لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : صيد الخاطر الجزء التالث Empty كتاب : صيد الخاطر الجزء التالث {الأحد 3 يوليو - 11:57}

فصل عظمة الهمة


دعوت يوماً فقلت: اللهم بلغني آمالي من العلم والعمل، وأطل عمري لأبلغ ما
أحب من ذلك فعارضني وسواس من إبليس، فقال: ثم ماذا ؟ أليس الموت ؟ فما
الذي ينفع طول الحياة ؟.
فقلت له: يا أبله. لو فهمت ما تحت سؤالي علمت أنه ليس بعبث.

أليس في كل يوم يزيد علمي ومعرفتي فتكثر ثمار غرسي، فأشكر يوم
حصادي ؟.
أفيسرني أنني مت منذ عشرين سنة ؟ لا والله؛ لأني ما كنت أعرف الله تعالى
عشر معرفتي به اليوم.
وكل ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانية، وارتقيت عن حضيض
التقليد إلى يفاع البصيرة، واطلعت على علوم زاد بها قدري، وتجوهرت بها
نفسي.
ثم زاد غرسي لآخرتي، وقويت تجارتي في إنقاذ المباضعين من المتعلمين، وقد
قال الله لسيد المرسلين: " وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً " .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: لا يزيد المؤمن من عمره إلا خيراً.
وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: إن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عز وجل الإنابة.
فيا ليتني قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه حاصل رفع ونفع.


فصل حدود التعلق بالأسباب


قلوب العارفين يغار عليها من الأسباب وإن كانت لا تساكنها لأنها لما
انفردت لمعرفتها انفرد لها بتولي أمورها.
فإذا تعرضت بالأسباب محي أثر الأسباب: " وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكم فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُم شَيئاً " .
وتأمل في حال يعقوب وحذره على يوسف عليهما السلام، حتى قال: " وأَخَاف
أَنْ يأكلَهُ الذِّئْبُ " فقالوا: " فأكله الذئب " .
فلما جاء أوان الفرج، خرج يهوذا بالقميص فسبقه الريح " إنِّي لأجِدُ رِيحَ
يُوسُفَ " .
وكذلك قول يوسف عليه السلام للساقي: " اذكْرني عِند رَبّكَ " فعوقب بأن
لبث سبع سنين، وإن كان يوسف عليه السلام يعلم أنه لا خلاص إلا بإذن الله،
وأن التعرض بالأسباب مشروع، غير أن الغيرة أثرت في العقوبة.
ومن هذا قصة مريم عليها السلام: " وَكَفّلَهَا زَكَرِيَّا " فغار المسبب
من مساكنة لأسبابك " كلمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ
عِنْدَهَا زِرْقاً " .
ومن هذا القبيل ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبى الله أن
يرزق عبده المؤمن إلا ن حيث لا يحتسب.
والأسباب طريق، ولا بد من سلوكها. والعارف لا يساكنها غير أنه يجلى له من
أمرها ما لا يجلى لغيره، من أنها لا تساكن، وربما عوقب إن مال إليها وإن
كان ميلاً لا يقبله، غير أن أقل الهفوات يوجب الأدب، وتأمل عقبى سليمان
عليه السلام لما قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة، تلد كل واحدة منهن
غلاماً، ولم يقل: إن شاء الله. فما حملت إلا واحدة جاءت بشق غلام.
ولقد طرقتني حالة أوجبت التشبث ببعض الأسباب بالا أنه كان من ضرورة ذلك
لقاء بعض الظلمة، ومداراته بكلمة. فبينما أنا أفكر في تلك الحال دخل علي
قارىء فاستفت فتفاءلت بما يقرأ فقرأ: " وَلاَ تَرْكَنُوا إلى الذِينَ
ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُم النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُون " .
فبهت من إجابتي على خاطري، وقلت لنفسي: اسمعي فإنني طلبت النصر في هذه
المداراة فأعلمني القرآن أنني إذا ركنت إلى ظالم فاتني ما ركنت لأجله من
النصر.
فيا طوبى لمن عرف المسبب وتعلق به، فإنها الغاية القصوى، فنسأل الله أن
يرزقنا.

فصل الإيمان والذنوب


المؤمن لا يبالغ في الذنوب وإنما يقوى الهوى وتتوقد نيران الشهوة فينحدر.
وله مراد لا يعزم المؤمن على مواقعته، ولا على العود بعد فراغه.
ولا يستقصي في الانتقام إن غضب، وينوي التوبة قبل الزلل.
وتأمل إخوة يوسف عليهم السلام. فإنهم عزموا على التوبة قبل إبعاد يوسف
فقالوا: " اقْتُلُوا يوسُفَ " ثم زاد ذلك تعظيماً فقالوا: " أَوِ
اطْرَحُوهً أرْضاً " . ثم عزموا على الإنابة فقالوا: " وَتكُونُوا مِنْ
بَعْدِهِ قَوْماً صَالحينَ " .
فلما خرجوا به إلى الصحراء هموا بقتله بمقتضى ما في القلوب من الحسد.
فقال كبيرهم: " لاَ تَقْتُلُوا يوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابت الجُبِّ "
ولم يرد أن يموت بل يلتقطه بعض السيارة، فأجابوا إلى ذلك.
والسبب في هذه الأحوال أن الإيمان في قمع النفوس يكون على حسب قوته، فتارة
يردها عند الهم، وتارة يضعف فيردها عند العزم، وتارة عن بعض الفعل، فإذا
غلبت الغفلة، ووقع الذنب، فتر الطبع، فنهض الإيمان للعمل، فينقص بالندم
أضعاف ما التذ.

فصل علم المغرورين




أفضل الأشياء التزيد من العلم، فإنه من اقتصر على ما يعلمه فظنه
كافياً استبد برأيه، وصار تعظيمه لنفسه مانعاً له من الاستفادة. والمذاكرة
تبين له خطأه، وربما كان معظماً في النفوس فلم يتجاسر على الرد عليه.
ولو أنه أظهر الاستفادة لأهديت إليه مساويه فعاد عنها.
ولقد حكى ابن عقيل عن أبي المعالي الجويني أنه قال: إن الله تعالى يعلم
جمل الأشياء ولا يعلم التفاصيل، ولا أدري أي شبهة وقعت في وجه هذا المسكين
حتى قال هذا.
وكذلك أبو حامد حين قال: النزول التنقل، والاستواء مماسة. وكيف أصف هذا
بالفقه، أو هذا بالزهد وهو لا يدري ما يجوز على الله مما لا يجوز.
ولو أنه ترك تعظيم نفسه لرد صبيان الكتاب رأيه عليه، فبان له صدقهم.
ومن هذا الفن أبو بكر بن مقسم: فإنه عمل كتاب الاحتجاج للقراء، فأتى فيه
بفوائد، إلا أنه أفسد علمه بإجازته أن يقرأ به، ثم تفاقم ذلك منه حتى أجاز
ما يفسد المعنى، مثل قوله تعالى: " فَلَمَّا اسْتَيأسوا مِنْهُ خَلَصُوا "
. فقال: يصلح أن يقال هنا نجياً أي خلصوا كراماً براء من السرقة.
وهذا سوء فهم للقصة، فإن الذي نسب إلى السرقة فظهرت معه ما خلص؛ فما الذي
ينفع خلاصهم.
وإنما سيقت القصة ليبين أنهم أنفردوا وتشاوروا فيما يصنعون؛ وكيف يرجعون
إلى أبيهم وقد احتبس أخوهم.
فأي وجه للنجاة ها هنا ؟.
ومن تأمل كتابه رأى فيه من هذا الجنس ما يزيد على الإحصاء من هذا الفن
القبيح؛ ولو أنه أصغى إلى علماء وقته: وترك تعظيم نفسه لبان له الصواب.
غير أن اقتصار الرجل على علمه إذا مازجه نوع رؤية للنفس حبس عن إدراك
الصواب نعوذ بالله من ذلك.


فصل الإدلال بالعبادة


تأملت قوله عز وجل: " يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ
تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكم أَنْ
هَدَاكُمْ لِلإِيْمَانِ " ، فرأيت فيه معنى عجيباً.
وهو أنهم لما وهبت لهم العقول فتدبروا بها عيب الأصنام، وعلموا أنها لا
تصلح للعبادة، فوجهوا العبادة إلى من فطر الأشياء. كانت هذه المعرفة ثمرة
العقل الموهوب الذي به باينوا البهائم.
فإذا آمنوا بفعلهم الذي ندب إليه العقل الموهوب، فقد جهلوا قدر الموهوب،
وغفلوا عن وهب.
وأي شيء لهم في الثمرة والشجرة ليست ملكاً لهم ؟.
فعلى هذا كل متعبد ومجتهد في علم إنما رأى بنور اليقظة، وقوة الفهم والعقل
صواباً، فوقع على المطلوب، فينبغي أن يوجه الشكر إلى من بعث له في ظلام
الطبع القبس.
ومن هذا الفن حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار، فانحطت عليهم صخرة فسدت باب
الغار، فقالوا: تعالوا نتوسل بصالح أعمالنا، فقال كل منهم: فعلت كذا وكذا.
وهؤلاء إن كانوا لاحظوا نعمة الواهب للعصمة عن الخطأ فتوسلوا بإنعامه
عليهم الذي أوجب تخصيصهم بتلك النعمة عن أبناء جنسهم، فبه توسلوا إليه.
وإن كانوا لاحظوا أفعالهم، فلمحوا جزاءها ظناً منهم أنهم هم الذين فعلوا،
فهم أهل غيبة لا حضور ويكون جواب مسألتهم لقطع مننهم الدائمة.
ومثل هذا رؤية المتقي تقواه حتى إنه يرى أنه أفضل من كثير من الخلق.
وربما احتقر أهل المعاصي وتشمخ عليهم. وهذه غفلة عن طريق السلوك، وربما
أخرجت.
ولا أقول لك خالط الفساق احتقاراً لنفسك، بل اغضب عليهم في الباطن وأعرض
عنهم في الظاهر ثم تلمح جريان الأقدار عليهم فأكثرهم لا يعرف لمن عصى ؟.
وجمهورهم لا يقصد العصيان، بل يريد موافقة هواه، وعزيز عليه أن يعصى.
وفيهم من غلب عليه تلمح العفو والحلم فاحتقر ما يأتي لقوة يقينه بالعفو.
وهذه كلها ليست باعتذار لهم، ولكن تلمحه أنت يا صاحب التقوى، واعلم أن
الحجة عليك أوفى من الحجة عليهم، لأنك تعرف من تعصي، وتعلم ما تأتي.
بل انظر إلى تقليب القلوب بين إصبعين فربما دارت الدائرة فصرت المنقطع،
ووصل المقطوع.
فالعجب ممن يدل بخير علمه، وينسى من أنعم ووفق.

فصل أثر الجهال والمبتدعين في الفكر الإسلامي



جهال المتكلمين


اعلم أن شرعنا مضبوط الأصول، محروس القواعد، لا خلل فيه ولا دخل، وكذلك كل
الشرائع.
إنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال.
مثل ما أثر عند النصارى حين رأوا إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام،
فتأملوا الفعل الخارق للعادة الذي لا يصلح للبشر، فنسبوا الفاعل إلى
الإلهية.

ولو تأملوا ذاته لعلموا أنها مركبة على النقائص والحاجات، وهذا
القدر يكفي في عدم صلاح إلهيته، فيعلم حينئذ أن ما جرى على يديه فعل غيره.
وقد يؤثر ذلك في الفروع. مثل ما روي أنه فرض على النصارى صوم شهر فزادوا
عشرين يوماً، ثم جعلوه في فصل من السنة بآرائهم.
ومن هذا الجنس تخبيط اليهود في الأصول والفروع، وقد قارب الضلال في أمتنا
هذه المسالك، وإن كان عمومهم قد حفظ من الشرك والشك والخلاف الظاهر الشنيع
لأنهم أعقل الأمم وأفهمها.
غير أن الشيطان قارب بهم ولم يطمع في إغراقهم، وإن كان قد أغرق بعضهم في
بحار الضلال.
فمن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم: جاء بكتاب عزيز من الله عز وجل قيل
في صفته: " مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ " وبين ما عساه
يشكل مما يحتاج إلى بيانه بسنته كما قيل له: " لِتُبَيِّن لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلِ إِلَيْهِم " . فقال بعد البيان: تركتكم على بيضاء نقية.
فجاء أقوام فلم يقنعوا بتبيينه، ولم يرضوا بطريقة أصحابه، فبحثوا ثم
انقسموا.
فمنهم: من تعرض لما تعب الشرع في إثباته في القلوب فمحاه منها، فإن القرآن
والحديث يثبتان الإله عز وجل بأوصاف تقرر وجوده في النفوس، كقوله تعالى: "
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ " وقوله تعالى: " بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ " وقوله تعالى: " وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي " وقول النبي
صلى الله عليه وسلم: ينزل الله إلى السماء الدنيا ويبسط يده لمسيء الليل
والنهار، ويضحك ويغضب.
وكل هذه الأشياء - وإن كان ظاهرها يوجب تخايل التشبيه - فالمراد منها
إثبات موجود، فلما علم الشرع ما يطرق القلوب من التوهمات عند سماعها قطع
ذلك بقوله: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " .
ثم إن هؤلاء القوم عادوا إلى القرآن الذي هو المعجز الأكبر. وقد قصد الشرع
تقرير وجوده فقال: " إنَّا أَنْزَلْنَاهُ " ، " نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الأمِينُ " ، " فَذَرْني وَمَنْ يُكَذِّبُ بهذَا الْحّدِيثِ " ، " وَهذَا
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ " . وأثبته في القلوب بقوله تعالى: " فيْ صُدُورِ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمِ " ، وفي المصاحف بقوله تعالى: " فِي لَوْحٍ
مَحفوظٍ " وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض
العدو.
فقال قوم من هؤلاء: مخلوق، فأسقطوا حرمته من النفوس، وقالوا: لم ينزل ولا
يتصور نزوله، وكيف تنفصل الصفة عن الموصوف، وليس في المصحف إلا حبر وورق ؟
فعادوا على ما تعب الشارع في إثباته بالمحو.
كما قالوا: إن الله عز وجل ليس في السماء، ولا يقال استوى على العرش، ولا
ينزل إلى السماء الدنيا، بل ذاك رحمته، فمحوا من القلوب ما أريد إثباته
فيها، وليس هذا مراد الشارع.
وجاء آخرون فلم يقفوا على ما حده الشرع، بل عملوا فيه بآرائهم فقالوا:
الله على العرش، ولم يقنعوا بقوله: " ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ " .
ودفن لهم أقوام من سلفهم دفائن، ووضعت لهم الملاحدة أحاديث، فلم يعلموا ما
يجوز عليه مما لا يجوز، فأثبتوا بها صفات - جمهور الصحيح منها آت على توسع
العرب - فأخذوه هم على الظاهر، فكانوا في ضرب المثل كجحا، فإن أمه قالت
له: احفظ الباب، فقلعه ومشى به، فأخذ ما في الدار، فلامته أمه. فقال: إنما
قلت احفظ الباب، وما قلت احفظ الدار.
ولما تخايلوا صورة عظيمة على العرش، أخذوا يتأولون ما ينافي وجودها على
العرش، مثل قوله: ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة. فقالوا: ليس المراد به دنو
الاقتراب، وإنما المراد قرب المنزل والحظ.
وقالوا في قوله تعالى: " إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ " .
هو محمول على ظاهرها في مجيء الذات. فهم يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً.
ويسمون الإضافات إلى الله تعالى صفات، فإنه قد أضاف إليه النفخ والروح.
وأثبتوا خلقه باليد، فلو قالوا خلقه بقدرته لم يمكن إنكار هذا بل قالوا هي
صفة تولي بها خلق آدم دون غيره. فأي مزية كانت تكون لآدم ؟.
فشغلهم النظر في فضيلة آدم، عن النظر إلى ما هو يليق بالحق مما لا يليق به.
فإنه لا يجوز عليه المس، ولا العمل بالآلات، وإنما آدم أضافه إليه. فقالوا
نطلق على الله تعالى اسم الصورة لقوله: خلق آدم على صورته.
وفهموا هذا الحديث وهو قوله عليه السلام: إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه،
ولا يقل قبح الله وجهك ولا وجهاً أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته.



فلو كان المراد به الله عز وجل لكان وجه الله سبحانه يشبه وجه
هذا المخاصم لأن الحديث كذا جاء - ولا وجهاً أشبه وجهك - ورووا حديث خولة
بنت حكيم: وإن آخر وطئة وطئها الله بوج. وما علموا النقل ولا السير، وقول
الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم اشدد وطأتك على مضر، وأن المراد به آخر
وقعة قاتل فيها المسلمون بوج. وهي غزاة حنين. فقالوا: نحمل الخبر على
ظاهره وأن الله وطىء ذلك المكان.
ولا شك أن عندهم أن الله تعالى كان في الأرض ثم صعد إلى السماء، وكذلك
قالوا في قوله: إن الله لا يمل حتى تملوا. قالوا: يجوز أن الله يوصف
بالملل فجهلوا اللغة وما علموا أنه لو كانت حتى ههنا للغاية لم تكن بمدح
لأنه إذا مل حين يمل فأي مدح وإنما هو كقول الشاعر:
جلبت مني هذيل بخرق ... لا يمل الشر حتى يملوا
والمعنى لا يمل وإن ملوا.
وقالوا في قوله عليه الصلاة والسلام: الرحم شجنة من الرحمن تتعلق بحقوي
الرحمن. فقالوا - الحقو - صفة ذات وذكروا أحاديث لو رويت في نقض الوضوء ما
قبلت.
وعمومها وضعته الملاحدة كما يروى عن عبد الله بن عمرو. وقال: خلق الله
الملائكة من نور الذراعين والصدر. فقالوا: نثبت هذا على ظاهره. ثم أرضوا
العوام بقولهم ولا نثبت جوارح، فكأنهم يقولون فلان قائم وما هو قائم.
فاختلف قولهم هل يطلق على الله عز وجل أنه جالس أو قائم كقوله تعالى: "
قائماً بالقسط " .
وهؤلاء أخس فهما من جحا لأن قوله قائماً بالقسط لا يراد به القيام وإنما
هو كما يقال: الأمير قائم بالعدل.
وإنما ذكرت بعض أقوالهم لئلا يسكن إلى شيء منها فالحذر من هؤلاء فما لهم
فقه ولا عبادة.
وإنما الطريق طريق السلف على أنني أقول لك قد قال أحمد بن حنبل رحمة الله
عليه: من ضيق علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال فلا ينبغي أن تسمع من معظم
في النفوس شيئاً في الأصول فتقلده فيه.
ولو سمعت عن أحدهم ما لا يوافق الأصول الصحيحة فقل: هذا من الراوي، لأنه
قد ثبت عن ذلك الإمام أنه لا يقول بشيء من رأيه.
فلو قدرنا صحته عنه فإنه لا يقلد في الأصول ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله
عنهما.
فهذا أصل يجب البناء عليه فلا هو يهولنك ذكر معظم في النفوس.
وكان المقصود من شرح هذا أن ديننا سليم، وإنا أدخل أقوام فهي ما تأذينا به.


جهال الزهاد


ولقد أدخل المتزهدون في الدين، ما ينفر الناس منه، حتى إنهم يرون أفعالهم
فيستبعدون الطريق.
وأكثر أدلة هذه الطريق القصاص، فإن العامي إذا دخل إلى مجلسهم وهو لا يحسن
الوضوء كلموه بدقائق الجنيد، وإشارات الشبلي، فرأى ذلك العامي أن الطريق
الواضح لزوم زاوية وترك الكسب للعائلة ومناجاة الحق في خلوة على زعمه.
مع كونه لا يعرف أركان الصلاة، ولا أدبه العلم، ولا قوم أخلاقه شيء من
مخالطة العلماء.
فلا يستفيد من خلوته إلا كما يستفيد الحمار من الاصطبل.
فإن امتد عليه الزمان في تقلله زاد يبسه فربما خايلت له الماليخوليا
أشباحاً يظنهم الملائكة ثم يطأطىء رأسه، ويمد يده للتقبيل.
فكم قد رأينا من أكار ترك الزرع وقعد في زاوية، فصار إلى هذه الحالة
فاستراح من تعبه.
فلو قيل له عد مريضاً، قال: ما لي عادة. فلعن الله عادة تخالف الشريعة.
فيرى العامة بما يورده القصاص أن طريق الشرع هذه لا التي عليها الفقهاء،
فيقعون في الضلال.
ومن المتزهدين من لا يبالي عمل بالشرع أم لا.
ثم يتفاوت جهالهم، فمنهم من سلك مذهب الإباحة ويقول الشيخ لا يعارض،
وينهمك في المعاصي.
ومنهم: من يحفظ ناموسه فيفتي بغير علم، لئلا يقال: الشيخ لا يردي ؟.
ولقد حدثني الشيخ أبو حكيم رحمة الله عليه: أن الشريف الدحالي - وكان يقصد
فيزار ويتبرك به - حضر عنده يوماً فسئل أبو حكيم - هل تحل المطلقة ثلاثاً
إذا ولدت ذكراً - قال: فقلت لا والله، فقال لي الشريف: اسكت فوالله لقد
أفتيت الناس بأنها تحل من ههنا إلى البصرة.
وحكى لي الشيخ أبو حكيم أن جد آذاد الحداد وكان يتوسم بالعلم، جاءت إليه
امرأة فزوجها من رجل ولم يسأل عن انقضاء العدة، فاعترضها الحاكم وفرق
بينها وبين الزوج، وأنكر على المزوج.
فلقيته المرأة. فقالت: يا سيدي أنا امرأة لا أعلم فكيف زوجتني ؟ فقال: دعي
حديثهم ما أنت إلا طاهرة مطهرة.

وحدثني بعض الفقهاء عن رجل من العباد أنه كان يسجد للسهو سنين،
ويقول والله ما سهوت ولكن أفعله احترازاً، فقال له الفقيه: قد بطلت صلاتك
كلها لأنك زدت سجوداً غير مشروع.


أثر المتصوفة


ثم من الدخل الذي دخل ديننا طريق المتصوفة فإنهم سلكوا طرقاً أكثرها تنافي
الشريعة، وأهل التدين منهم يقللون ويخفقون.
وهذا ليس بشرع، حتى إن رجلاً كان قريباً من زماني يقال له كثير، دخل إلى
جامع المنصور وقال. عاهدت الله عهداً ونقضته، فقد ألزمت نفسي أن لا تأكل
أربعين يوماً.
فحدثني من رآه أنه بقي عشرة أيام ثم في العشر الرابع، أشرف على الموت.
قال: فما انقضت حتى تفرغ فصب في حلقه ماء فسمعنا له نشيشاً كنشيش المقلاة
ثم مات بعد أيام.
فانظروا إلى هذا المسكين وما فعله به جهله.
ومنهم من فسخ لنفسه في كل ما يحب من التنعم واللذات واقتنع من التصوف
بالقميص والفوطة والعمامة اللطيفة، ولم ينظر من أين يأكل ولا من أين يشرب،
وخالط الأمراء من أرباب الدنيا، ولباس الحرير، وشراب الخمور، حفظاً لماله
وجاهه.
ومنهم أقواماً عملوا سننا لهم تلقوها من كلمات أكثرها لا يثبت.
ومنهم من أكب على سماع الغناء والرقص واللعب ثم انقسم هؤلاء، فمنهم من
يدعي العشق فيه، ومنهم من يقول بالحلول، ومنهم يسمع على وجه الهوى واللعب.
وكلا الطريقين يفسد العوام الفساد العام.
وهذا الشرح يطول وقد صنفت كتباً ترى فيها البسط الحسن إن شاء الله تعالى،
منها تلبيس إبليس.
والمقصود أن تعلم أن الشرع تام كامل فإن رزقت فهماً له فأنت تتبع الرسول
صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتترك بنيات الطريق ولا تقلد في دينك الرجال.
فإن فعلت فإنك لا تحتاج إلى وصية أخرى.
واحذر جمود النقلة، وانبساط المتكلمين، وجموع المتزهدين، وشره أهل الهوى،
ووقوف العلماء على صورة العلم من غير عمل، وعمل المتعبدين بغير علم.
ومن أيده الله تعالى بلطفه، رزقه الفهم، وأخرجه عن ربقة التقليد، وجعله
أمة وحده في زمانه، لا يبالي بمن عبث ولا يلتفت إلى من لام. قد سلم زمامه
إلى دليل واضح السبيل.
عصمنا الله وإياكم من تقليد المعظمين وألهمنا اتباع الرسول صلى الله عليه
وسلم، فإنه درة الوجود، ومقصود الكون صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه
وأتباعه ورزقنا اتباعه مع أتباعه.

فصل التقوى خير حافظ


اعلم أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل: " وتلكَ الأيامُ نداولها
بينَ الناس " .
فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة يفرح الموالي، وتارة
يشمت الأعادي.
فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال، وهو تقوى الله عز وجل فإنه إن
استغنى زانته، وإن افتقر فتحت له أبواب الصبر، وإن عوفي تمت النعمة عليه،
وإن ابتلى حملته، ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعد، أو أعراه أو أشبعه أو
أجاعه.
لأن جميع تلك الأشياء تزول وتتغير والتقوى أصل السلامة حارس لا ينام، يأخذ
باليد عند العثرة، ويوافق على الحدود.
والمنكر من غرته لذة حصلت مع عدم التقوى فإنها ستحول وتخليه خاسراً.
ولازم التقوى في كل حال فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة، وفي المرض إلا
العافية.

فصل قمع الشهوة


تأملت أمراً عجيباً، وأصلاً ظريفاً، وهو انهيال الابتلاء على المؤمن. وعرض
صورة اللذات عليه مع قدرته على نيلها. وخصوصاً ما كان في غير كلفة من
تحصيله كمحبوب موافق في خلوة حصينة.
فقلت: سبحان الله ههنا بين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين.
والله ما صعد يوسف عليه السلام ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام، فبالله
عليكم يا إخواني، تأملوا حاله لو كان وافق هواه من كان يكون ؟.
وقيسوا بين تلك الحالة، وحالة آدم عليه السلام، ثم زنوا بميزان العقل عقبى
تلك الخطيئة، وثمرة هذا الصبر.
واجعلوا فهم الحال عدة لكم عند كل مشتهى.
وإن اللذات لتعرض على المؤمن، فمتى لقيها في صف حربه وقد تأخر عنه عسكر
التدبر للعواقب هزم.
وكأني أرى الواقع في بعض أشراكها ولسان الحال يقول له قف مكانك؛ أنت وما
اخترت لنفسك.
فغاية أمره الندم والبكاء.
فإن أمن إخراجه من تلك الهوة لم يخرج إلا مدهوناً بالخدوش.
وكم من شخص زلت قدمه فما ارتفعت بعدها.
ومن تأمل ذل إخوة يوسف عليهم السلام يوم قالوا: " وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا "
عرف شؤم الزلل.

ومن تدبر أحوالهم قاس ما بينهم وبين أخيهم من الفروق. وإن كانت
توبتهم قبلت، لأنه ليس من رقع وخاط كمن ثوبه صحيح.
ورب عظم هيض لم ينجبر، فإن جبر فعلى وهى.
فتيقظوا إخواني لعرض المشتهيات على النفوس، واستوثقوا من لجم الخيل.
وانتبهوا للغيم إذا تراكم بالصعود إلى تلعة.
فربما مد الوادي فراح بالركب.


فصل فضل الله في الإجابة


تأملت حالة عجيبة وهي أن المؤمن تنزل به النازلة فيعدو، ويبالغ، فلا يرى
أثراً للإجابة.
فإذا قارب اليأس نظر حينئذ إلى قلبه، فإن كان راضياً بالأقدار، غير قنوط
من فضل الله عز وجل، فالغالب تعجيل الإجابة حينئذ لأن هناك يصلح الإيمان
ويهزم الشيطان، وهناك تبين مقادير الرجال.
وقد أشير إلى هذا في قوله تعالى: " حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والذينَ
آمنوا مَعَه: متى نَصْرُ اللهِ " .
وكذلك جرى ليعقوب عليه السلام فإنه لما فقد ولداً وطال الأمر عليه لم ييأس
من الفرج فأخذ ولده الآخر ولم ينقطع أمله من فضل ربه: " أَنْ يَأْتِيَنِي
بهم جَميعاً " .
وكذلك قال زكريا عليه السلام: " ولم أكنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً " .
فإياك أن تستطيل مدة الإجابة وكن ناظراً إلى أنه المالك وإلى أنه الحكيم
في التدبير والعالم بالمصالح، وإلى أنه يريد اختبارك ليبلو أسرارك، وإلى
أنه يريد أن يرى تضرعك، وإلى أنه يريد أن يأجرك بصبرك إلى غير ذلك. وإلى
أنه يبتليك بالتأخير لتحارب وسوسة إبليس.
وكل واحدة من هذه الأشياء تقوي الظن في فضله وتوجب الشكر له إذ أهلك
بالبلاء للالتفات إلى سؤاله، وفقر المضطر إلى اللجأ إليه غنى كله.

فصل أسرار الغرائز


لما كان بدن الآدمي لا يقوم إلا باجتلاب المصالح ودفع المؤذي، ركب فيه
الهوى ليكون سبباً لجلب النافع. والغضب ليكون سبباً لدفع المؤذي.
ولولا الهوى في المطعم، ما تناول الطعام، فلم يقم بدنه فجعل له إليه ميل
وتوق.
فإذا حصل له قدر ما يقيم بدنه زال التوق، وكذلك في المشرب والملبس والمنكح.
وفائدة المنكح من وجهين، أحدهما: إبقاء الجنس وهو معظم المقصود، والثاني:
دفع الفضلة المحتقنة المؤذي احتقانها.
ولولا تركيب الهوى المائل بصاحبه إلى النكاح ما طلبه أحد، ففات النسل وآذى
المحتقن.
فأما العارفون فإنهم فهموا المقصود، وأما الجاهدون فإنهم مالوا مع الشهوة
والهوى ولم يفهموا مقصود وضعها فضاع زمانهم فيما لا طائل فيه، وفاتهم ما
خلقوا لأجله وأخرجهم هواهم إلى فساد المال وذهاب العرض والدين، ثم أداهم
إلى التلف.
وكم قد رأينا من متنعم يبالغ في شراء الجواري ليحرك طبعه بالمستجد فما كان
بأسرع من أن وهنت قواه الأصلية فتعجل تلفه.
وكذلك رأينا من زاد غضبه فخرج عن الحد ففتك بنفسه وبمن يحبه.
فمن علم أن هذه الأشياء إنما خلقت إعانة للبدن على قطع مراحل الدنيا، ولم
تخلق لنفس الالتذاذ وإنما جعلت اللذة فيها كالحيلة في إيصال النفع بها
رشد، إذ لو كان المقصود التنعم بها لما جعلت الحيوانات البهيمة أوفى حظاً
من الآدمي منها.
فطوبى لمن فهم حقائق الوضع، ولم يمل به الهوى عن فهم حكم المخلوقات.

فصل النتيجة بحسب الأسباب


من تأمل عواقب المعاصي رآها قبيحة.
ولقد تفكرت في أقوام أعرفهم يقرون بالزنا وغيره، فأرى من تعترهم في الدنيا
مع جلادتهم ما لا يقف عند حد.
وكأنهم قد ألبسوا ظلمة، فالقلوب تنفر عنهم.
فإن اتسع لهم شيء فأكثره من مال الغير، وإن ضاق بهم أمر أخذوا يتسخطون على
القدر.
هذا وقد شغلوا بهذه الأوساخ عن ذكر الآخرة.
ثم عكست فتفكرت في أقوام صابروا الهوى، وتركوا ما لا يحل.
فمنهم من قد أينعت له ثمرات الدنيا من قوت مستلذ، ومهاد مستطاب، وعيش
لذيذ، وجاء عريض، فإن ضاق بهم أمر وسعه الصبر، وطيبه الرضى، ففهمت بالحال
معنى قوله تعالى: " إِنَّهُ مَنْ يَتّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ
يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِين " .

فصل التذلل إلى الله تعالى


ينبغي للعاقل أن يلازم باب مولاه على كل حال، وأن يتعلق بذيل فضله إن عصى
وإن أطاع.
وليكن له أنس في خلوته به، فإن وقعت وحشة فليجتهد في رفع الموحش، كما قال
الشاعر:
أمستوحش أنت مما جني ... ت فأحسن إذا شئت واستأنس
فإن رأى نفسه مائلاً إلى الدنيا طلبها منه، أو إلى الآخرة سأله
التوفيق للعمل لها.
فإن خاف ضرر ما يرومه من الدنيا سأل الله إصلاح قلبه، وطب مرضه، فإنه إذا
صلح لم يطلب ما يؤذيه.
ومن كان هكذا كان في العيش الرغد غير أن من ضرورة هذه الحال ملازمة
التقوى، فإنه لا يصلح الأنس إلى بها.
وقد كان أرباب التقوى يتشاغلون عن كل شيء إلا عن اللجأ والسؤال.
وفي الخبر: إن قتيبة بن مسلم لما صاف الترك هاله أمرهم فقال: أين محمد بن
واسع ؟ فقيل: هو في أقصى الميمنة جانح على سية قوسه يومىء بإصبعه نحو
السماء، فقال قتيبة: تلك الأصبع الفاردة أحب إلي من مائة ألف سيف شهير،
وسنان طرير، فلما فتح عليهم قال له: ما كنت تصنع ؟ قال: آخذ لك بمجامع
الطرق.
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : صيد الخاطر الجزء التالث Empty رد: كتاب : صيد الخاطر الجزء التالث {الأحد 3 يوليو - 11:59}

فصل الثرثرة بالنعم


ينبغي لمن تظاهرت نعم الله عز وجل عليه أن يظهر منها ما يبين أثرها، ولا
يكشف جملتها، وهذا من أعظم لذات الدنيا التي يأمر الحزم بتركها، فإن العين
حق.
وإني تفقدت النعم فرأيت إظهارها حلواً عند النفس، إلا أنها أظهرت لوديد لم
يؤمن تشعث باطنه بالغيظ.
وإن أظهر لعدو فالظاهر إصابته لموضع الحسد، إلا أنني رأيت شر الحسود
كاللازم، فإنه في حال البلاء يتشفى، وفي حال النعم يصيب بالعين.
ولعمري إن المنعم عليه يشتهي غيظ حسوده، ولكنه لا يؤمن أن يخاطر بنعمته،
فإن الغالب إصابة الحاسد لها بالعين، فلا يساوي الالتذاذ بإظهار ما غيظ به
ما أفسدت عينه بإصابتها.
وكتمان الأمور في كل حال فعل الحازم، فإنه إن كشف مقدار سنه استهرموه إن
كان كبيراً، واحتقروه إن كان صغيراً.
وإن كشف ما يعتقده ناصبه الأضداد بالعداوة: وإن كشف قدر ماله استحقروه إن
كان قليلاً، وحسدوه إن كان كثيراً، وفي هذه الثلاثة يقول الشاعر:
احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ... سن ومال ما استطعت ومذهب
فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة ... بمموّه وممخرق ومكذب
وقس على ما ذكرت ما لم أذكره، ولا تكن من المذاييع الغر الذين لا يحملون
أسرارهم حتى يفشوها إلى من لا يصلح.
ورب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان.

فصل تتابع العثرات


رأيت كل من يعثر بشيء أو يزلق في مطر يلتفت إلى ما عثر به، فينظر إليه،
طبعاً موضوعاً في الخلق.
إما ليحذر منه إن جاز عليه مرة أخرى، أو لينظر - مع احترازه وفهمه - كيف
فاته التحرز من مثل هذا.
فأخذت من ذلك إشارة وقلت: يا من عثر مراراً هلا أبصرت ما الذي أعثرك
فاحترزت من مثله، أو قبحت لنفسك مع حزمها تلك الواقعة.
فإن الغالب ممن يلتفت أن معنى التفاته كيف عثر مثلي مع احترازه بمثل ما
أرى.
فالعجب لك كيف عثرت بمثل الذنب الفلاني والذنب الفلاني ؟.
كيف غرك زخرف تعلم بعقلك باطنه، وترى بعين فكرك مآله ؟ كيف آثرت فانياً
على باق ؟ كيف بعت بوكس ؟ كيف اخترت لذة رقدة على انتباه معاملة.
آه لك لقد اشتريت بما بعت أحمال ندم لا يقلها ظهر، وتنكيس رأس أمسى بعيد
الرفع، ودموع حزن على قبح فعل ما لمددها انقطاع.
وأقبح الكل، أن يقال لك: بماذا ؟ ومن أجل ماذا ؟ وهذا على ماذا ؟ يا من
قلب الغرور عليه الصنجة ووزن له والميزان راكب.
؟فصل ثمرة التقوى تأملت قوله تعالى: " فَمنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ
يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى " .
قال المفسرون: هداي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابي.
فوجدته على الحقيقة أن كل من اتبع القرآن والسنة وعمل بما فيهما، فقد سلم
من الضلال بلا شك، وارتفع في حقه شقاء الآخرة بلا شك، إذا مات على ذلك.
وكذلك شقاء الدنيا فلا يشقى أصلاً، ويبين هذا قوله تعالى: " وَمَنْ يَتّقِ
اللّهَ يَجْعلْ لَهُ مَخْرجاً " .
فإن رأيته في شدة فله من اليقين بالجزاء ما يصير الصاب عنده عسلاً.
وإلا غلب طيب العيش في كل حال.
والغالب أنه لا ينزل به شدة إلا إذا انحرف عن جادة التقوى.
فأما الملازم لطريق التقوى فلا آفة تطرقه، ولا بلية تنزل به، هذا هو
الأغلب فإن وجد من تطرقه البلايا مع التقوى، فذاك في الأغلب لتقدم ذنب
يجازي عليه، فإن قدرنا عدم الذنب. فذاك لإدخال ذهب صبره كير البلاء حتى
يخرج تبراً أحمر، فهو يرى عذوبة العذاب. لأنه يشاهد المبتلي في البلاء
الألم.
قال الشبلي:
أحبك الناس لنعمائك ... وأنا أحبك لبلائك

فصل الاستكانة للمعصية


لا ينال لذة المعاصي إلا سكران بالغفلة.
فأما المؤمن فإنه لا يلتذ لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علم التحريم، وحذر
العقوبة.
فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي فيتنغص عيشه في حال التذاذه.
فإن غلب سكر الهوى كان القلب متنغصاً بهذه المراقبات، وإن كان الطبع في
شهوته.
وما هي إلا لحظة، ثم خذ من غريم ندم ملازم، وبكاء متواصل، وأسف على ما كان
مع طول الزمان.
حتى أنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذر العتاب، فأف للذنوب ما أقبح آثارها
وما أسوأ أخبارها، ولا كانت شهوة لا تنال إلا بمقدار قوة الغفلة.

فصل زهد يهدم الدين والدنيا


بكرت يوماً أطلب الخلوة إلى جامع الرصافة، فجعلت أجول وحدي وأتفكر في ذلك
المكان ومن كان به من العلماء والصالحين.
ورأيت أقواماً قد جاوروا فيه فسألت أحدهم: منذ كم أنت ها هنا ؟ فأومأ إلى
قريب من أربعين سنة.
فرأيته في بيت كثير الدرن والوسخ. وجعلت أتفكر في حبسه لنفسه عن النكاح
هذه المدة، فأخذت النفس تحسن ذلك، وتذم الدنيا والاغترار بها.
فأقبل العلم ينكر على النفس، وخضه الفهم لحقائق الأمور، وموضوع الشرع يقوي
ما قال العلم. فينحل من ذلك أن قلت للنفس: اعلمي أن هؤلاء على ضربين.
منهم من يجاهد نفسه في الصبر على هذه الأحوال فتفوته فضائل المخالطة لأهل
العلم والعمل وطلب الولد، ونفع الخلق، وانتفاع نفسه بمجالسة أهل الفهم،
فيحدث له من نفسه حالة تشابه فيها الوحش فتؤثر الانفراد لنفس الانفراد.
وربما يبس الطبع، وساء الخلق، وربما حدث من حبس مائه المحتقن سمية أفسدت
بدنه وعقله، وربما أورثته الخلوة وسوسة، وربما ظن أنه من الأولياء واستغنى
بما يعرفه، وربما خيل له الشيطان أشياء من الخيالات وهو يعدها كرامات
وربما ظن أن الذي هو فيه الغاية ولا يدري أنه إلى الكراهة أقرب.
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى أن يبيت الرجل وحده، وهؤلاء كل
منهم يبيت وحده، ونهى عن التبتل وهذا تبتل، ونهى عن الرهبانية وهذا من خفي
خدع إبليس التي يوقع بها في ورطات الضلال بألطف وجه وأخفاه.
والضرب الثاني: مشايخ قد فنوا فانقطعوا ضرورة، إذ ليس لأحدهم مأوى، فهم في
مقام الزمنى.
وإن كان الضرب الأول قد قطعوا حبل نفوسهم في العلم والعمل والكسب وتعلقت
هممهم بفتوح يطرق عليهم الباب، فرضوا بالعمى بعد البصر، وبالزمن بعد
الإطلاق.
فقالت لي النفس: لا أرضى هذا الذي تقوله، فإنك إنما تميل إلى إيثار نكاح
المستحسنات والمطاعم المشتهيات. فإذا لم تكن من أهل التعبد فلا تطعن فيهم.
فقلت لها: إن فهمت حدثتك وإن كنت تقلدين صور الأحوال فلا فهم لك.
أما المستحسنات فإن المقصود من النكاح أشياء منها طلب الولد، ومنها شفاء
النفس بإخراج الفضلة المؤذية، وكمال خروجها لا يكون إلا بوجود المستحسن.
واعتبر هذا بالوطء دون الفرج فإنه يخرج من الفضلات ما لا يخرج بالوطء في
الفرج وبتمام خروج تلك الفضلة تفرغ النفس عن شواغلها فتدري أين هي.
كما نأمر القاضي بالأكل قبل الحكم، وننهاه عن الحكم وهو غضبان أو حاقن.
وبكمال بلوغ هذا الغرض يكون كمال الولد لتمام النطفة التي تخلق منها.
ثم للنفس حظ فهو يستو فيه استيفاء الناقة حظها من العلف في السفر، وذلك
يعين على سيرها.
وأما المطاعم فالجاهل من يطلبها لذاتها أو لنفس لذاتها. وإنما المراد
إصلاح الناقة لجمع هممها، ونيل مرادها من غرضها الصارف لها عن الفكر في
هواها.
وإذا تأملت حال الشرب الأول رأيت من هذا عجباً، فإن النبي صلى الله عليه
وسلم اختار لنفسه عائشة رضي الله عنها وكانت مستحسنة ورأى زينب فاستحسنها
فتزوجها وكذلك اختار صفية وكان إذا وصفت له امرأة بعث يخطبها. وكان لعلي
رضي الله عنه أربع حرائر، وسبع عشرة سرية مات عنهن.
وقبل هذه الأمة فقد كان لداود عليه السلام مائة امرأة ولسليمان عليه
السلام ألف امرأة، فمن ادعى خللاً في هذه الطرق، أو أن هؤلاء آثروا هواهم،
وأنفقوا بضائع العمر في هذه الأغراض وغيرها أفضل. فقد ادعى على الكاملين
النقصان وإنما هو الناقص في فهمه لا هم.
وقد كان سفيان الثوري إذا سافر ففي سفرته حمل مشوية وفالوذج، وكان حسن
المطعم، وكان يقول إن الدابة إذا لم تحسن إليها لم تعمل.

وهذه الفنون التي أشرت إليها أن قصدت للحاجة إليها، أو لقضاء وطر
النفس منها، أو لبلوغ الأغراض الدينية والدنيوية منها، فكله قصد صحيح لا
يعكر عليه من يقوم ويقعد في ركعات لا يفهم معناها، وفي تسبيحات أكثر
ألفاظها ردية.
كلا ليس إلا العلم الذي هو أفضل الصفات، وأشرف العبادات، وهو الآمر
بالمصالح، والناطق بالنصائح.
ثم منفعة العلم معروفة، وزهد الزاهد لا يتعدى عتبة بابه، وقد قال صلى الله
عليه وسلم: لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس.
ثم اعتبر فضل الرسل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والجوارح على التي
لا تصيد. والطين الذي يعمل منه ما ينتفع به على الطين في المطلع.
وغاية العلماء تصرفهم بالعلم في المباح، وأكثر المتزهدين جهلة يستعبدهم
تقبيل اليد لأجل تركهم ما أبيح.
فكم فوتت العزلة علماً يصلح به أصل الدين، وكم أوقعت في بلية هلك بها
الدين، وإنما عزلة العالم عن الشر فحسب، والله الموفق.


فصل نهاية العصاة


ينبغي لكل ذي لب وفطنة أن يحذر عواقب المعاصي. فإنه ليس بين الآدمي وبين
الله تعالى قرابة ولا رحم، وإنما هو قائم بالقسط، حاكم بالعدل.
وإن كان حلمه يسع الذنوب، إلا أنه شاء عفا فعفا كل كثيف من الذنوب، وإذا
شاء أخذ وأخذ باليسير، فالحذر الحذر.
ولقد رأيت أقواماً من المترفين كانوا يتقلبون في الظلم والمعاصي الباطنة
والظاهرة، فتعبوا من حيث لم يحتسبوا. فقلعت أصولهم. ونقض ما بنوا من قواعد
أحكموها لذراريهم.
وما كان ذلك إلا أنهم أهملوا جانب الحق عز وجل، وظنوا أن ما يفعلونه من
خير يقاوم ما يجري من شر، فمالت سفينة ظنونهم. فدخلها من ماء الكيد ما
أغرقهم.
ورأيت أقواماً من المنتسبين إلى العلم أهملوا نظر الحق عز وجل إليهم في
الخلوات. فمحا محاسن ذكرهم في الجلوات. فكانوا موجودين كالمعدومين، لا
حلاوة لرؤيتهم، ولا قلب يحن إلى لقائهم.
فالله الله في مراقبة الحق عز وجل. فإن ميزان عدله تبين فيه الذرة، وجزاؤه
مرصد للمخطىء ولو بعد حين.
وربما ظن أنه العفو - وإنما هو إمهال - وللذنوب عواقب سيئة.
فالله الله الخلوات. الخلوات.
البواطن البواطن. النيات النيات.
فإن عليكم من الله عيناً ناظرة.
وإياكم والاغترار بحلمه وكرمه، فكم قد استدرج.
وكونوا على مراقبة الخطايا مجتهدين في محوها.
وما شيء ينفع كالتضرع مع الحمية عن الخطايا، فلعله...
وهذا فصل إذا تأمله المعامل لله تعالى نفعه.
ولقد قال بعض المراقبين لله تعالى: قدرت على لذة هي غاية وليست بكبيرة.
فنازعتني نفسي إليه، اعتماداً على صغرها، وعظم فضل الله تعالى وكرمه.
فقلت لنفسي: إن غلبت هذه فأنت أنت، وإذا أتيت هذه فمن أنت ؟.
وذكرتها حالة أقوام كانوا يفسحون لأنفسهم في مسامحة كيف انطوت أذكارهم،
وتمكن الإعراض عنهم.
فارعوت ورجعت عما همت به. والله الموفق.

فصل هذه ليست صغائر


كثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها قريبة. وهي تقدح في الأصول،
كاستعارة طلاب العلم جزءاً لا يردونه. وقصد الدخول على من يأكل ليؤكل معه،
والتسامح بعرض العدو التذاذاً بذلك واستصغاراً لمثل هذا الذنب.
وإطلاق البصر في المحرم استهانة بتلك الخطيئة.
وأهون ما يصنع ذلك بصاحبه أن يحطه من مرتبة المتميزين بين الناس، ومن مقام
رفعة القدر عند الحق. أو فتوى من لا يعلم لئلا يقال: هو جاهل ونحو ذلك مما
يظنه صغيراً وهو عظيم.
وربما قيل له بلسان الحال: يا من اؤتمن على أمر يسير فخان. كيف ترجو
بتدليك رضا الديان؟.
قال بعض السلف: تسامحت بلقمة فتناولتها فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف.
فالله الله، اسمعوا ممن قد جرب، كونوا على مراقبة. وانظروا في العواقب.
واعرفوا عظمة الناهي. واحذروا من نفخة تحتقر، وشررة تستصغر فربما أحرقت
بلداً.
وهذا الذي أشرت إليه يسير يدل على كثير، وأنموذج يعرف باقي المحقرات من
الذنوب.
والعلم والمراقبة يعرفانك ما أخللت بذكره، ويعلمانك إن تلمحت بعين البصيرة
أثر شؤم فعله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فصل كيف تدعو وماذا تبغي


رأيت من نفسي عجباً: تسأل الله عز وجل حاجاتها، وتنسي جناياتها.
فقلت: يا نفس السوء أو مثلك ينطق ؟.
فإن نطق فينبغي أن يكون السؤال العفو فحسب.

فقالت: فممن أطلب مراداتي ؟ قلت: ما أمنعك من طلب المراد. إنما
أقول حققي التوبة، وانطقي.
كما نقول في العاصي بسفره إذا اضطر إلى الميتة لا يجوز له أن يأكل، فإن
قيل لنا: أفيموت ! قلنا لا بل يتوب ويأكل.
فالله الله من جراءة على طلب الأغراض مع نسيان ما تقدم من الذنوب التي
توجب تنكيس الرأس، ولئن تشاغلت بإصلاح ما مضى والندم عليه جاءتك مراداتك.
كما روي: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين.
وقد كان بشر الحافي يبسط يديه للسؤال ثم يسبلهما ويقول: مثلي لا يسأل وما
أبقت الذنوب لي وجهاً.
وهذا يختص ببشر لقوة معرفته، كان وقت السؤال كالمخاطب كفاحاً فاستحي للزلل.
فأما أهل الغفلة فسؤالهم على بعد، فافهم ما ذكرته، وتشاغل بالتوبة من
الزلل ثم العجب من سؤالاتك فإنك لا تكاد تسأل مهما من الدنيا، بل فضول
العيش.
ولا تسأل صلاح القلب والدين مثل ما تسأل صلاح الدنيا.
فاعقل أمرك فإنك من الانبساط والغفلة على شفا جرف.
وليكن حزنك على زلاتك شاغلاً لك من مراداتك، فقد كان الحسن البصري شديد
الخوف؛ فلما قيل له في ذلك قال: وما يؤمنني أن يكون اطلع على بعض ذنوبي
فقال اذهب لا غفرت لك.


فصل غرور المتعبدين


أعجب العجب دعوى المعرفة مع البعد عن العرفان. بالله، ما عرفه إلا من خاف
منه، فأما المطمئن فليس من أهل المعرفة.
وفي المتزهدين أهل تغفيل، يكاد أحدهم يوطن نفسه على أنه ولي محبوب ومقبول.
وربما توالت عليه ألطاف ظنها كرامات ونسي الاستدراج الذي لفت مساكنته
الألطاف.
وربما احتقر غيره وظن أن محلته محفوظة به، تغره ركيعات ينصب فيها، أو
عبادة ينصب بها.
وربما ظن أنه قطب الأرض وأنه لا ينال مقامه بعده أحد.
وكأنه ما علم أنه بينما موسى مكالم نبىء يوشع.
وبينا زكريا عليه السلام مجاب الدعوة نشر المنشار.
وبينا يحيى عليه السلام يوصف بأنه سيد سلط عليه كافر احتز رأسه.
وبينا بلعام معه الاسم الأعظم صار مثله كمثل الكلب.
وبينا الشريعة يعمل بها نسخت وبطل حكمها.
وبينا البدن معمور خرب وسلط البلى عليه.
وبينا العالم يدأب حتى ينال مرتبة يعتقدها، نشأ طفل في زمانه ترقى إلى سبر
عيوبه وغلطه.
وكم من متكلم يقول: ما مثلي !!، لو عاش فسمع ما حدث بعده من الفصاحة عد
نفسه أخرس.
هذا وعظ ابن السماك، وابن عمار، وابن سمعون، لا يصلح لبعض تلامذتنا ولا
يرضاه.
فكيف يعجب من ينفق شيئاً. وربما أتى بعدنا من لا يعدنا ؟.
فالله الله من مساكنة مسكن، ومخالفة مقام.
وليكن المتيقظ على انزعاج، محتقراً للكثير من طاعاته، خائفاً على نفسه من
تقلباته، ونفوذ الأقدار فيه.
واعلم أن تلمح هذه الأشياء التي أشرت إليها بضرب عنق العجب، ويذهب بطر
الكبر.

فصل الإعداد للنهاية باليقين


من عاش مع الله عز وجل طيب النفس في زمن السلامة خفت عليه زمن البلاء،
فهناك المحك.
إن الله عز وجل بينا يبني نقض، وبينا يعطي سلب، فيطيب النفس والرضا هناك
بين.
فأما من تواصلت لديه النعم فإنه يكون طيب القلب لتواصلها، فإذا مسته نفحة
من البلاء فبعيد ثباته.
قال الحسن البصري: كانوا يتساوون في وقت النعم فإذا نزل البلاء تباينوا.
فالعاقل من أعد ذخراً، وحصل زاداً، وازداد من العدد للقاء حرب البلاء.
ولا بد من لقاء البلاء، ولو لم يكن إلا عند صرعة الموت، فإنها إن نزلت
والعياذ بالله فلم تجد معرفة توجب الرضى أو الصبر، أخرجت إلى الكفر.
ولقد سمعت من كنت أظن فيه كثرة الخير وهو يقول في ليالي موته: ربي هو ذا
يظلمني، فلم أزل منزعجاً مهتماً بتحصيل عدة ألقى بها ذلك اليوم.
كيف وقد روى أن الشيطان يقول لأعوانه في تلك الساعة: عليكم بهذا، فإن
فاتكم لم تقدروا عليه.
وأي قلب يثبت عند إمساك النفس، والأخذ بالكظم، ونزع النفس والعلم بمفارقة
المحبوبات إلى ما لا يدري ما هو، وليس في ظاهره إلا القبر والبلاء.
فنسأل الله عز وجل يقيناً يقيناً شر ذلك اليوم، لعلنا نصبر للقضاء، أو
نرضى به.
ونرغب إلى مالك الأمور في أن يهب لنا من فواضل نعمه على أحبابه، حتى يكون
لقاؤه أحب إلينا من بقائنا، وتفويضنا إلى تقديره أشهى لنا من اختيارنا.
ونعوذ بالله من اعتقاد الكمال لتدبيرنا، حتى إذا انعكس علينا أمر عدنا إلى
القدر بالتسخط.

وهذا هو الجهل المحض، والخذلان الصريح، أعاذنا الله منه.


فصل سعادة العارفين


ليس في الدنيا ولا في الآخرة أطيب عيشاً من العارفين بالله عز وجل، فإن
العارف به مستأنس به في خلوته.
فإن عمت نعمة علم من أهداها، وإن مراً مذاقه في فيه، لمعرفته بالمبتلى.
وإن سأل فتعوق مقصوده، صار مراده ما جرى به القدر، علماً منه بالمصلحة بعد
يقينه بالحكمة، وثقته بحسن التدبير.
وصفة العارف أن قلبه مراقب لمعروفه، قائم بين يديه، ناظر بعين اليقين
إليه، فقد سرى من بركة معرفته إلى الجوارح ما هذبها.
فإن نطقت فلم أنطق بغيركم ... وإن سكت فأنتم عقد إضماري
إذا تسلط على العارف أذى أعرض نظره عن السبب، ولم ير سوى المسبب، فهو في
أطيب عيش معه.
إن سكت تفكر في إقامة حقه، وإن نطق تكلم بما يرضيه، لا يسكن قلبه إلى زوجة
ولا إلى ولد، ولا يتشبث بذيل محبة أحد.
وإنما يعاشر الخلق ببدنه، وروحه عند مالك روحه.
فهذا الذي لا هم عليه في الدنيا، ولا غم عنده وقت الرحيل عنها.
ولا وحشة له في القبر، ولا خوف عليه يوم المحشر.
فأما من عدم المعرفة فإنه معثر لا يزال يضج من البلاء لأنه يعرف المبتلى.
ويستوحش لفقد غرضه لأنه لا يعرف المصلحة.
ويستأنس بجنسه لأنه لا معرفة بينه وبين ربه.
ويخاف من الرحيل لأنه لا زاد له ولا معرفة بالطريق.
وكم من عالم وزاهد لم يرزقا من المعرفة إلا ما رزقه العامي البطال، وربما
زاد عليهما.
وكم من عامي رزق منها ما لم يرزقاه مع اجتهادهما.
وإنما هي مواهب وأقسام. " ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء " .

فصل حلاوة الكفاح في سبيل الحق


بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى لا تبع عزها بذل المعاصي.
وصابر عطش الهوى في هجير المشتهى وإن أمض وأرمض.
فإذا بلغت النهاية من الصبر فاحتكم وقل، فهو مقام من لو أقسم على الله
لأبره.
تالله لولا صبر عمر ما انبسطت يده بضرب الأرض بالدرة.
ولولا جد أنس بن النضر في ترك هواه، وقد سمعت من آثار عزمته: لئن أشهدني
الله مشهداً ليرين الله ما أصنع، فأقبل يوم أحد يقاتل حتى قتل فلم يعرف
إلا ببنانه فلولا هذا العزم ما كان انبساط وجهه يوم حلف والله لا تكسر سن
الربيع.
بالله عليك تذوق حلاوة الكف عن المنهى، فإنها شجرة تثمر عز الدنيا. وشرف
الآخرة.
ومتى اشتد عطشك إلى ما تهوى، فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل.
وقل قد عيل صبر الطبع في سنيه العجاف، فعجل لي العام والذي فيه أغاث وأعصر.
بالله عليك تفكر فيمن قطع أكثر العمر في التقوى والطاعة ثم عرضت له فتنة
في الوقت الأخير، كيف نطح مركبه الجرف فغرق وقت الصعود.
أف والله للدنيا، لا بل للجنة إن أوجب نيلها إعراض الحبيب.
إنما نسب العامي باسمه واسم أبيه، فأما ذوو الأقدار فالألقاب قبل الأنساب.
قل لي: من أنت ؟ وما عملك ؟ وإلى أي مقام ارتفع قدرك ؟ يا من لا يصبر لحظة
عما يشتهي.
بالله عليك أتدري من الرجل ؟.
الرجل والله من إذا خلا بما يحب من المحرم وقدر عليه وتقلل عطشاً إليه نظر
إلى نظر الحق إليه فاستحى من إجالة همه فيما يكرهه، فذهب العطش.
كأنك لا تترك لنا إلا ما لا تشتهي، أو بما لا تصدق الشهوة فيه، أو ما لا
تقدر عليه..
كذا والله عادتك إذا تصدقت أعطيت كسرة لا تصلح لك، أو في جماعة يمدحونك.
هيهات والله لا نلت ولايتنا حتى تكون معاملتك لنا خالصة. تبذل أطايبك.
وتترك مشتهياتك، وتصبر على مكروهاتك.
علماً منك تدخر ثوابك لدينا إن كنت معاملاً بأنك أجير وما غربت الشمس.
فإن كنت محباً رأيت ذلك قليلاً في جنب رضى حبيبك عنك.
وما كلامنا مع الثالث.. !!.
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : صيد الخاطر الجزء التالث Empty رد: كتاب : صيد الخاطر الجزء التالث {الأحد 3 يوليو - 12:00}

فصل أسرار الحكمة


رأيت في العقل نوع منازعة للتطلع إلى معرفة جميع حكم الحق عز وجل في حكمه.
وربما لم يبين له شيء منها - مثل النقض بعد البناء - فيقف متحيراً.
وربما انتهز الشيطان تلك الفرصة، فوسوس إليه: أين الحكمة من هذا ؟.
فقلت له احذر أن تخدع يا مسكين، إنه قد ثبت بالدليل القاطع فيما رأيت من
إتقان الصنائع مبلغ حكمة الصانع، فإن خفي عليك بعض الحكم فلضعف إدراكك.
ثم ما زالت للملوك أسرار فمن أنت حتى تطلع بضعفك على جميع حكمه ؟.
يكفيك الجمل وإياك إياك أن تتعرض لما يخفى عليك.
فإنك بعض موضوعاته وذرة من مصنوعاته.

فكيف تتحكم على من صدرت عنه ؟.
ثم قد ثبتت عندك حكمته وحكمه وملكه فأعمل آلتك على قدر قوتك في مطالعة ما
يمكن من الحكم، فإنه سيورثك الدهش.
وغمض عما يخفى عليك فحقيق بذي البصر الضعيف ألا يقاوي نور الشمس.


فصل سياسة النفس


أعجب الأشياء مجاهدة النفس. لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة.
فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب، فأوقعتهم فيما كرهوا.
وإن أقواماً بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها، وظلموها.
وأثر ظلمهم لها في تعبداتهم فمنهم من أساء غذاءها فأثر ذلك ضعف بدنها عن
إقامة واجبها.
ومنهم من أفردها في خلوة أثمرت الوحشة من الناس وآلت إلى ترك فرض أو فضل
من عيادة مريض، أو بر والدة.
وإنما الحازم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول. فإذا فسح لها في مباح لم
تتجاسر أن تتعداه.
فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده، فإنه لا ينبسط إليه الغلام. فإن
انبسط ذكر هيبة المملكة.
فكذلك المحقق يعطيها حظها ويستوفي منها ما عليها.

فصل إضاعة الوقت


رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً.
إن طال الليل فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر.
وإن طال النهار فبالنوم.
وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق.
فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم، وما عندهم خبر.
ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة الزاد والتأهب للرحيل.
إلا أنهم يتفاوتون وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته بما ينفق في بلد الإقامة.
فالمتيقظون منهم يتطلعون إلى الأخبار بالنافق هناك، فيستكثرون منه فيزيد
ربحهم.
والغافلون منهم يحملون ما اتفق، وربما خرجوا لا مع خفير.
فكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلساً.
فالله الله في مواسم العمل.
والبدار البدار قبل الفوات.
واستشهدوا العلم، واستدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا النفوس،
واستظهروا بالزاد. فكأن قد حدا الحادي فلم يفهم صوته من وقع مع الندم.

فصل أنواع التخطيط


أضر ما على المريض التخليط، وما من أحد إلا وهو مريض بالهوى، والحمية هي
رأس الدواء.
والتخليط يديم المرض، وتخليط أرباب الآخرة على ضربين.
أحدهما: تخليط العلماء، وهو إما لمخالطة الأضداد كالسلاطين فإنهم يضعفون
قوي يقينهم وكلما زادت المخالطة، يفقدون دليلهم عند المريدين.
والثاني: تخيط الزهاد، وقد يكون بمخالطة أرباب الدنيا، وقد يكون بحفظ
الناموس في إظهار التخشع، لاجتلاب محبة العوام.
فالله الله فإن ناقد الجزاء بصير، والإخلاص في الباطن، والصدق في القلب.
ونعم طريق السلامة ستة الحال..

فصل العلماء العاملون


لقيت مشايخ، أحوالهم مختلفة يتفاوتون في مقاديرهم في العلم.
وكان أنفعهم لي في صحبة العامل منهم بعلمه وإن كان غيره أعلم منه.
ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة
يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة، ويسرعون
بالجواب لئلا ينكسر الجاه وإن وقع خطأ.
ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة،
ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق
بكى واتصل بكاؤه.
فكان - وأنا صغير السن حينئذ - يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد.
وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل.
ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما
يقول، متقناً محققاً.
وربما سئل الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقف فيها حتى يتيقن.
وكان كثير الصوم والصمت فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي
بغيرهما.
ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول.
ورأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط ومزاح، فراحوا عن القلوب وبدد
تفريطهم ما جمعوا من العلم. فقل الانتفاع بهم في حياتهم، ونسوا بعد
مماتهم، فلا يكاد أحد أن يلتفت إلى مصنفاتهم.
فالله الله في العلم بالعمل فإنه الأصل الأكبر.
والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا
وخيرات الآخرة فقدم مفلساً مع قوة الحجة عليه.

فصل وأملي لهم


سبحان الملك العظيم الذي من عرفه خافه، ومن أمن مركه قط ما عرفه.

لقد تأملت أمراً عظيماً أنه عز وجل يمهل حتى كأنه يهمل فترى أيدي
العصاة مطلقة كأنه لا مانع.
فإذا زاد الانبساط ولم ترعو العقول أخذ أخذ جبار.
وإنما كان ذلك الإمهال ليبلو صبر الصابر، وليملي في الإمهال للظالم، فيثبت
هذا على صبره، ويجزي هذا بقبيح فعله.
مع أن هنالك من الحلم في طي ذلك ما لا نعلمه.
فإذا أخذ أخذ عقوبة رأيت على كل غلطة تبعة.
وربما جمعت فضربت العاصي بالحجر الدامغ.
وربما خفي على الناس سبب عقوبته فقيل فلان من أهل الخير فما وجه ما جرى له
؟.
فيقول القدر: حدود لذنوب خفية صار استيفاؤها ظاهراً.
فسبحان من ظهر حتى لا خفاء به، واستتر حتى كأنه لا يعرف.
وأمهل حتى طمع في مسامحته، وناقش حتى تحيرت العقول من مؤاخذته، لا حول ولا
قوة إلا بالله.


فصل سياسة النفس


تأملت العلم والميل إليه والتشاغل به، فإذا هو يقوي القلب قوة تميل به إلى
نوع قساوة.
ولولا قوة القلب وطول الأمل لم يقع التشاغل به.
فإني أكتب الحديث أرجو أن أرويه، وأبتدىء بالتصنيف أرجو أن أتمه، فإذا
تأملت باب المعاملات قل الأمل، ورق القلب، وجاءت الدموع، وطابت المناجاة،
وغشيت السكينة، وصرت كأني في مقام المراقبة.
إلا أن العلم أفضل وأقوى حجة، وأعلى رتبة، وإن حدث منه ما شكوت منه.
والمعاملة وإن كثرت الفوائد التي أشرت إليها منها، فإنها قريبة إلى أحوال
الجبان الكسلان، الذي قد اقتنع بصلاح نفسه عن هداية غيره، وانفرد بعزلته
عن اجتذاب الخلق إلى ربهم.
فالصواب العكوف على العلم مع تلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعاً لا يقدح
في كمال التشاغل بالعلم.
فإني لأكره لنفسي من جهة ضعف قلبي ورقته أن أكثر زيارة القبور، وأن أحضر
المحتضرين؛ لأن ذلك يؤثر في فكري، ويخرجني من حيز المتشاغلين بالعلم إلى
مقام الفكر في الموت، ولا أنتفع بنفسي مدة.
وفصل الخطاب في هذا أنه ينبغي أن يقاوم المرض بضده.
فمن كان قلبه قاسياً شديد القسوة، وليس عنده من المراقبة ما يكفه عن الخطأ
قاوم ذلك بذكر الموت ومحاضرة المحتضرين.
فأما من قلبه شديد الرقة فيكفيه ما به، بل ينبغي له أن يتشاغل بما ينسيه
ذلك لينتفع بعيشه، وليفهم ما يفتي به.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمزح ويسابق عائشة رضي الله عنها،
ويتلطف بنفسه؛ فمن سار سيرته عليه الصلاة والسلام فهم من مضمونها ما قلته
من ضرورة التلطف بالنفس.

فصل ساعة الاحتضار


من أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته، فإنه ينتبه انتباهاً لا يوصف،
ويقلق قلقاً لا يحد، ويتلهف على زمانه الماضي.
ويود لو ترك كي يتدارك ما فاته ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت،
ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف.
ولو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل
بالتقوى.
فالعاقل من مثل تلك الساعة وعمل بمقتضى ذلك.
فإن لم يتهيأ تصوير ذلك على حقيقته تخايله على قدر يقظته.
فإنه يكف كف الهوى ويبعث على الجد.
فأما من كانت تلك الساعة نصب عينيه كان كالأسير لها.
كما روي عن حبيب العجمي أنه كان إذا أصبح يقول لامرأته: إذا مت اليوم
ففلان يغسلني، وفلان يحملني.
وقال معروف لرجل صل بنا الظهر، فقال: إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر،
فقال: وكأنك تؤمل أن تعيش إلى العصر، نعوذ بالله من طول الأمل.
وذكر رجل رجلاً بين يديه بغيبة، فجعل معروف يقول له: اذكر القطن إذا وضعوه
على عينيك.

فصل أهل الإشارة


ربما أخذ المتيقظ بيت شعر فأخذ منه إشارة فانتفع بها.
قال الجنيد: ناولني سري رقعة مكتوب فيها سمعت حادياً في طريق مكة شرفها
الله تعالى يقول:
أبكي وما يدريك ما يبكيني ... أبكي حذاراً أن تفارقيني
وتقطعي حبلي وتهجريني
فانظر رحمك الله ووفقك، إلى تأثير هذه الأبيات عند سري حتى أحب أن يطلع
منها الجنيد على ما اطلع عليه، ولم يصلح للاطلاع على مثلها إلا الجنيد.
فإن أقواماً فيهم كثافة طبع، وخشونة فهم.
قال بعضهم لما سمع مثل هذه. إلام يشار بهذه ؟.
إن كان الحق؛ فالحق عز وجل لا يشار إليه بلفظ تأنيث.
وإن كان إلى امرأة فأين الزهد ؟.

ولعمري إن هذا حدآء أهل الغفلة إذا سمعوا مثل هذا، ولذلك ينهى عن
سماع القصائد وأقوال أهل الغناء، لأن الغالب حمل تلك الأبيات على مقاصد
النفس، وغلبات الهوى.
ومن أين لنا مثل الجنيد وسري ؟.
وإذا وجدنا مثلهما فهما خبيران بما يسمعان.
وأما اعتراض هذا الكثيف الطبع فالجواب: أن سرياً لم يأخذ الإشارة من
اللفظ، ولم يقس ذلك على مطلوبه فيصيره تأنيثاً أو تذكيراً.
وإنما أخذ الإشارة من المعنى؛ فكأنه يخاطب حبيبه بمعنى الأبيات، فيقول:
أبكي حذاراً من إعراضك وإبعادك. فهذا الحاصل له.
وما التفت قط إلى تذكير ولا إلى لفظ تأنيث فافهم هذا.
وما زال المتيقظون يأخذون الإشارة من مثل هذا حتى كانوا يأخذونها من هذا
الذي تقوله العامة ويلقبونه بكان وكان.
فرأيت بخط ابن عقيل عن بعض مشايخه الكبار أنه سمع امرأة تنشد:
غسلت له طول الليل ... فركت له طول النهار
خرج يعاين غيري ... زلق وقع في الطين
فأخذ من ذلك إشارة معناها: يا عبدي إني حسنت خلقك، وأصلحت شأنك، وقومت
بنيتك، فأقبلت على غيري، فانظر عواقب خلافك لي.
وقال ابن عقيل: وسمعت امرأة تقول: من هذا لكان. وكانت كلمة بقيت في قلقها
مدة:
كم كنت بالله أقول لك ... لذا التواني غائله
وللقبيح خميرة ... تبين بعد قليل
قال ابن عقيل: فما أوقعه من تخجيل على إهمالنا لأمور غداً تبين خمايرها
بين يدي الله تعالى.


فصل حساب الورعين


أمكنني تحصيل شيء من الدنيا بنوع من أنواع الرخص.
فكنت كلما حصل شيء منه فاتني من قلبي شيء، وكلما استنارت لي طريق التحصيل،
تجدد في قلبي ظلمة.
فقلت يا نفس السوء - الإثم حواز القلوب - وقد قال استفت قلبك فلا خير في
الدنيا كلها إذا كان في القلب من تحصيلها شيء أوجب نوع كدر.
وإن الجنة لو حصلت بسبب يقدح في الدين أو في المعاملة ما لذت، والنوم على
المزابل مع سلامة القلب من الكدر ألذ من تكآت الملوك.
وما زلت أغلب نفسي تارة وتغلبني أخرى، ثم تدعى الحاجة إلى تحصيل ما لا بد
لها منه. وتقول: فما أتعدى في الكسب المباح في الظاهر.
فقلت لها: أوليس الورع يمنع من هذا ؟ قالت: بلى.
قلت: أليست القوة في القلب تحصل به ؟ قالت: بلى.
قلت: فلا خير لك في شيء هذا ثمرته.
فخلوت يوماً بنفسي فقلت لها: ويحك اسمعي أحدثك.
إن جمعت شيئاً من الدنيا من وجه فيه شبهة أفأنت على يقين من إنفاقه ؟
قالت: لا.
قلت: فالمحنة أن يحظى به الغير ولا تنالين إلا الكدر العاجل، والوزر الذي
لا يؤمن.
ويحك اتركي هذا الذي يمنع منه الورع لأجل الله فعامليه بتركه.
وكأنك لا تريدين أن لا تتركي إلا ما هو محرم فقط أو ما لا يصح وجهه.
أو ما سمعت أن من ترك شيئاً لله عوضه لله خيراً منه ؟.
أما لك عبرة في أقوام جمعوا فحازه سواهم، وأملوا فما بلغوا مناهم ؟.
كم من عالم جمع كتباً كثيرة ما انتفع بها.
وكم من منتفع ما عنده عشرة أجزاء، وكم من طيب العيش لا يملك دينارين.
وكن من ذي قناطير منغص.
أما لك فطنة تتلمح أحوال من يترخص من وجه فيسلب منه من أوجه ؟.
ربما نزل المرض بصاحب الدار أو ببعض من فيها فأنفق في سنته أضعاف ما ترخص
في كسبه، والمتقي معافى.
فضجت النفس من لومي وقالت: إذا لم أتعد واجب الشرع فما الذي تريد مني ؟.
فقلت: لها أضن بك عن الغبن وأنت أعرف بباطن أمرك.
قالت: فقل لي ما أصنع. قلت: عليك بالمراقبة لمن يراك، ومثلي نفسك بحضرة
معظم من الخلق فإنك بين يدي الملك الأعظم يرى من باطنك ما لا يراه
المعظمون من ظاهرك.
فخذي بالأحوط، واحذري من الترخص في بيع اليقين، والتقوى بعاجل الهوى.
فإن ضاق الطبع مما تلقين فقولي له: مهلاً، فما انقضت مدة الإشارة، والله
مرشدك إلى التحقيق، ومعينك بالتوفيق.

فصل جزاء الفسوق


ما زلت أسمع عن جماعة من الأكابر وأرباب المناصب إنهم يشربون الخمور
ويفسقون ويظلمون، ويفعلون أشياء توجب الحدود.
فبقيت أتفكر أقول متى يثبت على مثل هؤلاء ما يوجب حداً ؟ ولو ثبت فمن
يقيمه ؟.
وأستبعد هذا في العادة لأنهم في مقام احترام لأجل مناصبهم.
فبقيت أتفكر في تعطيل الحد الواجب عليهم، حتى رأيناهم قد نكبوا وأخذوا
مرات، ومرت عليهم العجائب.

فقوبل ظلمهم بأخذ أموالهم، وأخذت منهم الحدود مضاعفة بعد الحبس
الطويل، والقيد الثقيل، والذل العظيم.
وفيهم من قتل بعد ملاقاة كل شدة، فعلمت أنه ما يهمل شيء، فالحذر الحذر فإن
العقوبة بالمرصاد.


فصل الغنى من العافية


اجتهاد العاقل فيما يصلحه لازم له بمقتضى العقل والشرع.
فمن ذلك حفظ ماله، وطلب تنميته والرغبة في زيادته، لأنه سبب بقاء الإنسان
ماله فقد نهى عن التبذير فيه، فقيل له: " ولا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أموالَكم " فاعلم أنه سبب لبقائه: " التي جَعَلَ اللّه لكمُ قِيَاماً " أي
قواماً لمعاشكم.
وقال عز وجل: " ولا تَبْسُطها كلَّ البسطِ " ، وقال تعالى: " ولا تبذِّرْ
تبذيراً " وقال تعالى: " لَمْ يُسرفوا ولَمْ يَقتُرُوا وكان بين ذلك
قواماً " .
ومن فضيلة المال أن الله تعالى قال: " مَنْ ذَا الذِي يُقرِضُ اللَّهَ
قَرْضاَ حسناً " . وقال تعالى: " وأنفقوا في سبيل اللّه " وقال تعالى: "
ينفقون أموالهم " وقال تعالى: " لا يَستوِي منكم من أنفقَ مِنْ قبل الفَتح
" ، وجعل المال نعمة، وزكاته تطهيراً، فقال تعالى: " خُذْ مِنْ
أموَالِهِمْ صَدقَةَ تُطهرُهُمْ وتزكيهمْ بهَا " .
وقال صلى الله عليه وسلم: نعم المال الصالح للرجل الصالح، وقال: ما نفعني
مال كمال أبي بكر.
وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج إلى التجارة ويترك رسول الله صلى الله
عليه وسلم فلا ينهاه عن ذلك.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأن أموت بين شعبتي جبل أطلب كفاف وجهي
أحب إلي من أن أموت غازياً في سبيل الله.
وكان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يتجرون، ومن سادات التابعين سعيد ابن
المسيب. مات وخلف مالاً، وكان يحتكر الزيت - أي ينفرد ببيعه - .
وما زال السلف على هذا ثم قد تعرض نوائب كالمرض يحتاج فيها إلى شيء من
المال فلا يجد الإنسان بداً من الاضطراب في طلبته، فيبذل عرضه أو دينه.
ثم للنفس قوة بدنية عند وجود المال، وهو معدود عند الأطباء من الأدوية.
وتلك حكمة وضعها الواضع.
وإنما نبغ أقوام طلبوا طريق الراحة فادعوا أنهم متوكلة وقالوا: نحن لا
نمسك شيئاً. ولا نتزود لسفر، ورزق الأبدان يأتي.
وهذا على مضادة الشرع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة
المال.
وموسى عليه السلام لما سافر في طلب الخضر تزود.
ونبينا صلى الله عليه وسلم لما هاجر تزود، وأبلغ من هذا قوله تعالى: "
وَتَزَوَّدُوا فإن خيرَ الزاد التقوَى " .
ثم يدعي هؤلاء المتصوفة بغض الدنيا، فلا يفهمون ما الذي ينبغي أن يبغض.
ويرون زيادة الطلب للمال حرصاً وشرهاً.
وفي الجملة إنما اخترعوا بآرائهم طريقاً فيها شيء من الرهبانية إذا صدقوا.
وشيء من البهرجة إذا نصبوا شباك الصيد بالتزهد فسموا ما يصل إليهم من
الأرزاق فتوحاً.
قال ابن قتيبة في غريب الحديث عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: واليد
العليا.
قال: هي المعطية.
قال فالعجب عندي من قوم يقولون هي الآخذة.
ولا أرى هؤلاء القوم إلا قوماً استطابوا السؤال، فهم يحتجون للدناءة.
فأما الشرائع فأنها بريئة من حالهم، وفي الحديث: ضاق البلد بمواشي إبراهيم
ولوط عليهما السلام فافترقا.
وكان شعيب عليه السلام كثير المال. ثم قد ند طمعه في زيادة الأجر من موسى
عليه السلام فقال: " فإنْ أتممتَ عشراً فمنْ عندِك " .
وكان ابن عقيل رحمه الله يقول: من قال إني لا أحب الدنيا فهو كذاب.
فإن يعقوب عليه السلام لما طلب منه ابنه يامين قال: " هَلْ آمنكُم عليهِ "
. فقالوا: " وتزدَادُ كيْلَ بعِير " ؛ فقال: خذوه.
وقال بعض السلف: من ادعى بغض الدنيا فهو عندي كذاب إلى أن يثبت صدقه، فإذا
ثبت صدقه فهو مجنون.
وقد نفر جماعة من المتصوفة خلقاً من الخلق عن الكسب، وأوحشوا بينهم وبينه،
وهو دأب الأنبياء والصالحين.
وإنما طلبوا طريق الراحة وجلسوا على الفتوح.
فإذا شبعوا رقصوا؛ فإذا انهضم الطعام أكلوا.
فإذا لاحت لهم حيلة على غني أوجبوا عليه دعوة، إما بسبب شكر أو بسبب
استغفار.
وأطم الطامات ادعاؤهم أن هذا قربة.
وقد انعقد إجماع العلماء أن من ادعى الرقص قربة إلى الله تعالى كفر.
فلو أنهم قالوا مباح كان أقرب حالاً، وهذا لأن القرب لا تعرف إلا بالشرع،
وليس في الشرع أمر بالرقص ولا ندب إليه.
ولقد بلغني عن جماعة منهم أنهم كانوا يوقدون الشمع في وجوه
المردان وينظرون إليهم، فإذا سئلوا عن ذلك سخروا بالسائل فقالوا: نعتبر
بخلق الله !!!.
أفتراهم أقوى من النبي صلى الله عليه وسلم حين أجلس الشاب الذي وفد عليه
من وراء ظهره وقال: وهل كانت فتنة داود إلا من النظر ؟.
هيهات ! لقد تملك الشيطان تلك الأزمة فقادها إلى ما أراد.
والعجب ممن يذم الدنيا وهو يأكل فيشبع، ولا ينظر من أين المطعم.
وما زال صالحوا السلف يفتشون على المطعم حتى كان إبراهيم بن أدهم يسهر هو
وأصحابه ويقولون مع من نعمل غداً.
وكان سري السقطي يعرف بطيب الغذاء، وله في الورع مقامات، فجاء قوم يتسمون
بالصوفية يدعون أتباع أولئك السادة، ويأكلون من مال فلان، وهم يعرفون أصول
تلك الأموال، ويقولون رزقنا.
فواعجباً إذا كان الآكل لا يبالي به من أين، ولا لديه امتناع من شهوة ولا
تقلل، ولا يخلو الرباط من المطبخ، ولا ينقطع ليلة، وأصله من مال قد عرق من
أين هو والحمام دائر والمغني يدق بدف فيه جلاجل ورفيقه بالشبابة، وسعدى
وليلى في الإنشاد، والمردان في الشمع، ثم يذم الدنيا بعد هذا.
فقولوا لنا: من يتلهى بالناس إلا هؤلاء ؟ ولكن من مرت عليه زرجتهم فإنهم
أخس منهم.
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب : صيد الخاطر الجزء التالث Empty رد: كتاب : صيد الخاطر الجزء التالث {الأحد 3 يوليو - 12:01}

فصل عجائب الكون


عرض لي في طريق الحج خوف من العرب فسرنا على طريق خيبر، فرأيت من الجبال
الهائلة والطرق العجيبة ما أذهلني، وزادت عظمة الخالق عز وجل في صدري،
فصار يعرض لي عند ذكر تلك الطرق نوع تعظيم لا أجده عند ذكر غيرها.
فصحت بالنفس: ويحك اعبري إلى البحر وانظري إليه وإلى عجائبه بعين الفكر،
تشاهدي أهوالاً هي أعظم من هذه، ثم اخرجي عن الكون والتفتي إليه فإنك
ترينه بالإضافة إلى السموات والأفلاك كذرة في فلاة.
ثم جولي في الأفلاك وطوفي حول العرش وتلمحي ما في الجنان والنيران.
ثم اخرجي عن الكل والتفتي إليه، فإن تشاهدين العالم في قبضة القادر الذي
لا تقف قدرته عند حد.
ثم التفتي إليك فتلمحي بدايتك ونهايتك، وتفكري فيما قبل البداية، وليس إلا
العدم، وفيما بعد البلى وليس إلا التراب.
فكيف يأنس بهذا الوجود من نظر بعين فكره المبدأ والمنتهى ؟.
وكيف يغفل فعل القلوب عن ذكر هذا الإله العظيم ؟.
بالله لو صحت النفوس عن سكر هواها لذابت من خوفه، أو لغابت في حبه.
غير أن الحس غلب فعظمت قدرة الخالق عند رؤية جبل، وإن الفطنة لو تلمحت
المعاني لدلت القدرة عليه أو في من دليل الجبل.
سبحان من شغل أكثر الخلق بما هم فيه عما خلقوا له، سبحانه.

فصل الصبر على الألم


للبلايا نهايات معلومة الوقت عند الله عز وجل.
فلا بد للمبتلي من الصبر إلى أن ينقضي أوان البلاء.
فإن تقلقل قبل الوقت لم ينفع التقلقل، كما أن المادة إذا انحدرت إلى عضو
فإنها لن ترجع، فلا بد من الصبر إلى حين البطالة.
فاستعجال زوال البلاء مع تقدير مدته لا ينفع.
فالواجب الصبر وإن كن الدعاء مشروعاً ولا ينفع إلا به، إلا أنه لا ينبغي
للداعي أن يستعجل بل يتعبد بالصبر والدعاء والتسليم إلى الحكيم.
ويقطع المواد التي كانت سبباً للبلاء فإن غالب البلاء أن يكون عقوبة.
فأما المستعجل فمزاحم للمدبر وليس هذا مقام العبودية وإنما المقام الأعلى
هو الرضى والصبر هو اللازم.
والتلاحي بكثرة الدعاء نعم المعتمد، والاعتراض حرام والاستعجال مزاحمة
للتدبير، فافهم هذه الأشياء فإنها تهون البلاء.

فصل عون على الصبر


ليس في الوجود شيء أصعب من الصبر إما على المحبوب أو على المكروهات.
وخصوصاً إذا امتد الزمان أو وقع اليأس من الفرج.
وتلك المدة تحتاج إلى زاد يقطع به سفرها، والزاد من أجناس.
فمنه تلمح مقدار البلاء وقد يمكن أن يكون أكثر.
ومنه أنه في حال فوقها أعظم منها مثل أن يبتلي بفقد ولد وعنده أعز منه.
ومن ذلك رجاء العوض في الدنيا.
ومنه تلمح الأجر في الآخرة.
ومنه التلذذ بتصوير المدح والثناء من الخلف فيما يمدحون عليه والأجر من
الحق عز وجل.
ومن ذلك بأن الجزع لا يفي بل يفضح صاحبه إلى غير ذلك من الأشياء التي
يقدحها العقل والفكر.
فليس في طريق الصبر نفقة سواها، فينبغي للصابر أن يشغل بها نفسه ويقطع بها
ساعات ابتلائه وقد صبح المنزل.

فصل اختيار الله أولى




ينبغي لمن وقع في شدة ثم دعا أن لا يختلج في قلبه أمر من تأخير
الإجابة أو عدمها.
لأن الذي إليه أن يدعو، والمدعو مالك حكيم، فإن لم يجب فعل ما يشاء في
ملكه، وإن أخر فعل بمقتضى حكمته.
فالمعترض عليه في سره خارج عن صفة عبد، مزاحم بمرتبة مستحق.
ثم ليعلم أن اختيار الله عز وجل له خير من اختياره لنفسه.
فربما سأل سيلاً سال به وفي الحديث: أن رجلاً كان يسأل الله عز وجل أن
يرزقه الجهاد فهتف به هاتف: إنك غزوت أسرت وإن أسرت تنصرت.
فإذا سلم العبد تحكيماً لحكمته وحكمه وأيقن أن الكل ملكه طاب قلبه قضيت
حاجته أو لم تقض.
وفي الحديث: ما من مسلم دعا الله تعالى إلا أجابه. فإما أن يعجلها وإما أن
يؤخرها وإما أن يدخرها له في الآخرة.
فإذا رأى يوم القيامة أن ما أجيب فيه قد ذهب وما لم يجب فيه قد بقي ثوابه،
قال: ليتك لم تجب لي دعوة قط.
فافهم هذه الأشياء وسلم قلبك من أن يختلج فيه ريب أو استعجال.


فصل فضل العلم


من أراد أن يعرف رتبة العلماء على الزهاد فلينظر في رتبة جبريل وميكائيل
ومن خص من الملائكة بولاية تتعلق بالخلق، وباقي الملائكة قيام للتعبد في
مراتب الرهبان في الصوامع.
وقد حظي أولئك بالتقريب على مقادير علمهم بالله تعالى.
فإذا مر أحدهم بالوحي انزعج أهل السماء حتى يخبرهم بالخبر، فإذا فزع عن
قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم. قالوا الحق. كما إذا انزعج الزاهد من حديث
يسمعه سأل العلماء عن صحته ومعناه.
فسبحان من خص فريقاً بخصائص شرفوا بها على جنسهم.
ولا خصيصة أشرف من العلم. بزيادته صار آدم مسجوداً له وبنقصانه صارت
الملائكة ساجدة.
فأقرب الخلق من الله العلماء، وليس العلم بمجرد صورته هو النافع بل معناه،
وإنما ينال معناه من تعلمه للعمل به.
فكلما دله على فضل اجتهد في نيله وكلما نهاه عن نقص بالغ في تجنبه.
فحينئذ يكشف العلم له سره، ويسهل عليه طريقه، فيصير كمجتذب يحث الجاذب
فإذا حركه عجل في سيره.
والذي لا يعمل بالعلم لا يطلعه العلم على غوره ولا يكشف له عن سره، فيكون
كمجذوب لجاذب جاذبه.
فافهم هذا المثل وحسن قصدك وإلا فلا تتعب.

فصل التلطف مع النفس


اعلم أن أصلح الأمور الاعتدال في كل شيء وإذا رأينا أرباب الدنيا قد غلبت
آمالهم، وفسدت في الخير أعمالهم، أمرناهم بذكر الموت والقبور والآخرة.
فأما إذا كان العالم لا يغيب عن ذكره الموت. وأحاديث الآخرة تقرأ عليه
وتجري على لسانه فتذكاره الموت زيادة على ذلك لا تفيد إلا انقطاعه بالمرة.
بل ينبغي لهذا العالم الشديد الخوف من الله تعالى الكثير الذكر للآخرة أن
يشاغل نفسه عن ذكر الموت ليمتد نفسه أمله قليلاً فيصنف ويعمل أعمال خير،
ويقدر على طلب ولد.
فأما إذا لهج بذكر الموت كانت مفسدته عليه أكثر من مصلحته.
ألم تسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة رضي الله عنها فسبقته
فسبقها، وكان يمزح ويشاغل نفسه ؟.
فإن مطالعة الحقائق على التحقيق تفسد البدن وتزعج النفس.
وقد روي عن أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: أنه سأل الله تعالى أن يفتح عليه
باب الخوف ففتح عليه فخاف على عقله. فسأل الله أن يرد ذلك عنه.
نتأمل هذا الأصل فإنه لا بد من مغالطة النفس وفي ذلك صلاحها والله الموفق
والسلام.

فصل التطلع إلى الأفضل


من أعمل فكره الصافي دله على طلب أشرف المقامات، ونهاه عن الرضى بالنقص في
كل حال. وقد قال أبو الطيب المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود
السموات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض.
ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض.
غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن.
والسيرة الجميلة عند الحكماء خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في
العلم والعمل.
وأنا أشرح من ذلك ما يدل مذكوره على مغفله.
أما في البدن: فليست الصورة داخلة تحت كسب الآدمي بل يدخل تحت كسبه
تحسينها وتزيينها.
فقبيح بالعاقل إهمال نفسه، وقد نبه الشرع على الكل بالبعض. فأمر بقص
الأظفار، ونتف الإبط، وحلقة العانة، ونهى عن أكل الثوم والبصل النيء لأجل
الرائحة.

وينبغي له أن يقيس على ذلك ويطلب غاية النظافة ونهاية الزينة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف مجيئه بريح الطيب فكان الغاية في
النظافة والنزاهة.
ولست آمر بزيادة التقشف الذي يستعمله الموسوس ولكن التوسط هو المحمود.
ثم ينبغي له أن يرفق ببدنه الذي هو راحلته ولا ينقص من قوتها فتنقص قوته.
ولست آمر بالشبع الذي يوجب الجشاء إنما آمر بالتوسط فإن قوى الآدمي كعين
جارية كم فيها من منفعة لصاحبها ولغيره.
ولا يلتفت إلى قول الموسوسين من المتزهدين الذين جدوا في التقلل فضعفوا عن
الفرائض.
وليس ذلك من الشرع ولا نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه.
إنما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا لم يجدوا جاعوا، وربما
آثروا فصبروا ضرورة.
وكذلك ينبغي أن ينظر لهذه الراحلة في علفها - فرب لقمة منعت لقمات - فلا
يعطيها ما يؤذيها بل ينظر لها في الأصلح ولا يتلفت إلى متزهد يقول لا
أبلغها الشهوات.
فإن النظر ينبغي أن يكون في حل المطعم وأخذ ما يصلح بمقدار.
ولم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم ما أحدثه
الموسوسون في ترك المشتهيات على الإطلاق.
إنما نقل عنهم تركها لسبب، إما للنظر في حلها، أو للخوف من مطالبة النفس
بها في كل وقت ويجوز ذلك.
وينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب ليفضل على غيره ولا يفضل غيره عليه.
وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم، ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في
العلم.
ومن أقبح النقص التقليد، فإن قويت همته رقته إلى أن يختار لنفسه مذهباً
ولا يتمذهب لأحد. فإن المقلد أعمى يقوده مقلده.
ثم ينبغي أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته، وفي الجملة لا
يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها. فإن القنوع في حالة الأرذال.
فكن رجلاً رجله في الثّرى ... وهامة همّته في الثريّا
ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل، فإنهم كانوا رجالاً وأنت
رجل.
وما قعد من قعد بالا لدناءة الهمة وخساستها.
واعلم أنك في ميدان سباق والأوقات تنتهب. ولا تخلد إلى كسل.
فما فات ما فات إلا بالكسل. ولا نال من نال إلا بالجد والعزم.
وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور، وقد قال بعض من سلف:
ليس لي مال سوى كرّي ... فبه أحيا من العدم
قنعت نفسي بما رزقت ... وتمطت في العلا هممي


فصل الفقر بلاء ومنقصة


ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس، فإنه إذا ضم
إلى العلم حيز الكمال.
وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه.
وقل الصبر فدخوا مداخل شانتهم وإن تأولوا فيها، إلا أن غيرها كان أحسن
لهم. فالزهري مع عبد الملك، وأبو عبيدة مع طاهر بن الحسين، وابن أبي
الدنيا مؤدب المعتضد، وابن قتيبة صدر كتابه بمدح الوزير. وما زال خلف من
العلماء والزهاد يعيشون في ظل جماعة من المعروفين بالظلم.
وهؤلاء وإن كانوا سلكوا طريقاً من التأويل فإنهم فقدوا من قلوبهم وكمال
دينهم أكثر مما نالوا من الدنيا.
وقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يغشون الولاة لأجل نيل ما في
أيديهم، فمنهم من يداهن ويرائي، ومنهم من يمدح بما لا يجوز، ومنهم من يسكت
عن منكرات إلى غير ذلك من المداهنات وسببه الفقر.
فعلمنا أن كمال العز وبعد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظلمة.
ولم نر من صح له هذا إلا في أحد رجلين.
إما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت وغيره، وسفيان
الثوري كانت له بضائع، وابن المبارك.
وإما من كان شديد الصبر قنوعاً بما رزق وإن لم يكفه كبشر الحافي، وأحمد
ابن حنبل.
ومتى لم يجد الإنسان كصبر هذين، ولا كمال أولئك، فالظاهر تقلبه في المحن
والآفات. وربما تلف دينه.
فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس فإنه يجمع لك
دينك. فما رأينا في الأغلب منافقاً في التدين والتزهد والتخشع ولا آفة
طرأت على عالم إلا بحب الدنيا، وغالب ذلك الفقر.
فإن كان له ما يكفيه ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة، فذلك معدود في أهل
الشره، خارج عن حيز العلماء، نعوذ بالله من تلك الأحوال.

فصل فضل الفقه




أعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته. ومن تأمل ثمرة الفقه
علم أنه أفضل العلوم.
فإن أرباب المذاهب فاقوا على الخلائق أبداً، وإن كان في زمن أحدهم من هو
أعلم منه بالقرآن أو بالحديث أبو باللغة.
واعتبر هذا بأهل زماننا فإنك ترى الشاب يعرف مسائل الخلاف الظاهرة فيستغني
ويعرف حكم الله تعالى في الحوادث ما لا يعرفه النحرير من باقي العلماء.
وكما رأينا مبرزاً في علم القرآن أو في الحديث أو في التفسير أو في اللغة
لا يعرف مع الشيخوخة معظم أحكام الشرع.
وربما جهل عمل ما ينويه في صلاته، على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبياً
عن باقي العلوم. فإنه لا يكون فقيهاً.
بل يأخذ من كل علم بخط ثم يتوفر على الفقه فإنه عز الدنيا والآخرة.


فصل نقائض سببها استمكان الهوى


رأيت كثيراً من الناس يتحرزون من رشاش نجاسة ولا يتحاشون من غيبة، ويكثرون
من الصدقة ولا يبالون بمعاملات الربا، ويتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن
الوقت، في أشياء يطول عددها من حفظ فروع وتضييع أصول.
فبحثت عن سبب ذلك، فوجدته من شيئين: أحدهما العادة، والثاني غلبة الهوى في
تحصيل المطلوب، فإنه قد يغلب فلا يترك سمعاً ولا بصراً.
ومن هذا القبيل أن إخوة يوسف قالوا - حين سمعوا صوت المنادي: " إِنَّكُمْ
لَسَارِقُونَ " - " لَقَدْ عَلِمْتُم ما جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ
وَمَا كنَّا سَارِقينَ " ، فجاء في التفسير أنهم لما دخلوا مصر كمموا
أفواه إبلهم لئلا تتناول ما ليس لهم فكأنهم قالوا قد رأيتم ما صنعنا
بإبلنا فكيف نسرق، ونسوا هم تفاوت ما بين الورع واختطاف أكلة لا يملكونها،
وبين إلقاء يوسف عليه السلام في الجب وبيعه بثمن بخس.
وفي الناس من يطيع في صغار الأمور دون كبارها، وفيما كلفته عليه خفيفة أو
معتادة، وفيما لا ينقص شيئاً من عادته في مطعم وملبس.
نرى أقواماً يأخذون ويقول أحدهم: كيف يراني عدوي بعد أن بعت داري، أو تغير
ملبوسي ومركوبي !.
ونرى أقواماً يوسوسون في الطهارة ويستعملون الكثير من الماء ولا يتحاشون
من غيبة.
وأقواماً يستعملون التأويلات الفاسدة في تحصيل أغراضهم مع علمهم أنها لا
تجوز.
حتى أني رأيت رجلاً من أهل الخير والتعبد أعطاه رجل مالاً ليبني به
مسجداً، فأخذه لنفسه وأنفق عوض الصحيح قراضة. فلما احتضر قال لذلك الرجل:
اجعلني في حل فإني فعلت كذا وكذا.
ونرى أقواماً يتركون الذنوب لبعدهم عنها، فقد ألفوا الترك، وإذا قربوا
منها لم يتمالكوا.
وفي الناس من هذه الفنون عجائب يطول ذكرها.
وقد علمنا أن خلقاً من علماء اليهود كانوا يحملون ثقل التعبد في دينهم،
فلما جاء الإسلام وعرفوا صحته لم يطيقوا مقاومة أهوائهم في محور رياستهم.
وكذلك قيصر فإنه عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدليل، ثم لم يقدر
على مقاومة هواه وترك ملكه.
فالله الله في تضييع الأصول ! ومن إهمال سرح الهوى. فإنه إن أهملت ماشية
نفشت في زروع التقى.
وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة فإن استوثق منه ضابطه كفه.
وربما لاحت له شهواته الغالبة عليه فلم تقاومها السلسلة فأفلت.
على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة، ومنهم من يكفه بخيط، فينبغي للعاقل
أن يحذر شياطين الهوى، وأن يكون بصيراً بما يقوى عليه من أعدائه وبمن يقوى
عليه.

فصل تجارب مع الناس


من أعظم الغلط الثقة بالناس والاسترسال إلى الأصدقاء.
فإن أشد الأعداء وأكثرهم أذى الصديق المنقلب عدواً، لأنه قد اطلع على خفي
السر، قال الشاعر:
احذر عدوك مرة ... واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق فكان أعم بالمضرة
واعلم أن من الأمر الموضوع في النفوس الحسد على النعم، أو الغبطة وحب
الرفعة، فإذا رآك من يعتقدك مثلاً له وقد ارتقيت عليه فلا بد أن يتأثر
وربما حسد.
فإن قلت: كيف يبقى الإنسان بلا صديق ؟ قلت لك أتراك ما تعلم أن المجانس
يحسد، وأن أكثر العوام يعتقدون في العالم أنه لا يتبسم، ولا يتناول من
شهوات الدنيا شيئاً، فإذا رأوا بعض انبساطه في المباح هبط من أعينهم.
فإذا كانت هذه حالة العوام، وتلك حالة الخواص، فمع من تكون المعاشرة ؟.
لا بل والله ما تصح المعاشرة مع النفس لأنها متلونة.
وليس إلا المداراة للخلق والاحتراز منهم واتخاذ المعارف من غير
طمع في صديق صادق.
فإن ندر فيكن غير مماثل، لأن الحسد إليه أسبق.
وليكن مرتفعاً عن رتبة العوام، غير طامع في نيل مقامك.
وإن كانت معاشرة هذا لا تشفي لأن المعاشرة ينبغي ان تكون بين العلماء
للمجانس فلزمهم من الإشارات في المخالطة ما تطيب به المجالسة، ولكن لا
سبيل إلى الوصال.
ومثل هذه الحال أنك إن استخدمت الأذكياء عرفوا باطنك، وإن استخدمت البله
انعكست مقاصدك.
فاجعل الأذكياء لحوائجك الخارجة. والبله لحوائجك في منزلك لئلا يعلموا
أسرارك.
واقنع من الأصدقاء، بمن وصفته لك، ثم لا تلقه إلا متدرعاً درع الحذر، ولا
تطلعه على باطن يمكن أن يستر عنه، وكن كما يقال عن الذئب:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخى الأعادي فهو يقظان هاجع
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى