رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
روائع من حياة الصحابة
الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فقد قصّ الله في كتابه كثيراً من قصص الأنبياء مع أقوامهم، وما كان رد تلك الأقوام
عليهم، وما ذلك إلا لنتعظ ونعتبر، يقول الله: {لَقَدْ
كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} سورة يوسف(111).
ثم إن النبي –صلى الله عليه وسلم- قصّ على أصحابه كثيراً من قصص السابقين ليثبّتهم
على الدين، وليصبرهم على الحق.
ثم نجد أن التاريخ قد دون لنا كثيراً من قصص الصحابة الرائعة والفريدة في صبرهم
وثباتهم، وشجاعتهم، وما لاقوه في سبيل الله من المحن والابتلاءات، وما بذلوه من جهد
في سبيل تبليغ الدعوة، وما وقفوا من تلك المواقف الشجاعة في وجه جبابرة النصارى،
فمن ذلك قصة الصحابي الجليل، والمجاهد الشجاع عبد الله بن حذافة السهمي.
"لقد كان بوسع التاريخ أن يمرَّ بهذا الرجل كما مرّ بملايين العرب من قبله دون أن
يأبه لهم، أو يخطروا له على بال، لكن الإسلام العظيم أتاح لعبدالله بن حذافة السهمي
وأمثاله من الصحب الكرام أن يلتقوا بجبابرة العالم في تلك الحقبة، فقد التقى صاحب
هذه القصة بسيدي الدنيا في زمانه إنهما: ملك الفرس: كسرى، وعظيم الروم: قيصر، وأن
تكون له مع كل منهما قصة ما تزال تعيها ذاكرة الدهر، ويرويها لسان التاريخ،
وتتناقلهما الأجيال.
قصة عبدالله بن حذافة مع ملك الفرس:
أما قصته مع ملك الفرس: كسرى، فقد كانت في السنة السادسة للهجرة حين عزم النبي
-صلى الله عليه وسلم- أن يبعث مجموعة من أصحابه بكتب إلى ملوك الأعاجم يدعوهم فيها
إلى الإسلام.
ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقدر خطورة هذه المهمة.. فهؤلاء الرسل
سيذهبون إلى بلاد نائية لا عهد لهم بها من قبل.. وهم مع ذلك يجهلون لغات تلك البلاد
ولا يعرفون شيئاً عن أمزجة ملوكها..
ثم إنهم سيدعون هؤلاء الملوك إلى ترك أديانهم، ومفارقة عزهم وسلطانهم، والدخول في
دين قوم كانوا إلى الأمس القريب من بعض أتباعهم.. إنها رحلة خطرة، الذاهب فيها
مفقود، والعائد منها مولود.
لذا جمع الرسول -عليه الصلاة والسلام- أصحابه، وقام فيهم خطيباً: فحمد الله وأثنى
عليه، وتشهد، ثم قال: (أما بعد: فإني أريد أن أبعث بعضكم
إلى ملوك الأعاجم، فلا تختلفوا علي كما اختلفت بنو إسرائيل على عيسى بن مريم).
فما كان من أصحابه إلا أن قالوا: نحن يا رسول الله نؤدي عنك ما تريد، فابتعثنا حيث
شئت!.
فانتدب عليه الصلاة والسلام ستة منهم ليحملوا كتبه إلى ملوك العرب والعجم، وكان أحد
هؤلاء الستة عبدالله بن حذافة السهمي، فقد اختير لحمل رسالة النبي -صلوات الله
عليه- إلى ملك الفرس: كسرى .
فتجهز عبدالله بن حذافة وجهز راحلته، وودع صاحبته وولده، ومضى إلى غايته ترفعه
النجاد1،
وتحطه الوهاد2؛
وحيدا فريداً ليس معه إلا الله، حتى بلغ ديار فارس، فاستأذن بالدخول على ملكها،
وأخبر حاشية الملك وأعوانه بالرسالة التي يحملها له.
عند ذلك أمر كسرى بإيوانه فزُيِّن، ودعا عظماء فارس لحضور مجلسه فحضروا، ثم أذن
لعبدالله بن حذافة بالدخول عليه.
فلما دخل عبدالله بن حذافة على سيد فارس مشتملاً شملته3
الرقيقة، مرتدياً عباءته الصفيقة4،
عليه بساطة الأعراب، ولكنه كان عالي الهامة5،
مشدود القامة، تتأجج بين جوانحه6
عزة الإسلام، وتتوقد في فؤاده كبرياء الإيمان.
فما إن رآه كسرى مقبلاً حتى أومأ إلى أحد رجاله بأن يأخذ الكتاب من يده فقال
عبدالله: لا، إنما أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أدفعه لك يداً بيد،
وأنا لا أخالف أمراً لرسول الله.
فقال كسرى لرجاله: اتركوه يدنو مني، فدنا من كسرى حتى ناوله الكتاب بيده، ثم دعا
كسرى كاتباً عربياً من أهل الحيرة7،
وأمره أن يفضّ8
الكتاب بين يديه، وأن يقرأه عليه فإذا فيه: (بسم الله
الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى...".
فما أن سمع كسرى من الرسالة هذا المقدار حتى اشتعلت نار الغضب في صدره، فاحمرّ
وجهه، وانتفخت أوداجه9؛
لأن الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدأ بنفسه.. فجذب الرسالة من يد كاتبه، وجعل
يُمزقها دون أن يعلم ما فيها وهو يصيح: أيكتب لي بهذا، وهو عبدي؟!! ثم أمر بعبدالله
بن حذافة أن يخرج من مجلسه فأخرج.
خرج عبدالله بن حذافة من مجلس كسرى، وهو لا يدري ما يفعل الله له.. أيقتلُ أم يترك
حراً طليقاً؟ لكنه ما لبث أن قال: والله ما أبالي على أي حال أكون بعد أن أديت كتاب
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وركب راحلته وانطلق. ولما سكت عن كسرى الغضب أمر
بأن يدخل عليه عبدالله فلم يوجد. فالتمسوه فلم يقفوا له على أثر.. فطلبوه في الطريق
إلى جزيرة العرب فوجدوه قد سبق.
فلما قدم عبدالله على النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبره بما كان من أمر كسرى
وتمزيقه الكتاب، فما زاد عليه الصلاة والسلام على أن قال: (مزّق
الله ملكه).
أما كسرى فقد كتب إلى "باذان" نائبه على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل الذي ظهر
بالحجاز رجلين جلدين من عندك، ومرهما أن
يأتياني به.. فبعث "باذان" رجلين من خيرة رجاله إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، وحملهما رسالة له، يأمره فيها بأن ينصرف معهما إلى لقاء كسرى دون إبطاء..!!
وطلب إلى الرجلين أن يقفا على خبر النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأن يستقصيا أمره،
وأن يأتياه بما يقفان عليه من معلومات.
خرج الرجلان يواصلان السير حتى بلغا الطائف، فوجدا رجالاً تجاراً من قريش، فسألاهم
عن محمد -عليه الصلاة والسلام- فقالوا: هو في يثرب، ثم مضى التجار إلى مكة فرحين
مستبشرين، وجعلوا يهنئون قريشاً ويقولون: قروا عيناً؛ فإن كسرى تصدى لمحمد وكفاكم
شره.
أما الرجلان فيمما وجهيهما شطر المدينة حتى إذا بلغاها لقيا النبي -صلى الله عليه
وسلم-، ودفعا إليه رسالة: "باذان" وقالا له: "إن ملك الملوك كسرى كتب إلى ملكنا "باذان"
أن يبعث إليك من يأتيه بك... وقد أتيناك لتنطلق معنا إليه، فإن أجبتنا كلمنا كسرى
بما ينفعك، ويكف أذاه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت سطوته وبطشه وقدرته على إهلاكك
وإهلاك قومك.. فتبسم الرسول –عليه الصلاة والسلام- وقال لهما: (ارجعا
إلى رحالكما اليوم وأتيا غداً).
فلما غدوا على النبي –صلوات الله وسلامه عليه- في اليوم التالي، قالا له: هل أعددت
نفسك للمضي معنا إلى لقاء كسرى؟
فقال لهما النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لن تلقيا كسرى
بعد اليوم. فلقد قتله الله، حيث سلط عليه ابنه (شيرويه) في ليلة كذا.. من شهر كذا..).
فحدقا في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبدت الدهشة على وجهيهما، وقالا: أتدري
ما تقول؟! أنكتب بذلك "لباذان" ؟! قال: (نعم، وقولا له:
إن ديني سيبلغ ما وصل إليه ملك كسرى، وإنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على
قومك).
خرج الرجلان من عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقدما على "باذان" وأخبراه الخبر،
فقال: لئن كان ما قاله محمد حقاً فهو نبي، وإن لم يكن كذلك فسنرى فيه رأيا.. فلم
يلبث أن قدم على "باذان" كتاب "شيرويه" وفيه يقول:
أما بعد فقد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا انتقاما لقومنا، فقد استحل قتل أشرافهم، وسبي
نسائهم، وانتهاب أموالهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن عندك.
فما إن قرأ "باذان" كتاب "شيرويه" حتى طرحه جانباً وأعلن دخوله في الإسلام، وأسلم
من كان معه من الفرس في بلاد اليمن.
قصة عبدالله بن حذافة مع عظيم الروم:
لقد كان لقاء عبد الله بعظيم الروم: قيصر، في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-،
وكانت له معه قصة من روائع القصص.
ففي السنة التاسعة عشرة للهجرة بعث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جيشاً لحرب الروم
فيه عبدالله بن حذافة السهمي.. وكان قيصر عظيم الروم قد وصلت إليه أخبار جند
المسلمين وما يتحلون به من صدق الإيمان، ورسوخ العقيدة، واسترخاص النفس في سبيل
الله ورسوله.
فأمر رجاله -إذا ظفروا بأسير من أسرى المسلمين- أن يبقوا عليه، وأن يأتوا به حياً..
وشاء الله أن يقع عبدالله بن حذافة السهمي أسيراً في أيدي الروم، فحملوه إلى مليكهم
وقالوا: إن هذا من أصحاب محمد السابقين إلى دينه قد وقع أسيراً في أيدينا، فأتيناك
به.
فنظر عظيم الروم إلى عبدالله بن حذافة طويلاً ثم بادره قائلاً: إني أعرض عليك
أمراً!!. قال: وما هو؟. فقال: أعرض عليك أن تتنصر!.. فإن فعلت خليت سبيلك، وأكرمت
مثواك. فقال الأسير في أنفة وحزم: هيهات.. إن الموت لأحبّ إلي ألف مرة مما تدعوني
إليه. فقال قيصر: إني لأراك رجلا شهماً.. فإن أجبتني إلى ما أعرضه عليك أشركتك في
أمري، وقاسمتك سلطاني. فتبسم الأسير المكبل بقيوده، وقال: والله لو أعطيتني جميع ما
تملك، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت!!.
قال: إذن أقتلك. قال : أنت وما تريد!. ثم أمر به فصُلب، وقال لقناصته -بالرومية-
ارموه قريباً من يديه، وهو يعرض عليه التنصر فأبى. فقال: ارموه قريباً من رجليه،
وهو يعرض عليه مفارقة دينه فأبى.
عند ذلك أمرهم أن يكفوا عنه، وطلب منهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب، ثم دعا بقدر عظيمة
فصُب فيها الزيت، ورفعت على النار حتى غلت، ثم دعا بأسيرين من أسارى المسلمين، فأمر
بأحدهما أن يلقى فيها فألقي، فإذا لحمه يتفتت، وإذا عظامه تبدو عارية.. ثم التفت
إلى عبدالله بن حذافة ودعاه إلى النصرانية، فكان أشدّ إباءً لها من قبل.
فلما يئس منه؛ أمر به أن يُلقى في القدر التي ألقي فيها صاحباه، فلما ذهب به دمعت
عيناه، فقال رجال قيصر لملكهم: إنه قد بكى.. فظن أنه قد جزع، وقال: ردوه إليّ، فلما
مثُل بين يديه عرض عليه النصرانية فأباها، فقال: ويحك، فما الذي أبكاك إذا؟!
فقال: أبكاني أني قلتُ في نفسي: تُلقى الآن في هذه القدر، فتذهب نفسك، وقد كنت
أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس فتُلقى كلها في هذا القدر في سبيل
الله. فقال الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟. فقال له عبدالله: وعن جميع
أسارى المسلمين أيضاً؟. قال: وعن جميع أسارى المسلمين أيضاً.
قال عبدالله: فقلت في نفسي: عدو من أعداء الله، أقبل رأسه فيخلي عني وعن أسارى
المسلمين جميعاً، لا ضير في ذلك عليَّ. ثم دنا منه وقبّل رأسه، فأمر ملك الروم أن
يجمعوا له أسارى المسلمين، وأن يدفعوهم إليه فدفعوا له.
قدم عبدالله بن حذافة على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وأخبره خبره، فسُّر به
الفاروق أعظم السرور، ولما نظر إلى الأسرى قال: حق على كل مسلم أن يقبل رأس
عبدالله بن حذافة.. وأنا أبدأ بذلك.. ثم قام وقبل رأسه10..
رضي الله عن عبد الله بن حذافة وأسكنه جنة المأوى، وجمعنا به وبجميع الصحابة في
جنات ونهر، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وبالتالي ونحن في زمن الخنوع والذلة نحتاج إلى قراءة مثل هذه القصص، وقصها على
الناس، وبما أننا في زمن كثر فيه أسرانا في سجون الكافرين والظالمين لابد لنا من أن
نصبر أنفسنا بمثل هذه القصص الفريدة، وأن نعلم أن الصراع بين الحق والباطل قديم
بقدم هذا الإنسان!!.. نحن بحاجة إلى قصص بها تعلو الهمم، وتزرع الأمل في النفوس،
وليس إلى قصص فيها التثبيط، وغرس اليأس في القلوب: {إِنَّهُ
لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} سورة
يوسف(87). والله نسأل أن يعيد للأمة مجدها وقوتها وعزتها ورفعتها، ولن يكون ذلك إلا
برجوع هذه الأمة إلى دينها الصحيح، دين قائم على عبادة الله وحده لا شريك له،
والكفر بكل ما عبد من دون الله، دين السنة لا دين الرفض والبدعة والخرافة، دين قوي
في موضع القوة، وحكيم في موضع الحكمة، دين لا يخنع أتباعه إلا لله، ولا يخافون إلا
من الله، يتعبدون الله باسمه: القوي ويعملون بمقتضاه، ويتعبدونه باسمه: الرحيم
فيعملون بمقتضاه، وما أشبه ذلك من أسماء الله الحسنى، دين كما كان عليه النبي
وأصحابه، فإن من أوصافه -صلى الله عليه وسلم- أنه نبي رحمة، ومع ذلك فهو نبي
الملحمة، كما جاء في الحديث. فالحذر من تضييع وتمييع الدين، وإخضاعه حتى يوافق ما
عليه عباد الصليب، وحتى يوافق ما عليه أهل الرفض والحلول والاتحاد، بل لابد أن يبقى
الدين كله لله كما شرعه الله، وبينه رسول الله، وطبقه وفهمه أصحاب رسول الله ومن
سار على نهجهم إلى يوم الدين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين،
والحمد لله رب العالمين.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى