صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا رَآهُ بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ الْحِرْصِ
غَلَبَهُ طَبْعُ الْبَشَرِيَّةِ فَدَعَا عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ فِي غَيْرِ
هَذَا الْحَدِيثِ { اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَمَنْ دَعَوْتُ
عَلَيْهِ فَاجْعَلْ دُعَائِي لَهُ رَحْمَةً } وَقِيلَ مَعْنَاهُ احْتَاجَ
فَسَأَلَ مِنْ أَرِبَ الرَّجُلُ يَأْرَبُ إذَا احْتَاجَ .
ثُمَّ قَالَ "
مَا لَهُ " ؟ أَيْ : أَيُّ شَيْءٍ بِهِ وَمَا يُرِيدُ ؟ ( وَالرِّوَايَةُ
الثَّانِيَةُ ) أَرَبٌ بِوَزْنِ جَمَلٍ أَيْ : حَاجَةٌ لَهُ ، وَمَا
زَائِدَةٌ لِلتَّقْلِيلِ أَيْ : لَهُ حَاجَةٌ يَسِيرَةٌ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ حَاجَةٌ جَاءَتْ بِهِ ، فَحَذَفَ ثُمَّ سَأَلَ فَقَالَ " مَا لَهُ " .
(
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ ) أَرِبٌ بِوَزْنِ كَتِفٍ ، وَالْأَرِبُ
الْحَاذِقُ الْكَامِلُ أَيْ : هُوَ أَرِبٌ فَحَذَفَ الْمُبْتَدَأَ ثُمَّ
سَأَلَ فَقَالَ " مَا لَهُ " أَيْ : مَا شَأْنُهُ .
وَهَذَا أَحْسَنُ
مِنْ إعْلَامِهِ فَإِنَّ فِي إعْلَامِهِ زِيَادَةَ إيذَاءٍ لَهُ فَإِنَّ
تَضَرُّرَ الْإِنْسَانِ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ شَتْمِهِ أَبْلَغُ مِنْ
تَضَرُّرِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ .
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ سَبَبُ
الْعُدْوَانِ عَلَى الظَّالِمِ أَوَّلًا إذْ النُّفُوسُ لَا تَقِفُ
غَالِبًا عِنْدَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ ، فَتَبَصَّرْ هَذَا فَفِي
إعْلَامِهِ هَذَانِ الْفَسَادَانِ .
وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ ثَالِثَةٌ
وَلَوْ كَانَتْ بِحَقٍّ وَهُوَ زَوَالُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ كَمَالِ
الْأُلْفِ وَالْمَحَبَّةِ ، أَوْ تَجَدُّدُ الْقَطِيعَةِ وَالْبِغْضَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ .
وَهَذِهِ
الْمَفْسَدَةُ قَدْ تَعْظُمُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَكْثَرَ مِنْ
بَعْضٍ وَلَيْسَ فِي إعْلَامِهِ فَائِدَةٌ إلَّا تَمْكِينُهُ مِنْ
اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَمَا لَوْ عَلِمَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ إمَّا
بِالْمِثْلِ إنْ أَمْكَنَ أَوْ بِالتَّعْزِيرِ أَوْ بِالْحَدِّ وَإِذَا
كَانَ فِي الْإِيفَاءِ مِنْ الْجِنْسِ مَفْسَدَةٌ عُدِلَ إلَى غَيْرِ
الْجِنْسِ كَمَا فِي الْقَذْفِ .
وَفِي الْفِدْيَةِ وَفِي الْجِرَاحِ
إذَا خِيفَ الْحَيْفُ ، وَهُنَا قَدْ لَا يَكُونُ حَيْفٌ إلَّا فِي غَيْرِ
الْجِنْسِ أَمَّا الْعُقُوبَةُ أَوْ الْأَخْذُ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَتْ
عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ
فَلْيَأْتِهِ فَلْيَسْتَحِلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ فِيهِ
دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ إلَّا الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فَإِنْ كَانَ
لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ فَأُعْطِيَهَا ، وَإِنْ
لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَأُلْقِيَتْ عَلَى
صَاحِبِهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ } .
وَإِذَا كَانَ فَيُعْطِيهِ
فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً بَدَلَ الْحَسَنَةِ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ فَالدُّعَاءُ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارُ إحْسَانٌ
إلَيْهِ وَكَذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بَدَلَ الذَّمِّ لَهُ وَهَذَا
عَامٌّ فِيمَنْ طَعَنَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ لَعَنَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِمَا
يُؤْذِيهِ أَمْرًا أَوْ خَبَرًا بِطَرِيقِ الْإِفْتَاءِ أَوْ التَّحْضِيضِ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ أَعْمَالَ اللِّسَانِ أَعْظَمُ مِنْ أَعْمَالِ
الْيَدِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ، حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ ،
أَوْ شُبْهَةٍ ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فَإِنَّ كَفَّارَةَ ذَلِكَ أَنْ
يُقَابِلَ الْإِسَاءَةَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِمَا
فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّفَاعَةِ لَهُ بِالدُّعَاءِ فَيَكُونُ
الثَّنَاءُ وَالدُّعَاءُ بَدَلَ الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ وَيَدْخُلُ فِي
هَذَا أَنْوَاعُ الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ الْجَارِي بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ أَوْ
غَيْرِ سَائِغٍ كَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا
يَقَعُ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ كَمَا
يَقَعُ بَيْنَ أَصْنَافِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ ، وَأَهْلِ
الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنُّهَى مِنْ
كَلَامِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ تَارَةً بِتَأْوِيلٍ مُجَرَّدٍ ، وَتَارَةً
بِتَأْوِيلٍ مَشُوبٍ بِهَوًى ، وَتَارَةً بِهَوًى مَحْضٍ ، بَلْ تَخَاصُمُ
هَذَا الضَّرْبِ بِالْكَلَامِ وَالْكُتُبِ كَتَخَاصُمِ غَيْرِهِمْ
بِالْأَيْدِي وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقِتَالِ أَهْلِ
الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ ، وَالطَّائِفَتَيْنِ الْبَاغِيَتَيْنِ ،
الْعَادِلَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ وَالْبَاغِيَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ .
وَهَذَا
بَابٌ نَافِعٌ جِدًّا وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ مَاسَّةٌ جِدًّا فَعَلَى هَذَا
لَوْ سَأَلَ الْمَقْذُوفُ وَالْمَسْبُوبُ لِقَاذِفِهِ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ
أَمْ لَا ؟ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ
الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ إذْ تَوْبَتُهُ صَحَّتْ فِي حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ بِالْإِحْسَانِ
إلَيْهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَنَحْوِهِ ، وَهَلْ يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ ،
أَوْ يُسْتَحَبُّ ، أَوْ يُكْرَهُ ، أَوْ يَحْرُمُ ؟ الْأَشْبَهُ أَنَّ
ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَقَدْ
يَكُونُ الِاعْتِرَافُ أَصْفَى لِلْقُلُوبِ كَمَا يَجْرِي بَيْنَ
الْأَوِدَّاءِ مِنْ ذَوِي الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ
مِنْ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ ، وَقَدْ تَكُونُ فِيهِ مَفْسَدَةُ
الْعُدْوَانِ عَلَى النَّاسِ أَوْ رُكُوبُ كَبِيرَةٍ فَلَا يَجُوزُ
الِاعْتِرَافُ قَالَ : وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ فَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَكْذِبَ بِالْجُحُودِ الصَّرِيحِ ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ
الصَّرِيحَ مُحَرَّمٌ وَالْمُبَاحُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ هَلْ هُوَ
التَّعْرِيضُ أَوْ الصَّرِيحُ ؟ فِيهِ خِلَافٌ ، فَمَنْ جَوَّزَ الصَّرِيحَ
هُنَاكَ فَهَلْ يُجَوِّزُهُ هُنَا ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَلَكِنْ يُعَرِّضُ
فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي
يُرْوَى عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ بَلَغَ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ شَيْءٌ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ بِالْمَعَارِيضِ وَقَالَ :
أُرَقِّعُ دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ أَوْ كَمَا قَالَ .
وَعَلَى هَذَا
فَإِذَا اُسْتُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ وَيُعَرِّضَ ؛
لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالِاسْتِحْلَافِ ، فَإِذَا كَانَ قَدْ تَابَ
وَصَحَّتْ تَوْبَتُهُ لَمْ يَبْقَ لِذَلِكَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَا تَجِبُ
الْيَمِينُ عَلَيْهِ ، لَكِنْ مَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ وَالْإِحْسَانِ إلَى
الْمَظْلُومِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى عَدَاوَتِهِ وَظُلْمِهِ فَإِذَا أَنْكَرَ
بِالتَّعْرِيضِ كَانَ كَاذِبًا فَإِذَا حَلَفَ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا
.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا : سُئِلْتُ عَنْ نَظِيرِ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ رَجُلٌ تَعَرَّضَ لِامْرَأَةِ غَيْرِهِ
فَزَنَى بِهَا ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَسَأَلَهُ زَوْجُهَا عَنْ ذَلِكَ
فَأَنْكَرَ فَطَلَبَ اسْتِحْلَافَهُ ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ
الْفِعْلِ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَوِيَتْ
التُّهْمَةُ ، وَإِنْ أَقَرَّ جَرَى عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا مِنْ الشَّرِّ
أَمْرٌ عَظِيمٌ ؟ فَأَفْتَيْتُهُ أَنَّهُ يَضُمُّ إلَى التَّوْبَةِ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى الْإِحْسَانَ إلَى الزَّوْجِ
بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ ، وَالصَّدَقَةِ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ
مِمَّا يَكُونُ بِإِزَاءِ إيذَائِهِ لَهُ فِي أَهْلِهِ ، فَإِنَّ الزِّنَا
بِهَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَقُّ زَوْجِهَا مِنْ
جِنْسِ حَقِّهِ فِي عِرْضِهِ ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يَنْجَبِرُ
بِالْمِثْلِ كَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ
الْقَذْفِ الَّذِي جَزَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، فَتَكُونُ تَوْبَةُ
هَذَا كَتَوْبَةِ الْقَاذِفِ ، وَتَعْرِيضُهُ كَتَعْرِيضِهِ ، وَحَلْفُهُ
عَلَى التَّعْرِيضِ كَحَلْفِهِ .
وَأَمَّا لَوْ ظَلَمَهُ فِي دَمٍ أَوْ
مَالٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيفَاءِ الْحَقِّ فَإِنَّ لَهُ بَدَلًا ،
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَبَيْنَ
تَوْبَةِ الْقَاذِفِ .
وَهَذَا الْبَابُ وَنَحْوُهُ فِيهِ خَلَاصٌ
عَظِيمٌ وَتَفْرِيجُ كُرُبَاتٍ لِلنُّفُوسِ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي
وَالْمَظَالِمِ فَإِنَّ الْفَقِيهَ كُلَّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤْيِسُ
النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى
مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى .
وَجَمِيعُ النُّفُوسِ لَا بُدَّ أَنْ
تُذْنِبَ فَتَعْرِيفُ النُّفُوسِ مَا يُخَلِّصُهَا مِنْ الذُّنُوبِ مِنْ
التَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَاتِ كَالْكَفَّارَاتِ
وَالْعُقُوبَاتِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ الشَّرِيعَةِ انْتَهَى
كَلَامُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : فَإِنْ كَانَتْ الْمَظْلِمَةُ
فَسَادَ زَوْجَةِ جَارِهِ أَوْ غَيْرِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَهَتْكِ
فِرَاشِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : اُحْتُمِلَ أَنْ لَا يَصِحَّ إحْلَالُهُ مِنْ
ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ بِإِبَاحَتِهِ ابْتِدَاءً
فَلَا يَبْرَأُ بِإِحْلَالِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ :
وَعِنْدِي أَنَّهُ يَبْرَأُ بِالْإِحْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَيَنْبَغِي
أَنْ يَسْتَحِلَّهُ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَيَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ
بِالْإِحْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِ الْمَظْلِمَةِ وَلَا يَمْلِكُ إبَاحَتَهَا
ابْتِدَاءً كَالدَّمِ وَالْقَذْفِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ
أَنَّهُ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ وَيَفْسَخُ نِكَاحَهَا لِأَجْلِ التُّهْمَةِ
بِهِ وَغَلَبَةِ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ وَإِنَّمَا يُتَحَالَفُ فِي حُقُوقِ
الْآدَمِيِّينَ انْتَهَى كَلَامُهُ ..
وَلِهَذَا يُؤْمَرُ
الْعَبْدُ بِالتَّوْبَةِ كُلَّمَا أَذْنَبَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِشَيْخِهِ :
إنِّي أُذْنِبُ قَالَ : تُبْ قَالَ : ثُمَّ أَعُودُ ، قَالَ : تُبْ قَالَ :
ثُمَّ أَعُودُ ، قَالَ : تُبْ قَالَ : إلَى مَتَى قَالَ : إلَى أَنْ
تُحْزِنَ الشَّيْطَانَ (1)
__________
(1) - وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 5993)
رقم الفتوى 57184 الشيطان يقنط الناس من رحمة الله تعالى
تاريخ الفتوى : 10 ذو القعدة 1425
السؤال
.
أنا شاب أبلغ من العمر 17 عاما ومشكلتي أني والحمد لله التزمت منذ 3 أشهر
ولكني قمت بارتكاب كثير من الكبائر مثل عقوق الوالدين والزنا ولكني الحمد
لله تبت إلى الله وأرجو أن يتقبل مني التوبة والذي يشغلني هو أني تنتابني
بعض الوساوس بأن الله لن يغفر لي حيث أني أفعل الكثير من المعاصي ثم أنكث
توبتي وأنا أعلم أن هذا قنوط من رحمة الله ولكن ماذا أفعل وينتابني أيضا
بعض الأفكار السيئة مثل تخيل شكل الله عز وجل والمصيبة أني ذات مرة تخيلت
الرسول عليه الصلاة والسلام في أوضاع وهو يجامع زوجاته وأشعر بالشك في دين
الإسلام ولكني مطمئن إلى أني مسلم ولكن أريد أن أعرف ردا على تساؤلي وهو
أني إذا دارت في نفسي أفكار سيئة ووساوس ولكني لم أؤمن بها هل أحاسب على
تلك الأفكار أم لا وماذا أفعل بشأن فعل الكبائر هل أني عندما أتوب وأعمل
أعمالا صالحة يتقبلها الله إن شاء؟! وأرجو الإفادة .جزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحمد لله أن وفقك للتوبة من هذه الكبائر قبل أن يدهمك الموت، وحينئذ لا ينفع الندم.
ونبشرك
بأن الله يقبل توبة من جاءه نادما. قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ {التوبة: 104}. وقال
أيضا: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ
اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا {النساء: 110}.
فالتوبة تجب
ما قبلها، وتمحو الذنوب السالفة. قال صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب
كمن لا ذنب له. بل إن التائب تتبدل سيئاته حسنات. قال تعالى بعد أن توعد
مرتكبي الفواحش بالعذاب الأليم قال: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ
عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {الفرقان: 70}.
فأحسن الظن بربك وارج
رحمته، ووازن بين خوفك منه وطمعك في سعة رحمته. قال تعالى عن المؤمنين:
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا {السجدة: 16}. وانظر الفتوى رقم:
16907 .
وكما عققت والديك من قبل فأحسن إليهما الآن، فإن الحسنات يذهبن
السيئات، واجتهد في تحصيل الزوجة الصالحة إن كان ذلك ممكنا لتحصن فرجك وتعف
نفسك، فإن لم تستطع فاسرد الصوم، فإن له تأثيرا بالغا في كسر حدة الشهوة.
قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج،
فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء .
رواه البخاري ومسلم .
واحذر من القنوط واليأس من رحمة الله. قال تعالى:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53}.
واعلم أن
الشيطان يقنط الناس من رحمة الله تعالى حتى يزهدوا في التوبة ولا يسارعوا
إليها، ولذلك قال تعالى: إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف: 87}. وقال أيضا: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ
رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ {الحجر: 56}.
فإذا وقعت في بعض
المعاصي بعد أن تبت منها فجدد التوبة، فإن الله يفرح بتوبة العبد إذا جاء
نادما. ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أذنب عبد ذنبا فقال:
أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ
به، قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنبا آخر، فقال أي رب أذنبت ذنبا آخر فاغفر لي،
فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، فليفعل
ما يشاء .
وقال بعض السلف لشيخه: إني أذنبت، قال: تب، قال ثم أعود،
قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان.
وانظر الفتوى: 24031 .
واحذر الاسترسال مع ما يقع في قلبك من تخيلات بشأن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو تشكيك في دين الإسلام.
واعلم
أن هذه الخواطر الرديئة لا تضرك إذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم
وانقطعت ولم تسترسل معها. قال صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز عن أمتي
ما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم . رواه البخاري ومسلم .
واعلم أن كونك ترفض هذه الوساوس وتستقبحها دليل على أن فيك إيمانا وخوفا من الله. وانظر الفتويين: 187 ، 7950 فإن فيهما بيان ذلك.
كما
نوصيك بالبحث عن الشباب الصالحين المتمسكين بالدين فتنخرط فيهم، وتنتظم في
سلكهم فتحافظ على الصلاة معهم في جماعة، وتتلو معهم القرآن، وتتعلم معهم
العلم النافع، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل
الذئب من الغنم القاصية.
كما ننصحك بكثرة الاستماع إلى الأشرطة
الإسلامية وبمطالعة كتاب في سيرة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى تزداد معرفة
به وبأحواله، فيزداد حبك له فتحشر في زمرته.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
غَلَبَهُ طَبْعُ الْبَشَرِيَّةِ فَدَعَا عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ فِي غَيْرِ
هَذَا الْحَدِيثِ { اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَمَنْ دَعَوْتُ
عَلَيْهِ فَاجْعَلْ دُعَائِي لَهُ رَحْمَةً } وَقِيلَ مَعْنَاهُ احْتَاجَ
فَسَأَلَ مِنْ أَرِبَ الرَّجُلُ يَأْرَبُ إذَا احْتَاجَ .
ثُمَّ قَالَ "
مَا لَهُ " ؟ أَيْ : أَيُّ شَيْءٍ بِهِ وَمَا يُرِيدُ ؟ ( وَالرِّوَايَةُ
الثَّانِيَةُ ) أَرَبٌ بِوَزْنِ جَمَلٍ أَيْ : حَاجَةٌ لَهُ ، وَمَا
زَائِدَةٌ لِلتَّقْلِيلِ أَيْ : لَهُ حَاجَةٌ يَسِيرَةٌ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ حَاجَةٌ جَاءَتْ بِهِ ، فَحَذَفَ ثُمَّ سَأَلَ فَقَالَ " مَا لَهُ " .
(
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ ) أَرِبٌ بِوَزْنِ كَتِفٍ ، وَالْأَرِبُ
الْحَاذِقُ الْكَامِلُ أَيْ : هُوَ أَرِبٌ فَحَذَفَ الْمُبْتَدَأَ ثُمَّ
سَأَلَ فَقَالَ " مَا لَهُ " أَيْ : مَا شَأْنُهُ .
وَهَذَا أَحْسَنُ
مِنْ إعْلَامِهِ فَإِنَّ فِي إعْلَامِهِ زِيَادَةَ إيذَاءٍ لَهُ فَإِنَّ
تَضَرُّرَ الْإِنْسَانِ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ شَتْمِهِ أَبْلَغُ مِنْ
تَضَرُّرِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ .
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ سَبَبُ
الْعُدْوَانِ عَلَى الظَّالِمِ أَوَّلًا إذْ النُّفُوسُ لَا تَقِفُ
غَالِبًا عِنْدَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ ، فَتَبَصَّرْ هَذَا فَفِي
إعْلَامِهِ هَذَانِ الْفَسَادَانِ .
وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ ثَالِثَةٌ
وَلَوْ كَانَتْ بِحَقٍّ وَهُوَ زَوَالُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ كَمَالِ
الْأُلْفِ وَالْمَحَبَّةِ ، أَوْ تَجَدُّدُ الْقَطِيعَةِ وَالْبِغْضَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ .
وَهَذِهِ
الْمَفْسَدَةُ قَدْ تَعْظُمُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَكْثَرَ مِنْ
بَعْضٍ وَلَيْسَ فِي إعْلَامِهِ فَائِدَةٌ إلَّا تَمْكِينُهُ مِنْ
اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَمَا لَوْ عَلِمَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ إمَّا
بِالْمِثْلِ إنْ أَمْكَنَ أَوْ بِالتَّعْزِيرِ أَوْ بِالْحَدِّ وَإِذَا
كَانَ فِي الْإِيفَاءِ مِنْ الْجِنْسِ مَفْسَدَةٌ عُدِلَ إلَى غَيْرِ
الْجِنْسِ كَمَا فِي الْقَذْفِ .
وَفِي الْفِدْيَةِ وَفِي الْجِرَاحِ
إذَا خِيفَ الْحَيْفُ ، وَهُنَا قَدْ لَا يَكُونُ حَيْفٌ إلَّا فِي غَيْرِ
الْجِنْسِ أَمَّا الْعُقُوبَةُ أَوْ الْأَخْذُ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَتْ
عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ
فَلْيَأْتِهِ فَلْيَسْتَحِلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ فِيهِ
دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ إلَّا الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فَإِنْ كَانَ
لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ فَأُعْطِيَهَا ، وَإِنْ
لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَأُلْقِيَتْ عَلَى
صَاحِبِهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ } .
وَإِذَا كَانَ فَيُعْطِيهِ
فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً بَدَلَ الْحَسَنَةِ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ فَالدُّعَاءُ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارُ إحْسَانٌ
إلَيْهِ وَكَذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بَدَلَ الذَّمِّ لَهُ وَهَذَا
عَامٌّ فِيمَنْ طَعَنَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ لَعَنَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِمَا
يُؤْذِيهِ أَمْرًا أَوْ خَبَرًا بِطَرِيقِ الْإِفْتَاءِ أَوْ التَّحْضِيضِ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ أَعْمَالَ اللِّسَانِ أَعْظَمُ مِنْ أَعْمَالِ
الْيَدِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ، حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ ،
أَوْ شُبْهَةٍ ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فَإِنَّ كَفَّارَةَ ذَلِكَ أَنْ
يُقَابِلَ الْإِسَاءَةَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِمَا
فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّفَاعَةِ لَهُ بِالدُّعَاءِ فَيَكُونُ
الثَّنَاءُ وَالدُّعَاءُ بَدَلَ الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ وَيَدْخُلُ فِي
هَذَا أَنْوَاعُ الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ الْجَارِي بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ أَوْ
غَيْرِ سَائِغٍ كَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا
يَقَعُ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ كَمَا
يَقَعُ بَيْنَ أَصْنَافِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ ، وَأَهْلِ
الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنُّهَى مِنْ
كَلَامِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ تَارَةً بِتَأْوِيلٍ مُجَرَّدٍ ، وَتَارَةً
بِتَأْوِيلٍ مَشُوبٍ بِهَوًى ، وَتَارَةً بِهَوًى مَحْضٍ ، بَلْ تَخَاصُمُ
هَذَا الضَّرْبِ بِالْكَلَامِ وَالْكُتُبِ كَتَخَاصُمِ غَيْرِهِمْ
بِالْأَيْدِي وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقِتَالِ أَهْلِ
الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ ، وَالطَّائِفَتَيْنِ الْبَاغِيَتَيْنِ ،
الْعَادِلَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ وَالْبَاغِيَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ .
وَهَذَا
بَابٌ نَافِعٌ جِدًّا وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ مَاسَّةٌ جِدًّا فَعَلَى هَذَا
لَوْ سَأَلَ الْمَقْذُوفُ وَالْمَسْبُوبُ لِقَاذِفِهِ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ
أَمْ لَا ؟ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ
الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ إذْ تَوْبَتُهُ صَحَّتْ فِي حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ بِالْإِحْسَانِ
إلَيْهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَنَحْوِهِ ، وَهَلْ يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ ،
أَوْ يُسْتَحَبُّ ، أَوْ يُكْرَهُ ، أَوْ يَحْرُمُ ؟ الْأَشْبَهُ أَنَّ
ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَقَدْ
يَكُونُ الِاعْتِرَافُ أَصْفَى لِلْقُلُوبِ كَمَا يَجْرِي بَيْنَ
الْأَوِدَّاءِ مِنْ ذَوِي الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ
مِنْ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ ، وَقَدْ تَكُونُ فِيهِ مَفْسَدَةُ
الْعُدْوَانِ عَلَى النَّاسِ أَوْ رُكُوبُ كَبِيرَةٍ فَلَا يَجُوزُ
الِاعْتِرَافُ قَالَ : وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ فَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَكْذِبَ بِالْجُحُودِ الصَّرِيحِ ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ
الصَّرِيحَ مُحَرَّمٌ وَالْمُبَاحُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ هَلْ هُوَ
التَّعْرِيضُ أَوْ الصَّرِيحُ ؟ فِيهِ خِلَافٌ ، فَمَنْ جَوَّزَ الصَّرِيحَ
هُنَاكَ فَهَلْ يُجَوِّزُهُ هُنَا ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَلَكِنْ يُعَرِّضُ
فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي
يُرْوَى عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ بَلَغَ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ شَيْءٌ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ بِالْمَعَارِيضِ وَقَالَ :
أُرَقِّعُ دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ أَوْ كَمَا قَالَ .
وَعَلَى هَذَا
فَإِذَا اُسْتُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ وَيُعَرِّضَ ؛
لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالِاسْتِحْلَافِ ، فَإِذَا كَانَ قَدْ تَابَ
وَصَحَّتْ تَوْبَتُهُ لَمْ يَبْقَ لِذَلِكَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَا تَجِبُ
الْيَمِينُ عَلَيْهِ ، لَكِنْ مَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ وَالْإِحْسَانِ إلَى
الْمَظْلُومِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى عَدَاوَتِهِ وَظُلْمِهِ فَإِذَا أَنْكَرَ
بِالتَّعْرِيضِ كَانَ كَاذِبًا فَإِذَا حَلَفَ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا
.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا : سُئِلْتُ عَنْ نَظِيرِ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ رَجُلٌ تَعَرَّضَ لِامْرَأَةِ غَيْرِهِ
فَزَنَى بِهَا ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَسَأَلَهُ زَوْجُهَا عَنْ ذَلِكَ
فَأَنْكَرَ فَطَلَبَ اسْتِحْلَافَهُ ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ
الْفِعْلِ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَوِيَتْ
التُّهْمَةُ ، وَإِنْ أَقَرَّ جَرَى عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا مِنْ الشَّرِّ
أَمْرٌ عَظِيمٌ ؟ فَأَفْتَيْتُهُ أَنَّهُ يَضُمُّ إلَى التَّوْبَةِ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى الْإِحْسَانَ إلَى الزَّوْجِ
بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ ، وَالصَّدَقَةِ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ
مِمَّا يَكُونُ بِإِزَاءِ إيذَائِهِ لَهُ فِي أَهْلِهِ ، فَإِنَّ الزِّنَا
بِهَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَقُّ زَوْجِهَا مِنْ
جِنْسِ حَقِّهِ فِي عِرْضِهِ ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يَنْجَبِرُ
بِالْمِثْلِ كَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ
الْقَذْفِ الَّذِي جَزَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، فَتَكُونُ تَوْبَةُ
هَذَا كَتَوْبَةِ الْقَاذِفِ ، وَتَعْرِيضُهُ كَتَعْرِيضِهِ ، وَحَلْفُهُ
عَلَى التَّعْرِيضِ كَحَلْفِهِ .
وَأَمَّا لَوْ ظَلَمَهُ فِي دَمٍ أَوْ
مَالٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيفَاءِ الْحَقِّ فَإِنَّ لَهُ بَدَلًا ،
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَبَيْنَ
تَوْبَةِ الْقَاذِفِ .
وَهَذَا الْبَابُ وَنَحْوُهُ فِيهِ خَلَاصٌ
عَظِيمٌ وَتَفْرِيجُ كُرُبَاتٍ لِلنُّفُوسِ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي
وَالْمَظَالِمِ فَإِنَّ الْفَقِيهَ كُلَّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤْيِسُ
النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى
مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى .
وَجَمِيعُ النُّفُوسِ لَا بُدَّ أَنْ
تُذْنِبَ فَتَعْرِيفُ النُّفُوسِ مَا يُخَلِّصُهَا مِنْ الذُّنُوبِ مِنْ
التَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَاتِ كَالْكَفَّارَاتِ
وَالْعُقُوبَاتِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ الشَّرِيعَةِ انْتَهَى
كَلَامُهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : فَإِنْ كَانَتْ الْمَظْلِمَةُ
فَسَادَ زَوْجَةِ جَارِهِ أَوْ غَيْرِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَهَتْكِ
فِرَاشِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : اُحْتُمِلَ أَنْ لَا يَصِحَّ إحْلَالُهُ مِنْ
ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ بِإِبَاحَتِهِ ابْتِدَاءً
فَلَا يَبْرَأُ بِإِحْلَالِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ :
وَعِنْدِي أَنَّهُ يَبْرَأُ بِالْإِحْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَيَنْبَغِي
أَنْ يَسْتَحِلَّهُ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَيَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ
بِالْإِحْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِ الْمَظْلِمَةِ وَلَا يَمْلِكُ إبَاحَتَهَا
ابْتِدَاءً كَالدَّمِ وَالْقَذْفِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ
أَنَّهُ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ وَيَفْسَخُ نِكَاحَهَا لِأَجْلِ التُّهْمَةِ
بِهِ وَغَلَبَةِ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ وَإِنَّمَا يُتَحَالَفُ فِي حُقُوقِ
الْآدَمِيِّينَ انْتَهَى كَلَامُهُ ..
وَلِهَذَا يُؤْمَرُ
الْعَبْدُ بِالتَّوْبَةِ كُلَّمَا أَذْنَبَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِشَيْخِهِ :
إنِّي أُذْنِبُ قَالَ : تُبْ قَالَ : ثُمَّ أَعُودُ ، قَالَ : تُبْ قَالَ :
ثُمَّ أَعُودُ ، قَالَ : تُبْ قَالَ : إلَى مَتَى قَالَ : إلَى أَنْ
تُحْزِنَ الشَّيْطَانَ (1)
__________
(1) - وفي فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 5993)
رقم الفتوى 57184 الشيطان يقنط الناس من رحمة الله تعالى
تاريخ الفتوى : 10 ذو القعدة 1425
السؤال
.
أنا شاب أبلغ من العمر 17 عاما ومشكلتي أني والحمد لله التزمت منذ 3 أشهر
ولكني قمت بارتكاب كثير من الكبائر مثل عقوق الوالدين والزنا ولكني الحمد
لله تبت إلى الله وأرجو أن يتقبل مني التوبة والذي يشغلني هو أني تنتابني
بعض الوساوس بأن الله لن يغفر لي حيث أني أفعل الكثير من المعاصي ثم أنكث
توبتي وأنا أعلم أن هذا قنوط من رحمة الله ولكن ماذا أفعل وينتابني أيضا
بعض الأفكار السيئة مثل تخيل شكل الله عز وجل والمصيبة أني ذات مرة تخيلت
الرسول عليه الصلاة والسلام في أوضاع وهو يجامع زوجاته وأشعر بالشك في دين
الإسلام ولكني مطمئن إلى أني مسلم ولكن أريد أن أعرف ردا على تساؤلي وهو
أني إذا دارت في نفسي أفكار سيئة ووساوس ولكني لم أؤمن بها هل أحاسب على
تلك الأفكار أم لا وماذا أفعل بشأن فعل الكبائر هل أني عندما أتوب وأعمل
أعمالا صالحة يتقبلها الله إن شاء؟! وأرجو الإفادة .جزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحمد لله أن وفقك للتوبة من هذه الكبائر قبل أن يدهمك الموت، وحينئذ لا ينفع الندم.
ونبشرك
بأن الله يقبل توبة من جاءه نادما. قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ {التوبة: 104}. وقال
أيضا: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ
اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا {النساء: 110}.
فالتوبة تجب
ما قبلها، وتمحو الذنوب السالفة. قال صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب
كمن لا ذنب له. بل إن التائب تتبدل سيئاته حسنات. قال تعالى بعد أن توعد
مرتكبي الفواحش بالعذاب الأليم قال: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ
عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {الفرقان: 70}.
فأحسن الظن بربك وارج
رحمته، ووازن بين خوفك منه وطمعك في سعة رحمته. قال تعالى عن المؤمنين:
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا {السجدة: 16}. وانظر الفتوى رقم:
16907 .
وكما عققت والديك من قبل فأحسن إليهما الآن، فإن الحسنات يذهبن
السيئات، واجتهد في تحصيل الزوجة الصالحة إن كان ذلك ممكنا لتحصن فرجك وتعف
نفسك، فإن لم تستطع فاسرد الصوم، فإن له تأثيرا بالغا في كسر حدة الشهوة.
قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج،
فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء .
رواه البخاري ومسلم .
واحذر من القنوط واليأس من رحمة الله. قال تعالى:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر: 53}.
واعلم أن
الشيطان يقنط الناس من رحمة الله تعالى حتى يزهدوا في التوبة ولا يسارعوا
إليها، ولذلك قال تعالى: إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف: 87}. وقال أيضا: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ
رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ {الحجر: 56}.
فإذا وقعت في بعض
المعاصي بعد أن تبت منها فجدد التوبة، فإن الله يفرح بتوبة العبد إذا جاء
نادما. ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أذنب عبد ذنبا فقال:
أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ
به، قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنبا آخر، فقال أي رب أذنبت ذنبا آخر فاغفر لي،
فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، فليفعل
ما يشاء .
وقال بعض السلف لشيخه: إني أذنبت، قال: تب، قال ثم أعود،
قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان.
وانظر الفتوى: 24031 .
واحذر الاسترسال مع ما يقع في قلبك من تخيلات بشأن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو تشكيك في دين الإسلام.
واعلم
أن هذه الخواطر الرديئة لا تضرك إذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم
وانقطعت ولم تسترسل معها. قال صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز عن أمتي
ما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم . رواه البخاري ومسلم .
واعلم أن كونك ترفض هذه الوساوس وتستقبحها دليل على أن فيك إيمانا وخوفا من الله. وانظر الفتويين: 187 ، 7950 فإن فيهما بيان ذلك.
كما
نوصيك بالبحث عن الشباب الصالحين المتمسكين بالدين فتنخرط فيهم، وتنتظم في
سلكهم فتحافظ على الصلاة معهم في جماعة، وتتلو معهم القرآن، وتتعلم معهم
العلم النافع، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل
الذئب من الغنم القاصية.
كما ننصحك بكثرة الاستماع إلى الأشرطة
الإسلامية وبمطالعة كتاب في سيرة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى تزداد معرفة
به وبأحواله، فيزداد حبك له فتحشر في زمرته.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
(1) -تفسير الرازي - (ج 7 / ص 362)
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا
لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
واعلم
أن الله تعالى لما ذكر هذه الصفات الخمس : أثبت للموصوفين بها أموراً
ثلاثة : الأول : قوله : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } وفيه مسائل :
المسألة
الأولى : قوله : { حَقّاً } بماذا يتصل . فيه قولان : أحدهما : بقوله : {
هُمُ المؤمنون } أي هم المؤمنون بالحقيقة . والثاني : أنه تم الكلام عند
قوله : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون } ثم ابتدأ وقال : { حَقّاً لَّهُمْ
درجات } .
المسألة الثانية : ذكروا في انتصاب { حَقّاً } وجوهاً : الأول
: قال الفراء : التقدير : أخبركم بذلك حقاً ، أي أخباراً حقاً ، ونظيره
قوله : { أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً } [ النساء : 151 ] والثاني :
قال سيبويه : إنه مصدر مؤكد لفعل محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : وإن
الذي فعلوه كان حقاً صدقاً . الثالث : قال الزجاج . التقدير : أولئك هم
المؤمنون أحق ذلك حقاً .
المسألة الثالثة : اتفقوا على أنه يجوز للمؤمن
أن يقول أنا مؤمن ، واختلفوا في أنه هل يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن حقاً
أم لا؟ فقال أصحاب الشافعي : الأولى أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله ،
ولا يقول أنا مؤمن حقاً . وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله : الأولى أن
يقول أنا مؤمن حقاً ، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، أما الذين
قالوا إنه يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، فلهم فيه مقامان :
المقام الأول : أن يكون ذلك لأجل حصول الشك في حصول الإيمان .
المقام
الثاني : أن لا يكون الأمر كذلك . أما المقام الأول ، فتقريره : أن
الإيمان عند الشافعي رضي الله عنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل
. ولا شك أن كون الإنسان آتياً بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه ، والشك في
أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية ، فالإنسان وإن كان
جازماً بحصول الاعتقاد والإقرار ، إلا أنه لما كان شاكاً في حصول العمل كان
هذا القدر يوجب كونه شاكاً في حصول الإيمان ، وأما عند أبي حنيفة رحمه
الله ، فلما كان الإيمان اسماً للاعتقاد والقول ، وكان العمل خارجاً عن
مسمى الإيمان ، لم يلزم من الشك في حصول الأعمال الشك في الإيمان . فثبت أن
من قال إن الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزمه وقوع الشك في
الإيمان ، ومن قال العمل خارج عن مسمى الإيمان يلزمه نفي الشك عن الإيمان ،
وعند هذا ظهر أن الخلاف ليس إلا في اللفظ فقط . وأما المقام الثاني : وهو
أن نقول : إن قوله : أنا مؤمن إن شاء الله ليس لأجل الشك ، فيه وجوه :
الأول : أن كون الرجل مؤمناً أشرف صفاته وأعرف نعوته وأحواله ، فإذا قال
أنا مؤمن ، فكأنه مدح نفسه بأعظم المدائح . فوجب أن يقول : إن شاء الله
ليصير هذا سبباً لحصول الانكسار في القلب وزوال العجب . روي أن أبا حنيفة
رحمه الله ، قال لقتادة : لم تستثني في إيمانك . قال اتباعاً لإبراهيم عليه
السلام في قوله :{ والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ
الدين } [ الشعراء : 82 ] فقال أبو حنيفة رحمه الله : هلا اقتديت به في
قوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى } [ البقرة : 260 ] وأقول : كان
لقتادة أن يجيب ، ويقول : إنه بعد أن قال : { بلى } قال : { ولكن
لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } فطلب مزيد الطمأنينة ، وهذا يدل على أنه لا بد من
قول إن شاء الله . الثاني : أنه تعالى ذكر في هذه الآية أن الرجل لا يكون
مؤمناً إلا إذا كان موصوفاً بالصفات الخمسة ، وهي الخوف من الله ، والإخلاص
في دين الله ، والتوكل على الله ، والإتيان بالصلاة والزكاة لوجه الله
تعالى . وذكر في أول الآية ما يدل على الحصر ، وهو قوله : { إِنَّمَا
المؤمنون الذين } هم كذا وكذا . وذكر في آخر الآية قوله : { أُوْلئِكَ هُمُ
المؤمنون حَقّاً } وهذا أيضاً يفيد الحصر ، فلما دلت هذه الآية على هذا
المعنى ، ثم إن الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس ،
لا جرم كان الأولى أن يقول : إن شاء الله . روى أن الحسن سأله رجل وقال :
أمؤمن أنت؟ فقال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله :
{ إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }
فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟ الثالث : أن القرآن العظيم دل على أن كل
من كان مؤمناً ، كان من أهل الجنة فالقطع بكونه مؤمناً يوجب القطع بكونه من
أهل الجنة ، وذلك لا سبيل إليه ، فكذا هذا . ونقل عن الثوري أنه قال : من
زعم أنه مؤمن بالله حقاً ، ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة ، فقد آمن بنصف
الآية . والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة ، فكذلك لا
سبيل إلى القطع بأنه مؤمن . الرابع : أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب
وعن المعرفة ، وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمناً في الحقيقة عند ما يكون
هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر ، فأما عند زوال
هذا المعنى ، فهو إنما يكون مؤمناً بحسب حكم الله ، أما في نفس الأمر فلا .
إذا
عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء الله عائداً إلى استدامة
مسمى الإيمان واستحضار معناه أبداً دائماً من غير حصول ذهول وغفلة عنه ،
وهذا المعنى محتمل . الخامس : أن أصحاب الموافاة يقولون : شرط كونه مؤمناً
في الحال حصول الموافاة على الإيمان ، وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت ،
ويكون مجهولاً ، والموقوف على المجهول مجهول . فلهذا السبب حسن أن يقال :
أنا مؤمن إن شاء الله . السادس : أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله عند الموت
، والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة ، فإن الرجل وإن كان
مؤمناً في الحال ، إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة؛ كان
وجوده كعدمه ، ولم تحصل فائدة أصلاً ، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء
هذا المعنى . السابع : أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ، ألا
ترى أنه تعالى قال : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق
لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ } [ الفتح : 27 ] وهو
تعالى منزه عن الشك والريب . فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليماً منه
لعباده ، هذا المعنى ، فكذا ههنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض
الأمور إلى الله ، حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان . الثامن : أن
جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة ، ورأينا لهم ما يقويه في كتاب الله وهو
قوله تعالى : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } وهم المؤمنون في علم الله
وفي حكمه ، وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين ، وعلى وجود جمع لا
يكونون كذلك . فالمؤمن يقول : إن شاء الله حتى يجعله الله ببركة هذه الكلمة
من القسم الأول لا من القسم الثاني . أما القائلون : أنه لا يجوز ذكر هذه
الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه : الأول : أن المتحرك يجوز أن يقول :
أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله ، وكذا القول في القائم
والقاعد ، فكذا ههنا وجب أن يكون المؤمن مؤمناً ، ولا يجوز أن يقول : أنا
مؤمن إن شاء الله ، وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركاً في المستقبل لا
يمنع من الحكم عليه بكونه متحركاً حال قيام الحركة به فكذلك احتمال زوال
الإيمان في المستقبل ، لا يقدح في كونه مؤمناً في الحال . الثاني : أنه
تعالى قال : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } فقد حكم تعالى عليهم
بكونهم مؤمنين حقاً فكان قوله إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله عليه
بالحصول وذلك لا يجوز .
والجواب عن الأول : أن الفرق بين وصف الإنسان
بكونه مؤمناً ، وبين وصفه بكونه متحركاً ، حاصل من الوجوه الكثيرة التي
ذكرناها ، وعند حصول الفرق يتعذر الجمع ، وعن الثاني أنه تعالى حكم على
الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقاً ، وذلك الشرط مشكوك فيه ،
والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط . فهذا يقوي عين مذهبنا . والله أعلم .
الإبانة الكبرى لابن بطة - (ج 3 / ص 198)
1169 - حدثنا
أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا
وكيع ، قال : حدثنا مالك بن مغول ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ، عن
عائشة ، رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله : ( والذين يؤتون ما آتوا
وقلوبهم وجلة ( سورة : المؤمنون آية رقم : 60) هو الرجل يسرق ويزني ويشرب
الخمر ؟ قال : « لا يا بنت الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ، وهو
يخاف أن لا يقبل منه » قال الشيخ : فلما أن لزم قلوبهم هذا الإشفاق ، لزموا
الاستثناء في كلامهم ، وفي مستقبل أعمالهم ، فمن صفة أهل العقل والعلم :
أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله ، لا على وجه الشك ، ونعوذ بالله من
الشك في الإيمان ، لأن الإيمان إقرار لله بالربوبية ، وخضوع له في العبودية
، وتصديق له في كل ما قال وأمر ونهى . فالشاك في شيء من هذا كافر لا محالة
، ولكن الاستثناء يصح من وجهين : أحدهما نفي التزكية لئلا يشهد الإنسان
على نفسه بحقائق الإيمان وكوامله ، فإن من قطع على نفسه بهذه الأوصاف شهد
لها بالجنة ، وبالرضاء وبالرضوان ، ومن شهد لنفسه بهذه الشهادة كان خليقا
بضدها ، أرأيت لو أن رجلا شهد عند بعض الحكام على شيء تافه نزر ، فقال له
الحاكم : لست أعرفك ولكني أسأل عنك ، ثم أسمع شهادتك فقال له : إنك لن تسأل
عني أعلم بي مني أنا رجل ذكي عدل ، مأمون رضي ، جائز الشهادة ، ثابت
العدالة . أليس كان قد أخبر عن نفسه بضعف بصيرته ، وقلة عقله بما دل الحاكم
على رد شهادته ، وأغناه عن المسألة عنه ، فما ظنك بمن قطع على نفسه بحقائق
الإيمان التي هي من أوصاف النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحكم
لنفسه بالخلود في جنات النعيم . ويصح الاستثناء أيضا من وجه آخر يقع على
مستقبل الأعمال ومستأنف الأفعال وعلى الخاتمة ، وبقية الأعمار ، ويريد إني
مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين ، وإن كنت عند الله مثبتا في ديوان
أهل الإيمان ، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمرا يدوم لي ويبقى
علي حتى ألقى الله به ، ولا أدري هل أصبح وأمسي على الإيمان أم لا ؟ وبذلك
أدب الله نبيه والمؤمنين من عباده ، قال تعالى : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل
ذلك غدا إلا أن يشاء الله ( سورة : الكهف آية رقم : 23) . فأنت لا يجوز لك
إن كنت ممن يؤمن بالله وتعلم أن قلبك بيده يصرفه كيف شاء أن تقول قولا
حزما حتما : إني أصبح غدا مؤمنا ، ولا تقول : إني أصبح غدا كافرا ولا
منافقا ، إلا أن تصل كلامك بالاستثناء فتقول : إن شاء الله ، فهكذا أوصاف
العقلاء من المؤمنين
وفي بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 1 / ص 466)
(
وَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ مَنْ وُجِدَا ) التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ (
فِيهِ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا ) لِتَحَقُّقِ الْإِيمَانِ فِيهِ لِأَنَّهُ
لَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِأَنْ كَانَ شَاكًّا أَوْ مُتَرَدِّدًا أَوْ خَالِي
الذِّهْنِ لَكَانَ كَافِرًا وَمَنْ شَكَّ فِي إيمَانِهِ فَهُوَ كَافِرٌ (
وَلَا يَنْبَغِي ) أَيْ لَا يَلِيقُ بَلْ يَجُوزُ ( أَنْ يَقُولَ أَنَا
مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ
تَغْيِيرٍ يُبْطِلُ جَمِيعَ الْعُقُودِ فَيَرْفَعُ الْإِيمَانَ وَإِنْ
كَانَ لِلتَّأَدُّبِ أَوْ التَّبَرُّكِ وَالْإِحَالَةِ إلَى مَشِيئَتِهِ
تَعَالَى وَعِلْمِهِ أَوْ لِلشَّكِّ فِي عَاقِبَتِهِ أَوْ التَّبَرِّي مِنْ
تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَالْإِعْجَابِ بِحَالِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ
الْحَدِيثِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي
نَفْسِهِ لَكِنْ الْأَوْلَى تَرْكُهُ لِإِيهَامِ الشَّكِّ وَقَدْ أُمِرْنَا
بِاتِّقَاءِ مَوَاضِعِ التُّهَمِ .
وَبِالْجُمْلَةِ نِزَاعُ
الْفَرِيقَيْنِ رَاجِعٌ إلَى اللَّفْظِ ( وَالْإِيمَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى
) أَيْ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ ( مَخْلُوقٌ ) كَسَائِرِ أَفْعَالِ
الْعِبَادِ ( كَسْبِيٌّ ) أَيْ حَاصِلٌ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ
بِالِاخْتِيَارِ كَصَرْفِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ
وَقَدْ عَرَفْت حَالَ مَا يَحْصُلُ بِالضَّرُورَةِ ( وَأَمَّا )
الْإِيمَانُ ( بِمَعْنَى هِدَايَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لِعَبْدِهِ إلَى
مَعْرِفَتِهِ ) بِلَا كَيْفٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ ( فَغَيْرُ مَخْلُوقٍ )
لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مِنْ التَّكْوِينِ وَهُوَ قَدِيمٌ عِنْدَ
الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ قِيلَ :
عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ مَنْ قَالَ : الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ لَا تَجُوزُ
الصَّلَاةُ خَلْفَهُ وَكَذَا عَكْسُهُ .
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا
لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
واعلم
أن الله تعالى لما ذكر هذه الصفات الخمس : أثبت للموصوفين بها أموراً
ثلاثة : الأول : قوله : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } وفيه مسائل :
المسألة
الأولى : قوله : { حَقّاً } بماذا يتصل . فيه قولان : أحدهما : بقوله : {
هُمُ المؤمنون } أي هم المؤمنون بالحقيقة . والثاني : أنه تم الكلام عند
قوله : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون } ثم ابتدأ وقال : { حَقّاً لَّهُمْ
درجات } .
المسألة الثانية : ذكروا في انتصاب { حَقّاً } وجوهاً : الأول
: قال الفراء : التقدير : أخبركم بذلك حقاً ، أي أخباراً حقاً ، ونظيره
قوله : { أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً } [ النساء : 151 ] والثاني :
قال سيبويه : إنه مصدر مؤكد لفعل محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : وإن
الذي فعلوه كان حقاً صدقاً . الثالث : قال الزجاج . التقدير : أولئك هم
المؤمنون أحق ذلك حقاً .
المسألة الثالثة : اتفقوا على أنه يجوز للمؤمن
أن يقول أنا مؤمن ، واختلفوا في أنه هل يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن حقاً
أم لا؟ فقال أصحاب الشافعي : الأولى أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله ،
ولا يقول أنا مؤمن حقاً . وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله : الأولى أن
يقول أنا مؤمن حقاً ، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، أما الذين
قالوا إنه يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، فلهم فيه مقامان :
المقام الأول : أن يكون ذلك لأجل حصول الشك في حصول الإيمان .
المقام
الثاني : أن لا يكون الأمر كذلك . أما المقام الأول ، فتقريره : أن
الإيمان عند الشافعي رضي الله عنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل
. ولا شك أن كون الإنسان آتياً بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه ، والشك في
أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية ، فالإنسان وإن كان
جازماً بحصول الاعتقاد والإقرار ، إلا أنه لما كان شاكاً في حصول العمل كان
هذا القدر يوجب كونه شاكاً في حصول الإيمان ، وأما عند أبي حنيفة رحمه
الله ، فلما كان الإيمان اسماً للاعتقاد والقول ، وكان العمل خارجاً عن
مسمى الإيمان ، لم يلزم من الشك في حصول الأعمال الشك في الإيمان . فثبت أن
من قال إن الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزمه وقوع الشك في
الإيمان ، ومن قال العمل خارج عن مسمى الإيمان يلزمه نفي الشك عن الإيمان ،
وعند هذا ظهر أن الخلاف ليس إلا في اللفظ فقط . وأما المقام الثاني : وهو
أن نقول : إن قوله : أنا مؤمن إن شاء الله ليس لأجل الشك ، فيه وجوه :
الأول : أن كون الرجل مؤمناً أشرف صفاته وأعرف نعوته وأحواله ، فإذا قال
أنا مؤمن ، فكأنه مدح نفسه بأعظم المدائح . فوجب أن يقول : إن شاء الله
ليصير هذا سبباً لحصول الانكسار في القلب وزوال العجب . روي أن أبا حنيفة
رحمه الله ، قال لقتادة : لم تستثني في إيمانك . قال اتباعاً لإبراهيم عليه
السلام في قوله :{ والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ
الدين } [ الشعراء : 82 ] فقال أبو حنيفة رحمه الله : هلا اقتديت به في
قوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى } [ البقرة : 260 ] وأقول : كان
لقتادة أن يجيب ، ويقول : إنه بعد أن قال : { بلى } قال : { ولكن
لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } فطلب مزيد الطمأنينة ، وهذا يدل على أنه لا بد من
قول إن شاء الله . الثاني : أنه تعالى ذكر في هذه الآية أن الرجل لا يكون
مؤمناً إلا إذا كان موصوفاً بالصفات الخمسة ، وهي الخوف من الله ، والإخلاص
في دين الله ، والتوكل على الله ، والإتيان بالصلاة والزكاة لوجه الله
تعالى . وذكر في أول الآية ما يدل على الحصر ، وهو قوله : { إِنَّمَا
المؤمنون الذين } هم كذا وكذا . وذكر في آخر الآية قوله : { أُوْلئِكَ هُمُ
المؤمنون حَقّاً } وهذا أيضاً يفيد الحصر ، فلما دلت هذه الآية على هذا
المعنى ، ثم إن الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس ،
لا جرم كان الأولى أن يقول : إن شاء الله . روى أن الحسن سأله رجل وقال :
أمؤمن أنت؟ فقال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله :
{ إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }
فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟ الثالث : أن القرآن العظيم دل على أن كل
من كان مؤمناً ، كان من أهل الجنة فالقطع بكونه مؤمناً يوجب القطع بكونه من
أهل الجنة ، وذلك لا سبيل إليه ، فكذا هذا . ونقل عن الثوري أنه قال : من
زعم أنه مؤمن بالله حقاً ، ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة ، فقد آمن بنصف
الآية . والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة ، فكذلك لا
سبيل إلى القطع بأنه مؤمن . الرابع : أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب
وعن المعرفة ، وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمناً في الحقيقة عند ما يكون
هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر ، فأما عند زوال
هذا المعنى ، فهو إنما يكون مؤمناً بحسب حكم الله ، أما في نفس الأمر فلا .
إذا
عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء الله عائداً إلى استدامة
مسمى الإيمان واستحضار معناه أبداً دائماً من غير حصول ذهول وغفلة عنه ،
وهذا المعنى محتمل . الخامس : أن أصحاب الموافاة يقولون : شرط كونه مؤمناً
في الحال حصول الموافاة على الإيمان ، وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت ،
ويكون مجهولاً ، والموقوف على المجهول مجهول . فلهذا السبب حسن أن يقال :
أنا مؤمن إن شاء الله . السادس : أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله عند الموت
، والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة ، فإن الرجل وإن كان
مؤمناً في الحال ، إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة؛ كان
وجوده كعدمه ، ولم تحصل فائدة أصلاً ، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء
هذا المعنى . السابع : أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ، ألا
ترى أنه تعالى قال : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق
لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ } [ الفتح : 27 ] وهو
تعالى منزه عن الشك والريب . فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليماً منه
لعباده ، هذا المعنى ، فكذا ههنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض
الأمور إلى الله ، حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان . الثامن : أن
جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة ، ورأينا لهم ما يقويه في كتاب الله وهو
قوله تعالى : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } وهم المؤمنون في علم الله
وفي حكمه ، وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين ، وعلى وجود جمع لا
يكونون كذلك . فالمؤمن يقول : إن شاء الله حتى يجعله الله ببركة هذه الكلمة
من القسم الأول لا من القسم الثاني . أما القائلون : أنه لا يجوز ذكر هذه
الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه : الأول : أن المتحرك يجوز أن يقول :
أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله ، وكذا القول في القائم
والقاعد ، فكذا ههنا وجب أن يكون المؤمن مؤمناً ، ولا يجوز أن يقول : أنا
مؤمن إن شاء الله ، وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركاً في المستقبل لا
يمنع من الحكم عليه بكونه متحركاً حال قيام الحركة به فكذلك احتمال زوال
الإيمان في المستقبل ، لا يقدح في كونه مؤمناً في الحال . الثاني : أنه
تعالى قال : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } فقد حكم تعالى عليهم
بكونهم مؤمنين حقاً فكان قوله إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله عليه
بالحصول وذلك لا يجوز .
والجواب عن الأول : أن الفرق بين وصف الإنسان
بكونه مؤمناً ، وبين وصفه بكونه متحركاً ، حاصل من الوجوه الكثيرة التي
ذكرناها ، وعند حصول الفرق يتعذر الجمع ، وعن الثاني أنه تعالى حكم على
الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقاً ، وذلك الشرط مشكوك فيه ،
والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط . فهذا يقوي عين مذهبنا . والله أعلم .
الإبانة الكبرى لابن بطة - (ج 3 / ص 198)
1169 - حدثنا
أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا
وكيع ، قال : حدثنا مالك بن مغول ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ، عن
عائشة ، رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله : ( والذين يؤتون ما آتوا
وقلوبهم وجلة ( سورة : المؤمنون آية رقم : 60) هو الرجل يسرق ويزني ويشرب
الخمر ؟ قال : « لا يا بنت الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ، وهو
يخاف أن لا يقبل منه » قال الشيخ : فلما أن لزم قلوبهم هذا الإشفاق ، لزموا
الاستثناء في كلامهم ، وفي مستقبل أعمالهم ، فمن صفة أهل العقل والعلم :
أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله ، لا على وجه الشك ، ونعوذ بالله من
الشك في الإيمان ، لأن الإيمان إقرار لله بالربوبية ، وخضوع له في العبودية
، وتصديق له في كل ما قال وأمر ونهى . فالشاك في شيء من هذا كافر لا محالة
، ولكن الاستثناء يصح من وجهين : أحدهما نفي التزكية لئلا يشهد الإنسان
على نفسه بحقائق الإيمان وكوامله ، فإن من قطع على نفسه بهذه الأوصاف شهد
لها بالجنة ، وبالرضاء وبالرضوان ، ومن شهد لنفسه بهذه الشهادة كان خليقا
بضدها ، أرأيت لو أن رجلا شهد عند بعض الحكام على شيء تافه نزر ، فقال له
الحاكم : لست أعرفك ولكني أسأل عنك ، ثم أسمع شهادتك فقال له : إنك لن تسأل
عني أعلم بي مني أنا رجل ذكي عدل ، مأمون رضي ، جائز الشهادة ، ثابت
العدالة . أليس كان قد أخبر عن نفسه بضعف بصيرته ، وقلة عقله بما دل الحاكم
على رد شهادته ، وأغناه عن المسألة عنه ، فما ظنك بمن قطع على نفسه بحقائق
الإيمان التي هي من أوصاف النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحكم
لنفسه بالخلود في جنات النعيم . ويصح الاستثناء أيضا من وجه آخر يقع على
مستقبل الأعمال ومستأنف الأفعال وعلى الخاتمة ، وبقية الأعمار ، ويريد إني
مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين ، وإن كنت عند الله مثبتا في ديوان
أهل الإيمان ، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمرا يدوم لي ويبقى
علي حتى ألقى الله به ، ولا أدري هل أصبح وأمسي على الإيمان أم لا ؟ وبذلك
أدب الله نبيه والمؤمنين من عباده ، قال تعالى : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل
ذلك غدا إلا أن يشاء الله ( سورة : الكهف آية رقم : 23) . فأنت لا يجوز لك
إن كنت ممن يؤمن بالله وتعلم أن قلبك بيده يصرفه كيف شاء أن تقول قولا
حزما حتما : إني أصبح غدا مؤمنا ، ولا تقول : إني أصبح غدا كافرا ولا
منافقا ، إلا أن تصل كلامك بالاستثناء فتقول : إن شاء الله ، فهكذا أوصاف
العقلاء من المؤمنين
وفي بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (ج 1 / ص 466)
(
وَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ مَنْ وُجِدَا ) التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ (
فِيهِ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا ) لِتَحَقُّقِ الْإِيمَانِ فِيهِ لِأَنَّهُ
لَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِأَنْ كَانَ شَاكًّا أَوْ مُتَرَدِّدًا أَوْ خَالِي
الذِّهْنِ لَكَانَ كَافِرًا وَمَنْ شَكَّ فِي إيمَانِهِ فَهُوَ كَافِرٌ (
وَلَا يَنْبَغِي ) أَيْ لَا يَلِيقُ بَلْ يَجُوزُ ( أَنْ يَقُولَ أَنَا
مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ
تَغْيِيرٍ يُبْطِلُ جَمِيعَ الْعُقُودِ فَيَرْفَعُ الْإِيمَانَ وَإِنْ
كَانَ لِلتَّأَدُّبِ أَوْ التَّبَرُّكِ وَالْإِحَالَةِ إلَى مَشِيئَتِهِ
تَعَالَى وَعِلْمِهِ أَوْ لِلشَّكِّ فِي عَاقِبَتِهِ أَوْ التَّبَرِّي مِنْ
تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَالْإِعْجَابِ بِحَالِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ
الْحَدِيثِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي
نَفْسِهِ لَكِنْ الْأَوْلَى تَرْكُهُ لِإِيهَامِ الشَّكِّ وَقَدْ أُمِرْنَا
بِاتِّقَاءِ مَوَاضِعِ التُّهَمِ .
وَبِالْجُمْلَةِ نِزَاعُ
الْفَرِيقَيْنِ رَاجِعٌ إلَى اللَّفْظِ ( وَالْإِيمَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى
) أَيْ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ ( مَخْلُوقٌ ) كَسَائِرِ أَفْعَالِ
الْعِبَادِ ( كَسْبِيٌّ ) أَيْ حَاصِلٌ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ
بِالِاخْتِيَارِ كَصَرْفِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ
وَقَدْ عَرَفْت حَالَ مَا يَحْصُلُ بِالضَّرُورَةِ ( وَأَمَّا )
الْإِيمَانُ ( بِمَعْنَى هِدَايَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لِعَبْدِهِ إلَى
مَعْرِفَتِهِ ) بِلَا كَيْفٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ ( فَغَيْرُ مَخْلُوقٍ )
لِأَنَّ الْهِدَايَةَ مِنْ التَّكْوِينِ وَهُوَ قَدِيمٌ عِنْدَ
الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ قِيلَ :
عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ مَنْ قَالَ : الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ لَا تَجُوزُ
الصَّلَاةُ خَلْفَهُ وَكَذَا عَكْسُهُ .
وَصَلَّيْت - إنْ شَاءَ اللَّهُ - لِخَوْفِ
أَنْ لَا يَكُونَ آتَى بِالْوَاجِبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ
لَا عَلَى جِهَةِ الشَّكِّ فِيمَا بِقَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ ؛ لَا
يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ : إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ
إلَّا مِمَّنْ يَتَّقِي الذُّنُوبَ كُلَّهَا، لِأَنَّ الْكَافِرَ
وَالْفَاسِقَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ لَيْسَ مُتَّقِيًا فَإِنْ كَانَ
قَبُولُ الْعَمَلِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِ الْفَاعِلِ حِينَ فِعْلِهِ لَا
ذَنْبَ لَهُ امْتَنَعَ قَبُولُ التَّوْبَةِ . بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَطَ
التَّقْوَى فِي الْعَمَلِ ، فَإِنَّ التَّائِبَ حِينَ يَتُوبُ يَأْتِي
بِالتَّوْبَةِ الْوَاجِبَةِ وَهُوَ حِينَ شُرُوعِهِ فِي التَّوْبَةِ
مُنْتَقِلٌ مِنْ الشَّرِّ إلَى الْخَيْرِ لَمْ يَخْلُصْ مِنْ الذَّنْبِ
بَلْ هُوَ مُتَّقٍ فِي حَالِ تَخَلُّصِهِ مِنْهُ .
وَ " أَيْضًا "
فَلَوْ أَتَى الْإِنْسَانُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى
كَبِيرَةٍ ثُمَّ تَابَ لَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ سَيِّئَاتُهُ بِالتَّوْبَةِ
وَتُقْبَلُ مِنْهُ تِلْكَ الْحَسَنَاتُ وَهُوَ حِينَ أَتَى بِهَا كَانَ
فَاسِقًا .
وَ " أَيْضًا " فَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ لِلنَّاسِ مَظَالِمُ مِنْ قَتْلٍ وَغَصْبٍ وَقَذْفٍ - وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا أَسْلَمَ - قَبْلَ
إسْلَامِهِ مَعَ بَقَاءِ مَظَالِمِ الْعِبَادِ عَلَيْهِ ؛ فَلَوْ كَانَ
الْعَمَلُ لَا يُقْبَلُ إلَّا مِمَّنْ لَا كَبِيرَةَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ
إسْلَامُ الذِّمِّيِّ حَتَّى يَتُوبَ مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْمَظَالِمِ ؛
بَلْ يَكُونُ مَعَ إسْلَامِهِ مُخَلَّدًا وَقَدْ كَانَ النَّاسُ
مُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَهُمْ ذُنُوبٌ مَعْرُوفَةٌ وَعَلَيْهِمْ تَبِعَاتٌ فَيُقْبَلُ
إسْلَامُهُمْ وَيَتُوبُونَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ التَّبِعَاتِ .
كَمَا
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَمَّا أَسْلَمَ
وَكَانَ قَدْ رَافَقَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَغَدَرَ بِهِمْ
وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَجَاءَ فَأَسْلَمَ فَلَمَّا جَاءَ عُرْوَةُ بْنُ
مَسْعُودٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْمُغِيرَةُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ دَفَعَهُ
الْمُغِيرَةُ بِالسَّيْفِ فَقَالَ : مَنْ هَذَا فَقَالُوا : ابْنُ أُخْتِك
الْمُغِيرَةُ فَقَالَ يَا غدر أَلَسْت أَسْعَى فِي غُدْرَتِكَ ؟ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الْإِسْلَامُ
فَأَقْبَلُهُ وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْءٍ }(1)
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَمَّا أَسْلَمَ
وَكَانَ قَدْ رَافَقَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَغَدَرَ بِهِمْ
وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَجَاءَ فَأَسْلَمَ فَلَمَّا جَاءَ عُرْوَةُ بْنُ
مَسْعُودٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْمُغِيرَةُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ دَفَعَهُ
الْمُغِيرَةُ بِالسَّيْفِ فَقَالَ : مَنْ هَذَا فَقَالُوا : ابْنُ أُخْتِك
الْمُغِيرَةُ فَقَالَ يَا غدر أَلَسْت أَسْعَى فِي غُدْرَتِكَ ؟ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الْإِسْلَامُ
فَأَقْبَلُهُ وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْءٍ }(1)
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
(1) - صحيح البخارى برقم(2731 و2732
) عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ، حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِى خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ
طَلِيعَةً فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ » . فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ
خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ
نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ ، وَسَارَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى
إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِى يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا ،
بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ . فَقَالَ النَّاسُ حَلْ حَلْ . فَأَلَحَّتْ ،
فَقَالُوا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ . فَقَالَ
النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ ، وَلَكِنْ
حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ، ثُمَّ قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ
يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ
أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » . ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ ، قَالَ فَعَدَلَ
عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ ، عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ
الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا ، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ
النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ ، وَشُكِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَطَشُ
، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ
يَجْعَلُوهُ فِيهِ ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّىِّ
حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ
بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِىُّ فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ ،
وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ
أَهْلِ تِهَامَةَ ، فَقَالَ إِنِّى تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ
وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ ،
وَمَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ
الْبَيْتِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «
إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ ،
وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ ،
فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً ، وَيُخَلُّوا بَيْنِى وَبَيْنَ
النَّاسِ ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ
فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا ، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا
فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِى هَذَا
حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى ، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ » .
فَقَالَ بُدَيْلٌ سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ . قَالَ فَانْطَلَقَ حَتَّى
أَتَى قُرَيْشًا قَالَ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ ،
وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً ، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ
عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا ، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ
تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَىْءٍ . وَقَالَ ذَوُو الرَّأْىِ مِنْهُمْ هَاتِ مَا
سَمِعْتَهُ يَقُولُ . قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا ،
فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - .
فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَىْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ
بِالْوَالِدِ قَالُوا بَلَى . قَالَ أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ قَالُوا بَلَى .
قَالَ فَهَلْ تَتَّهِمُونِى . قَالُوا لاَ . قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ
أَنِّى اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَىَّ
جِئْتُكُمْ بِأَهْلِى وَوَلَدِى وَمَنْ أَطَاعَنِى قَالُوا بَلَى . قَالَ
فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، اقْبَلُوهَا وَدَعُونِى
آتِهِ . قَالُوا ائْتِهِ . فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوًا
مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَىْ
مُحَمَّدُ ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ
بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ وَإِنْ تَكُنِ
الأُخْرَى ، فَإِنِّى وَاللَّهِ لأَرَى وُجُوهًا ، وَإِنِّى لأَرَى
أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ . فَقَالَ
لَهُ أَبُو بَكْرٍ امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ
وَنَدَعُهُ فَقَالَ مَنْ ذَا قَالُوا أَبُو بَكْرٍ . قَالَ أَمَا وَالَّذِى
نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِى لَمْ أَجْزِكَ بِهَا
لأَجَبْتُكَ . قَالَ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ ، وَقَالَ لَهُ أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ . فَقَالَ أَىْ غُدَرُ ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِى غَدْرَتِكَ
وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَتَلَهُمْ ،
وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِى
شَىْءٍ » . ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَيْنَيْهِ . قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نُخَامَةً
إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ
وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ
كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا
أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا
لَهُ ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ أَىْ قَوْمِ ،
وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ
وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِىِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ ،
يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُحَمَّدًا
، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ
ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى
وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا
يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ
عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، فَاقْبَلُوهَا . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى
كِنَانَةَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى
النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «
هَذَا فُلاَنٌ ، وَهْوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا
لَهُ » . فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ ، فَلَمَّا
رَأَى ذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِى لِهَؤُلاَءِ أَنْ
يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ
رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ ، فَمَا أَرَى أَنْ
يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ . فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ
بْنُ حَفْصٍ . فَقَالَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا مِكْرَزٌ وَهْوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ » . فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ،
فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو . قَالَ
مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ
سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ » . قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ
الزُّهْرِىُّ فِى حَدِيثِهِ فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ هَاتِ ،
اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا ، فَدَعَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْكَاتِبَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ » . قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا
الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ
اللَّهُمَّ . كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ . فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاللَّهِ
لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . فَقَالَ
النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ » . ثُمَّ قَالَ « هَذَا مَا قَاضَى
عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ » . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لَوْ
كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ
وَلاَ قَاتَلْنَاكَ ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ .
فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
وَاللَّهِ إِنِّى لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِى . اكْتُبْ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ » . قَالَ الزُّهْرِىُّ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ
« لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ
أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » . فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ » .
فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا
ضُغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ . فَقَالَ
سُهَيْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ ، وَإِنْ كَانَ
عَلَى دِينِكَ ، إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا . قَالَ الْمُسْلِمُونَ
سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ
مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ
سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ
أَسْفَلِ مَكَّةَ ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ
الْمُسْلِمِينَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا
أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ » . قَالَ فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَىْءٍ أَبَدًا . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
فَأَجِزْهُ لِى » . قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ . قَالَ « بَلَى ،
فَافْعَلْ » . قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ . قَالَ مِكْرَزٌ بَلْ قَدْ
أَجَزْنَاهُ لَكَ . قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ،
أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلاَ تَرَوْنَ مَا
قَدْ لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ . قَالَ
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ
أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ أَلَسْنَا
عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ
فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ « إِنِّى رَسُولُ
اللَّهِ ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِى » . قُلْتُ أَوَلَيْسَ
كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ «
بَلَى ، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ » . قَالَ قُلْتُ لاَ .
قَالَ « فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ » . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا
بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا
قَالَ بَلَى . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى
الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا
إِذًا قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ
يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ ،
فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ . قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا
أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى ، أَفَأَخْبَرَكَ
أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ
وَمُطَّوِّفٌ بِهِ . قَالَ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ
أَعْمَالاً . قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ
« قُومُوا فَانْحَرُوا ، ثُمَّ احْلِقُوا » . قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ
مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ
يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَ لَهَا مَا
لَقِىَ مِنَ النَّاسِ . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ،
أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً
حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ . فَخَرَجَ
فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ
، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ . فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ ، قَامُوا
فَنَحَرُوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا ، حَتَّى كَادَ
بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) حَتَّى بَلَغَ (
بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ
كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ
أَبِى سُفْيَانَ ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، ثُمَّ رَجَعَ
النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهْوَ
مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ ، فَقَالُوا الْعَهْدَ
الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا . فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ ، فَخَرَجَا بِهِ
حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ
لَهُمْ ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّى
لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا . فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ
فَقَالَ أَجَلْ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ
ثُمَّ جَرَّبْتُ . فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْهِ ،
فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ ، وَفَرَّ الآخَرُ ،
حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو . فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُ « لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا » . فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ
قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ
فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ ،
قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ . قَالَ
النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ » . فَلَمَّا
سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى
أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ . قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ
سُهَيْلٍ ، فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ
قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، حَتَّى
اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ
خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا ،
فَقَتَلُوهُمْ ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى
النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ
، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) حَتَّى بَلَغَ ( الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا
أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 8 / ص 283)
قَوْله : ( أَيْ غُدَر ) بِالْمُعْجَمَةِ بِوَزْنِ عُمَر مَعْدُول عَنْ غَادِر مُبَالَغَة فِي وَصْفه بِالْغَدْرِ .
قَوْله
: ( أَلَسْت أَسْعَى فِي غَدْرَتك ) أَيْ أَلَسْت أَسْعَى فِي دَفْع شَرّ
غَدْرَتك ؟ وَفِي مَغَازِي عُرْوَة " وَاَللَّه مَا غَسَلْت يَدَيَّ مِنْ
غَدْرَتك ، لَقَدْ أَوْرَثْتنَا الْعَدَاوَة فِي ثَقِيف " وَفِي رِوَايَة
اِبْن إِسْحَاق " وَهَلْ غَسَلْت سَوْأَتك إِلَّا بِالْأَمْسِ " قَالَ
اِبْن هِشَام فِي السِّيرَة : أَشَارَ عُرْوَة بِهَذَا إِلَى مَا وَقَعَ
لِلْمُغِيرَةِ قَبْل إِسْلَامه ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ ثَلَاثَة
عَشَر نَفَرًا مِنْ ثَقِيف مِنْ بَنِي مَالِك فَغَدَرَ بِهِمْ وَقَتَلَهُمْ
وَأَخَذَ أَمْوَالهمْ ، فَتَهَايَجَ الْفَرِيقَانِ بَنُو مَالِك
وَالْأَحْلَاف رَهْط الْمُغِيرَة فَسَعَى عُرْوَة بْن مَسْعُود عَمّ
الْمُغِيرَة حَتَّى أَخَذُوا مِنْهُ دِيَة ثَلَاثَة عَشَر نَفْسًا
وَاصْطَلَحُوا . وَفِي الْقِصَّة طُول . وَقَدْ سَاقَ اِبْن الْكَلْبِيّ
وَالْوَاقِدِيّ الْقِصَّة ، وَحَاصِلهَا أَنَّهُمْ كَانُوا خَرَجُوا
زَائِرِينَ الْمُقَوْقِس بِمِصْرَ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَعْطَاهُمْ
وَقَصَّرَ بِالْمُغِيرَةِ فَحَصَلَتْ لَهُ الْغَيْرَة مِنْهُمْ ، فَلَمَّا
كَانُوا بِالطَّرِيقِ شَرِبُوا الْخَمْر ، فَلَمَّا سَكِرُوا وَنَامُوا
وَثَبَ الْمُغِيرَة فَقَتَلَهُمْ وَلَحِقَ بِالْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ .
قَوْله : ( أَمَّا الْإِسْلَام فَأَقْبَل )
بِلَفْظِ الْمُتَكَلِّم أَيْ أَقْبَلهُ .
قَوْله
: ( وَأَمَّا الْمَال فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْء ) أَيْ لَا أَتَعَرَّض
لَهُ لِكَوْنِهِ أَخَذَهُ غَدْرًا . وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّهُ لَا
يَحِلّ أَخْذ أَمْوَال الْكُفَّار فِي حَال الْأَمْن غَدْرًا لِأَنَّ
الرُّفْقَة يُصْطَحَبُونَ عَلَى الْأَمَانَة وَالْأَمَانَة تُؤَدَّى إِلَى
أَهْلهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ، وَأَنَّ أَمْوَال الْكُفَّار
إِنَّمَا تَحِلّ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَة ، وَلَعَلَّ النَّبِيّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْمَال فِي يَده لِإِمْكَانِ
أَنْ يُسْلِم قَوْمه فَيَرُدّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالهمْ ، وَيُسْتَفَاد مِنْ
الْقِصَّة أَنَّ الْحَرْبِيّ إِذَا أَتْلَفَ مَال الْحَرْبِيّ لَمْ يَكُنْ
عَلَيْهِ ضَمَان ، وَهَذَا أَحَد الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ .
) عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ، حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِى خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ
طَلِيعَةً فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ » . فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ
خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ
نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ ، وَسَارَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى
إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِى يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا ،
بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ . فَقَالَ النَّاسُ حَلْ حَلْ . فَأَلَحَّتْ ،
فَقَالُوا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ . فَقَالَ
النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ ، وَلَكِنْ
حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ، ثُمَّ قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ
يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ
أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » . ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ ، قَالَ فَعَدَلَ
عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ ، عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ
الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا ، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ
النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ ، وَشُكِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَطَشُ
، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ
يَجْعَلُوهُ فِيهِ ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّىِّ
حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ
بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِىُّ فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ ،
وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ
أَهْلِ تِهَامَةَ ، فَقَالَ إِنِّى تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ
وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ ،
وَمَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ
الْبَيْتِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «
إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ ،
وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ ،
فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً ، وَيُخَلُّوا بَيْنِى وَبَيْنَ
النَّاسِ ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ
فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا ، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا
فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِى هَذَا
حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى ، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ » .
فَقَالَ بُدَيْلٌ سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ . قَالَ فَانْطَلَقَ حَتَّى
أَتَى قُرَيْشًا قَالَ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ ،
وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً ، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ
عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا ، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ
تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَىْءٍ . وَقَالَ ذَوُو الرَّأْىِ مِنْهُمْ هَاتِ مَا
سَمِعْتَهُ يَقُولُ . قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا ،
فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - .
فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَىْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ
بِالْوَالِدِ قَالُوا بَلَى . قَالَ أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ قَالُوا بَلَى .
قَالَ فَهَلْ تَتَّهِمُونِى . قَالُوا لاَ . قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ
أَنِّى اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ ، فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَىَّ
جِئْتُكُمْ بِأَهْلِى وَوَلَدِى وَمَنْ أَطَاعَنِى قَالُوا بَلَى . قَالَ
فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، اقْبَلُوهَا وَدَعُونِى
آتِهِ . قَالُوا ائْتِهِ . فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوًا
مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ ، فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَىْ
مُحَمَّدُ ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ
بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ وَإِنْ تَكُنِ
الأُخْرَى ، فَإِنِّى وَاللَّهِ لأَرَى وُجُوهًا ، وَإِنِّى لأَرَى
أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ . فَقَالَ
لَهُ أَبُو بَكْرٍ امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ
وَنَدَعُهُ فَقَالَ مَنْ ذَا قَالُوا أَبُو بَكْرٍ . قَالَ أَمَا وَالَّذِى
نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِى لَمْ أَجْزِكَ بِهَا
لأَجَبْتُكَ . قَالَ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ ، وَقَالَ لَهُ أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ . فَقَالَ أَىْ غُدَرُ ، أَلَسْتُ أَسْعَى فِى غَدْرَتِكَ
وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَتَلَهُمْ ،
وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِى
شَىْءٍ » . ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَيْنَيْهِ . قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نُخَامَةً
إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ
وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ
كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا
أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا
لَهُ ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ أَىْ قَوْمِ ،
وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ
وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِىِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ ،
يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُحَمَّدًا
، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ
ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى
وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا
يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ
عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ ، فَاقْبَلُوهَا . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى
كِنَانَةَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى
النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «
هَذَا فُلاَنٌ ، وَهْوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا
لَهُ » . فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ ، فَلَمَّا
رَأَى ذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِى لِهَؤُلاَءِ أَنْ
يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ
رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ ، فَمَا أَرَى أَنْ
يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ . فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ
بْنُ حَفْصٍ . فَقَالَ دَعُونِى آتِهِ . فَقَالُوا ائْتِهِ . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا مِكْرَزٌ وَهْوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ » . فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ،
فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو . قَالَ
مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ
سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ » . قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ
الزُّهْرِىُّ فِى حَدِيثِهِ فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ هَاتِ ،
اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا ، فَدَعَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْكَاتِبَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ » . قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا
الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ
اللَّهُمَّ . كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ . فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاللَّهِ
لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . فَقَالَ
النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ » . ثُمَّ قَالَ « هَذَا مَا قَاضَى
عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ » . فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لَوْ
كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ
وَلاَ قَاتَلْنَاكَ ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ .
فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
وَاللَّهِ إِنِّى لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِى . اكْتُبْ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ » . قَالَ الزُّهْرِىُّ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ
« لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ
أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا » . فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ » .
فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا
ضُغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ . فَقَالَ
سُهَيْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ ، وَإِنْ كَانَ
عَلَى دِينِكَ ، إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا . قَالَ الْمُسْلِمُونَ
سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ
مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ
سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ
أَسْفَلِ مَكَّةَ ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ
الْمُسْلِمِينَ . فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا
أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ » . قَالَ فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَىْءٍ أَبَدًا . قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
فَأَجِزْهُ لِى » . قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ . قَالَ « بَلَى ،
فَافْعَلْ » . قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ . قَالَ مِكْرَزٌ بَلْ قَدْ
أَجَزْنَاهُ لَكَ . قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ،
أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلاَ تَرَوْنَ مَا
قَدْ لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ . قَالَ
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ
أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ أَلَسْنَا
عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ « بَلَى » . قُلْتُ
فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ « إِنِّى رَسُولُ
اللَّهِ ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِى » . قُلْتُ أَوَلَيْسَ
كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ «
بَلَى ، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ » . قَالَ قُلْتُ لاَ .
قَالَ « فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ » . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا
بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا
قَالَ بَلَى . قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى
الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى . قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا
إِذًا قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَيْسَ
يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ ،
فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ . قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا
أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى ، أَفَأَخْبَرَكَ
أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ
وَمُطَّوِّفٌ بِهِ . قَالَ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ
أَعْمَالاً . قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ
« قُومُوا فَانْحَرُوا ، ثُمَّ احْلِقُوا » . قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ
مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ
يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَ لَهَا مَا
لَقِىَ مِنَ النَّاسِ . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ،
أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً
حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ . فَخَرَجَ
فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ
، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ . فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ ، قَامُوا
فَنَحَرُوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا ، حَتَّى كَادَ
بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) حَتَّى بَلَغَ (
بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ
كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ
أَبِى سُفْيَانَ ، وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، ثُمَّ رَجَعَ
النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهْوَ
مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ ، فَقَالُوا الْعَهْدَ
الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا . فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ ، فَخَرَجَا بِهِ
حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ
لَهُمْ ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّى
لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا . فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ
فَقَالَ أَجَلْ ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ
ثُمَّ جَرَّبْتُ . فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْهِ ،
فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ ، وَفَرَّ الآخَرُ ،
حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو . فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُ « لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا » . فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ
قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ
فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ ،
قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ . قَالَ
النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ » . فَلَمَّا
سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى
أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ . قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ
سُهَيْلٍ ، فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ
قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ ، حَتَّى
اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ ، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ
خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا ،
فَقَتَلُوهُمْ ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى
النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ ، فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ
، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ) حَتَّى بَلَغَ ( الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا
أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ .
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 8 / ص 283)
قَوْله : ( أَيْ غُدَر ) بِالْمُعْجَمَةِ بِوَزْنِ عُمَر مَعْدُول عَنْ غَادِر مُبَالَغَة فِي وَصْفه بِالْغَدْرِ .
قَوْله
: ( أَلَسْت أَسْعَى فِي غَدْرَتك ) أَيْ أَلَسْت أَسْعَى فِي دَفْع شَرّ
غَدْرَتك ؟ وَفِي مَغَازِي عُرْوَة " وَاَللَّه مَا غَسَلْت يَدَيَّ مِنْ
غَدْرَتك ، لَقَدْ أَوْرَثْتنَا الْعَدَاوَة فِي ثَقِيف " وَفِي رِوَايَة
اِبْن إِسْحَاق " وَهَلْ غَسَلْت سَوْأَتك إِلَّا بِالْأَمْسِ " قَالَ
اِبْن هِشَام فِي السِّيرَة : أَشَارَ عُرْوَة بِهَذَا إِلَى مَا وَقَعَ
لِلْمُغِيرَةِ قَبْل إِسْلَامه ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ ثَلَاثَة
عَشَر نَفَرًا مِنْ ثَقِيف مِنْ بَنِي مَالِك فَغَدَرَ بِهِمْ وَقَتَلَهُمْ
وَأَخَذَ أَمْوَالهمْ ، فَتَهَايَجَ الْفَرِيقَانِ بَنُو مَالِك
وَالْأَحْلَاف رَهْط الْمُغِيرَة فَسَعَى عُرْوَة بْن مَسْعُود عَمّ
الْمُغِيرَة حَتَّى أَخَذُوا مِنْهُ دِيَة ثَلَاثَة عَشَر نَفْسًا
وَاصْطَلَحُوا . وَفِي الْقِصَّة طُول . وَقَدْ سَاقَ اِبْن الْكَلْبِيّ
وَالْوَاقِدِيّ الْقِصَّة ، وَحَاصِلهَا أَنَّهُمْ كَانُوا خَرَجُوا
زَائِرِينَ الْمُقَوْقِس بِمِصْرَ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَعْطَاهُمْ
وَقَصَّرَ بِالْمُغِيرَةِ فَحَصَلَتْ لَهُ الْغَيْرَة مِنْهُمْ ، فَلَمَّا
كَانُوا بِالطَّرِيقِ شَرِبُوا الْخَمْر ، فَلَمَّا سَكِرُوا وَنَامُوا
وَثَبَ الْمُغِيرَة فَقَتَلَهُمْ وَلَحِقَ بِالْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ .
قَوْله : ( أَمَّا الْإِسْلَام فَأَقْبَل )
بِلَفْظِ الْمُتَكَلِّم أَيْ أَقْبَلهُ .
قَوْله
: ( وَأَمَّا الْمَال فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْء ) أَيْ لَا أَتَعَرَّض
لَهُ لِكَوْنِهِ أَخَذَهُ غَدْرًا . وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّهُ لَا
يَحِلّ أَخْذ أَمْوَال الْكُفَّار فِي حَال الْأَمْن غَدْرًا لِأَنَّ
الرُّفْقَة يُصْطَحَبُونَ عَلَى الْأَمَانَة وَالْأَمَانَة تُؤَدَّى إِلَى
أَهْلهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ، وَأَنَّ أَمْوَال الْكُفَّار
إِنَّمَا تَحِلّ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَة ، وَلَعَلَّ النَّبِيّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْمَال فِي يَده لِإِمْكَانِ
أَنْ يُسْلِم قَوْمه فَيَرُدّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالهمْ ، وَيُسْتَفَاد مِنْ
الْقِصَّة أَنَّ الْحَرْبِيّ إِذَا أَتْلَفَ مَال الْحَرْبِيّ لَمْ يَكُنْ
عَلَيْهِ ضَمَان ، وَهَذَا أَحَد الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ .
،
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ
حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ
فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}(1)
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 1918)
قوله
تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } الآية . قال
المشركون؛ ولا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء يعنون سَلْمان وصُهَيباً وبِلالاً
وخَبَّاباً فاطردهم عنك؛ وطلبوا أن يَكتب لهم بذلك ، فهمّ النبي صلى الله
عليه وسلم بذلك ، ودعا عليّاً ليكتب؛ فقام الفقراء وجلسوا ناحية؛ فأنزل
الله الآية . ولهذا أشار سعد بقوله في الحديث الصحيح : فوقع في نفس رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع؛ وسيأتي ذكره . وكان النبي صلى
الله عليه وسلم إنما مال إلى ذلك طمعاً في إسلامهم ، وإسلام قومهم ، ورأى
أن ذلك لا يفوّت أصحابه شيئاً ، ولا ينقص لهم قدراً ، فمال إليه فأنزل الله
الآية ، فنهاه عما همَّ به من الطّرد لا أنه أوقع الطرد . روى مسلم عن سعد
بن أبي وقاص قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر ، فقال
المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاءِ عنك لا يجترئون علينا؛
قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هُذَيل وبلال ورجلان لست أسميهما ، فوقع
في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ،
فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة
والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } . قيل : المراد بالدعاء المحافظة على
الصَّلاة المكتوبة في الجماعة؛ قاله ابن عباس ومجاهد والحسن . وقيل : الذكر
وقراءة القرآن . ويحتمل أن يريد الدعاء في أوّل النهار وآخره؛ ليستفتحوا
يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق ، ويختموه بالدعاء طلباً للمغفرة . {
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي طاعته ، والإخلاص فيها ، أي يخلصون في عبادتهم
وأعمالهم لله ، ويتوجهون بذلك إليه لا لغيره . وقيل : يريدون الله الموصوف
بأن له الوجه كما قال : { ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام } [
الرحمن : 27 ] وهو كقوله : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ
رَبِّهِمْ } [ الرعد : 22 ] . وخص الغداة والعشيّ بالذكر؛ لأن الشغل غالب
فيهما على الناس ، ومن كان في وقت الشغل مقبلاً على العبادة كان في وقت
الفراغ من الشغل أعمل . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يصبر
نفسه معهم كما أمره الله في قوله : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ
رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ
عَنْهُمْ } [ الكهف : 28 ] فكان لا يقوم حتى يكونوا هم الذين يبتدئون
القيام ، وقد أخرج هذا المعنى مبيناً مكملاً ابن ماجه في سننه
" عن خَبّاب في قول الله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } إلى قوله : { فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } قال :
جاء الأقرعُ بن حابِس التميميّ وعُيينة بن حِصْن الفَزَاريّ فوجدا رسول
الله صلى الله عليه وسلم مع صُهَيب وبِلال وعَمّار وخَبّاب ، قاعداً في ناس
من الضعفاء من المؤمنين؛ فلما رأوهم حَوْل النبي صلى الله عليه وسلم
حَقَروهم؛ فأتوه فخلوا به وقالوا : إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تَعرفُ
لنا به العرب فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه
الأعبُد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت؛
قال : «نعم» قالوا : فاكتب لنا عليك كتاباً؛ قال : فدعا بصحيفة ودعا عليّاً
رضي الله عنه ليكتب ونحن قعود في ناحية؛ فنزل جبريل عليه السَّلام فقال : {
وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ
عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } ثم ذكر
الأقرع بن حابِس وعُيَيْنة بن حِصْن؛ فقال : { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ
بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ
الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } [ الأنعام : 53 ] ثم قال : { وَإِذَا جَآءَكَ
الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ
على نَفْسِهِ الرحمة } [ الأنعام : 54 ] قال : فدنونا منه حتى وضعنا
رُكَبنا على رُكْبته؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا فإذا
أراد أن يقوم قام وتَركَنَا : فأنزل الله عزّ وجلّ { واصبر نَفْسَكَ مَعَ
الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } ولا تجالس الأشراف {
وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } يعني عُيَنْنة
والأقرع { واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف : 28 ] أي
هلاكاً قال : أَمْر عُيَيْنة والأقرع؛ ثم ضرب لهم مَثَل الرجلين ومَثَل
الحياة الدنيا . قال خَبَّاب : فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا
بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم "؛ رواه عن أحمد بن
محمد بن يحيى بن سعيد القَطَّان حدّثنا عمرو بن محمد العَنْقَزِيّ حدّثنا
أسباط عن السُّديّ عن أبي سعيد الأزْدي وكان قارىء الأزد عن أبي الكنود عن
خَبّاب؛ وأخرجه أيضاً " عن سعد قال : نزلت هذه الآية فينا ستة ، فيّ وفي
ابن مسعود وصُهَيب وعمّار والمِقْداد وبلال؛ قال : قالت قريش لرسول الله
صلى الله عليه وسلم إنا لا نرضى أن نكون أتباعاً لهم فاطردهم ، قال : فدخل
قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل؛ فأنزل الله
عزّ وجلّ { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي }
الآية " وقرىء «بِالغُدْوَةِ» وسيأتي بيانه في «الكهف» إن شاء الله .
قوله
تعالى : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } أي من جزائهم ولا
كفاية أرزاقهم ، أي جزاؤهم ورزقهم على الله ، وجزاؤك ورزقك على الله لا على
غيره . «مِن» الأولى للتبعيض ، والثانية زائدة للتوكيد . وكذا { وَمَا
مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } المعنى وإذا كان الأمر كذلك فأقبل
عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدّين
والفضل؛ فإن فعلت كنت ظالماً .
وحاشاه من وقوع ذلك منه ، وإنما هذا بيان
للأحكام ، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل السلام؛ وهذا مثل قوله : {
لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] وقد علم الله
منه أنه لا يُشرِك ولا يَحبط عمله . «فَتَطْرُدَهُمْ» جواب النفي . {
فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } نصب بالفاء في جواب النهي؛ المعنى : ولا تطرد
الذين يدعون ربهم فتكون من الظالمين ، وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم ،
على التقديم والتأخير . والظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه؛ وقد تقدّم في
«البقرة» مستوفى . وقد حصل من قوّة الآية والحديث النهي عن أن يعظم أحد
لجاهه ولثوبه ، وعن أن يحتقر أحد لخموله ولرثاثة ثوبيه .
(52) سورة الأنعام ، وَقَالُوا لِنُوحِ : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) (1)[الشعراء]
} . وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَاءَهُ ذِمِّيٌّ
يُسْلِمُ فَقَالَ لَهُ: لَا يَصِحُّ إسْلَامُك حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَيْك
ذَنْبٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْمَالِ الْبِرِّ مِنْ الصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ .
( السَّبَبُ الرَّابِعُ الدَّافِعُ لِلْعِقَابِ ) : دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِ (2):
مِثْلُ صَلَاتِهِمْ عَلَى جِنَازَتِهِ، فَعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ
« مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلاَّ شُفِّعُوا فِيهِ »
(3)
} . وَلَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَاءَهُ ذِمِّيٌّ
يُسْلِمُ فَقَالَ لَهُ: لَا يَصِحُّ إسْلَامُك حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَيْك
ذَنْبٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْمَالِ الْبِرِّ مِنْ الصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ .
( السَّبَبُ الرَّابِعُ الدَّافِعُ لِلْعِقَابِ ) : دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِ (2):
مِثْلُ صَلَاتِهِمْ عَلَى جِنَازَتِهِ، فَعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ
« مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلاَّ شُفِّعُوا فِيهِ »
(3)
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3171)
والأرذلون : جمع الأرذل . وهو الأقل من غيره فى المال والجاه والنسب .
أى : قال قوم نوح له عندما دعاهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - : يا نوح أنؤمن لك ، والحال أن الذين اتبعوك من سفلة الناس وفقرائهم ، وأصحاب الحرف الدنيئة فينا . . ؟
وهذا
المنطق المرذول قد حكاه القرآن فى كثير من آياته ، على ألسنة المترفين ،
وهم يردون على أنبيائهم عندما يدعونهم إلى الدين الحق . .
وهنا يرد عليهم نوح ردا حكيما قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي } .
أى : قال لهم على سبيل الاستنكار لما واجهوه به : وأى علم لى بأعمال أتباعى ، إن الذى يعلم حقيقة نواياهم وأعمالهم هو الله - تعالى - أما أنا فوظيفتى قبول أعمال الناس على حسب ظواهرها .
وهؤلاء الضعفاء - الأرذلون فى زعمكم - ليس حسابهم إلا على الله - تعالى - وحده
، فهو أعلم ببواطنهم وبأحوالهم منى ومنكم { لَوْ تَشْعُرُونَ } أى : لو
كنتم من أهل الفهم والشعور بحقائق الأمور لا بزيفها ، لعلمتم سلامة ردى
عليكم ولكنكم قوم تزنون الناس بميزان غير عادل ، لذا قلتم ما قلتم .
ثم
يحسم الأمر معهم فى هذه القضية فيقول : { وَمَآ أَنَاْ } بحال من الأحوال {
بِطَارِدِ المؤمنين } الذين اتبعونى وصدقونى وآمنوا بدعوتى سواء أكانوا من
الأرذلين - فى زعمكم - أم
من غيرهم ، { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أى : ليست وظيفتى إلا
الإنذار الواضح للناس بسوء المصير ، إذا ما استمروا على كفرهم ، سواء
أكانوا من الأغنياء أم من الفقراء .
فأنت ترى أن نوحا - عليه السلام - قد جمع فى رده عليهم ، بين المنطق الرصين الحكيم ، وبين الحزم والشجاعة والزجر الذى يخرس ألسنتهم .
في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 352)
وهم
يعنون بالأرذلين الفقراء . وهم السابقون إلى الرسل والرسالات , وإلى
الإيمان والاستسلام . لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة , ولا خوف على مصلحة
أو وضع أو مكانة . ومن ثم فهم الملبون السابقون . فأما الملأ من الكبراء
فتقعد بهم كبرياؤهم , وتقعد بهم مصالحهم , القائمة على الأوضاع المزيفة ,
المستمدة من الأوهام والأساطير , التي تلبس ثوب الدين . ثم هم في النهاية
يأنفون أن يسويهم التوحيد الخالص بالجماهير من الناس , حيث تسقط القيم
الزائفة كلها , وترتفع قيمة واحدة . قيمة الإيمان والعمل الصالح . قيمة
واحدة ترفع قوما وتخفض آخرين . بميزان واحد هو ميزان العقيدة والسلوك
القويم .
ومن ثم يجيبهم نوح الجواب الذي يقرر القيم الثابتة ; ويحدد اختصاص الرسول , ويدع أمر الناس وحسابهم لله على ما يعملون .
(قال:وما علمي بما كانوا يعملون ? إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون . وما أنا بطارد المؤمنين . إن أنا إلا نذير مبين) .
والكبراء
يقولون دائما عن الفقراء:إن عاداتهم وأخلاقهم لا ترضي العلية , ولا تطاق
في أوساط الطبقة الراقية ذات الحس المرهف والذوق اللطيف ! فنوح يقول
لهم:إنه لا يطلب إلى الناس شيئا سوى الإيمان . وقد آمنوا . فأما عملهم قبله
فموكول إلى الله , وهو الذي يزنه ويقدره . ويجزيهم على الحسنات والسيئات .
وتقدير الله هو الصحيح (لو تشعرون) بالقيم الحقة التي ترجح في ميزان الله .
وما وظيفتي إلا الإنذار والإفصاح:(إن أنا إلا نذير مبين) .
(2) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1186) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2446) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 983) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 686) وففروا إلى الله1 - (ج 1 / ص 428و429)
(3) - صحيح مسلم برقم(2241 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 366)
قَالَ
الْقَاضِي : قِيلَ هَذِهِ الْأَحَادِيث خَرَجَتْ أَجْوِبَة لِسَائِلِينَ
سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ ، فَأَجَابَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ عَنْ سُؤَاله .
هَذَا كَلَام الْقَاضِي ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِقَبُولِ شَفَاعَة مِائَة فَأَخْبَرَ بِهِ ،
ثُمَّ بِقَبُولِ شَفَاعَة أَرْبَعِينَ ، ثُمَّ ثَلَاثَة صُفُوف وَإِنْ
قَلَّ عَدَدهمْ ، فَأَخْبَرَ بِهِ ، وَيَحْتَمِل أَيْضًا أَنْ يُقَال :
هَذَا مَفْهُوم عَدَد ، وَلَا يَحْتَجّ بِهِ جَمَاهِير الْأُصُولِيِّينَ
فَلَا يَلْزَم مِنْ الْإِخْبَار عَنْ قَبُول شَفَاعَة مِائَة مَنْع قَبُول
مَا دُون ذَلِكَ ، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعِينَ مَعَ ثَلَاثَة صُفُوف ،
وَحِينَئِذٍ كُلّ الْأَحَادِيث مَعْمُول بِهَا وَيَحْصُل الشَّفَاعَة
بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَة صُفُوف وَأَرْبَعِينَ .
وفي شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 4 / ص 99)
قال
النووي رحمه الله باب استحباب تكثير المصلين على الميت ثم ذكر المؤلف رحمه
الله ثلاثة أحاديث حديث عائشة وحديث عبد الله بن عباس وحديث مالك بن هبيرة
رضي الله عنهم وكلها تدل على أنه كلما كثر الجمع على الميت كان ذلك أفضل
وأرجى للشفاعة ففي حديث عائشة أنه من صلى عليه طائفة من الناس يبلغون مائة
يشفعون له إلا شفعهم الله فيه ومعلوم أن المصلين على الجنازة يشفعون إلى
الله عز وجل لهذا الميت فهم يسألون من الله له المغفرة والرحمة والدعاء
للميت في الجنازة من أوجب ما يكون في الصلاة بل هو ركن من أركان الصلاة لا
تصح صلاة الجنازة إلا به إلا المسبوق وحديث ابن عباس يدل على أنه من قام
على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه أي قبل
شفاعتهم فيه وهذه بشرى للمؤمن إذا كثر المصلون على جنازته فشفعوا له عند
الله أن الله تعالى يشفعهم فيه .
أما حديث مالك بن هبيرة ففيه أن الرسول
صلى الله عليه وسلم قال من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب يعني وجبت له
الجنة وهذه الأحاديث كلها تدل على أنه كلما كثر الجمع كان أفضل ولهذا نجد
أن بعض الناس إذا صلى على جنازة في مسجد نبه أهل المساجد الأخرى ليحضروا
إليه حتى يكثر الجمع فينبغي للإمام إذا رأى الناس الذين جاءوا ليشهدوا صلاة
الجنازة قد فاتهم شيء من صلاة الفريضة ألا يتعجل بالصلاة على الميت حتى
ينتهي الذين يقضون صلاتهم ليشاركوا الحاضرين في الصلاة على الميت فيكون ذلك
أكثر للجمع وربما تكون دعوة واحد منهم هي المستجابة وكون بعض الناس بعدما
يسلم يقوم ويصلي على الجنازة وخلفه صف أو أكثر فهذا وإن كان جائزا لكن
الأفضل أن ينتظر حتى يتم الناس صلاتهم ويصلون على الجنازة وهذا لا يفوت
شيئا كثيرا غاية ما هنالك عشر دقائق على الأكثر ..
والأرذلون : جمع الأرذل . وهو الأقل من غيره فى المال والجاه والنسب .
أى : قال قوم نوح له عندما دعاهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - : يا نوح أنؤمن لك ، والحال أن الذين اتبعوك من سفلة الناس وفقرائهم ، وأصحاب الحرف الدنيئة فينا . . ؟
وهذا
المنطق المرذول قد حكاه القرآن فى كثير من آياته ، على ألسنة المترفين ،
وهم يردون على أنبيائهم عندما يدعونهم إلى الدين الحق . .
وهنا يرد عليهم نوح ردا حكيما قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي } .
أى : قال لهم على سبيل الاستنكار لما واجهوه به : وأى علم لى بأعمال أتباعى ، إن الذى يعلم حقيقة نواياهم وأعمالهم هو الله - تعالى - أما أنا فوظيفتى قبول أعمال الناس على حسب ظواهرها .
وهؤلاء الضعفاء - الأرذلون فى زعمكم - ليس حسابهم إلا على الله - تعالى - وحده
، فهو أعلم ببواطنهم وبأحوالهم منى ومنكم { لَوْ تَشْعُرُونَ } أى : لو
كنتم من أهل الفهم والشعور بحقائق الأمور لا بزيفها ، لعلمتم سلامة ردى
عليكم ولكنكم قوم تزنون الناس بميزان غير عادل ، لذا قلتم ما قلتم .
ثم
يحسم الأمر معهم فى هذه القضية فيقول : { وَمَآ أَنَاْ } بحال من الأحوال {
بِطَارِدِ المؤمنين } الذين اتبعونى وصدقونى وآمنوا بدعوتى سواء أكانوا من
الأرذلين - فى زعمكم - أم
من غيرهم ، { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أى : ليست وظيفتى إلا
الإنذار الواضح للناس بسوء المصير ، إذا ما استمروا على كفرهم ، سواء
أكانوا من الأغنياء أم من الفقراء .
فأنت ترى أن نوحا - عليه السلام - قد جمع فى رده عليهم ، بين المنطق الرصين الحكيم ، وبين الحزم والشجاعة والزجر الذى يخرس ألسنتهم .
في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 352)
وهم
يعنون بالأرذلين الفقراء . وهم السابقون إلى الرسل والرسالات , وإلى
الإيمان والاستسلام . لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة , ولا خوف على مصلحة
أو وضع أو مكانة . ومن ثم فهم الملبون السابقون . فأما الملأ من الكبراء
فتقعد بهم كبرياؤهم , وتقعد بهم مصالحهم , القائمة على الأوضاع المزيفة ,
المستمدة من الأوهام والأساطير , التي تلبس ثوب الدين . ثم هم في النهاية
يأنفون أن يسويهم التوحيد الخالص بالجماهير من الناس , حيث تسقط القيم
الزائفة كلها , وترتفع قيمة واحدة . قيمة الإيمان والعمل الصالح . قيمة
واحدة ترفع قوما وتخفض آخرين . بميزان واحد هو ميزان العقيدة والسلوك
القويم .
ومن ثم يجيبهم نوح الجواب الذي يقرر القيم الثابتة ; ويحدد اختصاص الرسول , ويدع أمر الناس وحسابهم لله على ما يعملون .
(قال:وما علمي بما كانوا يعملون ? إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون . وما أنا بطارد المؤمنين . إن أنا إلا نذير مبين) .
والكبراء
يقولون دائما عن الفقراء:إن عاداتهم وأخلاقهم لا ترضي العلية , ولا تطاق
في أوساط الطبقة الراقية ذات الحس المرهف والذوق اللطيف ! فنوح يقول
لهم:إنه لا يطلب إلى الناس شيئا سوى الإيمان . وقد آمنوا . فأما عملهم قبله
فموكول إلى الله , وهو الذي يزنه ويقدره . ويجزيهم على الحسنات والسيئات .
وتقدير الله هو الصحيح (لو تشعرون) بالقيم الحقة التي ترجح في ميزان الله .
وما وظيفتي إلا الإنذار والإفصاح:(إن أنا إلا نذير مبين) .
(2) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1186) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 2446) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 983) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 686) وففروا إلى الله1 - (ج 1 / ص 428و429)
(3) - صحيح مسلم برقم(2241 )
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 366)
قَالَ
الْقَاضِي : قِيلَ هَذِهِ الْأَحَادِيث خَرَجَتْ أَجْوِبَة لِسَائِلِينَ
سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ ، فَأَجَابَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ عَنْ سُؤَاله .
هَذَا كَلَام الْقَاضِي ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِقَبُولِ شَفَاعَة مِائَة فَأَخْبَرَ بِهِ ،
ثُمَّ بِقَبُولِ شَفَاعَة أَرْبَعِينَ ، ثُمَّ ثَلَاثَة صُفُوف وَإِنْ
قَلَّ عَدَدهمْ ، فَأَخْبَرَ بِهِ ، وَيَحْتَمِل أَيْضًا أَنْ يُقَال :
هَذَا مَفْهُوم عَدَد ، وَلَا يَحْتَجّ بِهِ جَمَاهِير الْأُصُولِيِّينَ
فَلَا يَلْزَم مِنْ الْإِخْبَار عَنْ قَبُول شَفَاعَة مِائَة مَنْع قَبُول
مَا دُون ذَلِكَ ، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعِينَ مَعَ ثَلَاثَة صُفُوف ،
وَحِينَئِذٍ كُلّ الْأَحَادِيث مَعْمُول بِهَا وَيَحْصُل الشَّفَاعَة
بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَة صُفُوف وَأَرْبَعِينَ .
وفي شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (ج 4 / ص 99)
قال
النووي رحمه الله باب استحباب تكثير المصلين على الميت ثم ذكر المؤلف رحمه
الله ثلاثة أحاديث حديث عائشة وحديث عبد الله بن عباس وحديث مالك بن هبيرة
رضي الله عنهم وكلها تدل على أنه كلما كثر الجمع على الميت كان ذلك أفضل
وأرجى للشفاعة ففي حديث عائشة أنه من صلى عليه طائفة من الناس يبلغون مائة
يشفعون له إلا شفعهم الله فيه ومعلوم أن المصلين على الجنازة يشفعون إلى
الله عز وجل لهذا الميت فهم يسألون من الله له المغفرة والرحمة والدعاء
للميت في الجنازة من أوجب ما يكون في الصلاة بل هو ركن من أركان الصلاة لا
تصح صلاة الجنازة إلا به إلا المسبوق وحديث ابن عباس يدل على أنه من قام
على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه أي قبل
شفاعتهم فيه وهذه بشرى للمؤمن إذا كثر المصلون على جنازته فشفعوا له عند
الله أن الله تعالى يشفعهم فيه .
أما حديث مالك بن هبيرة ففيه أن الرسول
صلى الله عليه وسلم قال من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب يعني وجبت له
الجنة وهذه الأحاديث كلها تدل على أنه كلما كثر الجمع كان أفضل ولهذا نجد
أن بعض الناس إذا صلى على جنازة في مسجد نبه أهل المساجد الأخرى ليحضروا
إليه حتى يكثر الجمع فينبغي للإمام إذا رأى الناس الذين جاءوا ليشهدوا صلاة
الجنازة قد فاتهم شيء من صلاة الفريضة ألا يتعجل بالصلاة على الميت حتى
ينتهي الذين يقضون صلاتهم ليشاركوا الحاضرين في الصلاة على الميت فيكون ذلك
أكثر للجمع وربما تكون دعوة واحد منهم هي المستجابة وكون بعض الناس بعدما
يسلم يقوم ويصلي على الجنازة وخلفه صف أو أكثر فهذا وإن كان جائزا لكن
الأفضل أن ينتظر حتى يتم الناس صلاتهم ويصلون على الجنازة وهذا لا يفوت
شيئا كثيرا غاية ما هنالك عشر دقائق على الأكثر ..
.
وَ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ
أَوْ بِعُسْفَانَ فَقَالَ يَا كُرَيْبُ انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ
النَّاسِ. قَالَ فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ
فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ تَقُولُ هُمْ أَرْبَعُونَ قَالَ نَعَمْ. قَالَ
أَخْرِجُوهُ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ
« مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ
أَرْبَعُونَ رَجُلاً لاَ يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ شَفَّعَهُمُ
اللَّهُ فِيهِ ». رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ(1)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم(2242 )
بيان مشكل الآثار ـ الطحاوى - (ج 1 / ص 141)
اب
بيان مشكل ما روي عن رسول الله عليه السلام فيمن صلت عليه من الموتى جماعة
من المسلمين فشفعوا له أنهم يشفعون فيه إذا كان لهم عدد ذكر مقداره فيما
روي عنه في ذلك
حدثنا يونس أنبأ ابن وهب أخبرني ابن جريج أن أيوب بن أبي
تميمة أخبره أن أبا قلابة أخبره أن عبد الله بن يزيد رضيع عائشة أخبره أن
عائشة زوج النبي عليه السلام أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
ما من رجل مسلم يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة
فيشفعوا له إلا شفعوا فيه
حدثنا حسين بن نصير
حدثنا علي بن معبد
حدثنا عبيد الله يعني ابن عمرو عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة عن النبي عليه السلام قال لا يموت أحد من
@ 243 @ المسلمين فتصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة فيشفعوا له إلا شفعوا فيه
حدثنا
أحمد بن شعيب حدثنا عمرو بن زرارة ثنا إسماعيل وهو ابن إبراهيم عن أيوب عن
أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد رضيع عائشة رضي الله عنها عن عائشة عن
النبي عليه السلام مثله
حدثنا محمد بن خزيمة حدثنا حجاج بن منهال
ثنا حماد بن سلمة ثنا أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد الخطمي عن
عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام قال ما من مسلم يموت فيصلي
عليه أمة من الناس يبلغون أن يكونوا مائة إلا شفعوا فيه قال أبو جعفر هكذا
يقول حماد في إسناد هذا الحديث عن عبد الله بن يزيد الخطمي والناس يخالفونه
في ذلك ويقولون عبد الله بن يزيد رضيع عائشة وهو أشبه بالصواب في ذلك
والله أعلم وعبد الله بن يزيد الخطمي هو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديث منها ما حدثنا ابن أبي داود حدثنا
محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي بردة
قال كنت جالسا عند أمير قد سماه فجعل يتردد عليه برءوس الخوارج قال فجعلت
كلما رأيت رأسا منها قلت إلى النار فقال عبد الله بن يزيد يا ابن أخي سمعت
رسول الله عليه السلام يقول يكون عذاب هذه الأمة في دنياها قال أبو جعفر
وذكره محمد بن سعد في كتاب الطبقات وقال عبد الله بن يزيد الخطمي من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن نزل الكوفة واختط بها دارا وولاه عليها
عبد الله بن الزبير ثم رجعنا إلى ما كنا فيه من عدد المصلين على الجنازة
الشفعاء لصاحبها
حدثنا ابن معبد حدثنا علي بن الحسن بن شقيق
حدثنا أبو حمزة يعني السكري واسمه محمد بن ميمون عن الأعمش عن أبي صالح عن
أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال من صلى عليه مائة من المسلمين غفر له
ووجدنا أبا أمية قد حدثنا قال حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا شيبان يعني
أبا معاوية بن عبد الرحمن النحوي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن
النبي عليه السلام قال من صلى عليه مائة من المسلمين غفر له وقد روى ابن
عباس عن رسول الله عليه السلام في عدد الجماعة المشفعين في هذا المعنى ما
قد حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي ثنا ابن وهب حدثني أبو صخر حميد بن زياد
عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب عن ابن عباس أنه مات ابن له بقديد
أو بعسفان فقال لكريب انظر ما اجتمع له من الناس قال فخرجت فإذا ناس قد
اجتمعوا قال أخرجوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من رجل
مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم
الله فيه ووجدنا عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوافق ما
رويناه في هذا الباب عن عائشة وأبي هريرة عن رسول الله عليه السلام ويخالف
ما رويناه فيه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
حدثنا
أحمد بن شعيب أنبأ سويد بن نصر أنبأ عبد الله يعني ابن المبارك عن سلام بن
أبي مطيع عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد رضيع عائشة عن عائشة عن
النبي عليه السلام قال ما من ميت يصلي عليه جماعة من المسلمين يبلغون أن
يكونوا مائة يشفعون إلا شفعوا فيه قال سلام فحدثت به شعيب بن الحبحاب فقال
حدثني به أنس عن النبي عليه السلام فقال قائل من أين جاء هذا الاختلاف في
هذه الروايات فكان جوابنا عن ذلك بتوفيق الله تعالى أنه يحتمل أن يكون الله
جاد عباده المؤمنين بالغفران لمن صلى عليه مائة منهم بشفاعتهم له ثم جاد
له بالغفران بشفاعة أربعين منهم فكان خبر ابن عباس بذلك هو آخر ما كان منه
عز وجل مما جاد بسببه بالغفران للمصلى عليه من المؤمنين بشفاعتهم وكان خبر
عائشة وأبي هريرة متقدمين لذلك فقال ولم حملت ذلك على ما ذكرت ولم تحمله
على أن حديث عائشة وأبي هريرة هما المتأخران وحديث ابن عباس هو المتقدم
فكان جوابنا له عن ذلك بتوفيق الله وعونه أن الله تعالى ليس من صفته أن
يجود بغفران بمعنى ثم يرجع عن الغفران بذلك المعنى وقد يجوز أن يجود
بالغفران بمعنى ثم يجود بالغفران بأقل من ذلك المعنى وبأيسره على خلقه
الذين جاد بذلك عليهم فبان بما ذكرنا الوجه الذي جاء منه اختلاف العددين في
الآثار التي رويناها والله نسأله التوفيق
.
وَهَذَا
دُعَاءٌ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ
الْمَغْفِرَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ الَّذِي اجْتَنَبَ
الْكَبَائِرَ وَكُفِّرَتْ عَنْهُ الصَّغَائِرُ وَحْدَهُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ
مَغْفُورٌ لَهُ عِنْدَ الْمُتَنَازِعِينَ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا
الدُّعَاءَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ لِلْمَيِّتِ (1)
__________
(1) - مسند أحمد برقم(22694) عَنْ مُعَاذٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «
لَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا
نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ عِبَادَ اللَّهِ »
وهو حديث حسن لغيره.
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (ج 8 / ص 154)
4264 - (الدعاء
ينفع مما نزل) من المصائب والمكاره أي يسهل تحمل ما نزل من البلاء فيصبره
أو يرضيه حتى أنه لا يكون متمنياً خلافه (ومما لم ينزل) منها بأن يصرف ذلك
عنه أو يمده قبل النزول بتأييد إلهي من عنده حتى لا يعبأ به إذا نزل
(فعليكم عباد اللّه) بحذف حرف النداء (بالدعاء) قال الطيبي: الفاء جزاء شرط
محذوف يعني إذا رزق بالدعاء الصبر والتحمل بالقضاء النازل ويرد به القضاء
غير النازل فالزموا عباد اللّه الدعاء وحافظوا عليه وخص عباد اللّه بالذكر
تحريضاً على الدعاء وإشارة إلى أن الدعاء هو العبادة فالزموا واجتهدوا
وألحوا فيه وداوموا عليه لأن به يحاز الثواب ويحصل ما هو الصواب وكفى به
شرفاً أن تدعوه فيجيبك ويختار لك ما هو الأصلح في العاجل والآجل وخص عباد
اللّه بالذكر زيادة في الحث وإيماء إلى أن الدعاء هو العبادة.
فتاوى يسألونك - (ج 6 / ص 300)
حديث لا يرد القضاء إلا الدعاء
يقول السائل : ما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( لا يرد القضاء إلا الدعاء ) ؟
الجواب
: ينبغي أن يعلم أولاً أن سؤال الله تعالى ودعائه من الأمور المرغب فيها
شرعاً قال الإمام النووي :[ اعلم أن المذهب المختار الذي عليه الفقهاء
والمحدثون وجماهير العلماء من الطوائف كلها من السلف والخلف أن الدعاء
مستحب ، قال الله تعالى : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
) سورة غافر الآية 60 . وقال تعالى :( ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا
وَخُفْيَةً ) سورة الأعراف الآية 55 . الأذكار ص340 .
وجاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء ) رواه الترمذي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/138 .
وعنه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
:( من سرّه أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في
الرخاء ) رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني حديث حسن انظر صحيح سنن الترمذي 3/140.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
:( الدعاء هو العبادة ) ثم قرأ ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) سورة غافر الآية 60 . رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي : حديث حسن صحيح وصححه الألباني في المصدر السابق .
وعن جابر - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول
:( ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل أو كف عنه من سوء مثله ما
لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ) رواه الترمذي وحسنه الشيخ الألباني المصدر
السابق 3/140 .
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - :(
ما على الأرض من مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف
عنه من السوء مثلها ما لم يدع بمأثم أو بقطيعة رحم . فقال رجل من القوم
إذاً نكثر ؟ قال : الله أكثر ) رواه الترمذي وقال حسن صحيح وكذا قال
الألباني في المصدر السابق 1/181 .
إذا تقرر هذا فنعود
للحديث النبوي محل السؤال فأقول هذا الحديث ورد بلفظ آخر وهو :( لا يرد
القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ) رواه الحاكم وصححه ووافقه
الذهبي ورواه الترمذي بلفظ :( لا يرد القضاء إلا الدعاء ) وهو حديث حسن كما
قال الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/225 .
وقد
قرر العلماء :[ أن الدعاء سبب في حصول الخير وأن هناك أشياء مقدرة ومربوطة
بأسباب فإذا تحقق السبب وقع المقدر وإذا لم يتحقق السبب لم يقع ، فإذا دعا
المسلم ربه حصل له الخير وإذا لم يدع وقع به الشر كما جعل الله صلة الرحم
سبباً لطول العمر وقطيعة الرحم سبباً لضده ] المنتقى من فتاوى الفوزان
2/103 .
وقال العلامة ابن القيم :[ والدعاء من أنفع الأدوية وهو
عدو البلاء يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل وهو سلاح
المؤمن كما روى الحاكم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(
الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض وله مع البلاء ثلاث
مقامات : أحدها أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه ، الثاني أن يكون أضعف من
البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفاً ،
الثالث أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه وقد روى الحاكم في صحيحه من
حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(
لا يغني حذر من قدر والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن البلاء لينزل
فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة ) وفيه أيضاً من حديث ابن عمر عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء . وفيه أيضاً من حديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) ] . الجواب الكافي ص4 .
وقال
العلامة ابن القيم أيضاً :[ وها هنا سؤال مشهور وهو أن المدعو به إن كان
قد قدر لم يكن بد من وقوعه دعا به العبد أو لم يدع وإن لم يكن قد قدر لم
يقع سواء سأله العبد أو لم يسأله فظنت طائفة صحة هذا السؤال فتركت الدعاء
وقالت لا فائدة فيه وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم متناقضون فإن اطرد مذهبهم
لوجب تعطيل جميع الأسباب فيقال لأحدهم إن كان الشبع والري قد قدرا لك فلا
بد من وقوعهما أكلت أو لم تأكل وإن لم يقدرا لم يقعا أكلت أو لم تأكل وإن
كان الولد قدر لك فلا بد منه وطأت الزوجة والأمة أو لم تطأهما وإن لم يقدر
لم يكن فلا حاجة إلى التزويج والتسري وهلم جرا ، فهل يقال هذا عاقل أو آدمي
بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته
فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً وتكايس
بعضهم وقال الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض يثيب الله عليه الداعي
من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما ولا فرق عند هذا الكيس بين
الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب وارتباط
الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ولا فرق وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء بل
الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه أمارة على قضاء الحاجة فمتى وفق
العبد للدعاء كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد قضيت وهذا كما إذا
رأيت غيماً أسوداً بارداً في زمن الشتاء فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر
قالوا وهكذا حكم الطاعات مع الثواب والكفر والمعاصي مع العقاب هي أمارات
محضة لوقوع الثواب والعقاب لأنها أسباب له وهكذا عندهم الكسر مع الإنكسار
والحرق مع الإحراق والإزهاق مع القتل ليس شيء من ذلك سبباً ألبتة ولا
ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا بمجرد الإقتران العادي لا التأثير
السببي وخالفوا بذلك الحس والعقل والشرع والفطرة وسائر طوائف العقلاء بل
أضحكوا عليهم العقلاء . والصواب أن ههنا قسماً ثالثاً غير ما ذكره السائل
وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب ومن أسبابه الدعاء فلم يقدر مجرداً عن سببه
ولكن قدر بسببه فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور ومتى لم يأت بالسبب
انتقى المقدور وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب . وكذلك قدر دخول
الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال وهذا القسم هو الحق . وحينئذٍ فالدعاء
من أقوى الأسباب فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة
في الدعاء كما لا يقال لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال
وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب ولما كان
الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله وأفقههم في دينه كانوا أقوم
بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم وكان عمر رضي الله عنه يستنصر به على
عدوه وكان أعظم جنده وكان يقول للصحابة لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من
السماء وكان يقول إني لا أحمل همَّ الإجابة ولكن همَّ الدعاء فإذا ألهمت
الدعاء فإن الإجابة معه ] الجواب الكافي ص 8-9 .
وقال
أبو حامد الغزالي :[ فإن قلت فما فائدة الدعاء والقضاء لا مرد له فاعلم أن
من القضاء رد البلاء بالدعاء فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة كما
أن الترس سبب لرد السهم والماء سبب لخروج النبات من الأرض فكما أن الترس
يدفع السهم فيتدافعان فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان وليس من شرط الاعتراف
بقضاء الله تعالى أن لا يحمل السلاح وقد قال تعالى ( خذوا حذركم ) وأن لا
يسقي الارض بعد بث البذر فيقال إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر وإن لم
يسبق لم ينبت بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كملح البصر
أو هو أقرب وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج
والتقدير هو القدر والذي قدر الخير قدره بسبب والذي قدر الشر قدر لدفعه
سبباً فلا تناقص بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته ثم في الدعاء من
الفائدة ما ذكرناه في الذكر فإنه يستدعي حضور القلب مع الله وهو منتهى
العبادات ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:(
الدعاء مخ العبادة ) والغالب على الخلق أنه لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله
عز وجل إلا عند إلمام حاجة وإرهاق ملمة فإن الإنسان إذا مسه الشر فذو دعاء
عريض فالحاجة تحوج إلى الدعاء والدعاء يرد القلب إلى الله عز وجل بالتضرع
والاستكانة فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات ولذلك صار البلاء موكلاً
بالأنبياء عليهم السلام ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل لأنه يرد القلب
بالإفتقار والتضرع إلى الله عز وجل ويمنع من نسيانه وأما الغنى فسبب للبطر
في غالب الأمور فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ] إحياء علوم الدين 1/333 .
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى