مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د . سليمان بن حمد العودة
الائتلاف والافتراق وما يراد للسودان ؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أيها المؤمنون:
الخلاف والفُرقة شرٌّ وبلاءً وضعفٍ وشتات، والاجتماعُ والائتلاف رحمةً وقوة وحفظ للطاقات، وإذا اجتمعت الأممُ والشعوبُ الكافرة على مصالح اقتصادية أو لأهداف سياسية، كان اجتماعُ الأمة المسلمة على أهداف سامية وعلى ميثاق الكتاب والسنة: ((وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ
) (سورة آل عمران:103).
وإذا كان عالَمُ اليوم يشهد تكتلاتٍ واتحادات على الرغم من الاختلافات والتنازعات وغياب المنهج الرباني كالاتحاد الحاصل بين دول أوروبا، وكما يجري في ولايات أمريكا، وكالذي يحدث بين تقارب اليهود والنصارى أو بين فصائل اليهود والنصارى المختلفة فيما بينها.
إذا حدث هذا في عالم لا يرتبط بهدي السماء، ولا يقيم وزناً للقيم والمبادئ العليا، فكيف الحالُ بين أهل الإسلام؟ وماذا يجدون في كتاب ربِّهم وسُنّة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وتراث أسلافهم من دعوة للاجتماع والإئتلاف.
وإذا عرفوا فكيف يخرجون من مأزق الافتراق والشتات؟
أجل إنه لم يحفل دينٌ بالوحدة الكبرى، والدعوة لاجتماع الكلمة، ونبذ الفرقة والخلاف كما حفل الإسلام.
جاءت تعاليمُه تؤكد على أتباعه أن أمتهم واحدة من آدم ونوح عليهما السلام إلى خاتم النبيين محمد r (( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)) (سورة الأنبياء:92).
إنها وحِدةٌ تتجاوز المكان، ولا تتوقف عند زمان، تذوب فيها الجنسياتُ والأعراف، كما تذوب فيها اللغاتُ والألوان، وتطوى صفحات الزمن ليتصل المسلمُ بأخيه عبر آلاف السنين.
ألا ما أرحب هذه الوحدة، وما أوسعها، فهل تدانيها وحدةٌ أخرى ؟ كلا.
وبقدر ما يُدعى المسلمون لهذه الوحدة الكبرى يُنهون عن الفرقة والتنازع والخلاف، وفي ذلك إقامةٌ للدين ورصٌ لصفوف المسلمين: (( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ)) (سورة الشورى:13).
بل ويحذرون من آثار التنازع والاختلاف: (( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) (سورة الأنفال:46).
أخوة الإسلام:
إن واقع الأمة المسلمة من الشتات والفرقة بحيث لا تسرُّ العقلاء، فضلاً عن أن يرضى عنها العلماءُ وأهلُ الدعوة والساسةُ النبلاء.
ولكننا لا نريد أن نزيد الجُرح عُمقاً، ولا أن نتسلى بذكر مآسينا، إنما نُريد توصيف الداء، وتلمس الدواء، والمساهمة الفاعلة للخروج من هذه الأزمة.
إن مما يُفرح أن المسلمين باتوا يشعرون بالخطر أكثر، وباتوا يتنادون لوحدة الصف، وتقريب وجهات النظر، والدعوة للإئتلاف والاتفاق بدل الاختلاف والافتراق.
والمؤتمر الذي عُقد -مؤخراً- في السودان، تحت شعار: (( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)) ( سورة آل عمران:103) دليلٌ على هذه الرغبة واستشعار لخطر الفرقة.
لقد جاء ملتقى العلماء والدعاة والمفكرين في وقته وفي مكانه، فالزمنُ زمنُ هجمةٍ شرسة على الإسلام والمسلمين، والحاقدون على الإسلام والمسلمين لا يفرقون بين جماعة وأخرى وبلد وآخر، ولا يستهدفون الحكومات وحدها، بل والشعوب معها، إنهم لا يفرقون بين مذهب وآخر، بل يريدون الإسلام برمته، وإذا ابتدءوا بالأطراف أو تعجلوا في الهوامش، فهم يخططون للقلب ويتطلعون للأماكن المهمة، لكنها الخطوة بعد الخطوة والثورُ الأبيض يُأكل على أثر أكل الثور الأسود وهكذا.
وهذا يستدعي من المسلمين اليقظة والحذر والدفاع عن حياض الإسلام والاهتمام بقضايا المسلمين في كل مكان.
جاء مؤتمر السودان - الذي نظمته جامعة الخرطوم- تحت عنوان: (العمل الإسلامي بين الاتفاق والافتراق) مناسباً في مكانه، فالسودانُ تتعرض هذه الأيام لمحنةٍ واحتراب، وتنازع عرقي، ومحاولة لاقتسام النفوذ بين كافة الفصائل المتنازعة؛ ليس هذا أوانها ، وإذا علم الناس أهداف ( المتمردين ) في جنوب السودان ، ودعم الغرب لهم حتى حققوا معظم ما يريدون ..
فهم في حيرة مما يحدث في غرب السودان (دارفور) فالأغلبية هناك مسلمون - إن لم يكونوا كلهم مسلمين- ومناطق الغرب هذه من أكثر مناطق السودان تمسكاً بالإسلام، فكيف يحصل هذا التمرد والاقتتال؟
ومهما قيل عن تهميشهم وحاجتهم للكثير من الحقوق فهل تكون إراقة الدماء وإشاعةُ الفوضى، وإلحاقُ الدمار بالبلاد والعباد، هي الوسيلة المناسبة للمطالبة بالحقوق؟
إن المتابعين للأحداث يرون إذكاءَ المعركة من أطرافٍ خارجية، فثمَّة دولٌ وساسةٌ لا يرغبون للسودان الاستقرار، بل يهدفون إلى استنْزافه بالحروب والقلاقل، وكلما هدأت مشكلةٌ أثاروا غيرها وهكذا حتى لا يتفرغ السودانيون لبناء بلدهم ومدّ يد العون لإخوانهم وجيرانهم في دول أفريقيا.
والمتابعون كذلك يرون اهتمام الغرب بدارفور، أمر لا يمكن تفسيره بحسن النوايا، أو لمراعاة النواحي الإنسانية، فمآسيهم بالأصالة في العراق، أو بالوكالة في فلسطين أعظمُ وأنكى، وفضائحهم هناك وفي غيرها باتت من الشهرة بحيث لا تخفى.
ومن المضحك المبكي أن الهيئات والجمعيات الإغاثية الإسلامية تُحاصر وتُرمى بالإرهاب إن هي أغاثت ملهوفاً أو أطعمت مسكيناً، وها هي الجمعيات التنصيرية يُطلق لها العنانُ لتعمل في غرب السودان، ولعل هذا واحداً من أهداف الغرب للتدخل في هذه الأزمة.
إننا نثمن جهود العلماء الذين التقوا في مؤتمر الاتفاق في السودان، ونسأل الله العون لإخواننا في السودان للخروج من هذه الأزمة بسلام، كما ندعو إلى مزيد من هذه اللقاءات في عالمنا الإسلامي، ونؤكد على ضرورة جمع الكلمة وتوحيد الجبهة الداخلية.
لابد من الحوار الهادئ، ولابد من تجاوز الخلافات الفرعية، لابد من تقديم المصلحة الكبرى على المصالح الفردية، لابد من تقدير الظروف الراهنة، وكم يؤلم أن يتنازع المسلمون ويتطاحنوا فيما يسع الخلاف فيه، بينما عدُّوهم يتربص بهم، بل ويتخذ من خلافاتهم قوةً له، ومن تنازعهم مدخلاً لإضعافهم جميعاً.
إن طاقات الأمة أمانةٌ في أعناقنا جميعاً، لا يجوز التفريط في شيء منها، وإن اجتماع المسلمين وتعاونهم على البر والتقوى مقصدٌ عظيم من مقاصد الشرع لا يسوغ بحال التفريط فيه لمجرد خلافٍ بسيط، أو شبهةٍ أو تأويل.
وإذا اختلف الناس فحسبُهم أن يتناقشوا ويتحاوروا لا أن يحملوا السلاح ويقتتلوا، فمن حمل علينا السلام فليس منا، ومن بغى علينا بظلم عاملناه بالحقّ والعدل، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)) (سورة النساء: 114) .
نفعني الله وإياكم بالقرآن.
الخطبة الثانية
أخوة الإسلام:
أعود بكم إلى مؤتمر الخرطوم (العمل الإسلامي بين الاتفاق والافتراق) حيث خرج المشاركون في بيانهم الختامي بعدد من التوصيات ومنها:
التأكيدُ على ضرورة جمع كلمة الأمة الإسلامية ونبذ الفرقة.
وضعُ آلية لتفعيل مبدأ الائتلاف والاجتماع في العمل الإسلامي يتفق عليها العاملون للإسلام.
إدراج أدب الحوار والتعامل مع المخالف في مناهج التعليم والمناهج الدعوية.
دعوة العاملين للإسلام إلى تبني دورات وندوات عن منهج الإسلام في الاجتماع والافتراق ونشر ذلك في وسائل الإعلام المختلفة.
على العلماء والدعاة والخطباء والإعلاميين تفعيلُ فقه الحوار في خطابهم الدعوي.
العنايةُ بقضايا المسلمين وفي مقدمتها قضية فلسطين باعتبارها مادة تجمع المسلمين وتؤلف بينهم، مع الاهتمام بقضايا المسلمين الأخرى، فوحدة المسلمين سبيل لصدِّ العدوان عليهم.
أيها المسلمون:
كم نحتاج إلى فقه التأليف والاجتماع لاسيما في مرحلة كهذه المرحلة التي أصبح فيها عالمنا العربي والإسلامي هدفاً لغارات المستعمرين، وما أن تنتهي غارة حتى يُفكر الأعداء في غارةٍ أخرى، واليوم ورغم أن جُرح العراق لا يزال ينْزف، والمآسي تتراكم، وانتهاكات حقوق الإنسان تمارس وبشكل مفضوح على أيدي أدعياء الحرية والديمقراطية، وكفى بفضيحة (أبي غريب) وما خفي أعظم.
ومع ذلك ورغم ذلك فلا يزال يُراد لنا وبنا مزيداً من الكوارثِ والمآسي وإعادة وجه الاستعمار الكالح.
والمتابعون للأحداث في غرب السودان يرون طبول الحربِ تُقرع، وتطالعنا عناوين صحف اليوم وفيها: (بلير يدرس ثلاثة خيارات للتدخل العسكري) في السودان (الجزيرة، الجمعة 6/6/1425هـ).
وهنا أقف عدة وقفات:
هل يُراد تبادلُ الأدوار في الهجوم على بلاد المسلمين بين دول الغرب، فأمريكا ضالعةٌ في الجريمة لكنها تقدم -ظاهراً- حليفتها إنجلترا، والغنيمة مقسومة سلفاً، والأهداف مشتركة، وأمريكا ظهرت في العراق والأفغان بما يكفي لتشويه سمعتها، فالتخفف النقد عليها ولو مؤقتاً في أحداث السودان.
وإذا كان تبريرُ الغرب للتدخل العسكري في السودان مراعاة الوضع الإنساني وخطر المجاعةِ والمرض، فماذا صنع الغربُ في العراق، وقد زاد الاحتلالُ في نزيف الدماء هناك، ولا تسأل عن المجاعةِ، وإهدار كرامة الإنسان حتى ضجّ الغربُ بمؤسساته وإعلامه بما يجري على أرض العراق، وعلى أيدي الغرب أنفسهم فهل ستكرر الصورة في السودان؟ وهل سيظل المسلمون يتفرجون على قضايا ومآسي إخوانهم؟!
وقبل أن يتدخل الغرب عسكرياً في السودان فقد تدخل بمؤسساته وهيئاته ومنظماته التي غُلفِّت بغلاف الإغاثة والإنسانية، والواقعُ أنها منظماتٌ وهيئات تنصيرية تُمهد للغزو العسكري، ومن عجب أن تُرمى الهيئات والمنظماتُ والجمعيات الإسلامية بالتطرف والإرهاب وتُحاصر وتمنع وهي التي تمارس الإغاثة النَّزيهة على حين تُدعى بل تُسهل مهمةُ مؤسساتهم ومنظماتهم الغربية المشبوهة، وهنا يرد السؤال، وإذا كان الهدفُ إغاثياً فأين الهيئات والمنظمات الإسلامية عن (غرب السودان)؟ هل لها وجود؟ وهل هو بالقدر الكافي؟ هل تُمنع أو تُقيد حركتها؟ أم يرجع التقصير للمسلمين، ومن حق أهل السودان أن يتساءلوا وأين دور هيئات المسلمين في السودان؟
أما وطبولُ الحربِ تُقرع للتدخل الأجنبي في السودان فثمة تساؤلات، ما موقف العرب والمسلمين من التدخل الأجنبي في بلادهم؟ هل للغرب وصاية على المسلمين؟ وأين هم من إرهاب الصهاينة اليهود في فلسطين؟ هل يتدخلون لكف أيدي السفاحين هناك حيث القتل الجماعي للأطفال والشيوخ والنساء؟ وحيث يُهلك الحرث والنسل، ويشرد الملايين من اللاجئين؟
إننا لا نلوم الغرب في تعاطفه مع اليهود، فالهدفُ مشترك في القضاء على الإسلام والمسلمين، ولكنا نتساءل عن دور المسلمين في نصرة إخوانهم المسلمين، والأمرُ لم يعد مطلباً شرعياً تؤكده نصوصُ الوحيين في نصرة المسلمين وتحقيق معنى الأخوة الإسلامية، بل بات مطلباً عقلياً تمليه مقتضيات السياسة والحفاظ على الذات، فالمستعمرون يسيرون وفق مخططٍ مرسوم يستهدفون الأطراف والهوامش ابتداءً ليصلوا في النهاية إلى القلب والصميم، وبقدر ما يسكت المسلمون عن إخوانهم بقدر ما يعجلون وصول العربة إليهم، أين دورُ جامعة الدول العربية؟ وما موقفُ منظمة المؤتمر الإسلامي؟ أين صوتُ الهيئات والمنظمات الإسلامية العالمية مما يُراد للسودان وما يخطط له بعد السودان؟ بل وأين دور الحكومات والشعوب الإسلامية من صلف الغرب واستنْزاف المسلمين قبل أن تغرق السفينة ؟
الائتلاف والافتراق وما يراد للسودان ؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أيها المؤمنون:
الخلاف والفُرقة شرٌّ وبلاءً وضعفٍ وشتات، والاجتماعُ والائتلاف رحمةً وقوة وحفظ للطاقات، وإذا اجتمعت الأممُ والشعوبُ الكافرة على مصالح اقتصادية أو لأهداف سياسية، كان اجتماعُ الأمة المسلمة على أهداف سامية وعلى ميثاق الكتاب والسنة: ((وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ
) (سورة آل عمران:103).
وإذا كان عالَمُ اليوم يشهد تكتلاتٍ واتحادات على الرغم من الاختلافات والتنازعات وغياب المنهج الرباني كالاتحاد الحاصل بين دول أوروبا، وكما يجري في ولايات أمريكا، وكالذي يحدث بين تقارب اليهود والنصارى أو بين فصائل اليهود والنصارى المختلفة فيما بينها.
إذا حدث هذا في عالم لا يرتبط بهدي السماء، ولا يقيم وزناً للقيم والمبادئ العليا، فكيف الحالُ بين أهل الإسلام؟ وماذا يجدون في كتاب ربِّهم وسُنّة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وتراث أسلافهم من دعوة للاجتماع والإئتلاف.
وإذا عرفوا فكيف يخرجون من مأزق الافتراق والشتات؟
أجل إنه لم يحفل دينٌ بالوحدة الكبرى، والدعوة لاجتماع الكلمة، ونبذ الفرقة والخلاف كما حفل الإسلام.
جاءت تعاليمُه تؤكد على أتباعه أن أمتهم واحدة من آدم ونوح عليهما السلام إلى خاتم النبيين محمد r (( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)) (سورة الأنبياء:92).
إنها وحِدةٌ تتجاوز المكان، ولا تتوقف عند زمان، تذوب فيها الجنسياتُ والأعراف، كما تذوب فيها اللغاتُ والألوان، وتطوى صفحات الزمن ليتصل المسلمُ بأخيه عبر آلاف السنين.
ألا ما أرحب هذه الوحدة، وما أوسعها، فهل تدانيها وحدةٌ أخرى ؟ كلا.
وبقدر ما يُدعى المسلمون لهذه الوحدة الكبرى يُنهون عن الفرقة والتنازع والخلاف، وفي ذلك إقامةٌ للدين ورصٌ لصفوف المسلمين: (( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ)) (سورة الشورى:13).
بل ويحذرون من آثار التنازع والاختلاف: (( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) (سورة الأنفال:46).
أخوة الإسلام:
إن واقع الأمة المسلمة من الشتات والفرقة بحيث لا تسرُّ العقلاء، فضلاً عن أن يرضى عنها العلماءُ وأهلُ الدعوة والساسةُ النبلاء.
ولكننا لا نريد أن نزيد الجُرح عُمقاً، ولا أن نتسلى بذكر مآسينا، إنما نُريد توصيف الداء، وتلمس الدواء، والمساهمة الفاعلة للخروج من هذه الأزمة.
إن مما يُفرح أن المسلمين باتوا يشعرون بالخطر أكثر، وباتوا يتنادون لوحدة الصف، وتقريب وجهات النظر، والدعوة للإئتلاف والاتفاق بدل الاختلاف والافتراق.
والمؤتمر الذي عُقد -مؤخراً- في السودان، تحت شعار: (( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)) ( سورة آل عمران:103) دليلٌ على هذه الرغبة واستشعار لخطر الفرقة.
لقد جاء ملتقى العلماء والدعاة والمفكرين في وقته وفي مكانه، فالزمنُ زمنُ هجمةٍ شرسة على الإسلام والمسلمين، والحاقدون على الإسلام والمسلمين لا يفرقون بين جماعة وأخرى وبلد وآخر، ولا يستهدفون الحكومات وحدها، بل والشعوب معها، إنهم لا يفرقون بين مذهب وآخر، بل يريدون الإسلام برمته، وإذا ابتدءوا بالأطراف أو تعجلوا في الهوامش، فهم يخططون للقلب ويتطلعون للأماكن المهمة، لكنها الخطوة بعد الخطوة والثورُ الأبيض يُأكل على أثر أكل الثور الأسود وهكذا.
وهذا يستدعي من المسلمين اليقظة والحذر والدفاع عن حياض الإسلام والاهتمام بقضايا المسلمين في كل مكان.
جاء مؤتمر السودان - الذي نظمته جامعة الخرطوم- تحت عنوان: (العمل الإسلامي بين الاتفاق والافتراق) مناسباً في مكانه، فالسودانُ تتعرض هذه الأيام لمحنةٍ واحتراب، وتنازع عرقي، ومحاولة لاقتسام النفوذ بين كافة الفصائل المتنازعة؛ ليس هذا أوانها ، وإذا علم الناس أهداف ( المتمردين ) في جنوب السودان ، ودعم الغرب لهم حتى حققوا معظم ما يريدون ..
فهم في حيرة مما يحدث في غرب السودان (دارفور) فالأغلبية هناك مسلمون - إن لم يكونوا كلهم مسلمين- ومناطق الغرب هذه من أكثر مناطق السودان تمسكاً بالإسلام، فكيف يحصل هذا التمرد والاقتتال؟
ومهما قيل عن تهميشهم وحاجتهم للكثير من الحقوق فهل تكون إراقة الدماء وإشاعةُ الفوضى، وإلحاقُ الدمار بالبلاد والعباد، هي الوسيلة المناسبة للمطالبة بالحقوق؟
إن المتابعين للأحداث يرون إذكاءَ المعركة من أطرافٍ خارجية، فثمَّة دولٌ وساسةٌ لا يرغبون للسودان الاستقرار، بل يهدفون إلى استنْزافه بالحروب والقلاقل، وكلما هدأت مشكلةٌ أثاروا غيرها وهكذا حتى لا يتفرغ السودانيون لبناء بلدهم ومدّ يد العون لإخوانهم وجيرانهم في دول أفريقيا.
والمتابعون كذلك يرون اهتمام الغرب بدارفور، أمر لا يمكن تفسيره بحسن النوايا، أو لمراعاة النواحي الإنسانية، فمآسيهم بالأصالة في العراق، أو بالوكالة في فلسطين أعظمُ وأنكى، وفضائحهم هناك وفي غيرها باتت من الشهرة بحيث لا تخفى.
ومن المضحك المبكي أن الهيئات والجمعيات الإغاثية الإسلامية تُحاصر وتُرمى بالإرهاب إن هي أغاثت ملهوفاً أو أطعمت مسكيناً، وها هي الجمعيات التنصيرية يُطلق لها العنانُ لتعمل في غرب السودان، ولعل هذا واحداً من أهداف الغرب للتدخل في هذه الأزمة.
إننا نثمن جهود العلماء الذين التقوا في مؤتمر الاتفاق في السودان، ونسأل الله العون لإخواننا في السودان للخروج من هذه الأزمة بسلام، كما ندعو إلى مزيد من هذه اللقاءات في عالمنا الإسلامي، ونؤكد على ضرورة جمع الكلمة وتوحيد الجبهة الداخلية.
لابد من الحوار الهادئ، ولابد من تجاوز الخلافات الفرعية، لابد من تقديم المصلحة الكبرى على المصالح الفردية، لابد من تقدير الظروف الراهنة، وكم يؤلم أن يتنازع المسلمون ويتطاحنوا فيما يسع الخلاف فيه، بينما عدُّوهم يتربص بهم، بل ويتخذ من خلافاتهم قوةً له، ومن تنازعهم مدخلاً لإضعافهم جميعاً.
إن طاقات الأمة أمانةٌ في أعناقنا جميعاً، لا يجوز التفريط في شيء منها، وإن اجتماع المسلمين وتعاونهم على البر والتقوى مقصدٌ عظيم من مقاصد الشرع لا يسوغ بحال التفريط فيه لمجرد خلافٍ بسيط، أو شبهةٍ أو تأويل.
وإذا اختلف الناس فحسبُهم أن يتناقشوا ويتحاوروا لا أن يحملوا السلاح ويقتتلوا، فمن حمل علينا السلام فليس منا، ومن بغى علينا بظلم عاملناه بالحقّ والعدل، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)) (سورة النساء: 114) .
نفعني الله وإياكم بالقرآن.
الخطبة الثانية
أخوة الإسلام:
أعود بكم إلى مؤتمر الخرطوم (العمل الإسلامي بين الاتفاق والافتراق) حيث خرج المشاركون في بيانهم الختامي بعدد من التوصيات ومنها:
التأكيدُ على ضرورة جمع كلمة الأمة الإسلامية ونبذ الفرقة.
وضعُ آلية لتفعيل مبدأ الائتلاف والاجتماع في العمل الإسلامي يتفق عليها العاملون للإسلام.
إدراج أدب الحوار والتعامل مع المخالف في مناهج التعليم والمناهج الدعوية.
دعوة العاملين للإسلام إلى تبني دورات وندوات عن منهج الإسلام في الاجتماع والافتراق ونشر ذلك في وسائل الإعلام المختلفة.
على العلماء والدعاة والخطباء والإعلاميين تفعيلُ فقه الحوار في خطابهم الدعوي.
العنايةُ بقضايا المسلمين وفي مقدمتها قضية فلسطين باعتبارها مادة تجمع المسلمين وتؤلف بينهم، مع الاهتمام بقضايا المسلمين الأخرى، فوحدة المسلمين سبيل لصدِّ العدوان عليهم.
أيها المسلمون:
كم نحتاج إلى فقه التأليف والاجتماع لاسيما في مرحلة كهذه المرحلة التي أصبح فيها عالمنا العربي والإسلامي هدفاً لغارات المستعمرين، وما أن تنتهي غارة حتى يُفكر الأعداء في غارةٍ أخرى، واليوم ورغم أن جُرح العراق لا يزال ينْزف، والمآسي تتراكم، وانتهاكات حقوق الإنسان تمارس وبشكل مفضوح على أيدي أدعياء الحرية والديمقراطية، وكفى بفضيحة (أبي غريب) وما خفي أعظم.
ومع ذلك ورغم ذلك فلا يزال يُراد لنا وبنا مزيداً من الكوارثِ والمآسي وإعادة وجه الاستعمار الكالح.
والمتابعون للأحداث في غرب السودان يرون طبول الحربِ تُقرع، وتطالعنا عناوين صحف اليوم وفيها: (بلير يدرس ثلاثة خيارات للتدخل العسكري) في السودان (الجزيرة، الجمعة 6/6/1425هـ).
وهنا أقف عدة وقفات:
هل يُراد تبادلُ الأدوار في الهجوم على بلاد المسلمين بين دول الغرب، فأمريكا ضالعةٌ في الجريمة لكنها تقدم -ظاهراً- حليفتها إنجلترا، والغنيمة مقسومة سلفاً، والأهداف مشتركة، وأمريكا ظهرت في العراق والأفغان بما يكفي لتشويه سمعتها، فالتخفف النقد عليها ولو مؤقتاً في أحداث السودان.
وإذا كان تبريرُ الغرب للتدخل العسكري في السودان مراعاة الوضع الإنساني وخطر المجاعةِ والمرض، فماذا صنع الغربُ في العراق، وقد زاد الاحتلالُ في نزيف الدماء هناك، ولا تسأل عن المجاعةِ، وإهدار كرامة الإنسان حتى ضجّ الغربُ بمؤسساته وإعلامه بما يجري على أرض العراق، وعلى أيدي الغرب أنفسهم فهل ستكرر الصورة في السودان؟ وهل سيظل المسلمون يتفرجون على قضايا ومآسي إخوانهم؟!
وقبل أن يتدخل الغرب عسكرياً في السودان فقد تدخل بمؤسساته وهيئاته ومنظماته التي غُلفِّت بغلاف الإغاثة والإنسانية، والواقعُ أنها منظماتٌ وهيئات تنصيرية تُمهد للغزو العسكري، ومن عجب أن تُرمى الهيئات والمنظماتُ والجمعيات الإسلامية بالتطرف والإرهاب وتُحاصر وتمنع وهي التي تمارس الإغاثة النَّزيهة على حين تُدعى بل تُسهل مهمةُ مؤسساتهم ومنظماتهم الغربية المشبوهة، وهنا يرد السؤال، وإذا كان الهدفُ إغاثياً فأين الهيئات والمنظمات الإسلامية عن (غرب السودان)؟ هل لها وجود؟ وهل هو بالقدر الكافي؟ هل تُمنع أو تُقيد حركتها؟ أم يرجع التقصير للمسلمين، ومن حق أهل السودان أن يتساءلوا وأين دور هيئات المسلمين في السودان؟
أما وطبولُ الحربِ تُقرع للتدخل الأجنبي في السودان فثمة تساؤلات، ما موقف العرب والمسلمين من التدخل الأجنبي في بلادهم؟ هل للغرب وصاية على المسلمين؟ وأين هم من إرهاب الصهاينة اليهود في فلسطين؟ هل يتدخلون لكف أيدي السفاحين هناك حيث القتل الجماعي للأطفال والشيوخ والنساء؟ وحيث يُهلك الحرث والنسل، ويشرد الملايين من اللاجئين؟
إننا لا نلوم الغرب في تعاطفه مع اليهود، فالهدفُ مشترك في القضاء على الإسلام والمسلمين، ولكنا نتساءل عن دور المسلمين في نصرة إخوانهم المسلمين، والأمرُ لم يعد مطلباً شرعياً تؤكده نصوصُ الوحيين في نصرة المسلمين وتحقيق معنى الأخوة الإسلامية، بل بات مطلباً عقلياً تمليه مقتضيات السياسة والحفاظ على الذات، فالمستعمرون يسيرون وفق مخططٍ مرسوم يستهدفون الأطراف والهوامش ابتداءً ليصلوا في النهاية إلى القلب والصميم، وبقدر ما يسكت المسلمون عن إخوانهم بقدر ما يعجلون وصول العربة إليهم، أين دورُ جامعة الدول العربية؟ وما موقفُ منظمة المؤتمر الإسلامي؟ أين صوتُ الهيئات والمنظمات الإسلامية العالمية مما يُراد للسودان وما يخطط له بعد السودان؟ بل وأين دور الحكومات والشعوب الإسلامية من صلف الغرب واستنْزاف المسلمين قبل أن تغرق السفينة ؟
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى