رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل جهادا لهوى
رأيت ميل النفس إلى الشهوات زائداً في المقدار حتى إنها إذا مالت مالت
بالقلب والعقل والذهن، فلا يكاد المرء ينتفع بشيء من النصح.
فصحت بها يوماً وقد مالت بكليتها إلى شهوة: ويحك ! قفي لحظة أكلمك كلمات
ثم افعلي ما بدا لك.
قالت: قل أسمع.
قلت: قد تقرر قلة ميلك إلى المباحات من الشهوات، وأما جل ميلك فإلى
المحرمات. وأما أكشف لك عن الأمرين، فربما رأيت الحلوين مرين.
أما المباحات من الشهوات، فمطلقة لك ولكن طريقها صعب، لأن المال قد يعجز
عنها، والكسب قد لا يحصل معظمها، والوقت الشريف يذهب بذلك.
ثم شغل القلب بها وقت التحصيل، وفي حالة الحصول، وبحذر الفوات.
ثم ينغصها من النقص ما لا يخفى على مميز، وإن كان مطعماً فالشبع يحدث
آفات، وإن كان شخصاً فالملل، أو الفراق، أو سوء الخلق.
ثم ألذ النكاح أكثره إيهاناً للبدن، إلى غير ذلك مما يطول شرحه.
وأما المحرمات: فتشتمل على ما أشرنا إليه من المباحات وتزيد عليها بأنها
آفة العرض ومظنة عقاب الدنيا وفضيحتها، وهناك وعيد الآخرة، ثم الجزع كلما
ذكرها التائب.
وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة. ألا ترين إلى كل مغلوب بالهوى كيف
يكون ذليلاً ؟ لأنه قهر. بخلاف غالب الهوى فإنه يكون قوي القلب، عزيزاً
لأنه قهر.
فالحذر الحذر من رؤية المشتهى بعين الحسن، كما يرى اللص لذة أخذ المال من
الحرز، ولا يرى بعين فكره القطع.
وليفتح عين البصيرة لتأمل العواقب واستحالة اللذة نغصة، وانقلابها عن
كونها لذة، إما لملل أو لغيره من الآفات، أو لانقطاعها بامتناع الحبيب.
فتكون المعصية الأولى كلقمة تناولها جائع، فما ردت كلب الجوع، بل شهت
الطعام.
وليتذكر الإنسان لذة قهر الهوى مع تأمل فوائد الصبر عنه.
فمن وفق لذلك كانت سلامته قريبة منه.
فصل حجب العيش
خطر لي خاطر والمجلس قد طاب، والقلوب قد حضرت، والعيون جارية، والرؤوس
مطرقة، والنفوس قد ندمت على تفريطها، والعزائم قد نهضت لإصلاح شؤونها،
وألسنة اللوم تعمل في الباطل على تضييع الحزم وترك الحذر فقلت لنفسي: ما
بال هذه اليقظة لا تدوم ؟ فإني أرى النفس واليقظة في المجلس متصادقين
متصافيين، فإذا قمنا عن هذه التربة، وقعت الغربة.
فتأملت ذلك فرأيت أن النفس ما تزال متيقظة، والقلب ما يزال عارفاً، غير أن
القواطع كثيرة، والفكر الذي ينبغي استعماله في معرفة الله سبحانه وتعالى
قد كل مما يستعمل في اجتلاب الدنيا، وتحصيل حوائج النفوس، والقلب منغمس في
ذلك، والبدن أسير مستخدم.
وبينما الفكر يجول في اجتلاب الطعام والشراب والكسوة، وينظر في صدد ذلك،
وما يدخره لغده وسنته، إذا هو مهتم بخروج الفضلات المؤذية - ومنها المني -
فاحتاج إلى النكاح، فعلم أنه لا يصح إلا باكتساب كسب الدنيا. فتفكر في ذلك
وعمل بمقتضاه.
ثم جاء الولد فاهتم به وله، وإذا الفكر عامل في أصول الدنيا وفروعها.
فإذا حضر الإنسان المجلس فإنه لا يحضر جائعاً ولا حاقناً. بل يحضره جامعاً
لهمته، ناسياً ما كان من الدنيا على ذكره. فيخلو الوعظ بالقلب فيذكره بما
ألف، ويجذبه بما عرف، فينهض عمال القلب في زوارق عرفانه. فيحضرون النفس
إلى باب المطالبة بالتفريط، ويؤاخذون الحس بما مضى من العيوب، فتجري عيون
الندم، وتنعقد عزائم الاستدراك.
ولو أن هذه النفس خلت عن المعهودات التي وصفتها، لتشاغلت بخدمة باريها.
ولو وقعت في سورة حبه، لاستوحشت عن الكل شغلاً بقربه.
ولهذا اعتمد الزهاد الخلوات، وتشاغلوا بقطع المعوقات، وعلى قدر مجاهدتهم
في ذلك نالوا من الخدمة مرادهم، كما أن الحصاد على مقدار البذر.
غير أني تلمحت في هذه الحالة - دقيقة - وهو أن النفس لو دامت لها اليقظة
لوقعت فيما هو شر من فوت ما فاتها. وهو العجب بحالها، والاحتقار لجنسها.
وربما ترقت بقوة علمها وعرفانها، إلى دعوى: لي، وعندي، وأستحق. فتركها في
حومة ذنوبها تتخبط.
فإذا وقفت على الشاطىء قامت بحق ذلة العبودية، وذلك أولى لها.
هذا حكم الغالب من الخلق، ولذلك شغلوا عن هذا المقام. فمن بذر فصلح له فلا
بد له من هفوة تراقبها عين الخوف بها تصح له عبوديته، وتسلم له عبادته.
وإلى هذا المعنى أشار الحديث الصحيح: " لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء
بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم " .
فصل من شطحات التصوف
تفكرت فرأيت أن حفظ المال من المتعين، وما يسميه جهلة المتزهدين
توكلاً من إخراج ما في اليد ليس بالمشروع. فإن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لكعب بن مالك: " أمسك عليك بعض مالك أو كما قال له " . وقال لسعد: "
لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس " .
فإن اعترض جاهل فقال: فقد جاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله. فالجواب أن
أبا بكر صاحب جأش وتجارة، فإذا أخرج الكل أمكنه أن يستدين عليه، فيتعيش.
فمن كان على هذه الصفة لا أذم إخراجه لماله، وإنما الذم متطرق إلى من يخرج
ماله ليس من أرباب المعائش.
أو يكون من أولئك، إلا أنه ينقطع عن المعاش فيبقى كلا على الناس، يستعطيهم
ويعتقد أنه على الفتوح، وقلبه متعلق بالخلق، وطمعه ناشب فيهم.
ومتى حرك بابه نهض قلبه. وقال: رزق قد جاء.
وهذا أمر قبيح بمن يقدر به على المعاش، وإن لم يقدر كان إخراج ما يملك
أقبح، لأنه يتعلق قلبه بما في أيدي الناس.
وربما ذل لبعضهم، أو تزين له بالزهد، وأقل أحواله أن يزاحم الفقراء
والمكافيف والزمنى في الزكاة.
فعليك بالشرب الأول، فانظر هل فيهم من فعل ما يفعله جهلة المتزهدين ؟.
وقد أشرت في أول هذا إلى أنهم كسبوا وخلفوا الأموال، فرد إلى الشرب الأول،
الذي لم يطرق فإنه الصافي.
واحذر من المشارع المطروقة بالآراء الفاسدة الخارجة في المعنى على
الشريعة، مذعنة بلسان حالها أن الشرع ناقص يحتاج إلى ما يتم به.
واعلم - وفقك الله تعالى - أن البدن كالمطية، ولا بد من علف المطية،
والاهتمام به.
فإذا أهملت ذلك كان سبباً لوقوفك عن السير.
وقد رئي سلمان رضي الله عنه يحمل طعاماً على عاتقه فقيل له: أتفعل هذا
وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: إن النفس إذا أحرزت قوتها
اطمأنت.
وقال سفيان الثوري. إذا حصلت قوت شهر فتعبد.
وقد جاء أقوام ليس عندهم سوى الدعاوي فقالوا: هذا شك في الرازق والثقة به
أولى. فإياك وإياهم.
وربما ورد مثل هذا عن بعض صدور الزهاد من السلف فلا يعول عليه، ولا يهولنك
خلافهم.
فقد قال أبو بكر المروزي: سمعت أحمد بن حنبل يرغب في النكاح. فقلت له: قال
ابن أدهم، فما تركني أتمم حتى صاح علي، وقال: أذكر لك حال رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه، وتأتيني ببنيات الطريق ؟.
واعلم وفقك الله: أنه لو رفض الأسباب شخص يدعي التزهد. وقال: لا آكل ولا
أشرب، ولا أقوم من الشمس في الحر، ولا استدفيء من البرد، كان عاصياً
بالإجماع.
وكذلك لو قال وله عائلة: لا أكتسب ورزقهم على الله تعالى: فأصابهم أذى كان
آثماً.
كما قال عليه الصلاة والسلام: " كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت " .
واعلم أن الاهتمام بالكسب يجمع الهم، ويفرغ القلب، ويقطع الطمع في الخلق،
فإن الطبع له حق يتقاضاه.
وقد بين الشرع ذلك فقال: إن لنفسك عليك حقاً؛ وإن لعينك عليك حقاً.
ومثال الطبع مع المريد السالك، كمثل كلب لا يعرف الطارق، فكل من رآه يمشي،
نبح عليه، فإن ألقى إليه كسرة سكت عنه.
فالمراد من الاهتمام بذلك جمع الهم لا غير، فافهم هذه الأصول فإن فهمها
مهم..
فصل الشهوات مهلكة
تأملت في شهوات الدنيا فرأيتها مصائد هلاك، وفخوخ تلف.
فمن قوي عقله على طبعه وحكم عليه يسلم، ومن غلب طبعه فيا سرعة هلكته.
ولقد رأيت بعض أبناء الدنيا كان يتوق في التسري. ثم يستعمل الحرارات
المهيجة للباه، فما لبث أن انحلت حرارته الغريزية وتلف.
ولم أر في شهوات النفس أسرع هلاكاً من هذه الشهوة، فإنه كلما مال الإنسان
إلى شخص مستحسن أوجب ذلك حركة الباه زائداً عن العادة.
وإذا رأى أحسن منه زادت الحركة وكثر خروج المني زائداً عن الأول، فيفنى
جوهر الحياة أسرع شيء.
وبالضد من هذا أن تكون المرأة مستقبحة فلا يوجب نكاحها خروج الفضلة
المؤذية كما ينبغي، فيقع التأذي بالاحتباس وقوة التوق إلى منكوح.
وكذلك المفرط في الأكل فإنه يجني على نفسه كثيراً من الجنايات، والمقصر في
مقدار القوت كذلك، فعلمت أن أفضل الأمور أوساطها.
والدنيا مفازة فينبغي أن يكون السابق فيها العقل، فمن سلم زمام راحلته إلى
طبعه وهواه، فيا عجلة تلفه - هذا فيما يتعلق بالبدن والدنيا - فقس عليه
أمر الآخرة فافهم.
فصل النجاة في العلم
بلغني عن بعض زهاد زماننا أنه قدم إليه طعام فقال: لا آكل. فقيل
له: لم ؟. لأن نفسي تشتهيه، وأنا منذ سنين ما بلغت نفسي ما تشتهي.
فقلت: لقد خفيت طريق الصواب عن هذا من وجهين، وسبب خفائها عدم العلم.
أما الوجه الأول: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على هذا ولا
أصحابه، وقد كان عليه الصلاة والسلام يأكل لحم الدجاج، ويحب الحلوى والعسل.
ودخل فرقد السبخي على الحسن وهو يأكل الفالوذج، فقال: يا فرقد ما تقول في
هذا ؟ فقال لا آكله ولا أحب من أكله. فقال الحسن: لعاب النحل، للباب البر،
مع سمن البقر، هل يعيبه مسلم؟.
وجاء رجل إلى الحسن فقال: إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج. فقال: ولم ؟ قال
يقول: لا أؤدي شكره، فقال: إن جارك جاهل وهل يؤدي شكر الماء البارد ؟.
وكان سفيان الثوري: يحمل في سفره الفالوذج. والحمل المشوي، ويقول: إن
الدابة إذا أحسن إليها عملت.
وما حدث في الزهاد بعدهم من هذا الفن فأمور مسروقة من الرهبانية وأنا خائف
من قوله تعالى: " لا تُحَرِّمُو طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم ولاَ
تَعْتَدُوا " .
ولا يحفظ عن أحد من السلف الأول من الصحابة من هذا الفن شيء إلا أن يكون
ذلك لعارض.
وسبب ما يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه اشتهى شيئاً فآثر به فقيراً،
وأعتق جاريته رميثة، وقال: إنها أحب الخلق إلي، فهذا وأمثاله حسن، لأنه
إيثار بما هو أجود عند النفس من غيره، وأكثر لها من سواه.
فإذا وقع في بعض الأوقات كسرت، بذلك الفعل سورة هواها أن تطغى بني كل ما
تريد.
فأما من دام على مخالفتها على الإطلاق، فإنه يعمي قلبها، ويبلد خواطرها،
ويشتت عزائمها، فيؤذيها أكثر مما ينفعها.
وقد قال إبراهيم بن أدهم: إن القلب إذا أكره عمي، وتحت مقالته سر لطيف وهو
أن الله عز وجل قد وضع طبيعة الآدمي على معنى عجيب، وهو أنها تختار الشيء
من الشهوات مما يصلحها، فتعلم باختيارها له صلاحه، وصلاحها به ؟.
وقد قال حكماء الطب: ينبغي أن يفسح للنفس فيما تشتهي من المطاعم، وإن كان
فيه نوع ضرر؛ لأنها إنما تختار ما يلائمها، فإذا قمعها الزاهد في مثل هذا
عاد على بدنه بالضرر.
ولولا جواذب الباطن من الطبيعة ما بقي البدن ؟ فإن الشهوة للطعام تثور،
فإذا وقعت الغنية بما يتناول كفت الشهوة.
فالشهوة مريد ورائد ونعم الباعث هي على مصلحة البدن.
غير أنها إذا أفرطت وقع الأذى، ومتى منعت ما تريد على الإطلاق مع الأمن من
فساد العاقبة عاد ذلك بفساد أحوال النفس، ووهن الجسم. واختلاف السقم الذي
تتداعى به الجملة، مثل أن يمنعها الماء عند اشتداد العطش، والغذاء عند
الجوع، والجماع عند قوة الشهوة، والنوم عند غلبته، حتى إن المغتم إذا لم
يتروح بالشكوى قتله الكمد.
فهذا أصل إذا فهمه هذا الزاهد، علم أنه قد خالف طريق الرسول صلى الله عليه
وسلم وأصحابه. من حيث النقل، وخالف الموضوع من حيث الحكمة.
ولا يلزم على هذا قول القائل: فمن أين يصفو المطعم ؟ لأنه إذا لم يصف كان
الترك ورعاً، وإنما الكلام في المطعم الذي ليس فيه ما يؤذي في باب الورع،
وكان ما شرحته جواباً للقائل - ما أبلغ نفسي شهوة على الإطلاق.
والوجه الثاني: أني أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك فصار
يشتهي أن لا يتناول، وللنفس في هذا مكر خفي، ورياء دقيق، فإن سلمت من
الرياء للخلق، كانت الآفة من جهة تعلقها بمثل هذا الفعل، وإدلالها في
الباطن به، فهذه مخاطرة وغلط.
وربما قال بعض الجهال: هذا صد عن الخير والزهد. وليس كذلك، فإن الحديث قد
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد
" .
ولا ينبغي أن يغتر بعبادة جريج، ولا بتقوى ذي الحويصرة، ولقد دخل
المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه. من
إظهار التخشع الزائد في الحد، والتنوق في تخشين الملبس، وأشياء صار العوام
يستحسنونها.
وصارت لأقوام كالمعاش يجتنون من أرباحها، تقبيل اليد، وتوفير التوقير،
وحراسة الناموس.
وأكثرهم في خلوته؛ على غير حالته في جلوته.
وقد كان ابن سيرين يضحك بين الناس قهقهة، وإذا خلا بالليل فكأنه قتل أهل
القرية.
فنسأل الله تعالى علماً نافعاً فهو الأصل، فمتى حصل أوجب معرفة
المعبود عز وجل، وحرك إلى خدمته بمقتضى ما شرعه وأحبه، وسلك بصاحبه طريق
الإخلاص.
وأصل الأصول: العلم، وأنفع العلوم النظر في سيرة الرسول صلى الله عليه
وسلم وأصحابه: " أُولئكَ الّذِينَ هدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ " .
فصل تربية النفس
تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد، ورأيت خلقاً من العلماء والزهاد لا
يفهمون معناه، لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق، وذلك غلط من وجهين.
أحدهما: أنه رب مانع لها شهوة أعطاها بالمنع أوفى منها.
مثل أن يمنعها مباحاً فيشتهر بمنعه إياها ذلك، فترضى النفس بالمنع لأنها
قد استبدلت به المدح.
وأخفى من ذلك أن يرى - بمنعه إياها ما منع - أنه قد فضل من سواه ممن لم
يمنعها ذلك، وهذه دفائن تحتاج إلى منقاش فهم يخلصها.
والوجه الثاني: أننا قد كلفنا حفظها، ومن أسباب حفظها ميلها إلى الأشياء
التي تقيمها، فلا بد من إعطائها ما يقيمها، وأكثر ذلك أو كله مما تشتهيه.
ونحن كالوكلاء في حفظها. لأنها ليست لنا بل هي وديعة عندنا، فمنعها حقوقها
على الإطلاق خطر.
ثم رب شد أوجب استرخاء، ورب مضيق على نفسه فرت منه فصعب عليه تلافيها.
وإنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل، يحملها على مكروهها في تناول ما
ترجو به العافية، ويذوب في المرارة قليلاً من الحلاوة، ويتناول من الأغذية
مقدار ما يصفه الطبيب. ولا تحمله شهوته على موافقة غرضها من مطعم ربما جر
جوعاً، ومن لقمة ربما حرمت لقمات.
فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها، ولا يهمل مقودها - بل يرخي لها في
وقت والطول بيده.
فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها.
فإذا رآها قد مالت ردها باللطف، فإن ونت وأبت، فبالعنف.
ويحبسها في مقام المداراة، كالزوجة التي مبني عقلها على الضعف والقلة، فهي
تدارى عند نشوزها بالوعظ، فإن لم تصلح فبالهجر، فإن لم تستقم فبالضرب.
وليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم.
هذه مجاهدة من حيث العمل، فأما من حيث وعظها وتأنيبها، فينبغي لمن رآها
تسكن للخلق، وتتعرض بالدناءة من الأخلاق أن يعرفها تعظيم خالقها لها
فيقول: ألست التي قال فيك: خلقتك بيدي، وأسجدت لك ملائكتي، وارتضاك
للخلافة في أرضه، وراسلك، واقترض منك واشترى.
فإن رآها تتكبر، قال لها: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين، تقتلك شرقة،
وتؤلمك بقة ؟.
وإن رأى تقصيرها عرفها حق الموالي على العبيد.
وإن ونت في العمل، حدثها بجزيل الأجر.
وإن مالت إلى الهوى، خوفها عظيم الوزر، ثم يحذرها عاجل العقوبة الحسية،
كقوله تعالى: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُم
وَأَبْصَارَكُمْ " ، والمعنوية كقوله تعالى: " سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتَي
الّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأرضِ بِغَيرِ الْحَقِّ " .
فهذا جهاد بالقول، وذاك جهاد بالفعل.
فصل علة الإبطاء في الإجابة
رأيت من البلاء العجاب. أن المؤمن يدعو فلا يجاب، فيكرر الدعاء وتطول
المدة، ولا يرى أثراً للإجابة، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي
احتاج إلى الصبر.
وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب.
ولقد عرض لي من هذا الجنس. فإنه نزلت بي نازلة. فدعوت وبالغت، فلم أر
الإجابة، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده.
فتارة يقول: الكرم واسع والبخل معدوم، فما فائدة تأخير الجواب ؟.
فقلت: إخسأ يا لعين، فما أحتاج إلى تقاضي، ولا أرضاك وكيلاً.
ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك ومساكنة وسوسته، فإنه لو لم يكن في تأخير
الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو لكفي في الحكمة.
قالت: فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة.
فقلت: قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك، وللمالك التصرف بالمنع
والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه.
والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة
والحق أن الحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب، من
أشياء تؤذي في الظاهر بقصد بها المصلحة، فلعل هذا من ذاك.
والثالث: أنه قد يكون التأخير مصلحة، والاستعجال مضرة، وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم: " لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل، يقول دعوت فلم
يستجب لي " .
والرابع: أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك فربما يكون في
مأكولك شبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك
لذنب ما صدقت في التوبة منه.
فابحثي عن بعض هذه الأسباب لعلك توقنين بالمقصود، كما روي عن أبي يزيد رضي
الله عنه: أنه نزل بعض الأعاجم في داره، فجاء، فرآه فوقف بباب الدار، وأمر
بعض أصحابه فدخل، فقلع طيناً جديداً قد طينه، فقام الأعجمي وخرج.
فسئل أبو يزيد عن ذلك فقال: هذا الطين من وجه فيه شبهة، فلما زالت الشبهة
زال صاحبها.
وعن إبراهيم الخواص رحمة الله عليه أنه خرج لإنكار منكر، فنبحه كلب له
فمنعه أن يمضي، فعاد ودخل المسجد، وصلى ثم خرج، فبصبص الكلب له فمضى،
وأنكر فزال المنكر.
فسئل عن تلك الحال فقال: كان عندي منكر، فمنعني الكلب، فلما عدت تبت من
ذلك، فكان ما رأيتم.
والخامس: أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب، فربما كان في
حصوله زيادة إثم، أو تأخير عن مرتبة خير، فكان المنع أصلح.
وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت
أسرت، وإن أسرت تنصرت.
والسادس: أنه ربما كان فقد ما تفقدينه سبباً للوقوف على الباب واللجأ،
وحصوله سبباً للاشتغال به عن المسؤول.
وهذا الظاهر بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ.
فالحق عز وجل علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فلذعهم في خلال النعم
بعوارض تدفعهم إلى بابه، يستغيثون به، فهذا من النعم في طي البلاء.
وإنما البلاء المحض، ما يشغلك عنه، فأما ما يقيمك بين يديه، ففيه جمالك.
وقد حكي عن يحيى البكاء أنه رأى ربه عز وجل في المنام، فقال: يا رب كم
أدعوك ولا تجيبني؟ فقال: يا يحيى إني أحب أن أسمع صوتك.
وإذا تدبرت هذه الأشياء تشاغلت بما هو أنفع لك، من حصول ما فاتك من رفع
خلل، أو اعتذار من زلل، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب.
رأيت ميل النفس إلى الشهوات زائداً في المقدار حتى إنها إذا مالت مالت
بالقلب والعقل والذهن، فلا يكاد المرء ينتفع بشيء من النصح.
فصحت بها يوماً وقد مالت بكليتها إلى شهوة: ويحك ! قفي لحظة أكلمك كلمات
ثم افعلي ما بدا لك.
قالت: قل أسمع.
قلت: قد تقرر قلة ميلك إلى المباحات من الشهوات، وأما جل ميلك فإلى
المحرمات. وأما أكشف لك عن الأمرين، فربما رأيت الحلوين مرين.
أما المباحات من الشهوات، فمطلقة لك ولكن طريقها صعب، لأن المال قد يعجز
عنها، والكسب قد لا يحصل معظمها، والوقت الشريف يذهب بذلك.
ثم شغل القلب بها وقت التحصيل، وفي حالة الحصول، وبحذر الفوات.
ثم ينغصها من النقص ما لا يخفى على مميز، وإن كان مطعماً فالشبع يحدث
آفات، وإن كان شخصاً فالملل، أو الفراق، أو سوء الخلق.
ثم ألذ النكاح أكثره إيهاناً للبدن، إلى غير ذلك مما يطول شرحه.
وأما المحرمات: فتشتمل على ما أشرنا إليه من المباحات وتزيد عليها بأنها
آفة العرض ومظنة عقاب الدنيا وفضيحتها، وهناك وعيد الآخرة، ثم الجزع كلما
ذكرها التائب.
وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة. ألا ترين إلى كل مغلوب بالهوى كيف
يكون ذليلاً ؟ لأنه قهر. بخلاف غالب الهوى فإنه يكون قوي القلب، عزيزاً
لأنه قهر.
فالحذر الحذر من رؤية المشتهى بعين الحسن، كما يرى اللص لذة أخذ المال من
الحرز، ولا يرى بعين فكره القطع.
وليفتح عين البصيرة لتأمل العواقب واستحالة اللذة نغصة، وانقلابها عن
كونها لذة، إما لملل أو لغيره من الآفات، أو لانقطاعها بامتناع الحبيب.
فتكون المعصية الأولى كلقمة تناولها جائع، فما ردت كلب الجوع، بل شهت
الطعام.
وليتذكر الإنسان لذة قهر الهوى مع تأمل فوائد الصبر عنه.
فمن وفق لذلك كانت سلامته قريبة منه.
فصل حجب العيش
خطر لي خاطر والمجلس قد طاب، والقلوب قد حضرت، والعيون جارية، والرؤوس
مطرقة، والنفوس قد ندمت على تفريطها، والعزائم قد نهضت لإصلاح شؤونها،
وألسنة اللوم تعمل في الباطل على تضييع الحزم وترك الحذر فقلت لنفسي: ما
بال هذه اليقظة لا تدوم ؟ فإني أرى النفس واليقظة في المجلس متصادقين
متصافيين، فإذا قمنا عن هذه التربة، وقعت الغربة.
فتأملت ذلك فرأيت أن النفس ما تزال متيقظة، والقلب ما يزال عارفاً، غير أن
القواطع كثيرة، والفكر الذي ينبغي استعماله في معرفة الله سبحانه وتعالى
قد كل مما يستعمل في اجتلاب الدنيا، وتحصيل حوائج النفوس، والقلب منغمس في
ذلك، والبدن أسير مستخدم.
وبينما الفكر يجول في اجتلاب الطعام والشراب والكسوة، وينظر في صدد ذلك،
وما يدخره لغده وسنته، إذا هو مهتم بخروج الفضلات المؤذية - ومنها المني -
فاحتاج إلى النكاح، فعلم أنه لا يصح إلا باكتساب كسب الدنيا. فتفكر في ذلك
وعمل بمقتضاه.
ثم جاء الولد فاهتم به وله، وإذا الفكر عامل في أصول الدنيا وفروعها.
فإذا حضر الإنسان المجلس فإنه لا يحضر جائعاً ولا حاقناً. بل يحضره جامعاً
لهمته، ناسياً ما كان من الدنيا على ذكره. فيخلو الوعظ بالقلب فيذكره بما
ألف، ويجذبه بما عرف، فينهض عمال القلب في زوارق عرفانه. فيحضرون النفس
إلى باب المطالبة بالتفريط، ويؤاخذون الحس بما مضى من العيوب، فتجري عيون
الندم، وتنعقد عزائم الاستدراك.
ولو أن هذه النفس خلت عن المعهودات التي وصفتها، لتشاغلت بخدمة باريها.
ولو وقعت في سورة حبه، لاستوحشت عن الكل شغلاً بقربه.
ولهذا اعتمد الزهاد الخلوات، وتشاغلوا بقطع المعوقات، وعلى قدر مجاهدتهم
في ذلك نالوا من الخدمة مرادهم، كما أن الحصاد على مقدار البذر.
غير أني تلمحت في هذه الحالة - دقيقة - وهو أن النفس لو دامت لها اليقظة
لوقعت فيما هو شر من فوت ما فاتها. وهو العجب بحالها، والاحتقار لجنسها.
وربما ترقت بقوة علمها وعرفانها، إلى دعوى: لي، وعندي، وأستحق. فتركها في
حومة ذنوبها تتخبط.
فإذا وقفت على الشاطىء قامت بحق ذلة العبودية، وذلك أولى لها.
هذا حكم الغالب من الخلق، ولذلك شغلوا عن هذا المقام. فمن بذر فصلح له فلا
بد له من هفوة تراقبها عين الخوف بها تصح له عبوديته، وتسلم له عبادته.
وإلى هذا المعنى أشار الحديث الصحيح: " لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء
بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم " .
تفكرت فرأيت أن حفظ المال من المتعين، وما يسميه جهلة المتزهدين
توكلاً من إخراج ما في اليد ليس بالمشروع. فإن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لكعب بن مالك: " أمسك عليك بعض مالك أو كما قال له " . وقال لسعد: "
لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس " .
فإن اعترض جاهل فقال: فقد جاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله. فالجواب أن
أبا بكر صاحب جأش وتجارة، فإذا أخرج الكل أمكنه أن يستدين عليه، فيتعيش.
فمن كان على هذه الصفة لا أذم إخراجه لماله، وإنما الذم متطرق إلى من يخرج
ماله ليس من أرباب المعائش.
أو يكون من أولئك، إلا أنه ينقطع عن المعاش فيبقى كلا على الناس، يستعطيهم
ويعتقد أنه على الفتوح، وقلبه متعلق بالخلق، وطمعه ناشب فيهم.
ومتى حرك بابه نهض قلبه. وقال: رزق قد جاء.
وهذا أمر قبيح بمن يقدر به على المعاش، وإن لم يقدر كان إخراج ما يملك
أقبح، لأنه يتعلق قلبه بما في أيدي الناس.
وربما ذل لبعضهم، أو تزين له بالزهد، وأقل أحواله أن يزاحم الفقراء
والمكافيف والزمنى في الزكاة.
فعليك بالشرب الأول، فانظر هل فيهم من فعل ما يفعله جهلة المتزهدين ؟.
وقد أشرت في أول هذا إلى أنهم كسبوا وخلفوا الأموال، فرد إلى الشرب الأول،
الذي لم يطرق فإنه الصافي.
واحذر من المشارع المطروقة بالآراء الفاسدة الخارجة في المعنى على
الشريعة، مذعنة بلسان حالها أن الشرع ناقص يحتاج إلى ما يتم به.
واعلم - وفقك الله تعالى - أن البدن كالمطية، ولا بد من علف المطية،
والاهتمام به.
فإذا أهملت ذلك كان سبباً لوقوفك عن السير.
وقد رئي سلمان رضي الله عنه يحمل طعاماً على عاتقه فقيل له: أتفعل هذا
وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: إن النفس إذا أحرزت قوتها
اطمأنت.
وقال سفيان الثوري. إذا حصلت قوت شهر فتعبد.
وقد جاء أقوام ليس عندهم سوى الدعاوي فقالوا: هذا شك في الرازق والثقة به
أولى. فإياك وإياهم.
وربما ورد مثل هذا عن بعض صدور الزهاد من السلف فلا يعول عليه، ولا يهولنك
خلافهم.
فقد قال أبو بكر المروزي: سمعت أحمد بن حنبل يرغب في النكاح. فقلت له: قال
ابن أدهم، فما تركني أتمم حتى صاح علي، وقال: أذكر لك حال رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه، وتأتيني ببنيات الطريق ؟.
واعلم وفقك الله: أنه لو رفض الأسباب شخص يدعي التزهد. وقال: لا آكل ولا
أشرب، ولا أقوم من الشمس في الحر، ولا استدفيء من البرد، كان عاصياً
بالإجماع.
وكذلك لو قال وله عائلة: لا أكتسب ورزقهم على الله تعالى: فأصابهم أذى كان
آثماً.
كما قال عليه الصلاة والسلام: " كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت " .
واعلم أن الاهتمام بالكسب يجمع الهم، ويفرغ القلب، ويقطع الطمع في الخلق،
فإن الطبع له حق يتقاضاه.
وقد بين الشرع ذلك فقال: إن لنفسك عليك حقاً؛ وإن لعينك عليك حقاً.
ومثال الطبع مع المريد السالك، كمثل كلب لا يعرف الطارق، فكل من رآه يمشي،
نبح عليه، فإن ألقى إليه كسرة سكت عنه.
فالمراد من الاهتمام بذلك جمع الهم لا غير، فافهم هذه الأصول فإن فهمها
مهم..
فصل الشهوات مهلكة
تأملت في شهوات الدنيا فرأيتها مصائد هلاك، وفخوخ تلف.
فمن قوي عقله على طبعه وحكم عليه يسلم، ومن غلب طبعه فيا سرعة هلكته.
ولقد رأيت بعض أبناء الدنيا كان يتوق في التسري. ثم يستعمل الحرارات
المهيجة للباه، فما لبث أن انحلت حرارته الغريزية وتلف.
ولم أر في شهوات النفس أسرع هلاكاً من هذه الشهوة، فإنه كلما مال الإنسان
إلى شخص مستحسن أوجب ذلك حركة الباه زائداً عن العادة.
وإذا رأى أحسن منه زادت الحركة وكثر خروج المني زائداً عن الأول، فيفنى
جوهر الحياة أسرع شيء.
وبالضد من هذا أن تكون المرأة مستقبحة فلا يوجب نكاحها خروج الفضلة
المؤذية كما ينبغي، فيقع التأذي بالاحتباس وقوة التوق إلى منكوح.
وكذلك المفرط في الأكل فإنه يجني على نفسه كثيراً من الجنايات، والمقصر في
مقدار القوت كذلك، فعلمت أن أفضل الأمور أوساطها.
والدنيا مفازة فينبغي أن يكون السابق فيها العقل، فمن سلم زمام راحلته إلى
طبعه وهواه، فيا عجلة تلفه - هذا فيما يتعلق بالبدن والدنيا - فقس عليه
أمر الآخرة فافهم.
بلغني عن بعض زهاد زماننا أنه قدم إليه طعام فقال: لا آكل. فقيل
له: لم ؟. لأن نفسي تشتهيه، وأنا منذ سنين ما بلغت نفسي ما تشتهي.
فقلت: لقد خفيت طريق الصواب عن هذا من وجهين، وسبب خفائها عدم العلم.
أما الوجه الأول: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على هذا ولا
أصحابه، وقد كان عليه الصلاة والسلام يأكل لحم الدجاج، ويحب الحلوى والعسل.
ودخل فرقد السبخي على الحسن وهو يأكل الفالوذج، فقال: يا فرقد ما تقول في
هذا ؟ فقال لا آكله ولا أحب من أكله. فقال الحسن: لعاب النحل، للباب البر،
مع سمن البقر، هل يعيبه مسلم؟.
وجاء رجل إلى الحسن فقال: إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج. فقال: ولم ؟ قال
يقول: لا أؤدي شكره، فقال: إن جارك جاهل وهل يؤدي شكر الماء البارد ؟.
وكان سفيان الثوري: يحمل في سفره الفالوذج. والحمل المشوي، ويقول: إن
الدابة إذا أحسن إليها عملت.
وما حدث في الزهاد بعدهم من هذا الفن فأمور مسروقة من الرهبانية وأنا خائف
من قوله تعالى: " لا تُحَرِّمُو طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم ولاَ
تَعْتَدُوا " .
ولا يحفظ عن أحد من السلف الأول من الصحابة من هذا الفن شيء إلا أن يكون
ذلك لعارض.
وسبب ما يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه اشتهى شيئاً فآثر به فقيراً،
وأعتق جاريته رميثة، وقال: إنها أحب الخلق إلي، فهذا وأمثاله حسن، لأنه
إيثار بما هو أجود عند النفس من غيره، وأكثر لها من سواه.
فإذا وقع في بعض الأوقات كسرت، بذلك الفعل سورة هواها أن تطغى بني كل ما
تريد.
فأما من دام على مخالفتها على الإطلاق، فإنه يعمي قلبها، ويبلد خواطرها،
ويشتت عزائمها، فيؤذيها أكثر مما ينفعها.
وقد قال إبراهيم بن أدهم: إن القلب إذا أكره عمي، وتحت مقالته سر لطيف وهو
أن الله عز وجل قد وضع طبيعة الآدمي على معنى عجيب، وهو أنها تختار الشيء
من الشهوات مما يصلحها، فتعلم باختيارها له صلاحه، وصلاحها به ؟.
وقد قال حكماء الطب: ينبغي أن يفسح للنفس فيما تشتهي من المطاعم، وإن كان
فيه نوع ضرر؛ لأنها إنما تختار ما يلائمها، فإذا قمعها الزاهد في مثل هذا
عاد على بدنه بالضرر.
ولولا جواذب الباطن من الطبيعة ما بقي البدن ؟ فإن الشهوة للطعام تثور،
فإذا وقعت الغنية بما يتناول كفت الشهوة.
فالشهوة مريد ورائد ونعم الباعث هي على مصلحة البدن.
غير أنها إذا أفرطت وقع الأذى، ومتى منعت ما تريد على الإطلاق مع الأمن من
فساد العاقبة عاد ذلك بفساد أحوال النفس، ووهن الجسم. واختلاف السقم الذي
تتداعى به الجملة، مثل أن يمنعها الماء عند اشتداد العطش، والغذاء عند
الجوع، والجماع عند قوة الشهوة، والنوم عند غلبته، حتى إن المغتم إذا لم
يتروح بالشكوى قتله الكمد.
فهذا أصل إذا فهمه هذا الزاهد، علم أنه قد خالف طريق الرسول صلى الله عليه
وسلم وأصحابه. من حيث النقل، وخالف الموضوع من حيث الحكمة.
ولا يلزم على هذا قول القائل: فمن أين يصفو المطعم ؟ لأنه إذا لم يصف كان
الترك ورعاً، وإنما الكلام في المطعم الذي ليس فيه ما يؤذي في باب الورع،
وكان ما شرحته جواباً للقائل - ما أبلغ نفسي شهوة على الإطلاق.
والوجه الثاني: أني أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك فصار
يشتهي أن لا يتناول، وللنفس في هذا مكر خفي، ورياء دقيق، فإن سلمت من
الرياء للخلق، كانت الآفة من جهة تعلقها بمثل هذا الفعل، وإدلالها في
الباطن به، فهذه مخاطرة وغلط.
وربما قال بعض الجهال: هذا صد عن الخير والزهد. وليس كذلك، فإن الحديث قد
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد
" .
ولا ينبغي أن يغتر بعبادة جريج، ولا بتقوى ذي الحويصرة، ولقد دخل
المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه. من
إظهار التخشع الزائد في الحد، والتنوق في تخشين الملبس، وأشياء صار العوام
يستحسنونها.
وصارت لأقوام كالمعاش يجتنون من أرباحها، تقبيل اليد، وتوفير التوقير،
وحراسة الناموس.
وأكثرهم في خلوته؛ على غير حالته في جلوته.
وقد كان ابن سيرين يضحك بين الناس قهقهة، وإذا خلا بالليل فكأنه قتل أهل
القرية.
فنسأل الله تعالى علماً نافعاً فهو الأصل، فمتى حصل أوجب معرفة
المعبود عز وجل، وحرك إلى خدمته بمقتضى ما شرعه وأحبه، وسلك بصاحبه طريق
الإخلاص.
وأصل الأصول: العلم، وأنفع العلوم النظر في سيرة الرسول صلى الله عليه
وسلم وأصحابه: " أُولئكَ الّذِينَ هدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ " .
فصل تربية النفس
تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد، ورأيت خلقاً من العلماء والزهاد لا
يفهمون معناه، لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق، وذلك غلط من وجهين.
أحدهما: أنه رب مانع لها شهوة أعطاها بالمنع أوفى منها.
مثل أن يمنعها مباحاً فيشتهر بمنعه إياها ذلك، فترضى النفس بالمنع لأنها
قد استبدلت به المدح.
وأخفى من ذلك أن يرى - بمنعه إياها ما منع - أنه قد فضل من سواه ممن لم
يمنعها ذلك، وهذه دفائن تحتاج إلى منقاش فهم يخلصها.
والوجه الثاني: أننا قد كلفنا حفظها، ومن أسباب حفظها ميلها إلى الأشياء
التي تقيمها، فلا بد من إعطائها ما يقيمها، وأكثر ذلك أو كله مما تشتهيه.
ونحن كالوكلاء في حفظها. لأنها ليست لنا بل هي وديعة عندنا، فمنعها حقوقها
على الإطلاق خطر.
ثم رب شد أوجب استرخاء، ورب مضيق على نفسه فرت منه فصعب عليه تلافيها.
وإنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل، يحملها على مكروهها في تناول ما
ترجو به العافية، ويذوب في المرارة قليلاً من الحلاوة، ويتناول من الأغذية
مقدار ما يصفه الطبيب. ولا تحمله شهوته على موافقة غرضها من مطعم ربما جر
جوعاً، ومن لقمة ربما حرمت لقمات.
فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها، ولا يهمل مقودها - بل يرخي لها في
وقت والطول بيده.
فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها.
فإذا رآها قد مالت ردها باللطف، فإن ونت وأبت، فبالعنف.
ويحبسها في مقام المداراة، كالزوجة التي مبني عقلها على الضعف والقلة، فهي
تدارى عند نشوزها بالوعظ، فإن لم تصلح فبالهجر، فإن لم تستقم فبالضرب.
وليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم.
هذه مجاهدة من حيث العمل، فأما من حيث وعظها وتأنيبها، فينبغي لمن رآها
تسكن للخلق، وتتعرض بالدناءة من الأخلاق أن يعرفها تعظيم خالقها لها
فيقول: ألست التي قال فيك: خلقتك بيدي، وأسجدت لك ملائكتي، وارتضاك
للخلافة في أرضه، وراسلك، واقترض منك واشترى.
فإن رآها تتكبر، قال لها: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين، تقتلك شرقة،
وتؤلمك بقة ؟.
وإن رأى تقصيرها عرفها حق الموالي على العبيد.
وإن ونت في العمل، حدثها بجزيل الأجر.
وإن مالت إلى الهوى، خوفها عظيم الوزر، ثم يحذرها عاجل العقوبة الحسية،
كقوله تعالى: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُم
وَأَبْصَارَكُمْ " ، والمعنوية كقوله تعالى: " سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتَي
الّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأرضِ بِغَيرِ الْحَقِّ " .
فهذا جهاد بالقول، وذاك جهاد بالفعل.
رأيت من البلاء العجاب. أن المؤمن يدعو فلا يجاب، فيكرر الدعاء وتطول
المدة، ولا يرى أثراً للإجابة، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي
احتاج إلى الصبر.
وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب.
ولقد عرض لي من هذا الجنس. فإنه نزلت بي نازلة. فدعوت وبالغت، فلم أر
الإجابة، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده.
فتارة يقول: الكرم واسع والبخل معدوم، فما فائدة تأخير الجواب ؟.
فقلت: إخسأ يا لعين، فما أحتاج إلى تقاضي، ولا أرضاك وكيلاً.
ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك ومساكنة وسوسته، فإنه لو لم يكن في تأخير
الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو لكفي في الحكمة.
قالت: فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة.
فقلت: قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك، وللمالك التصرف بالمنع
والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه.
والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة
والحق أن الحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب، من
أشياء تؤذي في الظاهر بقصد بها المصلحة، فلعل هذا من ذاك.
والثالث: أنه قد يكون التأخير مصلحة، والاستعجال مضرة، وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم: " لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل، يقول دعوت فلم
يستجب لي " .
والرابع: أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك فربما يكون في
مأكولك شبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك
لذنب ما صدقت في التوبة منه.
فابحثي عن بعض هذه الأسباب لعلك توقنين بالمقصود، كما روي عن أبي يزيد رضي
الله عنه: أنه نزل بعض الأعاجم في داره، فجاء، فرآه فوقف بباب الدار، وأمر
بعض أصحابه فدخل، فقلع طيناً جديداً قد طينه، فقام الأعجمي وخرج.
فسئل أبو يزيد عن ذلك فقال: هذا الطين من وجه فيه شبهة، فلما زالت الشبهة
زال صاحبها.
وعن إبراهيم الخواص رحمة الله عليه أنه خرج لإنكار منكر، فنبحه كلب له
فمنعه أن يمضي، فعاد ودخل المسجد، وصلى ثم خرج، فبصبص الكلب له فمضى،
وأنكر فزال المنكر.
فسئل عن تلك الحال فقال: كان عندي منكر، فمنعني الكلب، فلما عدت تبت من
ذلك، فكان ما رأيتم.
والخامس: أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب، فربما كان في
حصوله زيادة إثم، أو تأخير عن مرتبة خير، فكان المنع أصلح.
وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت
أسرت، وإن أسرت تنصرت.
والسادس: أنه ربما كان فقد ما تفقدينه سبباً للوقوف على الباب واللجأ،
وحصوله سبباً للاشتغال به عن المسؤول.
وهذا الظاهر بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ.
فالحق عز وجل علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فلذعهم في خلال النعم
بعوارض تدفعهم إلى بابه، يستغيثون به، فهذا من النعم في طي البلاء.
وإنما البلاء المحض، ما يشغلك عنه، فأما ما يقيمك بين يديه، ففيه جمالك.
وقد حكي عن يحيى البكاء أنه رأى ربه عز وجل في المنام، فقال: يا رب كم
أدعوك ولا تجيبني؟ فقال: يا يحيى إني أحب أن أسمع صوتك.
وإذا تدبرت هذه الأشياء تشاغلت بما هو أنفع لك، من حصول ما فاتك من رفع
خلل، أو اعتذار من زلل، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل علاج البلايا
من نزلت به بلية، فأراد تمحيقها، فليتصورها أكثر مما هي تهن.
وليتخيل ثوابها وليتوهم نزول أعظم منها، ير الربح في الاقتصار عليها.
وليتلمح سرعة زوالها، فإنه لولا كرب الشدة، ما رجيت ساعات الراحة.
وليعلم أن مدة مقامها عنده، كمدة مقام الضيف يتفقد حوائجه في كل لحظة، فيا
سرعة انقضاء مقامه، ويا لذة مدائحه وبشره في المحافل، ووصف المضيف بالكرم.
فكذلك المؤمن في الشدة، ينبغي أن يراعي الساعات، ويتفقد فيها أحوال النفس،
ويتلمح الجوارح، مخافة أن يبدو من اللسان كلمة، أو من القلب تسخط، فكأن قد
لاح فجر الأجر، فانجاب ليل البلاء، ومدح الساري بقطع الدجى، فما طلعت شمس
الجزاء، إلا وقد وصل إلى منزل السلامة.
فصل خطر العلم مع قلة العمل
لما رأيت نفسي في العلم حسناً، فهي تقدمه على كل شيء وتعتقد الدليل، وتفضل
ساعة التشاغل به على ساعات النوافل، وتقول: أقوى دليل لي على فضله على
النوافل. أني رأيت كثيراً ممن شغلتهم نوافل الصلاة والصوم عن نوافل العلم،
قد عاد ذلك عليهم بالقدح في الأصول، فرأيتها في هذا الاتجاه على الجادة
السليمة والرأي الصحيح.
إلا أني رأيتها واقفة مع صورة التشاغل بالعلم، فصحت بها فما الذي أفادك
العلم ؟. أين الخوف؟ أين القلق ؟ أين الحذر ؟.
أما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم ؟.
أما كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الكل، ثم إنه قام حتى ورمت قدماه ؟.
أما كان أبو بكر رضي الله عنه شجي النشيج، كثير البكاء ؟.
أما كان في خد عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع ؟.
أما كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة ؟.
أما كان علي رضي الله عنه يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع ؟.
ويقول: يا دنيا غري غيري ؟.
أما كان الحسن البصري يحيا على قوة القلق ؟.
أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة
؟.
أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر ؟.
أما قالت ابنة الربيع بن خيثم له ؟: ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام
؟. فقال: إن أباك يخاف عذاب البيات.
أما كان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطاً في المسجد يؤدب به نفسه إذا فتر ؟.
أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة ؟ وكان يقول: والفاه سبقني العابدون،
وقطع بي.
أما صام منصور بن المعتمر أربعين سنة ؟.
أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف ؟.
أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف ؟ أما تعلمين أخيار الأئمة
الأربعة في زهدهم وتعبدهم، أو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
احذري من الإخلاد إلى صورة العلم، مع ترك العمل به، فإنها حالة الكسالى
الزمنى:
وخذ لك منك على مهلة ... ومقبل عيشك لم يدبر
وخف هجمة لا تقيل العثا ... ر وتطوي الورود على المصدر
ومثّل لنفسك أي الرعي ... ل يضمك في حلبة المحشر
فصل زهاد جهلة
مما يزيد العلم عندي فضلاً، أن قوماً تشاغلوا بالتعبد عن العلم، فوقفوا عن
الوصول إلى حقائق الطلب.
فروي عن بعض القدماء أنه قال لرجل: يا أبا الوليد، إن كنت أبا الوليد،
يتورع أن يكنيه ولا ولد له !!.
ولو أوغل هذا في العلم لعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: كنى صهيباً أبا
يحيى، وكنى طفلاً فقال: يا أبا عمير، ما فعل النغير ؟.
وقال بعض المتزهدين: قيل لي يوماً: كل من هذا اللبن. فقلت: هذا يضرني، ثم
وقفت بعد مدة عند الكعبة فقلت: اللهم إنك تعلم أني ما أشركت بك طرفة عين،
فهتف بي هاتف، ولا يوم اللبن؟.
وهذا لو صح جاز أن يكون تأديباً له، لئلا يقف مع الأسباب ناسياً للمسبب
وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: " ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتى
الآن قطعت أبهري. وقال: ما نفعني مال كمال أبي بكر " .
ومن المتزهدين أقوام يرون التوكل قطع الأسباب كلها، وهذا جهل بالعلم. فإن
النبي صلى الله عليه وسلم: دخل الغار، وشاور الطبيب، ولبس الدرع، وحفر
الخندق، ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي وكان كافراً، وقال لسعد: لأن تدع
ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.
فالوقوف مع الأسباب مع نسيان المسبب غلط، والعمل على الأسباب مع تعلق
القلب بالمسبب هو المشروع.
وكل هذه الظلمات إنما تقطع بمصباح العلم.
ولقد ضل من مشى في ظلمة الجهل أو في زقاق الهوى.
فصل شرف البشر
ما أزال أتعجب ممن يرى تفضيل الملائكة على الأنبياء والأولياء، فإن كان
التفضيل بالصور، فصورة الآدمي أعجب من ذوي أجنحة.
وإن تركت صورة الآدمي لأجل أوساخها المنوطة بها، فالصورة ليست الآدمي،
إنما هي قالب. ثم قد استحسن منها ما يستقبح في العادة، مثل خلوف فم
الصائم، ودم الشهداء، والنوم في الصلاة، فبقيت صورة معمورة، وصار الحكم
للمعنى.
ألهم مرتبة يحبهم، أو فضيلة يباهي بهم. وكيف دار الأمر فقد سجدوا لنا. وهو
صريح في تفضيلنا عليهم، فإن كانت الفضيلة بالعلم فقد علمت القصة، يوم "
لاَ عِلْمَ لَنَا " ، " يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ " .
وإن فضلت الملائكة بجوهرية ذواتهم فجوهرية أرواحنا من ذلك الجنس، وعلينا
أثقال أعباء الجسم.
بالله لولا احتياج الراكب إلى الناقة فهو يتوقف لطلب علفها، ويرفق في
السير بها لطرق أرض مني قبل العشر.
واعجبا أتفضل الملائكة بكثرة التعبد ! فما ثم صاد.
أو يتعجب من الماء إذا جرى، أو من منحدر يسرع، إنما العجب من مصاعد يشق
الطريق ويغالب العقبات ؟.
بلى قد يتصور منهم الخلاف، ودعوى الإلهية. لقدرتهم على دك الصخور، وشق
الأرض لذلك توعدوا: " وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ
فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ " لكنهم يعلمون عقوبة الحق فيحذرونه.
فأما بعدنا عن المعرفة الحقيقية وضعف يقيننا بالناهي، وغلبة شهوتنا مع
الغفلة. يحتاج إلى جهاد أعظم من جهادهم.
تالله لو ابتلى أحد المقربين بما ابتلينا به، ما قدر على التماسك.
يصبح أحدنا وخطاب الشرع يقول له: الكسب لعائلتك، واحذر في كسبك. وقد تمكن
منه ما ليس من فعله، كحب الأهل، وعلوق الولد بنياط القلب، واحتياج بدنه
إلى ما لا بد منه.
فتارة يقال للخليل عليه السلام: اذبح ولدك بيدك، واقطع ثمرة فؤادك بكفك،
ثم قم إلى المنجنيق لترمى في النار.
وتارة يقال لموسى عليه السلام: صم شهراً، ليلاً ونهاراً.
ثم يقال للغضبان: اكظم، وللبصير أغضض، ولذي المقول اصمت، ولمستلذ
النوم تهجد، ولمن مات حبيبه اصبر، ولمن أصيب في بدنه أشكر، وللواقف في
الجهاد بين الغمرات: لا يحل أن تفر. ثم اعلم أن الموت يأتي بأصعب المرارات
فينزع الروح عن البدن، فإذا نزل فاثبت. واعلم أنك ممزق في القبر فلا تتسخط
لأنه مما يجري به القدر. وإن وقع بك مرض فلا تشك إلى الخلق.
فهل للملائكة من هذه الأشياء شيء ؟ وهل ثم إلا عبادة ساذجة ليس فيها
مقاومة طبع، ولا رد هوى ؟. وهل هي إلا عبادة صورية بين ركوع وسجود وتسبيح
؟ فأين عبادتهم المعنوية من عبادتنا ؟ ثم أكثرهم في خدمتنا بين كتبة
علينا، ودافعين عنا، ومسخرين لإرسال الريح والمطر، وأكبر وظائفهم
الاستغفار لنا. فكيف يفضلون علينا بلا علة ظاهرة.
وإذا ما حكت على محك التجارب طائفة منهم مثل ما روي عن هاروت، وماروت،
خرجوا أقبح من بهرج.
ولا تظنن أني أعتقد في تعبد الملائكة نوع تقصير، لأنهم شديدو الإشفاق
والخوف، لعلمهم بعظمة الخالق. لكن طمأنينة من لم يخطىء تقوي نفسه. وانزعاج
الغائص في الزلل يرقى روحه إلى التراقي ؟.
فاعرفوا إخواني شرف أقداركم، وصونوا جواهركم عن تدنيسها بلوم الذنوب فأنتم
معرض الفضل على الملائكة، فاحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض البهائم، ولا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فصل السلامة في كتاب الله
رأيت كثيراً من الخلق وعالماً من العلماء، لا ينتهون عن البحث عن أصول
الأشياء التي أمر بعلم جلها من غير بحث عن حقائقها، كالروح مثلاً، فإن
الله تعالى سترها بقوله: " قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي " فلم
يقنعوا، وأخذوا يبحثون عن ماهيتها ولا يقعون بشيء، ولا يثبت لأحد منهم
برهان على ما يدعيه، وكذلك العقل، فإنه موجود بلا شك، كما أن الروح موجودة
بلا شك، كلاهما يعرف بآثاره لا بحقيقة ذاته.
فإن قال قائل: فما السر في كتم هذه الأشياء ؟ قلت: لأن النفس ما تزال
تترقى من حالة إلى حالة فلو اطلعت على هذه الأشياء لترقت إلى خالقها، فكان
ستر ما دونه زيادة في تعظيمه؛ لأنه إذا كان بعض مخلوقاته لا يعلم كنهه،
فهو أجل وأعلى.
ولو قال قائل: ما الصواعق ؟ وما البرق ؟ وما الزلازل ؟.
قلنا: شيء مزعج، ويكفي.
والسر في ستر هذا أنه لو كشفت حقائقه خف مقدار تعظيمه.
ومن تلمح هذا الفصل علم أنه فصل عزيز، فإذا ثبت هذا في المخلوقات فالخالق
أجل وأعلى.
فينبغي أن يوقف في إثباته على دليل وجوده، ثم يستدل على جواز بعثه رسله،
ثم تتلقى أوصافه من كتبه ورسله، ولا يزاد على ذلك.
ولقد بحث خلق كثير عن صفاته بآرائهم فعاد وبال ذلك عليهم.
وإذا قلنا: إنه موجود، وعلمنا من كلامه أنه سميع، بصير، حي، قادر. كفانا
هذا في صفاته، ولا نخوض في شيء آخر.
وكذلك نقول: متكلم والقرآن كلامه، ولا نتكلف ما فوق ذلك.
ولم يقل السلف: تلاوة ومتلو، وقراءة ومقروء، ولا قالوا: استوى على العرش
بذاته، ولا قالوا: ينزل بذاته، بل أطلقوا ما ورد من غير زيادة.
ونقول: لما لم يثبت بالدليل ما لا يجوز عليه.
وهذه كلمات كالمثال، فقس عليها جميع الصفات، تفز سليماً من تعطيل، متخلصاً
من تشبيه.
فصل سر وجود الهمل
رأيت أكثر الخلق في وجودهم كالمعدومين، فمنهم من لا يعرف الخالق، ومنهم من
يثبته على مقتضى حسه، ومنهم من لا يفهم المقصود من التكليف.
وترى المترسمين بالزهد يدأبون في القيام والقعود، ويتركون الشهوات، وينسون
ما قد أنسوا به من شهوة الشهرة، وتقبيل الأيادي.
ولو كلم أحدهم لقال: ألمثلي يقال هذا ؟ ومن فلان الفاسق ؟.
فهؤلاء لا يفهمون المقصود، وكذلك كثير من العلماء في احتقارهم غيرهم،
والتكبر في نفوسهم.
فتعجبت كيف يصلح هؤلاء لمجاورة الحق، وسكنى الجنة ؟!.
فرأيت أن الفائدة في وجودهم في الدنيا، تجانس الفائدة في دخولهم الجنة،
فإنهم في الدنيا بين معتبر به، يعرف عارف الله سبحانه نعمة الله عليه، بما
كشف له مما غطى عن ذاك، ويتم النظام بالاقتداء تصور أولئك.
فإن العارف لا يتسع وقته لمخالطة من يقف مع الصورة، الزاهد كراعي البهم،
والعالم كمؤدب الصبيان، والعارف كملقن الحكمة.
ولولا نفاط الملك وحارسه. ووقاد أتونه. ما تم عيشه.
فمن تمام عيش العارف استعمال أولئك بحسبهم، فإذا وصلوا إليه حرر
مانعهم، وفيهم من لا يصل إليه، فيكون وجود أولئك كزيادة - لا - في الكلام.
هي حشو، وهي موكدة.
فإن قال قائل: فهب هذا يصح في الدنيا. فكيف في الجنة ؟.
والجواب: أن الأنس بالجيران مطلوب، ورؤية القاصر من تمام لذة الكامل، ولكل
شرب.
ومن تأمل ما أشرت إليه، كفاه رمز لفظي عن تطويل الشرح.
فصل من دروس النشأة
لما تلمحت تدبير الصانع في سوق رزقي. بتسخير السحاب. وإنزال المطر برفق،
والبذر دفين تحت الأرض، كالموتى، قد عفن ينتظر نفخة من صور الحياة فإذا
أصابته اهتز خضراً.
وإذا انقطع عنه الماء، مد يد الطلب يستعطي، وأمال رأسه خاضعاً، ولبس حلل
التغير، فهو محتاج إلى ما أنا محتاج إليه من حرارة الشمس، وبرودة الماء،
ولطف النسيم، وتربية الأرض فسبحان من أراني - فيما يربيني به - كيف تربيتي
في الأصل.
فيا أيتها النفس التي قد اطلعت على بعض حكمه، قبيح بك - والله - الإقبال
على غيره.
ثم العجب كيف تقبلين على فقير مثلك، ينادي لسان حاله بي مثل ما بك، يا
حمام !.
فارجعي إلى الأصل الأول، واطلبي من المسبب.
ويا طوبى لك أن عرفتيه، فإن عرفانه ملك الدنيا والآخرة.
فصل الخلوة وحلاوة المناجاة
كنت في بداية الصبوة، قد ألهمت سلوك طريق الزهاد، بإدامة الصوم والصلاة.
وحببت إلي الخلوة. فكنت أجد قلباً طيباً. وكانت عين بصيرتي قوية الحدة
تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات.. ولي
نوع أنس، وحلاوة مناجاة !!.
فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي، فأمالني إليه،
فمال الطبع، ففقدت تلك الحلاوة.
ثم استمالني آخر فكنت أتقي مخالطته ومطاعمه، لخوف الشبهات. وكانت حالتي
قريبة.
ثم جاء التأويل فانبسطت فيما يباح، فانعدم ما كنت أجد من استنارة وسكينة.
وصارت المخالطة توجب ظلمة في القلب إلى أن عدم النور كله.
فكان حنيني إلى ما ضاع مني يوجب انزعاج أهل المجلس، فيتوبون ويصلحون،
وأخرج مفلساً فيما بيني وبين حالي.
وكثر ضجيجي من مرضي، وعجزت عن طب نفسي، فلجأت إلى قبور الصالحين، وتوسلت
في صلاحي، فاجتذبني لطف مولاي إلى الخلوة على كراهة مني، ورد قلبي علي بعد
نفور عني، وأراني عيب ما كنت أوثره.
فأفقت من مرض غفلتي ! وقلت في مناجاة خلوتي: سيدي كيف أقدر على شكرك ؟
وبأي لسان أنطق بمدحك ؟ إذ لم تؤاخذني على غفلتي، ونبهتني من رقدتي وأصلحت
حالي على كره من طبعي.
فما أربحني فيما سلب مني إذا كانت ثمرته اللجأ إليك !.
وما أوفر جمعي إذ ثمرته إقبالي على الخلوة بك.
وما أغناني إذ أفقرتني إليك، وما آنسني إذ أوحشتني من خلقك.
آه على زمان ضاع في غير خدمتك ! أسفاً لوقت مضى في غير طاعتك.
قد كنت إذا انتبهت وقت الفجر لا يؤلمني نومي طول الليل.
وإذا انسلخ عني النهار لا يوجعني ضياع ذلك اليوم.
وما علمت أن عدم الإحساس لقوة المرض.
فالآن قد هبت نسائم العافية، فأحسست بالألم فاستدللت على الصحة.
فيا عظيم الإنعام تممم لي العافية.
آه من سكر لم يعلم قدر عربدته إلا في وقت الإفاقة.
لقد فتقت ما يصعب رتقه، فواأسفاً على بضاعة ضاعت، وعلى ملاح تعب في موج
الشمال مصاعداً مدة، ثم غلبه النوم فرد إلى مكانه الأول.
يا من يقرأ تحذيري من التخليط فإني - وإن كنت نفسي بالفعل، نصيح لإخواني
بالقول - احذروا - إخواني من الترخص فيما لا يؤمن فساده.
فإن الشيطان يزين المباح، في أول مرتبة. ثم يجر إلي الجناح فتلمحوا المآل،
وافهموا الحال.
وربما أراكم الغاية الصالحة، وكان في الطريق إليها نوع مخالفة، فيكفي
الاعتبار في تلك الحال، بأبيكم: " هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ
الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى " ؟.
إنما تأمل آدم الغاية وهي الخلد، ولكنه غلط في الطريق، وهذا أعجب مصايد
إبليس التي يصيد بها العلماء.
يتأولون لعواقب المصالح، فيستعجلون ضرر المفاسد.
مثاله أن يقول للعالم أدخل على هذا الظالم فاشفع في مظلوم، فيستعجل الداخل
رؤية المنكرات، ويتزلزل دينه.
وربما وقع في شرك صار به أظلم من ذلك الظالم.
فمن لم يتق بدينه فليحذر من المصائد، فإنها خفية.
وأسلم ما للجبان العزلة، خصوصاً في زمان قد مات فيه المعروف،
وعاش المنكر، ولم يبق لأهل العلم وقع عند الولاة.
فمن داخلهم دخل معهم فيما لا يجوز، ولم يقدر على جذبهم مما هم فيه.
ثم من تأمل حال العلماء الذين يعملون لهم في الولايات يراهم منسلخين من
نفع العلم قد صاروا كالشرطة.
فليس إلا العزلة عن الخلق. والإعراض عن كل تأويل فاسد في المخالطة. ولأن
أنفع نفسي وحدي: خير لي من أن أنفع غيري وأتضرر.
فالحذر الحذر من خوادع التأويلات، وفواسد الفتاوي، والصبر الصبر على ما
توجبه العزلة.
فإنه إن انفردت بمولاك فتح لك باب معرفته. فهان كل صعب، وطاب كل مر، وتيسر
كل عسر، وحصلت كل مطلوب.
والله الموفق بفضله، ولا حول ولا قوة إلا به.
من نزلت به بلية، فأراد تمحيقها، فليتصورها أكثر مما هي تهن.
وليتخيل ثوابها وليتوهم نزول أعظم منها، ير الربح في الاقتصار عليها.
وليتلمح سرعة زوالها، فإنه لولا كرب الشدة، ما رجيت ساعات الراحة.
وليعلم أن مدة مقامها عنده، كمدة مقام الضيف يتفقد حوائجه في كل لحظة، فيا
سرعة انقضاء مقامه، ويا لذة مدائحه وبشره في المحافل، ووصف المضيف بالكرم.
فكذلك المؤمن في الشدة، ينبغي أن يراعي الساعات، ويتفقد فيها أحوال النفس،
ويتلمح الجوارح، مخافة أن يبدو من اللسان كلمة، أو من القلب تسخط، فكأن قد
لاح فجر الأجر، فانجاب ليل البلاء، ومدح الساري بقطع الدجى، فما طلعت شمس
الجزاء، إلا وقد وصل إلى منزل السلامة.
لما رأيت نفسي في العلم حسناً، فهي تقدمه على كل شيء وتعتقد الدليل، وتفضل
ساعة التشاغل به على ساعات النوافل، وتقول: أقوى دليل لي على فضله على
النوافل. أني رأيت كثيراً ممن شغلتهم نوافل الصلاة والصوم عن نوافل العلم،
قد عاد ذلك عليهم بالقدح في الأصول، فرأيتها في هذا الاتجاه على الجادة
السليمة والرأي الصحيح.
إلا أني رأيتها واقفة مع صورة التشاغل بالعلم، فصحت بها فما الذي أفادك
العلم ؟. أين الخوف؟ أين القلق ؟ أين الحذر ؟.
أما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم ؟.
أما كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الكل، ثم إنه قام حتى ورمت قدماه ؟.
أما كان أبو بكر رضي الله عنه شجي النشيج، كثير البكاء ؟.
أما كان في خد عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع ؟.
أما كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة ؟.
أما كان علي رضي الله عنه يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع ؟.
ويقول: يا دنيا غري غيري ؟.
أما كان الحسن البصري يحيا على قوة القلق ؟.
أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة
؟.
أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر ؟.
أما قالت ابنة الربيع بن خيثم له ؟: ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام
؟. فقال: إن أباك يخاف عذاب البيات.
أما كان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطاً في المسجد يؤدب به نفسه إذا فتر ؟.
أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة ؟ وكان يقول: والفاه سبقني العابدون،
وقطع بي.
أما صام منصور بن المعتمر أربعين سنة ؟.
أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف ؟.
أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف ؟ أما تعلمين أخيار الأئمة
الأربعة في زهدهم وتعبدهم، أو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
احذري من الإخلاد إلى صورة العلم، مع ترك العمل به، فإنها حالة الكسالى
الزمنى:
وخذ لك منك على مهلة ... ومقبل عيشك لم يدبر
وخف هجمة لا تقيل العثا ... ر وتطوي الورود على المصدر
ومثّل لنفسك أي الرعي ... ل يضمك في حلبة المحشر
فصل زهاد جهلة
مما يزيد العلم عندي فضلاً، أن قوماً تشاغلوا بالتعبد عن العلم، فوقفوا عن
الوصول إلى حقائق الطلب.
فروي عن بعض القدماء أنه قال لرجل: يا أبا الوليد، إن كنت أبا الوليد،
يتورع أن يكنيه ولا ولد له !!.
ولو أوغل هذا في العلم لعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: كنى صهيباً أبا
يحيى، وكنى طفلاً فقال: يا أبا عمير، ما فعل النغير ؟.
وقال بعض المتزهدين: قيل لي يوماً: كل من هذا اللبن. فقلت: هذا يضرني، ثم
وقفت بعد مدة عند الكعبة فقلت: اللهم إنك تعلم أني ما أشركت بك طرفة عين،
فهتف بي هاتف، ولا يوم اللبن؟.
وهذا لو صح جاز أن يكون تأديباً له، لئلا يقف مع الأسباب ناسياً للمسبب
وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: " ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتى
الآن قطعت أبهري. وقال: ما نفعني مال كمال أبي بكر " .
ومن المتزهدين أقوام يرون التوكل قطع الأسباب كلها، وهذا جهل بالعلم. فإن
النبي صلى الله عليه وسلم: دخل الغار، وشاور الطبيب، ولبس الدرع، وحفر
الخندق، ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي وكان كافراً، وقال لسعد: لأن تدع
ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.
فالوقوف مع الأسباب مع نسيان المسبب غلط، والعمل على الأسباب مع تعلق
القلب بالمسبب هو المشروع.
وكل هذه الظلمات إنما تقطع بمصباح العلم.
ولقد ضل من مشى في ظلمة الجهل أو في زقاق الهوى.
ما أزال أتعجب ممن يرى تفضيل الملائكة على الأنبياء والأولياء، فإن كان
التفضيل بالصور، فصورة الآدمي أعجب من ذوي أجنحة.
وإن تركت صورة الآدمي لأجل أوساخها المنوطة بها، فالصورة ليست الآدمي،
إنما هي قالب. ثم قد استحسن منها ما يستقبح في العادة، مثل خلوف فم
الصائم، ودم الشهداء، والنوم في الصلاة، فبقيت صورة معمورة، وصار الحكم
للمعنى.
ألهم مرتبة يحبهم، أو فضيلة يباهي بهم. وكيف دار الأمر فقد سجدوا لنا. وهو
صريح في تفضيلنا عليهم، فإن كانت الفضيلة بالعلم فقد علمت القصة، يوم "
لاَ عِلْمَ لَنَا " ، " يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ " .
وإن فضلت الملائكة بجوهرية ذواتهم فجوهرية أرواحنا من ذلك الجنس، وعلينا
أثقال أعباء الجسم.
بالله لولا احتياج الراكب إلى الناقة فهو يتوقف لطلب علفها، ويرفق في
السير بها لطرق أرض مني قبل العشر.
واعجبا أتفضل الملائكة بكثرة التعبد ! فما ثم صاد.
أو يتعجب من الماء إذا جرى، أو من منحدر يسرع، إنما العجب من مصاعد يشق
الطريق ويغالب العقبات ؟.
بلى قد يتصور منهم الخلاف، ودعوى الإلهية. لقدرتهم على دك الصخور، وشق
الأرض لذلك توعدوا: " وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ
فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ " لكنهم يعلمون عقوبة الحق فيحذرونه.
فأما بعدنا عن المعرفة الحقيقية وضعف يقيننا بالناهي، وغلبة شهوتنا مع
الغفلة. يحتاج إلى جهاد أعظم من جهادهم.
تالله لو ابتلى أحد المقربين بما ابتلينا به، ما قدر على التماسك.
يصبح أحدنا وخطاب الشرع يقول له: الكسب لعائلتك، واحذر في كسبك. وقد تمكن
منه ما ليس من فعله، كحب الأهل، وعلوق الولد بنياط القلب، واحتياج بدنه
إلى ما لا بد منه.
فتارة يقال للخليل عليه السلام: اذبح ولدك بيدك، واقطع ثمرة فؤادك بكفك،
ثم قم إلى المنجنيق لترمى في النار.
وتارة يقال لموسى عليه السلام: صم شهراً، ليلاً ونهاراً.
ثم يقال للغضبان: اكظم، وللبصير أغضض، ولذي المقول اصمت، ولمستلذ
النوم تهجد، ولمن مات حبيبه اصبر، ولمن أصيب في بدنه أشكر، وللواقف في
الجهاد بين الغمرات: لا يحل أن تفر. ثم اعلم أن الموت يأتي بأصعب المرارات
فينزع الروح عن البدن، فإذا نزل فاثبت. واعلم أنك ممزق في القبر فلا تتسخط
لأنه مما يجري به القدر. وإن وقع بك مرض فلا تشك إلى الخلق.
فهل للملائكة من هذه الأشياء شيء ؟ وهل ثم إلا عبادة ساذجة ليس فيها
مقاومة طبع، ولا رد هوى ؟. وهل هي إلا عبادة صورية بين ركوع وسجود وتسبيح
؟ فأين عبادتهم المعنوية من عبادتنا ؟ ثم أكثرهم في خدمتنا بين كتبة
علينا، ودافعين عنا، ومسخرين لإرسال الريح والمطر، وأكبر وظائفهم
الاستغفار لنا. فكيف يفضلون علينا بلا علة ظاهرة.
وإذا ما حكت على محك التجارب طائفة منهم مثل ما روي عن هاروت، وماروت،
خرجوا أقبح من بهرج.
ولا تظنن أني أعتقد في تعبد الملائكة نوع تقصير، لأنهم شديدو الإشفاق
والخوف، لعلمهم بعظمة الخالق. لكن طمأنينة من لم يخطىء تقوي نفسه. وانزعاج
الغائص في الزلل يرقى روحه إلى التراقي ؟.
فاعرفوا إخواني شرف أقداركم، وصونوا جواهركم عن تدنيسها بلوم الذنوب فأنتم
معرض الفضل على الملائكة، فاحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض البهائم، ولا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فصل السلامة في كتاب الله
رأيت كثيراً من الخلق وعالماً من العلماء، لا ينتهون عن البحث عن أصول
الأشياء التي أمر بعلم جلها من غير بحث عن حقائقها، كالروح مثلاً، فإن
الله تعالى سترها بقوله: " قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي " فلم
يقنعوا، وأخذوا يبحثون عن ماهيتها ولا يقعون بشيء، ولا يثبت لأحد منهم
برهان على ما يدعيه، وكذلك العقل، فإنه موجود بلا شك، كما أن الروح موجودة
بلا شك، كلاهما يعرف بآثاره لا بحقيقة ذاته.
فإن قال قائل: فما السر في كتم هذه الأشياء ؟ قلت: لأن النفس ما تزال
تترقى من حالة إلى حالة فلو اطلعت على هذه الأشياء لترقت إلى خالقها، فكان
ستر ما دونه زيادة في تعظيمه؛ لأنه إذا كان بعض مخلوقاته لا يعلم كنهه،
فهو أجل وأعلى.
ولو قال قائل: ما الصواعق ؟ وما البرق ؟ وما الزلازل ؟.
قلنا: شيء مزعج، ويكفي.
والسر في ستر هذا أنه لو كشفت حقائقه خف مقدار تعظيمه.
ومن تلمح هذا الفصل علم أنه فصل عزيز، فإذا ثبت هذا في المخلوقات فالخالق
أجل وأعلى.
فينبغي أن يوقف في إثباته على دليل وجوده، ثم يستدل على جواز بعثه رسله،
ثم تتلقى أوصافه من كتبه ورسله، ولا يزاد على ذلك.
ولقد بحث خلق كثير عن صفاته بآرائهم فعاد وبال ذلك عليهم.
وإذا قلنا: إنه موجود، وعلمنا من كلامه أنه سميع، بصير، حي، قادر. كفانا
هذا في صفاته، ولا نخوض في شيء آخر.
وكذلك نقول: متكلم والقرآن كلامه، ولا نتكلف ما فوق ذلك.
ولم يقل السلف: تلاوة ومتلو، وقراءة ومقروء، ولا قالوا: استوى على العرش
بذاته، ولا قالوا: ينزل بذاته، بل أطلقوا ما ورد من غير زيادة.
ونقول: لما لم يثبت بالدليل ما لا يجوز عليه.
وهذه كلمات كالمثال، فقس عليها جميع الصفات، تفز سليماً من تعطيل، متخلصاً
من تشبيه.
رأيت أكثر الخلق في وجودهم كالمعدومين، فمنهم من لا يعرف الخالق، ومنهم من
يثبته على مقتضى حسه، ومنهم من لا يفهم المقصود من التكليف.
وترى المترسمين بالزهد يدأبون في القيام والقعود، ويتركون الشهوات، وينسون
ما قد أنسوا به من شهوة الشهرة، وتقبيل الأيادي.
ولو كلم أحدهم لقال: ألمثلي يقال هذا ؟ ومن فلان الفاسق ؟.
فهؤلاء لا يفهمون المقصود، وكذلك كثير من العلماء في احتقارهم غيرهم،
والتكبر في نفوسهم.
فتعجبت كيف يصلح هؤلاء لمجاورة الحق، وسكنى الجنة ؟!.
فرأيت أن الفائدة في وجودهم في الدنيا، تجانس الفائدة في دخولهم الجنة،
فإنهم في الدنيا بين معتبر به، يعرف عارف الله سبحانه نعمة الله عليه، بما
كشف له مما غطى عن ذاك، ويتم النظام بالاقتداء تصور أولئك.
فإن العارف لا يتسع وقته لمخالطة من يقف مع الصورة، الزاهد كراعي البهم،
والعالم كمؤدب الصبيان، والعارف كملقن الحكمة.
ولولا نفاط الملك وحارسه. ووقاد أتونه. ما تم عيشه.
فمن تمام عيش العارف استعمال أولئك بحسبهم، فإذا وصلوا إليه حرر
مانعهم، وفيهم من لا يصل إليه، فيكون وجود أولئك كزيادة - لا - في الكلام.
هي حشو، وهي موكدة.
فإن قال قائل: فهب هذا يصح في الدنيا. فكيف في الجنة ؟.
والجواب: أن الأنس بالجيران مطلوب، ورؤية القاصر من تمام لذة الكامل، ولكل
شرب.
ومن تأمل ما أشرت إليه، كفاه رمز لفظي عن تطويل الشرح.
فصل من دروس النشأة
لما تلمحت تدبير الصانع في سوق رزقي. بتسخير السحاب. وإنزال المطر برفق،
والبذر دفين تحت الأرض، كالموتى، قد عفن ينتظر نفخة من صور الحياة فإذا
أصابته اهتز خضراً.
وإذا انقطع عنه الماء، مد يد الطلب يستعطي، وأمال رأسه خاضعاً، ولبس حلل
التغير، فهو محتاج إلى ما أنا محتاج إليه من حرارة الشمس، وبرودة الماء،
ولطف النسيم، وتربية الأرض فسبحان من أراني - فيما يربيني به - كيف تربيتي
في الأصل.
فيا أيتها النفس التي قد اطلعت على بعض حكمه، قبيح بك - والله - الإقبال
على غيره.
ثم العجب كيف تقبلين على فقير مثلك، ينادي لسان حاله بي مثل ما بك، يا
حمام !.
فارجعي إلى الأصل الأول، واطلبي من المسبب.
ويا طوبى لك أن عرفتيه، فإن عرفانه ملك الدنيا والآخرة.
كنت في بداية الصبوة، قد ألهمت سلوك طريق الزهاد، بإدامة الصوم والصلاة.
وحببت إلي الخلوة. فكنت أجد قلباً طيباً. وكانت عين بصيرتي قوية الحدة
تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات.. ولي
نوع أنس، وحلاوة مناجاة !!.
فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي، فأمالني إليه،
فمال الطبع، ففقدت تلك الحلاوة.
ثم استمالني آخر فكنت أتقي مخالطته ومطاعمه، لخوف الشبهات. وكانت حالتي
قريبة.
ثم جاء التأويل فانبسطت فيما يباح، فانعدم ما كنت أجد من استنارة وسكينة.
وصارت المخالطة توجب ظلمة في القلب إلى أن عدم النور كله.
فكان حنيني إلى ما ضاع مني يوجب انزعاج أهل المجلس، فيتوبون ويصلحون،
وأخرج مفلساً فيما بيني وبين حالي.
وكثر ضجيجي من مرضي، وعجزت عن طب نفسي، فلجأت إلى قبور الصالحين، وتوسلت
في صلاحي، فاجتذبني لطف مولاي إلى الخلوة على كراهة مني، ورد قلبي علي بعد
نفور عني، وأراني عيب ما كنت أوثره.
فأفقت من مرض غفلتي ! وقلت في مناجاة خلوتي: سيدي كيف أقدر على شكرك ؟
وبأي لسان أنطق بمدحك ؟ إذ لم تؤاخذني على غفلتي، ونبهتني من رقدتي وأصلحت
حالي على كره من طبعي.
فما أربحني فيما سلب مني إذا كانت ثمرته اللجأ إليك !.
وما أوفر جمعي إذ ثمرته إقبالي على الخلوة بك.
وما أغناني إذ أفقرتني إليك، وما آنسني إذ أوحشتني من خلقك.
آه على زمان ضاع في غير خدمتك ! أسفاً لوقت مضى في غير طاعتك.
قد كنت إذا انتبهت وقت الفجر لا يؤلمني نومي طول الليل.
وإذا انسلخ عني النهار لا يوجعني ضياع ذلك اليوم.
وما علمت أن عدم الإحساس لقوة المرض.
فالآن قد هبت نسائم العافية، فأحسست بالألم فاستدللت على الصحة.
فيا عظيم الإنعام تممم لي العافية.
آه من سكر لم يعلم قدر عربدته إلا في وقت الإفاقة.
لقد فتقت ما يصعب رتقه، فواأسفاً على بضاعة ضاعت، وعلى ملاح تعب في موج
الشمال مصاعداً مدة، ثم غلبه النوم فرد إلى مكانه الأول.
يا من يقرأ تحذيري من التخليط فإني - وإن كنت نفسي بالفعل، نصيح لإخواني
بالقول - احذروا - إخواني من الترخص فيما لا يؤمن فساده.
فإن الشيطان يزين المباح، في أول مرتبة. ثم يجر إلي الجناح فتلمحوا المآل،
وافهموا الحال.
وربما أراكم الغاية الصالحة، وكان في الطريق إليها نوع مخالفة، فيكفي
الاعتبار في تلك الحال، بأبيكم: " هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ
الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى " ؟.
إنما تأمل آدم الغاية وهي الخلد، ولكنه غلط في الطريق، وهذا أعجب مصايد
إبليس التي يصيد بها العلماء.
يتأولون لعواقب المصالح، فيستعجلون ضرر المفاسد.
مثاله أن يقول للعالم أدخل على هذا الظالم فاشفع في مظلوم، فيستعجل الداخل
رؤية المنكرات، ويتزلزل دينه.
وربما وقع في شرك صار به أظلم من ذلك الظالم.
فمن لم يتق بدينه فليحذر من المصائد، فإنها خفية.
وأسلم ما للجبان العزلة، خصوصاً في زمان قد مات فيه المعروف،
وعاش المنكر، ولم يبق لأهل العلم وقع عند الولاة.
فمن داخلهم دخل معهم فيما لا يجوز، ولم يقدر على جذبهم مما هم فيه.
ثم من تأمل حال العلماء الذين يعملون لهم في الولايات يراهم منسلخين من
نفع العلم قد صاروا كالشرطة.
فليس إلا العزلة عن الخلق. والإعراض عن كل تأويل فاسد في المخالطة. ولأن
أنفع نفسي وحدي: خير لي من أن أنفع غيري وأتضرر.
فالحذر الحذر من خوادع التأويلات، وفواسد الفتاوي، والصبر الصبر على ما
توجبه العزلة.
فإنه إن انفردت بمولاك فتح لك باب معرفته. فهان كل صعب، وطاب كل مر، وتيسر
كل عسر، وحصلت كل مطلوب.
والله الموفق بفضله، ولا حول ولا قوة إلا به.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل مدخل الفساد
تأملت على نفسي تأويلاً في مباح أنال به شيئاً من الدنيا، إلا أنه في باب
الورع كدر.
فرأيته أولاً قد احتلب در الدين فذهبت حلاوة المعاملة لله تعالى.
ثم عاد فقلص ضرع حلبي له فوقع الفقد للحالين.
فقلت لنفسي: ما مثلك إلا كمثل وال ظالم جمع مالاً من غير حله، فصودر. فأخذ
منه الذي جمع، وألزم ما لم يجمع.
فالحذر الحذر من فساد التأويل، فإن الله تعالى لا يخادع، ولا ينال ما عنده
بمعصيته.
فصل خير الأمور الوسط
رأيت نفسي كلما صفا فكرهاً، أو اتعظت بدارج، أو زارت قبور الصالحين، تتحرك
همتها في طلب العزلة والإقبال على معاملة الله تعالى.
فقلت لها يوماً، وقد كلمتني في ذلك: حدثيني ما مقصودك ؟ وما نهاية مطلوبك
؟.
أتراك تريدين مني أن أسكن قفراً لا أنيس به، فتفوتني صلاة الجماعة، ويضيع
مني ما قد علمته لفقد من أعلمه.
وأن آكل الجشب الذي لم أتعوده، فيقع نضوي طلحاً في يومين.
وأن ألبس الخشن الذي لا أطيقه، فلا أدري من كرب محمولي من أنا ؟.
وأن أتشاغل عن طلب ذرية تتعبد بعدي مع بقاء القدرة على الطلب.
بالله ما نفعني العلم الذي بذلت فيه عمري إن وافقتك، وأنا أعرفك غلط ما
وقع لك بالعلم.
اعلمي أن البدن مطية، والمطية إذا لم يرفق بها لم تصل براكبها إلى المنزل.
وليس مرادي بالرفق الإكثار من الشهوات، وإنما أعني أخذ البلغة الصالحة
للبدن، فحينئذ يصفو الفكر، ويصح العقل، ويقوي الذهن.
ألا ترين إلى تأثير المعوقات عن صفاء الذهن في قوله عليه الصلاة والسلام:
لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان، وقاس العلماء على ذلك الجوع وما يجري
مجراه من كونه حاقناً، أو حاقباً.
وهل الطبع إلا ككلب يشغله الأكل ؟، فإذا رمي له ما يتشاغل به طاب له الأكل.
فأما الانفراد والعزلة فعن الشر لا عن الخير.
ولو كان فيها لك وقع خير لنقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن
أصحابه رضي الله عنهم.
هيهات لقد عرفت أن أقواماً دام بهم التقلل واليبس إلى أن تغير فكرهم، وقوي
الخلط السوداوي عليهم، فاستوحشوا من الناس، ومنهم من اجتمعت له من المآكل
الردية أخلاط مجة، فبقي اليوم واليومين والثلاثة لا يأكل وهو يظن ذلك من
أمداد اللطف، وإذا به من سوء الهضم.
وفيهم من ترقى به الخلط إلى رؤية الأشباح فيظنها الملائكة.
فالله الله في العلم، والله الله في العقل، فإن نور العقل لا ينبغي أن
يتعرض لإطفائه، والعلم لا يجوز الميل إلى تنقيصه.
فإذا حفظا حفظاً وظائف الزمان، ودفعا ما يؤذي، وجلبا ما يصلح، وصارت
القوانين مستقيمة في المطعم والمشرب والمخالطة.
فقالت لي النفس: فوظف لي وظيفة واحسبني مريضاً قد كتبت له شربة.
فقلت لها: قد دللتك على العلم وهو طبيب ملازم. يصف كل لحظة لكل داء يعرض
دواء يلائم.
وفي الجملة ينبغي لك ملازمة تقوى الله عز وجل في المنطق والنظر، وجميع
الجوارح، وتحقق الحلال في المطعم، وإيداع كل لحظة ما يصلح لها من الخير،
ومناهبة الزمان في الأفضل، ومجانبة ما يؤدي إلى من نقص ربح أو وقوع خسران.
ولا تعملي عملاً إلا بعد تقديم النية.
وتأهبي لمزعج الموت فكأن قد، وما عندك من مجيئه في أي وقت يكون.
ولا تتعرضي لمصالح البدن، بل وفريها عليه وناوليه إياها على قانون الصواب،
لا على مقضى الهوى، فإن إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين.
ودعي الرعونة التي يدل عليها الجهل لا العلم، من قول النفس فلان
يأكل الخل والبقل، وفلان لا ينام الليل، فاحملي ما تطيقين، وما قد علمت
قوة البدن عليه.
فإن البهيمة إذا أقبلت إلى نهر أو ساقية فضربت لتقفز لم تفعل حتى تزن
نفسها، فإن علمت فيها قوة الطفر طفرت وإن علمت أنها لا تطيق لم تفعل ولو
قتلت.
وليس كل الأبدان تتساوى في الإطاقة، ولقد حمل أقوام من المجاهدات في
بداياتهم أشياء أوجبت أمراضاً قطعتهم عن خير، وتسخطت قلوبهم بوقوعها،
فعليك بالعلم. فإنه شفاء من كل داء، والله الموفق.
فصل سلفيون جهال
عجبت من أقوام يدعون العلم، ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على
ظواهرها، فلو أنهم أمروها كما جاءت سلموا، لأن من أمر ما جاء ومر من غير
اعتراض ولا تعرض فما قال شيئاً لا له ولا عليه.
ولكن أقواماً قصرت علومهم، فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهره نوع تعطيل،
ولو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا.
وما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكاتبه وقد مدحته الخنساء فقالت:
إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة شفاها
فلما أتمت القصيدة، قال: لكاتبه إقطع لسانها، فجاء ذاك الكاتب المغفل
بالموسى.
فقالت له: ويلك إنما قال أجزل لها العطاء.
ثم ذهبت إلى الحجاج فقالت: كاد والله يقطع مقولي.
فكذلك الظاهرية الذين لم يسلموا بالتسليم، فإنه من قرأ الآيات والأحاديث
ولم يزد، لم ألمه، وهذه طريقة السلف.
فأما من قال: الحديث يقتضي كذا، ويحمل على كذا، مثل أن يقول: استولى على
العرش بذاته، وينزل إلى السماء الدنيا بذاته فهذه زيادة فهمها قائلها من
الحس لا من النقل.
ولقد عجبت لرجل أندلسي يقال له ابن عبد البر، صنف كتاب التمهيد، فذكر فيه
حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال: هذا يدل على أن الله تعالى على
العرش. لأنه لولا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى.
وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من
نزول الأجسام. فقاس صفة الحق عليه.
فأين هؤلاء وأتباع الأثر ؟.
ولقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون، ثم عابوا المتكلمين.
واعلم أيها الطالب للرشاد، أنه سبق إلينا من العقل والنقل أصلان راسخان.
عليهما مر الأحاديث كلها.
أما النقل فقوله سبحانه وتعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " . ومن فهم
هذا لم يحمل وصفاً له على ما يوجبه الحس.
وأما العقل فإنه قد علم مباينة الصانع للمصنوعات، واستدل على حدوثها
بتغيرها، ودخول الانفعال عليها، فثبت له قدم الصانع.
وا عجباً كل العجب من راد لم يفهم طبيعة الكلام ؟.
أوليس في الحديث الصحيح أن الموت يذبح بين الجنة والنار.
أوليس العقل إذا استغنى في هذا صرف الأمر عن حقيقته. لما ثبت عند من يفهم
ماهية الموت؟.
فقال: الموت عرض يوجب بطلان الحياة. فكيف يمات الموت ؟.
فإذا قيل له فما تصنع بالحديث ؟.
قال: هذا ضرب مثل بإقامة صورة ليعلم بتلك الصورة الحسية فوات ذلك المعنى.
قلنا له: فقد روي في الصحيح: تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان.
فقال الكلام لا يكون غمامة، ولا يتشبه بها.
قلنا له أفتعطل النقل، قال: لا، ولكن أقول يأتي ثوابهما.
قلنا: فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق.
فقال: علمي بأن الكلام لا يتشبه بالأجسام، والموت لا يذبح ذبح الأنعام،
ولقد علمتم سعة لغة العرب. ما ضاقت أعطانكم من سماع مثل هذا.
فقال العلماء صدقت: هكذا نقول في تفسير مجيء البقرة، وفي ذبح الموت.
فقال: واعجبا لكم، صرفتم عن الموت والكلام ما لا يليق بهما، حفظاً لما
علمتم من حقائقهما فكيف لم تصرفوا عن الإله القديم ما يوجب التشبيه له
بخلقه، بما قد دل الدليل على تنزيهه عنه؟.
فما زال يجادل الخصوم بهذه الأدلة. ويقول: لا أقطع حتى أقطع، فما قطع حتى
قطع.
فصل حول دليل الرجم
تفكرت في السر الذي أوجب حذف آية الرجم من القرآن لفظاً. مع ثبوت حكمها
إجماعاً، فوجدت لذلك معنيين.
أحدهما: لطف الله تعالى بعباده في أنه لا يواجههم بأعظم المشاق.
بل ذكر الجلد، وستر الجرم، ومن هذا المعنى قال بعض العلماء: إن الله تعالى
قال في المكروهات " كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ " ، على لفظ لم يسم
فاعله، وإن كان قد علم أن هو الكاتب.
فلما جاء إلى ما يوجب الراحة قال: " :كَتَبَ رَبُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ " .
والوجه الثاني: أنه يبين بذلك فضل الأمة في بذلها النفوس قنوعاً ببعض
الأدلة.
فإن الاتفاق لما وقع على ذلك الحكم كان دليلاً. إلا أنه ليس كالدليل
المقطوع بنصه.
ومن هذا الجنس شروع الخليل عليه الصلاة والسلام، في ذبح ولده بمنام، وإن
كان الوحي في اليقظة آكد.
فصل قوانين الأسباب والمسببات
عرضت لي حالة لجأت فيها بقلبي إلى الله تعالى وحده، عالماً بأنه لا يقدر
على جلب نفعي ودفع ضري سواه.
ثم قمت أتعرض بالأسباب، فأنكر على يقيني، وقال: هذا قدح في التوكل.
فقلت: ليس كذلك، فإن الله تعالى وضعها من الحكم.
وكان معنى حالي أن ما وضعت لا يفيد وإن وجوده كالعدم.
وما زالت الأسباب في الشرع كقوله تعالى: " وَإذَا كُنْتَ فِيِهمْ
فَأَقَمْتَ لَهْمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ " .
وقال تعالى: " فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلهِ " .
وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين، وشاور طبيبين، ولما خرج إلى
الطائف لم يقدر على دخول مكة، حتى بعث إلى المطعم بن عدي فقال: أدخل في
جوارك.
وقد كان يمكنه أن يدخل متوكلاً بلا سبب.
فإذا جعل الشرع الأمور منوطة بالأسباب، كان إعراضي عن الأسباب دفعاً
للحكمة.
ولهذا أرى أن التداوي مندوب إليه، وقد ذهب صاحب مذهبي إلى أن ترك التداوي
أفضل، ومنعني الدليل من اتباعه في هذا فإن الحديث الصحيح أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء فتداووا.
ومرتبة هذه اللفظة الأمر، والأمر إما أن يكون واجباً، أو ندباً.
ولم يسبقه حظر، فيقال: هو أمر إباحة.
وكانت عائشة رضي الله عنه تقول: تعلمت الطب من كثرة أمراض رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وما ينعت له.
وقال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كل من هذا فإنه
أوفق لك من هذا.
ومن ذهب إلى أن تركه أفضل احتج بقوله عليه الصلاة والسلام: يدخل الجنة
سبعون ألفاً بلا حساب. ثم وصفهم فقال: لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا
يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.
وهذا لا ينافي التداوي، لأنه قد كان أقوام يكتوون لئلا يمرضوا ويسترقون
لئلا تصيبهم نكبة، وقد كوى عليه الصلاة والسلام سعد بن زرارة، ورخص في
الرقية في الحديث الصحيح. فعلمنا أن المراد ما أشرنا إليه.
وإذا عرفت الحاجة إلى إسهال الطبع، رأيت أن أكل البلوط مما يمنع عنه علمي،
وشرب ماء التمر عندي أوفق، وهذا طب.
فإذا لم أشرب ما يوافقني، ثم قلت اللهم عافني، قالت لي الحكمة: أما سمعت
أعقلها وتوكل ؟ إشرب وقل عافني، ولا تكن كمن بين زرعه وبين النهر كف من
تراب، تكاسل أن يرفعه بيده، ثم قام يصلي صلاة الاستسقاء.
وما هذه الحالة إلا كحال من سافر على التجريد، وإنما سافر على التجريد
لأنه يجرب بربه عز وجل هل يرزقه أو لا، وقد تقدم الأمر إليه: "
وَتَزَوَّدُوا " فقال: لا أتزود، فهذا هالك قبل أن يهلكه.
ولو جاء وقت صلاة وليس معه ماء، ليم على تفريطه، وقيل له: هلا استصحبت
الماء قبل المفازة.
فالحذر الحذر من أفعال أقوام فمرقوا عن الأوضاع الدينية، وظنوا أن كمال
الدين بالخروج عن الطباع، والمخالفة للأوضاع.
ولولا قوة العلم والرسوخ فيه، لما قدرت على شرح هذا ولا عرفته، فافهم ما
أشرت إليه، فهو أنفع لك من كراريس تسمعها، وكن مع أهل المعاني لا مع أهل
الحشو.
فصل النظافة والجمال
تلمحت على خلق كثير من الناس إهمال أبدانهم، فمنهم من لا ينظف فمه بالخلال
بعد الأكل.
ومنهم من لا ينقي يديه في غسلها من الزهم، ومنهم من لا يكاد يستاك، وفيهم
من لا يكتحل، وفيهم من لا يراعي الإبط إلى غير ذلك، فيعود هذا الإهمال
بالخلل في الدين والدنيا.
أما الدين إنه قد أمر المؤمن بالتنظف والاغتسال للجمعة لأجل
اجتماعه بالناس، ونهى عن دخول المسجد إذا أكل الثوم، وأمر الشرع بتنقية
البراجم، وقص الأظفار، والسواك، والاستحداد. وغير ذلك من الآداب.
فإذا أهمل ذلك ترك مسنون الشرع، وربما تعدى بعض ذلك إلى فساد العبادة، مثل
أن يهمل أظفاره فيجمع تحته الوسخ المانع للماء في الوضوء أن يصل.
وأما الدنيا فإني رأيت جماعة من المهملين أنفسهم، يتقدمون إلى السرار.
والغفلة التي أوجبت إهمالهم أنفسهم، أوجبت جهلهم بالأذى الحادث عنهم.
فإذ أخذوا في مناجاة السر، لم يمكن أن أصدف عنهم، لأنهم يقصدون السر،
فألقى الشدائد من ريح أفواههم.
ولعل أكثرهم من وقت انتباههم ما أمر أصبعه على أسنانه.
ثم يوجب مثل هذا نفور المرأة، وقد لا تستحسن ذكر ذلك للرجل، فيثمر ذلك
التفاتها عنه.
وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إني لأحب أن أتزين للمرأة، كما أحب
أن تتزين لي.
وفي الناس من يقول: هذا تصنع.
وليس بشيء، فإن الله تعالى: " زيَّنَنَا لَمّا خَلَقَنَا " . لأن العين
حظاً في النظر.
ومن تأمل أهداب العين والحاجبين. وحسن ترتيب الخلقة، علم أن الله زين
الآدمي.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أنظف الناس وأطيب الناس، وفي الحديث عنه
صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى تبين عفرة إبطيه، وكان ساقه ربما انكشفت
فكأنها جمارة.
وكان لا يفارقه السواك، وكان يكره أن يشم منه ريح ليست طيبة.
وفي حديث أنس الصحيح: ما شانه الله بيضاء.
وقد قالت الحكماء: من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله.
وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: ما لكم تدخلون علي قلحاً، استاكوا.
وقد فضلت الصلاة بالسواك، على الصلاة بغير سواك، فالمتنظف ينعم نفسه،
ويرفع منها قدرها.
وقد قال الحكماء: من طال ظفره قصرت يده، ثم إنه يقرب من قلوب الخلق وتحبه
النفوس، لنظافته وطيبه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الطيب.
ثم إنه يؤنس الزوجة بتلك الحال. فإن النساء شقائق الرجال، فكما أنه يكره
الشيء منها فكذلك هي تكرهه، وربما صبر هو على ما يكره وهي لا تصبر.
وقد رأيت جماعة يزعمون أنهم زهاد وهم من أقذر الناس، وذلك أنهم ما قومهم
العلم.
وأما ما يحكى عن داود الطائي: أنه قيل له لو سرحت لحيتك، فقال: إني عنها
مشغول، فهذا معتذر عن العمل بالسنة، والإخبار عن غيبته عن نفسه بشدة خوفه
من الآخرة، ولو كان مفيقاً لذلك لم يتركه، فلا يحتج بحال المغلوبين.
ومن تأمل خصائص الرسول الله صلى الله عليه وسلم رأى كاملاً في العلم
والعمل، فيه يكون الاقتداء وهو الحجة على الخلق.
فصل اخشوشنوا
تأملت مبالغة أرباب الدنيا في اتقاء الحر والبرد. فرأيتها تعكس المقصود في
باب الحكمة. وإنما تحصل مجرد لذة ولا خير في لذة تعقب ألماً.
فأما في الحر فإنهم يشربون الماء المثلوج. وذلك على غاية في الضرر، وأهل
الطب يقولون: إنه يحدث أمراضاً صعبة يظهر أثرها في وقت الشيخوخة ويضعون
الخيوش المضاعفة الرقيق الشفاف وفي البرد يصنعون اللبود المانعة للبرد.
وهذا من حيث الحكمة مضاد ما وضعه الله تعالى. فإنه جعل الحر لتحلل
الأخلاط، والبرد لجمودها، فيجعلون هم جميع السنة ربيعاً، فتنعكس الحكمة
التي وضع الحر والبرد لها، ويرجع الأذى على الأبدان.
ولا يظن سامع هذا أني آمره بملاقاة الحر والبرد.
وإنما أقول له: لا يفرط في التوقي، بل يتعرض في الحر لما يحلل بعض
الأخلاط، إلى حد لا يؤثر في القوة. وفي البرد بأن يصيبك منه الأمر القريب
لا المؤذي، فإن الحر والبرد لمصالح البدن.
وقد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر والبرد أصلاً فتغيرت حالته فمات
عاجلاً، وقد ذكرت قصته في كتاب لقط المنافع في علم الطب.
فصل فلسفة الصبر والرضا
ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء، ولا فيه أفضل من الرضى به.
فأما الصبر: فهو فرض. وأما الرضا فهو فضل.
وإنما صعب الصبر لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس، وليس مكروه النفس
يقف على المرض والأذى في البدن، بل هو يتنوع حتى يتحير العقل في حكمة
جريان القدر.
فمن ذلك أنك إذا رأيت مغموراً بالدنيا قد سالت له أوديتها حتى لا يدري ما
يصنع بالمال، فهو يصوغه أواني يستعملها.
ومعلوم أن البلور والعقيق والشبه، قد يكون أحسن منها صورة، غير
أن قلة مبالاته بالشريعة جعلت عنده وجود النهي كعدمه.
ويلبس الحرير، ويظلم الناس، والدنيا منصبة عليه.
ثم يرى خلقاً من أهل الدين، وطلاب العلم، مغمورين بالفقر والبلاء، مقهورين
تحت ولاية ذلك الظالم.
فحينئذ يجد الشيطان طريقاً للوسواس ويبتدي بالقدح في حكمة القدر.
فيحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من الضر في الدنيا، وعلى جدال إبليس
في ذلك.
وكذلك في تسليط الكفار على المسلمين والفساق على أهل الدين.
وأبلغ من هذا إيلام الحيوان، وتعذيب الأطفال، ففي مثل هذه المواطن يتمحص
الإيمان.
ومما يقوي الصبر على الحالتين النقل والعقل.
أما النقل فالقرآن والسنة، أما القرآن فمنقسم إلى قسمين، أحدهما بيان سبب
إعطاء الكافر والعاصي، فمن ذلك قوله تعالى: " إِنَّمَا نُملي لهمْ
ليزْدَادُوا إثماً " . " وَلَوْلاَ أَنْ يَكونَ الناسُ أمة واحة لجَعْلنا
لمنْ يكفُرُ بالرَّحمن لبُيوتهم سقفاً مِنْ فِضَّةٍ " ، " وَإِذَا
أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيْهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا " . وفي القرآن من هذا كثير.
والقسم الثاني: ابتلاء المؤمن بما يلقى كقوله تعالى: " أَمْ حَسِبْتُمْ
أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا
مِنْكُمُ " ، " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَا
يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ
الْبَأسَاءُ وَالضَّرّ؟َاءُ وَزُلْزِلُوا " ، " أًمْ حَسِبْتُمُ أَنْ
تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ " وفي
القرآن من هذا كثير.
وأما السنة فمنقسمة إلى قول وحال. أما الحال: فإنه صلى الله عليه وسلم كان
يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه، فبكى عمر رضي الله عنه وقال: كسرى
وقيصر في الحرير والديباج، فقال له صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يا عمر
؟ ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ؟.
وأما القول فكقوله عليه الصلاة والسلام: لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح
بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء.
وأما العقل: فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود منها أن يقول: قد ثبتت عندي
الأدلة القاطعة على حكمة المقدر. فلا أترك الأصل الثابت لما يظنه الجاهل
خللاً.
ومنها أن يقول: ما قد استهولته أيها الناظر من بسط يد العاصي هي قبض في
المعنى، وما قد أثر عندك من قبض يد الطائع بسط في المعنى، لأن ذلك البسط
يوجب عقاباً طويلاً، وهذا القبض يؤثر انبساطاً في الأجر جزيلاً، فزمان
الرجلين ينقضي عن قريب. والمراحل تطوى. والركبان في السير الحثيث.
ومنها أن يقول: قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير، وأن زمن التكليف كبياض
نهار، ولا ينبغي للمستعمل في الطين إن يلبس نظيف الثياب، بل ينبغي أن
يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ تنظف ولبس أجود ثيابه. فمن ترفه وقت العمل
ندم وقت تفريق الأجرة وعوقب على التواني فيما كلف، فهذه النبذة تقوي أزر
الصبر.
وأزيدها بسطاً فأقول: أترى إذا أريد اتخاذ شهداء، فكيف لا يخلق أقوام
يبسطون أيديهم لقتل المؤمنين، أفيجوز أن يفتك بعمر إلا مثل أبي لؤلؤة ؟
وبعلي إلا مثل ابن ملجم: أفيصح أن يقتل يحيى بن زكريا إلا جبار كافر، ولو
أن عين الفهم زال عنها غشاء العشا.. لرأيت المسبب لا الأسباب، والمقدر لا
الأقدار، فصبرت على بلائه. إيثاراً لما يريد، ومن ههنا ينشأ الرضى.
كما قيل لبعض أهل البلاء: ادع الله بالعافية، فقال: أحبه إلي أحبه إلى
الله عز وجل.
إن كان رضاكم في سهري ... فسلام اللّه على وسني
تأملت على نفسي تأويلاً في مباح أنال به شيئاً من الدنيا، إلا أنه في باب
الورع كدر.
فرأيته أولاً قد احتلب در الدين فذهبت حلاوة المعاملة لله تعالى.
ثم عاد فقلص ضرع حلبي له فوقع الفقد للحالين.
فقلت لنفسي: ما مثلك إلا كمثل وال ظالم جمع مالاً من غير حله، فصودر. فأخذ
منه الذي جمع، وألزم ما لم يجمع.
فالحذر الحذر من فساد التأويل، فإن الله تعالى لا يخادع، ولا ينال ما عنده
بمعصيته.
رأيت نفسي كلما صفا فكرهاً، أو اتعظت بدارج، أو زارت قبور الصالحين، تتحرك
همتها في طلب العزلة والإقبال على معاملة الله تعالى.
فقلت لها يوماً، وقد كلمتني في ذلك: حدثيني ما مقصودك ؟ وما نهاية مطلوبك
؟.
أتراك تريدين مني أن أسكن قفراً لا أنيس به، فتفوتني صلاة الجماعة، ويضيع
مني ما قد علمته لفقد من أعلمه.
وأن آكل الجشب الذي لم أتعوده، فيقع نضوي طلحاً في يومين.
وأن ألبس الخشن الذي لا أطيقه، فلا أدري من كرب محمولي من أنا ؟.
وأن أتشاغل عن طلب ذرية تتعبد بعدي مع بقاء القدرة على الطلب.
بالله ما نفعني العلم الذي بذلت فيه عمري إن وافقتك، وأنا أعرفك غلط ما
وقع لك بالعلم.
اعلمي أن البدن مطية، والمطية إذا لم يرفق بها لم تصل براكبها إلى المنزل.
وليس مرادي بالرفق الإكثار من الشهوات، وإنما أعني أخذ البلغة الصالحة
للبدن، فحينئذ يصفو الفكر، ويصح العقل، ويقوي الذهن.
ألا ترين إلى تأثير المعوقات عن صفاء الذهن في قوله عليه الصلاة والسلام:
لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان، وقاس العلماء على ذلك الجوع وما يجري
مجراه من كونه حاقناً، أو حاقباً.
وهل الطبع إلا ككلب يشغله الأكل ؟، فإذا رمي له ما يتشاغل به طاب له الأكل.
فأما الانفراد والعزلة فعن الشر لا عن الخير.
ولو كان فيها لك وقع خير لنقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن
أصحابه رضي الله عنهم.
هيهات لقد عرفت أن أقواماً دام بهم التقلل واليبس إلى أن تغير فكرهم، وقوي
الخلط السوداوي عليهم، فاستوحشوا من الناس، ومنهم من اجتمعت له من المآكل
الردية أخلاط مجة، فبقي اليوم واليومين والثلاثة لا يأكل وهو يظن ذلك من
أمداد اللطف، وإذا به من سوء الهضم.
وفيهم من ترقى به الخلط إلى رؤية الأشباح فيظنها الملائكة.
فالله الله في العلم، والله الله في العقل، فإن نور العقل لا ينبغي أن
يتعرض لإطفائه، والعلم لا يجوز الميل إلى تنقيصه.
فإذا حفظا حفظاً وظائف الزمان، ودفعا ما يؤذي، وجلبا ما يصلح، وصارت
القوانين مستقيمة في المطعم والمشرب والمخالطة.
فقالت لي النفس: فوظف لي وظيفة واحسبني مريضاً قد كتبت له شربة.
فقلت لها: قد دللتك على العلم وهو طبيب ملازم. يصف كل لحظة لكل داء يعرض
دواء يلائم.
وفي الجملة ينبغي لك ملازمة تقوى الله عز وجل في المنطق والنظر، وجميع
الجوارح، وتحقق الحلال في المطعم، وإيداع كل لحظة ما يصلح لها من الخير،
ومناهبة الزمان في الأفضل، ومجانبة ما يؤدي إلى من نقص ربح أو وقوع خسران.
ولا تعملي عملاً إلا بعد تقديم النية.
وتأهبي لمزعج الموت فكأن قد، وما عندك من مجيئه في أي وقت يكون.
ولا تتعرضي لمصالح البدن، بل وفريها عليه وناوليه إياها على قانون الصواب،
لا على مقضى الهوى، فإن إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين.
ودعي الرعونة التي يدل عليها الجهل لا العلم، من قول النفس فلان
يأكل الخل والبقل، وفلان لا ينام الليل، فاحملي ما تطيقين، وما قد علمت
قوة البدن عليه.
فإن البهيمة إذا أقبلت إلى نهر أو ساقية فضربت لتقفز لم تفعل حتى تزن
نفسها، فإن علمت فيها قوة الطفر طفرت وإن علمت أنها لا تطيق لم تفعل ولو
قتلت.
وليس كل الأبدان تتساوى في الإطاقة، ولقد حمل أقوام من المجاهدات في
بداياتهم أشياء أوجبت أمراضاً قطعتهم عن خير، وتسخطت قلوبهم بوقوعها،
فعليك بالعلم. فإنه شفاء من كل داء، والله الموفق.
فصل سلفيون جهال
عجبت من أقوام يدعون العلم، ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على
ظواهرها، فلو أنهم أمروها كما جاءت سلموا، لأن من أمر ما جاء ومر من غير
اعتراض ولا تعرض فما قال شيئاً لا له ولا عليه.
ولكن أقواماً قصرت علومهم، فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهره نوع تعطيل،
ولو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا.
وما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكاتبه وقد مدحته الخنساء فقالت:
إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة شفاها
فلما أتمت القصيدة، قال: لكاتبه إقطع لسانها، فجاء ذاك الكاتب المغفل
بالموسى.
فقالت له: ويلك إنما قال أجزل لها العطاء.
ثم ذهبت إلى الحجاج فقالت: كاد والله يقطع مقولي.
فكذلك الظاهرية الذين لم يسلموا بالتسليم، فإنه من قرأ الآيات والأحاديث
ولم يزد، لم ألمه، وهذه طريقة السلف.
فأما من قال: الحديث يقتضي كذا، ويحمل على كذا، مثل أن يقول: استولى على
العرش بذاته، وينزل إلى السماء الدنيا بذاته فهذه زيادة فهمها قائلها من
الحس لا من النقل.
ولقد عجبت لرجل أندلسي يقال له ابن عبد البر، صنف كتاب التمهيد، فذكر فيه
حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال: هذا يدل على أن الله تعالى على
العرش. لأنه لولا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى.
وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من
نزول الأجسام. فقاس صفة الحق عليه.
فأين هؤلاء وأتباع الأثر ؟.
ولقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون، ثم عابوا المتكلمين.
واعلم أيها الطالب للرشاد، أنه سبق إلينا من العقل والنقل أصلان راسخان.
عليهما مر الأحاديث كلها.
أما النقل فقوله سبحانه وتعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " . ومن فهم
هذا لم يحمل وصفاً له على ما يوجبه الحس.
وأما العقل فإنه قد علم مباينة الصانع للمصنوعات، واستدل على حدوثها
بتغيرها، ودخول الانفعال عليها، فثبت له قدم الصانع.
وا عجباً كل العجب من راد لم يفهم طبيعة الكلام ؟.
أوليس في الحديث الصحيح أن الموت يذبح بين الجنة والنار.
أوليس العقل إذا استغنى في هذا صرف الأمر عن حقيقته. لما ثبت عند من يفهم
ماهية الموت؟.
فقال: الموت عرض يوجب بطلان الحياة. فكيف يمات الموت ؟.
فإذا قيل له فما تصنع بالحديث ؟.
قال: هذا ضرب مثل بإقامة صورة ليعلم بتلك الصورة الحسية فوات ذلك المعنى.
قلنا له: فقد روي في الصحيح: تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان.
فقال الكلام لا يكون غمامة، ولا يتشبه بها.
قلنا له أفتعطل النقل، قال: لا، ولكن أقول يأتي ثوابهما.
قلنا: فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق.
فقال: علمي بأن الكلام لا يتشبه بالأجسام، والموت لا يذبح ذبح الأنعام،
ولقد علمتم سعة لغة العرب. ما ضاقت أعطانكم من سماع مثل هذا.
فقال العلماء صدقت: هكذا نقول في تفسير مجيء البقرة، وفي ذبح الموت.
فقال: واعجبا لكم، صرفتم عن الموت والكلام ما لا يليق بهما، حفظاً لما
علمتم من حقائقهما فكيف لم تصرفوا عن الإله القديم ما يوجب التشبيه له
بخلقه، بما قد دل الدليل على تنزيهه عنه؟.
فما زال يجادل الخصوم بهذه الأدلة. ويقول: لا أقطع حتى أقطع، فما قطع حتى
قطع.
تفكرت في السر الذي أوجب حذف آية الرجم من القرآن لفظاً. مع ثبوت حكمها
إجماعاً، فوجدت لذلك معنيين.
أحدهما: لطف الله تعالى بعباده في أنه لا يواجههم بأعظم المشاق.
بل ذكر الجلد، وستر الجرم، ومن هذا المعنى قال بعض العلماء: إن الله تعالى
قال في المكروهات " كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ " ، على لفظ لم يسم
فاعله، وإن كان قد علم أن هو الكاتب.
فلما جاء إلى ما يوجب الراحة قال: " :كَتَبَ رَبُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ " .
والوجه الثاني: أنه يبين بذلك فضل الأمة في بذلها النفوس قنوعاً ببعض
الأدلة.
فإن الاتفاق لما وقع على ذلك الحكم كان دليلاً. إلا أنه ليس كالدليل
المقطوع بنصه.
ومن هذا الجنس شروع الخليل عليه الصلاة والسلام، في ذبح ولده بمنام، وإن
كان الوحي في اليقظة آكد.
فصل قوانين الأسباب والمسببات
عرضت لي حالة لجأت فيها بقلبي إلى الله تعالى وحده، عالماً بأنه لا يقدر
على جلب نفعي ودفع ضري سواه.
ثم قمت أتعرض بالأسباب، فأنكر على يقيني، وقال: هذا قدح في التوكل.
فقلت: ليس كذلك، فإن الله تعالى وضعها من الحكم.
وكان معنى حالي أن ما وضعت لا يفيد وإن وجوده كالعدم.
وما زالت الأسباب في الشرع كقوله تعالى: " وَإذَا كُنْتَ فِيِهمْ
فَأَقَمْتَ لَهْمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ " .
وقال تعالى: " فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلهِ " .
وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين، وشاور طبيبين، ولما خرج إلى
الطائف لم يقدر على دخول مكة، حتى بعث إلى المطعم بن عدي فقال: أدخل في
جوارك.
وقد كان يمكنه أن يدخل متوكلاً بلا سبب.
فإذا جعل الشرع الأمور منوطة بالأسباب، كان إعراضي عن الأسباب دفعاً
للحكمة.
ولهذا أرى أن التداوي مندوب إليه، وقد ذهب صاحب مذهبي إلى أن ترك التداوي
أفضل، ومنعني الدليل من اتباعه في هذا فإن الحديث الصحيح أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء فتداووا.
ومرتبة هذه اللفظة الأمر، والأمر إما أن يكون واجباً، أو ندباً.
ولم يسبقه حظر، فيقال: هو أمر إباحة.
وكانت عائشة رضي الله عنه تقول: تعلمت الطب من كثرة أمراض رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وما ينعت له.
وقال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كل من هذا فإنه
أوفق لك من هذا.
ومن ذهب إلى أن تركه أفضل احتج بقوله عليه الصلاة والسلام: يدخل الجنة
سبعون ألفاً بلا حساب. ثم وصفهم فقال: لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا
يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.
وهذا لا ينافي التداوي، لأنه قد كان أقوام يكتوون لئلا يمرضوا ويسترقون
لئلا تصيبهم نكبة، وقد كوى عليه الصلاة والسلام سعد بن زرارة، ورخص في
الرقية في الحديث الصحيح. فعلمنا أن المراد ما أشرنا إليه.
وإذا عرفت الحاجة إلى إسهال الطبع، رأيت أن أكل البلوط مما يمنع عنه علمي،
وشرب ماء التمر عندي أوفق، وهذا طب.
فإذا لم أشرب ما يوافقني، ثم قلت اللهم عافني، قالت لي الحكمة: أما سمعت
أعقلها وتوكل ؟ إشرب وقل عافني، ولا تكن كمن بين زرعه وبين النهر كف من
تراب، تكاسل أن يرفعه بيده، ثم قام يصلي صلاة الاستسقاء.
وما هذه الحالة إلا كحال من سافر على التجريد، وإنما سافر على التجريد
لأنه يجرب بربه عز وجل هل يرزقه أو لا، وقد تقدم الأمر إليه: "
وَتَزَوَّدُوا " فقال: لا أتزود، فهذا هالك قبل أن يهلكه.
ولو جاء وقت صلاة وليس معه ماء، ليم على تفريطه، وقيل له: هلا استصحبت
الماء قبل المفازة.
فالحذر الحذر من أفعال أقوام فمرقوا عن الأوضاع الدينية، وظنوا أن كمال
الدين بالخروج عن الطباع، والمخالفة للأوضاع.
ولولا قوة العلم والرسوخ فيه، لما قدرت على شرح هذا ولا عرفته، فافهم ما
أشرت إليه، فهو أنفع لك من كراريس تسمعها، وكن مع أهل المعاني لا مع أهل
الحشو.
تلمحت على خلق كثير من الناس إهمال أبدانهم، فمنهم من لا ينظف فمه بالخلال
بعد الأكل.
ومنهم من لا ينقي يديه في غسلها من الزهم، ومنهم من لا يكاد يستاك، وفيهم
من لا يكتحل، وفيهم من لا يراعي الإبط إلى غير ذلك، فيعود هذا الإهمال
بالخلل في الدين والدنيا.
أما الدين إنه قد أمر المؤمن بالتنظف والاغتسال للجمعة لأجل
اجتماعه بالناس، ونهى عن دخول المسجد إذا أكل الثوم، وأمر الشرع بتنقية
البراجم، وقص الأظفار، والسواك، والاستحداد. وغير ذلك من الآداب.
فإذا أهمل ذلك ترك مسنون الشرع، وربما تعدى بعض ذلك إلى فساد العبادة، مثل
أن يهمل أظفاره فيجمع تحته الوسخ المانع للماء في الوضوء أن يصل.
وأما الدنيا فإني رأيت جماعة من المهملين أنفسهم، يتقدمون إلى السرار.
والغفلة التي أوجبت إهمالهم أنفسهم، أوجبت جهلهم بالأذى الحادث عنهم.
فإذ أخذوا في مناجاة السر، لم يمكن أن أصدف عنهم، لأنهم يقصدون السر،
فألقى الشدائد من ريح أفواههم.
ولعل أكثرهم من وقت انتباههم ما أمر أصبعه على أسنانه.
ثم يوجب مثل هذا نفور المرأة، وقد لا تستحسن ذكر ذلك للرجل، فيثمر ذلك
التفاتها عنه.
وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إني لأحب أن أتزين للمرأة، كما أحب
أن تتزين لي.
وفي الناس من يقول: هذا تصنع.
وليس بشيء، فإن الله تعالى: " زيَّنَنَا لَمّا خَلَقَنَا " . لأن العين
حظاً في النظر.
ومن تأمل أهداب العين والحاجبين. وحسن ترتيب الخلقة، علم أن الله زين
الآدمي.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أنظف الناس وأطيب الناس، وفي الحديث عنه
صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى تبين عفرة إبطيه، وكان ساقه ربما انكشفت
فكأنها جمارة.
وكان لا يفارقه السواك، وكان يكره أن يشم منه ريح ليست طيبة.
وفي حديث أنس الصحيح: ما شانه الله بيضاء.
وقد قالت الحكماء: من نظف ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله.
وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: ما لكم تدخلون علي قلحاً، استاكوا.
وقد فضلت الصلاة بالسواك، على الصلاة بغير سواك، فالمتنظف ينعم نفسه،
ويرفع منها قدرها.
وقد قال الحكماء: من طال ظفره قصرت يده، ثم إنه يقرب من قلوب الخلق وتحبه
النفوس، لنظافته وطيبه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الطيب.
ثم إنه يؤنس الزوجة بتلك الحال. فإن النساء شقائق الرجال، فكما أنه يكره
الشيء منها فكذلك هي تكرهه، وربما صبر هو على ما يكره وهي لا تصبر.
وقد رأيت جماعة يزعمون أنهم زهاد وهم من أقذر الناس، وذلك أنهم ما قومهم
العلم.
وأما ما يحكى عن داود الطائي: أنه قيل له لو سرحت لحيتك، فقال: إني عنها
مشغول، فهذا معتذر عن العمل بالسنة، والإخبار عن غيبته عن نفسه بشدة خوفه
من الآخرة، ولو كان مفيقاً لذلك لم يتركه، فلا يحتج بحال المغلوبين.
ومن تأمل خصائص الرسول الله صلى الله عليه وسلم رأى كاملاً في العلم
والعمل، فيه يكون الاقتداء وهو الحجة على الخلق.
فصل اخشوشنوا
تأملت مبالغة أرباب الدنيا في اتقاء الحر والبرد. فرأيتها تعكس المقصود في
باب الحكمة. وإنما تحصل مجرد لذة ولا خير في لذة تعقب ألماً.
فأما في الحر فإنهم يشربون الماء المثلوج. وذلك على غاية في الضرر، وأهل
الطب يقولون: إنه يحدث أمراضاً صعبة يظهر أثرها في وقت الشيخوخة ويضعون
الخيوش المضاعفة الرقيق الشفاف وفي البرد يصنعون اللبود المانعة للبرد.
وهذا من حيث الحكمة مضاد ما وضعه الله تعالى. فإنه جعل الحر لتحلل
الأخلاط، والبرد لجمودها، فيجعلون هم جميع السنة ربيعاً، فتنعكس الحكمة
التي وضع الحر والبرد لها، ويرجع الأذى على الأبدان.
ولا يظن سامع هذا أني آمره بملاقاة الحر والبرد.
وإنما أقول له: لا يفرط في التوقي، بل يتعرض في الحر لما يحلل بعض
الأخلاط، إلى حد لا يؤثر في القوة. وفي البرد بأن يصيبك منه الأمر القريب
لا المؤذي، فإن الحر والبرد لمصالح البدن.
وقد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر والبرد أصلاً فتغيرت حالته فمات
عاجلاً، وقد ذكرت قصته في كتاب لقط المنافع في علم الطب.
ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء، ولا فيه أفضل من الرضى به.
فأما الصبر: فهو فرض. وأما الرضا فهو فضل.
وإنما صعب الصبر لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس، وليس مكروه النفس
يقف على المرض والأذى في البدن، بل هو يتنوع حتى يتحير العقل في حكمة
جريان القدر.
فمن ذلك أنك إذا رأيت مغموراً بالدنيا قد سالت له أوديتها حتى لا يدري ما
يصنع بالمال، فهو يصوغه أواني يستعملها.
ومعلوم أن البلور والعقيق والشبه، قد يكون أحسن منها صورة، غير
أن قلة مبالاته بالشريعة جعلت عنده وجود النهي كعدمه.
ويلبس الحرير، ويظلم الناس، والدنيا منصبة عليه.
ثم يرى خلقاً من أهل الدين، وطلاب العلم، مغمورين بالفقر والبلاء، مقهورين
تحت ولاية ذلك الظالم.
فحينئذ يجد الشيطان طريقاً للوسواس ويبتدي بالقدح في حكمة القدر.
فيحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من الضر في الدنيا، وعلى جدال إبليس
في ذلك.
وكذلك في تسليط الكفار على المسلمين والفساق على أهل الدين.
وأبلغ من هذا إيلام الحيوان، وتعذيب الأطفال، ففي مثل هذه المواطن يتمحص
الإيمان.
ومما يقوي الصبر على الحالتين النقل والعقل.
أما النقل فالقرآن والسنة، أما القرآن فمنقسم إلى قسمين، أحدهما بيان سبب
إعطاء الكافر والعاصي، فمن ذلك قوله تعالى: " إِنَّمَا نُملي لهمْ
ليزْدَادُوا إثماً " . " وَلَوْلاَ أَنْ يَكونَ الناسُ أمة واحة لجَعْلنا
لمنْ يكفُرُ بالرَّحمن لبُيوتهم سقفاً مِنْ فِضَّةٍ " ، " وَإِذَا
أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيْهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا " . وفي القرآن من هذا كثير.
والقسم الثاني: ابتلاء المؤمن بما يلقى كقوله تعالى: " أَمْ حَسِبْتُمْ
أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا
مِنْكُمُ " ، " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَا
يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ
الْبَأسَاءُ وَالضَّرّ؟َاءُ وَزُلْزِلُوا " ، " أًمْ حَسِبْتُمُ أَنْ
تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ " وفي
القرآن من هذا كثير.
وأما السنة فمنقسمة إلى قول وحال. أما الحال: فإنه صلى الله عليه وسلم كان
يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه، فبكى عمر رضي الله عنه وقال: كسرى
وقيصر في الحرير والديباج، فقال له صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يا عمر
؟ ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ؟.
وأما القول فكقوله عليه الصلاة والسلام: لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح
بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء.
وأما العقل: فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود منها أن يقول: قد ثبتت عندي
الأدلة القاطعة على حكمة المقدر. فلا أترك الأصل الثابت لما يظنه الجاهل
خللاً.
ومنها أن يقول: ما قد استهولته أيها الناظر من بسط يد العاصي هي قبض في
المعنى، وما قد أثر عندك من قبض يد الطائع بسط في المعنى، لأن ذلك البسط
يوجب عقاباً طويلاً، وهذا القبض يؤثر انبساطاً في الأجر جزيلاً، فزمان
الرجلين ينقضي عن قريب. والمراحل تطوى. والركبان في السير الحثيث.
ومنها أن يقول: قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير، وأن زمن التكليف كبياض
نهار، ولا ينبغي للمستعمل في الطين إن يلبس نظيف الثياب، بل ينبغي أن
يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ تنظف ولبس أجود ثيابه. فمن ترفه وقت العمل
ندم وقت تفريق الأجرة وعوقب على التواني فيما كلف، فهذه النبذة تقوي أزر
الصبر.
وأزيدها بسطاً فأقول: أترى إذا أريد اتخاذ شهداء، فكيف لا يخلق أقوام
يبسطون أيديهم لقتل المؤمنين، أفيجوز أن يفتك بعمر إلا مثل أبي لؤلؤة ؟
وبعلي إلا مثل ابن ملجم: أفيصح أن يقتل يحيى بن زكريا إلا جبار كافر، ولو
أن عين الفهم زال عنها غشاء العشا.. لرأيت المسبب لا الأسباب، والمقدر لا
الأقدار، فصبرت على بلائه. إيثاراً لما يريد، ومن ههنا ينشأ الرضى.
كما قيل لبعض أهل البلاء: ادع الله بالعافية، فقال: أحبه إلي أحبه إلى
الله عز وجل.
إن كان رضاكم في سهري ... فسلام اللّه على وسني
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل الرضا عن الله
لما أنهيت كتابة الفصل المتقدم. هتف بي هاتف من باطني. دعني من شرح الصبر
على الأقدار، فإني قد اكتفيت بأنموذج ما شرحت.
وصف حال الرضى. فإني أجد نسيماً من ذكره فيه روح للروح.
فقلت: أيها الهاتف اسمع الجواب. وافهم الصواب.
إن الرضى من جملة ثمرات المعرفة، فإذا عرفته رضيت بقضائه، وقد يجري في ضمن
القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي.
أما العارف فتقل عنده المرارات لقوة حلاوة المعرفة.
فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة، صارت مرارة الأقدار، حلاوة كما قال القائل:
عذابه فيك عذب ... وبعده فيك قرب
وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني ... لما تحبّ أحبّ
وقال بعض المحبين في هذا المعنى:
ويقبح من سواك الفعل عندي ... فتفعله فيحسن منك ذاك
فصاح بي الهاتف. حدثني بماذا أرضى ؟ قدر أني أرضى في أقداره بالمرض
والفقر، أفأرضى بالكسل عن خدمته، والبعد عن أهل محبته ؟ فبين لي ما الذي
يدخل تحت الرضى، مما لا يدخل.
فقلت له: نعم ما سألت فاسمع الفرق سماع من ألقى السمع وهو شهيد.
إرضى بما كان منه. فأما الكسل والتخلف فذاك منسوب إليك، فلا ترضى به من
فعلك.
وكن مستوفياً حقه عليك، مناقشاً نفسك فيما يقربك منه، غير راض منها
بالتواني في المجاهدة.
فأما ما يصدر من أقضيته المجردة التي لا كسب لك فيها. فكن راضياً بها كما
قالت رابعة رحمة الله عليها - وقد ذكر عندها رجل من العباد يلتقط من مزبلة
فيأكل، فقيل: هلا سأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا ؟ - فقالت: إن
الراضي لا يتخير ومن ذاق طعم المعرفة. وجد فيه طعم المحبة، فوقع الرضى
عنده ضرورة.
فينبغي الاجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة، ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد
في الخدمة، لعل ذلك يورث المحبة.
فقد قال سبحانه وتعالى: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا
أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به.
فذلك الغنى الأكبر... ووافقراه ... !!!!.
فصل تعليل
رأيت جمهور العلماء يشغلهم طلبهم للعلم في زمن الصبا عن المعاش، فيحتاجون
إلى ما لا بد منه، فلا يصلهم من بيت المال شيء، ولا من صلات الإخوان ما
يكفي، فيحتاجون إلى التعرض للإذلال، فلم أر في ذلك من الحكمة إلا سببين.
أحدهما: قمع إعجابهم بهذا الإذلال، والثاني: نفع أولئك بثوابهم.
ثم أمعنت الفكر فتلمحت نكتة لطيفة، وهو أن النفس الأبية إذا رأت حال
الدنيا كذلك. لم تساكنها بالقلب، ونبت عنها بالعزم، ورأت أقرب الأشياء
شبهاً بها. مزبلة عليها الكلاب، أو غائطاً يؤتى لضرورة.
فإذا نزل الموت بالرحلة عن مثل هذه الدار. لم يكن للقلب بها متعلق متمكن
فتهون حينئذ.
فصل من خلط الزهاد
ما زال جماعة من المتزهدين يزرون على كثير من العلماء إذا انبسطوا في
مباحات. والذي يحملهم على هذا الجهل. فلو كان عندهم فضل علم ما عابوهم.
وهذا لأن الطباع لا تتساوى، فرب شخص يصلح على خشونة العيش، وآخر لا يصلح
على ذلك، ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو.
غير أن لنا ضابطاً هو الشرع، فيه الرخصة وفيه العزيمة. فلا ينبغي أن يلام
من حصر نفسه في ذلك الضابط.
ورب رخصة كانت أفضل من عزائم لتأثير نفعها.
ولو علم المتزهدون أن العلم يوجب المعرفة بالله تعالى. فتنبت القلوب من
خوفه، وتنحل الأجسام للحذر منه فوجب التلطف حفظاً لقوة الراحلة.
ولأن آلة العلم والحفظ. القلب والفكر، فإذا رفهت الآلة جاد العمل، وهذا
أمر لا يعلم إلا بالعلم.
فلجهل المتزهدين بالعلم أنكروا ما لم يعلموا. وظنوا أن المراد إتعاب
الأبدان، وإنضاء الرواحل، وما علموا أن الخوف المضني يحتاج إلى راحة
مقاومة، كما قال القائل. روحوا القلوب تعي الذكر.
فصل التصوف ونشر الجهل
ليس في الوجود شيء أشرف من العلم، كيف لا وهو الدليل. فإذا عدم وقع الضلال.
وإن من خفي مكائد الشيطان أن يزين في نفس الإنسان التعبد ليشغله عن أفضل
التعبد وهو العلم، حتى أنه زين لجماعة من القدماء أنهم دفنوا كتبهم ورموها
في البحر. وهذا قد ورد عن جماعة. وأحسن ظني بهم أن أقول: كان فيها شيء من
رأيهم وكلامهم فما أحبوا انتشاره.
وإلا فمتى كان فيها علم مفيد صحيح لا يخاف عواقبه، كان رميها إضافة للمال
لا يحل وقد دنت حيلة إبليس إلى جماعة من المتصوفة حتى منعوا من حمل
المحابر تلامذتهم.
وحتى قال جعفر الخلدي: لو تركني الصوفية جئتكم بإسناد الدنيا، كتبت مجلساً
عن أبي العباس الدوري فلقيني بعض الصوفية فقال: دع علم الورق، وعليك بعلم
الخرق.
ورأيت محبرة مع بعض الصوفية. فقال له صوفي آخر: استر عورتك ! وقد أنشدوا
للشبلي:
إذا طالبوني بعلم الورق ... برزت عليهم بعلم الخرق
وهذا من خفي حيل إبليس، " وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ
" ، وإنما فعل وزينه عندهم لسببين:
أحدهما: أنه أرادهم يمشون في الظلمة.
والثاني: أن تصفح العلم كل يوم يزيد في علم العالم. ويكشف له ما كان خفي
عنه، ويقوي إيمانه ومعرفته، ويريه عيب كثير من مسالكه خصوصاً، إذا تصفح
منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة.
فأراد إبليس سد تلك الطرق بأخفى حيلة، فأظهر أن المقصود العمل، لا العلم
لنفسه، وخفي على المخدوع أن العلم عمل وأي عمل.
فاحذر من هذه الخديعة الخفية، فإن العلم هو الأصل الأعظم، والنور الأكبر.
وربما كان تقليب الأوراق أفضل من الصوم والصلاة، والحج والغزو.
وكم من معرض عن العلم يخوض في عذاب من الهوى في تعبده، ويضيع كثيراً من
الفرض بالنقل، ويشتغل بما يزعمه الأفضل عن الواجب.
ولو كانت عنده شعلة من نور العلم لاهتدى، فتأمل ما ذكرت لك ترشد إن شاء
الله تعالى.
فصل تعليل النفس
مر بي حمالان جذع ثقيل، وهما يتجاوبان بإنشاد النغم، وكلمات الاستراحة.
فأحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله، والآخر همته
مثل ذلك.
فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت المشقة عليهما، وثقل الأمر، وكلما فعلا
هذا هان الأمر.
فتأملت السبب في ذلك، فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بما يقوله الآخر،
وطربه به، وإحالة فكره في الجواب بمثل ذلك، فينقطع الطريق، وينسى ثقل
المحمول.
فأخذت من هذا إشارة عجيبة، ورأيت الإنسان قد حمل من التكليف أموراً صعبة،
ومن أثقل ما حمل مداراة نفسه، وتكليفها الصبر عما تحب، وعلى ما تكره.
فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس، كما قال الشاعر:
فإن تشكت فعلّلها المجرة من ... ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى
ومن هذا ما يحكى عن بشر الحافي رحمة الله عليه: سار ومعه رجل في طريق فعطش
صاحبه، فقال له: نشرب من هذه البئر ؟ فقال بشر: اصبر إلى البئر الأخرى،
فلما وصلا إليها قال له: البئر الأخرى.
فما زال يعلله... ثم التفت إليه فقال له: هكذا تنقطع الدنيا.
ومن فهم هذا الأصل علل النفس وتلطف بها ووعدها الجميل لتصبر على ما قد
حملت كما كان بعض السلف يقول لنفسه: والله ما أريد بمنعك من هذا الذي
تحبين إلا الإشفاق عليك.
وقال أبو يزيد رحمة الله عليه: ما زلت أسوق نفسي إلى الله تعالى وهي تبكي
حتى سقتها وهي تضحك.
واعلم أن مداراة النفس والتلطف بها لازم، وبذلك ينقطع الطريق؛ فهذا رمز
إلى الإشارة، وشرحه يطول.
فصل تلحين الوحي وتطريب الوعظ
تأملت أشياء تجري في مجالس الوعظ، يعتقدها العوام وجهال العلماء قربة، وهي
منكر وبعد.
وذاك أن المقرىء يطرب ويخرج الألحان إلى الغناء، والواعظ ينشد بتطريب
أشعار المجنون وليلى، فيصفق هذا، ويخرق ثوبه هذا، ويعتقدون أن ذلك قربة.
ومعلوم أن هذه الألحان كالموسيقى، توجب طرباً للنفوس ونشوة؛ والتعرض لما
يوجب الفساد غلط عظيم.
وينبغي الاحتساب على الوعاظ في هذا، وكذلك المقابريون منهم فإنهم يهيجون
الأحزان ليكثر بكاء النساء، فيعطون على ذلك الأجرة.
ولو أنهم أمروا بالصبر لم ترد النسوة ذلك، وهذه أضداد للشرع.
قال ابن عقيل: حضرنا عزاء رجل قد مات له ولد، فقرأ المقرىء: " يَا أَسَفَى
عَلَى يُوسُف " ، فقلت له: هذه نياحة بالقرآن.
وفي الوعاظ من يتكلم على طريق المعرفة والمحبة، فترى الحائك والسوقي الذي
لا يعرف فرائض تلك الصلاة يمزق أثوابه دعوى لمحبة الله تعالى.
والصافي حالاً منهم - وهو أصلحهم - يتخايل بوهمه شخصاً هو الخالق، فيبكيه
شوقه إليه لما يسمع من عظمته ورحمته وجماله.
وليس ما يتخايلونه المعبود؛ لأن: المعبود لا يقع في خيال.
وبعد هذا فالتحقيق مع العوام صعب، ولا يكادون ينتفعون بمر الحق.
إلا أن الواعظ مأمور بأن لا يتعدى الصواب، ولا يتعرض لما يفسدهم.
بل يجذبهم إلى ما يصلح بألطف وجه، وهذا يحتاج إلى صناعة، فإن من العوام من
يعجبه حسن اللفظ، ومنهم من يعجبه الإشارة، ومنهم من ينقا ببيت من الشعر.
وأحوج الناس إلى البلاغة الواعظ ليجمع مطالبهم، لكنه ينبغي أن ينظر في
اللازم الواجب، وأن يعطيهم من المباح في اللفظ، قدر الملح في الطعام، ثم
يجتذبهم إلى العزائم، ويعرفهم الطريق الحق.
وقد حضر أحمد بن حنبل؛ فسمع كلام الحارث المحاسبي فبكى، ثم قال:
لا يعجبني الحضور، وإنما بكى لأن الحال أوجبت البكاء.
وقد كان جماعة من السلف يرون تخليط القصاص، فينهون عن الحضور عندهم.
وهذا على الإطلاق لا يحسن اليوم؛ لأنه كان الناس في ذلك الزمان متشاغلين
بالعلم، فرأوا حضور القصص صاداً لهم، واليوم كثر الإعراض عن العلم، فأنفع
ما للعامي مجلس الوعظ، يرده عن ذنب، ويحركه إلى توبة، وإنما الخلل في
القاص، فليتق الله عز وجل.
فصل ضرر الجدال
من أضر الأشياء على العوام كلام المتأولين، والنفاة للصفات والإضافات.
فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالغوا في الإثبات ليتقرر في أنفس
العوام وجود الخالق؛ فإن النفوس تأنس بالإثبات؛ فإذا سمع العامي ما يوجب
النفي. طرد عن قلبه الإثبات، فكان أعظم ضرر عليه، وكان هذا المنزه من
العلماء على زعمه، مقاوماً لإثبات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالمحو،
وشارعاً في إبطال ما يفتون به.
وبيان هذا أن الله تعالى أخر باستوائه على العرش، فأنست النفوس إلى إثبات
الإله ووجوده، قال تعالى: " وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ " وقال تعالى: "
بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتَانِ " وقال: " غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ " ، "
رَضيَ اللَّهُ عنهم " وأخبر الرسول أن ينزل إلى السماء الدنيا وقال: قلوب
العباد بين إصبعين وقال: وكتب التوراة بيده، وكتب كتاباً فهو عنده فوق
العرش، إلى غير ذلك مما يطول ذكره.
فإذا امتلأ العامي والصبي من الإثبات، وكاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه
الحس؛ قيل له: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " فمحا من قلبه ما نقشه الخيال،
وتبقى ألفاظ الإثبات متمكنة.
ولهذا أقر الشرع مثل هذا، فسمع منشداً يقول: وفوق العرش رب العالمينا،
فضحك.
وقال له آخر: أويضحك ربنا ؟ فقال: نعم، وقال: إنه على عرشه هكذا، كل هذا
ليقرر الإثبات في النفوس.
وأكثر الخلق لا يعرفون الإثبات إلا على ما يعلمون من الشاهد، فيقنع منهم
بذلك إلى أن يفهموا التنزيه.
فأما إذا ابتدأنا بالعامي الفارغ من فهم الإثبات، فقلنا: ليس في السماء،
ولا على العرش، ولا يوصف بيد، وكلامه صفة قائمة بذاته، وليس عندنا منه
شيء، ولا يتصور نزوله، انمحى من قلبه تعظيم المصحف، ولم يتحقق في سره
إثبات إله.
وهذه جناية عظيمة على الأنبياء، توجب نقض ما تعبوا في بيانه، ولا يجوز
لعالم أن يأتي إلى عقيدة عامي قد أنس بالإثبات فيهوشها، فإنه يفسده ويصعب
صلاحه.
فأما العالم فإنا قد أمناه لأنه لا يخفى عليه استحالة تجدد صفة الله
تعالى، وأنه لا يجوز أن يكون استوى كما يعلم، ولا يجوز أن يكون محمولاً،
ولا أن يوصف بملاصقة ومس، ولا أن ينتقل.
ولا يخفى عليه أن المراد بتقليب القلوب بين أصبعين الإعلام بالتحكم في
القلوب فإن ما يدبره الإنسان بين أصبعين هو متحكم فيه إلى الغالية.
ولا يحتاج إلى تأويل من قال: الإصبع الأثر الحسن، فالقلوب بين أثرين من
آثار الربوبية، وهما: الإقامة، والإزاغة.
ولا إلى تأويل من قال: يداه نعمتاه، لأنه إذا فهم أن المقصود الإثبات. وقد
حدثنا بما نعقل. وضربت لنا الأمثال بما نعلم، وقد ثبت عندنا بالأصل
المقطوع به أنه لا يجوز عليه ما يعرفه الحس، علمنا المقصود بذكر ذلك.
وأصلح ما نقول للعوام: أمروا هذه الأشياء كما جاءت، ولا تتعرضوا لتأويلها،
وكل ذلك يقصد به حفظ الإثبات، وهذا الذي قصده السلف.
وكان أحمد يمنع من أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، كل ذلك
ليحمل على الاتباع، وتبقى ألفاظ الإثبات على حالها.
وأجهل الناس من جاء إلى ما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه، فأضعف في
النفوس قوي التعظيم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو يشير إلى
المصحف.
ومنع الشافعي أن يحمله المحدث بعلاقته تعظيماً له.
فإذا جاء متحذلق فقال: الكلام صفة قائمة بذات المتكلم، فمعنى قوله هذا أن
ما ههنا شيء يحترم، فهذا قد ضاد بما أتى به مقصود الشرع.
وينبغي أن يفهم أوضاع الشرع ومقاصد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد
منعوا من كشف ما قد قنع الشرع، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الكلام في القدر ونهى عن الاختلاف، لأن هذه الأشياء تخرج إلى ما يؤذي.
فإن الباحث عن القدر إذا بلغ فهمه إلى أن يقول: قضى وعاقب، تزلزل
إيمانه بالعدل.
وإن قال: لم يقدر ولم يقض تزلزل إيمانه بالقدرة، والملك، فكان الأولى ترك
الخوض في هذه الأشياء.
ولعل قائلاً يقول: هذا منع لنا عن الاطلاع على الحقائق، وأمر بالوقوف مع
التقليد.
فأقول: لا، إنما أعلمك أن المراد منك الإيمان بالجمل، وما أمرت بالتنقير
لمعرفة الكنه مع أن قوى فهمك تعجز عن إدراك الحقائق.
فإن الخليل عليه الصلاة والسلام قال: أرني كيف تحيي، فأراه ميتاً حيي، ولم
يره كيف أحياه، لأن قواه تعجز عن إدراك ذلك.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي بعث ليبين للناس ما نزل إليهم،
يقنع من الناس بنفس الإقرار واعتقاد الجمل.
وكذلك كانت الصحابة، فما نقل عنهم أنهم تكلموا في تلاوة ومتلو، وقراءة
ومقروء ولا أنهم قالوا استوى بمعنى استولى ويتنزل بمعنى يرحم.
بل قنعوا بإثبات الجمل التي تثبت التعظيم عند النفوس، وكفوا كف الخيال
بقوله: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " .
ثم هذا منكر ونكير إنما يسألان عن الأصول المجملة فيقولان: من ربك ؟ وما
دينك ؟ ومن نبيك ؟.
ومن فهم هذا الفصل سلم من تشبيه المجسمة، وتعطيل المعطلة، ووقف على جادة
السلف الأول، والله الموفق.
فصل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم
قرأت هذه الآية: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُم
وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ
يَأْتِيْكُمْ بِهِ " فلاحت لي فيها إشارة كدت أطيش منها.
وذلك أنه إن كان عني بالآية نفس السمع والبصر فإن السمع آلة لإدراك
المسموعات، والبصر آلة لإدراك المبصرات، فهما يعرضان ذلك على القلب،
فيتدبر، ويعتبر. فإذا عرضت المخلوقات على السمع والبصر، أوصلا إلى القلب
أخبارها من أنها تدل على الخالق، وتحمل على طاعة الصانع، وتحذر من بطشه
عند مخالفته.
وإن عني معنى السمع والبصر، فذلك يكون بذهولهما عن حقائق ما أدركا، شغلا
بالهوى، فيعاقب الإنسان بسلب معاني تلك الآلات، فيرى وكأنه ما رأى ويسمع
وكأنه ما سمع، والقلب ذاهل عن ما يتأدب به، فيبقى الإنسان خاطئاً على نفسه
لا يدري ما يراد به، لا يؤثره عنده أنه يبلى، ولا تنفعه موعظة تجلى، ولا
يدري أين هو، ولا ما المراد منه، ولا إلى أين يحمل، وإنما يلاحظ بالطبع
مصالح عاجلته ولا يتفكر في خسران آجلته، لا يعتبر برفيقه، ولا يتعظ
بصديقه، ولا يتزود لطريقه كما قال الشاعر:
الناس في غفلة والموت يوقظهم ... وما يفيقون حتى ينفد العمر
يشيعون أهاليهم بجمعهم ... وينظرون إلى ما فيه قد قبروا
ويرجعون إلى أحلام غفلتهم ... كأنهم ما رأوا شيئاً ولا نظروا
وهذه حالة أكثر الناس، فنعوذ بالله من سلب فوائد الآلات، فإنها أقبح
الحالات.
فصل حقيقة العشق
نظرت فيما تكلم به الحكماء في العشق وأسبابه وأدويته وصنفت في ذلك كتاباً
سميته بذم الهوى.
وذكرت فيه عن الحكماء أنهم قالوا: سبب العشق حركة نفس فارغة، وأنهم
اختلفوا. فقال قوم منهم: لا يعرض العشق إلا لظراف الناس.
وقال آخرون: بل لأهل الغفلة منهم عن تأمل الحقائق.
إلا أنه خطر لي بعد ذلك معنى عجيب أشرحه ههنا.
وهو أنه لا يتمكن العشق إلا مع واقف جامد. فأما أرباب صعود الهمم فإنها
كلما تخايلت ما توجبه المحبة فلاحت عيوبه لها، إما بالفكر في المحبوب أو
بالمخالطة له، تسلت أنفسهم وتعلقت بمطلوب آخر.
فلا يقف على درجة العشق الموجب للتمسك بتلك الصورة، العامي عن عيوبها، إلا
جامد واقف.
فأما العشق فلا يفهم أبداً في سيرتهم، بل يوقفوا الطبع تتبع حادي فإذا
علقت الطباع محبة شخص لم يبلغوا مرتبة العشق المستأثر، بل ربما ملوا ميلاً
شديداً إما في البداية لقلة التفكر أو لقلة المخالطة والاطلاع على العيوب،
وإما لتشبث بعض الخلال الممدوحة بالنفوس من جهة مناسبة وقعت بين الشخصين،
كالظريف مع الظريف، والفطن مع الفطن، فيوجب ذلك المحبة.
فأما العشق فلا يفهم أبداً في سيرتهم، بل يوقفوا إبل الطبع تتبع حادي
الفهم، فإن للهمم متعلقاً لا تجده في الدنيا، لأنه يروم ما لا يصح وجوده
من الكمال في الأشخاص، فإذا تلمح عيوبها نفر.
وأما متعلق القلوب من محبة الخالق البارىء، فهو مانع لها من
الوقوف مع سواه. وإن كانت محبة لا تجانس محبة المخلوقين غير أن أرباب
المعرفة ولهى قد شغلهم حبه عن حب غيره.
وصارت الطباع مستغرقة لقوة معرفة القلوب ومحبتها كما قالت رابعة:
أحب حبيباً لا أعاب بحبّه ... وأحببتهم من في هواه عيوب
ولقد روي عن بعض فقراء الزهاد أنه مر بامرأة فأعجبته، فخطبها إلى أبيها،
فزوجه وجاء به إلى المنزل وألبسه غير خلقانه.
فلما جن الليل صاح الفقير: ثيابي ثيابي. فقدت ما كنت أجده، فهذه عثرة في
طريق هذا الفقير دلته على أنه منحرف عن الجادة.
وإنما تعتري هذه الحالات أرباب المعرفة بالله عز وجل وأهل الأنفة من
الرذائل.
وقد قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة فليتذكر مثانتها.
ومثال هذه الحال أن العقل يغيب عند استحلاء تناول المشتهى من الطعام، عن
التفكر في تقلبه في الفم وبلعه.
ويذهل عن الجماع عن ملاقات القاذورات لقوة غلبة الشهوة، وينسى عند بلع
الرضاب استحالته عن الغذاء، وفي تغطية تلك الأحوال مصالح.
إلا أن أرباب اليقظة يعتريهم هذا الإحساس من غير طلب له في غالب أحوالهم،
فينغص عليهم لذيذ العيش، ويوجب الأنفة من رذالة الهوى.
وعلى قدر النظر في العواقب يخف العشق عن قلب العاشق، وعلى قدر وجمود الذهن
يقوى القلق، قال المتنبي:
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
ومجموع ما أردت شرحه. أن طباع المتيقظين تترقى فلا تقف مع شخص مستحسن.
وسبب ترقيها التفكر في نقص ذلك الشخص وعيوبه، أو في طلب ما هو أم منه.
وقلوب العارفين تترقى إلى معروفها، وتتنقل في معبر الاعتبار.
فأما أهل الغفلة فجمودهم في الحالتين، وغفلتهم عن المقامين، يوجب أسرهم
وقسرهم وحيرتهم.
فصل دعاء المقر بالذنب
عرض لي أمر لي يحتاج إلى سؤال الله عز وجل ودعائه، فدعوت وسألت. فأخذ بعض
أهل الخير يدعو معي، فرأيت نوعاً من أثر الإجابة.
فقالت لي نفسي: هذا بسؤال ذلك العبد لا بسؤالك، فقلت لها: أما أنا فإني
أعرف من نفسي من الذنوب والتقصير ما يوجب منع الجواب، غير أنه يجوز أن
يكون أنا الذي أجبت، لأن هذا الداعي الصالح سليم مما أظنه من نفسي، إذ معي
انكسار تقصيري ومعه الفرح بمعاملته.
وربما كان الاعتراف بالتقصير أنجح في الحوائج، على أنني أنا وهو نطلب من
الفضل، لا بأعمالنا، فإذا وقفت أنا على قدم الانكسار معترفاً بذنوبي. وقلت
أعطوني بفضلكم فما لي في سؤالي شيء أجبت به.
وربما تلمح ذاك حسن عمله وكان صاداً له.
فلا تكسريني أيتها النفس فيكفيني كسر علمي بي لي.
ومعي من العلم الموجب للأدب، والاعتراف بالتقصير، وشدة الفقر إلى ما سألت،
ويقيني بفضل المطلوب عنه، ما ليس مع ذلك العابد، فبارك الله في عبادته.
فربما كان اعترافي بتقصيري أوفى.
فصل حسن التدبر
قرأت من غرائب العلم، وعجائب الحكم، على بعض من يدعي العلم، فرأيته يتلوى
من سماع ذلك، ولا يطلع على غوره، ولا يشرئب إلى ما يأتي، فصرفت عن إسماعه
شيئاً آخر وقلت: إنما يصلح مثل هذا لذي لب يتلقاه تلقي العطشان الماء.
ثم أخذت من هذه إشارة هي إنه لو كان هذا يفهم ما جرى ومدحني لحسن ما صنعت
لعظم قدره عندي، ولأريته محاسن مجموعاتي وكلامي.
ولكني لما لم أره لها أهلاً صرفتها عنه، وصدفت بنظري إليه.
وكانت الإشارة: أن الله عز وجل، قد صنف هذه المخلوقات فأحسن التركيب،
وأحكم الترتيب ثم عرضها على الألباب، فأي لب أوغل في النظر مدح على قدر
فهمه فأحبه المصنف، وكذلك أنزل القرآن يحتوي على عجائب الحكم، فمن فتشه
بيد الفهم. وحادثه في خلوة الفكر. استجلب رضى المتكلم به وحظى بالزلفى
لديه.
ومن كان للذهن مستغرق الفهم بالحسيات، صرف عن ذلك المقام.
قال الله عز وجل: " سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الذِينَ يَتَكَبَّرونَ في
الأرض بِغَيْرِ الْحَقَّ " .
لما أنهيت كتابة الفصل المتقدم. هتف بي هاتف من باطني. دعني من شرح الصبر
على الأقدار، فإني قد اكتفيت بأنموذج ما شرحت.
وصف حال الرضى. فإني أجد نسيماً من ذكره فيه روح للروح.
فقلت: أيها الهاتف اسمع الجواب. وافهم الصواب.
إن الرضى من جملة ثمرات المعرفة، فإذا عرفته رضيت بقضائه، وقد يجري في ضمن
القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي.
أما العارف فتقل عنده المرارات لقوة حلاوة المعرفة.
فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة، صارت مرارة الأقدار، حلاوة كما قال القائل:
عذابه فيك عذب ... وبعده فيك قرب
وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني ... لما تحبّ أحبّ
وقال بعض المحبين في هذا المعنى:
ويقبح من سواك الفعل عندي ... فتفعله فيحسن منك ذاك
فصاح بي الهاتف. حدثني بماذا أرضى ؟ قدر أني أرضى في أقداره بالمرض
والفقر، أفأرضى بالكسل عن خدمته، والبعد عن أهل محبته ؟ فبين لي ما الذي
يدخل تحت الرضى، مما لا يدخل.
فقلت له: نعم ما سألت فاسمع الفرق سماع من ألقى السمع وهو شهيد.
إرضى بما كان منه. فأما الكسل والتخلف فذاك منسوب إليك، فلا ترضى به من
فعلك.
وكن مستوفياً حقه عليك، مناقشاً نفسك فيما يقربك منه، غير راض منها
بالتواني في المجاهدة.
فأما ما يصدر من أقضيته المجردة التي لا كسب لك فيها. فكن راضياً بها كما
قالت رابعة رحمة الله عليها - وقد ذكر عندها رجل من العباد يلتقط من مزبلة
فيأكل، فقيل: هلا سأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا ؟ - فقالت: إن
الراضي لا يتخير ومن ذاق طعم المعرفة. وجد فيه طعم المحبة، فوقع الرضى
عنده ضرورة.
فينبغي الاجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة، ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد
في الخدمة، لعل ذلك يورث المحبة.
فقد قال سبحانه وتعالى: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا
أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به.
فذلك الغنى الأكبر... ووافقراه ... !!!!.
فصل تعليل
رأيت جمهور العلماء يشغلهم طلبهم للعلم في زمن الصبا عن المعاش، فيحتاجون
إلى ما لا بد منه، فلا يصلهم من بيت المال شيء، ولا من صلات الإخوان ما
يكفي، فيحتاجون إلى التعرض للإذلال، فلم أر في ذلك من الحكمة إلا سببين.
أحدهما: قمع إعجابهم بهذا الإذلال، والثاني: نفع أولئك بثوابهم.
ثم أمعنت الفكر فتلمحت نكتة لطيفة، وهو أن النفس الأبية إذا رأت حال
الدنيا كذلك. لم تساكنها بالقلب، ونبت عنها بالعزم، ورأت أقرب الأشياء
شبهاً بها. مزبلة عليها الكلاب، أو غائطاً يؤتى لضرورة.
فإذا نزل الموت بالرحلة عن مثل هذه الدار. لم يكن للقلب بها متعلق متمكن
فتهون حينئذ.
ما زال جماعة من المتزهدين يزرون على كثير من العلماء إذا انبسطوا في
مباحات. والذي يحملهم على هذا الجهل. فلو كان عندهم فضل علم ما عابوهم.
وهذا لأن الطباع لا تتساوى، فرب شخص يصلح على خشونة العيش، وآخر لا يصلح
على ذلك، ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو.
غير أن لنا ضابطاً هو الشرع، فيه الرخصة وفيه العزيمة. فلا ينبغي أن يلام
من حصر نفسه في ذلك الضابط.
ورب رخصة كانت أفضل من عزائم لتأثير نفعها.
ولو علم المتزهدون أن العلم يوجب المعرفة بالله تعالى. فتنبت القلوب من
خوفه، وتنحل الأجسام للحذر منه فوجب التلطف حفظاً لقوة الراحلة.
ولأن آلة العلم والحفظ. القلب والفكر، فإذا رفهت الآلة جاد العمل، وهذا
أمر لا يعلم إلا بالعلم.
فلجهل المتزهدين بالعلم أنكروا ما لم يعلموا. وظنوا أن المراد إتعاب
الأبدان، وإنضاء الرواحل، وما علموا أن الخوف المضني يحتاج إلى راحة
مقاومة، كما قال القائل. روحوا القلوب تعي الذكر.
ليس في الوجود شيء أشرف من العلم، كيف لا وهو الدليل. فإذا عدم وقع الضلال.
وإن من خفي مكائد الشيطان أن يزين في نفس الإنسان التعبد ليشغله عن أفضل
التعبد وهو العلم، حتى أنه زين لجماعة من القدماء أنهم دفنوا كتبهم ورموها
في البحر. وهذا قد ورد عن جماعة. وأحسن ظني بهم أن أقول: كان فيها شيء من
رأيهم وكلامهم فما أحبوا انتشاره.
وإلا فمتى كان فيها علم مفيد صحيح لا يخاف عواقبه، كان رميها إضافة للمال
لا يحل وقد دنت حيلة إبليس إلى جماعة من المتصوفة حتى منعوا من حمل
المحابر تلامذتهم.
وحتى قال جعفر الخلدي: لو تركني الصوفية جئتكم بإسناد الدنيا، كتبت مجلساً
عن أبي العباس الدوري فلقيني بعض الصوفية فقال: دع علم الورق، وعليك بعلم
الخرق.
ورأيت محبرة مع بعض الصوفية. فقال له صوفي آخر: استر عورتك ! وقد أنشدوا
للشبلي:
إذا طالبوني بعلم الورق ... برزت عليهم بعلم الخرق
وهذا من خفي حيل إبليس، " وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ
" ، وإنما فعل وزينه عندهم لسببين:
أحدهما: أنه أرادهم يمشون في الظلمة.
والثاني: أن تصفح العلم كل يوم يزيد في علم العالم. ويكشف له ما كان خفي
عنه، ويقوي إيمانه ومعرفته، ويريه عيب كثير من مسالكه خصوصاً، إذا تصفح
منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة.
فأراد إبليس سد تلك الطرق بأخفى حيلة، فأظهر أن المقصود العمل، لا العلم
لنفسه، وخفي على المخدوع أن العلم عمل وأي عمل.
فاحذر من هذه الخديعة الخفية، فإن العلم هو الأصل الأعظم، والنور الأكبر.
وربما كان تقليب الأوراق أفضل من الصوم والصلاة، والحج والغزو.
وكم من معرض عن العلم يخوض في عذاب من الهوى في تعبده، ويضيع كثيراً من
الفرض بالنقل، ويشتغل بما يزعمه الأفضل عن الواجب.
ولو كانت عنده شعلة من نور العلم لاهتدى، فتأمل ما ذكرت لك ترشد إن شاء
الله تعالى.
فصل تعليل النفس
مر بي حمالان جذع ثقيل، وهما يتجاوبان بإنشاد النغم، وكلمات الاستراحة.
فأحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله، والآخر همته
مثل ذلك.
فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت المشقة عليهما، وثقل الأمر، وكلما فعلا
هذا هان الأمر.
فتأملت السبب في ذلك، فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بما يقوله الآخر،
وطربه به، وإحالة فكره في الجواب بمثل ذلك، فينقطع الطريق، وينسى ثقل
المحمول.
فأخذت من هذا إشارة عجيبة، ورأيت الإنسان قد حمل من التكليف أموراً صعبة،
ومن أثقل ما حمل مداراة نفسه، وتكليفها الصبر عما تحب، وعلى ما تكره.
فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس، كما قال الشاعر:
فإن تشكت فعلّلها المجرة من ... ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى
ومن هذا ما يحكى عن بشر الحافي رحمة الله عليه: سار ومعه رجل في طريق فعطش
صاحبه، فقال له: نشرب من هذه البئر ؟ فقال بشر: اصبر إلى البئر الأخرى،
فلما وصلا إليها قال له: البئر الأخرى.
فما زال يعلله... ثم التفت إليه فقال له: هكذا تنقطع الدنيا.
ومن فهم هذا الأصل علل النفس وتلطف بها ووعدها الجميل لتصبر على ما قد
حملت كما كان بعض السلف يقول لنفسه: والله ما أريد بمنعك من هذا الذي
تحبين إلا الإشفاق عليك.
وقال أبو يزيد رحمة الله عليه: ما زلت أسوق نفسي إلى الله تعالى وهي تبكي
حتى سقتها وهي تضحك.
واعلم أن مداراة النفس والتلطف بها لازم، وبذلك ينقطع الطريق؛ فهذا رمز
إلى الإشارة، وشرحه يطول.
تأملت أشياء تجري في مجالس الوعظ، يعتقدها العوام وجهال العلماء قربة، وهي
منكر وبعد.
وذاك أن المقرىء يطرب ويخرج الألحان إلى الغناء، والواعظ ينشد بتطريب
أشعار المجنون وليلى، فيصفق هذا، ويخرق ثوبه هذا، ويعتقدون أن ذلك قربة.
ومعلوم أن هذه الألحان كالموسيقى، توجب طرباً للنفوس ونشوة؛ والتعرض لما
يوجب الفساد غلط عظيم.
وينبغي الاحتساب على الوعاظ في هذا، وكذلك المقابريون منهم فإنهم يهيجون
الأحزان ليكثر بكاء النساء، فيعطون على ذلك الأجرة.
ولو أنهم أمروا بالصبر لم ترد النسوة ذلك، وهذه أضداد للشرع.
قال ابن عقيل: حضرنا عزاء رجل قد مات له ولد، فقرأ المقرىء: " يَا أَسَفَى
عَلَى يُوسُف " ، فقلت له: هذه نياحة بالقرآن.
وفي الوعاظ من يتكلم على طريق المعرفة والمحبة، فترى الحائك والسوقي الذي
لا يعرف فرائض تلك الصلاة يمزق أثوابه دعوى لمحبة الله تعالى.
والصافي حالاً منهم - وهو أصلحهم - يتخايل بوهمه شخصاً هو الخالق، فيبكيه
شوقه إليه لما يسمع من عظمته ورحمته وجماله.
وليس ما يتخايلونه المعبود؛ لأن: المعبود لا يقع في خيال.
وبعد هذا فالتحقيق مع العوام صعب، ولا يكادون ينتفعون بمر الحق.
إلا أن الواعظ مأمور بأن لا يتعدى الصواب، ولا يتعرض لما يفسدهم.
بل يجذبهم إلى ما يصلح بألطف وجه، وهذا يحتاج إلى صناعة، فإن من العوام من
يعجبه حسن اللفظ، ومنهم من يعجبه الإشارة، ومنهم من ينقا ببيت من الشعر.
وأحوج الناس إلى البلاغة الواعظ ليجمع مطالبهم، لكنه ينبغي أن ينظر في
اللازم الواجب، وأن يعطيهم من المباح في اللفظ، قدر الملح في الطعام، ثم
يجتذبهم إلى العزائم، ويعرفهم الطريق الحق.
وقد حضر أحمد بن حنبل؛ فسمع كلام الحارث المحاسبي فبكى، ثم قال:
لا يعجبني الحضور، وإنما بكى لأن الحال أوجبت البكاء.
وقد كان جماعة من السلف يرون تخليط القصاص، فينهون عن الحضور عندهم.
وهذا على الإطلاق لا يحسن اليوم؛ لأنه كان الناس في ذلك الزمان متشاغلين
بالعلم، فرأوا حضور القصص صاداً لهم، واليوم كثر الإعراض عن العلم، فأنفع
ما للعامي مجلس الوعظ، يرده عن ذنب، ويحركه إلى توبة، وإنما الخلل في
القاص، فليتق الله عز وجل.
فصل ضرر الجدال
من أضر الأشياء على العوام كلام المتأولين، والنفاة للصفات والإضافات.
فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالغوا في الإثبات ليتقرر في أنفس
العوام وجود الخالق؛ فإن النفوس تأنس بالإثبات؛ فإذا سمع العامي ما يوجب
النفي. طرد عن قلبه الإثبات، فكان أعظم ضرر عليه، وكان هذا المنزه من
العلماء على زعمه، مقاوماً لإثبات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالمحو،
وشارعاً في إبطال ما يفتون به.
وبيان هذا أن الله تعالى أخر باستوائه على العرش، فأنست النفوس إلى إثبات
الإله ووجوده، قال تعالى: " وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ " وقال تعالى: "
بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتَانِ " وقال: " غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ " ، "
رَضيَ اللَّهُ عنهم " وأخبر الرسول أن ينزل إلى السماء الدنيا وقال: قلوب
العباد بين إصبعين وقال: وكتب التوراة بيده، وكتب كتاباً فهو عنده فوق
العرش، إلى غير ذلك مما يطول ذكره.
فإذا امتلأ العامي والصبي من الإثبات، وكاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه
الحس؛ قيل له: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " فمحا من قلبه ما نقشه الخيال،
وتبقى ألفاظ الإثبات متمكنة.
ولهذا أقر الشرع مثل هذا، فسمع منشداً يقول: وفوق العرش رب العالمينا،
فضحك.
وقال له آخر: أويضحك ربنا ؟ فقال: نعم، وقال: إنه على عرشه هكذا، كل هذا
ليقرر الإثبات في النفوس.
وأكثر الخلق لا يعرفون الإثبات إلا على ما يعلمون من الشاهد، فيقنع منهم
بذلك إلى أن يفهموا التنزيه.
فأما إذا ابتدأنا بالعامي الفارغ من فهم الإثبات، فقلنا: ليس في السماء،
ولا على العرش، ولا يوصف بيد، وكلامه صفة قائمة بذاته، وليس عندنا منه
شيء، ولا يتصور نزوله، انمحى من قلبه تعظيم المصحف، ولم يتحقق في سره
إثبات إله.
وهذه جناية عظيمة على الأنبياء، توجب نقض ما تعبوا في بيانه، ولا يجوز
لعالم أن يأتي إلى عقيدة عامي قد أنس بالإثبات فيهوشها، فإنه يفسده ويصعب
صلاحه.
فأما العالم فإنا قد أمناه لأنه لا يخفى عليه استحالة تجدد صفة الله
تعالى، وأنه لا يجوز أن يكون استوى كما يعلم، ولا يجوز أن يكون محمولاً،
ولا أن يوصف بملاصقة ومس، ولا أن ينتقل.
ولا يخفى عليه أن المراد بتقليب القلوب بين أصبعين الإعلام بالتحكم في
القلوب فإن ما يدبره الإنسان بين أصبعين هو متحكم فيه إلى الغالية.
ولا يحتاج إلى تأويل من قال: الإصبع الأثر الحسن، فالقلوب بين أثرين من
آثار الربوبية، وهما: الإقامة، والإزاغة.
ولا إلى تأويل من قال: يداه نعمتاه، لأنه إذا فهم أن المقصود الإثبات. وقد
حدثنا بما نعقل. وضربت لنا الأمثال بما نعلم، وقد ثبت عندنا بالأصل
المقطوع به أنه لا يجوز عليه ما يعرفه الحس، علمنا المقصود بذكر ذلك.
وأصلح ما نقول للعوام: أمروا هذه الأشياء كما جاءت، ولا تتعرضوا لتأويلها،
وكل ذلك يقصد به حفظ الإثبات، وهذا الذي قصده السلف.
وكان أحمد يمنع من أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، كل ذلك
ليحمل على الاتباع، وتبقى ألفاظ الإثبات على حالها.
وأجهل الناس من جاء إلى ما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه، فأضعف في
النفوس قوي التعظيم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو يشير إلى
المصحف.
ومنع الشافعي أن يحمله المحدث بعلاقته تعظيماً له.
فإذا جاء متحذلق فقال: الكلام صفة قائمة بذات المتكلم، فمعنى قوله هذا أن
ما ههنا شيء يحترم، فهذا قد ضاد بما أتى به مقصود الشرع.
وينبغي أن يفهم أوضاع الشرع ومقاصد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد
منعوا من كشف ما قد قنع الشرع، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الكلام في القدر ونهى عن الاختلاف، لأن هذه الأشياء تخرج إلى ما يؤذي.
فإن الباحث عن القدر إذا بلغ فهمه إلى أن يقول: قضى وعاقب، تزلزل
إيمانه بالعدل.
وإن قال: لم يقدر ولم يقض تزلزل إيمانه بالقدرة، والملك، فكان الأولى ترك
الخوض في هذه الأشياء.
ولعل قائلاً يقول: هذا منع لنا عن الاطلاع على الحقائق، وأمر بالوقوف مع
التقليد.
فأقول: لا، إنما أعلمك أن المراد منك الإيمان بالجمل، وما أمرت بالتنقير
لمعرفة الكنه مع أن قوى فهمك تعجز عن إدراك الحقائق.
فإن الخليل عليه الصلاة والسلام قال: أرني كيف تحيي، فأراه ميتاً حيي، ولم
يره كيف أحياه، لأن قواه تعجز عن إدراك ذلك.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي بعث ليبين للناس ما نزل إليهم،
يقنع من الناس بنفس الإقرار واعتقاد الجمل.
وكذلك كانت الصحابة، فما نقل عنهم أنهم تكلموا في تلاوة ومتلو، وقراءة
ومقروء ولا أنهم قالوا استوى بمعنى استولى ويتنزل بمعنى يرحم.
بل قنعوا بإثبات الجمل التي تثبت التعظيم عند النفوس، وكفوا كف الخيال
بقوله: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " .
ثم هذا منكر ونكير إنما يسألان عن الأصول المجملة فيقولان: من ربك ؟ وما
دينك ؟ ومن نبيك ؟.
ومن فهم هذا الفصل سلم من تشبيه المجسمة، وتعطيل المعطلة، ووقف على جادة
السلف الأول، والله الموفق.
فصل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم
قرأت هذه الآية: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُم
وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ
يَأْتِيْكُمْ بِهِ " فلاحت لي فيها إشارة كدت أطيش منها.
وذلك أنه إن كان عني بالآية نفس السمع والبصر فإن السمع آلة لإدراك
المسموعات، والبصر آلة لإدراك المبصرات، فهما يعرضان ذلك على القلب،
فيتدبر، ويعتبر. فإذا عرضت المخلوقات على السمع والبصر، أوصلا إلى القلب
أخبارها من أنها تدل على الخالق، وتحمل على طاعة الصانع، وتحذر من بطشه
عند مخالفته.
وإن عني معنى السمع والبصر، فذلك يكون بذهولهما عن حقائق ما أدركا، شغلا
بالهوى، فيعاقب الإنسان بسلب معاني تلك الآلات، فيرى وكأنه ما رأى ويسمع
وكأنه ما سمع، والقلب ذاهل عن ما يتأدب به، فيبقى الإنسان خاطئاً على نفسه
لا يدري ما يراد به، لا يؤثره عنده أنه يبلى، ولا تنفعه موعظة تجلى، ولا
يدري أين هو، ولا ما المراد منه، ولا إلى أين يحمل، وإنما يلاحظ بالطبع
مصالح عاجلته ولا يتفكر في خسران آجلته، لا يعتبر برفيقه، ولا يتعظ
بصديقه، ولا يتزود لطريقه كما قال الشاعر:
الناس في غفلة والموت يوقظهم ... وما يفيقون حتى ينفد العمر
يشيعون أهاليهم بجمعهم ... وينظرون إلى ما فيه قد قبروا
ويرجعون إلى أحلام غفلتهم ... كأنهم ما رأوا شيئاً ولا نظروا
وهذه حالة أكثر الناس، فنعوذ بالله من سلب فوائد الآلات، فإنها أقبح
الحالات.
نظرت فيما تكلم به الحكماء في العشق وأسبابه وأدويته وصنفت في ذلك كتاباً
سميته بذم الهوى.
وذكرت فيه عن الحكماء أنهم قالوا: سبب العشق حركة نفس فارغة، وأنهم
اختلفوا. فقال قوم منهم: لا يعرض العشق إلا لظراف الناس.
وقال آخرون: بل لأهل الغفلة منهم عن تأمل الحقائق.
إلا أنه خطر لي بعد ذلك معنى عجيب أشرحه ههنا.
وهو أنه لا يتمكن العشق إلا مع واقف جامد. فأما أرباب صعود الهمم فإنها
كلما تخايلت ما توجبه المحبة فلاحت عيوبه لها، إما بالفكر في المحبوب أو
بالمخالطة له، تسلت أنفسهم وتعلقت بمطلوب آخر.
فلا يقف على درجة العشق الموجب للتمسك بتلك الصورة، العامي عن عيوبها، إلا
جامد واقف.
فأما العشق فلا يفهم أبداً في سيرتهم، بل يوقفوا الطبع تتبع حادي فإذا
علقت الطباع محبة شخص لم يبلغوا مرتبة العشق المستأثر، بل ربما ملوا ميلاً
شديداً إما في البداية لقلة التفكر أو لقلة المخالطة والاطلاع على العيوب،
وإما لتشبث بعض الخلال الممدوحة بالنفوس من جهة مناسبة وقعت بين الشخصين،
كالظريف مع الظريف، والفطن مع الفطن، فيوجب ذلك المحبة.
فأما العشق فلا يفهم أبداً في سيرتهم، بل يوقفوا إبل الطبع تتبع حادي
الفهم، فإن للهمم متعلقاً لا تجده في الدنيا، لأنه يروم ما لا يصح وجوده
من الكمال في الأشخاص، فإذا تلمح عيوبها نفر.
وأما متعلق القلوب من محبة الخالق البارىء، فهو مانع لها من
الوقوف مع سواه. وإن كانت محبة لا تجانس محبة المخلوقين غير أن أرباب
المعرفة ولهى قد شغلهم حبه عن حب غيره.
وصارت الطباع مستغرقة لقوة معرفة القلوب ومحبتها كما قالت رابعة:
أحب حبيباً لا أعاب بحبّه ... وأحببتهم من في هواه عيوب
ولقد روي عن بعض فقراء الزهاد أنه مر بامرأة فأعجبته، فخطبها إلى أبيها،
فزوجه وجاء به إلى المنزل وألبسه غير خلقانه.
فلما جن الليل صاح الفقير: ثيابي ثيابي. فقدت ما كنت أجده، فهذه عثرة في
طريق هذا الفقير دلته على أنه منحرف عن الجادة.
وإنما تعتري هذه الحالات أرباب المعرفة بالله عز وجل وأهل الأنفة من
الرذائل.
وقد قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة فليتذكر مثانتها.
ومثال هذه الحال أن العقل يغيب عند استحلاء تناول المشتهى من الطعام، عن
التفكر في تقلبه في الفم وبلعه.
ويذهل عن الجماع عن ملاقات القاذورات لقوة غلبة الشهوة، وينسى عند بلع
الرضاب استحالته عن الغذاء، وفي تغطية تلك الأحوال مصالح.
إلا أن أرباب اليقظة يعتريهم هذا الإحساس من غير طلب له في غالب أحوالهم،
فينغص عليهم لذيذ العيش، ويوجب الأنفة من رذالة الهوى.
وعلى قدر النظر في العواقب يخف العشق عن قلب العاشق، وعلى قدر وجمود الذهن
يقوى القلق، قال المتنبي:
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
ومجموع ما أردت شرحه. أن طباع المتيقظين تترقى فلا تقف مع شخص مستحسن.
وسبب ترقيها التفكر في نقص ذلك الشخص وعيوبه، أو في طلب ما هو أم منه.
وقلوب العارفين تترقى إلى معروفها، وتتنقل في معبر الاعتبار.
فأما أهل الغفلة فجمودهم في الحالتين، وغفلتهم عن المقامين، يوجب أسرهم
وقسرهم وحيرتهم.
فصل دعاء المقر بالذنب
عرض لي أمر لي يحتاج إلى سؤال الله عز وجل ودعائه، فدعوت وسألت. فأخذ بعض
أهل الخير يدعو معي، فرأيت نوعاً من أثر الإجابة.
فقالت لي نفسي: هذا بسؤال ذلك العبد لا بسؤالك، فقلت لها: أما أنا فإني
أعرف من نفسي من الذنوب والتقصير ما يوجب منع الجواب، غير أنه يجوز أن
يكون أنا الذي أجبت، لأن هذا الداعي الصالح سليم مما أظنه من نفسي، إذ معي
انكسار تقصيري ومعه الفرح بمعاملته.
وربما كان الاعتراف بالتقصير أنجح في الحوائج، على أنني أنا وهو نطلب من
الفضل، لا بأعمالنا، فإذا وقفت أنا على قدم الانكسار معترفاً بذنوبي. وقلت
أعطوني بفضلكم فما لي في سؤالي شيء أجبت به.
وربما تلمح ذاك حسن عمله وكان صاداً له.
فلا تكسريني أيتها النفس فيكفيني كسر علمي بي لي.
ومعي من العلم الموجب للأدب، والاعتراف بالتقصير، وشدة الفقر إلى ما سألت،
ويقيني بفضل المطلوب عنه، ما ليس مع ذلك العابد، فبارك الله في عبادته.
فربما كان اعترافي بتقصيري أوفى.
قرأت من غرائب العلم، وعجائب الحكم، على بعض من يدعي العلم، فرأيته يتلوى
من سماع ذلك، ولا يطلع على غوره، ولا يشرئب إلى ما يأتي، فصرفت عن إسماعه
شيئاً آخر وقلت: إنما يصلح مثل هذا لذي لب يتلقاه تلقي العطشان الماء.
ثم أخذت من هذه إشارة هي إنه لو كان هذا يفهم ما جرى ومدحني لحسن ما صنعت
لعظم قدره عندي، ولأريته محاسن مجموعاتي وكلامي.
ولكني لما لم أره لها أهلاً صرفتها عنه، وصدفت بنظري إليه.
وكانت الإشارة: أن الله عز وجل، قد صنف هذه المخلوقات فأحسن التركيب،
وأحكم الترتيب ثم عرضها على الألباب، فأي لب أوغل في النظر مدح على قدر
فهمه فأحبه المصنف، وكذلك أنزل القرآن يحتوي على عجائب الحكم، فمن فتشه
بيد الفهم. وحادثه في خلوة الفكر. استجلب رضى المتكلم به وحظى بالزلفى
لديه.
ومن كان للذهن مستغرق الفهم بالحسيات، صرف عن ذلك المقام.
قال الله عز وجل: " سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الذِينَ يَتَكَبَّرونَ في
الأرض بِغَيْرِ الْحَقَّ " .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى