإن في ذلك خيرا عظيما [لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] {النساء:114}.
وليعلم كل مخاصم لأخيه المسلم أن عمله الصالح وعمل خصمه لا يرفع إلى الله تعالى حتى يصفو قلباهما على بعض، ويزيلا الشحناء بينهما؛ كما روى أبو هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:( تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يوم الاثنين وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شيئا إلا رَجُلًا كانت بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا، انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا، انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا) رواه مسلم.
وصلوا وسلموا....
إصلاح ذات البين (2)
مجالات الصلح
الخطبة الأولى
الحمد لله؛ شرح قلوب من شاء من عباده بالإسلام، وألف بينهم بالإيمان، فكانوا إخوة في الله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] {آل عمران:103} نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛امتن على رسوله عليه الصلاة والسلام بإزالة الشحناء من قلوب أصحابه، وملأها محبة ومودة ووئاما [وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {الأنفال:63} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أمر بالصلح بين الناس، ودعا إليه، ورغب فيه، وبين ما رتب عليه من عظيم الأجر والثواب؛ حتى أخبرـ عليه الصلاة والسلام ـ أن السعي في إصلاح ذات البين أفضل من نوافل الصلاة والصدقة والصيام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وطَيِّبُوا قلوبكم على إخوانكم، ولينوا لهم، واحذروا الخصومة والشحناء فإنها الحالقة التي تحلق الدين [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] {الحجرات:10}.
أيها الناس: الاختلاف من سجايا البشر، والتنازع من عاداتهم؛ وذلك لاختلاف أخلاقهم وطباعهم؛ ولتنافسهم في حظوظ الدنيا من المال والشرف وغيرهما [وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ] {هود:119}.
وأكثر الناس يغضبون لأجل الدنيا ولا يغضبون للدين، وتنتهك حرمات الله تعالى فلا يتحرك قلب أحدهم، ولكنه يغضب أشد الغضب إذا انتقص شيء من دنياه، أو اعتدي على كرامته، ولأجل ذلك تكثر الخصومة فيما بينهم، بل قد تكون الخصومة على أمور حقيرة، وأسبابها تافهة ولكن الشيطان ينفخ فيها حتى تعظم في نفوس المتخاصمين، وقديما اشتعلت حرب البسوس بين بكر وتغلب فدامت أربعين سنة أكلت القبيلتين من أجل ناقة عقرت!! واشتعلت حرب داحس والغبراء في خيل سُبقت!! وليس ثمن الناقة أو الخيل أعلى من ثمن الرجال والقبائل حتى تُسَعَّر الحروب في سبيلها، ولكنه الشيطان الذي يُشعل الفتن الكبيرة من مستصغر شررها، فإن قضي على أسبابها في بادئها وإلا نفخ الشيطان في نارها حتى تُفنى قبائل فيها، وكم من قتيل ذهبت روحه في خصومة بدأت صغيرة فكبرت حتى فقدته أسرته؟! وكم من رحم قُطِعت سنوات طويلة بسبب كلام قيل فيه أو نقل عنه؟! وكم من إخوان تهاجروا في وشاية سرت بينهم؟!
إن الإسلام جاء بإصلاح ذات البين، وأوصد الطرق المؤدية إلى فسادها، وأمر المسلمين بالإصلاح بين المتخاصمين، كما حث المتخاصمين على قبول أيِّ مبادرة للصلح وفض النزاع والشقاق، وإنهاء القطيعة.
والخصومة قد تقع بين زعماء الدول حتى تصل إلى حروب يكتوي بنارها شعوب لا ذنب لها، وقد تقع الخصومة بين طائفتين من المسلمين: قبيلتين أو أسرتين أو جماعتين أو حزبين، فَتُفَرِّق أفرادَهما الخصومةُ وقد جمعهم الإسلام، وقد يوالون أعداء الله تعالى من الكفار والمنافقين في سبيل النيل من خصومهم وهم مسلمون مثلهم، وقد وقع ذلك كثيرا في القديم والحديث، ويعظم الإثم إن قطعت أرحامٌ بسبب ذلك، فإن نتج عن الخصومة اقتتال فالأمر أشد؛ لأنه عَوْدٌ إلى أمر الجاهلية التي أنقذنا الله تعالى منها بالإسلام، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للناس في حَجَّةِ الْوَدَاعِ:(لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)متفق عليه.
من أجل ذلك جاء الأمر الرباني بقطع دابر الخصومة، والسعي بين المتقاتلين من المسلمين بالإصلاح، وردع الفئة الباغية حتى تستكين إلى الصلح [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ]{الحجرات:9} .
روى أَنَسٌ ـ رضي الله عنه ـ قال:(قِيلَ لِلنَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لو أَتَيْتَ عَبْدَ الله بنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَرَكِبَ حِمَارًا فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ معه وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ فلما أَتَاهُ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِلَيْكَ عَنِّي، والله لقد آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ، فقال رَجُلٌ من الْأَنْصَارِ منهم: والله لَحِمَارُ رسول الله ^ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ فَغَضِبَ لِعَبْدِ الله رَجُلٌ من قَوْمِهِ فَشَتَمَهُ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أنها أُنْزِلَتْ: وَإِنْ طَائِفَتَانِ من الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)متفق عليه.
وحاز الحسنُ بن صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنهما ـ فضيلةَ حقنِ دماء المسلمين، وأخمد الله تعالى نار الفتنة على يديه، حين صالح معاويةَ ـ رضي الله عنه ـ، وتنازل عن الخلافة له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه:(إِنَّ ابْنِي هذا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بين فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ من الْمُسْلِمِينَ)رواه البخاري.
ووقعت خصومةٌ بين حيين من الأنصار فسعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للصلح بينهما؛ كما روى سَهْلُ بنُ سَعْدٍ ـ رضي الله عنه ـ :(أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حتى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فقال: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ)رواه البخاري.
وفي رواية لأبي داود:(فقال لِبِلَالٍ: إن حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ ولم آتِكَ فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ)
فَهَمَّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ بترك إمامة الناس في الصلاة مع عظيم شأنها من أجل الإصلاح بين المتخاصمين.
وقد تقع الخصومة بين الزوجين، وتشتد حتى يكون الطلاق نتيجتها، ويكون الأولاد ضحيتها. ولئلا تبلغ الخصومة بين الزوجين هذا المبلغ فإن الشارع الحكيم سبحانه شرع الصلح بين الزوجين، وأمر بتحكيم حكمين من أهلهما للقضاء على الخصومة، وإزالة أسباب التوتر والشقاق، والحفاظ على استقرار الأسرة، وسلامة الأولاد [وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا] {النساء:35}
وروى سَهْلُ بنُ سَعْدٍ ـ رضي الله عنه ـ قال:(جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَيْتَ فَاطِمَةَ فلم يَجِدْ عَلِيًّا في الْبَيْتِ فقال: أَيْنَ ابنُ عَمِّكِ؟ قالت: كان بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فلم يَقِلْ عِنْدِي، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِإِنْسَانٍ: انْظُرْ أَيْنَ هو، فَجَاءَ فقال: يا رَسُولَ الله، هو في الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مُضْطَجِعٌ قد سَقَطَ رِدَاؤُهُ عن شِقِّهِ وَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَمْسَحُهُ عنه وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ) متفق عليه
لاحظوا -أيها الإخوة- أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لفاطمة: أين ابنُ عمك، ولم يقل:أين ابنُ عمي، أو أين زوجُك، أو أين علي؛ لأنه عليه الصلاة والسلام فهم أنه جرى بينهما خصومة فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة النسبية التي بينهما، ثم تلطف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع علي ومسح التراب عنه ومازحه ليطيب خاطره، ويلين قلبه على زوجه، وهذا من الأسلوب الحسن في الإصلاح بين الزوجين.
وقد تكون الخصومة بسبب الأموال -وهي أكثر أنواع الخصومة وقوعا- إما في دينٍ لم يقضه صاحبه، أو في شركة اختصم الشركاء بسببها، أو في إرث تأخر الورثة في قسمته، أو وقف اختلفوا في فهم مراد الواقف فيه، أو وصية لوارث أخطأ فيها الموصي، أو غير ذلك.
وحري بمن هو قريب من المتخاصمين أن يسعى بالصلح فيما بينهم، ولو أن يقترح وضع بعض الدين أو تأجيله أو تقسيطه، فإن كانت الخصومة بين شركاء أزال أسبابها، أو سعى في فض شراكتهما بالعدل، فإن كانت الخصومة بسبب إرث سعى في قسمته وفق شرع الله تعالى، وإن كانت بسبب وصية جور رفع الظلم وصحح الخطأ [فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {البقرة:182} وما من خصومة إلا لها أسبابٌ إن سعى المصلح في إزالتها زال الشقاق، وحلَّ مكانه الوفاق.
روى كَعْبُ بنُ مَالِكٍ رضي الله عنه:(أنه تَقَاضَى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَيْنًا له عليه في عَهْدِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حتى سَمِعَهَا رسول الله وهو في بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رسول الله حتى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ وَنَادَى: يا كَعْبَ بن مَالِكٍ، يا كَعْبُ، قال: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله، فَأَشَارَ بيده أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ من دَيْنِكَ. قال كَعْبٌ: قد فَعَلْتُ يا رَسُولَ الله قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قُمْ فَاقْضِهِ) متفق عليه.
وروت عَائِشَةُ ـ رضي الله عنها ـ :(أن النبي سمع صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا وإذا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الْآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ في شَيْءٍ -أي دينٍ- وهو يقول: والله لَا أَفْعَلُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أَيْنَ الْمُتَأَلِّي على الله لَا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟ فقال: أنا يا رَسُولَ الله وَلَهُ أَيُّ ذلك أَحَبَّ) متفق عليه.
أسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا هداة مهتدين، صالحين مصلحين، لا ضالين ولا مضلين، إنه جواد كريم.أقول ما تسمعون....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واعملوا صالحا تجدوه أمامكم [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:7-8}.
أيها المسلمون: من أشد أنواع الخصومة ضررا وإثما ما يكون بين القرابة فتقطع بسببه الأرحام، ويتهاجر الإخوان والأعمام والأخوال والأصهار، وربما مكثوا سنواتٍ عدة على حال لا ترضي الله عز وجل، ولا ترضيهم وهم يؤمنون بالله تعالى، ويعلمون عظيم حق الرحم عليهم، ولكنه الشيطان الذي يئس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم، فيوهم كل واحد من الخصمين أن كرامته تقتضي الإصرار على رأيه، والبقاء على قطيعته لرحمه، وهجرانه لقريبه، وهذه نقطة الضعف التي يتسلل الشيطان منها إلى قلوب المتخاصمين.
ألا وإن القوة كل القوة، وإن منتهى الشجاعة والجرأة في دحر الشيطان، والانتصار على النفس، والمبادرة إلى الصلح، والسابق من الخصمين هو المنتصر، والمسبوق منهما يود بعد الصلح لو كان هو السابق، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
وواجب على كبراء الأسر، ووجهاء القبائل، ومديري الدوائر أن يصلحوا بين المتخاصمين في أسرهم وقبائلهم وإداراتهم، وكل ذي مال وجاه يقبل المتخاصمون منه ما لا يقبلون من غيره؛ فليزك ما أنعم الله تعالى عليه من المال والجاه بالصلح بين الناس؛ فينال رضوان الله تعالى، ومحبة الناس له.
عن عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ حُدِّثَتْ:(أَنَّ عَبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ قال في بَيْعٍ أو عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: والله لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أو لَأَحْجُرَنَّ عليها، فقالت: أَهُوَ قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لَا أُكَلِّمَ ابن الزُّبَيْرِ أَبَدًا -وكانت خالته ـ رضي الله عنهما- فَاسْتَشْفَعَ ابنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حين طَالَتْ الْهِجْرَةُ فقالت: لَا والله لَا أُشَفِّعُ فيه أَبَدًا، ولا أَتَحَنَّثُ إلى نَذْرِي، فلما طَالَ ذلك على ابنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرحمنِ بنَ الْأَسْوَدِ بنِ عبد يَغُوثَ وَهُمَا من بَنِي زُهْرَةَ، وقال لَهُمَا: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي على عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لَا يَحِلُّ لها أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي، فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرحمن مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حتى اسْتَأْذَنَا على عَائِشَةَ، فَقَالَا: السَّلَامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، أَنَدْخُلُ؟ قالت عَائِشَةُ: ادْخُلُوا، قالوا: كُلُّنَا؟ قالت: نَعَم ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، ولا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابنَ الزُّبَيْرِ، فلما دَخَلُوا دخل ابنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي، وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرحمن يُنَاشِدَانِهَا إلا ما كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ منه، وَيَقُولَانِ: إِنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عَمَّا قد عَلِمْتِ من الْهِجْرَةِ فإنه لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فلما أَكْثَرُوا على عَائِشَةَ من التَّذْكِرَةِ وَ التَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا وَتَبْكِي وَتَقُولُ: إني نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ، فلم يَزَالَا بها حتى كَلَّمَتْ ابنَ الزُّبَيْرِ، وَأَعْتَقَتْ في نَذْرِهَا ذلك أَرْبَعِينَ رقبةً وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذلك فَتَبْكِي حتى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا) رواه البخاري.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واسعوا في الصلح بين المتخاصمين من إخوانكم وقرابتكم وجيرانكم وزملائكم؛ فإن في ذلك خيرا عظيما [لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] {النساء:114}.
وليعلم كل مخاصم لأخيه المسلم أن عمله الصالح وعمل خصمه لا يرفع إلى الله تعالى حتى يصفو قلباهما على بعض، ويزيلا الشحناء بينهما؛ كما روى أبو هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ رَسُولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:( تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يوم الاثنين وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شيئا إلا رَجُلًا كانت بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا، انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا، انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا) رواه مسلم.
وصلوا وسلموا....
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى