رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. محمد بن عبد الله الخضيري
عبارة الموت عبر ودروس
الحمد لله (( الذي الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ)) (الملك:4،2 ) .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا حول ولا قوة إلا به،
ولا خير يرجي في يديه، هو ملاذ العباد إن ضاقت بهم الحيل، وهو ملجؤهم إذا انقطع الأمل، يقلب الليل والنهار، ويقدر الأمور على ما يشاء ويختار، سبحانه من إلهٍ عظيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، وخليله وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصبحه والتابعين لهم بإحسان أما بعد
اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعلقوا قلبوكم بربكم – جلا وعلا – فهو مولاكم، فنعم المولى ونعم النصير، الله خلقكم من العدم، وأسبغ عليكم النعم، وكتب آجالكم، وساق أرزاقكم، وعرفكم طريق النجاة، فاعبدوه واشكروا له إليه ترجعون.
أيها المسلمون :
يعيش الناس في هذه الدنيا- وحالُ الكثير منهم – في غفلة عما حولهم من العبر والكوارث، والأحداث والآيات، زلازل وبراكين، وحروب ومجاعات، وغرق وفيضانات، وأمراض وعظات،
يقدرها – العلي القدير – ليستفيد منها أقوام، ويتغط بها آخرون .
ولتقوم الحجة على المعرضين: (( أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ)) (التوبة:126)
أيها المسلمون :
إن من أسماء الله الحسنى " القوي " (( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)) (هود:66).
(( مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) (الحج:74)
وله صفة القوة فلا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، ولا لقضائه راد ، ومن أسمائه : ( العزيز ) (( فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً)) (فاطر10 ).
عزة القوة وعزة الغلبة وعزة الامتناع، خشعت له الأصوات، وخضع له من في الأرض والسماوات، وقهر جميع الموجودات، (( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)) (الأنعام:18).
(( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )) (الأنعام:95). (( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)) (طه:110).
لا يخفي عليه الجبل ولا في وعره ولا البحر ولا في قعره، (( وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)) (إبراهيم:38).
(( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى* لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى* وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى* اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى)) (طه:8،5).
أيها المسلمون: لو أخذن آيةً من خلق الله ووقفنا على شيء فيها من عجائب قدرته وعظيم حكمته، فلعل منا من يدّ كر ولربما أن يوجد من يعتبر تلكم هي السفن التي تجري في البحر بأمر الله ، وتشق العُقاب، وتناطح الأمواج، وتنقل العباد والمتاع على ظهر الماء يجريها، ( القوي القادر ) سبحانه وبحمده، يقول تعالى: (( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ* إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ))
(الشورى:34،32) .
أي ومن علاماته الدالة على قدرته السفن الجارية في البحر كأنها من عظمها جبال، أو كأنها قصو، وكانت في السابق وما زال بعضها الآن تشق البحر، وتمخره بلا قائد يقودها، ولا سائق يسوقها، وإنما قائدها وسائقها – بإذن الله – هي الريح التي يسخرها الله لإجرائها، ويقول تعالى (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) (البقرة:164)
قال القرطبي- رحمه الله- 2/194 ووجه الآية في الفلك: تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء مع ثقلها، وأول من عملها نوح – عليه الصلاة والسلام – كما أخبر الله تعالى ...)
فما أعظمها من أيةٍ وأبينها من دلالة، ولهذا يكرر سبحانه ذكرها في كتابه كثيراً[1] يقول تعالى عن سفينة نوح:(( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ )) (هود:42).
أمواج عاتية وتيارات من الماء عنيفة، وإنما النجاة من الله القدير، فسفينة نوح التي حملته ومن معه من المؤمنين كانت تجري بأهلها في فوج كالجبال بعد أن فتح الله أبواب السماء بماء منهمر وفجر الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر، وهذه الصورة تجر العبد على ركوب البحر في غير هيجانه، وتطمأن العبد عمق اليقين بقضاء الله وقدره بعد أخذ العبد بالأسباب المباحة، ثم هذه السفينة تسير بعناية الله وحفظه وكلائه، قال تعالى عن سفينة نوح: (( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)) (القمر:14) .
وقال عن رحمته بالعباد وفضله عليهم في الفلك والسفن.
((وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ)) (إبراهيم:32) .
إن تسخير السفن آية واضحة على وحدانية الله تعالى، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء، ولكن إذا أراد الله أمراً فلا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، فقد تغرق السفينة بمن فيها وقد ينجو بعضهم، قال تعالى: (( إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ)) (الشورى:33).
قال القرطبي: أي إن يشأ الله يجعل الريح عواصف فيوبق السفن: أي يغرقهن بذنون أهلها، (( وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ)) (الشورى:34) .
من أهلكها فلا يغرقهم معها، وقيل أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك (16/33) .
ولقد كان الكفار إذا توسطوا في البحر، وغشيتهم الرياح من كل مكان وايقنوا بالهلاك، عملوا أن لا ملجأ لهم سوى الله، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم، فيخلصون له العبادة، (( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)) (العنكبوت:65).
(( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإنْسَانُ كَفُوراً * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً)) (الإسراء 67، 68).
عباد الله: قبل خمسة عشر يوماً كانت عبارة ضخمة، (وهي سفينة كبيرة) انطلقت من ساحل ضبا حاملة ما يزيد عن ألف وأربعمائة إنسان، فيهم الشيوخ والنساء والشباب والأطفال بأمتعتهم وبضائعهم إلى مصر، فيها أناس من الحجاج وغيرهم، فلما توسطت بهم البحر، أصابها خلل فبدأت تحترق من أسفلها، فذهل الناس فيها، وعلت الأصوات وأشتد البكاء،
واشتغل كل إنسان بنفسه، وتفرق الأحباب ثم انقلبت هذه السفينة الضخمة، وتقاذف الناس الذين على ظهرها، وبداخلها في لجج البحر وفي ظلمة الليل، فمنهم من تعلق بقارب صغيرة، ومنه من سبح، ومنهم من أمسك بخشبة، ومنهم من تضبت بطوق نجاة، ومنهم من تعلق برجل إنسان أمامه.
تهاوى مآت الناس من كل جانبٍ
إلى البحر تمضي فرقه بعد فرقه[2]
قفزت مع الأحباب قفزت هارب
يواجه ما يلقى بذهن مشتت
إلى أين ؟ لا أدري إلى أين إننا ..
نفر على موج وحوت ولجه
تلقفنا الموت الرهيب فلا أبي
رأيت ولا أمري الروم وإخواتي
ومن رافع إحدى يديه ملوحاً
تخطفه موج فالهب حسرتي
هكذا يقول بعض الناجين من هذا المركب ممن لهم بقية أجل لم يستكملوه سبحان الله أمواج كالجبال ، ارتفعت معها صرخات النساء والأطفال والشباب الرجال ، هنا يفزع هنا صار ذكر الله أعظم ثروة .. وقيمة تقوى الله أعظم قيمة هنا يتين للمرء لحظات الاضطرار (( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ )) (النمل:62) .
(( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)) (الأنعام:63-64) .
في هذه اللحظات الحاسمة يتباين النسا فمنهم من ينطق بكلمة التوحيد ومنهم من يسخط على ربه ومنهم من يدعو ويضرع ، قلوب خائفة ، وعيون دامعة ونوف منهكة، نسى المرء هنا أمواله وثرواته ، ولم يفكر إلا في نجاته
أقوى فؤادي بالرجاء هنيهة فملا يثور البحر تبهار قوتين[3]
وأصبحت الدنيا كلحم بلامدى وهات أمام الموت علمي وثروتي.
إنها لحظات عجيبة ، وساعات عصيبة ، يصورها أحد الناجين بقوله
مما أدهشني مشهد انقلاب هذه العبارة الضخمة بامتعتها ومطاعمها واسواقها, ثم مشهد تقاذف الناس في بحر مظلم ، مع ريح شديدة باردة ، والنسا بعضهم فوق بعض فيا لله كم أم تسأل عن طفلها وكأنها تناست نفسها ، وكم من أم ترى فلذة كبدها والأمواج ترفعه ثم تخفضه ، يقول أحد الناجين .
أبٌ يقول لنا نحن في قارب صغير ( خذوا ولدي انقذوهما اتركوني )
لحظات يودع فيها الأحباب والأهل والأقارب والأصدقاء بعضهم بعضاً بحزن عميق
نظرت إلى أهلي فديت عيونهم ... تبادلني بالحزن أعمق نظرتي[4]
فكان حديثاً بالعيون محملاً ... بحزن وآلام وإحساس فرقةِ
وهكذا تفرق الناس وذهبوا مذاهب شتى فمنهم من نجاه الله مع طول مدة بقائه في الأمواج حيث بقي بعضهم ثمان وأربعين ساعة وربما أكثر من ذلك . ومنهم من غرق في البحر – نسأل الله أن يتغمدهم بواسع رحمته وأن يجعلهم من الشهداء وأن يخلفهم في أهليهم بخير .
عزائي لكم يا من فقدتم أحبةً ... كفقدي أمام العين أعلى احبتي [5]
عزاء محب صدمه الهول لم تزل ... تلاحقه في كلنوم وصحوة
رضانا بما يقضي الإله دليلنا ... إلى راحة كبرى وعفو ورحمة
أيها المسلمون : بغض النظر عن الأسباب المادية لقوقع هذه الكارثة
إلا أنني أوكدها هنا على أن المسلم يؤمن بقضاء الله ، وأن الله قدّر آجال الخلائق وأرزاقهم قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة
(( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) (الحديد:22)
(( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)) (التغابن 11) .
والله تعالى لا يتهم في قضائه وهو الحكيم العليم والأخذ بالأسباب مشروع للعبد ولكن العبد لا يعتمد عليها بل يلجأ إلى فاطر الأرض والسماوات الذي بيده الدنيا والآخرة وله الحكم وإلهي يرجع الأمر كله
(( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)) (هود:123) .
وفوض أمرك إليه ، ولا تقلق بغيره ، ولا تحب سواه وما يحب جلا وعلا – واستقم على طاعته فهذا سبيل النجاة في الدارين وفقني الله وإياكم لما يرضيه ، وجعلنا ممن يعتبر ويفكر ويتعظ ويدّكر واستغفره فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً ، وسبحانه الله بكرة وأصيلا ،
وأشهد أن لا إلهي إلا الله وحده لا شريك له تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً
واشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله إلى الثقلين بشيراً ونذيراً
صلى الله عليه وعلى أله واصحابه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد : فالعاقل إذا سمع بالأحداث من حوله ، والآيات في حق غيره ثم نقصه، وأحسن علمه ، فكيف بمن رآها عياناً في غيره ، فكيف بمن وجها في نفسه (( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ)) (فصلت:53)
فكلما اتحي من جثمانه أثر ، زاد إيمانه أثر ، ولكما نقص من قوى بدنه ، زاد في قوة إيماه ويقينه ورغبته في الله والدار الآخرة فإن لم هكذا فالموت خير له[6] فمن لم يورثه طول العمر الاستدارك واغتنام الفرص في العمل الصالح وإلا فهو على خطر قال تعالى (( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ)) ( فاطر 37) .
واليقين عباد الله منزلة عالية يدركها العبد بما يقول الله بثلاثة أمور
تدبر القرآن وتدبر الآيات التي يحدثها الله في الأنفس والآفات التي تبين أنه الحق والعلم بموجب العلم قال تعالى : (( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (فصلت:53) الضمير عائد على القرآن ) .
إن ما يستفاد من هذه الحادثة اثر الدعاء ولا سيما في ظلمات البحر وخاصة عند الرخاء )
هذا نبي الله ورسوله يونس من متى - عليه الصلاة والسلام- حيث وقع في البحر وكل الله به الحوت فابتلعه فهو به إلى قرار أرض البحر فسمع يونس تسبيح الحصى (( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) (الأنبياء:87) .
ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل قال تعالى : (( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)) (الأنبياء:76)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أن سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا بها مسلم في شيء قط إلا فرج الله عنه ))
ومن العبر : حقاره الدنيا، وقصر مدتها فالإنسان لا يدري متى يطويه الموت ولا في أي مكان (( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)) (لقمان:34)
وإذا أراد الله قبض عبدٍ بمكان جعل له إليه حاجة فأولى بالمرء أن يتزود بعلم صالح قبل الارتحال . ألآ بسما هذه الحياة ولهوها ... وبئس بلهوي في الحياة وغفلتي
فما أهون الدنيا التي إن سرت أحزنت وإن أضحكت أبكت
طُبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدارِ
وأنما الراحة الكبرى ، والسرور الدائم ، هناك في الجنة حيث النعيم المقيم (( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)) (فاطر:34) .
((لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ)) (الحجر : 48).
ومن العبر : لنا معاشر الأحياء عظيم أثر الأعمال الصالحة في وقت الرخاء وأن الله ينجي بها من يشاء فلقد ذكر بعض الناجين من الفرق بأن رجلاً يتجاوز السبعين من العمر نجا ولم يفقد من أسرته أحد مع تأخر الإنقاذ لأصحاب السفينة المنكوبين والأمواج تتقاذفه ثم نجاه الله تعالى ولكم تذكون خبر الثلاثة من بني إسرائيل الذين انطبقت الصخرة عليهم فدعو الله بصالح أعمالهم بر الوالدين ، وإعطاء لناس حقوقهم والعفة عن الحرام بعد القدرة عليه والحديث في الصحيحين ولربما أن الله اختار لبعضهم الشهادة كالغريق شهيد كما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن العبر ضعف الإنسان مهما بلغت قوته وضرورته إلى ربه جل وعلا في كل وقت ولا سيما عند اشتداد الأزمات ، وحاجة العبد إلى الثبات (( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)) (إبراهيم:27)
ولكنه يطغي، وينسى العلي الأعلى إذا ظن أنه قد استغنى قال الله تعالى (( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى* إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)) (العلق:6-8).
فيا عجباً لمن لمن يجادلون الله ورسوله ، ويتطالعون على الناس، ويظلمون عباد الله ، ويفسدون في الأرض بمعصية الله ويبدلون نعمة الله كفرا (( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ)) (النحل:83).
اشتغلوا أنفسهم بغير ما خلقوا من أجله ، وأثروا ما يغني على ما يبقى حياتهم لهو ولعب، وعنا وطرب ، اضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ((اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ)) (الأنبياء:1) .
قست قلوبهم من أكل الحرام فما تنفعهم المواعظة والعبر مرضت قلوبهم فما شعروا ، وجاءتهم العبر فما اعتبروا ، ووصت إليهم النذر فاعرضوا ، وذكروا فغضوبا واستكبروا ،
ألا ليت أهل البغي في الأرض لامسوا من البحر والأمواج سر المنية
فيا ربما عادوا إلى الحق عودة وتابوا إلى الرحمن أجمل توبة
نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة
وأن يرزقنا التوبة الصادقة وأن يشفي جميع مرضى المسلمين وأن يفك أسرهم ويرحم موتاهم، ويتقبل شهدائهم، وأن يصلح علمائهم وولاتهم وشبابهم ونسائهم .
وأن يقطع دابر المفسدين وأن يرد كيد الكافرين المتعدين إلى نحورهم اللهم عليك بالكفرة والمعاندين الذين يسبون رسولك الكريم صلى الله عليه وسلم
اللهم أهدهم إلى الإسلام فإن لم يهتدوا فنسألك اللهم أن تنزل بهم العقوبات المتعددة والأمراض المتنوعة وأن تكفي المسلمين شرهم بما شئت وأنت السميع العليم.
[1] مفتاح دار السعادة ج2/ط دار الله الجوزري
[2] من قصيدة بهذه الحادثة للدكتور عبد الرحمن العشماوي
[3] من قصيدة العشماوي أنفة الذكر
[4] من قصيدة العشماوي أنفة الذكر
[5] من قصيدة العشماوي أنفة الذكر
[6] من قصيدة العشماوي أنفة الذكر
عبارة الموت عبر ودروس
الحمد لله (( الذي الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ)) (الملك:4،2 ) .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا حول ولا قوة إلا به،
ولا خير يرجي في يديه، هو ملاذ العباد إن ضاقت بهم الحيل، وهو ملجؤهم إذا انقطع الأمل، يقلب الليل والنهار، ويقدر الأمور على ما يشاء ويختار، سبحانه من إلهٍ عظيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، وخليله وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصبحه والتابعين لهم بإحسان أما بعد
اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعلقوا قلبوكم بربكم – جلا وعلا – فهو مولاكم، فنعم المولى ونعم النصير، الله خلقكم من العدم، وأسبغ عليكم النعم، وكتب آجالكم، وساق أرزاقكم، وعرفكم طريق النجاة، فاعبدوه واشكروا له إليه ترجعون.
أيها المسلمون :
يعيش الناس في هذه الدنيا- وحالُ الكثير منهم – في غفلة عما حولهم من العبر والكوارث، والأحداث والآيات، زلازل وبراكين، وحروب ومجاعات، وغرق وفيضانات، وأمراض وعظات،
يقدرها – العلي القدير – ليستفيد منها أقوام، ويتغط بها آخرون .
ولتقوم الحجة على المعرضين: (( أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ)) (التوبة:126)
أيها المسلمون :
إن من أسماء الله الحسنى " القوي " (( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)) (هود:66).
(( مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) (الحج:74)
وله صفة القوة فلا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، ولا لقضائه راد ، ومن أسمائه : ( العزيز ) (( فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً)) (فاطر10 ).
عزة القوة وعزة الغلبة وعزة الامتناع، خشعت له الأصوات، وخضع له من في الأرض والسماوات، وقهر جميع الموجودات، (( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)) (الأنعام:18).
(( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )) (الأنعام:95). (( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)) (طه:110).
لا يخفي عليه الجبل ولا في وعره ولا البحر ولا في قعره، (( وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)) (إبراهيم:38).
(( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى* لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى* وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى* اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى)) (طه:8،5).
أيها المسلمون: لو أخذن آيةً من خلق الله ووقفنا على شيء فيها من عجائب قدرته وعظيم حكمته، فلعل منا من يدّ كر ولربما أن يوجد من يعتبر تلكم هي السفن التي تجري في البحر بأمر الله ، وتشق العُقاب، وتناطح الأمواج، وتنقل العباد والمتاع على ظهر الماء يجريها، ( القوي القادر ) سبحانه وبحمده، يقول تعالى: (( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ* إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ))
(الشورى:34،32) .
أي ومن علاماته الدالة على قدرته السفن الجارية في البحر كأنها من عظمها جبال، أو كأنها قصو، وكانت في السابق وما زال بعضها الآن تشق البحر، وتمخره بلا قائد يقودها، ولا سائق يسوقها، وإنما قائدها وسائقها – بإذن الله – هي الريح التي يسخرها الله لإجرائها، ويقول تعالى (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) (البقرة:164)
قال القرطبي- رحمه الله- 2/194 ووجه الآية في الفلك: تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء مع ثقلها، وأول من عملها نوح – عليه الصلاة والسلام – كما أخبر الله تعالى ...)
فما أعظمها من أيةٍ وأبينها من دلالة، ولهذا يكرر سبحانه ذكرها في كتابه كثيراً[1] يقول تعالى عن سفينة نوح:(( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ )) (هود:42).
أمواج عاتية وتيارات من الماء عنيفة، وإنما النجاة من الله القدير، فسفينة نوح التي حملته ومن معه من المؤمنين كانت تجري بأهلها في فوج كالجبال بعد أن فتح الله أبواب السماء بماء منهمر وفجر الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر، وهذه الصورة تجر العبد على ركوب البحر في غير هيجانه، وتطمأن العبد عمق اليقين بقضاء الله وقدره بعد أخذ العبد بالأسباب المباحة، ثم هذه السفينة تسير بعناية الله وحفظه وكلائه، قال تعالى عن سفينة نوح: (( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)) (القمر:14) .
وقال عن رحمته بالعباد وفضله عليهم في الفلك والسفن.
((وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ)) (إبراهيم:32) .
إن تسخير السفن آية واضحة على وحدانية الله تعالى، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء، ولكن إذا أراد الله أمراً فلا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، فقد تغرق السفينة بمن فيها وقد ينجو بعضهم، قال تعالى: (( إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ)) (الشورى:33).
قال القرطبي: أي إن يشأ الله يجعل الريح عواصف فيوبق السفن: أي يغرقهن بذنون أهلها، (( وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ)) (الشورى:34) .
من أهلكها فلا يغرقهم معها، وقيل أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك (16/33) .
ولقد كان الكفار إذا توسطوا في البحر، وغشيتهم الرياح من كل مكان وايقنوا بالهلاك، عملوا أن لا ملجأ لهم سوى الله، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم، فيخلصون له العبادة، (( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)) (العنكبوت:65).
(( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإنْسَانُ كَفُوراً * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً)) (الإسراء 67، 68).
عباد الله: قبل خمسة عشر يوماً كانت عبارة ضخمة، (وهي سفينة كبيرة) انطلقت من ساحل ضبا حاملة ما يزيد عن ألف وأربعمائة إنسان، فيهم الشيوخ والنساء والشباب والأطفال بأمتعتهم وبضائعهم إلى مصر، فيها أناس من الحجاج وغيرهم، فلما توسطت بهم البحر، أصابها خلل فبدأت تحترق من أسفلها، فذهل الناس فيها، وعلت الأصوات وأشتد البكاء،
واشتغل كل إنسان بنفسه، وتفرق الأحباب ثم انقلبت هذه السفينة الضخمة، وتقاذف الناس الذين على ظهرها، وبداخلها في لجج البحر وفي ظلمة الليل، فمنهم من تعلق بقارب صغيرة، ومنه من سبح، ومنهم من أمسك بخشبة، ومنهم من تضبت بطوق نجاة، ومنهم من تعلق برجل إنسان أمامه.
تهاوى مآت الناس من كل جانبٍ
إلى البحر تمضي فرقه بعد فرقه[2]
قفزت مع الأحباب قفزت هارب
يواجه ما يلقى بذهن مشتت
إلى أين ؟ لا أدري إلى أين إننا ..
نفر على موج وحوت ولجه
تلقفنا الموت الرهيب فلا أبي
رأيت ولا أمري الروم وإخواتي
ومن رافع إحدى يديه ملوحاً
تخطفه موج فالهب حسرتي
هكذا يقول بعض الناجين من هذا المركب ممن لهم بقية أجل لم يستكملوه سبحان الله أمواج كالجبال ، ارتفعت معها صرخات النساء والأطفال والشباب الرجال ، هنا يفزع هنا صار ذكر الله أعظم ثروة .. وقيمة تقوى الله أعظم قيمة هنا يتين للمرء لحظات الاضطرار (( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ )) (النمل:62) .
(( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)) (الأنعام:63-64) .
في هذه اللحظات الحاسمة يتباين النسا فمنهم من ينطق بكلمة التوحيد ومنهم من يسخط على ربه ومنهم من يدعو ويضرع ، قلوب خائفة ، وعيون دامعة ونوف منهكة، نسى المرء هنا أمواله وثرواته ، ولم يفكر إلا في نجاته
أقوى فؤادي بالرجاء هنيهة فملا يثور البحر تبهار قوتين[3]
وأصبحت الدنيا كلحم بلامدى وهات أمام الموت علمي وثروتي.
إنها لحظات عجيبة ، وساعات عصيبة ، يصورها أحد الناجين بقوله
مما أدهشني مشهد انقلاب هذه العبارة الضخمة بامتعتها ومطاعمها واسواقها, ثم مشهد تقاذف الناس في بحر مظلم ، مع ريح شديدة باردة ، والنسا بعضهم فوق بعض فيا لله كم أم تسأل عن طفلها وكأنها تناست نفسها ، وكم من أم ترى فلذة كبدها والأمواج ترفعه ثم تخفضه ، يقول أحد الناجين .
أبٌ يقول لنا نحن في قارب صغير ( خذوا ولدي انقذوهما اتركوني )
لحظات يودع فيها الأحباب والأهل والأقارب والأصدقاء بعضهم بعضاً بحزن عميق
نظرت إلى أهلي فديت عيونهم ... تبادلني بالحزن أعمق نظرتي[4]
فكان حديثاً بالعيون محملاً ... بحزن وآلام وإحساس فرقةِ
وهكذا تفرق الناس وذهبوا مذاهب شتى فمنهم من نجاه الله مع طول مدة بقائه في الأمواج حيث بقي بعضهم ثمان وأربعين ساعة وربما أكثر من ذلك . ومنهم من غرق في البحر – نسأل الله أن يتغمدهم بواسع رحمته وأن يجعلهم من الشهداء وأن يخلفهم في أهليهم بخير .
عزائي لكم يا من فقدتم أحبةً ... كفقدي أمام العين أعلى احبتي [5]
عزاء محب صدمه الهول لم تزل ... تلاحقه في كلنوم وصحوة
رضانا بما يقضي الإله دليلنا ... إلى راحة كبرى وعفو ورحمة
أيها المسلمون : بغض النظر عن الأسباب المادية لقوقع هذه الكارثة
إلا أنني أوكدها هنا على أن المسلم يؤمن بقضاء الله ، وأن الله قدّر آجال الخلائق وأرزاقهم قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة
(( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) (الحديد:22)
(( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)) (التغابن 11) .
والله تعالى لا يتهم في قضائه وهو الحكيم العليم والأخذ بالأسباب مشروع للعبد ولكن العبد لا يعتمد عليها بل يلجأ إلى فاطر الأرض والسماوات الذي بيده الدنيا والآخرة وله الحكم وإلهي يرجع الأمر كله
(( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)) (هود:123) .
وفوض أمرك إليه ، ولا تقلق بغيره ، ولا تحب سواه وما يحب جلا وعلا – واستقم على طاعته فهذا سبيل النجاة في الدارين وفقني الله وإياكم لما يرضيه ، وجعلنا ممن يعتبر ويفكر ويتعظ ويدّكر واستغفره فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً ، وسبحانه الله بكرة وأصيلا ،
وأشهد أن لا إلهي إلا الله وحده لا شريك له تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً
واشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله إلى الثقلين بشيراً ونذيراً
صلى الله عليه وعلى أله واصحابه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد : فالعاقل إذا سمع بالأحداث من حوله ، والآيات في حق غيره ثم نقصه، وأحسن علمه ، فكيف بمن رآها عياناً في غيره ، فكيف بمن وجها في نفسه (( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ)) (فصلت:53)
فكلما اتحي من جثمانه أثر ، زاد إيمانه أثر ، ولكما نقص من قوى بدنه ، زاد في قوة إيماه ويقينه ورغبته في الله والدار الآخرة فإن لم هكذا فالموت خير له[6] فمن لم يورثه طول العمر الاستدارك واغتنام الفرص في العمل الصالح وإلا فهو على خطر قال تعالى (( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ)) ( فاطر 37) .
واليقين عباد الله منزلة عالية يدركها العبد بما يقول الله بثلاثة أمور
تدبر القرآن وتدبر الآيات التي يحدثها الله في الأنفس والآفات التي تبين أنه الحق والعلم بموجب العلم قال تعالى : (( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (فصلت:53) الضمير عائد على القرآن ) .
إن ما يستفاد من هذه الحادثة اثر الدعاء ولا سيما في ظلمات البحر وخاصة عند الرخاء )
هذا نبي الله ورسوله يونس من متى - عليه الصلاة والسلام- حيث وقع في البحر وكل الله به الحوت فابتلعه فهو به إلى قرار أرض البحر فسمع يونس تسبيح الحصى (( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) (الأنبياء:87) .
ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل قال تعالى : (( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)) (الأنبياء:76)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أن سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا بها مسلم في شيء قط إلا فرج الله عنه ))
ومن العبر : حقاره الدنيا، وقصر مدتها فالإنسان لا يدري متى يطويه الموت ولا في أي مكان (( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)) (لقمان:34)
وإذا أراد الله قبض عبدٍ بمكان جعل له إليه حاجة فأولى بالمرء أن يتزود بعلم صالح قبل الارتحال . ألآ بسما هذه الحياة ولهوها ... وبئس بلهوي في الحياة وغفلتي
فما أهون الدنيا التي إن سرت أحزنت وإن أضحكت أبكت
طُبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدارِ
وأنما الراحة الكبرى ، والسرور الدائم ، هناك في الجنة حيث النعيم المقيم (( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)) (فاطر:34) .
((لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ)) (الحجر : 48).
ومن العبر : لنا معاشر الأحياء عظيم أثر الأعمال الصالحة في وقت الرخاء وأن الله ينجي بها من يشاء فلقد ذكر بعض الناجين من الفرق بأن رجلاً يتجاوز السبعين من العمر نجا ولم يفقد من أسرته أحد مع تأخر الإنقاذ لأصحاب السفينة المنكوبين والأمواج تتقاذفه ثم نجاه الله تعالى ولكم تذكون خبر الثلاثة من بني إسرائيل الذين انطبقت الصخرة عليهم فدعو الله بصالح أعمالهم بر الوالدين ، وإعطاء لناس حقوقهم والعفة عن الحرام بعد القدرة عليه والحديث في الصحيحين ولربما أن الله اختار لبعضهم الشهادة كالغريق شهيد كما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن العبر ضعف الإنسان مهما بلغت قوته وضرورته إلى ربه جل وعلا في كل وقت ولا سيما عند اشتداد الأزمات ، وحاجة العبد إلى الثبات (( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)) (إبراهيم:27)
ولكنه يطغي، وينسى العلي الأعلى إذا ظن أنه قد استغنى قال الله تعالى (( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى* إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)) (العلق:6-8).
فيا عجباً لمن لمن يجادلون الله ورسوله ، ويتطالعون على الناس، ويظلمون عباد الله ، ويفسدون في الأرض بمعصية الله ويبدلون نعمة الله كفرا (( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ)) (النحل:83).
اشتغلوا أنفسهم بغير ما خلقوا من أجله ، وأثروا ما يغني على ما يبقى حياتهم لهو ولعب، وعنا وطرب ، اضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ((اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ)) (الأنبياء:1) .
قست قلوبهم من أكل الحرام فما تنفعهم المواعظة والعبر مرضت قلوبهم فما شعروا ، وجاءتهم العبر فما اعتبروا ، ووصت إليهم النذر فاعرضوا ، وذكروا فغضوبا واستكبروا ،
ألا ليت أهل البغي في الأرض لامسوا من البحر والأمواج سر المنية
فيا ربما عادوا إلى الحق عودة وتابوا إلى الرحمن أجمل توبة
نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة
وأن يرزقنا التوبة الصادقة وأن يشفي جميع مرضى المسلمين وأن يفك أسرهم ويرحم موتاهم، ويتقبل شهدائهم، وأن يصلح علمائهم وولاتهم وشبابهم ونسائهم .
وأن يقطع دابر المفسدين وأن يرد كيد الكافرين المتعدين إلى نحورهم اللهم عليك بالكفرة والمعاندين الذين يسبون رسولك الكريم صلى الله عليه وسلم
اللهم أهدهم إلى الإسلام فإن لم يهتدوا فنسألك اللهم أن تنزل بهم العقوبات المتعددة والأمراض المتنوعة وأن تكفي المسلمين شرهم بما شئت وأنت السميع العليم.
[1] مفتاح دار السعادة ج2/ط دار الله الجوزري
[2] من قصيدة بهذه الحادثة للدكتور عبد الرحمن العشماوي
[3] من قصيدة العشماوي أنفة الذكر
[4] من قصيدة العشماوي أنفة الذكر
[5] من قصيدة العشماوي أنفة الذكر
[6] من قصيدة العشماوي أنفة الذكر
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى