رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
بين موسى الهادي وأحد كتابه
وذكر
محمد بن عبدوس الجهشياري، في كتابه الوزراء: أن موسى الهادي سخط على بعض
كتابه، ولم يسمه، فجعل يقرعه، ويؤنبه، ويتهدده، ويتوعده.
فقال له
الكاتب: يا أمير المؤمنين، إن اعتذاري إليك فيما تقرعني به رد عليك،
وإقراري بما بلغك عني، يوجب ذنباً لم أجنه، ولكني أقول كما قال الشاعر:
إذا كنت ترجو في العقاب تشفّياً ... فلا تزهدن عند التجاوز في الأجر
فصفح عنه، وأمر بترك التعرض له، وأحسن إليه، وصرفه مكرماً.
ابن مقلة ينفذ من سجنه رقعة إلى الوزير ابن الفرات
حدثني
علي بن هشام بن عبد الله الكاتب، عن أبي عبد الله زنجي الكاتب، قال: لما
نكب أبو الحسن بن الفرات، أبا علي بن مقلة، في وزارته الثالثة، لم أدخل
إليه في الحبس، ولا كاتبه متوجعاً له، ولا راسلته بحرف، خوفاً من أن يرقى
ذلك إلى ابن الفرات.
وكانت بيني وبين ابن مقلة مودة، فلما طال مكثه في الحبس، كتب إلي رقعة
لطيفة، أولها:
ترى حرّمت كتب الأخلاّء بينهم ... أبن لي، أم القرطاس أصبح غالياً ؟
فما كان لو ساءلتنا كيف حالنا ... وقد دهمتنا نكبة هي ما هيا
صديق من راعاك عنه شديدة ... وكلٌّ تراه في الرخاء مراعيا
فهبك عدوّي، لا صديقي، فربّما ... يكاد الأعادي يرحمون الأعاديا
ثم
أتبع ذلك بكلام عاتبني فيه، ويذكر أنه أنفذ إلي، في طي رقعته، رقعة إلى
الوزير، وسألني عرضها عليه، في وقت خلوة لا يكون فيها ابنه أبو أحمد
المحسن.
فقرأت الرقعة التي للوزير، فكان فيها: أقصرت أطال الله بقاء
الوزير، وفعل به وصنع، عن الاستعطاف وعن الشكوى، حتى تناهت بي المحنة
والبلوى، في النفس والمال، والجسم والحال، إلى ما فيه شفاء للمنتقم،
وتقويم للمجترم، حتى أفضت بي، إلى الحيرة والتبلد، وبعيالي إلى الهتكة
والتلدد، وما أقول إن حالاً أتاها الوزير - أيده الله - في أمري، إلا بحق
واجب، وظن صادق غير كاذب، إلا أن القدرة تذهب الحفيظة، والاعتراف يزيل
الاقتراف، ورب المعروف يؤثره أهل الفضل والدين، والإحسان إلى المسيء، من
أفعال المتقين، وعلى كل حال، فلي ذمام وحرمة، وتأميل وخدمة، إن كانت
الإساءة تضيعها، فرعاية الوزير - أيده الله - تحفظها، فإن رأى الوزير -
أطال الله بقاءه - أن يلحظ عبده بعين رأفته، وينعم بإحياء مهجته، ويتخلصها
من العذاب الشديد، والجهد الجهيد، ويجعل له من معروفه نصيباً، ومن البلوى
فرجاً قريباً، فعل، إن شاء الله.
فأقامت الرقعة في كمي أياماً، لا أتمكن
من عرضها، إلى أن رسم لي الوزير ابن الفرات، كتب رقعة إلى جعفر بن القاسم،
عامله على فارس، في مهم، وأن أحررها بين يديه، وأعرضها عليه، فأمرني
بتحريرها وقد خلا، فاغتنمت خلوته من كل أحد، فقلت له: قد عرف الوزير -
أيده الله - ما بيني وبين ابن مقلة، من العشرة والإلفة التي جمعتنا عليها
خدمته، ووالله، ما كاتبته ولا راسلته، ولا قضيت له حقاً بمعونة ولا غيرها،
منذ سخط الوزير - أيده الله - عليه، وهذه رقعته إلي تدل على ذلك، ويسأل
عرض رقعة له على الوزير - أيده الله - وهي معي، فإن أذن عرضتها عليه.
فقال: هاتها.
فناولته إياها، قال: فقرأ رقعته إلي، ثم قال: هات رقعته إلي.
فقلت: أسأل الوزير - أيده الله - أن يكتم ذلك عن سيدي أبي أحمد - يعني
المحسن ابنه - فإني أخافه.
فقال: أفعل.
فلما
قرأ رقعة ابن مقل إليه قال: والله، يا أبا عبد الله، لقد تناهى هذا الرجل
في السعاية على دمي، ومالي، وأهلي، ولقد صح عندي أنه قال لما أسلم إلي
حامد: لو علمت أن ابن الفرات سيبقى بعد صرفه يوماً واحداً ما سعيت عليه،
ووالله، لقد كنت أدعو الله في حبسي، أن لا يمكنني منه، ولا من الباقطائي،
أما هو فلإحساني العظيم - كان - إليه، فلم أحب أن أتمكن منه فأسفي غيظي
وأفسد إحساني إليه وأما الباقطائي، فلقبيح إساءته إلي، ولأنه شيخ من شيوخ
الكتاب، وخفت العار بما لعلي كنت أعامله به لو حصل في يدي، فلم تجب دعوتي
فيه، وأجيبت في الباقطائي، والآن فوحق محمد وآله عليهم السلام، لا جرى على
ابن مقلة مكروه بعد هذا، وأنا أتقدم اليوم بأخذه من المحسن، وإنفاذه مع
سليمان بن الحسن إلى فارس، وأجريه مجراه في الأمر بحراسة نفسه، وباقي
حاله، وأزيدك - يا أبا عبد الله - ما لا أحسبك فهمته.
فقلت: وما هو ؟ فإني لم أزل أستفيد الفوائد من الوزير - أيده الله -
تعلماً وإنعاماً.
فقال: قد بقيت له بقية وافر من حاله، لولاها، لكان لا يقدر أن يقول قولاً
سديداً، ولا يتفرغ قلبه لنظم شعر، وبلاغة نثر.
قال: فلما كان من الغد، أخرجه من المحبس، وأنفذه إلى فارس، هو وسليمان بن
الحسن، فسلما.
كيف تخلص طريح بن إسماعيل الثقفي من المنصور
أخبرني
أبو الفرج علي بن الحسين الأموي، المعروف بالأصبهاني، قال: أخبرني حبيب بن
نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، قال: حدثني محمد بن عبد الله
بن حمزة بن أبي عيينة المهلبي، عن أبيه، عن طريح بن إسماعيل الثقفي، أنه
دخل على أبي جعفر، في الشعراء، فقال له: لا حياك الله، ولا بياك، أما
اتقيت الله حيث تقول في الوليد:
لو قلت للسيل دع طريقك والمو ... ج عليه كالهضب يعتلج
لساخ وارتدّ أو لكان له ... إلى طريقٍ سواه منعرج
فقال طريح: قد علم الله أنني أردت الله بهذا وعنيته، وقلت ذلك، ويدي
ممدودة إليه عز وجل.
فقال أبو جعفر: يا ربيع، أما ترى ها التخلص ؟
المأمون يعفو عن الحسين بن الضحاك ويمتنع عن استخدامه
أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، إجازة، قال: أخبرني محمد بن مزيد بن أبي
الأزهر، ومحمد بن خلف بن المرزبان، وألفاظهم تزيد وتنقص.
وأخبرني
ببعضه محمد بن خلف، وكيع، من آخره، وقصة وصوله إلى المأمون، ولم يذكر ما
قبل ذلك، قالوا: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، ولم يقل وكيع عن أبيه،
واللفظ في الخبر لابن أبي الأزهر، وحديثه، ثم قال: كنت بين يدي المأمون
قائماً فدخل ابن البواب الحاجب، برقعة فيها أبيات، فقال له: أتأذن في
إنشادها ؟ قال: هات، فأنشد:
أجرني فإنّي قد ظمئت إلى الوعد ... متى ينجز الوعد المؤكّد بالعهد
أعيذك من خلف الملول وقد ترى ... تقطّع أنفاسي عليك من الوجد
رأى اللّه عبد اللّه خير عباده ... فملّكه واللّه أعلم بالعبد
ألا إنّما المأمون للنّاس عصمة ... مميّزة بين الضلالة والرّشد
فقال له المأمون: أحسن يا عبد الله، وظنها له.
فقال: بل أحس قائلها يا أمير المؤمنين.
قال: ومن هو قائلها ؟ قال: عبدك الحسين بن الضحاك.
فقطب، وقال: لا حيا الله من ذكرت، ولا بياه، ولا قربه، أليس هو القائل:
أعينيّ جودا وابكيا لي محمّدا ... ولا تذخرا دمعاً عليه وأسعدا
فلا تمّت الأشياء بعد محمّدٍ ... ولا زال شمل الملك فيه مبدّدا
ولا فرح المأمون بالعيش بعده ... ولا زال في الدّنيا طريداً مشرّدا
هذا بذاك، ولا شيء له عندنا.
فقال ابن البواب: فأين فضل أمير المؤمنين، وسعة حلمه، وعادته في العفو ؟
فأمر بإحضاره.
فلما
حضر، سلم، فرد عليه السلام رداً خفياً، ثم قال: أخبرني عنك، هل عرفت - يوم
قتل أخي - هاشميةً قتلت، أو هتكت ؟ قال: لا. قال: فما معنى قولك ؟:
ومما شجى قلبي وكفكف عبرتي ... محارم من آل النّبي استحلّت
ومهتوكة بالخلد عنها سجوفها ... كعاب كقرن الشمس حين تبدّت
إذا خفرتها روعة من منازع ... لها المرط عاذت بالخضوع ورنّت
وسرب ظباءٍ من ذؤابة هاشم ... هتفن بدعوى خير حيّ وميّت
أردّ يداً منّي إذا ما ذكرته ... على كبدٍ حرّى وقل مفتّت
فلا بات ليل الشامتين بغبطة ... ولا بلغت آمالها من تمنّت
فقال: يا أمير المؤمنين، لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة فقدتها بعد أن
غمرتني، وإحسان شكرته فأنطقني.
فدمعت عينا المأمون، وقال: قد عفوت عنك وأمرت لك بإدرار أرزاقك عليك،
وإعطائك ما فات منها، وجعلت عقوبة ذنبك، امتناعي عن استخدامك.
وذكر
محمد بن عبدوس الجهشياري، في كتابه الوزراء: أن موسى الهادي سخط على بعض
كتابه، ولم يسمه، فجعل يقرعه، ويؤنبه، ويتهدده، ويتوعده.
فقال له
الكاتب: يا أمير المؤمنين، إن اعتذاري إليك فيما تقرعني به رد عليك،
وإقراري بما بلغك عني، يوجب ذنباً لم أجنه، ولكني أقول كما قال الشاعر:
إذا كنت ترجو في العقاب تشفّياً ... فلا تزهدن عند التجاوز في الأجر
فصفح عنه، وأمر بترك التعرض له، وأحسن إليه، وصرفه مكرماً.
حدثني
علي بن هشام بن عبد الله الكاتب، عن أبي عبد الله زنجي الكاتب، قال: لما
نكب أبو الحسن بن الفرات، أبا علي بن مقلة، في وزارته الثالثة، لم أدخل
إليه في الحبس، ولا كاتبه متوجعاً له، ولا راسلته بحرف، خوفاً من أن يرقى
ذلك إلى ابن الفرات.
وكانت بيني وبين ابن مقلة مودة، فلما طال مكثه في الحبس، كتب إلي رقعة
لطيفة، أولها:
ترى حرّمت كتب الأخلاّء بينهم ... أبن لي، أم القرطاس أصبح غالياً ؟
فما كان لو ساءلتنا كيف حالنا ... وقد دهمتنا نكبة هي ما هيا
صديق من راعاك عنه شديدة ... وكلٌّ تراه في الرخاء مراعيا
فهبك عدوّي، لا صديقي، فربّما ... يكاد الأعادي يرحمون الأعاديا
ثم
أتبع ذلك بكلام عاتبني فيه، ويذكر أنه أنفذ إلي، في طي رقعته، رقعة إلى
الوزير، وسألني عرضها عليه، في وقت خلوة لا يكون فيها ابنه أبو أحمد
المحسن.
فقرأت الرقعة التي للوزير، فكان فيها: أقصرت أطال الله بقاء
الوزير، وفعل به وصنع، عن الاستعطاف وعن الشكوى، حتى تناهت بي المحنة
والبلوى، في النفس والمال، والجسم والحال، إلى ما فيه شفاء للمنتقم،
وتقويم للمجترم، حتى أفضت بي، إلى الحيرة والتبلد، وبعيالي إلى الهتكة
والتلدد، وما أقول إن حالاً أتاها الوزير - أيده الله - في أمري، إلا بحق
واجب، وظن صادق غير كاذب، إلا أن القدرة تذهب الحفيظة، والاعتراف يزيل
الاقتراف، ورب المعروف يؤثره أهل الفضل والدين، والإحسان إلى المسيء، من
أفعال المتقين، وعلى كل حال، فلي ذمام وحرمة، وتأميل وخدمة، إن كانت
الإساءة تضيعها، فرعاية الوزير - أيده الله - تحفظها، فإن رأى الوزير -
أطال الله بقاءه - أن يلحظ عبده بعين رأفته، وينعم بإحياء مهجته، ويتخلصها
من العذاب الشديد، والجهد الجهيد، ويجعل له من معروفه نصيباً، ومن البلوى
فرجاً قريباً، فعل، إن شاء الله.
فأقامت الرقعة في كمي أياماً، لا أتمكن
من عرضها، إلى أن رسم لي الوزير ابن الفرات، كتب رقعة إلى جعفر بن القاسم،
عامله على فارس، في مهم، وأن أحررها بين يديه، وأعرضها عليه، فأمرني
بتحريرها وقد خلا، فاغتنمت خلوته من كل أحد، فقلت له: قد عرف الوزير -
أيده الله - ما بيني وبين ابن مقلة، من العشرة والإلفة التي جمعتنا عليها
خدمته، ووالله، ما كاتبته ولا راسلته، ولا قضيت له حقاً بمعونة ولا غيرها،
منذ سخط الوزير - أيده الله - عليه، وهذه رقعته إلي تدل على ذلك، ويسأل
عرض رقعة له على الوزير - أيده الله - وهي معي، فإن أذن عرضتها عليه.
فقال: هاتها.
فناولته إياها، قال: فقرأ رقعته إلي، ثم قال: هات رقعته إلي.
فقلت: أسأل الوزير - أيده الله - أن يكتم ذلك عن سيدي أبي أحمد - يعني
المحسن ابنه - فإني أخافه.
فقال: أفعل.
فلما
قرأ رقعة ابن مقل إليه قال: والله، يا أبا عبد الله، لقد تناهى هذا الرجل
في السعاية على دمي، ومالي، وأهلي، ولقد صح عندي أنه قال لما أسلم إلي
حامد: لو علمت أن ابن الفرات سيبقى بعد صرفه يوماً واحداً ما سعيت عليه،
ووالله، لقد كنت أدعو الله في حبسي، أن لا يمكنني منه، ولا من الباقطائي،
أما هو فلإحساني العظيم - كان - إليه، فلم أحب أن أتمكن منه فأسفي غيظي
وأفسد إحساني إليه وأما الباقطائي، فلقبيح إساءته إلي، ولأنه شيخ من شيوخ
الكتاب، وخفت العار بما لعلي كنت أعامله به لو حصل في يدي، فلم تجب دعوتي
فيه، وأجيبت في الباقطائي، والآن فوحق محمد وآله عليهم السلام، لا جرى على
ابن مقلة مكروه بعد هذا، وأنا أتقدم اليوم بأخذه من المحسن، وإنفاذه مع
سليمان بن الحسن إلى فارس، وأجريه مجراه في الأمر بحراسة نفسه، وباقي
حاله، وأزيدك - يا أبا عبد الله - ما لا أحسبك فهمته.
فقلت: وما هو ؟ فإني لم أزل أستفيد الفوائد من الوزير - أيده الله -
تعلماً وإنعاماً.
فقال: قد بقيت له بقية وافر من حاله، لولاها، لكان لا يقدر أن يقول قولاً
سديداً، ولا يتفرغ قلبه لنظم شعر، وبلاغة نثر.
قال: فلما كان من الغد، أخرجه من المحبس، وأنفذه إلى فارس، هو وسليمان بن
الحسن، فسلما.
كيف تخلص طريح بن إسماعيل الثقفي من المنصور
أخبرني
أبو الفرج علي بن الحسين الأموي، المعروف بالأصبهاني، قال: أخبرني حبيب بن
نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، قال: حدثني محمد بن عبد الله
بن حمزة بن أبي عيينة المهلبي، عن أبيه، عن طريح بن إسماعيل الثقفي، أنه
دخل على أبي جعفر، في الشعراء، فقال له: لا حياك الله، ولا بياك، أما
اتقيت الله حيث تقول في الوليد:
لو قلت للسيل دع طريقك والمو ... ج عليه كالهضب يعتلج
لساخ وارتدّ أو لكان له ... إلى طريقٍ سواه منعرج
فقال طريح: قد علم الله أنني أردت الله بهذا وعنيته، وقلت ذلك، ويدي
ممدودة إليه عز وجل.
فقال أبو جعفر: يا ربيع، أما ترى ها التخلص ؟
أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، إجازة، قال: أخبرني محمد بن مزيد بن أبي
الأزهر، ومحمد بن خلف بن المرزبان، وألفاظهم تزيد وتنقص.
وأخبرني
ببعضه محمد بن خلف، وكيع، من آخره، وقصة وصوله إلى المأمون، ولم يذكر ما
قبل ذلك، قالوا: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، ولم يقل وكيع عن أبيه،
واللفظ في الخبر لابن أبي الأزهر، وحديثه، ثم قال: كنت بين يدي المأمون
قائماً فدخل ابن البواب الحاجب، برقعة فيها أبيات، فقال له: أتأذن في
إنشادها ؟ قال: هات، فأنشد:
أجرني فإنّي قد ظمئت إلى الوعد ... متى ينجز الوعد المؤكّد بالعهد
أعيذك من خلف الملول وقد ترى ... تقطّع أنفاسي عليك من الوجد
رأى اللّه عبد اللّه خير عباده ... فملّكه واللّه أعلم بالعبد
ألا إنّما المأمون للنّاس عصمة ... مميّزة بين الضلالة والرّشد
فقال له المأمون: أحسن يا عبد الله، وظنها له.
فقال: بل أحس قائلها يا أمير المؤمنين.
قال: ومن هو قائلها ؟ قال: عبدك الحسين بن الضحاك.
فقطب، وقال: لا حيا الله من ذكرت، ولا بياه، ولا قربه، أليس هو القائل:
أعينيّ جودا وابكيا لي محمّدا ... ولا تذخرا دمعاً عليه وأسعدا
فلا تمّت الأشياء بعد محمّدٍ ... ولا زال شمل الملك فيه مبدّدا
ولا فرح المأمون بالعيش بعده ... ولا زال في الدّنيا طريداً مشرّدا
هذا بذاك، ولا شيء له عندنا.
فقال ابن البواب: فأين فضل أمير المؤمنين، وسعة حلمه، وعادته في العفو ؟
فأمر بإحضاره.
فلما
حضر، سلم، فرد عليه السلام رداً خفياً، ثم قال: أخبرني عنك، هل عرفت - يوم
قتل أخي - هاشميةً قتلت، أو هتكت ؟ قال: لا. قال: فما معنى قولك ؟:
ومما شجى قلبي وكفكف عبرتي ... محارم من آل النّبي استحلّت
ومهتوكة بالخلد عنها سجوفها ... كعاب كقرن الشمس حين تبدّت
إذا خفرتها روعة من منازع ... لها المرط عاذت بالخضوع ورنّت
وسرب ظباءٍ من ذؤابة هاشم ... هتفن بدعوى خير حيّ وميّت
أردّ يداً منّي إذا ما ذكرته ... على كبدٍ حرّى وقل مفتّت
فلا بات ليل الشامتين بغبطة ... ولا بلغت آمالها من تمنّت
فقال: يا أمير المؤمنين، لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة فقدتها بعد أن
غمرتني، وإحسان شكرته فأنطقني.
فدمعت عينا المأمون، وقال: قد عفوت عنك وأمرت لك بإدرار أرزاقك عليك،
وإعطائك ما فات منها، وجعلت عقوبة ذنبك، امتناعي عن استخدامك.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
بين المعتصم والحسين بن الضحاك
أخبرني
محمد بن يحيى الصولي، إجازة، وقد ذكره أبو الفرج الأصبهاني في كتابه
الكبير، كتاب الأغاني، الذي أجازه لي في جملة ما أجاز، في أخبار الحسين بن
الضحاك، قال: غضب علي المعتصم في شيء جرى على النبيذ، وقال: والله
لأؤدبنه، وحجبني، فكتبت إليه:
غضب الإمام أشدّ من أدبه ... وقد استجرت وعذت من غضبه
أصبحت معتصماً بمعتصمٍ ... أثنى عليه اللّه في كتبه
لا والّذي لم يبق لي سبباً ... أرجو النّجاة به سوى سببه
ما لي شفيع غير رحمته ... ولكلّ من أشفى على عطبه
إلاّ كريم طباعه وبه ... أرجو الّذي أرجوه في نسبه
فلما
قرئت عليه، التفت إلى الواثق، وقال: بمثل هذا الكلام يستعطف الكرام، ما هو
إلا أن سمعت أبيات حسين هذه، حتى زال ما في نفسي عليه.
فقال الواثق: هو حقيق أن يهب له أمير المؤمنين ذنبه، ويتجاوز عنه، فرضي
عني، وأمر بإحضاري.
قال
الصولي: فحدثني الحسين بن يحيى، أن هذه الأبيات إنما كتب بها إلى المعتصم
لأنه بلغه عنه أنه مدح العباس بن المأمون، وتمنى له الخلافة، فطلب،
فاستتر، وكتب بهذه الأبيات إلى المعصتم على يدي الواثق، فأوصلها، وشفع له،
فرضي عنه، وأمنه، فظهر، ثم استدعاه، فدخل عليه، وهجا العباس بن المأمون،
فقال:
خلّ اللّعين وما اكتسب ... لا زال منقطع السّبب
يا عرّة الثّقلين لا ... ديناً رعيت ولا حسب
حسد الإمام مكانه ... جهلاً هداك على العطب
وأبوك قدّمه لها ... لمّا تخيّر وانتخب
ما تستطيع سوى التنفّ ... س والتجرّع للكرب
لا زلت عند أبيك من ... تقص المروءة والأدب
الشعبي يروي قصة دخوله على الحجاج
وجدت
بخط القاضي أبي جعفر أحمد بن البهلول الأنباري، قال الشعبي: كنت فيمن خرج
مع ابن الأشعث، على الحجاج، فلما هزم، هربت، فأتيت يزيد بن أبي مسلم، وكان
لي صديقاً، وذكرت له أمري.
فقال: يا عامر، أنا أخوك الذي تعرف، ووالله،
ما أستطيع نفعك عند الحجاج، وما أرى لك إلا أن تمثل بين يديه، فتقر بذنبك،
فإن الحجاج ليس منن يكذب، فاصدقه، واستشهدني على ما بدا لك.
قال الشعبي: فما شعر الحجاج، إلا وأنا قائم بين يديه، فقال: عامر ؟ قلت:
نعم أصلح الله الأمير.
قال: ألم أقدم العراق، فوجدتك خاملاً، فشرفتك، وأوفدتك إلى أمير المؤمنين،
وأثبتك عريف قومك، واستشرتك ؟ قلت: بلى.
قال: فما الذي أخرجك علي، وأين كنت في هذه الفتنة ؟
قلت:
أصلح الله الأمير، أوحش الجناب، وأحزن بنا المنزل، فاستشعرنا الخوف،
واكتحلنا السهر، واستحلسنا البلاء، وفقدنا صالح الإخوان، وشملتنا فتنة، لم
نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، وما أعتذر ألا أكون سعيت، وهذا
يزيد بن أبي مسلم، يشهد لي بذلك، وأني كنت أكتب إليه بعذري.
فقال ابن أبي مسلم: صدق، أعز الله الأمير.
فقال الحجاج: هذا عامر، ضرب وجوهنا بسيفه، وأتانا يعتذر بالباطل، ردوا
عليه عطاءه.
وعفا عنه.
من قصص ملوك الفرس
بين كسرى أبرويز ومغنيه
وجدت
في بعض الكتب، عن ابن خرداذبه، قال: غضب أبرويز الملك، على بعض أصحابه، من
جرم عظيم، فحبسه زماناً، ثم ذكره، فقال للسجان: هل يتعاهده أحد ؟.
فقال: أيها الملك، الفلهند المغني وحده، فإنه كان يوجه إليه في كل يوم
بسلة من طعام.
فقال كسرى أبرويز للفلهند، غضبت على فلان، وحبسته، فقطعه الناس غيرك، فإنك
كنت تتعاهده بالبر في كل يوم.
فقال: أيها الملك، إن البقية التي بقيت له عندك، فأبقت روحه في جسده، أبقت
له عندي مقدار سلة من طعام.
فقال له: أحسنت، وقد وهبت لك ذنبه، وأطلقه للوقت.
الفلهند يحرم الملك أبرويز من شطر لذته
حدثني
الحسن بن محمد الجنائني، قال: قرأت في بعض كتب الفرس أن أبرويز الملك كان
معجباً بغناء الفلهند مغنيه، فنشأ للفلهند غلام أحسن غناء منه، فأدخله إلى
أبرويز يتحفه به، ويتقرب إليه بذلك، فاستطابه أبرويز وغلب على قلبه حتى
قدمه على الفلهند، فحسده الفلهند، فقتله.
وبلغ أبرويز ذلك، فغضب عليه
غضباً شديداً، واستدعى الفلهند، فقال له: يا كلب، علمت أن شطر لذتي في
الغناء كان فيك، وشطرها كان في غلامك فقتلته لتذهب شطر لذتي، والله
لأقتلنك، وأمر به، فجر ليقتل.
فقال: أيها الملك، اسمع مني كلمة، ثم اعمل ما شئت.
قال: قل.
قال:
إذا كانت لذتك شطرين، وقد أبطلت أنا بالجهل أحدهما، وتبطل أنت على نفسك
الشطر الثاني بطاعة الغضب، فإن جنايتك على نفسك، أعظم من جنايتي عليك.
فقال
أبرويز: ما نطقت بهذا الكلام، في مثل هذا المقام، إلا لما في أجلك من
تأخير، ولما يريد الله تعالى إسعادي به من الالتذاذ بغنائك، وقد عفوت عنك.
وأطلقه.
أخبرني
محمد بن يحيى الصولي، إجازة، وقد ذكره أبو الفرج الأصبهاني في كتابه
الكبير، كتاب الأغاني، الذي أجازه لي في جملة ما أجاز، في أخبار الحسين بن
الضحاك، قال: غضب علي المعتصم في شيء جرى على النبيذ، وقال: والله
لأؤدبنه، وحجبني، فكتبت إليه:
غضب الإمام أشدّ من أدبه ... وقد استجرت وعذت من غضبه
أصبحت معتصماً بمعتصمٍ ... أثنى عليه اللّه في كتبه
لا والّذي لم يبق لي سبباً ... أرجو النّجاة به سوى سببه
ما لي شفيع غير رحمته ... ولكلّ من أشفى على عطبه
إلاّ كريم طباعه وبه ... أرجو الّذي أرجوه في نسبه
فلما
قرئت عليه، التفت إلى الواثق، وقال: بمثل هذا الكلام يستعطف الكرام، ما هو
إلا أن سمعت أبيات حسين هذه، حتى زال ما في نفسي عليه.
فقال الواثق: هو حقيق أن يهب له أمير المؤمنين ذنبه، ويتجاوز عنه، فرضي
عني، وأمر بإحضاري.
قال
الصولي: فحدثني الحسين بن يحيى، أن هذه الأبيات إنما كتب بها إلى المعتصم
لأنه بلغه عنه أنه مدح العباس بن المأمون، وتمنى له الخلافة، فطلب،
فاستتر، وكتب بهذه الأبيات إلى المعصتم على يدي الواثق، فأوصلها، وشفع له،
فرضي عنه، وأمنه، فظهر، ثم استدعاه، فدخل عليه، وهجا العباس بن المأمون،
فقال:
خلّ اللّعين وما اكتسب ... لا زال منقطع السّبب
يا عرّة الثّقلين لا ... ديناً رعيت ولا حسب
حسد الإمام مكانه ... جهلاً هداك على العطب
وأبوك قدّمه لها ... لمّا تخيّر وانتخب
ما تستطيع سوى التنفّ ... س والتجرّع للكرب
لا زلت عند أبيك من ... تقص المروءة والأدب
وجدت
بخط القاضي أبي جعفر أحمد بن البهلول الأنباري، قال الشعبي: كنت فيمن خرج
مع ابن الأشعث، على الحجاج، فلما هزم، هربت، فأتيت يزيد بن أبي مسلم، وكان
لي صديقاً، وذكرت له أمري.
فقال: يا عامر، أنا أخوك الذي تعرف، ووالله،
ما أستطيع نفعك عند الحجاج، وما أرى لك إلا أن تمثل بين يديه، فتقر بذنبك،
فإن الحجاج ليس منن يكذب، فاصدقه، واستشهدني على ما بدا لك.
قال الشعبي: فما شعر الحجاج، إلا وأنا قائم بين يديه، فقال: عامر ؟ قلت:
نعم أصلح الله الأمير.
قال: ألم أقدم العراق، فوجدتك خاملاً، فشرفتك، وأوفدتك إلى أمير المؤمنين،
وأثبتك عريف قومك، واستشرتك ؟ قلت: بلى.
قال: فما الذي أخرجك علي، وأين كنت في هذه الفتنة ؟
قلت:
أصلح الله الأمير، أوحش الجناب، وأحزن بنا المنزل، فاستشعرنا الخوف،
واكتحلنا السهر، واستحلسنا البلاء، وفقدنا صالح الإخوان، وشملتنا فتنة، لم
نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، وما أعتذر ألا أكون سعيت، وهذا
يزيد بن أبي مسلم، يشهد لي بذلك، وأني كنت أكتب إليه بعذري.
فقال ابن أبي مسلم: صدق، أعز الله الأمير.
فقال الحجاج: هذا عامر، ضرب وجوهنا بسيفه، وأتانا يعتذر بالباطل، ردوا
عليه عطاءه.
وعفا عنه.
من قصص ملوك الفرس
بين كسرى أبرويز ومغنيه
وجدت
في بعض الكتب، عن ابن خرداذبه، قال: غضب أبرويز الملك، على بعض أصحابه، من
جرم عظيم، فحبسه زماناً، ثم ذكره، فقال للسجان: هل يتعاهده أحد ؟.
فقال: أيها الملك، الفلهند المغني وحده، فإنه كان يوجه إليه في كل يوم
بسلة من طعام.
فقال كسرى أبرويز للفلهند، غضبت على فلان، وحبسته، فقطعه الناس غيرك، فإنك
كنت تتعاهده بالبر في كل يوم.
فقال: أيها الملك، إن البقية التي بقيت له عندك، فأبقت روحه في جسده، أبقت
له عندي مقدار سلة من طعام.
فقال له: أحسنت، وقد وهبت لك ذنبه، وأطلقه للوقت.
حدثني
الحسن بن محمد الجنائني، قال: قرأت في بعض كتب الفرس أن أبرويز الملك كان
معجباً بغناء الفلهند مغنيه، فنشأ للفلهند غلام أحسن غناء منه، فأدخله إلى
أبرويز يتحفه به، ويتقرب إليه بذلك، فاستطابه أبرويز وغلب على قلبه حتى
قدمه على الفلهند، فحسده الفلهند، فقتله.
وبلغ أبرويز ذلك، فغضب عليه
غضباً شديداً، واستدعى الفلهند، فقال له: يا كلب، علمت أن شطر لذتي في
الغناء كان فيك، وشطرها كان في غلامك فقتلته لتذهب شطر لذتي، والله
لأقتلنك، وأمر به، فجر ليقتل.
فقال: أيها الملك، اسمع مني كلمة، ثم اعمل ما شئت.
قال: قل.
قال:
إذا كانت لذتك شطرين، وقد أبطلت أنا بالجهل أحدهما، وتبطل أنت على نفسك
الشطر الثاني بطاعة الغضب، فإن جنايتك على نفسك، أعظم من جنايتي عليك.
فقال
أبرويز: ما نطقت بهذا الكلام، في مثل هذا المقام، إلا لما في أجلك من
تأخير، ولما يريد الله تعالى إسعادي به من الالتذاذ بغنائك، وقد عفوت عنك.
وأطلقه.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
صاحب المائدة يصب ما في الغضارة على رأس الملك
حدثني
الحسن بن محمد الجنائني، قال: قرأت في بعض كتب الفرس المنقولة إلى
العربية، أن ملكاً من ملوكهم قدم إليه صاحب مائدته غضارة إسفيذباج فنقطت
منها نقطة على ساعد الملك، فأمر بقتله.
فقال له الرجل: أعيذ الملك بالله أن يقتلني ظلماً بغير ذنب قصدته.
فقال له الملك: قتلك واجب، ليتعظ بك غيرك، فلا تهمل الحرمة.
فأخذ
الرجل الغضارة، فصبها بأسرها على رأس الملك، وقال: أيها الملك، كرهت أن
يشيع عنك أن قتلتني ظلماً، ففعلت هذا لأستحق القتل، فيزول عنك قبح
الأحدوثة بظلم الخدم، فشأنك الآن وما تريد.
فقال الملك: ما أحصن الأجل ! وعفا عنه.
الغلط الذي لا يتلافى
وجدت
في بعض الكتب: أن رجلين أتي بهما إلى بعض الولاة، وقد ثبت على أحدهما
الزندقة، وعلى الآخر شرب الخمر، فسلم الوالي الرجلين إلى بعض أصحابه، وقال
له: اضرب عنق هذا، وأومى إلى الزنديق، وحد هذا، وأومى إلى الشارب.
وقال: خذهما.
فلما
ذهب بهما ليخرجا، قال شارب الخمر: أيها الأمير، سلمني إلى غير هذا ليحدني،
فلست آمن أن يغلط فيضرب عنقي، ويحد صاحبي، والغلط في هذا لا يتلافى.
فضحك منه الأمير، وخلى سبيله، وضرب رقبة الزنديق.
الأمير عبد الله بن طاهر يعفو عن الحصني ويحسن إليه
وجدت
في كتاب أبي الفرج المخزومي، عن أبي محمد الحسن بن طالب، كاتب عيسى بن
فرخان شاه، قال: حدثني عيسى بن فرخان شاه، قال: لما وليت ديار مصر، لم يزل
وجوهها يصفون لي محمد بن يزيد الأموي الحصني بالفضل، وينشدوني قصيدته التي
أجاب بها عبد الله بن طاهر، لما فخر بأبيه، ويذكرون قصته معه لما دخل عبد
الله الشام، وأشرف الحصني على الهلاك خوفاً منه، وكيف كفي أمره بلا سبب،
وكيف أحسن إليه، وأقره في حصنه، فكنت أتفقد أمره في ضيعته، وأحسن إليه في
معاملته، وكانت كتبه ترد علي بالشكر بأحسن عبارة.
فلما خرجت لتصفح كور
عملي، وأحوال الرعية والعمال بالنواحي، وردت الكورة التي فيها حصن محمد بن
يزيد في ناحية منها، فخرج مستقبلاً لي، وراغباً إلي في النزول عليه.
فلما
التقينا، قال لي: لم أشك - مع فضلك - أنك لا تتجاوزني، ولم آمن أن يعارضك
ظن، يصور لك أن عدولك عني، إبقاء علي، وإشفاق من نسبة السلطان إياك إلى
إيثار لذتك في لقائي، فتطويني، فحملت نفسي على خلاف ما كنت أحب أن يشيع
لك، من ابتدائي بالقصد قبل رغبتي إليك فيه، فالحمد لله الذي جعل لك السبق
إلى المكرمة.
وسرنا إلى حصنه، وأوقفني على المواضع المذكورة في الخبر
والشعر إلى أن دخلنا حصنه، فلم أجد فيه أهبة للنزول به، ورأيت أدباً
ومروءة، وسبق بما حضر من القرى، ولم ينقبض من إحضار ما أعددته في سفرتنا،
ووجدت خدمته كلها تدور على جارية سوداء اللون، خفيفة الحركة، يدل نشاطها
على اعتيادها الطراق، إلى أن رفع الطعام، وحضر الشراب، فحضرت السوداء في
غير الزي الأول وجلست تغني، فأنكرتها، حتى استثبته فيها، فوصف لي قديم
حرمتها، وقال: هي كانت طليعتي يوم قصدني عبد الله بن طاهر.
فاستفتحني لمسألته عن الخبر، فسألته.
فقال:
لما بلغني إجماع عبد الله بن طاهر على الخروج لطلب نصر بن شبث - الخارجي
كان في ذلك الوقت - بنفسه، أيقنت بالهلاك، وخفت أن يقرب مني، فتنالني منه
بادرة مكروه، ولم أشك في ذهاب النعمة، وإن سلمت النفس لما بلغه من إجابتي
إياه، عن قصيدته التي فخر بها، وأنشدنيها:
مدمن الإغضاء موصول ... ومديم العتب مملول
ومدين البيض في تعبٍ ... وغريم البيض ممطول
وأخو الوجهين حيث رمى ... بهواه فهو مدخول
وقليل من يبرّزه ... في يد التهذيب تحصيل
فاتّئد تلق النجاح به ... واعتساف الأمر تضليل
واغض عن عيب أخيك يدم ... لك حبل منه موصول
من يرد حوض الردى صرداً ... لا يسعه الريّ تعليل
من بنات الرّوم لي سكن ... وجهها للشمس إكليل
عتبت والعتب من سكنٍ ... فيه تكثير وتقليل
أقصري عمّا لهجت به ... ففراغ عنك مشغول
سائلي عمّا تسائلني ... قد يردّ الخبر مسؤول
أنا من تعرفن نسبته ... سلفي الغرّ البهاليل
مصعب جدّي نقيب بني ... هاشم والأمر مجهول
وحسين رأس دعوتهم ... ودعاء الحقّ مقبول
سل بهم تنبيك نجدتهم ... مشرفّيات مصاقيل
كلّ عضبٍ مشرب عللاً ... وجراز الحدّ مفلول
وأبي من لا كفاء له ... من يسامي مجده ؟ قولوا !
صاحب الرأي الّذي حصلت ... رأيه القوم المحاصيل
حلّ منهم بالذرى شرفاً ... دونه عزّ وتبجيل
تفصح الأنباء عنه إذا ... أسكت الأنباء مجهول
سل به، والخيل ساهمة ... حوله جرد أبابيل
إذ علت من فوقه يده ... نوطها أبيض مصقول
وبربّات الخدور وقد ... جعلت تبدو الخلاخيل
من ثنى عنه الخيول بأك ... نافها الخطّيّة الشول
أبطن المخلوع كلكله ... وحواليه المغاويل
فثوى والترب مضجعه ... غال عنه ملكه غول
قاد جيشاً نحو قاتله ... ضاق عنه العرض والطول
من خراسان مصمّمهم ... كليوث ضمّها غيل
وهبوا للّه أنفسهم ... لا معازيل ولا ميل
ملكٌ تجتاح سطوته ... ونداه الدّهر مبذول
قطعت عنه تمائمه ... وهو مرهوب ومأمول
وتره يسعى إليه به ... ودمٌ يجنيه مطلول
قال:
وكنت لما بلغتني القصيدة، امتعضت للعربية، وأنفت أن يفخر عليها رجل من
العجم، لأنه قتل ملكاً من ملوكها بسيف أخيه، لا بسيفه، فيفخر عليها هذا
الفخر، ويضع منها هذا الوضع، فرددت على قصيدته، ولم أعلم أن الأيام
تجمعنا، ولا أن الزمان يضطرني إلى الخوف منه، فقلت:
لا يرعك القال والقيل ... كلّما بلّغت تهويل
ما هوى لي حيث أعرفه ... بهوى غيرك موصول
أين لي عدل إلى بدلٍ ... أبديل منك مقبول
إذ عدمت العدل منك وإذ ... أنا فيك الدّهر معدول
حمّليني كلّ لائمة ... كلّ ما حمّلت مقبول
واحكمي ما شئت واحتكمي ... فحرامي فيك تحليل
والّذي أرجو النجاة به ... ما لقلبي عنك تحويل
ما لداري منك مقفرةٌ ... وضميري منك مأهول
أيخون العهد ذو ثقة ... لا يخون العهد مسؤول
وأخو حبّيك في تعبٍ ... مطلق مرّاً ومغلول
ما فراغي عنك مشتغل ... بل فراغي بك مشغول
وبدت يوم الوداع لنا ... غادة عيطاء عطبول
حاسراً أو ذات مقنعة ... ذات تاج فيه إكليل
أيّ عطفيها به انصرفت ... أرجٌ بالمسك معلول
تتعاطى شدّ معجرها ... ونطاق الخصر محلول
بأداليلٍ لها قتلٍ ... حبّذا تلك الأداليل
فبنفسي دمج مشطتها ... ومثانيها المراسيل
سبقت بالدمع مقلتها ... فلها بالدّمع تفصيل
ورمت بالسّحر من كثب ... فدفين الدّاء مقتول
لاحظت بالسّحر عابثة ... فحسام الصّبر مفلول
شملنا إذ ذاك مجتمعٌ ... وجناح البين مشكول
ثمّ ولّت كي تودّعنا ... كحلها بالدمع مغسول
لا تخاف الدّهر طائره ... فأذاه عنك معقول
أيّها النازي مطيّته ... لأغاليطك تحصيل
قد تأوّلتم على جهة ... ولنا في ذاك تأويل
إنّ دلّيلاك يوم غدا ... بك في الحين لضلّيل
قاتل المخلوع مقتول ... ودم القاتل مطلول
قد يخون الّرمح عامله ... وسنان الرّمح مصقول
وينال الوتر طالبه ... بعدما تسلو المثاكيل
سار أو حلّ فمتّبع ... بالّتي يكبو لها الفيل
لا تنجّيه مذاهبه ... نهر بوشنجٍ ولا النّيل
ومدين القتل مرتهن ... بدماء القوم مقتول
بأخي المخلوع طلت يداً ... لم يكن في باعها طول
وبنعماه الّتي سلفت ... فعلت تلك الأفاعيل
وبراعٍ غير ذي شفق ... جالت الخيل الأبابيل
يا ابن بيت النّار موقدها ... ما لحاديه سراويل
أيّ مجد فيك نعرفه ... أيّ جدّ لك بهلول
من حسينٌ أو أبوك ومن ... مصعب غالتهم غول
وزريق إذ تخلّفه ... نسبٌ عمرك مجهول
تلك دعوى لا ننقاشها ... وأبوّات مراذيل
أسرة ليست مباركة ... غيرها الشمّ البهاليل
ما جرى في عود أثلتكم ... ماء مجد فهو مدخول
قدحت فيه أسافله ... وأعاليه مجاهيل
إنّ خير القول أصدقه ... حين تصطكّ الأقاويل
كن على منهاج معرفة ... لا تغرّنك الأباطيل
إنّ للإصعاد منحدراً ... فيه للهاوي أهاويل
ولريب الدّهر عن عرض ... بالرّدي علّ وتنهيل
يعسف الصعبة رائضها ... ولها بالعسف تدليل
ويخون الرّمح حامله ... وسنان الرّمح مصقول
وينال الثأر طالبه ... بعدما تسلو المثاكيل
مضمر حقداً ومنصله ... مغمد في الجفن مسلول
حدثني
الحسن بن محمد الجنائني، قال: قرأت في بعض كتب الفرس المنقولة إلى
العربية، أن ملكاً من ملوكهم قدم إليه صاحب مائدته غضارة إسفيذباج فنقطت
منها نقطة على ساعد الملك، فأمر بقتله.
فقال له الرجل: أعيذ الملك بالله أن يقتلني ظلماً بغير ذنب قصدته.
فقال له الملك: قتلك واجب، ليتعظ بك غيرك، فلا تهمل الحرمة.
فأخذ
الرجل الغضارة، فصبها بأسرها على رأس الملك، وقال: أيها الملك، كرهت أن
يشيع عنك أن قتلتني ظلماً، ففعلت هذا لأستحق القتل، فيزول عنك قبح
الأحدوثة بظلم الخدم، فشأنك الآن وما تريد.
فقال الملك: ما أحصن الأجل ! وعفا عنه.
وجدت
في بعض الكتب: أن رجلين أتي بهما إلى بعض الولاة، وقد ثبت على أحدهما
الزندقة، وعلى الآخر شرب الخمر، فسلم الوالي الرجلين إلى بعض أصحابه، وقال
له: اضرب عنق هذا، وأومى إلى الزنديق، وحد هذا، وأومى إلى الشارب.
وقال: خذهما.
فلما
ذهب بهما ليخرجا، قال شارب الخمر: أيها الأمير، سلمني إلى غير هذا ليحدني،
فلست آمن أن يغلط فيضرب عنقي، ويحد صاحبي، والغلط في هذا لا يتلافى.
فضحك منه الأمير، وخلى سبيله، وضرب رقبة الزنديق.
وجدت
في كتاب أبي الفرج المخزومي، عن أبي محمد الحسن بن طالب، كاتب عيسى بن
فرخان شاه، قال: حدثني عيسى بن فرخان شاه، قال: لما وليت ديار مصر، لم يزل
وجوهها يصفون لي محمد بن يزيد الأموي الحصني بالفضل، وينشدوني قصيدته التي
أجاب بها عبد الله بن طاهر، لما فخر بأبيه، ويذكرون قصته معه لما دخل عبد
الله الشام، وأشرف الحصني على الهلاك خوفاً منه، وكيف كفي أمره بلا سبب،
وكيف أحسن إليه، وأقره في حصنه، فكنت أتفقد أمره في ضيعته، وأحسن إليه في
معاملته، وكانت كتبه ترد علي بالشكر بأحسن عبارة.
فلما خرجت لتصفح كور
عملي، وأحوال الرعية والعمال بالنواحي، وردت الكورة التي فيها حصن محمد بن
يزيد في ناحية منها، فخرج مستقبلاً لي، وراغباً إلي في النزول عليه.
فلما
التقينا، قال لي: لم أشك - مع فضلك - أنك لا تتجاوزني، ولم آمن أن يعارضك
ظن، يصور لك أن عدولك عني، إبقاء علي، وإشفاق من نسبة السلطان إياك إلى
إيثار لذتك في لقائي، فتطويني، فحملت نفسي على خلاف ما كنت أحب أن يشيع
لك، من ابتدائي بالقصد قبل رغبتي إليك فيه، فالحمد لله الذي جعل لك السبق
إلى المكرمة.
وسرنا إلى حصنه، وأوقفني على المواضع المذكورة في الخبر
والشعر إلى أن دخلنا حصنه، فلم أجد فيه أهبة للنزول به، ورأيت أدباً
ومروءة، وسبق بما حضر من القرى، ولم ينقبض من إحضار ما أعددته في سفرتنا،
ووجدت خدمته كلها تدور على جارية سوداء اللون، خفيفة الحركة، يدل نشاطها
على اعتيادها الطراق، إلى أن رفع الطعام، وحضر الشراب، فحضرت السوداء في
غير الزي الأول وجلست تغني، فأنكرتها، حتى استثبته فيها، فوصف لي قديم
حرمتها، وقال: هي كانت طليعتي يوم قصدني عبد الله بن طاهر.
فاستفتحني لمسألته عن الخبر، فسألته.
فقال:
لما بلغني إجماع عبد الله بن طاهر على الخروج لطلب نصر بن شبث - الخارجي
كان في ذلك الوقت - بنفسه، أيقنت بالهلاك، وخفت أن يقرب مني، فتنالني منه
بادرة مكروه، ولم أشك في ذهاب النعمة، وإن سلمت النفس لما بلغه من إجابتي
إياه، عن قصيدته التي فخر بها، وأنشدنيها:
مدمن الإغضاء موصول ... ومديم العتب مملول
ومدين البيض في تعبٍ ... وغريم البيض ممطول
وأخو الوجهين حيث رمى ... بهواه فهو مدخول
وقليل من يبرّزه ... في يد التهذيب تحصيل
فاتّئد تلق النجاح به ... واعتساف الأمر تضليل
واغض عن عيب أخيك يدم ... لك حبل منه موصول
من يرد حوض الردى صرداً ... لا يسعه الريّ تعليل
من بنات الرّوم لي سكن ... وجهها للشمس إكليل
عتبت والعتب من سكنٍ ... فيه تكثير وتقليل
أقصري عمّا لهجت به ... ففراغ عنك مشغول
سائلي عمّا تسائلني ... قد يردّ الخبر مسؤول
أنا من تعرفن نسبته ... سلفي الغرّ البهاليل
مصعب جدّي نقيب بني ... هاشم والأمر مجهول
وحسين رأس دعوتهم ... ودعاء الحقّ مقبول
سل بهم تنبيك نجدتهم ... مشرفّيات مصاقيل
كلّ عضبٍ مشرب عللاً ... وجراز الحدّ مفلول
وأبي من لا كفاء له ... من يسامي مجده ؟ قولوا !
صاحب الرأي الّذي حصلت ... رأيه القوم المحاصيل
حلّ منهم بالذرى شرفاً ... دونه عزّ وتبجيل
تفصح الأنباء عنه إذا ... أسكت الأنباء مجهول
سل به، والخيل ساهمة ... حوله جرد أبابيل
إذ علت من فوقه يده ... نوطها أبيض مصقول
وبربّات الخدور وقد ... جعلت تبدو الخلاخيل
من ثنى عنه الخيول بأك ... نافها الخطّيّة الشول
أبطن المخلوع كلكله ... وحواليه المغاويل
فثوى والترب مضجعه ... غال عنه ملكه غول
قاد جيشاً نحو قاتله ... ضاق عنه العرض والطول
من خراسان مصمّمهم ... كليوث ضمّها غيل
وهبوا للّه أنفسهم ... لا معازيل ولا ميل
ملكٌ تجتاح سطوته ... ونداه الدّهر مبذول
قطعت عنه تمائمه ... وهو مرهوب ومأمول
وتره يسعى إليه به ... ودمٌ يجنيه مطلول
قال:
وكنت لما بلغتني القصيدة، امتعضت للعربية، وأنفت أن يفخر عليها رجل من
العجم، لأنه قتل ملكاً من ملوكها بسيف أخيه، لا بسيفه، فيفخر عليها هذا
الفخر، ويضع منها هذا الوضع، فرددت على قصيدته، ولم أعلم أن الأيام
تجمعنا، ولا أن الزمان يضطرني إلى الخوف منه، فقلت:
لا يرعك القال والقيل ... كلّما بلّغت تهويل
ما هوى لي حيث أعرفه ... بهوى غيرك موصول
أين لي عدل إلى بدلٍ ... أبديل منك مقبول
إذ عدمت العدل منك وإذ ... أنا فيك الدّهر معدول
حمّليني كلّ لائمة ... كلّ ما حمّلت مقبول
واحكمي ما شئت واحتكمي ... فحرامي فيك تحليل
والّذي أرجو النجاة به ... ما لقلبي عنك تحويل
ما لداري منك مقفرةٌ ... وضميري منك مأهول
أيخون العهد ذو ثقة ... لا يخون العهد مسؤول
وأخو حبّيك في تعبٍ ... مطلق مرّاً ومغلول
ما فراغي عنك مشتغل ... بل فراغي بك مشغول
وبدت يوم الوداع لنا ... غادة عيطاء عطبول
حاسراً أو ذات مقنعة ... ذات تاج فيه إكليل
أيّ عطفيها به انصرفت ... أرجٌ بالمسك معلول
تتعاطى شدّ معجرها ... ونطاق الخصر محلول
بأداليلٍ لها قتلٍ ... حبّذا تلك الأداليل
فبنفسي دمج مشطتها ... ومثانيها المراسيل
سبقت بالدمع مقلتها ... فلها بالدّمع تفصيل
ورمت بالسّحر من كثب ... فدفين الدّاء مقتول
لاحظت بالسّحر عابثة ... فحسام الصّبر مفلول
شملنا إذ ذاك مجتمعٌ ... وجناح البين مشكول
ثمّ ولّت كي تودّعنا ... كحلها بالدمع مغسول
لا تخاف الدّهر طائره ... فأذاه عنك معقول
أيّها النازي مطيّته ... لأغاليطك تحصيل
قد تأوّلتم على جهة ... ولنا في ذاك تأويل
إنّ دلّيلاك يوم غدا ... بك في الحين لضلّيل
قاتل المخلوع مقتول ... ودم القاتل مطلول
قد يخون الّرمح عامله ... وسنان الرّمح مصقول
وينال الوتر طالبه ... بعدما تسلو المثاكيل
سار أو حلّ فمتّبع ... بالّتي يكبو لها الفيل
لا تنجّيه مذاهبه ... نهر بوشنجٍ ولا النّيل
ومدين القتل مرتهن ... بدماء القوم مقتول
بأخي المخلوع طلت يداً ... لم يكن في باعها طول
وبنعماه الّتي سلفت ... فعلت تلك الأفاعيل
وبراعٍ غير ذي شفق ... جالت الخيل الأبابيل
يا ابن بيت النّار موقدها ... ما لحاديه سراويل
أيّ مجد فيك نعرفه ... أيّ جدّ لك بهلول
من حسينٌ أو أبوك ومن ... مصعب غالتهم غول
وزريق إذ تخلّفه ... نسبٌ عمرك مجهول
تلك دعوى لا ننقاشها ... وأبوّات مراذيل
أسرة ليست مباركة ... غيرها الشمّ البهاليل
ما جرى في عود أثلتكم ... ماء مجد فهو مدخول
قدحت فيه أسافله ... وأعاليه مجاهيل
إنّ خير القول أصدقه ... حين تصطكّ الأقاويل
كن على منهاج معرفة ... لا تغرّنك الأباطيل
إنّ للإصعاد منحدراً ... فيه للهاوي أهاويل
ولريب الدّهر عن عرض ... بالرّدي علّ وتنهيل
يعسف الصعبة رائضها ... ولها بالعسف تدليل
ويخون الرّمح حامله ... وسنان الرّمح مصقول
وينال الثأر طالبه ... بعدما تسلو المثاكيل
مضمر حقداً ومنصله ... مغمد في الجفن مسلول
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
قال:
فلما قرب عبد الله بن طاهر مني، استوحشت من المقام خوفاً على نفسي، ورأيت
بعدي وتسليمي حرمي عاراً باقياً، ولم يكن لي إلى هربي بالحرم سبيل، فأقمت
على أتم خوف مستسلماً للاتفاق، حتى إذا كان اليوم الذي قيل إنه ينزل فيه
العسكر بهذه النواحي أغلقت باب حصني، وأقمت هذه الجارية السوداء ربيئة
تنظر لي على مرقب من شرف الحصن، وأمرتها أن تعرفني الموضع الذي ينزل فيه
العسكر قبل أن يفجأني، ولبست ثياب الموت أكفاناً، وتطيبت، وتحنطت.
فلما
رأت الجارية العسكر يقصد حصني، نزلت فعرفتني، فلم يرعني إلا دق باب الحصن
فخرجت، فإذا عبد الله بن طاهر، واقف وحده، منفرد عن أصحابه، فسلمت عليه
سلام خائف، فرد علي غير مستوحش، فأومات إلى تقبيل رجله في الركاب، فمنع
ألطف منع وأحسنه، ونزل على دكان على باب الحصن.
ثم قال: ليسكن روعك، فقد أسأت الظن بنا، ولو علمنا أنا بزيارتنا لك نروعك
ما قصدناك.
ثم
أطال المسألة، حتى رأى الثقة مني قد ظهرت، فسألني عن سبب مقامي في البر،
وإيثاري إياه على الحاضرة، ورفاهة عيشها، وعن حال ضيعتي ومعاملتي في
ناحيتي، فأجبته بما حضر لي.
حتى إذا لم يبق من التأنيس شيء أفضى إلى مساءلتي عن حديث نصر بن شبث، وكيف
الطريق إلى الظفر به، فأخبرته بما حضرني.
ثم أقبل علي وقد انبسطت في محادثته كل الانبساط، فقال: أحب أن تنشدني
القصيدة التي فيها:
يا ابن بيت النار موقدها ... ما لحاديه سراويل
فقلت: أصلح الله الأمير، قد أربت نعمتك على مقدار همتي، فلا تكدرها بما
ينغصها.
فقال:
إنما أريد الزيادة في تأنيسك، بأن لا تراني متحفظاً مما خفت، وعزم علي في
إنشادها، عزم مجد فقلت: يريد أن تطرأ على سمعه، فيثور ما في نفسه، فيوقع
بي. ولم أجد من إنشادها بداً، فأنشدته القصيدة، فلما فرغت منها، عاتبني
عتاباً سهلاً، فكان منه أن قال: يا هذا، ما حملك على تكلف إجابتي ؟ فقلت:
الأمير أصلحه الله، حملني على ذلك بقوله:
وأبي من لا كفاء له ... من يسامي مجده ؟ قولوا !
فقلت كما تقول العرب، وتفتخر السوقة على الملوك، وكنت لما بلغت إلى قولي:
يا ابن بيت النّار موقدها ... ما لحاديه سراويل
قال
لي: يا ابن مسلمة، لقد أحصينا في خزائن ذي اليمينين بعد موته، ألفين
وثلثمائة سروايل من صنوف الثياب، ما اصلح في أحدها تكة، سوى ما استعمل في
اللبس، على أن الناس يقلون اتخاذ السراويلات في كساهم.
فاعتذرت إليه بما حضرني من القول في هذا، وفي جميع ما ما تضمنته القصيدة،
فقبل القبول، وبسط العذر، وأظهر الصفح.
وقال:
قد دللتنا على ما احتجنا إليه، من معرفة أمر نصر بن شبث، أفتستحسن القعود
عنا في حربه. ولا يكون لك في الظفر به أثر يشاكلنا إرشادك لوجوه مطالبه ؟
فاعتذرت إليه بلزوم ضيعتي ومنزلي، وعجزي عن السفر للقصور عن آلته.
فقال:
نكفيك ذلك، وتقبله منا، ودعا بصاحب دوابه، فأمره بإحضار خمسة مراكب من
الخيل الهماليج بسروجها ولجمها المحلاة، وبثلاث دواب من دواب الشاكرية،
وخمسة أبغل من بغال الثقل، وأمر صاحب كسوته بإحضار خمسة تخوت من أصناف
الثياب الفاخرة، وأمر خازنه بإحضار خمس بدر دراهم، فأحضر جميع ذلك، ووضع
على الدكان الذي كان عليه جالساً بباب الحصن.
ثم قال لي: كم مدة تأخرك
عنا إلى أن تلحق بنا ؟ فقربت الموعد، فقام ليركب، فابتدرت إلى يده
لأقبلها، فمنعني، وركب، وسار الجيش معه، وما ترك أحداً ينزل، وكفى الله
مؤونتهم، وخرجت السوداء، فنقلت الثياب والبدر، وأخذ الغلمان الكراع، وما
لقيت عبد الله بعدها.
قال عيسى بن فرخان شاه: فأقمت عند محمد بن يزيد
يومي وليلتي، فأضافني أحسن ضيافة، وكانت مذاكرته لي، وأدبه، ألذ إلي من كل
شيء، فأسقطت عنه جميع خراجه في تلك السنة، وانصرفت.
فلما قرب عبد الله بن طاهر مني، استوحشت من المقام خوفاً على نفسي، ورأيت
بعدي وتسليمي حرمي عاراً باقياً، ولم يكن لي إلى هربي بالحرم سبيل، فأقمت
على أتم خوف مستسلماً للاتفاق، حتى إذا كان اليوم الذي قيل إنه ينزل فيه
العسكر بهذه النواحي أغلقت باب حصني، وأقمت هذه الجارية السوداء ربيئة
تنظر لي على مرقب من شرف الحصن، وأمرتها أن تعرفني الموضع الذي ينزل فيه
العسكر قبل أن يفجأني، ولبست ثياب الموت أكفاناً، وتطيبت، وتحنطت.
فلما
رأت الجارية العسكر يقصد حصني، نزلت فعرفتني، فلم يرعني إلا دق باب الحصن
فخرجت، فإذا عبد الله بن طاهر، واقف وحده، منفرد عن أصحابه، فسلمت عليه
سلام خائف، فرد علي غير مستوحش، فأومات إلى تقبيل رجله في الركاب، فمنع
ألطف منع وأحسنه، ونزل على دكان على باب الحصن.
ثم قال: ليسكن روعك، فقد أسأت الظن بنا، ولو علمنا أنا بزيارتنا لك نروعك
ما قصدناك.
ثم
أطال المسألة، حتى رأى الثقة مني قد ظهرت، فسألني عن سبب مقامي في البر،
وإيثاري إياه على الحاضرة، ورفاهة عيشها، وعن حال ضيعتي ومعاملتي في
ناحيتي، فأجبته بما حضر لي.
حتى إذا لم يبق من التأنيس شيء أفضى إلى مساءلتي عن حديث نصر بن شبث، وكيف
الطريق إلى الظفر به، فأخبرته بما حضرني.
ثم أقبل علي وقد انبسطت في محادثته كل الانبساط، فقال: أحب أن تنشدني
القصيدة التي فيها:
يا ابن بيت النار موقدها ... ما لحاديه سراويل
فقلت: أصلح الله الأمير، قد أربت نعمتك على مقدار همتي، فلا تكدرها بما
ينغصها.
فقال:
إنما أريد الزيادة في تأنيسك، بأن لا تراني متحفظاً مما خفت، وعزم علي في
إنشادها، عزم مجد فقلت: يريد أن تطرأ على سمعه، فيثور ما في نفسه، فيوقع
بي. ولم أجد من إنشادها بداً، فأنشدته القصيدة، فلما فرغت منها، عاتبني
عتاباً سهلاً، فكان منه أن قال: يا هذا، ما حملك على تكلف إجابتي ؟ فقلت:
الأمير أصلحه الله، حملني على ذلك بقوله:
وأبي من لا كفاء له ... من يسامي مجده ؟ قولوا !
فقلت كما تقول العرب، وتفتخر السوقة على الملوك، وكنت لما بلغت إلى قولي:
يا ابن بيت النّار موقدها ... ما لحاديه سراويل
قال
لي: يا ابن مسلمة، لقد أحصينا في خزائن ذي اليمينين بعد موته، ألفين
وثلثمائة سروايل من صنوف الثياب، ما اصلح في أحدها تكة، سوى ما استعمل في
اللبس، على أن الناس يقلون اتخاذ السراويلات في كساهم.
فاعتذرت إليه بما حضرني من القول في هذا، وفي جميع ما ما تضمنته القصيدة،
فقبل القبول، وبسط العذر، وأظهر الصفح.
وقال:
قد دللتنا على ما احتجنا إليه، من معرفة أمر نصر بن شبث، أفتستحسن القعود
عنا في حربه. ولا يكون لك في الظفر به أثر يشاكلنا إرشادك لوجوه مطالبه ؟
فاعتذرت إليه بلزوم ضيعتي ومنزلي، وعجزي عن السفر للقصور عن آلته.
فقال:
نكفيك ذلك، وتقبله منا، ودعا بصاحب دوابه، فأمره بإحضار خمسة مراكب من
الخيل الهماليج بسروجها ولجمها المحلاة، وبثلاث دواب من دواب الشاكرية،
وخمسة أبغل من بغال الثقل، وأمر صاحب كسوته بإحضار خمسة تخوت من أصناف
الثياب الفاخرة، وأمر خازنه بإحضار خمس بدر دراهم، فأحضر جميع ذلك، ووضع
على الدكان الذي كان عليه جالساً بباب الحصن.
ثم قال لي: كم مدة تأخرك
عنا إلى أن تلحق بنا ؟ فقربت الموعد، فقام ليركب، فابتدرت إلى يده
لأقبلها، فمنعني، وركب، وسار الجيش معه، وما ترك أحداً ينزل، وكفى الله
مؤونتهم، وخرجت السوداء، فنقلت الثياب والبدر، وأخذ الغلمان الكراع، وما
لقيت عبد الله بعدها.
قال عيسى بن فرخان شاه: فأقمت عند محمد بن يزيد
يومي وليلتي، فأضافني أحسن ضيافة، وكانت مذاكرته لي، وأدبه، ألذ إلي من كل
شيء، فأسقطت عنه جميع خراجه في تلك السنة، وانصرفت.
ووقع إلي هذا
الخبر، بخلاف هذا، فأخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: حدثني عمي الحسن بن
محمد، قال: حدثني ابن الدهقانة النديم، قال: حدثني محمد بن الفضل
الخراساني، وكان من وجوه قواد طاهر، وابنه عبد الله، وكان أديباً، عاقلاً،
فاضلاً: لما قال عبد اله، قصديته التي فخر فيها بمآثر أبيه وأهله، وبقتل
المخلوع، عارضه محمد بن يزيد الأموي الحصني، وهو رجل من ولد مسلمة بن عبد
الملك، فأفرط في السب، وتجاوز الحد في قبح الرد، فكان فيما قال:
يا ابن بيت النار موقدها ... ما لحاديه سراويل
من حسين وأبوك ومن ... مصعبٌ غالتهم غول
نسب في الفخر مؤتشب ... وأبوّات أراذيل
قاتل المخلوع مقتول ... ودم المقتول مطلول
وهي قصيدة طويلة.
فلما
ولي عبد الله مصر، ورد إليه تدبير الشام، علم الحصني أنه لا يفلت منه إن
هرب، ولا ينجو من يده حيث حل، فثبت مكانه، وأحرز حرمه، وترك أمواله وكل ما
يملكه في موضعه، وفتح باب حصنه، وهو يتوقع من عبد الله أن يوقع به.
قال:
فلما شارفنا بلده، وكنا على أن نصبحه، دعاني عبد الله في الليل، فقال: بت
عندي، وليكن فرسك معداً، ففعلت، فلما كان في الحسر، أمر غلمانه وأصحابه أن
لا يرحلوا حتى تطلع الشمس، وركب هو وأنا وخمسة من خواص غلمانه، وسار حتى
صبح الحصني، فرأى بابه مفتوحاً، ورآه جالساً مسترسلاً، فقصده وسلم عليه،
ونزل عنده.
وقال: ما أجلسك ها هنا، وحملك على أن تفتح بابك، ولم تتحصن
من هذا الجيش المقبل، ولم تتنح عن عبد الله بن طاهر، مع علمك بما في نفسه
منك، وما بلغه عنك ؟ فقال: إن الذي قلت لم يذهب عني، ولكني تأملت أمري،
وعلمت أني قد أخطأت عليه خطيئة حملني عليها نزق الشباب، وغرة الحداثة،
وأني إن هربت منه لم أفته، فباعدت الحرم، واستسلمت بنفسي وبكل ما أملك،
فإنا أهل بيت قد أسرع فينا القتل، ولي بمن مضى من أهلي أسوة، وأنا واثق
بأن الرجل إذا قتلني، وأخذ مالي، شفى غيظه، فلم يتجاوز ذلك إلى الحرم، ولا
له فيهن أرب، ولا يوجب جرمي إليه أكثر مما بذلته.
فوالله، ما أجابه عبد الله بدموعه تجري على لحيته، ثم قال له: أتعرفني ؟.
قال: لا والله.
قال:
أنا عبد الله بن طاهر، وقد أمن الله روعك، وحقن دمك، وصان حرمك، وحرس
نعمتك، وعفا عن ذنبك، وما تعجلت إليك وحدي، إلا لتأمن، قبل هجوم الجيش،
ولئلا يخالط عفوي عنك، روعة تلحقك.
فبكى الحصني، وقام فقبل يده، فضمه
عبد الله إليه، وأدناه، ثم قال له: أما إنه لا بد من العتاب، يا أخي،
جعلني الله فداك، قلت شعراً في قومي أفخر بهم، ولم أطعن فيه على نسبك، ولا
ادعيت فضلاً عليك، وفخرت بقتل رجل هو وإن كان من قومك، فهو من الذين ثأرك
عندهم، وقد كان يسعك السكوت، وإن لم يسعك، أن لا تغرق ولا تسرف.
فقال: أيها الأمير، قد عفوت فاجعله عفواً لا يخالطه تثريب، ولا يكدر صفوه
تأنيب.
قال: قد فعلت، فقم بنا تدخل إلى منزلك، حتى توجب علينا حقاً وذماماً
بالضيافة.
فقام
مسروراً فأدخلنا منزله، وأتانا بالطعام فأكلنا، وجلسنا نشرب في مستشرف له،
وأقبل الجيش، فأمرني أن أتلقاهم فأرحلهم، ولا ينزل أحد منهم إلا في
المنزل، وكان على ثلاثة فراسخ من الحصن، فنزلت، فرحلتهم، وأقام عنده إلى
العصر، ثم دعا بدواة، فكتب له بتسويغه خراجه ثلاث سنين.
ثم قال له: إن نشطت، فالحق بنا إلى مصر، وإلا فأقم بمكانك.
فقال: أتجهز، وألحق بالأمير.
ففعل، ولحق بنا، فلم يزل مع عبد الله، لا يفارقه، حتى رحل إلى العراق،
فودعه، وأقام ببلده.
وحدثني
أبو الفرج المعروف بالأصبهاني، بهذا الخبر، من لفظه وحفظه، بخلاف هذا،
قال: أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثني أبو أحمد عبيد الله
بن عبد الله بن طاهر، قال: لما قال أبي قصيدته التي يقول فيها:
وأبي من لا نظير له ... من يسامي مجده ؟ قولوا
وذكر أبياتاً من القصيدة، قال الحصني الأموي قصيدة أولها:
لا يرعك القال والقيل ... كلّما بلّغت تمحيل
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وذكر
أبياتاً من القصيدة يشتمه فيها، فلما ولي تلك النواحي، علم المسلمي أنه لا
يفوته، فأقام ببلده، فلما قرب أبي من حصن مسلمة، أمر الجيش فنزلوا على
فرسخ منه، ونزع من موضعه، مع عدة من غلمانه، فجاء إلى الحصن، فابتدأه وهو
على باب داره، فسلم، ونزل.
فقال له: من أنت ؟ قال: أنا محمد بن مسلمة القرشي الحصني.
قال: الذي هجوت آل طاهر.
قال: نعم أعزك الله.
قال:
فلم فعلت ذلك، فوالله ما فخر القوم إلا بقتلهم رجلاً من قبيل قتلكم
وأفناكم، فما دخولك في هذا ؟ قال: أطت الرحم وإن كانت مقطوعة، ولحقتني
الرحمة والحمية، وهو أمرني أن أقول، إذ قال:
من يسامي مجده قولوا
قال: فذكرنا ما عندنا.
قال: فلم لم تستتر من عبد الله بن طاهر وقد أظلك ؟ قال: علمت أني لا
أفوته، فجدت بنفسي، وصنت حرمي.
قال: أتعرفني ؟ قال: أما في الحقيقة، فلا، ولكني أظنك من قواده.
قال: لا، بل أنا هو، وإنما سبقت إليك لئلا تراع، وقد أمنك الله، وأمن
حرمك، فسلني حاجاتك.
قال: أما أنا أيها الأمير، فقد أجبتني عن قولي بفعلك، وأكذبت شعري بفضلك،
وما لي بعدها حاجة، فإني في كفاف من معيشتي.
فاحتمل له خراجه، وقال له: إن شئت فأقم ببلدك، وإن شئت فكن معي.
قال: بل أقيم ببلدي، وأزور الأمير إذا نشط لي.
فأجابه إلى ذلك.
الباب الذي بين الله والناس لا يغلق
وحدثني
عبد الله بن أحمد بن داسة، المقرىء البصري، قال: سمعت أن بعض الجند، اغتصب
امرأة نفسها من الطريق، فعرض له الجيران يمنعونه منها، فقاتلهم هو وغلمانه
حتى تفرقوا، وأدخل المرأة إلى داره، وغلق الأبواب، ثم راودها عن نفسها،
فامتنعت، فأكرهها، ولحقها منه شدة، حتى جلس منها مجلس الرجل من المرأة.
فقالت له: يا هذا، اصبر حتى تغلق الباب الذي بقي عليك أن تغلقه.
قال: أي باب هو ؟ قالت: الباب الذي بينك وبين الله.
فقام عنها، وقال: اخرجي، قد فرج الله عنك.
فخرجت، ولم يتعرض لها.
أخبرنا
أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني، عن المدائني، قال: كان الوليد بن
يزيد، وهو ولي العهد، يكرم طريح بن إسماعيل الثقفي، ويدني مجلسه، وجعله
أول داخل وآخر خارج من عنده، فاستفرغ مديحه كله فيه، فحسده الناس من أهل
بيت الوليد، وقدم حماد الراوية، في تلك الأيام إلى الشام.
فقالوا له: قد ذهب طريح بالأمير كل مذهب، فما لنا معه ليل ولا نهار.
فقال حماد: اطلبوا لي من ينشده بيتين من الشعر في خلوة لأسقط منزلته عنده.
فطلبوا
إلى الخصي الذي كان يقوم على رأس الوليد، وجعلوا له عشرة آلاف درهم، على
أن ينشد بيتين من الشعر، على خلوة، فإذا سأله عنهما وعن قائلهما، قال له:
طريح، فأجابهم الخصي إلى ذلك، وتعلم البيتين.
فلما كان ذات يوم دخل
طريح على الوليد، ودخل الناس، وجلسوا طويلاً، ثم نهضوا، وبقي طريح مع
الوليد، فدعا بغدائه فتغديا، ثم إن طريحاً خرج، فركب إلى منزله، وبقي
الوليد وحده في مجلسه ليس معه أحد فاستلقى على فراشه، فاغتنم الخصي خلوته،
فأنشده البيتين، وهما:
سيري ركابي إلى من تسعدين به ... فقد أقمت بدار الهون ما صلحا
سيري إلى سيّد سمح خلائقه ... ضخم الدسيعة قرم يحمل المدحا
فأصغى الوليد إليه، ثم قال: من يقول هذا يا غلام ؟ قال: يقوله طريح.
فامتلأ غيظاً وغضباً، ثم قال: والهف أم لم تلدني، قد جعله أول داخل علي،
وآخر خارج عني، ويزعم أن هشاماً يحمل المدح، وأني لا أحملها.
ثم قال: علي بالحاجب.
فجاء، فقال له: لا أعلم أنك أذنت لطريح، ولا أراه في بسيط الأرض، فإذا
جادلك في ذلك، فاخبطه بالسيف.
فلما صليت العصر، جاء طريح في الساعة التي كان يؤذن له فيها، فدنا من
الباب ليدخل، فقال له الحاجب: وراءك.
فقال:
ما لك، هل دخل على ولي العهد أحد بعدي ؟ قال: لا، ولكن ساع وليت من عنده،
دعاني، فأمرني أن لا آذن لك، وإن جادلتني في الإذن خبطتك بالسيف.
فقال له: لك عشرة آلاف درهم، وأدخلني.
فقال له الحاجب: والله، لو أعطيتني خراج العراق ما أذنت لك، وما لك خير في
الدخول عليه، فارجع.
فقال: ويحك، هل تعلم من دهاني عنده ؟ قال: لا والله، لقد دخلت عليه، وما
عنده أحد، ولكن الله تعالى يحدث ما يشاء، في الليل والنهار.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى