رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
محمود بن توفيق بن حسين
الرِّبِّيُّ
في الصَّباح الباكر، حيث تتثاءب الرِّياض العاصمة، وتتمطَّى قبل ازدحام الشَّوارع والضَّجيج، ساعتان قبلَ ميعاد العمل، أمشي تحت شمسٍ هادئةٍ وحدي، أسمع من تمام السُّكون دفَّ نعليَّ على الرَّصيف، أخطو تحت سورٍ عالٍ وطويلٍ، لمقبرةٍ مهيبةٍ تحتلُّ خاصرة البلد، وثمَّة أبَّهة للموت، وسورها كأنه يتمدَّد، يتمدَّد ويسايرني، أنا وهي، ولا أحد، فأمشي، ولا تزال تمشي معي، ثمَّ أمشي وأمشي، ولم تتركْني قطُّ، تلك لعبةٌ جذَّابةٌ ومقلقةٌ.
- علامَ نويت؟!
- علام نويت؟
- ليس بعدُ، اتركيني رجاءً.
ظلَّتِ المطاردة إلى وقتٍ طويلٍ، حتى انتابني خوفٌ طاغٍ جثم على صدري، واستبدَّتْ بي الظُّنون، ورأيتُ فيما رأيتُ تلك الدُّنيا كلَّها وكأنها في وجه المقبرة إلى ما لا نهاية، ورأيتُ أني قد جئتُ للموتَى من عند موتَى، وأنَّ ما يظهر من حياةٍ في نهار الحراك ما هو إلاَّ وهمٌ يتبدَّد فنعود للموات، وأن ساعة الصُّبح هذه ساعةُ حقيقةٍ سطعتْ، وأنني جئتُ على قَدَرٍ، وأنه لا فَوْتَ، وأنه قد يتخوَّتني الموت[1]، يتخوَّتني الموت الذي أسمع غطيطه الآن إذا ما عبَرْتُ إلى الرَّصيف الآخر، مثلما ينقضُّ السَّبع على الفريسة الغافلة التي يتحيَّن وقوعها، إذا ما انتبهتْ ولاذتْ بالفرار.
إذًا؛ أثبتُ أنا، ويثبت الموتُ، فهل اتَّفقنا؟ أقول: هل اتَّفقنا؟ ولا مجيب!
للمارِّين في شارع البطحاء يوميًّا لا شيء غريب، فالموت هنا نائمٌ بالجوار لا أكثر، إنهم يمرُّون من أمام المقبرة وكأنهم لا يرونها، يتعامون عنها؛ الحياة والموت عندهم عالمان متجاوران لا يبغيان، أمَّا لمن كان مثلي، فله قصَّةٌ أخرى: أنا لست ذاهبًا للشِّراء من شارع البطحاء، أبدًا، ولا كنت في دربي إلى صاحبٍ أعرفه ويعرفني، وليس لي بالبطحاء حاجةٌ فأقضيها، أحبُّ أن أكون من أبناء الآخرة، ومدينةُ الأجداث[2] تلك التي تجثم على صدر البطحاء، وتَرَى ولا تُرَى، تعرفني كما تعرف مَن عمَروها، إنها تريد أن تفتح بابًا لي وحدي من دون القلَّة السَّابلة، هي تعرف تمامًا أني مررتُ من هنا؛ حتى أراها؛ فأتذكَّر وأخشَى.
نادتْ: يا هذا، من يمرُّ بغير حاجةٍ عند مقبرةٍ، فالموتُ حاجتُه.
قلت راجيًا: حنانيك، لا حاجة لي إليه الآن؛ لعلِّي أعمل صالحًا فيما تبقَّى.
الشَّمس تترقَّى، وبدأ السَّعي شيئًا فشيئًا، وأخذ وجهُ الأرض يتغيَّر، وتوارتِ الحكمة بعيدًا عن وقْع أقدام السَّاعين إلى لقمة العيش وأبواق عرباتهم، وشُفيتُ من رهاب الموت ضحًى.
وتزاحمتْ على مخيلتي وجوهٌ قد تجعَّدتْ لأهل الزِّحام والمدينة، وأحلام الرُّقيِّ، وفرصة العمر، وضربة الحظِّ، وتأمين مستقبل الأولاد، ولمن أرهقهم الله في الدُّنيا صَعُودًا، وصنمٌ صارم الوجه مخبوءٌ بمؤسَّسات الأعمال اسمه (التارجت)[3]، يسجد له أناسٌ تقطَّعتْ أنفاسهم، وأناسٌ أوشكوا على السُّجود، وأناسٌ يبكون، وأناسٌ أوشكوا على البكاء، ومن خلف غبار كلِّ هؤلاء، ومن فوق أوحالهم وأحوالهم، رأيتُ وجهًا مطمئنًّا كأنه يطلُّ على الموتَى الأحياء من عند المقبرة، وجه رجلٍ أحبَّ لقاء الله، فأحبَّ الله لقاءه، يودُّ لو يقول في الغافلين: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
أريد أن أنفذ من بين زحام هؤلاء وغبارِهم وثرثرتِهم، وأسهمهم الحمراء والخضراء وأقساطهم، إلى ذلك المطمئنِّ وجهًا، إلى ذلك الرِّبِّيِّ[4] الذي ارتحل، وأبكي على كتفه طويلاً طويلاً، وأنا قد فاتني حظٌّ كثيرٌ؛ لم أطلب علمًا منه قطُّ، ولم أَثْنِ ركبتيَّ عنده للأسف، ولم أقرأ شرح كتاب الزَّركشيِّ عليه يومًا، حتى فاتني أن أصلِّي عليه صلاة الجنازة يوم أن صلَّى عليه ربًى[5]، وجاؤوا من كلِّ بلدٍ بالمملكة.
ما جئتُ اليوم كي أموت يا (مقبرة العود)، ولا للأمن قد جزتُ، فلم أستعدَّ بعدُ كما استعدَّ عبدالله وقام يدْعوه، بل شدَّني الحنين إلى الرِّبِّيِّ الذي لم أرَه، شدَّني الحنين إلى (ابن جبرين) في ساعة صحوةٍ فيما قبل الدَّوام.
ـــــــــــــــــــــ
[1] يتخوتني: يختطفني.
[2] الأجداث: القبور.
[3] التارجت: المبيعات المستهدفة، وكثيرًا ما تكون الأرقام شرسة تشغل العاملين عن كل شيء.
[4] الربي: العالم التقي الصابر.
[5] ربى: جمع ربوة، والربوة هي الجماعة نحو عشرة آلاف.
ــــــــــــ
أديب إسلامي - كاتب بموقع الألوكة
مشرف قصة بموقع رواء للأدب الإسلامي
الرِّبِّيُّ
في الصَّباح الباكر، حيث تتثاءب الرِّياض العاصمة، وتتمطَّى قبل ازدحام الشَّوارع والضَّجيج، ساعتان قبلَ ميعاد العمل، أمشي تحت شمسٍ هادئةٍ وحدي، أسمع من تمام السُّكون دفَّ نعليَّ على الرَّصيف، أخطو تحت سورٍ عالٍ وطويلٍ، لمقبرةٍ مهيبةٍ تحتلُّ خاصرة البلد، وثمَّة أبَّهة للموت، وسورها كأنه يتمدَّد، يتمدَّد ويسايرني، أنا وهي، ولا أحد، فأمشي، ولا تزال تمشي معي، ثمَّ أمشي وأمشي، ولم تتركْني قطُّ، تلك لعبةٌ جذَّابةٌ ومقلقةٌ.
- علامَ نويت؟!
- علام نويت؟
- ليس بعدُ، اتركيني رجاءً.
ظلَّتِ المطاردة إلى وقتٍ طويلٍ، حتى انتابني خوفٌ طاغٍ جثم على صدري، واستبدَّتْ بي الظُّنون، ورأيتُ فيما رأيتُ تلك الدُّنيا كلَّها وكأنها في وجه المقبرة إلى ما لا نهاية، ورأيتُ أني قد جئتُ للموتَى من عند موتَى، وأنَّ ما يظهر من حياةٍ في نهار الحراك ما هو إلاَّ وهمٌ يتبدَّد فنعود للموات، وأن ساعة الصُّبح هذه ساعةُ حقيقةٍ سطعتْ، وأنني جئتُ على قَدَرٍ، وأنه لا فَوْتَ، وأنه قد يتخوَّتني الموت[1]، يتخوَّتني الموت الذي أسمع غطيطه الآن إذا ما عبَرْتُ إلى الرَّصيف الآخر، مثلما ينقضُّ السَّبع على الفريسة الغافلة التي يتحيَّن وقوعها، إذا ما انتبهتْ ولاذتْ بالفرار.
إذًا؛ أثبتُ أنا، ويثبت الموتُ، فهل اتَّفقنا؟ أقول: هل اتَّفقنا؟ ولا مجيب!
للمارِّين في شارع البطحاء يوميًّا لا شيء غريب، فالموت هنا نائمٌ بالجوار لا أكثر، إنهم يمرُّون من أمام المقبرة وكأنهم لا يرونها، يتعامون عنها؛ الحياة والموت عندهم عالمان متجاوران لا يبغيان، أمَّا لمن كان مثلي، فله قصَّةٌ أخرى: أنا لست ذاهبًا للشِّراء من شارع البطحاء، أبدًا، ولا كنت في دربي إلى صاحبٍ أعرفه ويعرفني، وليس لي بالبطحاء حاجةٌ فأقضيها، أحبُّ أن أكون من أبناء الآخرة، ومدينةُ الأجداث[2] تلك التي تجثم على صدر البطحاء، وتَرَى ولا تُرَى، تعرفني كما تعرف مَن عمَروها، إنها تريد أن تفتح بابًا لي وحدي من دون القلَّة السَّابلة، هي تعرف تمامًا أني مررتُ من هنا؛ حتى أراها؛ فأتذكَّر وأخشَى.
نادتْ: يا هذا، من يمرُّ بغير حاجةٍ عند مقبرةٍ، فالموتُ حاجتُه.
قلت راجيًا: حنانيك، لا حاجة لي إليه الآن؛ لعلِّي أعمل صالحًا فيما تبقَّى.
الشَّمس تترقَّى، وبدأ السَّعي شيئًا فشيئًا، وأخذ وجهُ الأرض يتغيَّر، وتوارتِ الحكمة بعيدًا عن وقْع أقدام السَّاعين إلى لقمة العيش وأبواق عرباتهم، وشُفيتُ من رهاب الموت ضحًى.
وتزاحمتْ على مخيلتي وجوهٌ قد تجعَّدتْ لأهل الزِّحام والمدينة، وأحلام الرُّقيِّ، وفرصة العمر، وضربة الحظِّ، وتأمين مستقبل الأولاد، ولمن أرهقهم الله في الدُّنيا صَعُودًا، وصنمٌ صارم الوجه مخبوءٌ بمؤسَّسات الأعمال اسمه (التارجت)[3]، يسجد له أناسٌ تقطَّعتْ أنفاسهم، وأناسٌ أوشكوا على السُّجود، وأناسٌ يبكون، وأناسٌ أوشكوا على البكاء، ومن خلف غبار كلِّ هؤلاء، ومن فوق أوحالهم وأحوالهم، رأيتُ وجهًا مطمئنًّا كأنه يطلُّ على الموتَى الأحياء من عند المقبرة، وجه رجلٍ أحبَّ لقاء الله، فأحبَّ الله لقاءه، يودُّ لو يقول في الغافلين: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
أريد أن أنفذ من بين زحام هؤلاء وغبارِهم وثرثرتِهم، وأسهمهم الحمراء والخضراء وأقساطهم، إلى ذلك المطمئنِّ وجهًا، إلى ذلك الرِّبِّيِّ[4] الذي ارتحل، وأبكي على كتفه طويلاً طويلاً، وأنا قد فاتني حظٌّ كثيرٌ؛ لم أطلب علمًا منه قطُّ، ولم أَثْنِ ركبتيَّ عنده للأسف، ولم أقرأ شرح كتاب الزَّركشيِّ عليه يومًا، حتى فاتني أن أصلِّي عليه صلاة الجنازة يوم أن صلَّى عليه ربًى[5]، وجاؤوا من كلِّ بلدٍ بالمملكة.
ما جئتُ اليوم كي أموت يا (مقبرة العود)، ولا للأمن قد جزتُ، فلم أستعدَّ بعدُ كما استعدَّ عبدالله وقام يدْعوه، بل شدَّني الحنين إلى الرِّبِّيِّ الذي لم أرَه، شدَّني الحنين إلى (ابن جبرين) في ساعة صحوةٍ فيما قبل الدَّوام.
ـــــــــــــــــــــ
[1] يتخوتني: يختطفني.
[2] الأجداث: القبور.
[3] التارجت: المبيعات المستهدفة، وكثيرًا ما تكون الأرقام شرسة تشغل العاملين عن كل شيء.
[4] الربي: العالم التقي الصابر.
[5] ربى: جمع ربوة، والربوة هي الجماعة نحو عشرة آلاف.
ــــــــــــ
أديب إسلامي - كاتب بموقع الألوكة
مشرف قصة بموقع رواء للأدب الإسلامي
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى