صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
__________
(1) - أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده برقم(8949) عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَاتٌ لَمَا
بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ » وهو صحيح
وهو في مسلم
برقم(574 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- كَانَ يَقُولُ « الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى
الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ
إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ ».
(2) - وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 926)
اجتناب الشئ معناه : المباعدة عنه وتركه جانبا بحيث تكون أنت فى جانب وهو فى جانب آخر ولا تلاقى بينكما .
وكبائر الذنوب : ما عظم منها ، وعظمت العقوبة عليه . كالشرك ، وقتل النفس بغير حق ، وأكل مال اليتيم ونحو ذلك من المحرمات .
والسيئات : جمع سيئة وهى الفعلة القبيحة ، وسميت بذلك؛ لأنها تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا .
والمراد بالسيئات هنا : صغائر الذنوب بدليل مقابلتها بالكبائر .
والمعنى
: إن تتركوا - يا معشر المؤمنين - كبائر الذنوب التى نهاكم الشرع عن
اقترافها ، { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أى نسترها عليكم ،
ونمحها عنكم حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل فضلا من الله عليكم ، ورحمة بكم .
{ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } أى وندخلكم فى الآخرة مدخلا حسنا وهو الجنة التى وعد الله بها عباده الصالحين . فهى مكان طيب يجد من يحل فيه الكثير من كرم الله ورضاه .
والمدخل - بضم الميم - كما قرأه الجمهور مصدر بمعنى الإِدخال ومفعول ندخلكم محذوف أى نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم إدخالا كريما .
ويصح أن يكون اسم مكان منصوبا على الظرفية عند سيبويه ، وعلى المفعولية عند الأخفش .
وقرأ نافع { مَّدْخَلاً } - بفتح الميم - على أنه اسم مكان للدخول ، ويجوز أن يكون مصدرا ميما . أى ندخلكم مكانا كريما أو ندخلكم دخولا كريما
هذا ، وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن صغائر الذنوب يغفرها الله - تعالى - لعباده رحمة منه وكرما متى اجتنبوا كبائر الذنوب ، وصدقوا فى توبتهم إليه .
كما استدلوا بها على أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر؛ لأن هذه
الآية قد فصلت بين كبائر الذنوب وبين ما يكفر باجتنابها وهو صغار الذنوب
المعبر عنها بقوله - تعالى - : { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } . ولأن الله - تعالى - يقول فى موضع
آخر { وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين
أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى الذين
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم إِنَّ رَبَّكَ
وَاسِعُ المغفرة } قال الآلوسى ما ملخصه : واختلفوا فى حد الكبيرة على أقوال منها : أنها كل معصية أوجبت الحد . ومنها : أنها كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته .
وقال الواحدى : الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به ، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها . ولكن الله - تعالى - أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا فى اجتناب المنهى عنه رجاء أن تجنب الكبائر . ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى ، وليلة القدر . وساعة الإِجابة .
وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبط بحد . فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله - تعالى - من أول هذه السورة إلى هنا . وقيل هى سبع بدليل ما جاء فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال :" اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : وما هو يا رسول الله؟ قال : الشرك
بالله - تعالى - والسحر ، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق ، وأكل ما
اليتيم ، وأكل الربا ، والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات "
.
فإن قيل : جاء فى روايات أخرى أن من الكبائر " اليمين الغموس " و " قول الزور " و " عقوق الوالدين "؟ قلنا فى الجواب : إن ذلك محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ما ذكر منها قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر وليس لحصره الكبائر فيه - فإن النص على هذه السيع بأنهن كبائر لا ينفى ما عداهن .
والذى نراه أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر ، وأن الصغائر يغفرها الله لعاده متى اجتنبوا الكبائر وأخلصوا دينهم لله ، وأن الكبائر
هى ما حذر الشرع من ارتكابها تحذيرا شديدا ، وتوعد مرتكبها بسوء المصير ،
كالإشراك بالله ، وقتل النفس بغير حق وغير ذلك من الفواحش التى يؤدى
ارتكابها إلى إفساد شأن الأفراد والجماعات والتى ورد النهى عنها فى كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية . وأن الصغائر
، هى الذنوب اليسيرة التى يتركبها الشخص من غير إصرار عليها ولا استهانة
بها أو مداومة عليها ، بل يعقبها بالتوبة الصادقة والعمل الصالح وصدق الله
إذ يقول : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل إِنَّ
الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } ولقد فتح الله -
تعالى - لعباده باب التوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها حتى لا ييأسوا من
رحمته فقال - سبحانه - : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ
وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ
وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة
وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً
صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله
غَفُوراً رَّحِيماً }
وفي ظلال القرآن - (ج 2 / ص 107)
ما
أسمح هذا الدين! وما أيسر منهجه! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو
والطهر والنظافة ، والطاعة . وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود ،
والأوامر والنواهي ، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة؛ وإنشاء مجتمع
نظيف سليم .
إن هذا الهتاف؛ وهذه التكاليف؛ لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة .
ومن
ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة . وبين الأشواق والضرورات . وبين
الدوافع والكوابح . وبين الأوامر والزواجر . وبين الترغيب والترهيب . وبين
التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة . .
إنه حسبُ هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله؛ وأن تخلص حقاً في هذا الاتجاه ، وأن تبذل
غاية الجهد في طاعته ورضاه . . فأما بعد ذلك . . فهناك رحمة الله . . هناك
رحمة الله ترحم الضعف ، وتعطف على القصور؛ وتقبل التوبة ، وتصفح عن
التقصير؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين ، في إيناس وفي تكريم . .
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه . أما مقارفة هذه الكبائر- وهي واضحة ضخمة بارزة؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية! فهي دليل على أن هذه
النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة . . وحتى
هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على
نفسه . . وقد قال فيها : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } . وعدهم من { المتقين } .
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله ، متى اجتنبت الكبائر؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين .
وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1336)
فيه مسألتان :
الأُولى لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثامٍ هي كبائر ، وعَدَ على اجتنابها التخفيف من الصغائر ، ودلّ هذا على أن في الذنوب كبائرَ وصغائرَ . وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء ، وأن اللّمسة والنظرة تُكفَّر باجتناب الكبائر قَطْعاً بوعده الصدق وقوله الحق ، لا أنه
يجب عليه ذلك . ونظير الكلام في هذا ما تقدّم بيانه في قبول التوبة في
قوله تعالى : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } ، فالله تعالى يغفر الصغائر
باجتناب الكبائر ، لكن بضميمة أُخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض . روى
مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس
والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ ما بينهنّ إذا اجتنب
الكبائر " وروى أبو حاتم البُسْتيّ في صحيح مسنده عن " أبي هريرة وأبي سعيد
الخُدْرِيّ أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال : «والذي نفسي بيده» ثلاث
مرات ، ثم سكت فأكبّ كل رجل منا يبكي حزيناً ليَمين رسول الله صلى الله
عليه وسلم ثم قال : «ما من عبد يؤدّي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب
الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة حتى إنها
لتصفّق» ثم تلا { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ
نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } " فقد تعاضد الكتاب وصحيحُ السنة
بتكفير الصغائر قطعاً كالنظر وشِبهه . وبيّنت السنة أن المراد
ب { تَجْتَنِبُواْ } ليس كلّ الاجتناب لجميع الكبائر . والله أعلم . وأما
الأُصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ،
وإنما محمل ذلك على غلبة الظنّ وقوّة الرّجاء والمشيئةُ ثابتةٌ . ودلّ على
ذلك أنه
لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفيرَ صغائره قطعاً لكانت له في
حكم المباح الذي يقطع بألاّ تِباعة فيه ، وذلك نقض لعُرَى الشريعة . ولا
صغيرة عندنا . قال القُشيريّ عبد الرحيم : والصحيح أنها كبائر ولكن بعضها أعظم وقعاً من بعض ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي .
قلت
: وأيضاً فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم : لا تنظرْ إلى صِغر
الذنب ولكن انظر من عصيت كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر ، وعلى هذا
النحو يخرّج كلام القاضي أبي بكر بن الطيّب والأُستاذ أبي إسحاق الأسفرايني
وأبي المعالي وأبي نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم؛ قالوا : وإنما يقال
لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته
إلى الكفر ، والقُبْلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى ، ولا ذنب عندنا
يُغفر باجتناب ذنب آخر ، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر؛
لقوله تعالى :{ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] واحتجوا بقراءة من قرأ " إنْ
تَجْتَنِبُوا كَبِيرَ مَا تنْهَوْنَ عَنْهُ " على التوحيد؛ وكبير الإثم
الشرك . قالوا : وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر . والآيةُ التي قيّدت
الحكم فتردّ إليها هذه المطلَقات كلها قولُه تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } . واحتجوا بما رواه مُسلم وغيرهُ عن أبي
أُمامة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : " «مَن اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد
أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة» فقال له رجل : يا رسول الله ، وإن
كان شيئاً يسيراً؟ قال : «وإن كان قضيباً من أَرَاك» " فقد جاء الوعيد
الشديد على اليسير كما جاء على الكثير . وقال ابن عباس : الكبيرة كلّ ذنب
ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . وقال ابن مسعود : الكبائر ما نهى
الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية؛ وتصديقُه قوله تعالى : { إِن
تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } . وقال طاوس : قيل لابن
عباس الكبائر سبع؟ قال : هي إلى السبعين أقرب . وقال سعيد بن جُبير : قال
رجل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع؛
غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار . وروي عن ابن مسعود أنه
قال : الكبائر أربع : اليأس من رَوح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن
من مكر الله ، والشِّرك بالله؛ دل عليها القرآن . وروي عن ابن عمر : هي
تسع : قتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، ورَمْي المحصَنة ،
وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، والفِرار من الزّحف ، والسحر ، والإلحاد
في البيت الحرام . ومن الكبائر عند العلماء : القِمار والسرقة وشرب الخمر
وسَبّ السَّلَف الصالح وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة
والقنوط من رحمة الله وسب الإنسان أبويه بأن يسُبّ
رجلاً فيَسُبّ ذلك الرجلُ أبويه والسعي في الأرض فساداً ؛ إلى غير ذلك مما
يكثر تَعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن ، وفي أحاديث خرّجها الأئمة ،
وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان منها جملةً وافرة . وقد اختلف الناس في
تَعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها ، والذي أقول : إنه قد جاءت فيها
أحاديث كثيرة صِحاح وحِسان لم يُقصد بها الحصر ، ولكن بعضها أكبر من بعض
بالنسبة إلى ما يكثر ضرره ، فالشرك أكبر ذلك كله ، وهو الذي لا يُغفر لنصّ
الله تعالى على ذلك ، وبعده اليأس من رحمة الله؛ لأن فيه
تكذيب القرآن؛ إذ يقول وقوله الحق : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ }
[ الأعراف : 156 ] وهو يقول : لا يغفر له؛ فقد حَجَر واسعاً . هذا إذا كان
معتقداً لذلك؛ ولذلك قال الله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ
الله إِلاَّ القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] . وبعده القنوط؛ قال الله
تعالى : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون } [ الحجر :
56 ] . وبعده الأمن من مكر الله فيسترسل في المعاصي ويتّكل على رحمة الله
من غير عمل؛ قال الله تعالى : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ
مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ] . وقال تعالى : {
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين } [ فصلت : 23 ] وبعده القتل؛ لأن فيه إذهاب النفوس وإعدامَ الوجود ، واللِّواطُ فيه قطع النَّسل ، والزنى فيه اختلاط الأنساب
بالمياه ، والخَمرُ فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف ، وترك الصلاة
والأذان فيه تركُ إظهار شعائر الإسلام ، وشهادةُ الزور فيها استباحة الدماء
والفروج والأموال ، إلى غير ذلك مما هو بيّن الضرر؛ فكلّ ذنب عظّم الشرْع
التوعُّدَ عليه بالعقاب وشدّده ، أو عظّم ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو
كبيرة وما عداه صغيرة . فهذا يربط لك هذا الباب ويضبطه ، والله أعلم .
الثانية قوله تعالى : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } قرأ أبو عمرو وأكثر الكوفيين «مُدخلا» بضم الميم ، فيحتمل أن يكون مصدرا ، أي إدخالا ، والمفعول محذوف أي وندخلكم الجنة إدخالا . ويحتمل أن يكون بمعنى المكان فيكون مفعولا . وقرأ أهل المدينة بفتح الميم ، فيجوز أن يكون مصدر دخل وهو منصوب بإضمار فعل؛ التقدير وندخلكم فتدخلون مدخَلا ، ودّل الكلام عليه . ويجوز أن يكون اسم مكان فينتصب على أنه
مفعول به ، أي وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة . وقال أبو سعيد بن الأعرابي
: سمعت أبا داود السّجستاني يقول : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول :
المسلمون كلهم في الجنة؛ فقلت له : كيف؟ قال : يقول الله عز وجل { إِن
تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } يعني الجنة . وقال
النبي صلى الله عليه وسلم : " ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر
من أمتي " فإذا كان الله عز وجل يغفر ما دون الكبائر والنبي صلى الله عليه
وسلم يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على المسلمين . وقال علماؤنا : الكبائر
عند أهل السنّة
تُغفر لمن أقلع عنها قبل الموت حسب ما تقدّم . وقد يُغفر لمن مات عليها من
المسلمين؛ كما قال تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ }
الآية والمراد بذلك من مات على الذنوب فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم
يكن للتفرقة بين الإشراك وغيره معنى إذ التائب من الشرك أيضاً مغفور له .
ورُوي عن ابن مسعود أنه
قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إلي من الدنيا جميعاً قوله تعالى : {
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } وقوله { إِنَّ الله
لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ
} [ النساء : 48 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ
يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] ، وقوله تعالى : { وَإِن تَكُ
حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } [ النساء : 40 ] وقوله تعالى : { والذين آمَنُواْ
بالله وَرُسُلِهِ } [ النساء : 152 ] . وقال ابن عباس؛ ثمان آيات في سورة
النساء ، هنّ خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت : { يُرِيدُ الله
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } { يُرِيدُ
الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ، الآية ، { إِنَّ
الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] { إِنَّ الله لاَ
يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ
يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ
} [ النساء : 147 ] الآية .
وفي تفسير الرازي - (ج 5 / ص 179)
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر الوعيد أتبعه بتفصيل ما يتعلق به فذكر هذه الآية ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من الناس من قال : جميع الذنوب والمعاصي كبائر . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه
قال : كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة ، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله ،
فان الله تعالى لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الاسلام ، أو
جاحدا فريضة ، أو مكذبا بقدر . واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه :
(1) - أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده برقم(8949) عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَاتٌ لَمَا
بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ » وهو صحيح
وهو في مسلم
برقم(574 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- كَانَ يَقُولُ « الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى
الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ
إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ ».
(2) - وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 926)
اجتناب الشئ معناه : المباعدة عنه وتركه جانبا بحيث تكون أنت فى جانب وهو فى جانب آخر ولا تلاقى بينكما .
وكبائر الذنوب : ما عظم منها ، وعظمت العقوبة عليه . كالشرك ، وقتل النفس بغير حق ، وأكل مال اليتيم ونحو ذلك من المحرمات .
والسيئات : جمع سيئة وهى الفعلة القبيحة ، وسميت بذلك؛ لأنها تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا .
والمراد بالسيئات هنا : صغائر الذنوب بدليل مقابلتها بالكبائر .
والمعنى
: إن تتركوا - يا معشر المؤمنين - كبائر الذنوب التى نهاكم الشرع عن
اقترافها ، { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أى نسترها عليكم ،
ونمحها عنكم حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل فضلا من الله عليكم ، ورحمة بكم .
{ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } أى وندخلكم فى الآخرة مدخلا حسنا وهو الجنة التى وعد الله بها عباده الصالحين . فهى مكان طيب يجد من يحل فيه الكثير من كرم الله ورضاه .
والمدخل - بضم الميم - كما قرأه الجمهور مصدر بمعنى الإِدخال ومفعول ندخلكم محذوف أى نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم إدخالا كريما .
ويصح أن يكون اسم مكان منصوبا على الظرفية عند سيبويه ، وعلى المفعولية عند الأخفش .
وقرأ نافع { مَّدْخَلاً } - بفتح الميم - على أنه اسم مكان للدخول ، ويجوز أن يكون مصدرا ميما . أى ندخلكم مكانا كريما أو ندخلكم دخولا كريما
هذا ، وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن صغائر الذنوب يغفرها الله - تعالى - لعباده رحمة منه وكرما متى اجتنبوا كبائر الذنوب ، وصدقوا فى توبتهم إليه .
كما استدلوا بها على أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر؛ لأن هذه
الآية قد فصلت بين كبائر الذنوب وبين ما يكفر باجتنابها وهو صغار الذنوب
المعبر عنها بقوله - تعالى - : { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } . ولأن الله - تعالى - يقول فى موضع
آخر { وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين
أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى الذين
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم إِنَّ رَبَّكَ
وَاسِعُ المغفرة } قال الآلوسى ما ملخصه : واختلفوا فى حد الكبيرة على أقوال منها : أنها كل معصية أوجبت الحد . ومنها : أنها كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته .
وقال الواحدى : الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به ، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها . ولكن الله - تعالى - أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا فى اجتناب المنهى عنه رجاء أن تجنب الكبائر . ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى ، وليلة القدر . وساعة الإِجابة .
وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبط بحد . فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله - تعالى - من أول هذه السورة إلى هنا . وقيل هى سبع بدليل ما جاء فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال :" اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : وما هو يا رسول الله؟ قال : الشرك
بالله - تعالى - والسحر ، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق ، وأكل ما
اليتيم ، وأكل الربا ، والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات "
.
فإن قيل : جاء فى روايات أخرى أن من الكبائر " اليمين الغموس " و " قول الزور " و " عقوق الوالدين "؟ قلنا فى الجواب : إن ذلك محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ما ذكر منها قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر وليس لحصره الكبائر فيه - فإن النص على هذه السيع بأنهن كبائر لا ينفى ما عداهن .
والذى نراه أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر ، وأن الصغائر يغفرها الله لعاده متى اجتنبوا الكبائر وأخلصوا دينهم لله ، وأن الكبائر
هى ما حذر الشرع من ارتكابها تحذيرا شديدا ، وتوعد مرتكبها بسوء المصير ،
كالإشراك بالله ، وقتل النفس بغير حق وغير ذلك من الفواحش التى يؤدى
ارتكابها إلى إفساد شأن الأفراد والجماعات والتى ورد النهى عنها فى كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية . وأن الصغائر
، هى الذنوب اليسيرة التى يتركبها الشخص من غير إصرار عليها ولا استهانة
بها أو مداومة عليها ، بل يعقبها بالتوبة الصادقة والعمل الصالح وصدق الله
إذ يقول : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل إِنَّ
الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } ولقد فتح الله -
تعالى - لعباده باب التوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها حتى لا ييأسوا من
رحمته فقال - سبحانه - : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ
وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ
وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة
وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً
صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله
غَفُوراً رَّحِيماً }
وفي ظلال القرآن - (ج 2 / ص 107)
ما
أسمح هذا الدين! وما أيسر منهجه! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو
والطهر والنظافة ، والطاعة . وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود ،
والأوامر والنواهي ، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة؛ وإنشاء مجتمع
نظيف سليم .
إن هذا الهتاف؛ وهذه التكاليف؛ لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة .
ومن
ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة . وبين الأشواق والضرورات . وبين
الدوافع والكوابح . وبين الأوامر والزواجر . وبين الترغيب والترهيب . وبين
التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة . .
إنه حسبُ هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله؛ وأن تخلص حقاً في هذا الاتجاه ، وأن تبذل
غاية الجهد في طاعته ورضاه . . فأما بعد ذلك . . فهناك رحمة الله . . هناك
رحمة الله ترحم الضعف ، وتعطف على القصور؛ وتقبل التوبة ، وتصفح عن
التقصير؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين ، في إيناس وفي تكريم . .
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه . أما مقارفة هذه الكبائر- وهي واضحة ضخمة بارزة؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية! فهي دليل على أن هذه
النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة . . وحتى
هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على
نفسه . . وقد قال فيها : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } . وعدهم من { المتقين } .
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله ، متى اجتنبت الكبائر؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين .
وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1336)
فيه مسألتان :
الأُولى لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثامٍ هي كبائر ، وعَدَ على اجتنابها التخفيف من الصغائر ، ودلّ هذا على أن في الذنوب كبائرَ وصغائرَ . وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء ، وأن اللّمسة والنظرة تُكفَّر باجتناب الكبائر قَطْعاً بوعده الصدق وقوله الحق ، لا أنه
يجب عليه ذلك . ونظير الكلام في هذا ما تقدّم بيانه في قبول التوبة في
قوله تعالى : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } ، فالله تعالى يغفر الصغائر
باجتناب الكبائر ، لكن بضميمة أُخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض . روى
مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس
والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّراتٌ ما بينهنّ إذا اجتنب
الكبائر " وروى أبو حاتم البُسْتيّ في صحيح مسنده عن " أبي هريرة وأبي سعيد
الخُدْرِيّ أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال : «والذي نفسي بيده» ثلاث
مرات ، ثم سكت فأكبّ كل رجل منا يبكي حزيناً ليَمين رسول الله صلى الله
عليه وسلم ثم قال : «ما من عبد يؤدّي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب
الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة حتى إنها
لتصفّق» ثم تلا { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ
نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } " فقد تعاضد الكتاب وصحيحُ السنة
بتكفير الصغائر قطعاً كالنظر وشِبهه . وبيّنت السنة أن المراد
ب { تَجْتَنِبُواْ } ليس كلّ الاجتناب لجميع الكبائر . والله أعلم . وأما
الأُصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ،
وإنما محمل ذلك على غلبة الظنّ وقوّة الرّجاء والمشيئةُ ثابتةٌ . ودلّ على
ذلك أنه
لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفيرَ صغائره قطعاً لكانت له في
حكم المباح الذي يقطع بألاّ تِباعة فيه ، وذلك نقض لعُرَى الشريعة . ولا
صغيرة عندنا . قال القُشيريّ عبد الرحيم : والصحيح أنها كبائر ولكن بعضها أعظم وقعاً من بعض ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي .
قلت
: وأيضاً فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم : لا تنظرْ إلى صِغر
الذنب ولكن انظر من عصيت كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر ، وعلى هذا
النحو يخرّج كلام القاضي أبي بكر بن الطيّب والأُستاذ أبي إسحاق الأسفرايني
وأبي المعالي وأبي نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم؛ قالوا : وإنما يقال
لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته
إلى الكفر ، والقُبْلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى ، ولا ذنب عندنا
يُغفر باجتناب ذنب آخر ، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر؛
لقوله تعالى :{ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] واحتجوا بقراءة من قرأ " إنْ
تَجْتَنِبُوا كَبِيرَ مَا تنْهَوْنَ عَنْهُ " على التوحيد؛ وكبير الإثم
الشرك . قالوا : وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر . والآيةُ التي قيّدت
الحكم فتردّ إليها هذه المطلَقات كلها قولُه تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } . واحتجوا بما رواه مُسلم وغيرهُ عن أبي
أُمامة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : " «مَن اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد
أوجب الله له النار وحرّم عليه الجنة» فقال له رجل : يا رسول الله ، وإن
كان شيئاً يسيراً؟ قال : «وإن كان قضيباً من أَرَاك» " فقد جاء الوعيد
الشديد على اليسير كما جاء على الكثير . وقال ابن عباس : الكبيرة كلّ ذنب
ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . وقال ابن مسعود : الكبائر ما نهى
الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية؛ وتصديقُه قوله تعالى : { إِن
تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } . وقال طاوس : قيل لابن
عباس الكبائر سبع؟ قال : هي إلى السبعين أقرب . وقال سعيد بن جُبير : قال
رجل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع؛
غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار . وروي عن ابن مسعود أنه
قال : الكبائر أربع : اليأس من رَوح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن
من مكر الله ، والشِّرك بالله؛ دل عليها القرآن . وروي عن ابن عمر : هي
تسع : قتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، ورَمْي المحصَنة ،
وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، والفِرار من الزّحف ، والسحر ، والإلحاد
في البيت الحرام . ومن الكبائر عند العلماء : القِمار والسرقة وشرب الخمر
وسَبّ السَّلَف الصالح وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة
والقنوط من رحمة الله وسب الإنسان أبويه بأن يسُبّ
رجلاً فيَسُبّ ذلك الرجلُ أبويه والسعي في الأرض فساداً ؛ إلى غير ذلك مما
يكثر تَعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن ، وفي أحاديث خرّجها الأئمة ،
وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان منها جملةً وافرة . وقد اختلف الناس في
تَعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها ، والذي أقول : إنه قد جاءت فيها
أحاديث كثيرة صِحاح وحِسان لم يُقصد بها الحصر ، ولكن بعضها أكبر من بعض
بالنسبة إلى ما يكثر ضرره ، فالشرك أكبر ذلك كله ، وهو الذي لا يُغفر لنصّ
الله تعالى على ذلك ، وبعده اليأس من رحمة الله؛ لأن فيه
تكذيب القرآن؛ إذ يقول وقوله الحق : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ }
[ الأعراف : 156 ] وهو يقول : لا يغفر له؛ فقد حَجَر واسعاً . هذا إذا كان
معتقداً لذلك؛ ولذلك قال الله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ
الله إِلاَّ القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] . وبعده القنوط؛ قال الله
تعالى : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون } [ الحجر :
56 ] . وبعده الأمن من مكر الله فيسترسل في المعاصي ويتّكل على رحمة الله
من غير عمل؛ قال الله تعالى : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ
مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ] . وقال تعالى : {
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين } [ فصلت : 23 ] وبعده القتل؛ لأن فيه إذهاب النفوس وإعدامَ الوجود ، واللِّواطُ فيه قطع النَّسل ، والزنى فيه اختلاط الأنساب
بالمياه ، والخَمرُ فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف ، وترك الصلاة
والأذان فيه تركُ إظهار شعائر الإسلام ، وشهادةُ الزور فيها استباحة الدماء
والفروج والأموال ، إلى غير ذلك مما هو بيّن الضرر؛ فكلّ ذنب عظّم الشرْع
التوعُّدَ عليه بالعقاب وشدّده ، أو عظّم ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو
كبيرة وما عداه صغيرة . فهذا يربط لك هذا الباب ويضبطه ، والله أعلم .
الثانية قوله تعالى : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } قرأ أبو عمرو وأكثر الكوفيين «مُدخلا» بضم الميم ، فيحتمل أن يكون مصدرا ، أي إدخالا ، والمفعول محذوف أي وندخلكم الجنة إدخالا . ويحتمل أن يكون بمعنى المكان فيكون مفعولا . وقرأ أهل المدينة بفتح الميم ، فيجوز أن يكون مصدر دخل وهو منصوب بإضمار فعل؛ التقدير وندخلكم فتدخلون مدخَلا ، ودّل الكلام عليه . ويجوز أن يكون اسم مكان فينتصب على أنه
مفعول به ، أي وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة . وقال أبو سعيد بن الأعرابي
: سمعت أبا داود السّجستاني يقول : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول :
المسلمون كلهم في الجنة؛ فقلت له : كيف؟ قال : يقول الله عز وجل { إِن
تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } يعني الجنة . وقال
النبي صلى الله عليه وسلم : " ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر
من أمتي " فإذا كان الله عز وجل يغفر ما دون الكبائر والنبي صلى الله عليه
وسلم يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على المسلمين . وقال علماؤنا : الكبائر
عند أهل السنّة
تُغفر لمن أقلع عنها قبل الموت حسب ما تقدّم . وقد يُغفر لمن مات عليها من
المسلمين؛ كما قال تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ }
الآية والمراد بذلك من مات على الذنوب فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم
يكن للتفرقة بين الإشراك وغيره معنى إذ التائب من الشرك أيضاً مغفور له .
ورُوي عن ابن مسعود أنه
قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إلي من الدنيا جميعاً قوله تعالى : {
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } وقوله { إِنَّ الله
لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ
} [ النساء : 48 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ
يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] ، وقوله تعالى : { وَإِن تَكُ
حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } [ النساء : 40 ] وقوله تعالى : { والذين آمَنُواْ
بالله وَرُسُلِهِ } [ النساء : 152 ] . وقال ابن عباس؛ ثمان آيات في سورة
النساء ، هنّ خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت : { يُرِيدُ الله
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } { يُرِيدُ
الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ، الآية ، { إِنَّ
الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] { إِنَّ الله لاَ
يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ
يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ
} [ النساء : 147 ] الآية .
وفي تفسير الرازي - (ج 5 / ص 179)
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر الوعيد أتبعه بتفصيل ما يتعلق به فذكر هذه الآية ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من الناس من قال : جميع الذنوب والمعاصي كبائر . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه
قال : كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة ، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله ،
فان الله تعالى لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الاسلام ، أو
جاحدا فريضة ، أو مكذبا بقدر . واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه :
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الحجة الأولى : هذه الآية ، فان الذنوب لو كانت بأسرها كبائر لم يصح الفصل بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر .
الحجة
الثانية : قوله تعالى : { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [
القمر : 53 ] وقوله : { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ
أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] .
الحجة الثالثة : ان الرسول عليه الصلاة والسلام نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر ، كقوله : « الكبائر : الإشراك بالله واليمين الغموس وعقوق الوالدين وقتل النفس » وذلك يدل على أن منها ما ليس من الكبائر .
الحجة الرابعة : قوله تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } [ الحجرات : 7 ] وهذا صريح في أن المنهيات
أقسام ثلاثة : أولها : الكفر ، وثانيها : الفسوق . وثالثها : العصيان ،
فلا بد من فرق بين الفسوق وبين العصيان ليصح العطف ، وما ذاك إلا لما ذكرنا
من الفرق بين الصغائر وبين الكبائر ، فالكبائر هي الفسوق ، والصغائر هي
العصيان . واحتج ابن عباس بوجهين : أحدهما : كثرة نعم من عصى . والثاني :
إجلال من عصى ، فان اعتبرنا الأول فنعم الله غير متناهية ، كما قال : {
وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ النحل : 18 ] وان
اعتبرنا الثاني فهو أجل الموجودات وأعظمها ، وعلى التقديرين وجب أن يكون عصيانه في غاية الكبر ، فثبت أن كل ذنب فهو كبيرة .
والجواب من وجهين : الأول : كما أنه
تعالى أجل الموجودات وأشرفها ، فكذلك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ،
وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين ، وكل ذلك يوجب خفة
الذنب . الثاني : هب أن الذنوب كلها كبيرة من حيث أنها ذنوب ، ولكن بعضها أكبر من بعض ، وذلك يوجب التفاوت . إذا ثبت أن الذنوب
على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر ، فالقائلون بذلك فريقان : منهم من
قال : الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها ، ومنهم من قال : هذا
الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها ، بل بحسب حال فاعليها ، ونحن نشرح كل
واحد من هذين القولين .
أما القول الأول : فالذاهبون اليه
والقائلون به اختلفوا اختلافا شديداً ، ونحن نشير إلى بعضها ، فالأول : قال
ابن عباس : كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة ، نحو قتل
النفس المحرمة وقذف المحصنة والزنا والربا وأكل مال اليتيم والفرار من
الزحف . الثاني : قال ابن مسعود : افتتحوا سورة النساء ، فكل شيء نهى الله
عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة ، ثم قال : مصداق ذلك :{ إِن
تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] الثالث :
قال قوم : كل عمد فهو كبيرة . واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة .
أما الأول : فلأن كل ذنب لا بد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل ، فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه .
وأما الثاني : فهو أيضا ضعيف ، لأن الله تعالى ذكر كثيراً من الكبائر في سائر السور ، ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة .
وأما الثالث : فضعيف أيضا ، لأنه ان أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله ، فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه ، فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه ، وان أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية ، فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم لا يعلمون أنه
معصية ، وهو مع ذلك كفر كبير ، فبطلت هذه الوجوه الثلاثة . وذكر الشيخ
الغزالي رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق
بين الكبائر والصغائر فقال : فهذا كله قول من قال : الكبائر تمتاز عن
الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها .
وأما
القول الثاني : وهو قول من يقول : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار
أحوال فاعليها ، فهؤلاء الذين يقولون : إن لكل طاعة قدرا من الثواب ، ولكل
معصية قدرا من العقاب ، فاذا أتى الانسان بطاعة واستحق بها ثوابا ، ثم أتى
بمعصية واستحق بها عقابا ، فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب
القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يتعادلا ويتساويا ، وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد ، لأنه تعالى قال : { فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير } [ الشورى : 7 ] ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير .
والقسم الثاني : أن يكون
ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته ، وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من
الثواب ، ويفضل من الثواب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الصغيرة ، وهذا
الانحباط هو المسمى بالتكفير .
والقسم الثالث : أن يكون
عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته ، وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من
العقاب ، ويفضل من العقاب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الكبيرة ، وهذا
الانحباط هو المسمى بالاحباط ، وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين
الصغيرة . وهذا قول جمهور المعتزلة .
واعلم أن هذا الكلام مبني علىأصول كلها باطلة عندنا . أولها : أن هذا مبني على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا ، وذلك باطل لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن صدور الفعل عن العبد لا
يمكن إلا اذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل ، ومتى كان كذلك امتنع
كون الطاعة موجبة للثواب ، وكون المعصية موجبة للعقاب ، وثانيها : أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من
اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة ، فان ثواب مجموع هذه
الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة
من الخمر ، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب
هذه القطرة من الكبائر ، فان أصروا وقالوا : بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد
من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أبطلوا على أنفسهم أصلهم ، فانهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين ، ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم ، فان دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه ، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد ، وثالثها : أن نعم
الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد ، وتلك النعم السابقة موجبة
لهذه الطاعات ، فكان أداء الطاعات أداء لما وجب بسبب النعم السابقة ، ومثل
هذا لا يوجب في المستقبل شيئاً آخر ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا ، وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فان عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها ، فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر ، وذلك أيضاً باطل . ورابعها : أن هذا الكلام مبني على القول بالاحباط ، وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالاحباط في سورة البقرة ، فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة اليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل وبالله التوفيق .
المسألة الثانية : اختلف الناس في أن الله تعالى هل ميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر أم لا؟ فالأكثرون قالوا : إنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر ، لأنه تعالى لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر ، فاذا عرف العبد أن الكبائر ليست إلا هذه الأصناف المخصوصة ، عرف أنه
متى احترز عنها صارت صغائره مكفرة فكان ذلك إغراء له بالاقدام على تلك
الصغائر ، والاغراء بالقبيح لا يليق بالجملة ، أما إذا لم يميز الله تعالى
كل الكبائر عن كل الصغائر ، ولم يعرف في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، ولا ذنب يقدم عليه إلا ويجوز كونه
كبيرة فيكون ذلك زاجراً له عن الاقدام عليه . قالوا : ونظير هذا في
الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في ليالي رمضان ،
وساعة الاجابة في ساعات الجمعة ، ووقت الموت في جميع الأوقات . والحاصل أن هذه القاعدة تقتضي أن لا يبين الله تعالى في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، وأن لا يبين أن الكبائر ليست إلا كذا وكذا ، فانه لو بين ذلك لكان ما عداها صغيرة ، فحينئذ تصير الصغيرة معلومة ، ولكن يجوز أن يبين في بعض الذنوب أنه كبيرة . روي أنه
صلى الله عليه وسلم قال :" ما تعدون الكبائر " فقالوا : الله ورسوله أعلم ،
فقال : " الاشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من
الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات
الغافلات " وعن عبدالله بن عمر أنه ذكرها وزاد فيها : استحلال آمين البيت الحرام ، وشرب الخمر ، وعن ابن مسعود أنه زاد فيها : القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله . وذكر عن ابن عباس أنها سبعة ، ثم قال : هي إلى السبعين أقرب . وفي رواية أخرى إلى السبعمائة أقرب ، والله أعلم .
المسألة
الثالثة : احتج أبو القاسم الكعبي بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب
الكبائر فقال : قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد ، لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر ، بين أن من اجتنبها يكفر عن سيآته ، وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر ، ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام .
وأجاب أصحابنا عنه من وجوه : الأول : أنكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث أنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيآت ، وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها ، لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وهذا باطل . لأن عند المعتزلة هذا الأصل باطل ، وعندنا انه دلالة ظنية ضعيفة ، وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق
بكلمة «إن» على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، وهذا أيضا ضعيف ، ويدل عليه
آيات : إحداها : قوله : { واشكروا الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
} [ البقرة : 172 ] فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد . وثانيها :
قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن
أمانته } [ البقرة : 283 ] وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك .
وثالثها : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } [
البقرة : 282 ] والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل الرجلان أو لم
يحصلا . ورابعها : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ } [
البقرة : 283 ] والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يجده . وخامسها : {
وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [
النور : 33 ] والاكراه على البغاء محرم ، سواء أردن التحصن أو لم يردن .
وسادسها : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا
طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء } [ النساء : 3 ] والنكاح جائز سواء حصل ذلك
الخوف أو لم يحصل ، وسابعها : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن
تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } [ النساء : 101 ] والقصر جائز ،
سواء حصل الخوف أو لم يحصل وثامنها : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين
فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء : 11 ] والثلثان كما أنه
حق الثلاثة فهو أيضاً حق الثنتين ، وتاسعها : قوله :{ وَإِنْ خِفْتُمْ
شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ } [ النساء : 35 ] وذلك
جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل . وعاشرها : قوله : { إِن يُرِيدَا إصلاحا
يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } [ النساء : 35 ] وقد يحصل التوفيق بدون
إرادتيهما ، والحادي عشر : قوله : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ
مّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق ، وهذا
الجنس من الآيات فيه كثرة ، فثبت أن المعلق بكلمة «إن» على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، والعجب أن مذهب القاضي عبد الجبار في أصول الفقه هو أن المعلق بكملة «إن» على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي بهذه الآية ، وذلك يدل على أن حب الانسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي .
الوجه
الثاني من الجواب : قال أبو مسلم الاصفهاني : إن هذه الآية إنما جاءت عقيب
الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات ، وعن عضل النساء وأخذ أموال
اليتامى وغير ذلك ، فقال تعالى : إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها
كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا . وإذا كان هذا الوجه محتملا ،
لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة . وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين :
الأول : أن قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } عام ، فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز . الثاني : أن قوله : إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد؛ لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين : إما أن يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر ، أو لا يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيآت؟ هذا لفظ القاضي في تفسيره .
والجواب عن الأول : أنا لا ندعي القطع بأن قوله
: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } محمول على ما
تقدم ذكره ، لكنا نقول : إنه محتمل ، ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية
على ما ذكروه . وعن الثاني : أن قولك : من أين أن اجتناب
هذا الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات؟ سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم ،
وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال ، وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم
من الاستدلال والله أعلم .
الوجه الثالث : من الجواب عن هذا الاستدلال : هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول
: إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيآته ، وحينئذ تصير هذه الآية عامة في
الوعيد ، وعمومات الوعيد ليست قليلة ، فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات
كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية ، فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا
الباب ، وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي : إن الله قد كشف الشبهة بهذه
الآية عن هذه المسألة وجه .
الوجه الرابع : أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا ، بالنسبة إلى شيء ، ويكون صغيراً بالنسبة إلى شيء آخر ، وكذا القول في الصغائر ، إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الاطلاق هو الكفر ، وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } الكفر؟ وذلك لأن الكفر أنواع كثيرة : منها الكفر بالله وبأنبيائه وباليوم الآخر وشرائعه ، فكان المراد أن من
اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا ، وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح
قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] وإذا كان هذا محتملا ، بل
ظاهراً سقط استدلالهم بالكلية وبالله التوفيق .
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر ، وعندنا أنه لا يجب عليه شيء ، بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان ، وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة .
ثم قال تعالى : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } وفيه مسألتان :
المسألة
الأولى : قرأ المفضل عن عاصم { يَكْفُرْ وَيُدْخِلْكُمْ } بالياء في
الحرفين على ضمير الغائب ، والباقون بالنون على استئناف الوعد ، وقرأ نافع {
مُّدْخَلاً } بفتح الميم وفي الحج مثله ، والباقون بالضم ، ولم يختلفوا في
{ مُدْخَلَ صِدْقٍ } بالضم ، فبالفتح المراد موضع الدخول ، وبالضم المراد
المصدر وهو الادخال ، أي : ويدخلكم إدخالا كريما ، وصف الادخال بالكرم
بمعنى أن ذلك الادخال يكون مقرونا بالكرم على خلاف من قال الله فيهم : { الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ } [ الفرقان : 34 ]
المسألة الثانية : أن مجرد
الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة ، بل لا بد معه من الطاعات ،
فالتقدير : ان أتيتم بجميع الواجبات ، واجتنبتم عن جميع الكبائر كفرنا عنكم
بقية السيئات وأدخلناكم الجنة ، فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة . ومن
المعلوم أن عدم
السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب ، بل ههنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي
، وهو فضل الله وكرمه ورحمته ، كما قال : { قُلْ بِفَضْلِ الله
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] ، والله أعلم .[النساء/31]
}، فَالْفَرَائِضُ مَعَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ مُقْتَضِيَةٌ لِتَكْفِيرِ
السَّيِّئَاتِ ،وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الزَّائِدَةُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ
فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَوَابٌ آخَرُ ،فَإِنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ
(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)سورة الزلزلة
}(1)
الحجة
الثانية : قوله تعالى : { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [
القمر : 53 ] وقوله : { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ
أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] .
الحجة الثالثة : ان الرسول عليه الصلاة والسلام نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر ، كقوله : « الكبائر : الإشراك بالله واليمين الغموس وعقوق الوالدين وقتل النفس » وذلك يدل على أن منها ما ليس من الكبائر .
الحجة الرابعة : قوله تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } [ الحجرات : 7 ] وهذا صريح في أن المنهيات
أقسام ثلاثة : أولها : الكفر ، وثانيها : الفسوق . وثالثها : العصيان ،
فلا بد من فرق بين الفسوق وبين العصيان ليصح العطف ، وما ذاك إلا لما ذكرنا
من الفرق بين الصغائر وبين الكبائر ، فالكبائر هي الفسوق ، والصغائر هي
العصيان . واحتج ابن عباس بوجهين : أحدهما : كثرة نعم من عصى . والثاني :
إجلال من عصى ، فان اعتبرنا الأول فنعم الله غير متناهية ، كما قال : {
وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ النحل : 18 ] وان
اعتبرنا الثاني فهو أجل الموجودات وأعظمها ، وعلى التقديرين وجب أن يكون عصيانه في غاية الكبر ، فثبت أن كل ذنب فهو كبيرة .
والجواب من وجهين : الأول : كما أنه
تعالى أجل الموجودات وأشرفها ، فكذلك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ،
وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين ، وكل ذلك يوجب خفة
الذنب . الثاني : هب أن الذنوب كلها كبيرة من حيث أنها ذنوب ، ولكن بعضها أكبر من بعض ، وذلك يوجب التفاوت . إذا ثبت أن الذنوب
على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر ، فالقائلون بذلك فريقان : منهم من
قال : الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها ، ومنهم من قال : هذا
الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها ، بل بحسب حال فاعليها ، ونحن نشرح كل
واحد من هذين القولين .
أما القول الأول : فالذاهبون اليه
والقائلون به اختلفوا اختلافا شديداً ، ونحن نشير إلى بعضها ، فالأول : قال
ابن عباس : كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة ، نحو قتل
النفس المحرمة وقذف المحصنة والزنا والربا وأكل مال اليتيم والفرار من
الزحف . الثاني : قال ابن مسعود : افتتحوا سورة النساء ، فكل شيء نهى الله
عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة ، ثم قال : مصداق ذلك :{ إِن
تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] الثالث :
قال قوم : كل عمد فهو كبيرة . واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة .
أما الأول : فلأن كل ذنب لا بد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل ، فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه .
وأما الثاني : فهو أيضا ضعيف ، لأن الله تعالى ذكر كثيراً من الكبائر في سائر السور ، ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة .
وأما الثالث : فضعيف أيضا ، لأنه ان أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله ، فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه ، فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه ، وان أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية ، فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم لا يعلمون أنه
معصية ، وهو مع ذلك كفر كبير ، فبطلت هذه الوجوه الثلاثة . وذكر الشيخ
الغزالي رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق
بين الكبائر والصغائر فقال : فهذا كله قول من قال : الكبائر تمتاز عن
الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها .
وأما
القول الثاني : وهو قول من يقول : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار
أحوال فاعليها ، فهؤلاء الذين يقولون : إن لكل طاعة قدرا من الثواب ، ولكل
معصية قدرا من العقاب ، فاذا أتى الانسان بطاعة واستحق بها ثوابا ، ثم أتى
بمعصية واستحق بها عقابا ، فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب
القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يتعادلا ويتساويا ، وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد ، لأنه تعالى قال : { فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير } [ الشورى : 7 ] ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير .
والقسم الثاني : أن يكون
ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته ، وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من
الثواب ، ويفضل من الثواب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الصغيرة ، وهذا
الانحباط هو المسمى بالتكفير .
والقسم الثالث : أن يكون
عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته ، وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من
العقاب ، ويفضل من العقاب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الكبيرة ، وهذا
الانحباط هو المسمى بالاحباط ، وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين
الصغيرة . وهذا قول جمهور المعتزلة .
واعلم أن هذا الكلام مبني علىأصول كلها باطلة عندنا . أولها : أن هذا مبني على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا ، وذلك باطل لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن صدور الفعل عن العبد لا
يمكن إلا اذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل ، ومتى كان كذلك امتنع
كون الطاعة موجبة للثواب ، وكون المعصية موجبة للعقاب ، وثانيها : أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من
اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة ، فان ثواب مجموع هذه
الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة
من الخمر ، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب
هذه القطرة من الكبائر ، فان أصروا وقالوا : بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد
من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أبطلوا على أنفسهم أصلهم ، فانهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين ، ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم ، فان دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه ، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد ، وثالثها : أن نعم
الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد ، وتلك النعم السابقة موجبة
لهذه الطاعات ، فكان أداء الطاعات أداء لما وجب بسبب النعم السابقة ، ومثل
هذا لا يوجب في المستقبل شيئاً آخر ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا ، وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فان عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها ، فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر ، وذلك أيضاً باطل . ورابعها : أن هذا الكلام مبني على القول بالاحباط ، وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالاحباط في سورة البقرة ، فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة اليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل وبالله التوفيق .
المسألة الثانية : اختلف الناس في أن الله تعالى هل ميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر أم لا؟ فالأكثرون قالوا : إنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر ، لأنه تعالى لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر ، فاذا عرف العبد أن الكبائر ليست إلا هذه الأصناف المخصوصة ، عرف أنه
متى احترز عنها صارت صغائره مكفرة فكان ذلك إغراء له بالاقدام على تلك
الصغائر ، والاغراء بالقبيح لا يليق بالجملة ، أما إذا لم يميز الله تعالى
كل الكبائر عن كل الصغائر ، ولم يعرف في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، ولا ذنب يقدم عليه إلا ويجوز كونه
كبيرة فيكون ذلك زاجراً له عن الاقدام عليه . قالوا : ونظير هذا في
الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في ليالي رمضان ،
وساعة الاجابة في ساعات الجمعة ، ووقت الموت في جميع الأوقات . والحاصل أن هذه القاعدة تقتضي أن لا يبين الله تعالى في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، وأن لا يبين أن الكبائر ليست إلا كذا وكذا ، فانه لو بين ذلك لكان ما عداها صغيرة ، فحينئذ تصير الصغيرة معلومة ، ولكن يجوز أن يبين في بعض الذنوب أنه كبيرة . روي أنه
صلى الله عليه وسلم قال :" ما تعدون الكبائر " فقالوا : الله ورسوله أعلم ،
فقال : " الاشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من
الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات
الغافلات " وعن عبدالله بن عمر أنه ذكرها وزاد فيها : استحلال آمين البيت الحرام ، وشرب الخمر ، وعن ابن مسعود أنه زاد فيها : القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله . وذكر عن ابن عباس أنها سبعة ، ثم قال : هي إلى السبعين أقرب . وفي رواية أخرى إلى السبعمائة أقرب ، والله أعلم .
المسألة
الثالثة : احتج أبو القاسم الكعبي بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب
الكبائر فقال : قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد ، لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر ، بين أن من اجتنبها يكفر عن سيآته ، وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر ، ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام .
وأجاب أصحابنا عنه من وجوه : الأول : أنكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث أنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيآت ، وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها ، لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وهذا باطل . لأن عند المعتزلة هذا الأصل باطل ، وعندنا انه دلالة ظنية ضعيفة ، وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق
بكلمة «إن» على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، وهذا أيضا ضعيف ، ويدل عليه
آيات : إحداها : قوله : { واشكروا الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
} [ البقرة : 172 ] فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد . وثانيها :
قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن
أمانته } [ البقرة : 283 ] وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك .
وثالثها : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } [
البقرة : 282 ] والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل الرجلان أو لم
يحصلا . ورابعها : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ } [
البقرة : 283 ] والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يجده . وخامسها : {
وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [
النور : 33 ] والاكراه على البغاء محرم ، سواء أردن التحصن أو لم يردن .
وسادسها : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا
طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء } [ النساء : 3 ] والنكاح جائز سواء حصل ذلك
الخوف أو لم يحصل ، وسابعها : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن
تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } [ النساء : 101 ] والقصر جائز ،
سواء حصل الخوف أو لم يحصل وثامنها : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين
فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء : 11 ] والثلثان كما أنه
حق الثلاثة فهو أيضاً حق الثنتين ، وتاسعها : قوله :{ وَإِنْ خِفْتُمْ
شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ } [ النساء : 35 ] وذلك
جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل . وعاشرها : قوله : { إِن يُرِيدَا إصلاحا
يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } [ النساء : 35 ] وقد يحصل التوفيق بدون
إرادتيهما ، والحادي عشر : قوله : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ
مّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق ، وهذا
الجنس من الآيات فيه كثرة ، فثبت أن المعلق بكلمة «إن» على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، والعجب أن مذهب القاضي عبد الجبار في أصول الفقه هو أن المعلق بكملة «إن» على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي بهذه الآية ، وذلك يدل على أن حب الانسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي .
الوجه
الثاني من الجواب : قال أبو مسلم الاصفهاني : إن هذه الآية إنما جاءت عقيب
الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات ، وعن عضل النساء وأخذ أموال
اليتامى وغير ذلك ، فقال تعالى : إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها
كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا . وإذا كان هذا الوجه محتملا ،
لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة . وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين :
الأول : أن قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } عام ، فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز . الثاني : أن قوله : إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد؛ لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين : إما أن يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر ، أو لا يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيآت؟ هذا لفظ القاضي في تفسيره .
والجواب عن الأول : أنا لا ندعي القطع بأن قوله
: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } محمول على ما
تقدم ذكره ، لكنا نقول : إنه محتمل ، ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية
على ما ذكروه . وعن الثاني : أن قولك : من أين أن اجتناب
هذا الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات؟ سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم ،
وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال ، وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم
من الاستدلال والله أعلم .
الوجه الثالث : من الجواب عن هذا الاستدلال : هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول
: إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيآته ، وحينئذ تصير هذه الآية عامة في
الوعيد ، وعمومات الوعيد ليست قليلة ، فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات
كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية ، فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا
الباب ، وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي : إن الله قد كشف الشبهة بهذه
الآية عن هذه المسألة وجه .
الوجه الرابع : أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا ، بالنسبة إلى شيء ، ويكون صغيراً بالنسبة إلى شيء آخر ، وكذا القول في الصغائر ، إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الاطلاق هو الكفر ، وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } الكفر؟ وذلك لأن الكفر أنواع كثيرة : منها الكفر بالله وبأنبيائه وباليوم الآخر وشرائعه ، فكان المراد أن من
اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا ، وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح
قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] وإذا كان هذا محتملا ، بل
ظاهراً سقط استدلالهم بالكلية وبالله التوفيق .
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر ، وعندنا أنه لا يجب عليه شيء ، بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان ، وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة .
ثم قال تعالى : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } وفيه مسألتان :
المسألة
الأولى : قرأ المفضل عن عاصم { يَكْفُرْ وَيُدْخِلْكُمْ } بالياء في
الحرفين على ضمير الغائب ، والباقون بالنون على استئناف الوعد ، وقرأ نافع {
مُّدْخَلاً } بفتح الميم وفي الحج مثله ، والباقون بالضم ، ولم يختلفوا في
{ مُدْخَلَ صِدْقٍ } بالضم ، فبالفتح المراد موضع الدخول ، وبالضم المراد
المصدر وهو الادخال ، أي : ويدخلكم إدخالا كريما ، وصف الادخال بالكرم
بمعنى أن ذلك الادخال يكون مقرونا بالكرم على خلاف من قال الله فيهم : { الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ } [ الفرقان : 34 ]
المسألة الثانية : أن مجرد
الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة ، بل لا بد معه من الطاعات ،
فالتقدير : ان أتيتم بجميع الواجبات ، واجتنبتم عن جميع الكبائر كفرنا عنكم
بقية السيئات وأدخلناكم الجنة ، فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة . ومن
المعلوم أن عدم
السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب ، بل ههنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي
، وهو فضل الله وكرمه ورحمته ، كما قال : { قُلْ بِفَضْلِ الله
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] ، والله أعلم .[النساء/31]
}، فَالْفَرَائِضُ مَعَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ مُقْتَضِيَةٌ لِتَكْفِيرِ
السَّيِّئَاتِ ،وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الزَّائِدَةُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ
فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَوَابٌ آخَرُ ،فَإِنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ
(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)سورة الزلزلة
}(1)
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
(1) -وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 4554)
و " المثقال "
مفعال من الثقل ، ويطلق على الشئ القليل الذى يحتمل الوزن ، و " الذرة "
تطلق على أصغر النمل ، وعلى الغبار الدقيق الذى يتطاير من التراب عند النفخ
فيه . والمقصود المبالغة فى الجزاء على الأعمال مهما بلغ صغرها ، وحقر وزنها .
والفاء : للتفريع على ما تقدم . أى : فى هذا
اليوم يخرج الناس من قبورهم متفرقين لا يلوى أحد على أحد . متجهين إلى
موقف الحساب ليطلعوا على جزاء أعاملهم الدنيوية . . فمن كان منهم قد عمل فى دنياه عملا صالحا رأى ثماره الطيبة ، حتى ولو كان هذا العمل فى نهاية القلة ، ومن كان منهم قد عمل عملا سيئا فى دنياه ، رأى ثماره السيئة ، حتى ولو كان هذا العمل - أيضا - فى أدنى درجات القلة .
فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد جمعتا أسمى وأحكم ألوان الترغيب والترهيب ، ولذا قال كعب الأحبار : لقد أنزل الله - تعلى - على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم آيتين ، أحصتا ما فى التوراة والإِنجيل والزبور والصحف ، ثم قرأ هاتين الآيتين .
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين عددا من الأحاديث ، منها : ما أخرجه الإِمام أحمد . " أن صعصعة بن معاوية ، أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هاتين الآيتين ، فقال : حسبى لا أبالى أن لا أسمع غيرها " وفى صحيح البخارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، ولو بكلمة طيبة " .
وفى الصحيح - أيضاً - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك فى إناء المستقى ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط " .
وكان
صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة : " يا عائشة ، استترى من النار ولو بشق
تمرة ، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان . يا عائشة . إياك ومحقرات
الذنوب ، فإن لها من الله - تعالى - طالبا " .
ومن الآيات الكريمة التى وردت فى معنى
هاتين الآيتين قوله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً
عَظِيماً } وقوله - سبحانه - : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة
فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ
خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا ممن يواظبون على فعل الخيرات .
وفي تفسير الرازي - (ج 17 / ص 163)
وفيه مسائل :
المسألة
الأولى : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أي زنة ذرة قال الكلبي : الذرة أصغر النمل
، وقال ابن عباس : إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق
به من التراب مثقال ذرة فليس من عبد عمل خيراً أو شراً قليلاً أو كثيراً
إلا أراه الله تعالى إياه .
المسألة الثانية : في رواية عن عاصم : { يَرَهُ } برفع الياء وقرأ الباقون : { يَرَهُ } بفتحها وقرأ بعضهم : { يَرَهُ } بالجزم .
المسألة الثالثة : في الآية إشكال وهو أن حسنات
الكافر محبطة بكفره وسيئات المؤمن مغفورة ، إما ابتداء وإما بسبب اجتناب
الكبائر ، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرة من الخير والشر؟ .
واعلم أن المفسرين
أجابوا عنه من وجوه : أحدها : قال أحمد بن كعب القرظي : فمن يعمل مثقال
ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة ، وليس
له فيها شيء ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، ويدل على صحة هذا التأويل ما
روي أنه
عليه السلام قال لأبي بكر : « يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره
فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة »
وثانيها : قال ابن عباس : ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً إلا أراه
الله إياه ، فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر
فترد حسناته ويعذب بسيئاته وثالثها : أن حسنات
الكافر وإن كانت محبطة بكفره ولكن الموازنة معتبرة فتقدر تلك الحسنات
انحبطت من عقاب كفره ، وكذا القول في الجانب الآخر فلا يكون ذلك قادحاً في
عموم الآية ورابعها : أن تخصص
عموم قوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } ونقول :
المراد فمن يعمل من السعداء مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل من الأشقياء
مثقال ذرة شراً يره .
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : إذا كان الأمر إلى هذا الحد فأين الكرم؟ والجواب : هذا هو الكرم ، لأن المعصية وإن قلت ففيها استخفاف ، والكريم لا يحتمله وفي الطاعة تعظيم ، وإن قل فالكريم لا يضيعه ، وكأن الله
سبحانه يقول لا تحسب مثقال الذرة من الخير صغيراً ، فإنك مع لؤمك وضعفك لم
تضيع مني الذرة ، بل اعتبرتها ونظرت فيها ، واستدللت بها على ذاتي وصفاتي
واتخذتها مركباً به وصلت إلي ، فإذا لم تضيع ذرتي أفأضيع ذرتك! ثم التحقيق أن المقصود
هو النية والقصد ، فإذا كان العمل قليلاً لكن النية خالصة فقد حصل المطلوب
، وإن كان العمل كثيراً والنية دائرة فالمقصود فائت ، ومن ذلك ما روى عن
كعب : لا تحقروا شيئاً من المعروف ، فإن رجلاً دخل الجنة بإعارة إبرة في
سبيل الله ، وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت المقدس فدخلت الجنة .
وعن
عائشة : «كانت بين يديها عنب فقدمته إلى نسوة بحضرتها ، فجاء سائل فأمرت
له بحبة من ذلك العنب فضحك بعض من كان عندها ، فقالت : إن فيما ترون مثاقيل
الذرة وتلت هذه الآية» ولعلها كان غرضها التعليم ، وإلا فهي كانت في غاية
السخاوة . روي : «أن ابن الزبير بعث إليها بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين ، فدعت بطبق وجعلت تقسمه بين الناس ، فلما أمست قالت : يا جارية فطوري هلمي
فجاءت بخبز وزيت ، فقيل لها : أما أمسكت لنا درهماً نشتري به لحماً نفطر
عليه ، فقالت : لو ذكرتيني لفعلت ذلك» وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في
رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه
التمرة والكسرة والجوزة ، ويقول ما هذا بشيء ، وإنما نؤجر على ما نعطي!
وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، ويقول : لا شيء علي من هذا إنما الوعيد
بالنار على الكبائر ، فنزلت هذه الآية ترغيباً في القليل من الخير فإنه
يوشك أن يكثر ، وتحذيراً من اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكبر ، ولهذا قال عليه السلام : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة " والله سبحانه وتعالى أعلم ،
وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 6198)
فيه ثلاث مسائل :
الأولى
: قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } كان
ابن عباس يقول : مَن يعمل من الكفار مثقال ذرّة خيراً يَرَهُ في الدنيا ،
ولا يُثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عُوقب عليه في
الآخرة ، مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يَرَهُ في
الدنيا ، ولا يعاقَبْ عليه في الآخرة إذا مات ، ويُتجاوز عنه ، وإن عمل
مثقال ذرّة من خير يُقْبلْ منه ، ويضاعفْ له في الآخرة . وفي بعض الحديث : "
الذرّة لا زِنة لها " وهذا مَثَلٌ ضَرَبه الله تعالى : أنه
لا يُغْفِل من عمل ابن آدم صغيرةً ولا كبيرة . وهو مِثل قوله تعالى : {
إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] . وقد تقدم
الكلام هناك في الذرّ ، وأنه لا وزن له . وذكر بعض أهل اللغة أن الذرّ : أن يضرب
الرجل بيده على الأرض ، فما علِق بها من التراب فهو الذَّرّ ، وكذا قال
ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها ، فكل واحد مما لزق من التراب
ذَرَّة . وقال محمد بن كعب القُرَظِيّ : فمنْ يَعْمَل مِثقْالَ ذَرّة منْ
خَيْر من كافر ، يرى ثوابه في الدنيا ، في نفسه وماله وأهله
وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير . ومن يعمل مثقال ذرّة
من شرّ من مُوْمن ، يرى عُقوبته في الدنيا ، في نفسه وماله وولده وأهله ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شرّ . دليله ما رواه العلماء الأثبات من حديث أنس : أن هذه
الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل ، فأمسك وقال :
يا رسول الله ، وإنا لنُرَى ما عَمِلْنا من خير وشرّ؟ قال : " ما رأيت مما
تكره فهو مثاقيل ذرّ الشرّ ، ويُدَّخَر لكم مثاقيلُ ذَرّ الخير ، حتى
تُعْطَوْه يومَ القِيامة " . قال أبو إدريس : إن مِصْداقه في كتاب الله : {
وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] . وقال مقاتل : نزلت في رجلين ،
وذلك أنه لما نزل { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ } [ الإنسان : 8 ] كان أحدهم يأتيه السائل ، فيستقل أن يعطِيه
التمرة والكِسرة والجوزة . وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، كالكَذبة
والغِيبة والنظْرة ، ويقول : إنما أوعد الله النار على الكبائر؛ فنزلت
ترغبهم في القليل من الخير أن يُعْطُوه؛ فإنه يوشِك أن يكثُر ، ويُحَذِّرهُمْ اليسيرَ من الذنب ، فإنه يوشِك أن يكثُر؛ وقاله سعيد بن جبير . والإِثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال ، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء .
الثانية
: قراءة العامة «يَرَهْ» بفتح الياء فيهما . وقرأ الجَحْدَرِيّ
والسُّلَمِيّ وعيسى ابن عمر وأبان عن عاصم : «يُرَهْ» بضم الياء؛ أي يُريه
اللَّهُ إياه .
والأَوْلَى الاختيار؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ
تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [ آل عمران :
30 ] الآية . وسكن الهاء في قوله «يَرَه» في الموضعين هشام . وكذلك رواه
الكسائي عن أبي بكر وأبي حَيْوة والمغيرة . واختلس يعقوب والزهري والجحدرِي
وشيبة . وأشبع الباقون . وقيل «يَرَه» أي يرى جزاءه؛ لأن ما عمله قد مضى وعُدم فلا يُرَى . وأنشدوا :
إنّ منْ يَعْتدِي ويَكْسِبُ إِثْما ... وَزْنَ مِثْقالِ ذرّة سَيَرَاهُ
ويُجَازَى بفعله الشرَّ شرا ... وبفعل الجميلِ أيضاً جَزَاهُ
هكذا قوله تبارك ربِّي ... في إذا زُلزلت وجَل ثَناه
الثالثة
: قال ابن مسعود : هذه أحكم آية في القرآن؛ وصَدّق . وقد اتفق العلماء على
عموم هذه الآية؛ القائلون بالعموم ومن لَمْ يقل به . وروى كعب الأحبار أنه قال : لقد أنزل
الله على محمد آيتين أحْصَتَا ما في التوراة والإنجيل والزَّبور والصُّحُف
: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } . قال الشيخ أبو مَدْين في قوله تعالى :
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } قال : في الحال قبل
المآل . وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الآية الآية الجامعة
الفاذة؛ كما في الصحيح لما سئل عن الحُمُر وسكت عن البغال ، والجواب فيهما
واحد؛ لأن البغل
والحمار لا كَرّ فيهما ولا فرّ؛ فلما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ما في
الخيل من الأجر الدائم ، والثواب المستمر ، سأل السائل عن الحُمُر ، لأنهم
لم يكن عندهم يومئذٍ بَغْل ، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبيّ صلى
الله عليه وسلم «الدُّلْدُل» ، التي أهداها له المقوقِس ، فأفتاه في
الحَمِير بعموم الآية ، وإن في الحمار مثاقيل ذرّ كثيرة؛ قاله ابن العربيّ .
وفي الموطأ : أن مِسْكيناً
استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عِنَب؛ فقالت لإنسان : خذ حبة فأعطه
إياها . فجعل ينظر إليها ويعجب؛ فقالت : أتعجب! كم ترى في هذه الحبَة من
مثقال ذرّة . وروي عن سعد بن أبي وَقَّاص : أنه
تصدق بتمرتين ، فقبض السائل يده ، فقال للسائل : ويقبل الله منا مثاقيل
الذرّ ، وفي التمرتين مثاقيل ذرّ كثيرة . وروى المُطَّلب بن حَنْطَب : " أن أعرابياً
سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقرأُها فقال : يا رسول الله ، أمثقالُ
ذرّة! قال : «نعم» فقال الأعرابيّ : واسَوْأَتَاه! مِراراً : ثم قام وهو
يقولها؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لقد دَخَلَ قلبَ الأَعْرابيّ
الإيمانُ» " وقال الحسن : قَدِم صعصعة عَمّ الفرزدق على النبيّ صلى الله
عليه وسلم ، فلما سمع { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } الآيات؛ قال :
لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها ، حَسْبي ، فقد انتهت الموعظة؛ ذكره
الثعلبي . ولفظ الماوردِيّ : ورُوي أن صعصعة
بن ناجية جدّ الفرزدق أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستقرئه ، فقرأ عليه
هذه الآية؛ فقال صعصعة : حسبي حسبي؛ إن عَمِلتُ مِثقالَ ذرَّةٍ شَرًّا
رأيتُه . ورَوى مَعمر عن زيد بن أسلم : " أن رجلاً
جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : عَلِّمني مما علمك الله . فدفعه
إلى رجل يعلمه؛ فعلمه { إِذَا زُلْزِلَتِ } حتى إذا بلغ { فَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرّاً يَرَهُ } قال : حسبي . فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :
«دَعُوهُ فإنَّهُ قد فَقُه» " ويحكى أن أعرابياً أخَّر «خَيْراً يَرَهُ» فقيل : قدمت وأخرت . فقال :
خذ بطنَ هَرشَى أو قَفاها فإنهُ ... كِلا جانِبي هَرْشَى لهنّ طرِيق.
(
الثَّانِي ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرٍ مِنْ
الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَدْ تَكُونُ مَعَ الْكَبَائِرِ،
كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :{غُفِرَ لَهُ
وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ }(1) .
وَفِي السُّنَنِ عَنِ
وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ :قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- فِى صَاحِبٍ لَنَا أَوْجَبَ - يَعْنِى - النَّارَ بِالْقَتْلِ
فَقَالَ « أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقِ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ
عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ »(2).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي { حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ }(3)
و " المثقال "
مفعال من الثقل ، ويطلق على الشئ القليل الذى يحتمل الوزن ، و " الذرة "
تطلق على أصغر النمل ، وعلى الغبار الدقيق الذى يتطاير من التراب عند النفخ
فيه . والمقصود المبالغة فى الجزاء على الأعمال مهما بلغ صغرها ، وحقر وزنها .
والفاء : للتفريع على ما تقدم . أى : فى هذا
اليوم يخرج الناس من قبورهم متفرقين لا يلوى أحد على أحد . متجهين إلى
موقف الحساب ليطلعوا على جزاء أعاملهم الدنيوية . . فمن كان منهم قد عمل فى دنياه عملا صالحا رأى ثماره الطيبة ، حتى ولو كان هذا العمل فى نهاية القلة ، ومن كان منهم قد عمل عملا سيئا فى دنياه ، رأى ثماره السيئة ، حتى ولو كان هذا العمل - أيضا - فى أدنى درجات القلة .
فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد جمعتا أسمى وأحكم ألوان الترغيب والترهيب ، ولذا قال كعب الأحبار : لقد أنزل الله - تعلى - على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم آيتين ، أحصتا ما فى التوراة والإِنجيل والزبور والصحف ، ثم قرأ هاتين الآيتين .
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين عددا من الأحاديث ، منها : ما أخرجه الإِمام أحمد . " أن صعصعة بن معاوية ، أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هاتين الآيتين ، فقال : حسبى لا أبالى أن لا أسمع غيرها " وفى صحيح البخارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، ولو بكلمة طيبة " .
وفى الصحيح - أيضاً - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك فى إناء المستقى ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط " .
وكان
صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة : " يا عائشة ، استترى من النار ولو بشق
تمرة ، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان . يا عائشة . إياك ومحقرات
الذنوب ، فإن لها من الله - تعالى - طالبا " .
ومن الآيات الكريمة التى وردت فى معنى
هاتين الآيتين قوله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً
عَظِيماً } وقوله - سبحانه - : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة
فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ
خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا ممن يواظبون على فعل الخيرات .
وفي تفسير الرازي - (ج 17 / ص 163)
وفيه مسائل :
المسألة
الأولى : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أي زنة ذرة قال الكلبي : الذرة أصغر النمل
، وقال ابن عباس : إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق
به من التراب مثقال ذرة فليس من عبد عمل خيراً أو شراً قليلاً أو كثيراً
إلا أراه الله تعالى إياه .
المسألة الثانية : في رواية عن عاصم : { يَرَهُ } برفع الياء وقرأ الباقون : { يَرَهُ } بفتحها وقرأ بعضهم : { يَرَهُ } بالجزم .
المسألة الثالثة : في الآية إشكال وهو أن حسنات
الكافر محبطة بكفره وسيئات المؤمن مغفورة ، إما ابتداء وإما بسبب اجتناب
الكبائر ، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرة من الخير والشر؟ .
واعلم أن المفسرين
أجابوا عنه من وجوه : أحدها : قال أحمد بن كعب القرظي : فمن يعمل مثقال
ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة ، وليس
له فيها شيء ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، ويدل على صحة هذا التأويل ما
روي أنه
عليه السلام قال لأبي بكر : « يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره
فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة »
وثانيها : قال ابن عباس : ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً إلا أراه
الله إياه ، فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر
فترد حسناته ويعذب بسيئاته وثالثها : أن حسنات
الكافر وإن كانت محبطة بكفره ولكن الموازنة معتبرة فتقدر تلك الحسنات
انحبطت من عقاب كفره ، وكذا القول في الجانب الآخر فلا يكون ذلك قادحاً في
عموم الآية ورابعها : أن تخصص
عموم قوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } ونقول :
المراد فمن يعمل من السعداء مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل من الأشقياء
مثقال ذرة شراً يره .
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : إذا كان الأمر إلى هذا الحد فأين الكرم؟ والجواب : هذا هو الكرم ، لأن المعصية وإن قلت ففيها استخفاف ، والكريم لا يحتمله وفي الطاعة تعظيم ، وإن قل فالكريم لا يضيعه ، وكأن الله
سبحانه يقول لا تحسب مثقال الذرة من الخير صغيراً ، فإنك مع لؤمك وضعفك لم
تضيع مني الذرة ، بل اعتبرتها ونظرت فيها ، واستدللت بها على ذاتي وصفاتي
واتخذتها مركباً به وصلت إلي ، فإذا لم تضيع ذرتي أفأضيع ذرتك! ثم التحقيق أن المقصود
هو النية والقصد ، فإذا كان العمل قليلاً لكن النية خالصة فقد حصل المطلوب
، وإن كان العمل كثيراً والنية دائرة فالمقصود فائت ، ومن ذلك ما روى عن
كعب : لا تحقروا شيئاً من المعروف ، فإن رجلاً دخل الجنة بإعارة إبرة في
سبيل الله ، وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت المقدس فدخلت الجنة .
وعن
عائشة : «كانت بين يديها عنب فقدمته إلى نسوة بحضرتها ، فجاء سائل فأمرت
له بحبة من ذلك العنب فضحك بعض من كان عندها ، فقالت : إن فيما ترون مثاقيل
الذرة وتلت هذه الآية» ولعلها كان غرضها التعليم ، وإلا فهي كانت في غاية
السخاوة . روي : «أن ابن الزبير بعث إليها بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين ، فدعت بطبق وجعلت تقسمه بين الناس ، فلما أمست قالت : يا جارية فطوري هلمي
فجاءت بخبز وزيت ، فقيل لها : أما أمسكت لنا درهماً نشتري به لحماً نفطر
عليه ، فقالت : لو ذكرتيني لفعلت ذلك» وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في
رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه
التمرة والكسرة والجوزة ، ويقول ما هذا بشيء ، وإنما نؤجر على ما نعطي!
وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، ويقول : لا شيء علي من هذا إنما الوعيد
بالنار على الكبائر ، فنزلت هذه الآية ترغيباً في القليل من الخير فإنه
يوشك أن يكثر ، وتحذيراً من اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكبر ، ولهذا قال عليه السلام : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة " والله سبحانه وتعالى أعلم ،
وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 6198)
فيه ثلاث مسائل :
الأولى
: قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } كان
ابن عباس يقول : مَن يعمل من الكفار مثقال ذرّة خيراً يَرَهُ في الدنيا ،
ولا يُثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عُوقب عليه في
الآخرة ، مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يَرَهُ في
الدنيا ، ولا يعاقَبْ عليه في الآخرة إذا مات ، ويُتجاوز عنه ، وإن عمل
مثقال ذرّة من خير يُقْبلْ منه ، ويضاعفْ له في الآخرة . وفي بعض الحديث : "
الذرّة لا زِنة لها " وهذا مَثَلٌ ضَرَبه الله تعالى : أنه
لا يُغْفِل من عمل ابن آدم صغيرةً ولا كبيرة . وهو مِثل قوله تعالى : {
إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] . وقد تقدم
الكلام هناك في الذرّ ، وأنه لا وزن له . وذكر بعض أهل اللغة أن الذرّ : أن يضرب
الرجل بيده على الأرض ، فما علِق بها من التراب فهو الذَّرّ ، وكذا قال
ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها ، فكل واحد مما لزق من التراب
ذَرَّة . وقال محمد بن كعب القُرَظِيّ : فمنْ يَعْمَل مِثقْالَ ذَرّة منْ
خَيْر من كافر ، يرى ثوابه في الدنيا ، في نفسه وماله وأهله
وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير . ومن يعمل مثقال ذرّة
من شرّ من مُوْمن ، يرى عُقوبته في الدنيا ، في نفسه وماله وولده وأهله ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شرّ . دليله ما رواه العلماء الأثبات من حديث أنس : أن هذه
الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل ، فأمسك وقال :
يا رسول الله ، وإنا لنُرَى ما عَمِلْنا من خير وشرّ؟ قال : " ما رأيت مما
تكره فهو مثاقيل ذرّ الشرّ ، ويُدَّخَر لكم مثاقيلُ ذَرّ الخير ، حتى
تُعْطَوْه يومَ القِيامة " . قال أبو إدريس : إن مِصْداقه في كتاب الله : {
وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] . وقال مقاتل : نزلت في رجلين ،
وذلك أنه لما نزل { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ } [ الإنسان : 8 ] كان أحدهم يأتيه السائل ، فيستقل أن يعطِيه
التمرة والكِسرة والجوزة . وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، كالكَذبة
والغِيبة والنظْرة ، ويقول : إنما أوعد الله النار على الكبائر؛ فنزلت
ترغبهم في القليل من الخير أن يُعْطُوه؛ فإنه يوشِك أن يكثُر ، ويُحَذِّرهُمْ اليسيرَ من الذنب ، فإنه يوشِك أن يكثُر؛ وقاله سعيد بن جبير . والإِثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال ، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء .
الثانية
: قراءة العامة «يَرَهْ» بفتح الياء فيهما . وقرأ الجَحْدَرِيّ
والسُّلَمِيّ وعيسى ابن عمر وأبان عن عاصم : «يُرَهْ» بضم الياء؛ أي يُريه
اللَّهُ إياه .
والأَوْلَى الاختيار؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ
تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [ آل عمران :
30 ] الآية . وسكن الهاء في قوله «يَرَه» في الموضعين هشام . وكذلك رواه
الكسائي عن أبي بكر وأبي حَيْوة والمغيرة . واختلس يعقوب والزهري والجحدرِي
وشيبة . وأشبع الباقون . وقيل «يَرَه» أي يرى جزاءه؛ لأن ما عمله قد مضى وعُدم فلا يُرَى . وأنشدوا :
إنّ منْ يَعْتدِي ويَكْسِبُ إِثْما ... وَزْنَ مِثْقالِ ذرّة سَيَرَاهُ
ويُجَازَى بفعله الشرَّ شرا ... وبفعل الجميلِ أيضاً جَزَاهُ
هكذا قوله تبارك ربِّي ... في إذا زُلزلت وجَل ثَناه
الثالثة
: قال ابن مسعود : هذه أحكم آية في القرآن؛ وصَدّق . وقد اتفق العلماء على
عموم هذه الآية؛ القائلون بالعموم ومن لَمْ يقل به . وروى كعب الأحبار أنه قال : لقد أنزل
الله على محمد آيتين أحْصَتَا ما في التوراة والإنجيل والزَّبور والصُّحُف
: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } . قال الشيخ أبو مَدْين في قوله تعالى :
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } قال : في الحال قبل
المآل . وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الآية الآية الجامعة
الفاذة؛ كما في الصحيح لما سئل عن الحُمُر وسكت عن البغال ، والجواب فيهما
واحد؛ لأن البغل
والحمار لا كَرّ فيهما ولا فرّ؛ فلما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ما في
الخيل من الأجر الدائم ، والثواب المستمر ، سأل السائل عن الحُمُر ، لأنهم
لم يكن عندهم يومئذٍ بَغْل ، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبيّ صلى
الله عليه وسلم «الدُّلْدُل» ، التي أهداها له المقوقِس ، فأفتاه في
الحَمِير بعموم الآية ، وإن في الحمار مثاقيل ذرّ كثيرة؛ قاله ابن العربيّ .
وفي الموطأ : أن مِسْكيناً
استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عِنَب؛ فقالت لإنسان : خذ حبة فأعطه
إياها . فجعل ينظر إليها ويعجب؛ فقالت : أتعجب! كم ترى في هذه الحبَة من
مثقال ذرّة . وروي عن سعد بن أبي وَقَّاص : أنه
تصدق بتمرتين ، فقبض السائل يده ، فقال للسائل : ويقبل الله منا مثاقيل
الذرّ ، وفي التمرتين مثاقيل ذرّ كثيرة . وروى المُطَّلب بن حَنْطَب : " أن أعرابياً
سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقرأُها فقال : يا رسول الله ، أمثقالُ
ذرّة! قال : «نعم» فقال الأعرابيّ : واسَوْأَتَاه! مِراراً : ثم قام وهو
يقولها؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لقد دَخَلَ قلبَ الأَعْرابيّ
الإيمانُ» " وقال الحسن : قَدِم صعصعة عَمّ الفرزدق على النبيّ صلى الله
عليه وسلم ، فلما سمع { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } الآيات؛ قال :
لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها ، حَسْبي ، فقد انتهت الموعظة؛ ذكره
الثعلبي . ولفظ الماوردِيّ : ورُوي أن صعصعة
بن ناجية جدّ الفرزدق أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستقرئه ، فقرأ عليه
هذه الآية؛ فقال صعصعة : حسبي حسبي؛ إن عَمِلتُ مِثقالَ ذرَّةٍ شَرًّا
رأيتُه . ورَوى مَعمر عن زيد بن أسلم : " أن رجلاً
جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : عَلِّمني مما علمك الله . فدفعه
إلى رجل يعلمه؛ فعلمه { إِذَا زُلْزِلَتِ } حتى إذا بلغ { فَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرّاً يَرَهُ } قال : حسبي . فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :
«دَعُوهُ فإنَّهُ قد فَقُه» " ويحكى أن أعرابياً أخَّر «خَيْراً يَرَهُ» فقيل : قدمت وأخرت . فقال :
خذ بطنَ هَرشَى أو قَفاها فإنهُ ... كِلا جانِبي هَرْشَى لهنّ طرِيق.
(
الثَّانِي ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرٍ مِنْ
الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَدْ تَكُونُ مَعَ الْكَبَائِرِ،
كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :{غُفِرَ لَهُ
وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ }(1) .
وَفِي السُّنَنِ عَنِ
وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ :قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- فِى صَاحِبٍ لَنَا أَوْجَبَ - يَعْنِى - النَّارَ بِالْقَتْلِ
فَقَالَ « أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقِ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ
عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ »(2).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي { حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ }(3)
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
(1) - سنن أبى داود برقم(1519 ) عن بِلاَلِ بْنِ يَسَارِ بْنِ زَيْدٍ
مَوْلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ سَمِعْتُ أَبِى
يُحَدِّثُنِيهِ عَنْ جَدِّى أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- يَقُولُ « مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِى لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ
كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ » وهو صحيح .
وفي تحفة الأحوذي - (ج 8 / ص 475)
قَالَ
الطِّيبِيُّ : الزَّحْفُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الَّذِي يُرَى لِكَثْرَتِهِ
كَأَنَّهُ يَزْحَفُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ زَحَفَ الصَّبِيُّ إِذَا
دَبَّ عَلَى اِسْتِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا . وَقَالَ الْمُظْهِرُ هُوَ
اِجْتِمَاعُ الْجَيْشِ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ أَيْ مِنْ حَرْبِ الْكُفَّارِ
حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْفِرَارُ بِأَنْ لَا يَزِيدَ الْكُفَّارُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَوَى التَّحَرُّفَ
وَالتَّحَيُّزَ .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 59)
وَمِنْ
أَوْضَح مَا وَقَعَ فِي فَضْل الِاسْتِغْفَار مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ
وَغَيْره مِنْ حَدِيث يَسَار وَغَيْره مَرْفُوعًا " مَنْ قَالَ
أَسْتَغْفِر اللَّه الْعَظِيم الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ
الْقَيُّوم وَأَتُوب إِلَيْهِ غُفِرَتْ ذُنُوبه وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ
الزَّحْف " قَالَ أَبُو نُعَيْم الْأَصْبِهَانِيّ : هَذَا يَدُلّ عَلَى
أَنَّ بَعْض الْكَبَائِر تُغْفَر بِبَعْضِ الْعَمَل الصَّالِح ، وَضَابِطه
الذُّنُوب الَّتِي لَا تُوجِب عَلَى مُرْتَكِبهَا حُكْمًا فِي نَفْس وَلَا
مَال ، وَوَجْه الدَّلَالَة مِنْهُ أَنَّهُ مَثَّلَ بِالْفِرَارِ مِنْ
الزَّحْف وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِر ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِثْله
أَوْ دُونه يُغْفَر إِذَا كَانَ مِثْل الْفِرَار مِنْ الزَّحْف ، فَإِنَّهُ
لَا يُوجِب عَلَى مُرْتَكِبه حُكْمًا فِي نَفْس وَلَا مَال .
(2) - سنن أبى داود برقم(3966 ) وهو حسن لغيره
عون المعبود - (ج 8 / ص 487)
( أَعْتِقُوا عَنْهُ ) : أَيْ عَنْ قَتْله وَعِوَضه
( بِكُلِّ عُضْو مِنْهُ ) : أَيْ مِنْ الْعَبْد الْمُعْتَق بِفَتْحِ التَّاء
( عُضْوًا مِنْهُ ) : أَيْ مِنْ الْقَاتِل
(
مِنْ النَّار ) : مُتَعَلِّق بِيُعْتِق وَلَعَلَّ الْمَقْتُول كَانَ مِنْ
الْمُعَاهَدِينَ وَقَدْ قَتَلَهُ خَطَأً وَظَنُّوا أَنَّ الْخَطَأ مُوجِب
لِلنَّارِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَوْع تَقْصِير حَيْثُ لَمْ يَذْهَب طَرِيق
الْحَزْم وَالِاحْتِيَاط كَذَا فِي الْمِرْقَاة .
(3) - صحيح البخارى برقم(1237 ) وصحيح مسلم برقم(282)
عَنْ
أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم - « أَتَانِى آتٍ مِنْ رَبِّى فَأَخْبَرَنِى - أَوْ قَالَ
بَشَّرَنِى - أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ
شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ » . قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ «
وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ » .
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 201)
وَأَمَّا
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ
)فَهُوَ حُجَّة لِمَذْهَبِ أَهْل السَّنَة أَنَّ أَصْحَاب الْكَبَائِر لَا
يُقْطَع لَهُمْ بِالنَّارِ ، وَأَنَّهُمْ إِنْ دَخَلُوهَا أُخْرِجُوا
مِنْهَا وَخُتِمَ لَهُمْ بِالْخُلُودِ فِي الْجَنَّة . وَقَدْ تَقَدَّمَ
هَذَا كُلّه مَبْسُوطًا . وَاَللَّه أَعْلَم .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 4 / ص 261)
قَوْله
: ( فَقُلْت وَإِنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ ) قَدْ يَتَبَادَر إِلَى الذِّهْن
أَنَّ قَائِل ذَلِكَ هُوَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمَقُول لَهُ الْمَلَك الَّذِي بَشَّرَهُ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ،
بَلْ الْقَائِل هُوَ أَبُو ذَرّ وَالْمَقُول لَهُ هُوَ النَّبِيّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُؤَلِّف فِي اللِّبَاس .
وَلِلتِّرْمِذِيِّ " قَالَ أَبُو ذَرّ يَا رَسُول اللَّه " وَيُمْكِن أَنْ
يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ مُسْتَوْضِحًا
وَأَبُو ذَرّ قَالَهُ مُسْتَبْعِدًا ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنهمَا فِي
الرِّقَاق مِنْ طَرِيق زَيْد بْن وَهْب عَنْ أَبِي ذَرّ . قَالَ الزَّيْن
بْن الْمُنِير : حَدِيث أَبِي ذَرّ مِنْ أَحَادِيث الرَّجَاء الَّتِي
أَفْضَى الِاتِّكَال عَلَيْهَا بِبَعْضِ الْجَهَلَة إِلَى الْإِقْدَام
عَلَى الْمُوبِقَات ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِره فَإِنَّ الْقَوَاعِد
اِسْتَقَرَّتْ عَلَى أَنَّ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ لَا تَسْقُط بِمُجَرَّدِ
الْمَوْت عَلَى الْإِيمَان ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَم مِنْ عَدَم سُقُوطهَا
أَنْ لَا يَتَكَفَّل اللَّه بِهَا عَمَّنْ يُرِيد أَنْ يُدْخِلهُ الْجَنَّة
، وَمِنْ ثَمَّ رَدَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي ذَرّ
اِسْتِبْعَاده . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " دَخَلَ
الْجَنَّة " أَيْ صَارَ إِلَيْهَا إِمَّا اِبْتِدَاء مِنْ أَوَّل الْحَال
وَإِمَّا بَعْد أَنْ يَقَع مَا يَقَع مِنْ الْعَذَاب ، نَسْأَل اللَّه
الْعَفْو وَالْعَافِيَة . وَفِي هَذَا الْحَدِيث " مَنْ قَالَ لَا إِلَه
إِلَّا اللَّه نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنْ الدَّهْر ، أَصَابَهُ قَبْل ذَلِكَ
مَا أَصَابَهُ " وَسَيَأْتِي بَيَان حَاله فِي كِتَاب الرِّقَاق . وَفِي
الْحَدِيث أَنَّ أَصْحَاب الْكَبَائِر لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّار ،
وَأَنَّ الْكَبَائِر لَا تَسْلُب اِسْم الْإِيمَان ، وَأَنَّ غَيْر
الْمُوَحِّدِينَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّة . وَالْحِكْمَة فِي
الِاقْتِصَار عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَة الْإِشَارَة إِلَى جِنْس حَقّ
اللَّه تَعَالَى وَحَقّ الْعِبَاد ، وَكَأَنَّ أَبَا ذَرّ اِسْتَحْضَرَ
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين
يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِن " لِأَنَّ ظَاهِره مُعَارِض لِظَاهِرِ هَذَا
الْخَبَر ، لَكِنَّ الْجَمْع بَيْنهمَا عَلَى قَوَاعِد أَهْل السُّنَّة
بِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْإِيمَان الْكَامِل وَبِحَمْلِ حَدِيث الْبَاب
عَلَى عَدَم التَّخْلِيد فِي النَّار . قَوْله : ( عَلَى رَغْم أَنْف أَبِي
ذَرّ ) بِفَتْحِ الرَّاء وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَيُقَال بِضَمِّهَا
وَكَسْرهَا ، وَهُوَ مَصْدَر رَغَمَ بِفَتْحِ الْغَيْن وَكَسْرهَا مَأْخُوذ
مِنْ الرَّغْم وَهُوَ التُّرَاب ، وَكَأَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ بِأَنْ
يُلْصَق أَنْفه بِالتُّرَابِ .
مشكل الآثار للطحاوي - (ج 8 / ص 489)
باب
بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوابه لمن قال له
بعد قوله : « من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة » : وإن زنى ، وإن سرق ؟
وبقوله له : « وإن زنى ، وإن سرق »
3366 - حدثنا أبو أمية ، وفهد
، قالا : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا
الأعمش ، قال : حدثنا زيد بن وهب ، قال : حدثنا والله أبو ذر بالربذة ، قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتاني جبريل صلى الله عليه وسلم
فأخبرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله عز وجل شيئا دخل الجنة » قلت : يا رسول الله ، وإن زنى وإن سرق ؟ قال : « وإن زنى ، وإن سرق »
3367
- وحدثنا أبو أمية ، وفهد ، قالا : حدثنا عمر بن حفص ، قال : حدثنا أبي ،
عن الأعمش ، قال : حدثني أبو صالح ، عن أبي الدرداء نحوه ، قال : قلت : يا
رسول الله ، وإن زنى وإن سرق ؟ قال : « وإن زنى وإن سرق ، وإن رغم أنف
أبي الدرداء » وحدثنا أبو أمية وفهد ، قالا : حدثنا عمر بن حفص ، قال :
حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : قلت لزيد بن وهب ، يعني لما حدثه
الحديث الذي ذكرناه في أول هذا الباب أنه بلغني أنه
أبو الدرداء ، فقال : أشهد لحدثنيه أبو ذر بالربذة وحدثنا بكار بن قتيبة ،
قال : حدثنا أبو داود ح وحدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا مسلم بن
إبراهيم الأزدي ، قالا : حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن حماد ، عن زيد بن
وهب ، عن أبي ذر ، قال حماد : ما بيني وبين أبي ذر غيره ، قال : « انطلق
رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الغرقد ، وانطلقت معه ، ثم ذكر مثل
الحديث الأول سواء حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، عن حاتم بن
أبي صغيرة ، قال : حدثنا حبيب بن أبي ثابت ، أن أبا
سليمان الجهني حدثه ، قال : حدثني أبو ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، ثم ذكر مثله حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ،
وعبيد الله بن موسى العبسي ، قالا : حدثنا مهدي بن ميمون ، عن واصل الأحدب
، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر ، ثم ذكر عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم مثله ، غير أنه قال : » أتاني آت من ربي عز وجل « ولم يذكر جبريل صلى الله عليه وسلم
3368
- وحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا الحسن بن موسى الأشيب ، قال : حدثنا
شيبان يعني النحوي ، عن منصور بن المعتمر ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن سلمة
بن نعيم وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : « من لقي الله عز وجل لا يشرك به شيئا ، دخل الجنة
وإن زنى وإن سرق »
3369 - وحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أبو عمر الحوضي
، قال : حدثنا مرجى بن رجاء ، عن محمد بن الزبير ، عن رجاء بن حيوة ، عن
أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « قال
جبريل عليه السلام : » من قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنة « قال : قلت :
وإن زنى وإن سرق ؟ قال : » وإن زنى وإن سرق «
3370 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، قال : حدثنا أبو المليح ، عن يزيد بن يزيد ، عن يزيد بن
الأصم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : « ولمن خاف مقام ربه جنتان ( سورة :
الرحمن آية رقم : 46) ، قال : يا رسول الله : وإن زنى وإن سرق ؟ قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : » وإن زنى وإن سرق ، وإن رغم أنف أبي هريرة «
3371
- وحدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى القطان ،
قال : حدثنا نعيم بن حكيم ، قال : حدثني أبو مريم ، قال : سمعت أبا الدرداء
يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « من شهد أن لا
إله إلا الله ، أو مات لا يشرك بالله عز وجل شيئا ، دخل الجنة ، أو لم
يدخل النار » قال : قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : « وإن زنى وإن سرق ، وإن
رغم أنف أبي الدرداء »
3372
- حدثنا أبو أمية ، قال حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا حماد ، قال :
أخبرنا أبو عمران ، عن أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه أبي موسى أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه ، فقال : « أبشروا وبشروا من وراءكم ، أنه
من قال : لا إله إلا الله صادقا بها دخل الجنة » فخرجوا يبشرون الناس ،
فلقيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبشروه ، فردهم ، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : « من ردكم ؟ » فقالوا : ردنا عمر ، فقال : « لم رددتهم يا عمر ؟
» قال : إذا يتكل ( الاتكال : الاعتماد على رحمة الله والتكاسل في العمل)
الناس يا رسول الله « وفيما ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب ما يغني عن
الكلام في هذا الباب غير أنا نأتي في هذا الباب بمعنى فيه توكيد ما جئنا به في ذلك الباب إن شاء الله وهو أنه إذا كان من قال : » لا إله إلا الله « قد قالها عارفا بما يجب على أهلها ، فقد قالها وهو عارف بمقام الله عز وجل وبما يرجوه أهلها عند خوفهم خلافه والخروج عن أمره ، وفي ذلك ما يدل على أن حال
الزنى وحال السرقة اللذين كانا منه قد زال عنهما إلى ضدهما على ما قد
ذكرنا في ذلك الباب الأول ، ودل على ذلك أيضا ما في حديث أبي موسى الذي
ذكرناه في هذا الباب أنه
من قال : لا إله إلا الله صادقا بها وكان معنى قوله : » صادقا بها « والله
أعلم أي : موفيا لها حقها ، وقد ذكرنا في هذا الباب أيضا حديث يزيد بن
الأصم عن أبي هريرة : ولمن خاف مقام ربه جنتان (سورة : الرحمن آية رقم :
46) ، وقد كان الباب الأول أولى به ، فذهب عنا ذكره هناك ، فذكرناه هاهنا ؛
لأن البابين
جميعا من جنس واحد وقد سأل سائل عن معنى قول الله : فأولئك يبدل الله
سيئاتهم حسنات ( سورة : الفرقان آية رقم : 70) ، ما قيل في ذلك ؟ فكان
جوابنا له في ذلك والله عز وجل نسأله التوفيق أن الذي وجدناه عن المتقدمين فيه :
3373
- ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن
إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد : فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ( سورة :
الفرقان آية رقم : 70) ، قال : « الإيمان مكان الكفر » والذي وجدناه مما
يقوله أهل العربية فيه أن ذلك على الحذف ، وأنه
بمعنى : أولئك الذين يبدل الله مكان سيئاتهم حسنات ، فحذف ، كمثل قوله عز
وجل : واسأل القرية التي كنا فيها ( سورة : يوسف آية رقم : 82) ، بمعنى :
واسأل أهل القرية التي كنا فيها ، فحذف ذكر أهل القرية ، وهم المرادون ، والله أعلم ، وبه التوفيق
وفي تأويل مختلف الحديث - (ج 1 / ص 49)
قالوا: حديثان متناقضان، قالوا: رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ثم رويتم أنه قال: من قال لا غله إلا الله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق. وفي هذا تناقض واختلاف.
قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس ههنا بنعمة الله تناقض ولا اختلاف لأن الإيمان في اللغة التصديق يقول الله تعالى: " وما أنت
بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " أي بمصدق لنا ومنه قول الناس ما أومن بشيء مما
تقول أي ما أصدق به. والموصوف بالإيمان ثلاثة نفر رجل صدق بلسانه دون قلبه
كالمنافقين فيقول قد آمن كما قال الله تعالى في المنافقين: " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا " وقال: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى " ثم قال: " من آمن منهم بالله واليوم الآخر " لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولو كان أراد بالذين آمنوا ههنا المسلمين لم يقل: " من آمن بالله واليوم الآخر " لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وإنما أراد المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم والذين هادوا والنصارى ولا نقول له مؤمن كما أنا لا نقول للمنافقين مؤمنون وإن قلنا قد آمنوا لأن إيمانهم لم يكن عن عقد ولا نية وكذلك نقول لعاصي الأنبياء صلى الله عليهم وسلم عصى وغوى ولا نقول عاص ولا غاو لأن ذنبه لم يكن عن إرهاص ولا عقد كذنوب أعداء الله عز وجل.
ورجل
صدق بلسانه وقلبه مع تدنس بالذنوب وتقصير في الطاعات من غير إصرار فنقول:
قد آمن وهو مؤمن ما تناهى عن الكبائر فإذا لا بسها لم يكن في حال الملابسة
مؤمناً يريد مستكمل الإيمان. ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن يريد في وقته ذلك لأنه قبل ذلك الوقت غير مصر فهو مؤمن وبهد ذلك الوقت غير مصر فهو مؤمن تائب ومما يزيد في وضوح هذا الحديث الآخر إذا زنى سلب الإيمان فإن تاب ألبسه.
ورجل
صدق بلسانه وقلبه وأدى الفرائض واجتنب الكبائر فذلك المؤمن حفاً المستكمل
شرائط الإيمان وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يؤمن من لم يأمن
جاره بوائقه يريد ليس بمستكمل الإيمان وقال: لم يؤمن من لم يأمن المسلمون
من لسانه ويده أي ليس بمستكمل الإيمان وقال: لم يؤمن ن بات شبعان وبات جاره
طاوياً أي لم يستكمل الإيمان. وهذا شبيه بقوله: لا وضوء لمن لم يذكر اسم
الله تعالى عليه يريد لا كمال وضوء ولا فضيلة وضوء. وكذلك قول عمر رضي الله
عنه: لا إيمان لمن لم يحج. يريد لا كمال إيمان والناس يقولون فلان لا عقل
له. يريدون ليس هو مستكمل العقل ولا دين له أي ليس بمستكمل الدين.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق فإنه لا يخلو من وجهين أحدهما أن يكون قاله على العاقبة يريد أن عاقبة أمره إلى الجنة وإن عذب بالزنا والسرقة. والآخر أن تلحقه رحمة الله تعالى وشفاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيصير إلى الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله. حدثني إسحق بن إبراهيم ابن حبيب بن الشهيد عن أبيه عن جده عن الحسن أنه قال: لا إله إلا الله ثمن الجنة. وحدثني محمد بن يحيى القطعي قال: أنا
عمر بن علي عن موسى ابن المسيب الثقفي قال: سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث
عن المعرور بن سويد عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول ربكم
ابن آدم إنك إن تأتني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا تشرك بي شيئاً جعلت لك قرابها مغفرة ولا أبالي. وحدثني أبو مسعود الدرامي هو من ولد خراش قال: حدثني جدي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكثر لعلكم ترون أن شفاعتي للمتقين لا ولكنها للمتلطخين بالذنوب.
مَوْلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ سَمِعْتُ أَبِى
يُحَدِّثُنِيهِ عَنْ جَدِّى أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- يَقُولُ « مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِى لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ
كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ » وهو صحيح .
وفي تحفة الأحوذي - (ج 8 / ص 475)
قَالَ
الطِّيبِيُّ : الزَّحْفُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الَّذِي يُرَى لِكَثْرَتِهِ
كَأَنَّهُ يَزْحَفُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ زَحَفَ الصَّبِيُّ إِذَا
دَبَّ عَلَى اِسْتِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا . وَقَالَ الْمُظْهِرُ هُوَ
اِجْتِمَاعُ الْجَيْشِ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ أَيْ مِنْ حَرْبِ الْكُفَّارِ
حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْفِرَارُ بِأَنْ لَا يَزِيدَ الْكُفَّارُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَوَى التَّحَرُّفَ
وَالتَّحَيُّزَ .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 59)
وَمِنْ
أَوْضَح مَا وَقَعَ فِي فَضْل الِاسْتِغْفَار مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ
وَغَيْره مِنْ حَدِيث يَسَار وَغَيْره مَرْفُوعًا " مَنْ قَالَ
أَسْتَغْفِر اللَّه الْعَظِيم الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ
الْقَيُّوم وَأَتُوب إِلَيْهِ غُفِرَتْ ذُنُوبه وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ
الزَّحْف " قَالَ أَبُو نُعَيْم الْأَصْبِهَانِيّ : هَذَا يَدُلّ عَلَى
أَنَّ بَعْض الْكَبَائِر تُغْفَر بِبَعْضِ الْعَمَل الصَّالِح ، وَضَابِطه
الذُّنُوب الَّتِي لَا تُوجِب عَلَى مُرْتَكِبهَا حُكْمًا فِي نَفْس وَلَا
مَال ، وَوَجْه الدَّلَالَة مِنْهُ أَنَّهُ مَثَّلَ بِالْفِرَارِ مِنْ
الزَّحْف وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِر ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِثْله
أَوْ دُونه يُغْفَر إِذَا كَانَ مِثْل الْفِرَار مِنْ الزَّحْف ، فَإِنَّهُ
لَا يُوجِب عَلَى مُرْتَكِبه حُكْمًا فِي نَفْس وَلَا مَال .
(2) - سنن أبى داود برقم(3966 ) وهو حسن لغيره
عون المعبود - (ج 8 / ص 487)
( أَعْتِقُوا عَنْهُ ) : أَيْ عَنْ قَتْله وَعِوَضه
( بِكُلِّ عُضْو مِنْهُ ) : أَيْ مِنْ الْعَبْد الْمُعْتَق بِفَتْحِ التَّاء
( عُضْوًا مِنْهُ ) : أَيْ مِنْ الْقَاتِل
(
مِنْ النَّار ) : مُتَعَلِّق بِيُعْتِق وَلَعَلَّ الْمَقْتُول كَانَ مِنْ
الْمُعَاهَدِينَ وَقَدْ قَتَلَهُ خَطَأً وَظَنُّوا أَنَّ الْخَطَأ مُوجِب
لِلنَّارِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَوْع تَقْصِير حَيْثُ لَمْ يَذْهَب طَرِيق
الْحَزْم وَالِاحْتِيَاط كَذَا فِي الْمِرْقَاة .
(3) - صحيح البخارى برقم(1237 ) وصحيح مسلم برقم(282)
عَنْ
أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم - « أَتَانِى آتٍ مِنْ رَبِّى فَأَخْبَرَنِى - أَوْ قَالَ
بَشَّرَنِى - أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ
شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ » . قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ «
وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ » .
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 201)
وَأَمَّا
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ
)فَهُوَ حُجَّة لِمَذْهَبِ أَهْل السَّنَة أَنَّ أَصْحَاب الْكَبَائِر لَا
يُقْطَع لَهُمْ بِالنَّارِ ، وَأَنَّهُمْ إِنْ دَخَلُوهَا أُخْرِجُوا
مِنْهَا وَخُتِمَ لَهُمْ بِالْخُلُودِ فِي الْجَنَّة . وَقَدْ تَقَدَّمَ
هَذَا كُلّه مَبْسُوطًا . وَاَللَّه أَعْلَم .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 4 / ص 261)
قَوْله
: ( فَقُلْت وَإِنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ ) قَدْ يَتَبَادَر إِلَى الذِّهْن
أَنَّ قَائِل ذَلِكَ هُوَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمَقُول لَهُ الْمَلَك الَّذِي بَشَّرَهُ بِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ،
بَلْ الْقَائِل هُوَ أَبُو ذَرّ وَالْمَقُول لَهُ هُوَ النَّبِيّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُؤَلِّف فِي اللِّبَاس .
وَلِلتِّرْمِذِيِّ " قَالَ أَبُو ذَرّ يَا رَسُول اللَّه " وَيُمْكِن أَنْ
يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ مُسْتَوْضِحًا
وَأَبُو ذَرّ قَالَهُ مُسْتَبْعِدًا ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنهمَا فِي
الرِّقَاق مِنْ طَرِيق زَيْد بْن وَهْب عَنْ أَبِي ذَرّ . قَالَ الزَّيْن
بْن الْمُنِير : حَدِيث أَبِي ذَرّ مِنْ أَحَادِيث الرَّجَاء الَّتِي
أَفْضَى الِاتِّكَال عَلَيْهَا بِبَعْضِ الْجَهَلَة إِلَى الْإِقْدَام
عَلَى الْمُوبِقَات ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِره فَإِنَّ الْقَوَاعِد
اِسْتَقَرَّتْ عَلَى أَنَّ حُقُوق الْآدَمِيِّينَ لَا تَسْقُط بِمُجَرَّدِ
الْمَوْت عَلَى الْإِيمَان ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَم مِنْ عَدَم سُقُوطهَا
أَنْ لَا يَتَكَفَّل اللَّه بِهَا عَمَّنْ يُرِيد أَنْ يُدْخِلهُ الْجَنَّة
، وَمِنْ ثَمَّ رَدَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي ذَرّ
اِسْتِبْعَاده . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " دَخَلَ
الْجَنَّة " أَيْ صَارَ إِلَيْهَا إِمَّا اِبْتِدَاء مِنْ أَوَّل الْحَال
وَإِمَّا بَعْد أَنْ يَقَع مَا يَقَع مِنْ الْعَذَاب ، نَسْأَل اللَّه
الْعَفْو وَالْعَافِيَة . وَفِي هَذَا الْحَدِيث " مَنْ قَالَ لَا إِلَه
إِلَّا اللَّه نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنْ الدَّهْر ، أَصَابَهُ قَبْل ذَلِكَ
مَا أَصَابَهُ " وَسَيَأْتِي بَيَان حَاله فِي كِتَاب الرِّقَاق . وَفِي
الْحَدِيث أَنَّ أَصْحَاب الْكَبَائِر لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّار ،
وَأَنَّ الْكَبَائِر لَا تَسْلُب اِسْم الْإِيمَان ، وَأَنَّ غَيْر
الْمُوَحِّدِينَ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّة . وَالْحِكْمَة فِي
الِاقْتِصَار عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَة الْإِشَارَة إِلَى جِنْس حَقّ
اللَّه تَعَالَى وَحَقّ الْعِبَاد ، وَكَأَنَّ أَبَا ذَرّ اِسْتَحْضَرَ
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين
يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِن " لِأَنَّ ظَاهِره مُعَارِض لِظَاهِرِ هَذَا
الْخَبَر ، لَكِنَّ الْجَمْع بَيْنهمَا عَلَى قَوَاعِد أَهْل السُّنَّة
بِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْإِيمَان الْكَامِل وَبِحَمْلِ حَدِيث الْبَاب
عَلَى عَدَم التَّخْلِيد فِي النَّار . قَوْله : ( عَلَى رَغْم أَنْف أَبِي
ذَرّ ) بِفَتْحِ الرَّاء وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَيُقَال بِضَمِّهَا
وَكَسْرهَا ، وَهُوَ مَصْدَر رَغَمَ بِفَتْحِ الْغَيْن وَكَسْرهَا مَأْخُوذ
مِنْ الرَّغْم وَهُوَ التُّرَاب ، وَكَأَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ بِأَنْ
يُلْصَق أَنْفه بِالتُّرَابِ .
مشكل الآثار للطحاوي - (ج 8 / ص 489)
باب
بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوابه لمن قال له
بعد قوله : « من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة » : وإن زنى ، وإن سرق ؟
وبقوله له : « وإن زنى ، وإن سرق »
3366 - حدثنا أبو أمية ، وفهد
، قالا : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا
الأعمش ، قال : حدثنا زيد بن وهب ، قال : حدثنا والله أبو ذر بالربذة ، قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتاني جبريل صلى الله عليه وسلم
فأخبرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله عز وجل شيئا دخل الجنة » قلت : يا رسول الله ، وإن زنى وإن سرق ؟ قال : « وإن زنى ، وإن سرق »
3367
- وحدثنا أبو أمية ، وفهد ، قالا : حدثنا عمر بن حفص ، قال : حدثنا أبي ،
عن الأعمش ، قال : حدثني أبو صالح ، عن أبي الدرداء نحوه ، قال : قلت : يا
رسول الله ، وإن زنى وإن سرق ؟ قال : « وإن زنى وإن سرق ، وإن رغم أنف
أبي الدرداء » وحدثنا أبو أمية وفهد ، قالا : حدثنا عمر بن حفص ، قال :
حدثنا أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : قلت لزيد بن وهب ، يعني لما حدثه
الحديث الذي ذكرناه في أول هذا الباب أنه بلغني أنه
أبو الدرداء ، فقال : أشهد لحدثنيه أبو ذر بالربذة وحدثنا بكار بن قتيبة ،
قال : حدثنا أبو داود ح وحدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا مسلم بن
إبراهيم الأزدي ، قالا : حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن حماد ، عن زيد بن
وهب ، عن أبي ذر ، قال حماد : ما بيني وبين أبي ذر غيره ، قال : « انطلق
رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الغرقد ، وانطلقت معه ، ثم ذكر مثل
الحديث الأول سواء حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، عن حاتم بن
أبي صغيرة ، قال : حدثنا حبيب بن أبي ثابت ، أن أبا
سليمان الجهني حدثه ، قال : حدثني أبو ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، ثم ذكر مثله حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ،
وعبيد الله بن موسى العبسي ، قالا : حدثنا مهدي بن ميمون ، عن واصل الأحدب
، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر ، ثم ذكر عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم مثله ، غير أنه قال : » أتاني آت من ربي عز وجل « ولم يذكر جبريل صلى الله عليه وسلم
3368
- وحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا الحسن بن موسى الأشيب ، قال : حدثنا
شيبان يعني النحوي ، عن منصور بن المعتمر ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن سلمة
بن نعيم وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : « من لقي الله عز وجل لا يشرك به شيئا ، دخل الجنة
وإن زنى وإن سرق »
3369 - وحدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا أبو عمر الحوضي
، قال : حدثنا مرجى بن رجاء ، عن محمد بن الزبير ، عن رجاء بن حيوة ، عن
أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « قال
جبريل عليه السلام : » من قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنة « قال : قلت :
وإن زنى وإن سرق ؟ قال : » وإن زنى وإن سرق «
3370 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، قال : حدثنا أبو المليح ، عن يزيد بن يزيد ، عن يزيد بن
الأصم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : « ولمن خاف مقام ربه جنتان ( سورة :
الرحمن آية رقم : 46) ، قال : يا رسول الله : وإن زنى وإن سرق ؟ قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : » وإن زنى وإن سرق ، وإن رغم أنف أبي هريرة «
3371
- وحدثنا أحمد بن داود ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى القطان ،
قال : حدثنا نعيم بن حكيم ، قال : حدثني أبو مريم ، قال : سمعت أبا الدرداء
يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « من شهد أن لا
إله إلا الله ، أو مات لا يشرك بالله عز وجل شيئا ، دخل الجنة ، أو لم
يدخل النار » قال : قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : « وإن زنى وإن سرق ، وإن
رغم أنف أبي الدرداء »
3372
- حدثنا أبو أمية ، قال حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا حماد ، قال :
أخبرنا أبو عمران ، عن أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه أبي موسى أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه ، فقال : « أبشروا وبشروا من وراءكم ، أنه
من قال : لا إله إلا الله صادقا بها دخل الجنة » فخرجوا يبشرون الناس ،
فلقيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبشروه ، فردهم ، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : « من ردكم ؟ » فقالوا : ردنا عمر ، فقال : « لم رددتهم يا عمر ؟
» قال : إذا يتكل ( الاتكال : الاعتماد على رحمة الله والتكاسل في العمل)
الناس يا رسول الله « وفيما ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب ما يغني عن
الكلام في هذا الباب غير أنا نأتي في هذا الباب بمعنى فيه توكيد ما جئنا به في ذلك الباب إن شاء الله وهو أنه إذا كان من قال : » لا إله إلا الله « قد قالها عارفا بما يجب على أهلها ، فقد قالها وهو عارف بمقام الله عز وجل وبما يرجوه أهلها عند خوفهم خلافه والخروج عن أمره ، وفي ذلك ما يدل على أن حال
الزنى وحال السرقة اللذين كانا منه قد زال عنهما إلى ضدهما على ما قد
ذكرنا في ذلك الباب الأول ، ودل على ذلك أيضا ما في حديث أبي موسى الذي
ذكرناه في هذا الباب أنه
من قال : لا إله إلا الله صادقا بها وكان معنى قوله : » صادقا بها « والله
أعلم أي : موفيا لها حقها ، وقد ذكرنا في هذا الباب أيضا حديث يزيد بن
الأصم عن أبي هريرة : ولمن خاف مقام ربه جنتان (سورة : الرحمن آية رقم :
46) ، وقد كان الباب الأول أولى به ، فذهب عنا ذكره هناك ، فذكرناه هاهنا ؛
لأن البابين
جميعا من جنس واحد وقد سأل سائل عن معنى قول الله : فأولئك يبدل الله
سيئاتهم حسنات ( سورة : الفرقان آية رقم : 70) ، ما قيل في ذلك ؟ فكان
جوابنا له في ذلك والله عز وجل نسأله التوفيق أن الذي وجدناه عن المتقدمين فيه :
3373
- ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن
إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد : فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ( سورة :
الفرقان آية رقم : 70) ، قال : « الإيمان مكان الكفر » والذي وجدناه مما
يقوله أهل العربية فيه أن ذلك على الحذف ، وأنه
بمعنى : أولئك الذين يبدل الله مكان سيئاتهم حسنات ، فحذف ، كمثل قوله عز
وجل : واسأل القرية التي كنا فيها ( سورة : يوسف آية رقم : 82) ، بمعنى :
واسأل أهل القرية التي كنا فيها ، فحذف ذكر أهل القرية ، وهم المرادون ، والله أعلم ، وبه التوفيق
وفي تأويل مختلف الحديث - (ج 1 / ص 49)
قالوا: حديثان متناقضان، قالوا: رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ثم رويتم أنه قال: من قال لا غله إلا الله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق. وفي هذا تناقض واختلاف.
قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس ههنا بنعمة الله تناقض ولا اختلاف لأن الإيمان في اللغة التصديق يقول الله تعالى: " وما أنت
بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " أي بمصدق لنا ومنه قول الناس ما أومن بشيء مما
تقول أي ما أصدق به. والموصوف بالإيمان ثلاثة نفر رجل صدق بلسانه دون قلبه
كالمنافقين فيقول قد آمن كما قال الله تعالى في المنافقين: " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا " وقال: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى " ثم قال: " من آمن منهم بالله واليوم الآخر " لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولو كان أراد بالذين آمنوا ههنا المسلمين لم يقل: " من آمن بالله واليوم الآخر " لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وإنما أراد المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم والذين هادوا والنصارى ولا نقول له مؤمن كما أنا لا نقول للمنافقين مؤمنون وإن قلنا قد آمنوا لأن إيمانهم لم يكن عن عقد ولا نية وكذلك نقول لعاصي الأنبياء صلى الله عليهم وسلم عصى وغوى ولا نقول عاص ولا غاو لأن ذنبه لم يكن عن إرهاص ولا عقد كذنوب أعداء الله عز وجل.
ورجل
صدق بلسانه وقلبه مع تدنس بالذنوب وتقصير في الطاعات من غير إصرار فنقول:
قد آمن وهو مؤمن ما تناهى عن الكبائر فإذا لا بسها لم يكن في حال الملابسة
مؤمناً يريد مستكمل الإيمان. ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن يريد في وقته ذلك لأنه قبل ذلك الوقت غير مصر فهو مؤمن وبهد ذلك الوقت غير مصر فهو مؤمن تائب ومما يزيد في وضوح هذا الحديث الآخر إذا زنى سلب الإيمان فإن تاب ألبسه.
ورجل
صدق بلسانه وقلبه وأدى الفرائض واجتنب الكبائر فذلك المؤمن حفاً المستكمل
شرائط الإيمان وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يؤمن من لم يأمن
جاره بوائقه يريد ليس بمستكمل الإيمان وقال: لم يؤمن من لم يأمن المسلمون
من لسانه ويده أي ليس بمستكمل الإيمان وقال: لم يؤمن ن بات شبعان وبات جاره
طاوياً أي لم يستكمل الإيمان. وهذا شبيه بقوله: لا وضوء لمن لم يذكر اسم
الله تعالى عليه يريد لا كمال وضوء ولا فضيلة وضوء. وكذلك قول عمر رضي الله
عنه: لا إيمان لمن لم يحج. يريد لا كمال إيمان والناس يقولون فلان لا عقل
له. يريدون ليس هو مستكمل العقل ولا دين له أي ليس بمستكمل الدين.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق فإنه لا يخلو من وجهين أحدهما أن يكون قاله على العاقبة يريد أن عاقبة أمره إلى الجنة وإن عذب بالزنا والسرقة. والآخر أن تلحقه رحمة الله تعالى وشفاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيصير إلى الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله. حدثني إسحق بن إبراهيم ابن حبيب بن الشهيد عن أبيه عن جده عن الحسن أنه قال: لا إله إلا الله ثمن الجنة. وحدثني محمد بن يحيى القطعي قال: أنا
عمر بن علي عن موسى ابن المسيب الثقفي قال: سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث
عن المعرور بن سويد عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول ربكم
ابن آدم إنك إن تأتني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا تشرك بي شيئاً جعلت لك قرابها مغفرة ولا أبالي. وحدثني أبو مسعود الدرامي هو من ولد خراش قال: حدثني جدي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكثر لعلكم ترون أن شفاعتي للمتقين لا ولكنها للمتلطخين بالذنوب.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
( الثَّالِثُ ) : أَنَّ قَوْلَهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِمْ : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ }(1)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(3007 ) وصحيح مسلم برقم( 6557)عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا - رضى الله عنه - يَقُولُ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا
وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ « انْطَلِقُوا حَتَّى
تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ ،
فَخُذُوهُ مِنْهَا » . فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى
انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا
أَخْرِجِى الْكِتَابَ . فَقَالَتْ مَا مَعِى مِنْ كِتَابٍ . فَقُلْنَا
لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ . فَأَخْرَجَتْهُ
مِنْ عِقَاصِهَا ، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،
فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ
رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «
يَا حَاطِبُ ، مَا هَذَا » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لاَ تَعْجَلْ
عَلَىَّ ، إِنِّى كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ ، وَلَمْ أَكُنْ
مِنْ أَنْفُسِهَا ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ
قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ ،
فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ
عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى ، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا
وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ . فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «
لَقَدْ صَدَقَكُمْ » . قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ
عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ . قَالَ « إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ
بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » .
العقاص : جمع عقيصة أو عقصة وهى الضفائر
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 13 / ص 492)
قَوْله
: ( اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ )كَذَا فِي مُعْظَم
الطُّرُق ، وَعِنْد الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيق مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيِّ
عَنْ عُرْوَة " فَإِنِّي غَافِر لَكُمْ " وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ
الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " غَفَرْت " أَيْ أَغْفِر ، عَلَى طَرِيق التَّعْبِير
عَنْ الْآتِي بِالْوَاقِعِ مُبَالَغَة فِي تَحَقُّقه . وَفِي " مَغَازِي
اِبْن عَائِذ " مِنْ مُرْسَل عُرْوَة " اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
فَسَأَغْفِرُ لَكُمْ " وَالْمُرَاد غُفْرَان ذُنُوبهمْ فِي الْآخِرَة ،
وَإِلَّا فَلَوْ وَجَبَ عَلَى أَحَدهمْ حَدّ مَثَلًا لَمْ يَسْقُط فِي
الدُّنْيَا . وَقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : لَيْسَ هَذَا عَلَى
الِاسْتِقْبَال ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَاضِي ، تَقْدِيره اِعْمَلُوا
مَا شِئْتُمْ أَيّ عَمَل كَانَ لَكُمْ فَقَدْ غُفِرَ ، قَالَ : لِأَنَّهُ
لَوْ كَانَ لِلْمُسْتَقْبَلِ كَانَ جَوَابه فَسَأَغْفِرُ لَكُمْ ، وَلَوْ
كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إِطْلَاقًا فِي الذُّنُوب وَلَا يَصِحّ ،
وَيُبْطِلهُ أَنَّ الْقَوْم خَافُوا مِنْ الْعُقُوبَة بَعْد حَتَّى كَانَ
عُمَر يَقُول : يَا حُذَيْفَة ، بِاَللَّهِ هَلْ أَنَا مِنْهُمْ ؟
وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيّ بِأَنَّ " اِعْمَلُوا " صِيغَة أَمْر وَهِيَ
مَوْضُوعَة لِلِاسْتِقْبَالِ ، وَلَمْ تَضَع الْعَرَب صِيغَة الْأَمْر
لِلْمَاضِي لَا بِقَرِينَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا لِأَنَّهُمَا بِمَعْنَى
الْإِنْشَاء وَالِابْتِدَاء ، وَقَوْله " اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ "
يُحْمَل عَلَى طَلَب الْفِعْل ، وَلَا يَصِحّ أَنْ يَكُون بِمَعْنَى
الْمَاضِي ، وَلَا يُمْكِن أَنْ يُحْمَل عَلَى الْإِيجَاب فَتَعَيَّنَ
لِلْإِبَاحَةِ . قَالَ : وَقَدْ ظَهَرَ لِي أَنَّ هَذَا الْخِطَاب خِطَاب
إِكْرَام وَتَشْرِيف ، تَضَمَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ حَصَلَتْ لَهُمْ حَالَة
غُفِرَتْ بِهَا ذُنُوبهمْ السَّالِفَة ، وَتَأَهَّلُوا أَنْ يُغْفَر لَهُمْ
مَا يُسْتَأْنَف مِنْ الذُّنُوب اللَّاحِقَة ، وَلَا يَلْزَم مِنْ وُجُود
الصَّلَاحِيَّة لِلشَّيْءِ وُقُوعه . وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّه صِدْق رَسُوله
فِي كُلّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ
يَزَالُوا عَلَى أَعْمَال أَهْل الْجَنَّة إِلَى أَنْ فَارَقُوا الدُّنْيَا
، وَلَوْ قُدِّرَ صُدُور شَيْء مِنْ أَحَدهمْ لَبَادَرَ إِلَى التَّوْبَة
وَلَازَمَ الطَّرِيق الْمُثْلَى . وَيَعْلَم ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالهمْ
بِالْقَطْعِ مَنْ اِطَّلَعَ عَلَى سِيَرهمْ اِنْتَهَى . وَيُحْتَمَل أَنْ
يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ " أَيْ ذُنُوبكُمْ
تَقَع مَغْفُورَة ، لَا أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ لَا يَصْدُر مِنْهُمْ
ذَنْب . وَقَدْ شَهِدَ مِسْطَح بَدْرًا وَوَقَعَ فِي حَقّ عَائِشَة كَمَا
تَقَدَّمَ فِي تَفْسِير سُورَة النُّور ، فَكَأَنَّ اللَّه لِكَرَامَتِهِمْ
عَلَيْهِ بَشَّرَهُمْ عَلَى لِسَان نَبِيّه أَنَّهُمْ مَغْفُور لَهُمْ
وَلَوْ وَقَعَ مِنْهُمْ مَا وَقَعَ .
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(3007 ) وصحيح مسلم برقم( 6557)عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا - رضى الله عنه - يَقُولُ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا
وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ « انْطَلِقُوا حَتَّى
تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ ،
فَخُذُوهُ مِنْهَا » . فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى
انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ فَقُلْنَا
أَخْرِجِى الْكِتَابَ . فَقَالَتْ مَا مَعِى مِنْ كِتَابٍ . فَقُلْنَا
لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ . فَأَخْرَجَتْهُ
مِنْ عِقَاصِهَا ، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،
فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ
رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «
يَا حَاطِبُ ، مَا هَذَا » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لاَ تَعْجَلْ
عَلَىَّ ، إِنِّى كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ ، وَلَمْ أَكُنْ
مِنْ أَنْفُسِهَا ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ
قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ ،
فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ
عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى ، وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا
وَلاَ ارْتِدَادًا وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ . فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «
لَقَدْ صَدَقَكُمْ » . قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ
عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ . قَالَ « إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ
بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » .
العقاص : جمع عقيصة أو عقصة وهى الضفائر
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 13 / ص 492)
قَوْله
: ( اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ )كَذَا فِي مُعْظَم
الطُّرُق ، وَعِنْد الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيق مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيِّ
عَنْ عُرْوَة " فَإِنِّي غَافِر لَكُمْ " وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ
الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " غَفَرْت " أَيْ أَغْفِر ، عَلَى طَرِيق التَّعْبِير
عَنْ الْآتِي بِالْوَاقِعِ مُبَالَغَة فِي تَحَقُّقه . وَفِي " مَغَازِي
اِبْن عَائِذ " مِنْ مُرْسَل عُرْوَة " اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
فَسَأَغْفِرُ لَكُمْ " وَالْمُرَاد غُفْرَان ذُنُوبهمْ فِي الْآخِرَة ،
وَإِلَّا فَلَوْ وَجَبَ عَلَى أَحَدهمْ حَدّ مَثَلًا لَمْ يَسْقُط فِي
الدُّنْيَا . وَقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : لَيْسَ هَذَا عَلَى
الِاسْتِقْبَال ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَاضِي ، تَقْدِيره اِعْمَلُوا
مَا شِئْتُمْ أَيّ عَمَل كَانَ لَكُمْ فَقَدْ غُفِرَ ، قَالَ : لِأَنَّهُ
لَوْ كَانَ لِلْمُسْتَقْبَلِ كَانَ جَوَابه فَسَأَغْفِرُ لَكُمْ ، وَلَوْ
كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إِطْلَاقًا فِي الذُّنُوب وَلَا يَصِحّ ،
وَيُبْطِلهُ أَنَّ الْقَوْم خَافُوا مِنْ الْعُقُوبَة بَعْد حَتَّى كَانَ
عُمَر يَقُول : يَا حُذَيْفَة ، بِاَللَّهِ هَلْ أَنَا مِنْهُمْ ؟
وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيّ بِأَنَّ " اِعْمَلُوا " صِيغَة أَمْر وَهِيَ
مَوْضُوعَة لِلِاسْتِقْبَالِ ، وَلَمْ تَضَع الْعَرَب صِيغَة الْأَمْر
لِلْمَاضِي لَا بِقَرِينَةٍ وَلَا بِغَيْرِهَا لِأَنَّهُمَا بِمَعْنَى
الْإِنْشَاء وَالِابْتِدَاء ، وَقَوْله " اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ "
يُحْمَل عَلَى طَلَب الْفِعْل ، وَلَا يَصِحّ أَنْ يَكُون بِمَعْنَى
الْمَاضِي ، وَلَا يُمْكِن أَنْ يُحْمَل عَلَى الْإِيجَاب فَتَعَيَّنَ
لِلْإِبَاحَةِ . قَالَ : وَقَدْ ظَهَرَ لِي أَنَّ هَذَا الْخِطَاب خِطَاب
إِكْرَام وَتَشْرِيف ، تَضَمَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ حَصَلَتْ لَهُمْ حَالَة
غُفِرَتْ بِهَا ذُنُوبهمْ السَّالِفَة ، وَتَأَهَّلُوا أَنْ يُغْفَر لَهُمْ
مَا يُسْتَأْنَف مِنْ الذُّنُوب اللَّاحِقَة ، وَلَا يَلْزَم مِنْ وُجُود
الصَّلَاحِيَّة لِلشَّيْءِ وُقُوعه . وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّه صِدْق رَسُوله
فِي كُلّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ
يَزَالُوا عَلَى أَعْمَال أَهْل الْجَنَّة إِلَى أَنْ فَارَقُوا الدُّنْيَا
، وَلَوْ قُدِّرَ صُدُور شَيْء مِنْ أَحَدهمْ لَبَادَرَ إِلَى التَّوْبَة
وَلَازَمَ الطَّرِيق الْمُثْلَى . وَيَعْلَم ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالهمْ
بِالْقَطْعِ مَنْ اِطَّلَعَ عَلَى سِيَرهمْ اِنْتَهَى . وَيُحْتَمَل أَنْ
يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ " أَيْ ذُنُوبكُمْ
تَقَع مَغْفُورَة ، لَا أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ لَا يَصْدُر مِنْهُمْ
ذَنْب . وَقَدْ شَهِدَ مِسْطَح بَدْرًا وَوَقَعَ فِي حَقّ عَائِشَة كَمَا
تَقَدَّمَ فِي تَفْسِير سُورَة النُّور ، فَكَأَنَّ اللَّه لِكَرَامَتِهِمْ
عَلَيْهِ بَشَّرَهُمْ عَلَى لِسَان نَبِيّه أَنَّهُمْ مَغْفُور لَهُمْ
وَلَوْ وَقَعَ مِنْهُمْ مَا وَقَعَ .
إنْ حُمِلَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَوْ عَلَى الْمَغْفِرَةِ مَعَ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ .
فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْكُفْرِ لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ(1) لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الصَّغَائِرِ الْمُكَفَّرَةِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ .
(
الرَّابِعُ ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ أَنَّ « أَوَّلُ
مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلاَةُ فَإِنْ كَانَ
أَكْمَلَهَا كُتِبَتْ لَهُ كَامِلَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْمَلَهَا
قَالَ لِلْمَلاَئِكَةِ انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِى مِنْ تَطَوُّعٍ
فَأَكْمِلُوا بِهَا مَا ضَيَّعَ مِنْ فَرِيضَةٍ ثُمَّ الزَّكَاةُ ثُمَّ
تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ »(2).
وَمَعْلُومٌ أَنَّ
ذَلِكَ النَّقْصَ الْمُكَمِّلَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ ؛ فَإِنَّ
تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى جبران وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ
لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ الْمَتْرُوكِ وَالْمَفْعُولِ
،فَعُلِمَ أَنَّهُ يَكْمُلُ نَقْصُ الْفَرَائِضِ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ .
وَهَذَا
لَا يُنَافِي مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى
تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ مَعَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُعَارِضًا لِلْأَوَّلِ
لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ وَأَشْهَرُ (3)
__________
(1) - وفي مسند أحمد برقم(18304)عَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ لَمَّا أَلْقَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِى قَلْبِى الإِسْلاَمَ - قَالَ - أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- لِيُبَايِعَنِى
فَبَسَطَ يَدَهُ إِلَىَّ فَقُلْتُ لاَ أُبَايِعُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
حَتَّى تَغْفِرَ لِى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِى. قَالَ فَقَالَ لِى
رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «
يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا مِنَ
الذُّنُوبِ يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَجُبُّ مَا
كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الذُّنُوبِ » وهو حديث صحيح.
وفي سنن ابن ماجه برقم(4391 ) عَنْ أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ » وهو صحيح لغيره.
(2) - مسند أحمد برقم(17417) وسنن الترمذى برقم(415 ) وهو صحيح
وفي تحفة الأحوذي - (ج 1 / ص 451)
" إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ " بِالرَّفْعِ عَلَى نِيَابَةِ الْفَاعِلِ
"
يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ " أَيْ الْمَفْرُوضَةُ .
قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : إِنَّ أَوَّلَ مَا يُقْضَى بَيْنَ
النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ . فَحَدِيثُ الْبَابِ
مَحْمُولٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَدِيثُ الصَّحِيحِ مَحْمُولٌ
عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ . فَإِنْ قِيلَ :
فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ مُحَاسَبَةُ الْعِبَادِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ أَوْ
مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى حُقُوقِهِمْ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ
تَوْقِيفِيٌّ وَظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي
يَقَعُ أَوَّلًا الْمُحَاسَبَةُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ
حُقُوقِ الْعِبَادِ اِنْتَهَى . وَقِيلَ الْأَوَّلُ مِنْ تَرْكِ
الْعِبَادَاتِ وَالثَّانِي مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ
وفي شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 4 / ص 265)
وهذا
بالنسبة لحق الله عز وجل فإن صلحت فقد أفلح ونجح وإلا فعلى العكس خاب وخسر
والعياذ بالله أما بالنسبة لحقوق الآدميين فأول ما يقضى بين الناس في
الدماء لأنها أعظم الحقوق الدماء يعني القتل ثم يأتي بقية المحاسبة على ما
يبقى ولكن الله عز وجل إذا حاسب العبد على الصلاة وصحت أفلح ونجح وإلا خاب
وخسر ثم يحمد الله عز وجل أن ينظر في أعماله هل له نوافل فإنها تكمل بها
الفرائض ولهذا كان من فضل الله ورحمته ونعمته وإحسانه أن شرع لنا النوافل
خلف الصلوات وقبلها وفي كل وقت إلا الأوقات المنهي عنها وذلك لأن الإنسان
لابد أن يكون في صلاته خلل فيكمل بهذه النوافل فالظهر له أربع ركعات قبلها
بتسليمين وركعتان بعدها وصلاة العصر ليس لها راتبه لكن لها سنة مطلقة كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم بين كل أذانين صلاة صلاة المغرب لها راتبة
بعدها ركعتان وسنة مطلقة قبلها صلاة العشاء بعدها ركعتان الفجر قبلها
ركعتان صلاة الليل صلاة الوتر صلاة الضحى كل هذه النوافل يزداد بها أجر
المصلي ويكمل بها النقص الذي حصل في الفريضة وهذه من نعمة الله عز وجل نسأل
الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته
(3) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 2 / ص 225)
وَفِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى :
مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا
تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا
يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ
فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ
الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي
يَمْشِي بِهَا وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي
عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ
مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . فالمتقربون إلَى اللَّهِ
بِالْفَرَائِضِ : هُمْ الْأَبْرَارُ الْمُقْتَصِدُونَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ
والمتقربون إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي يُحِبُّهَا بَعْدَ
الْفَرَائِضِ . هُمْ السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ وَإِنَّمَا تَكُونُ
النَّوَافِلُ بَعْدَ الْفَرَائِضِ . وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ
فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرِ ابْنِ الْخَطَّابِ : اعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ
عَلَيْك حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ وَحَقًّا
بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ
النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ . والاتحادية يَزْعُمُونَ
أَنَّ قُرْبَ النَّوَافِلِ : يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الْحَقِّ عَيْنَ
أَعْضَائِهِ وَأَنَّ قُرْبَ الْفَرَائِضِ : يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ
عَيْنَ وُجُودِهِ كُلِّهِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ بَلْ
كُفْرٌ صَرِيحٌ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِذَا
كَانَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ آخِرُ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ فِي الدُّنْيَا
فَلَيْسَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَفْضَلَ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا أَكْمَلَهُمْ
بَلْ أَفْضَلُهُمْ وَأَكْمَلُهُمْ سَابِقُوهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَخَصُّ
بِأَفْضَلِ الرُّسُلِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْوَلِيُّ
أَعْظَمَ اخْتِصَاصًا بِالرَّسُولِ وَأَخْذًا عَنْهُ وَمُوَافَقَةً لَهُ :
كَانَ أَفْضَلَ إذْ الْوَلِيُّ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا
بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ فَعَلَى قَدْرِ
الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ : يَكُونُ قَدْرُ الْوِلَايَةِ لِلَّهِ .
،وَهَذَا غَرِيبٌ رَفْعُهُ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ فِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْر لِعُمَرِ(1)
__________
(1) - السُّنَّةُ
لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْخَلَّالِ >> جَامِعُ أَمْرِ الْخِلَافَةِ
بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ >>
برقم(345 ) عَنْ زُبَيْدٍ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا
حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَخْلِفُهُ
، فَقَالَ النَّاسُ : " تَسْتَخْلِفُ عَلَيْنَا عُمَرَ فَظًّا غَلِيظًا ،
فَلَوْ قَدْ وَلِيَنَا كَانَ أَفَظَّ وَأَغْلَظَ ، فَمَاذَا تَقُولُ
لِرَبِّكَ إِذَا لَقِيتَهُ ، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنَا عُمَرَ ؟
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : " أَبِرَبِّي تُخَوِّفُونِي ؟ أَقُولُ : اللَّهُمَّ
إِنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمْ خَيْرَ أَهْلِكَ " ، ثُمَّ أَرْسَلَ
إِلَى عُمَرَ ، فَقَالَ : إِنِّي مُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ ، إِنْ أَنْتَ
حَفِظْتَهَا ، إِنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ
بِاللَّيْلِ ، وَإِنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ
بِالنَّهَارِ ، وَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى
الْفَرِيضَةُ ، وَإِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا الْحَقَّ ،
وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ ، وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا
الْحَقُّ أَنْ يَكُونَ ثَقِيلًا ، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ
خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي
الدُّنْيَا ، وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ ، وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ أَنْ لَا
يُوضَعَ فِيهِ إِلَّا الْبَاطِلُ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا ، وَأَنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَصْلَحَ مَا عَمِلُوا ،
وَأَنَّهُ يَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَيَقُولُ قَائِلٌ : لَا
أَبْلَغُ هَؤُلَاءِ ، وَذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ بِأَسْوَأِ الَّذِي
عَمِلُوا ، وَأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ صَالِحَ مَا عَمِلُوا ، فَيَقُولُ
الْقَائِلُ : أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ ، وَذَكَرَ آيَةَ الرَّحْمَةِ
وَآيَةَ الْعَذَابِ ، لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُ رَاغِبًا زَاهِدًا ، وَلَا
يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ غَيْرَهُ ، وَلَا يُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى
التَّهْلُكَةِ ، فَإِنْ أَنْتَ حَفِظْتَ وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ
أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ ، وَلَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ ، وَإِنْ
أَنْتَ ضَيَّعْتَ وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَبْغَضَ إِلَيْكَ مِنَ
الْمَوْتِ ، وَلَنْ تُعْجِزَهُ " * وهو صحيح غيره
وفي مجموع الفتاوى - (ج 22 / ص 38)
وَسُئِلَ
: عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي لِلَّهِ بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ
بِاللَّيْلِ ، وَالْعَمَلِ الَّذِي بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ
بِالنَّهَارِ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا عَمَلُ النَّهَارِ
الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ بِاللَّيْلِ ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ الَّذِي
لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ بِالنَّهَارِ : فَهُمَا صَلَاةُ الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ ، لَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُؤَخِّرَهُمَا إلَى
اللَّيْلِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ
الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } . وَفِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ
حَبِطَ عَمَلُهُ } . فَأَمَّا مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا
فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ
أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا }
. وَأَمَّا مَنْ فَوَّتَهَا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ
أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَصِحُّ فِعْلُهَا قَضَاءً أَصْلًا
، وَمَعَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لَا تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْ جَمِيعِ
الْوَاجِبِ ، وَلَا يَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْهُ بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ
الْعِقَابُ ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ ؛ بَلْ يُخَفِّفُ عَنْهُ
الْعَذَابَ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ إثْمُ
التَّفْوِيتِ ، وَهُوَ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى مُسْقِطٍ
آخَرَ ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ حَقَّانِ : فَعَلَ أَحَدَهُمَا ،
وَتَرَكَ الْآخَرَ . قَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } {
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } وَتَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا
مِنْ السَّهْوِ عَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَقَالَ تَعَالَى : {
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا
الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
السَّلَفِ إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا ، فَقَدْ أَخْبَرَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْوَيْلَ لِمَنْ أَضَاعَهَا وَإِنْ صَلَّاهَا ،
وَمَنْ كَانَ لَهُ الْوَيْلُ لَمْ يَكُنْ قَدْ يُقْبَلُ عَمَلُهُ ، وَإِنْ
كَانَ لَهُ ذُنُوبٌ أُخَرُ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ
فِي نَفْسِ الْعَمَلِ لَمْ يُتَقَبَّلْ ذَلِكَ الْعَمَلُ . قَالَ أَبُو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
فِي وَصِيَّتِهِ لِعُمَرِ : وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ
لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ ، وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ
بِاللَّيْلِ ، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدِّيَ
الْفَرِيضَةَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 5794)
أما
قول الصديق رضي الله عنه: إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدي الفريضة .
فالمقصود أن الإنسان لا يثاب على النافلة حتى تؤدى الفريضة، بمعنى أنه إذا
فعل النافلة مع نقص الفريضة كانت جبراً لها وإكمالا فلم يكن فيها ثواب
النافلة، ويبين ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن أول ما يحاسب
به العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة، وإن كان انتقض منها
شيئا قال انظروا هل تجدوا له من تطوع، فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من
تطوعه، ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك . رواه النسائي عن أبي
هريرة وصححه الألباني . ولهذا قال بعض السلف النافلة لاتكون إلا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره
يحتاج للمغفرة. قال ابن تيمية: فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر
لم يحصل له مقصود النوافل ولا يظلمه الله فإن الله لا يظلم مثقال ذرة بل
يقيمها مقام نظيرها من الفرائض كمن عليه ديون لأناس ويريد أن يتطوع لهم
بأشياء، فإن وفاهم وتطوع لهم كان عادلاً محسناً، وإن وفاهم ولم يتطوع كان
عادلا، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعا كان غالطا في جعله،
بل يكون من الواجب الذي يستحقونه . اهـ. ومما سبق يتبين أن المقصود من قول
أبي بكر ليس ترك النوافل حتى إتمام الفرائض الفائتة، وإنما المقصود عدم
تحصيل الثواب المرجو من النافلة إلا إذا أدى الفريضة كاملة كما شرعها الله
وإلا جبرت النقص الواقع في الفريضة.
؛ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَحْمَد
فِي " رِسَالَتِهِ فِي الصَّلَاةِ " . وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبُولَ
النَّافِلَةِ يُرَادُ بِهِ الثَّوَابُ عَلَيْهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا
يُثَابُ عَلَى النَّافِلَةِ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ ،فَإِنَّهُ إذَا
فَعَلَ النَّافِلَةَ مَعَ نَقْصِ الْفَرِيضَةِ كَانَتْ جَبْرًا لَهَا
وَإِكْمَالًا لَهَا . فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَوَابُ نَافِلَةٍ ، وَلِهَذَا
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : النَّافِلَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1)، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَغَيْرُهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَغْفِرَةِ (2)
فِي " رِسَالَتِهِ فِي الصَّلَاةِ " . وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبُولَ
النَّافِلَةِ يُرَادُ بِهِ الثَّوَابُ عَلَيْهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا
يُثَابُ عَلَى النَّافِلَةِ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ ،فَإِنَّهُ إذَا
فَعَلَ النَّافِلَةَ مَعَ نَقْصِ الْفَرِيضَةِ كَانَتْ جَبْرًا لَهَا
وَإِكْمَالًا لَهَا . فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَوَابُ نَافِلَةٍ ، وَلِهَذَا
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : النَّافِلَةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1)، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَغَيْرُهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَغْفِرَةِ (2)
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى