رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ /صالح بن عبد الرحمن الخضيري
المسجدُ ومكانتُه في الإسلام وآدابُه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومنم تبعهم بإحسان.
أمَّا بعد : فيا أيُّها الإخوة في الله : أوصيكم ونفسي بتقوى الله , يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتِكم كِفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم.
أيُّها المسلمون : إن الحديث عن المساجد ومكانتها, وفضلها ومنزلتها, وتنظيفها ورعايتها, وآدابها وخصائصها, حديث مهمٌّ جدَّاً, خاصة في هذا الزمن الذي جهل فيه كثيرٌ من المسلمين دور المسجد في الإسلام , وظنُّوا أنه لأداء الصلوات ليس إلا , وفصلوا رسالة المسجد عن المجتمع.
أيُّها المسلمون : لقد أمر الله بعمارة المساجد وتعظيمها , وتشريفها وذكر الله فيها , قال تعالى : ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَال)) (36: النور) .
فأمر بأن تعظَّم ويرفع شأنها , وتطهَّر من الأنجاس والأقذار, وأضافها – جلَّ وعلا – إلى نفسه المقدسة لشرفها وفضلها, فقال : (( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) (18: الجن) .
وقال سبحانه: (( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ)) (18: التوبة).
وفي هذه الآية الكريمة شهادةٌ عظيمة من ربِّنا العظيم لعُمَّار المساجد سواءً بالذكر والعلم والصلاة والقرآن, أو بالصيانة والتعاهد والتنظيف والبناء والعمران , بأنهم من أهل الإيمان متى انطبقت عليهم شروط الآية : الإيمان بالله واليوم الآخر, وإقامة الصلاة, وأداء الزكاة, وخشية الله والإخلاص له, لأن بناء المساجد عملٌ ظاهر قد يقوم به البَرُّ والفاجر لأغراض مختلفة, فلا بد من توفر الإيمان والقيام بشرائع الدين وإخلاص العمل لرب العالمين فبهذا ينال الجزاء الوافر , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَن بَنى مسجداً يبتغي به وجهَ الله , بَنى الله له مثلَه في الجنةِ)) [1].
وممَّا فُضِّلت به هذه الأمة على غيرهم , أن جُعلت لها الأرض مسجداً وطهوراً, ولهذا دعا الإسلام إلى الاقتصاد في بناء المساجد, وعدم زخرفتها وتزويقها لما في هذا العمل من الإسراف والتبذير وإشغال المصلين, وهذا عمر بن الخطاب حين أراد تجديد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه : (أكِنَّ الناس من المطر وإياك أن تحمِّر أو تصفِّر فتفتن الناس) ويعني بهذا الزخرفة .
فالله المستعان : أين عمر ليرى الناس اليوم وهم يبالغون في النقوش المُلهية , بل والمفاخرة والمباهاة بالمساجد وهذا من أشراط الساعة , فلقد صحَّ في مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا تقومُ السَّاعةُ حتى يتباهى النَّاس في المسَاجد)) وفي رواية للنسائي وابن خزيمة : ((مِن أشراطِ السَّاعة أن يَتباهى النَّاس في المسَاجد)) [2]. قال البخاري : (قال أنس : يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً , فالتباهي بها : العناية بزخرفتها.
قال ابن عباس : ((لَتُزَخْرِفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى)).
وانظر إلى حال أكثر الناس اليوم, خالفوا هدي الإسلام في المساجد, شيَّدوا وزخرفوا وعمَّروها ظاهراً لكن العمارة الحقيقية لها بالصَّلاة والمحافظة عليها وإحياء دورها شُغِل عنها أكثر الناس فصدق عليهم قول القائل :
مَآذِنُكُمْ عَلَتْ فِي كُلِّ حَــيٍّ وَمَسْجِدُكُمْ مِنَ العُبَّادِ خَالِــي
وتأمَّل – كيف أُصيب المسلمون اليوم بالكسل والتَّباهي بالمساجد وتعدُّدها في الحيِّ الواحد, فكلَّما اجتمع ثلاثةٌ أو أربعة ابْتَنَوا مسجداً, ولا ريب أن كثرة المساجد في المكان الواحد مما يسبب تفرق المسلمين, وتقليل عدد المصلين, وهو في الوقت نفسه سببٌ لتلاعب الكُسالى وعدم محافظتهم على صلاة الجماعة , وهو أيضاً يسبب العجز عن توفير الأئمة الأكفياء لها علماً أن كثرة عدد المصلين مطلوبةٌ شرعاً , فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((صلاةُ الرجلِ معَ الرجلِ أزكَى من صلاتِهِ وحدَهُ , وصلاتُه معَ الرجلينِ أزكَى من صلاتِه معَ الرجلِ , ومَا كانَ أكثر فهُو أحبُّ إلى الله تعالى)) .
فمتى يعي المسلمون هذه الحقيقة ؟ ومتى يدركون أهمية جمع الكلمة ووحدة الصف في الإسلام ؟ والله المستعان.
أيُّها المسلمون : لقد أوجب الإسلام على المسلمين عمارةَ المساجد بأداء صلاة الجماعة فيها , فهي واجبةٌ على الرجال يحرم التخلُّف عنها بدون عذرٍ شرعيٍّ من مرض وخوف , ورتَّب الإسلام أحكاماً وآداباً لمن خرج إلى المسجد عليه أن يتحلى بها فمن ذلك :
حُسن المظهر : فالمسلم لا بد أن يَسْتَشْعِرَ عظمة من يقف بين يديه وأنه سيكون في بيت من بيوته , قال تعالى : (( يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ )) (31: الأعراف) .
قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله عن تفسير هذه الآية : (ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنَّة يُستحبُّ التَّجمُّل عند الصلاة ولا سيما صلاة الجمعة ويوم العيد والطِّيب لأنه من الزِّينة والسِّواك لأنه من تمام ذلك). وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا صلَّى أحدُكم فلْيلبس ثوبيهِ فإنَّ الله أحقُّ من تزيَّن له)) [3]. [ رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/221 , والبيهقي 2/236 وإسناده حسن كما في مجمع الزوائد 2/51 , وانظر سلسلة الصحيحة 3/356 ].
فليعلم هذا من يؤذي المصلين بالرَّوائح الكريهة من ثومٍ أو بصلٍ أو شربٍ للدُّخان أو عدم تنظيف للجسم , فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من أكل ثوماً أو بصلاً فلْيعتزل مسجدنَا فإنَّ الملائكةَ تتأذَّى ممَّا يتأذَّى منه بنو آدم)).
ومن الآداب أن يبادر المسلمُ بالحضور إلى المسجد والتَّبكير إليه وانتظار إقامة الصلاة , فقد قال صلى الله عليه وسلم : ((.. ولو يَعلمون ما في التَّهجير لاسْتبقوا إليه...)) .
وهو التبكير إلى الصلوات , ولقد عَلم سلفنا الصالح – رحمهم الله – ما فيه من الثواب فحافظوا عليه ... فسعيد بن المسيِّب رحمه الله يقول : (ما أذَّن المؤذن من ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد). ولم تفته صلاة الجماعة طيلة أربعين سنة .
وكان الأعمش رحمه الله رغم كِبَرِ سنِّه محافظاً على التَّكبيرة الأولى قريباً من سبعين سنة, وهذا المحدِّث بشر بن الحسين كان يقال له ( الصَّفِّي ) لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة.
أما الداعية الأمَّار بالمعروف إبراهيم بن ميمون المروزي فلقد كان صائغاً يطرق الذهب والفضة فكان إذا رفع المطرقة فسمع النداء للصلاة لم يردَّها. فرحم الله أولئك الأقوام , فأين من يشبههم الآن , فلقد صدق من قال : (إذا ذُكرت أحوال السلف بيننا افتُضحنا) نسأل الله أن يتجاوز عن زللنا وتقصيرنا , وذنوبنا وآثامنا .
ولو لم يحصل من ثمار المبادرة إلى المسجد إلا إدراك تكبيرة الإحرام لكفَى , فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَن صلَّى لله أربعين يوماً في جماعةٍ يدرك التَّكبيرة الأولى كُتب له براءتان : براءةٌ من النَّار وبراءةٌ من النِّفاق)). [رواه الترمذي بإسناد حسن, صحيح الترمذي للألباني].
ومن آداب الخروج إلى المسجد أن يدعو بما ورد وهو أن يقول : اللهمَّ اجعل في قلبي نوراً, وفي لساني نوراً, واجعل في سمعي نوراً, واجعل في بصري نوراً , ... الخ الحديث.
وأن يمشي بسكينة ووقارٍ , قال صلى الله عليه وسلم : (( ألا أدلُّكم على ما يمحو به اللهُ الخطايا ويرفع به الدَّرجات , قالوا : بلى يا رسول الله. قال : إسباغُ الوضوء على المكارِهِ , وكثرةُ الخُطا إلى المساجد , وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرِّباط فذلكم الرِّباط)). [رواه مسلم 251].
و (( مَن تطهَّر في بيته ثم مَشى إلى بيتٍ من بيوت الله ليقضي فريضةً من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحطُّ خطيئة والأخرى ترفع درجة)) بهذا صح الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم [رواه مسلم 666].
فإذا وصل المسلم إلى المسجد قدَّم رجله اليمنى وقال : اللهم افتح لي أبواب رحمتك . وتقدم للصف الأول وحرص على القرب من الإمام , فلقد صحت في فضل هذا العمل الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . ويُشرع له أن يسلم على من فيه ولو كانوا في صلاة والمصلِّي عليه أن يردَّ بالإشارة بكفه.
ثم يصلي المسلم تحية المسجد ركعتين حتى بعد الفجر وبعد العصر على الرَّاجح كما هو روايةٌ عن الإمام أحمد رحمه الله . وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فإذا طمع بإدراك تكبيرة الإحرام بعد الإمام مباشرةً فلا يقطعها بل يتمّها كما لو أقيمت وهو في السجود من الرَّكعة الثانية أو في التشهد وإن لم يطمع فإنه يقطعها .
أيُّها المسلمون : إن المساجد أحب البقاع على الله تعالى لأنها مكان الصلاة والعبادة وذكر الله وتعمُرها الملائكة, قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أحبُّ البلادِ إلى الله مساجدُها , وأبغضُ البلادِ إلى الله أسواقُها)). [رواه مسلم].
ولقد وضَّح صلى الله عليه وسلم وظيفة الجالس في المسجد حيث قال للأعرابي الذي بال في المسجد : (( إنَّ هذه المساجد لا تَصلح لشيءٍ من هذا البَول ولا القذر إنَّما هي لذكر الله عزَّ وجل والصلاةِ وقراءةِ القرآن)). [رواه البخاري ومسلم].
وليحذر المسلم من الكلام المحرم فهو في المسجد أشدُّ تحريماً , ومن النَّاس من يتقدم إلى المسجد ويُكثر من الكلام مع جاره بما لا فائدة منه بل فيه المضرَّة والإثم , وهؤلاء حرَموا أنفسهم فضائل الأعمال من قراءة القرآن والتَّسبيح والذِّكر.
ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الصَّوت بالقراءة خوفاً من التَّشويش على المصلين والتَّالين فكيف بمن يرفع صوته في المسجد بأمور الدنيا ومَن بجواره يقرؤون القرآن, ولقد نصَّ أهل العلم على كراهة رفع الصوت في المسجد إلا فيما لا بدَّ منه من العلم ونحوه. أما البيع والشِّراء في المسجد والبحث عن الشيء المفقود فلقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (( إذا رأيتُم من يبيعُ أو يبتاعُ في المسجد فقولوا : لا أربحَ الله تجارتَك , وإذا رأيتم من يَنشدُ ضالَّةً في المسجد فقولوا : لا ردَّ الله عليك)). [رواه مسلم وأبو داوود والترمذي].
فالمساجد أسواق الآخرة فينبغي أن تُصان عن أمور الدنيا من بيع وشراء وإجارة وقرض ونحوها.
أيُّها المسلم : إياك أن يكون حظُّ المسجد منك إذا حضرت هو النّوم والنعاس ولا سيَّما في يوم الجمعة فإنه يوم عظيم ينبغي استغلاله بالقراءة والذكر والدعاء ولا سيما قبل صلاة الجمعة , ولكي تتفادى النُّعاس عليك أن تأخذ قسطاً من الرَّاحة قبل الحضور إلى المسجد ولا تستسلم لما يُسبِّب النعاس من الاستناد إلى جدارٍ أو خفضٍ للرأس , ولقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى علاج يسير فقال صلى الله عليه وسلم : (( إذا نعسَ أحدُكم وهو في المسجدِ فليتحوَّل عن مجلسِه ذلك إلى غيره)). [أخرجه أبو داوود].
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه , وهدانا جميعا صراطَه المستقيم إنه جواد كريم, أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يُحبُّ ويرضى , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ الأعلى , وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولو العلم والتقى , وعلى من تبعهم بإحسان واقتفى , وسلم تسليما.
أمَّا بعدُ فيَا أيُّها المسْلمون : اتقوا الله حقَّ التقوى , وراقبوه في السرِّ والنَّجوى , واعلموا عباد الله: أن أصدق الحديث كتابُ الله , وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم , وشرّ الأمور محدثاتها , وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
أيُّها الإخوة : إن السعداء في يوم القيامة هم الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومنهم الرجل الذي قلبه متعلق بالمسجد يحبه حباً شديداً ويلازم صلاة الجماعة ويشتاق إليها , فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه .. فذكر منهم – ورجلٌ قلبه معلَّقٌ في المساجد)). [رواه البخاري ومسلم].
وفي رواية مالك في الموطَّأ : (( ورجلٌ قلبه متعلق بالمسجد إذا خرجَ منه حتَّى يعود إليه)). هذا والمنتظرُ للصلاة في صلاة , والملائكة تقول : اللهمَّ اغفر له اللهمّ ارحمه , بل جاء في الحديث الصحيح بيانُ فرحِ الرب وإقباله على عبده إذا قصد المسجد وبادر إليه , قال صلى الله عليه وسلم : (( ما توطَّن رجلٌ مسلمٌ المساجدَ للصلاةِ والذكرِ إلا تَبَشْبَشَ اللهُ تعالى إليه كما يتبشبش أهلُ الغائبِ بغائبهم إذا قَدِمَ عليهم)). [أخرجه ابن ماجة والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين- وهو في صحيح الترغيب والترهيب 1/202].
والبشّ : فرحُ الصديق بالصديق واللطف في المسألة والإقبال عليه , وهذا مثل ضربه لتلقيه إياه بالبر والتقريب والإكرام [النهاية لابن الأثير 1/130].
إن المسجد هو بيت الله عز وجل , لا بيت أحدٍ من الأحياء أو الأموات, فيه نتطهَّر ونتذكَّر, وفيه نسمو ونعلو, وإن الإنسان ليتقلب في هذه الحياة ما استطاع التقلُّبَ, وتؤثِّر فيه الدنيا بما تستطيع من تأثير فيناله اعوجاجٌ هنا, أو رهقٌ هناك, ويعلق به من زيف الحياة أو باطلها ما يعلق فإذا سعى إلى المسجد متطهراً ودخل في رحابه, وتوجه إلى الله في محرابه , سَمَى فوق المادة وتخلص من زيف الحياة , وارتبطت أسبابه بالله , وتنزلت عليه رحمات ربه الرحيم وأحس كأنه ليس في بقعة من بقاع الدنيا بل في الفردوس الأعلى . ولعل من هذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (( وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتابَ الله ويتدارسونَه بينهم إلا نَزلت عليهم السَّكينة وغشيتهمُ الرَّحمة وحفَّتهم الملائكة وذكرهُمُ الله فيمن عنده ..)).
عبَاد الله : المساجد بيوت الله فيها السكينة والإِلفة والاجتماع والمحبة فلا يجوز أن تكون ميداناً للخصومات والمنازعات , والمشاحنات والاتِّهامات كما يفعله بعض المسلمين- هداهم الله- بل إن من أهداف الاجتماع في المسجد الواحد جمع الكلمة ووحدة الصف, والتآلف والتراحم, فالصغير يحترم الكبير , والكبير يرحم الصغير, والعاميُّ يوقِّر طالب العلم ويعرف له قدره وهكذا تكون الحياة السعيدة الهانئة تكاتفٌ وتآلف, وتناصح وتعاطف فالإسلام جاء بالاجتماع والائتلاف ونهى عن التفرق والاختلاف والله المستعان.
أيُّها المسلمون : مما لا يجوز فعلُه في المساجد حجزُ المكان منه إما بفرش سجادة أو وضع عصا أو كتاب ونحوه وصاحب المكان إما في بيته أو في عمله وهذه الظاهرة تكثر في المسجد الحرام ولا سيما في رمضان, ألا فليعلم أن من سبق إلى مكان في المسجد فهو أحق به .
هذا ولا يدخل في المنع من الحجز مَن ذهب ليتوضأ ونحو ذلك مما لا بدَّ منه فإن من قام من مكانه ثم رجع إليه فهو أحق به. وحجز الأماكن يسبب النزاع والخصومات وربما تخطى صاحبه رقاب الناس وآذاهم بدون حاجة إلى التخطي والله المستعان.
أيُّها الشباب الفضلاء: تذكروا- أعانكم الله- حينما تذاكرون دروسكم في المساجد حرمةَ المسجد ومكانتَه فحافظوا على نظافتها, واجتنبوا رفع الصوت فيها, أو الإفراط في المُزاح أو إدخال صورٍ ذات أرواح أو الخروج من المسجد بعد الأذان بدون نيَّة الرجوع إليه فإن هذا مما نُهيَ المسلم عنه وتذكروا أنه كلما عظَّم المرءُ شعائر الله , كلما كان أقرب إلى توفيق الله.
وفق الله المسلمين إلى ما فيه صلاحهم إنه على كل شيء قدير ثم صلوا وسلموا على إمام المتقين وسيد النبيين محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
[1] متفق عليه
[2] انظر أشراط الساعة للوابل ( 146) .
[3] رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/221 , والبيهقي 2/236 وإسناده حسن كما في مجمع الزوائد 2/51 , وانظر سلسلة الصحيحة 3/356 .
المسجدُ ومكانتُه في الإسلام وآدابُه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومنم تبعهم بإحسان.
أمَّا بعد : فيا أيُّها الإخوة في الله : أوصيكم ونفسي بتقوى الله , يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتِكم كِفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم.
أيُّها المسلمون : إن الحديث عن المساجد ومكانتها, وفضلها ومنزلتها, وتنظيفها ورعايتها, وآدابها وخصائصها, حديث مهمٌّ جدَّاً, خاصة في هذا الزمن الذي جهل فيه كثيرٌ من المسلمين دور المسجد في الإسلام , وظنُّوا أنه لأداء الصلوات ليس إلا , وفصلوا رسالة المسجد عن المجتمع.
أيُّها المسلمون : لقد أمر الله بعمارة المساجد وتعظيمها , وتشريفها وذكر الله فيها , قال تعالى : ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَال)) (36: النور) .
فأمر بأن تعظَّم ويرفع شأنها , وتطهَّر من الأنجاس والأقذار, وأضافها – جلَّ وعلا – إلى نفسه المقدسة لشرفها وفضلها, فقال : (( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) (18: الجن) .
وقال سبحانه: (( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ)) (18: التوبة).
وفي هذه الآية الكريمة شهادةٌ عظيمة من ربِّنا العظيم لعُمَّار المساجد سواءً بالذكر والعلم والصلاة والقرآن, أو بالصيانة والتعاهد والتنظيف والبناء والعمران , بأنهم من أهل الإيمان متى انطبقت عليهم شروط الآية : الإيمان بالله واليوم الآخر, وإقامة الصلاة, وأداء الزكاة, وخشية الله والإخلاص له, لأن بناء المساجد عملٌ ظاهر قد يقوم به البَرُّ والفاجر لأغراض مختلفة, فلا بد من توفر الإيمان والقيام بشرائع الدين وإخلاص العمل لرب العالمين فبهذا ينال الجزاء الوافر , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَن بَنى مسجداً يبتغي به وجهَ الله , بَنى الله له مثلَه في الجنةِ)) [1].
وممَّا فُضِّلت به هذه الأمة على غيرهم , أن جُعلت لها الأرض مسجداً وطهوراً, ولهذا دعا الإسلام إلى الاقتصاد في بناء المساجد, وعدم زخرفتها وتزويقها لما في هذا العمل من الإسراف والتبذير وإشغال المصلين, وهذا عمر بن الخطاب حين أراد تجديد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه : (أكِنَّ الناس من المطر وإياك أن تحمِّر أو تصفِّر فتفتن الناس) ويعني بهذا الزخرفة .
فالله المستعان : أين عمر ليرى الناس اليوم وهم يبالغون في النقوش المُلهية , بل والمفاخرة والمباهاة بالمساجد وهذا من أشراط الساعة , فلقد صحَّ في مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا تقومُ السَّاعةُ حتى يتباهى النَّاس في المسَاجد)) وفي رواية للنسائي وابن خزيمة : ((مِن أشراطِ السَّاعة أن يَتباهى النَّاس في المسَاجد)) [2]. قال البخاري : (قال أنس : يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً , فالتباهي بها : العناية بزخرفتها.
قال ابن عباس : ((لَتُزَخْرِفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى)).
وانظر إلى حال أكثر الناس اليوم, خالفوا هدي الإسلام في المساجد, شيَّدوا وزخرفوا وعمَّروها ظاهراً لكن العمارة الحقيقية لها بالصَّلاة والمحافظة عليها وإحياء دورها شُغِل عنها أكثر الناس فصدق عليهم قول القائل :
مَآذِنُكُمْ عَلَتْ فِي كُلِّ حَــيٍّ وَمَسْجِدُكُمْ مِنَ العُبَّادِ خَالِــي
وتأمَّل – كيف أُصيب المسلمون اليوم بالكسل والتَّباهي بالمساجد وتعدُّدها في الحيِّ الواحد, فكلَّما اجتمع ثلاثةٌ أو أربعة ابْتَنَوا مسجداً, ولا ريب أن كثرة المساجد في المكان الواحد مما يسبب تفرق المسلمين, وتقليل عدد المصلين, وهو في الوقت نفسه سببٌ لتلاعب الكُسالى وعدم محافظتهم على صلاة الجماعة , وهو أيضاً يسبب العجز عن توفير الأئمة الأكفياء لها علماً أن كثرة عدد المصلين مطلوبةٌ شرعاً , فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((صلاةُ الرجلِ معَ الرجلِ أزكَى من صلاتِهِ وحدَهُ , وصلاتُه معَ الرجلينِ أزكَى من صلاتِه معَ الرجلِ , ومَا كانَ أكثر فهُو أحبُّ إلى الله تعالى)) .
فمتى يعي المسلمون هذه الحقيقة ؟ ومتى يدركون أهمية جمع الكلمة ووحدة الصف في الإسلام ؟ والله المستعان.
أيُّها المسلمون : لقد أوجب الإسلام على المسلمين عمارةَ المساجد بأداء صلاة الجماعة فيها , فهي واجبةٌ على الرجال يحرم التخلُّف عنها بدون عذرٍ شرعيٍّ من مرض وخوف , ورتَّب الإسلام أحكاماً وآداباً لمن خرج إلى المسجد عليه أن يتحلى بها فمن ذلك :
حُسن المظهر : فالمسلم لا بد أن يَسْتَشْعِرَ عظمة من يقف بين يديه وأنه سيكون في بيت من بيوته , قال تعالى : (( يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ )) (31: الأعراف) .
قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله عن تفسير هذه الآية : (ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنَّة يُستحبُّ التَّجمُّل عند الصلاة ولا سيما صلاة الجمعة ويوم العيد والطِّيب لأنه من الزِّينة والسِّواك لأنه من تمام ذلك). وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا صلَّى أحدُكم فلْيلبس ثوبيهِ فإنَّ الله أحقُّ من تزيَّن له)) [3]. [ رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/221 , والبيهقي 2/236 وإسناده حسن كما في مجمع الزوائد 2/51 , وانظر سلسلة الصحيحة 3/356 ].
فليعلم هذا من يؤذي المصلين بالرَّوائح الكريهة من ثومٍ أو بصلٍ أو شربٍ للدُّخان أو عدم تنظيف للجسم , فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من أكل ثوماً أو بصلاً فلْيعتزل مسجدنَا فإنَّ الملائكةَ تتأذَّى ممَّا يتأذَّى منه بنو آدم)).
ومن الآداب أن يبادر المسلمُ بالحضور إلى المسجد والتَّبكير إليه وانتظار إقامة الصلاة , فقد قال صلى الله عليه وسلم : ((.. ولو يَعلمون ما في التَّهجير لاسْتبقوا إليه...)) .
وهو التبكير إلى الصلوات , ولقد عَلم سلفنا الصالح – رحمهم الله – ما فيه من الثواب فحافظوا عليه ... فسعيد بن المسيِّب رحمه الله يقول : (ما أذَّن المؤذن من ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد). ولم تفته صلاة الجماعة طيلة أربعين سنة .
وكان الأعمش رحمه الله رغم كِبَرِ سنِّه محافظاً على التَّكبيرة الأولى قريباً من سبعين سنة, وهذا المحدِّث بشر بن الحسين كان يقال له ( الصَّفِّي ) لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة.
أما الداعية الأمَّار بالمعروف إبراهيم بن ميمون المروزي فلقد كان صائغاً يطرق الذهب والفضة فكان إذا رفع المطرقة فسمع النداء للصلاة لم يردَّها. فرحم الله أولئك الأقوام , فأين من يشبههم الآن , فلقد صدق من قال : (إذا ذُكرت أحوال السلف بيننا افتُضحنا) نسأل الله أن يتجاوز عن زللنا وتقصيرنا , وذنوبنا وآثامنا .
ولو لم يحصل من ثمار المبادرة إلى المسجد إلا إدراك تكبيرة الإحرام لكفَى , فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَن صلَّى لله أربعين يوماً في جماعةٍ يدرك التَّكبيرة الأولى كُتب له براءتان : براءةٌ من النَّار وبراءةٌ من النِّفاق)). [رواه الترمذي بإسناد حسن, صحيح الترمذي للألباني].
ومن آداب الخروج إلى المسجد أن يدعو بما ورد وهو أن يقول : اللهمَّ اجعل في قلبي نوراً, وفي لساني نوراً, واجعل في سمعي نوراً, واجعل في بصري نوراً , ... الخ الحديث.
وأن يمشي بسكينة ووقارٍ , قال صلى الله عليه وسلم : (( ألا أدلُّكم على ما يمحو به اللهُ الخطايا ويرفع به الدَّرجات , قالوا : بلى يا رسول الله. قال : إسباغُ الوضوء على المكارِهِ , وكثرةُ الخُطا إلى المساجد , وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرِّباط فذلكم الرِّباط)). [رواه مسلم 251].
و (( مَن تطهَّر في بيته ثم مَشى إلى بيتٍ من بيوت الله ليقضي فريضةً من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحطُّ خطيئة والأخرى ترفع درجة)) بهذا صح الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم [رواه مسلم 666].
فإذا وصل المسلم إلى المسجد قدَّم رجله اليمنى وقال : اللهم افتح لي أبواب رحمتك . وتقدم للصف الأول وحرص على القرب من الإمام , فلقد صحت في فضل هذا العمل الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . ويُشرع له أن يسلم على من فيه ولو كانوا في صلاة والمصلِّي عليه أن يردَّ بالإشارة بكفه.
ثم يصلي المسلم تحية المسجد ركعتين حتى بعد الفجر وبعد العصر على الرَّاجح كما هو روايةٌ عن الإمام أحمد رحمه الله . وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة فإذا طمع بإدراك تكبيرة الإحرام بعد الإمام مباشرةً فلا يقطعها بل يتمّها كما لو أقيمت وهو في السجود من الرَّكعة الثانية أو في التشهد وإن لم يطمع فإنه يقطعها .
أيُّها المسلمون : إن المساجد أحب البقاع على الله تعالى لأنها مكان الصلاة والعبادة وذكر الله وتعمُرها الملائكة, قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أحبُّ البلادِ إلى الله مساجدُها , وأبغضُ البلادِ إلى الله أسواقُها)). [رواه مسلم].
ولقد وضَّح صلى الله عليه وسلم وظيفة الجالس في المسجد حيث قال للأعرابي الذي بال في المسجد : (( إنَّ هذه المساجد لا تَصلح لشيءٍ من هذا البَول ولا القذر إنَّما هي لذكر الله عزَّ وجل والصلاةِ وقراءةِ القرآن)). [رواه البخاري ومسلم].
وليحذر المسلم من الكلام المحرم فهو في المسجد أشدُّ تحريماً , ومن النَّاس من يتقدم إلى المسجد ويُكثر من الكلام مع جاره بما لا فائدة منه بل فيه المضرَّة والإثم , وهؤلاء حرَموا أنفسهم فضائل الأعمال من قراءة القرآن والتَّسبيح والذِّكر.
ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الصَّوت بالقراءة خوفاً من التَّشويش على المصلين والتَّالين فكيف بمن يرفع صوته في المسجد بأمور الدنيا ومَن بجواره يقرؤون القرآن, ولقد نصَّ أهل العلم على كراهة رفع الصوت في المسجد إلا فيما لا بدَّ منه من العلم ونحوه. أما البيع والشِّراء في المسجد والبحث عن الشيء المفقود فلقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (( إذا رأيتُم من يبيعُ أو يبتاعُ في المسجد فقولوا : لا أربحَ الله تجارتَك , وإذا رأيتم من يَنشدُ ضالَّةً في المسجد فقولوا : لا ردَّ الله عليك)). [رواه مسلم وأبو داوود والترمذي].
فالمساجد أسواق الآخرة فينبغي أن تُصان عن أمور الدنيا من بيع وشراء وإجارة وقرض ونحوها.
أيُّها المسلم : إياك أن يكون حظُّ المسجد منك إذا حضرت هو النّوم والنعاس ولا سيَّما في يوم الجمعة فإنه يوم عظيم ينبغي استغلاله بالقراءة والذكر والدعاء ولا سيما قبل صلاة الجمعة , ولكي تتفادى النُّعاس عليك أن تأخذ قسطاً من الرَّاحة قبل الحضور إلى المسجد ولا تستسلم لما يُسبِّب النعاس من الاستناد إلى جدارٍ أو خفضٍ للرأس , ولقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى علاج يسير فقال صلى الله عليه وسلم : (( إذا نعسَ أحدُكم وهو في المسجدِ فليتحوَّل عن مجلسِه ذلك إلى غيره)). [أخرجه أبو داوود].
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه , وهدانا جميعا صراطَه المستقيم إنه جواد كريم, أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يُحبُّ ويرضى , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ الأعلى , وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولو العلم والتقى , وعلى من تبعهم بإحسان واقتفى , وسلم تسليما.
أمَّا بعدُ فيَا أيُّها المسْلمون : اتقوا الله حقَّ التقوى , وراقبوه في السرِّ والنَّجوى , واعلموا عباد الله: أن أصدق الحديث كتابُ الله , وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم , وشرّ الأمور محدثاتها , وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
أيُّها الإخوة : إن السعداء في يوم القيامة هم الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومنهم الرجل الذي قلبه متعلق بالمسجد يحبه حباً شديداً ويلازم صلاة الجماعة ويشتاق إليها , فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه .. فذكر منهم – ورجلٌ قلبه معلَّقٌ في المساجد)). [رواه البخاري ومسلم].
وفي رواية مالك في الموطَّأ : (( ورجلٌ قلبه متعلق بالمسجد إذا خرجَ منه حتَّى يعود إليه)). هذا والمنتظرُ للصلاة في صلاة , والملائكة تقول : اللهمَّ اغفر له اللهمّ ارحمه , بل جاء في الحديث الصحيح بيانُ فرحِ الرب وإقباله على عبده إذا قصد المسجد وبادر إليه , قال صلى الله عليه وسلم : (( ما توطَّن رجلٌ مسلمٌ المساجدَ للصلاةِ والذكرِ إلا تَبَشْبَشَ اللهُ تعالى إليه كما يتبشبش أهلُ الغائبِ بغائبهم إذا قَدِمَ عليهم)). [أخرجه ابن ماجة والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين- وهو في صحيح الترغيب والترهيب 1/202].
والبشّ : فرحُ الصديق بالصديق واللطف في المسألة والإقبال عليه , وهذا مثل ضربه لتلقيه إياه بالبر والتقريب والإكرام [النهاية لابن الأثير 1/130].
إن المسجد هو بيت الله عز وجل , لا بيت أحدٍ من الأحياء أو الأموات, فيه نتطهَّر ونتذكَّر, وفيه نسمو ونعلو, وإن الإنسان ليتقلب في هذه الحياة ما استطاع التقلُّبَ, وتؤثِّر فيه الدنيا بما تستطيع من تأثير فيناله اعوجاجٌ هنا, أو رهقٌ هناك, ويعلق به من زيف الحياة أو باطلها ما يعلق فإذا سعى إلى المسجد متطهراً ودخل في رحابه, وتوجه إلى الله في محرابه , سَمَى فوق المادة وتخلص من زيف الحياة , وارتبطت أسبابه بالله , وتنزلت عليه رحمات ربه الرحيم وأحس كأنه ليس في بقعة من بقاع الدنيا بل في الفردوس الأعلى . ولعل من هذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (( وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتابَ الله ويتدارسونَه بينهم إلا نَزلت عليهم السَّكينة وغشيتهمُ الرَّحمة وحفَّتهم الملائكة وذكرهُمُ الله فيمن عنده ..)).
عبَاد الله : المساجد بيوت الله فيها السكينة والإِلفة والاجتماع والمحبة فلا يجوز أن تكون ميداناً للخصومات والمنازعات , والمشاحنات والاتِّهامات كما يفعله بعض المسلمين- هداهم الله- بل إن من أهداف الاجتماع في المسجد الواحد جمع الكلمة ووحدة الصف, والتآلف والتراحم, فالصغير يحترم الكبير , والكبير يرحم الصغير, والعاميُّ يوقِّر طالب العلم ويعرف له قدره وهكذا تكون الحياة السعيدة الهانئة تكاتفٌ وتآلف, وتناصح وتعاطف فالإسلام جاء بالاجتماع والائتلاف ونهى عن التفرق والاختلاف والله المستعان.
أيُّها المسلمون : مما لا يجوز فعلُه في المساجد حجزُ المكان منه إما بفرش سجادة أو وضع عصا أو كتاب ونحوه وصاحب المكان إما في بيته أو في عمله وهذه الظاهرة تكثر في المسجد الحرام ولا سيما في رمضان, ألا فليعلم أن من سبق إلى مكان في المسجد فهو أحق به .
هذا ولا يدخل في المنع من الحجز مَن ذهب ليتوضأ ونحو ذلك مما لا بدَّ منه فإن من قام من مكانه ثم رجع إليه فهو أحق به. وحجز الأماكن يسبب النزاع والخصومات وربما تخطى صاحبه رقاب الناس وآذاهم بدون حاجة إلى التخطي والله المستعان.
أيُّها الشباب الفضلاء: تذكروا- أعانكم الله- حينما تذاكرون دروسكم في المساجد حرمةَ المسجد ومكانتَه فحافظوا على نظافتها, واجتنبوا رفع الصوت فيها, أو الإفراط في المُزاح أو إدخال صورٍ ذات أرواح أو الخروج من المسجد بعد الأذان بدون نيَّة الرجوع إليه فإن هذا مما نُهيَ المسلم عنه وتذكروا أنه كلما عظَّم المرءُ شعائر الله , كلما كان أقرب إلى توفيق الله.
وفق الله المسلمين إلى ما فيه صلاحهم إنه على كل شيء قدير ثم صلوا وسلموا على إمام المتقين وسيد النبيين محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
[1] متفق عليه
[2] انظر أشراط الساعة للوابل ( 146) .
[3] رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/221 , والبيهقي 2/236 وإسناده حسن كما في مجمع الزوائد 2/51 , وانظر سلسلة الصحيحة 3/356 .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى