رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل علماء الدنيا
رأيت نفراً ممن أفنى أوائل عمره وريعان شبابه في طلب العلم يصبر على أنواع
الأذى، وهجر فنون الراحات، أنفقه من الجهل، ورذيلته، وطلباً للعلم،
وفضيلته.
فلما نال منه طرفاً رفعه عن مراتب أرباب الدنيا، ومن لا علم له إلا
بالعاجل ضاق به معاشه أو قل ما ينشده لنسفه من حظوظ.
فسافر في البلاد يطلب من الأرذال، ويتواضع للسفلة وأهل الدناءة والمكاس
وغيرهم.
فخاطبت بعضهم وقلت: ويحك أين تلك الأنفة من الجهل التي سهرت لأجلها.
وأظمأت نهارك بسببها، فلما ارتفعت وانتفعت عدت إلى أسفل سافلين.
أفما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو به عن مقامات الأرذال ؟.
ولا معك يسير من العلم يسير بك عن مناخ الهوى ؟.
ولا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء ؟.
على أنه يبين لي أن سهرك وتعبك كأنهما كانا لنيل الدنيا.
ثم إني أراك تزعم أنك تريد شيئاً من الدنيا تستعين به على طلب العلم،
فاعلم أن التفاتك إلى نوع كسب تستغني به عن الأرذال أفضل من التزيد في
علمك.
فلو عرفت ما ينقص به دينك لم تر ف ما قد عزمت عليه زيادة، بل لعله كله
مخاطرة بالنفس، وبذل الوجه الذي طالما صين لمن لا يصلح التفات مثلك إلى
مثله.
وبعيد أن تقنع بعد شروعك في هذا الأمر بقدر الكفاف، وقد علمت ما في السؤال
بعد الكفاف من الإثم.
وأبعد منه أن تقدر على الورع في المأخوذ.
ومن لك بالسلامة والرجوع إلى الوطن ؟. وكم رمى قفر في بواديه من هالك.
ثم ما تحصله يفنى ويبقى منه ما أعطى، وعيب المتقين إياك، واقتداء الجاهلين
بك.
ويكفيك أنك عدت على ما علمت من ذم الدنيا بشينه إذ فعلت ما يناقضه، خصوصاً
وقد مر أكثر العمر.
ومن أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي.
فصل التخطيط لتحصيل العلوم النافعة
رأيت الشره في تحصيل الأشياء يفوت الشره عليه مقصوده.
وقد رأينا من كان شرهاً في جمع المال فحصل له الكثير منه وهو مع ذلك حريص
على الازدياد.
ولو فهم، علم أن المراد من المال إنفاقه في العمر، فإذا أنفق العمر في
تحصيله فات المقصودان جميعاً: وكم رأينا من جمع المال ولم يتمتع به فأبقاه
لغيره وأفنى نفسه كما قال الشاعر:
كدودة القز، ما تبنيه يهدمها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
وكذلك رأينا خلقاً يحرصون على جمع الكتب فينفقون أعمارهم في كتابتها،
وكدأب أهل الحديث ينفقون الأعمار في النسخ والسماع إلى آخر العمر ثم
ينقسمون.
فمنهم من يتشاغل بالحديث وعلمه وتصحيحه ولعله لا يفهم جواب حادثة، ولعل
عنده للحديث - أسلم سالما الله - مائة طريق.
وقد حكي لي عن بعض أصحاب الحديث أنه سمع جزء بن عرفة عن مائة شيخ، وكان
عنده سبعون نسخة.
ومنهم من يجمع الكتب ويسمعها ولا يدري ما فيها من صحة حديثها ولا من فهم
معناها، فتراه يقول الكتاب الفلاني سماعي وعندي له نسخة، والكتاب الفلاني
والفلاني فلا يعرف علم ما عنده من حيث فهم صحيحه من سقيمه.
وقد صده اشتغاله بذلك عن المهم من العلم فهم كما قال الحطيئة:
زوامل للأخبار لا علم عندها ... بمثقلها إلاّ كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أوراح في الغرائر
ثم ترى منهم من يتصدر بإتقانه للرواية وحدها فيمد يده إلى ما ليس من شغله،
فإن أفتى أخطأ، وإن تكلم في الأصول خلط.
ولولا أني لا أحب ذكر الناس لذكرت من أخبار كبار علمائهم وما
خلطوا ما يعتبر به، ولكنه لا يخفى على المحقق حالهم.
فإن قال قائل: أليس في الحديث منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب دنيا ؟.
قلت: أما العالم فلا أقول له اشبع من العلم، والا اقتصر على بعضه.
بل أقول له: قدم المهم فإن العاقل من قدر عمره وعمل بمقتضاه، وإن كان لا
سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب.
فإن وصل فقد أعد لكل مرحلة زاداً، وإن مات قبل الوصول فنيته تسلك به.
فإذا علم العاقل أن العمر قصير، وأن العلم كثير، فقبيح بالعاقل الطالب
لكماله الفضائل أن يتشاغل مثلاً بسماع الحديث ونسخه ليحصل كل طريق، وكل
رواية، وكل غريب.
وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة خصوصاً إن تشاغل بالنسخ.
ثم لا يحفظ القرآن.
أو يتشاغل بعلوم القرآن ولا يعرف الحديث.
أو بالخلاف في الفقه ولا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة.
فإن قال قائل: فدبر لي ما تختار لنفسك.
فأقول: ذو الهمة لا يخفي من زمان الصبا.
كما قل سفيان بن عيينة: قال لي أبي - وقد بغت خمس عشرة سنة - إنه قد انقضت
عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير تكن من أهله، فجعلت وصية أبي قبلة أميل
إليها ولا أميل عنها.
كما قال سفيان بن عيينة: قال لي أبي - وقد بلغت خمس عشرة سنة - إنه قد
انقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير تكن من أهله، فجعلت وصية أبي قبلة
أميل إليها ولا أميل عنها.
ثم قبل شروعي في الجواب أقول: ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير
الممكن دفعه عن النفس.
فلو كانت النبوة مثلاً تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية.
أو تصور أن يكون مثلاً خليفة لم يحسن به أن يقتنع بإمارة.
ولو صح له أن يكون ملكاً لم يرض أن يكون بشراً.
والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل.
وقد علم قصر العمر وكثرة العلم فيبتدىء بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره
نظراً متوسطاً لا يخفى عليه بذلك منه شيء.
وإن صح له قراءة القراءات السبعة وأشياء من النحو وكتب اللغة وابتدأ بأصول
الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث عليم الحديث
كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك.
وقد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب.
ولينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغني عنه كنسب الرسول صلى الله عليه
وسلم وأقاربه وأزواجه وما جرى له.
ثم ليقبل على الفقه فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل
الخلاف فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه فيطلبه من مظانه، كتفسير آية
وحديث وكلمة لغة.
ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم.
ويكفيه من النظر في الأصول ما يستدل به على وجود الصانع، فإذا أثبته
بالدليل وعرف ما يجوز عليه مما لا يجوز، وأثبت إرسال الرسل وعلم وجوب
القبول منهم، فقد احتوى على المقصود من علم الأصول.
فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه فإنه الأنفع.
ومهما فسح له في المهل فأمكنه تصنيف في علم، فإنه يخلف بذلك خلفه خلفاً
صالحاً.
مع اجتهاده في التسبب إلى اتخاذ الولد.
ثم يعلم أن الدنيا معبرة فيلتفت إلى فهم معاملة الله عز وجل، فإن مجموع ما
حصله من العلم يدله عليه.
فإذا تعرض لتحقيق معرفته ووقف على باب معاملته فقل أن يقف صادقاً إلا
ويجذب إلى مقام الولاية.
ومن أريد وفق.
وإن الله عز وجل أقواماً يتولى تربيتهم ويبعث إليهم في زمن الطفولية
مؤدباً، ويسمى العقل. ومقوماً، ويقال له الفهم، ويتولى تأديبهم وتثقيفهم،
ويهيء لهم أسباب القرب منه.
فإن لاح قاطع قطعهم عنه حماهم منه، وإن تعرضت بهم فتنة دفعها عنهم.
فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ونعوذ به من خذلان لا ينفع معه اجتهاد.
فصل نضح السرائر
إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة، كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند
الخلوات فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه، أو رجاء لثوابه، أو إجلالاً له،
فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه
الخلائق ولا يدرون أين هو.
وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته، أو على مقدار زيادة دفع ذلك
المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوت العود.
فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص وألسنتهم تمدحه ولا يعرفون لم.
ولا يقدرون على وصفه لبعدهم عن حقيقة معرفته.
وقد تمتد هذه الأرابيح بعد الموت على قدرها، فمنهم من يذكر بالخير مدة
مديدة ثم ينسى.
ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفي ذكره وقبره.
ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبداً.
وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحق.
فإنه على قدر مبارزته بالذنوب وعلى مقادير تلك الذنوب، يفوح منه ريح
الكراهة فتمقته القلوب.
فإن قل مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه.
وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه ولا يذمونه.
ورب خال بذنب كان سبب وقوعه في هوة شقوة في عيش الدنيا والآخرة وكأنه قيل
له: إبق بما آثرت فيبقى أبداً في التخبيط.
فانظروا إخواني إلى المعاصي أثرت وعثرت.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي
الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر.
فتلمحوا ما سطوته، واعرفوا ما ذكرته. ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم، فإن
الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص.
فصل الأقدار والأسباب
من عرف جريان الأقدار ثبت لها.
وأجهل الناس بعد هذا من قاواها، لأن مراد المقدر الذل له.
فإذا قاويت القدر فنلت مرادك من ذلك لم يبق لك ذل.
مثال هذا: أن يجوع الفقير فيصبر قدر الطاقة، فإذا عجز خرج إلى سؤال الخلق
مستحياُ من الله كيف يسألهم.
وإن كان له عذر بالحاجة التي ألجأته، غير أنه يرى أنه مغلوب الصبر فيبقى
معتذراً مستحياً وذاك المراد منه.
أو ليس بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فلا يقدر على العود إليها
حتى يدخل في خفارة المطعم بن عدي وهو كافر.
فسبحان من ناط الأمور بالأسباب، ليحصل ذل العارف بالحاجة إلى التسبب.
فصل محك الحوادث
سبحان المتصرف في خلقه بالاغتراب والإذلال ليبلو صبرهم، ويظهر جواهرهم في
الابتلاء.
هذا آدم صلى الله عليه وسلم تسجد له الملائكة ثم بعد قليل يخرج من الجنة.
وهذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه ثم بعد قليل ينجو في السفينة
ويهلك أعداؤه.
وهذا الخليل عليه السلام يلقى في النار ثم بعد قليل يخرج إلى السلامة.
وهذا الذبيح يضطجع مستسلماً ثم يسلم ويبقى المدح.
وهذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول.
وهذا الكليم عليه السلام يشتغل بالرعي ثم يرقى إلى التكليم.
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقال له بالأمس اليتيم ويقلب في عجائب
يلاقيها من الأعداء تارة ومن مكائد الفقر أخرى، وهو أثبت من جبل حراء. ثم
لما تم مراده من الفتح، وبلغ الغرض من أكبر الملوك وأهل الأرض نزل به ضيف
النقلة، فقال: واكرباه.
فمن تلمح بحر الدنيا وعلم كيف تتلقى الأمواج، وكيف يصبر على مدافعة الأيام
لم يستهول نزول بلاء، ولم يفرح بعاجل رخاء.
فصل في رياضة النفس
ينبغي للعاقل أن لا يقدم على العزائم حتى يزن نفسه هل يطيقها ؟ ويجرب نفسه
في ركوب بعضها سراً من الخلق فإنه لا يأمن أن يرى في حالة لا يصبر عليها،
ثم يعود فيفتضح.
مثله: رجل سمع بذكر الزهاد فرمى ثيابه الجميلة ولبس الدون وانفرد في
زاوية، وغلب على قلبه ذكر الموت والآخرة، فلم يلبث متقاضي الطبع أن ألح
بما جرت به العادة.
فمن القوم من عاد بمرة إلى أكثر مما كان عليه كأكل الناقه من مرض.
ومنهم من توسط الحال فبقي كالمذبذب.
وإنما العاقل هو الذي يستر نفسه بين الناس بثوب وسط لا يخرجه من أهل
الخير، ولا يدخله في زي أهل الفاقة.
فإن قويت عزيمته في بيته ما يطيق، وترك ثوب التجمل لستر الحال، ولم يظهر
شيئاً للخلق، فإنه أبعد من الرياء، وأسلم من الفضيحة.
وفي الناس من غلب عليه قصر الأمل وذكر الآخرة حتى دفن كتب العلم.
وهذا الفعل عندي من أعظم الخطأ وإن كان منقولاً عن جماعه من الكبار.
ولقد ذكرت هذا لبعض مشايخنا فقال: أخطأوا كلهم وقد تأولت لبعضهم بأنه كان
فيها أحاديث عن قوم ضعفاء ولم يميزوها، كما روي عن سفيان في دفن كتبه.
أو كان فيها شيء من الرأي فلم يحبوا أن يؤخذ عنهم فكان من جنس تحريق عثمان
بن عفان رضي الله عنه للمصاحف لئلا يؤخذ بشيء مما فيها من المجمع على غيره.
وهذا التأويل يصح في حق علمائهم.
فأما غسل أحمد بن أبي الحواري كتبه وابن أسباط فتفريط محض.
فالحذر الحذر من فعل يمنع منه الشرع أو من ارتكاب ما يظن عزيمة وهو خطيئة،
أو من إظهار ما لا يقوى عليه المظهر فيرجع القهقرى.
وعليكم من العمل بم تطيقون كما قال صلى الله عليه وسلم.
فصل أهوال الآخرة
أجهل الجهال من آثر عاجلاً على آجل لا يأمن سوء مغبته.
فكم قد سمعنا عن سلطان وأمير صاحب مال أطلق نفسه في شهواتها، ولم ينظر في
حلال وحرام فنزل به من الندم وقت الموت أضعاف ما التذ، ولقي من مرير
الحسرات ما لا يقاومه ولا ذرة من كل لذة.
ولو كان هذا فحسب لكفى حزناً كيف والجزاء الدائم بين يديه.
فالدنيا محبوبة للطبع لا ريب في ذلك ولا أنكر على طالبها ومؤثر شهواتها.
ولكن ينبغي له أن ينظر في كسبها ويعلم وجه أخذها، ليسلم له عاقبة لذته.
وإلا فلا خير في لذة من بعدها نار.
وهل عد في العقلاء قط من قيل له: اجلس في المملكة سنة ثم نقتلك.
هيهات بل الأمر بالعكس وهو أن العاقل من صابر مرارة الجهد سنة بل سنين
ليستريح في عاقبته.
وفي الجملة أف للذة أعقبت عقوبة.
وقد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال أخبرنا أبو بكر الخطيب قال
أخبرنا الحسن بن أبي طالب قال حدثنا يوسف بن عمر القواس قال حدثنا الحسين
بن إسماعيل إملاء قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن مسلمة
البلخي قال حدثنا محمد بن علي القوهستاني قال حدثنا دلف بن أبي دلف، قال:
رأيت كأن آتيا بعد موت أبي فقال: أجب الأمير. فقمت معه، فأدخلني دار وحشة
وعرة سوداء الحيطان، مقلعة السقوف والأبواب، ثم أصعدني درجاً فيها، ثم
أدخلني غرفة، فإذا في حيطانها أثر النيران، وإذا في أرضها أثر الرماد وإذا
أبي عريان واضعاً رأسه بين ركبتيه فقال لي كالمستفهم: دلف، قلت: نعم أصلح
الله الأمير ؟ فأنشأ يقول:
أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البرزخ الخفاق
قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقي
أفهمت، قلت: نعم ؟ فأنشأ يقول:
فلو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شيء
فصل جوانب الفضل
اللذات كلها بين حسي وعقلي، فنهاية اللذات الحسية وأعلاها النكاح.
وغاية اللذات العقلية العلم، فمن حصلت له الغايتان في الدنيا فقد نال
النهاية، وأنا أرشد الطالب إلى أعلى المطلوبين، غير أن للطالب المرزوق
علامة وهو أن يكون مرزوقاً علو الهمة وهذه الهمة تولد مع الطفل فتراه من
زمن طفولته يطلب معالي الأمور.
كما يروي في الحديث أن كان لعبد المطلب مفرش في الحجر فكان النبي صلى الله
عليه وسلم يأتي وهو طفل فيجلس عليه، فيقول عبد المطلب: إن لابني هذا شأناً.
فإن قال قائل: فإذا كانت لي همة ولم أرزق ما أطلب فما الحيلة ؟.
فالجواب أنه إذا امتنع الرزق من نوع لم يمتنع من نوع آخر.
ثم من البعيد أن يرزقك همة ولا يعينك، فانظر في حالك فلعله أعطاك شيئاً ما
شكرته، أو ابتلاك بشيء من الهوى ما صبرت عنه.
واعلم أنه ربما روي عنك من لذات الدنيا كثيراً ليؤثرك بلذات العلم، فإنك
ضعيف ربما لا تقوى على الجمع، فهو أعلم بما يصلحك.
وأما ما أردت شرحه لك فإن الشاب المبتدىء طلب العلم ينبغي له أن يأخذ من
كل علم طرفاً، ويجهل علم الفقه الأهم، ولا يقصر في معرفة النقل؛ فبه تبين
سير الكاملين.
وإذا رزق فصاحة من حيث الوضع، ثم أضيف إليها معرفة اللغة والنحو فقد شحذت
شفرة لسانه على أجود مسن.
ومتى أدى العلم لمعرفة الحق وخدمة الله عز وجل فتحت له أبواب لا تفتح
لغيره.
وينبغي له بالتلطف أن يجعل جزءاً من زمانه مصروفاً إلى توفير الاكتساب
والتجارة، مستنيباً فيها، غير مباشر لها مع التدبير في العيش الممتنع من
الإسراف والتبذير.
فإن رواية العلم والعمل به إلى درجة المعرفة لله عز وجل آسرة للمشاعر،
فربما شغلته لذة ما وصل إليه عن كل شيء، ويا لها حالة سليمة من آفة.
وإن وجد من طبعه منازعاً إلى الشوق في النكاح فليتخير السراري في الأغلب
غل.
وليعزل عن المملوكات إلى أن يجرب خلقهن ودينهن.
فإن رضين طلب الولد منهن، وإلا فالاستبدال بهن سهل.
ولا يتزوج حرة إلا أن يعلم أنها تصبر على التزويج عليها والتسري،
وليكن قصده الاستمتاع بها لا إجهاد النفس في الإنزال.
فإن ذلك يهدم قوته فيضعف الأصل.
فهذه الحالة الجامع من لذتي الحس والعقل ذكرتها على وجه الإشارة.
وفهم الذكي يميل عليه ما لم أشرحه.
؟فصل شروط التعلم والحفظ أعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة، ومن
الغلط الانهماك في الإعادة ليلاً ونهاراً، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال
إلا أياماً ثم يفتر أو يمرض.
وقد روينا أن الطبيب دخل على أبي بكر بن الأنباري في مرض موت، فنظر إلى
مائة كتاب وقال: قد كنت تفعل شيئاً لا يفعله أحد، ثم خرج فقال: ما يجيء
منه شيء.
فقيل له: ما الذي كنت تفعل ؟ قال: كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة من
الغلط تحمل القلب حفظ الكثير من فنون شتى، فإن القلب جارحة من الجوارح،
وكما أن من الناس من يحمل المائة رطل ومنهم من يعجز عن عشرين رطلاً، فكذلك
القلوب.
فليأخذ الإنسان على قدر قوته ودونها، فإنه إذا استنفدها في وقت ضاعت منه
أوقات.
كما أن الشره يأكل فضل لقيمات فيكون سبباً إلى منع أكلات.
والصواب أن يأخذ قدر ما يطيق ويعيده في وقتين من النهار والليل.
ويرفه القوي في بقية الزمان، والدوام أصل عظيم.
فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ.
وللحفظ أوقات من العمر فأفضلها الصبا وما يقاربه من أوقات الزمان.
وأفضلهما إعادة الأسحار وأنصاف النهار، والغدوات خير من العشيات، وأوقات
الجوع خير من أوقات الشبع.
ولا يحمد الحفظ بحضرة خضرة وعلى شاطىء نهر، لأن ذلك يلهي.
والأماكن العالية للحفظ خير من السوافل.
والخلوة أصل وجمع الهم أصل الأصول.
وترفيه النفس من الإعادة يوماً في الأسبوع ليثبت المحفوظ وتأخذ النفس قوة
كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ثم يبني عليه.
وتقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم، وأن لا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله.
ومن لم يجد نشاطاً للحفظ فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح.
وإصلاح المزاج من الأصول العظيمة، فإن للمأكولات أثراً في الحفظ.
قال الزهري: ما أكلت خلا منذ عالجت الحفظ.
وقيل لأبي حنيفة: بم يستعان على حفظ الفقه ؟ قال: بجمع الهم.
وقال حماد بن سلمة: بقلة الغم.
وقال مكحول: من نظف ثوبه قل همه، ومن طابت ريحه زاد عقله، ومن جمع بينهما
زادت مروءته.
وأختار للمبتدي في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن فإن أحمد بن حنبل
لم يتزوج حتى تمت له أربعون سنة، وهذا لأجل جمع الهم.
فإن غلب عليه الأمر تزوج واجتهد في المدافعة بالفعل لتتوفر القوة على
إعادة العلم.
ثم لينظر ما يحفظ من العلم فإن العمر عزيز والعلم غزير.
وإن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم
حسناً، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل.
وأفضل ما تشوغل به حفظ القرآن ثم الفقه، وما عبد هذا بمنزلة تابع، ومن رزق
يقظة دلته يقظته فلم يحتج إلى دليل، ومن قصد وجه الله تعالى بالعلم دله،
المقصود على الأحسن: " وَاتّ؟قُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللّهُ " .
رأيت نفراً ممن أفنى أوائل عمره وريعان شبابه في طلب العلم يصبر على أنواع
الأذى، وهجر فنون الراحات، أنفقه من الجهل، ورذيلته، وطلباً للعلم،
وفضيلته.
فلما نال منه طرفاً رفعه عن مراتب أرباب الدنيا، ومن لا علم له إلا
بالعاجل ضاق به معاشه أو قل ما ينشده لنسفه من حظوظ.
فسافر في البلاد يطلب من الأرذال، ويتواضع للسفلة وأهل الدناءة والمكاس
وغيرهم.
فخاطبت بعضهم وقلت: ويحك أين تلك الأنفة من الجهل التي سهرت لأجلها.
وأظمأت نهارك بسببها، فلما ارتفعت وانتفعت عدت إلى أسفل سافلين.
أفما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو به عن مقامات الأرذال ؟.
ولا معك يسير من العلم يسير بك عن مناخ الهوى ؟.
ولا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء ؟.
على أنه يبين لي أن سهرك وتعبك كأنهما كانا لنيل الدنيا.
ثم إني أراك تزعم أنك تريد شيئاً من الدنيا تستعين به على طلب العلم،
فاعلم أن التفاتك إلى نوع كسب تستغني به عن الأرذال أفضل من التزيد في
علمك.
فلو عرفت ما ينقص به دينك لم تر ف ما قد عزمت عليه زيادة، بل لعله كله
مخاطرة بالنفس، وبذل الوجه الذي طالما صين لمن لا يصلح التفات مثلك إلى
مثله.
وبعيد أن تقنع بعد شروعك في هذا الأمر بقدر الكفاف، وقد علمت ما في السؤال
بعد الكفاف من الإثم.
وأبعد منه أن تقدر على الورع في المأخوذ.
ومن لك بالسلامة والرجوع إلى الوطن ؟. وكم رمى قفر في بواديه من هالك.
ثم ما تحصله يفنى ويبقى منه ما أعطى، وعيب المتقين إياك، واقتداء الجاهلين
بك.
ويكفيك أنك عدت على ما علمت من ذم الدنيا بشينه إذ فعلت ما يناقضه، خصوصاً
وقد مر أكثر العمر.
ومن أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي.
رأيت الشره في تحصيل الأشياء يفوت الشره عليه مقصوده.
وقد رأينا من كان شرهاً في جمع المال فحصل له الكثير منه وهو مع ذلك حريص
على الازدياد.
ولو فهم، علم أن المراد من المال إنفاقه في العمر، فإذا أنفق العمر في
تحصيله فات المقصودان جميعاً: وكم رأينا من جمع المال ولم يتمتع به فأبقاه
لغيره وأفنى نفسه كما قال الشاعر:
كدودة القز، ما تبنيه يهدمها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
وكذلك رأينا خلقاً يحرصون على جمع الكتب فينفقون أعمارهم في كتابتها،
وكدأب أهل الحديث ينفقون الأعمار في النسخ والسماع إلى آخر العمر ثم
ينقسمون.
فمنهم من يتشاغل بالحديث وعلمه وتصحيحه ولعله لا يفهم جواب حادثة، ولعل
عنده للحديث - أسلم سالما الله - مائة طريق.
وقد حكي لي عن بعض أصحاب الحديث أنه سمع جزء بن عرفة عن مائة شيخ، وكان
عنده سبعون نسخة.
ومنهم من يجمع الكتب ويسمعها ولا يدري ما فيها من صحة حديثها ولا من فهم
معناها، فتراه يقول الكتاب الفلاني سماعي وعندي له نسخة، والكتاب الفلاني
والفلاني فلا يعرف علم ما عنده من حيث فهم صحيحه من سقيمه.
وقد صده اشتغاله بذلك عن المهم من العلم فهم كما قال الحطيئة:
زوامل للأخبار لا علم عندها ... بمثقلها إلاّ كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أوراح في الغرائر
ثم ترى منهم من يتصدر بإتقانه للرواية وحدها فيمد يده إلى ما ليس من شغله،
فإن أفتى أخطأ، وإن تكلم في الأصول خلط.
ولولا أني لا أحب ذكر الناس لذكرت من أخبار كبار علمائهم وما
خلطوا ما يعتبر به، ولكنه لا يخفى على المحقق حالهم.
فإن قال قائل: أليس في الحديث منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب دنيا ؟.
قلت: أما العالم فلا أقول له اشبع من العلم، والا اقتصر على بعضه.
بل أقول له: قدم المهم فإن العاقل من قدر عمره وعمل بمقتضاه، وإن كان لا
سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب.
فإن وصل فقد أعد لكل مرحلة زاداً، وإن مات قبل الوصول فنيته تسلك به.
فإذا علم العاقل أن العمر قصير، وأن العلم كثير، فقبيح بالعاقل الطالب
لكماله الفضائل أن يتشاغل مثلاً بسماع الحديث ونسخه ليحصل كل طريق، وكل
رواية، وكل غريب.
وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة خصوصاً إن تشاغل بالنسخ.
ثم لا يحفظ القرآن.
أو يتشاغل بعلوم القرآن ولا يعرف الحديث.
أو بالخلاف في الفقه ولا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة.
فإن قال قائل: فدبر لي ما تختار لنفسك.
فأقول: ذو الهمة لا يخفي من زمان الصبا.
كما قل سفيان بن عيينة: قال لي أبي - وقد بغت خمس عشرة سنة - إنه قد انقضت
عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير تكن من أهله، فجعلت وصية أبي قبلة أميل
إليها ولا أميل عنها.
كما قال سفيان بن عيينة: قال لي أبي - وقد بلغت خمس عشرة سنة - إنه قد
انقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير تكن من أهله، فجعلت وصية أبي قبلة
أميل إليها ولا أميل عنها.
ثم قبل شروعي في الجواب أقول: ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير
الممكن دفعه عن النفس.
فلو كانت النبوة مثلاً تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية.
أو تصور أن يكون مثلاً خليفة لم يحسن به أن يقتنع بإمارة.
ولو صح له أن يكون ملكاً لم يرض أن يكون بشراً.
والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل.
وقد علم قصر العمر وكثرة العلم فيبتدىء بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره
نظراً متوسطاً لا يخفى عليه بذلك منه شيء.
وإن صح له قراءة القراءات السبعة وأشياء من النحو وكتب اللغة وابتدأ بأصول
الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث عليم الحديث
كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك.
وقد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب.
ولينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغني عنه كنسب الرسول صلى الله عليه
وسلم وأقاربه وأزواجه وما جرى له.
ثم ليقبل على الفقه فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل
الخلاف فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه فيطلبه من مظانه، كتفسير آية
وحديث وكلمة لغة.
ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم.
ويكفيه من النظر في الأصول ما يستدل به على وجود الصانع، فإذا أثبته
بالدليل وعرف ما يجوز عليه مما لا يجوز، وأثبت إرسال الرسل وعلم وجوب
القبول منهم، فقد احتوى على المقصود من علم الأصول.
فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه فإنه الأنفع.
ومهما فسح له في المهل فأمكنه تصنيف في علم، فإنه يخلف بذلك خلفه خلفاً
صالحاً.
مع اجتهاده في التسبب إلى اتخاذ الولد.
ثم يعلم أن الدنيا معبرة فيلتفت إلى فهم معاملة الله عز وجل، فإن مجموع ما
حصله من العلم يدله عليه.
فإذا تعرض لتحقيق معرفته ووقف على باب معاملته فقل أن يقف صادقاً إلا
ويجذب إلى مقام الولاية.
ومن أريد وفق.
وإن الله عز وجل أقواماً يتولى تربيتهم ويبعث إليهم في زمن الطفولية
مؤدباً، ويسمى العقل. ومقوماً، ويقال له الفهم، ويتولى تأديبهم وتثقيفهم،
ويهيء لهم أسباب القرب منه.
فإن لاح قاطع قطعهم عنه حماهم منه، وإن تعرضت بهم فتنة دفعها عنهم.
فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ونعوذ به من خذلان لا ينفع معه اجتهاد.
فصل نضح السرائر
إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة، كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند
الخلوات فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه، أو رجاء لثوابه، أو إجلالاً له،
فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه
الخلائق ولا يدرون أين هو.
وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته، أو على مقدار زيادة دفع ذلك
المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوت العود.
فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص وألسنتهم تمدحه ولا يعرفون لم.
ولا يقدرون على وصفه لبعدهم عن حقيقة معرفته.
وقد تمتد هذه الأرابيح بعد الموت على قدرها، فمنهم من يذكر بالخير مدة
مديدة ثم ينسى.
ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفي ذكره وقبره.
ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبداً.
وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحق.
فإنه على قدر مبارزته بالذنوب وعلى مقادير تلك الذنوب، يفوح منه ريح
الكراهة فتمقته القلوب.
فإن قل مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه.
وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه ولا يذمونه.
ورب خال بذنب كان سبب وقوعه في هوة شقوة في عيش الدنيا والآخرة وكأنه قيل
له: إبق بما آثرت فيبقى أبداً في التخبيط.
فانظروا إخواني إلى المعاصي أثرت وعثرت.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي
الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر.
فتلمحوا ما سطوته، واعرفوا ما ذكرته. ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم، فإن
الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص.
فصل الأقدار والأسباب
من عرف جريان الأقدار ثبت لها.
وأجهل الناس بعد هذا من قاواها، لأن مراد المقدر الذل له.
فإذا قاويت القدر فنلت مرادك من ذلك لم يبق لك ذل.
مثال هذا: أن يجوع الفقير فيصبر قدر الطاقة، فإذا عجز خرج إلى سؤال الخلق
مستحياُ من الله كيف يسألهم.
وإن كان له عذر بالحاجة التي ألجأته، غير أنه يرى أنه مغلوب الصبر فيبقى
معتذراً مستحياً وذاك المراد منه.
أو ليس بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فلا يقدر على العود إليها
حتى يدخل في خفارة المطعم بن عدي وهو كافر.
فسبحان من ناط الأمور بالأسباب، ليحصل ذل العارف بالحاجة إلى التسبب.
سبحان المتصرف في خلقه بالاغتراب والإذلال ليبلو صبرهم، ويظهر جواهرهم في
الابتلاء.
هذا آدم صلى الله عليه وسلم تسجد له الملائكة ثم بعد قليل يخرج من الجنة.
وهذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه ثم بعد قليل ينجو في السفينة
ويهلك أعداؤه.
وهذا الخليل عليه السلام يلقى في النار ثم بعد قليل يخرج إلى السلامة.
وهذا الذبيح يضطجع مستسلماً ثم يسلم ويبقى المدح.
وهذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول.
وهذا الكليم عليه السلام يشتغل بالرعي ثم يرقى إلى التكليم.
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقال له بالأمس اليتيم ويقلب في عجائب
يلاقيها من الأعداء تارة ومن مكائد الفقر أخرى، وهو أثبت من جبل حراء. ثم
لما تم مراده من الفتح، وبلغ الغرض من أكبر الملوك وأهل الأرض نزل به ضيف
النقلة، فقال: واكرباه.
فمن تلمح بحر الدنيا وعلم كيف تتلقى الأمواج، وكيف يصبر على مدافعة الأيام
لم يستهول نزول بلاء، ولم يفرح بعاجل رخاء.
ينبغي للعاقل أن لا يقدم على العزائم حتى يزن نفسه هل يطيقها ؟ ويجرب نفسه
في ركوب بعضها سراً من الخلق فإنه لا يأمن أن يرى في حالة لا يصبر عليها،
ثم يعود فيفتضح.
مثله: رجل سمع بذكر الزهاد فرمى ثيابه الجميلة ولبس الدون وانفرد في
زاوية، وغلب على قلبه ذكر الموت والآخرة، فلم يلبث متقاضي الطبع أن ألح
بما جرت به العادة.
فمن القوم من عاد بمرة إلى أكثر مما كان عليه كأكل الناقه من مرض.
ومنهم من توسط الحال فبقي كالمذبذب.
وإنما العاقل هو الذي يستر نفسه بين الناس بثوب وسط لا يخرجه من أهل
الخير، ولا يدخله في زي أهل الفاقة.
فإن قويت عزيمته في بيته ما يطيق، وترك ثوب التجمل لستر الحال، ولم يظهر
شيئاً للخلق، فإنه أبعد من الرياء، وأسلم من الفضيحة.
وفي الناس من غلب عليه قصر الأمل وذكر الآخرة حتى دفن كتب العلم.
وهذا الفعل عندي من أعظم الخطأ وإن كان منقولاً عن جماعه من الكبار.
ولقد ذكرت هذا لبعض مشايخنا فقال: أخطأوا كلهم وقد تأولت لبعضهم بأنه كان
فيها أحاديث عن قوم ضعفاء ولم يميزوها، كما روي عن سفيان في دفن كتبه.
أو كان فيها شيء من الرأي فلم يحبوا أن يؤخذ عنهم فكان من جنس تحريق عثمان
بن عفان رضي الله عنه للمصاحف لئلا يؤخذ بشيء مما فيها من المجمع على غيره.
وهذا التأويل يصح في حق علمائهم.
فأما غسل أحمد بن أبي الحواري كتبه وابن أسباط فتفريط محض.
فالحذر الحذر من فعل يمنع منه الشرع أو من ارتكاب ما يظن عزيمة وهو خطيئة،
أو من إظهار ما لا يقوى عليه المظهر فيرجع القهقرى.
وعليكم من العمل بم تطيقون كما قال صلى الله عليه وسلم.
فصل أهوال الآخرة
أجهل الجهال من آثر عاجلاً على آجل لا يأمن سوء مغبته.
فكم قد سمعنا عن سلطان وأمير صاحب مال أطلق نفسه في شهواتها، ولم ينظر في
حلال وحرام فنزل به من الندم وقت الموت أضعاف ما التذ، ولقي من مرير
الحسرات ما لا يقاومه ولا ذرة من كل لذة.
ولو كان هذا فحسب لكفى حزناً كيف والجزاء الدائم بين يديه.
فالدنيا محبوبة للطبع لا ريب في ذلك ولا أنكر على طالبها ومؤثر شهواتها.
ولكن ينبغي له أن ينظر في كسبها ويعلم وجه أخذها، ليسلم له عاقبة لذته.
وإلا فلا خير في لذة من بعدها نار.
وهل عد في العقلاء قط من قيل له: اجلس في المملكة سنة ثم نقتلك.
هيهات بل الأمر بالعكس وهو أن العاقل من صابر مرارة الجهد سنة بل سنين
ليستريح في عاقبته.
وفي الجملة أف للذة أعقبت عقوبة.
وقد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال أخبرنا أبو بكر الخطيب قال
أخبرنا الحسن بن أبي طالب قال حدثنا يوسف بن عمر القواس قال حدثنا الحسين
بن إسماعيل إملاء قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن مسلمة
البلخي قال حدثنا محمد بن علي القوهستاني قال حدثنا دلف بن أبي دلف، قال:
رأيت كأن آتيا بعد موت أبي فقال: أجب الأمير. فقمت معه، فأدخلني دار وحشة
وعرة سوداء الحيطان، مقلعة السقوف والأبواب، ثم أصعدني درجاً فيها، ثم
أدخلني غرفة، فإذا في حيطانها أثر النيران، وإذا في أرضها أثر الرماد وإذا
أبي عريان واضعاً رأسه بين ركبتيه فقال لي كالمستفهم: دلف، قلت: نعم أصلح
الله الأمير ؟ فأنشأ يقول:
أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البرزخ الخفاق
قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقي
أفهمت، قلت: نعم ؟ فأنشأ يقول:
فلو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شيء
اللذات كلها بين حسي وعقلي، فنهاية اللذات الحسية وأعلاها النكاح.
وغاية اللذات العقلية العلم، فمن حصلت له الغايتان في الدنيا فقد نال
النهاية، وأنا أرشد الطالب إلى أعلى المطلوبين، غير أن للطالب المرزوق
علامة وهو أن يكون مرزوقاً علو الهمة وهذه الهمة تولد مع الطفل فتراه من
زمن طفولته يطلب معالي الأمور.
كما يروي في الحديث أن كان لعبد المطلب مفرش في الحجر فكان النبي صلى الله
عليه وسلم يأتي وهو طفل فيجلس عليه، فيقول عبد المطلب: إن لابني هذا شأناً.
فإن قال قائل: فإذا كانت لي همة ولم أرزق ما أطلب فما الحيلة ؟.
فالجواب أنه إذا امتنع الرزق من نوع لم يمتنع من نوع آخر.
ثم من البعيد أن يرزقك همة ولا يعينك، فانظر في حالك فلعله أعطاك شيئاً ما
شكرته، أو ابتلاك بشيء من الهوى ما صبرت عنه.
واعلم أنه ربما روي عنك من لذات الدنيا كثيراً ليؤثرك بلذات العلم، فإنك
ضعيف ربما لا تقوى على الجمع، فهو أعلم بما يصلحك.
وأما ما أردت شرحه لك فإن الشاب المبتدىء طلب العلم ينبغي له أن يأخذ من
كل علم طرفاً، ويجهل علم الفقه الأهم، ولا يقصر في معرفة النقل؛ فبه تبين
سير الكاملين.
وإذا رزق فصاحة من حيث الوضع، ثم أضيف إليها معرفة اللغة والنحو فقد شحذت
شفرة لسانه على أجود مسن.
ومتى أدى العلم لمعرفة الحق وخدمة الله عز وجل فتحت له أبواب لا تفتح
لغيره.
وينبغي له بالتلطف أن يجعل جزءاً من زمانه مصروفاً إلى توفير الاكتساب
والتجارة، مستنيباً فيها، غير مباشر لها مع التدبير في العيش الممتنع من
الإسراف والتبذير.
فإن رواية العلم والعمل به إلى درجة المعرفة لله عز وجل آسرة للمشاعر،
فربما شغلته لذة ما وصل إليه عن كل شيء، ويا لها حالة سليمة من آفة.
وإن وجد من طبعه منازعاً إلى الشوق في النكاح فليتخير السراري في الأغلب
غل.
وليعزل عن المملوكات إلى أن يجرب خلقهن ودينهن.
فإن رضين طلب الولد منهن، وإلا فالاستبدال بهن سهل.
ولا يتزوج حرة إلا أن يعلم أنها تصبر على التزويج عليها والتسري،
وليكن قصده الاستمتاع بها لا إجهاد النفس في الإنزال.
فإن ذلك يهدم قوته فيضعف الأصل.
فهذه الحالة الجامع من لذتي الحس والعقل ذكرتها على وجه الإشارة.
وفهم الذكي يميل عليه ما لم أشرحه.
؟فصل شروط التعلم والحفظ أعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة، ومن
الغلط الانهماك في الإعادة ليلاً ونهاراً، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال
إلا أياماً ثم يفتر أو يمرض.
وقد روينا أن الطبيب دخل على أبي بكر بن الأنباري في مرض موت، فنظر إلى
مائة كتاب وقال: قد كنت تفعل شيئاً لا يفعله أحد، ثم خرج فقال: ما يجيء
منه شيء.
فقيل له: ما الذي كنت تفعل ؟ قال: كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة من
الغلط تحمل القلب حفظ الكثير من فنون شتى، فإن القلب جارحة من الجوارح،
وكما أن من الناس من يحمل المائة رطل ومنهم من يعجز عن عشرين رطلاً، فكذلك
القلوب.
فليأخذ الإنسان على قدر قوته ودونها، فإنه إذا استنفدها في وقت ضاعت منه
أوقات.
كما أن الشره يأكل فضل لقيمات فيكون سبباً إلى منع أكلات.
والصواب أن يأخذ قدر ما يطيق ويعيده في وقتين من النهار والليل.
ويرفه القوي في بقية الزمان، والدوام أصل عظيم.
فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ.
وللحفظ أوقات من العمر فأفضلها الصبا وما يقاربه من أوقات الزمان.
وأفضلهما إعادة الأسحار وأنصاف النهار، والغدوات خير من العشيات، وأوقات
الجوع خير من أوقات الشبع.
ولا يحمد الحفظ بحضرة خضرة وعلى شاطىء نهر، لأن ذلك يلهي.
والأماكن العالية للحفظ خير من السوافل.
والخلوة أصل وجمع الهم أصل الأصول.
وترفيه النفس من الإعادة يوماً في الأسبوع ليثبت المحفوظ وتأخذ النفس قوة
كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ثم يبني عليه.
وتقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم، وأن لا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله.
ومن لم يجد نشاطاً للحفظ فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح.
وإصلاح المزاج من الأصول العظيمة، فإن للمأكولات أثراً في الحفظ.
قال الزهري: ما أكلت خلا منذ عالجت الحفظ.
وقيل لأبي حنيفة: بم يستعان على حفظ الفقه ؟ قال: بجمع الهم.
وقال حماد بن سلمة: بقلة الغم.
وقال مكحول: من نظف ثوبه قل همه، ومن طابت ريحه زاد عقله، ومن جمع بينهما
زادت مروءته.
وأختار للمبتدي في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن فإن أحمد بن حنبل
لم يتزوج حتى تمت له أربعون سنة، وهذا لأجل جمع الهم.
فإن غلب عليه الأمر تزوج واجتهد في المدافعة بالفعل لتتوفر القوة على
إعادة العلم.
ثم لينظر ما يحفظ من العلم فإن العمر عزيز والعلم غزير.
وإن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم
حسناً، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل.
وأفضل ما تشوغل به حفظ القرآن ثم الفقه، وما عبد هذا بمنزلة تابع، ومن رزق
يقظة دلته يقظته فلم يحتج إلى دليل، ومن قصد وجه الله تعالى بالعلم دله،
المقصود على الأحسن: " وَاتّ؟قُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللّهُ " .
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل بين الخطأ والتوبة
من أراد دوام العافية والسلامة فليتق الله عز وجل.
فإنه ما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافيه التقوى وإن قل إلا وجد عقوبته
عاجلة أو آجلة.
ومن الاغترار أن تسيء فترى إحساناً فتظن أنك قد سومحت، وتنسى: " مَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ " .
وربما قالت النفس: إنه يغفر فتسامحت ولا شك أنه يغفر ولكن لمن يشاء.
وأنا أشرح لك حالاً فتأمله بفكرك تعرف معنى المغفرة.
وذلك أن من هفا هفوة لم يقصدها ولم يعزم عليها قبل الفعل ولا عزم على
العود بعد الفعل ثم انتبه لما فعل فاستغفر الله كان فعله وإن دخله عمداً
في مقام خطأ.
مثل أن يعرض له مستحسن فيغلبه الطبع فيطلق النظر ويتشاغل في حال نظره
بالتذاذ الطبع عن تلمح معنى النهي، فيكون كالغائب أو كالسكران، فإذا انتبه
لنفسه ندم على فعله فقام الندم بغسل تلك الأوساخ التي كانت كأنها غلطة لم
تقصد.
فهذا معنى قوله تعالى: " إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفْ مِنَ الشيطان تَذَكّرُوا
فَإذَا هم مُبْصِرُونَ " .
فأما المداوم على تلك النظرة المردد لها، المصر عليها، فكأنه في
مقام متعمد للنهي مبارز بالخلاف فالعفو يبعد عنه بمقدار إصراره.
ومن البعد أن لا يرى الجزاء على ذلك، كما قال ابن الجلاء: رآني شيخي وأنا
قائم أتأمل حدثاً نصرانياً، ما هذا ؟ لترين غبها ولو بعد حين، فنسيت
القرآن بعد أربعين سنة.
واعلم أنهم من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة تتأخر.
ومن أعظم العقوبة أن لا يحس الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدين وطمس
القلوب وسوء الاختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن وبلوغ الأغراض.
قال بعض المعتبرين: أطلقت نظري فيما لا يحل لي، ثم كنت أنتظر العقوبة،
فألجئت إلى سفر طويل لا نية لي فيه، فلقيت المشاق، ثم أعقبت ذلك موت أعز
الخلق عندي، وذهاب أشياء كان لها وقع عظيم عندي، ثم تلافيت أمري بالتوبة
فصلح حالي.
ثم عاد الهوى فحملين على إطلاق بصري مرة أخرى، فطمس قلبي وعدمت رقته،
واستلب مني ما هو أكثر من فقد الأول، ووقع لي تعويض عن المفقود بما كان
فقده أصلح.
فلما تأملت ما عوضت وما سلب مني صحت من ألم تلك السياط.
فها أنا أنادي من على الساحل: إخواني احذروا لجة هذا البحر، ولا تغتروا
بسكونه، وعليكم بالساحل، ولازموا حصن التقوى فالعقوبة مرة.
واعلموا أن في ملازمة التقوى مرارات من فقد الأغراض والمشتهيات، غير أنها
في ضرب المثل كالحمية تعقب صحة، والتخليط ربما جلب موت الفجأة.
وبالله لو نمتم على المزابل مع الكلاب في طلب رضى المبتلي كان قليلاً في
نيل رضاه.
ولو بلغتم نهاية الأماني من أغراض الدنيا مع إعراضه عنكم كانت سلامتكم
هلاكاً، وعافيتكم مرضاً، وصحتكم سقماً والأمر بآخره، والعاقل من تلمح
العواقب.
وصابروا رحمكم الله تعالى هجير البلاء فما أسرع زواله.
والله الموفق إذ لا حول إلا به ولا قوة إلا بفضله.
فصل خطر الجدل على العامة
قدم إلى بغداد جماعة من أهل البدع الأعاجم فارتقوا منابر التذكير للعوام،
فكان معظم مجالسهم أنهم يقولون: ليس لله في الأرض كلام. وهل المصحف إلا
ورق وعفص وزاج. وإن الله ليس في السماء وإن الجارية التي قال لها النبي
صلى الله عليه وسلم أين الله ؟ كانت خرساء فأشارت إلى السماء. أي ليس هو
من الأصنام التي تعبد في الأرض.
ثم يقولون: أين الحروفية الذين يزعمون أن القرآن حرف وصوت، هذا عبارة
جبريل. فما زالوا كذلك حتى هان تعظيم القرآن في صدور أكثر العوام، وصار
أحدهم يسمع فيقول هذا هو الصحيح، وإلا فالقرآن شيء يجيء به جبريل في كيس.
فشكا إلي جماعة من أهل السنة فقلت لهم اصبروا فلا بد للشبهات أن ترفع
رأسها في بعض الأوقات، وإن كانت مدموغة. وللباطل جولة وللحق صولة
والدجالون كثير. ولا يخلو بلد ممن يضرب البهرج على مثل سكة السلطان.
قال قائل: فما جوابنا عن قولهم ؟ قلت: اعلم وفقك الله تعالى أن الله عز
وجل ورسوله قنعا من الخلق بالإيمان بالجمل ولم يكلفهم معرفة التفاصيل.
إما لأن الاطلاع على التفاصيل يخبط العقائد وإما لأن قوى البشر تعجز عن
مطالعة ذلك.
فأول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إثبات الخالق ونزل عليه القرآن
بالدليل على وجود الخالق بالنظر في صنعه فقال تعالى: " أَمَّنْ جَعَل
الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَها أَنْهاراً " .
وقال تعالى: " وفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرْونَ " .
وما زال يستدل على وجوده بمخلوقاته، وعلى قدرته بمنوعاته، ثم أثبت نبوة
نبيه بمعجزاته، وكان من أعظمها القرآن الذي جاء به فعجز الخلائق عن مثله.
واكتفى بهذه الأدلة جماعة من الصحابة، ومضى على ذلك القرن الأول والمشرب
صاف لم يتكدر.
وعلم الله عز وجل ما سيكون من البدع، فبالغ في إثبات الأدلة وملأ بها
القرآن.
ولما كان القرآن هو منبع العلوم، وأكبر المعجزات للرسول، أكد الأمر فيه
فقال تعالى: " وهذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ " ، " ونُنزِّل مِنَ
الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاءٌ " .
فأخبر أنه كلامه بقوله تعالى: " يُريدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ
اللَّهِ " .
وأخبر أنه مسموع بقوله تعالى: " حَتى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ " .
وأخبر أنه محفوظ فقال تعالى: " في لَوْحٍ مَحْفُوظٍ " .
وقال تعالى: " بَلْ هُوَ آياتٌ بيِّنَاتٌ في صُدُورِ الذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمِ " .
وأخبر أنه مكتوب ومتلو فقال تعالى: " وَما كُنْتَ تَتْلو مِنْ
قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ولا تَخَطُّهُ بِيَمِينِك " .
إلى ما يطول شرحه من تعدد الآيات في هذه المعاني التي توجب إثبات القرآن.
ثم نزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون أتى به من قبل نفسه. فقال
تعالى. " أَمْ يَقولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُو الحقُّ مِنْ ربِّك " .
وتواعده لو فعل فقال تعالى: " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَينَا بَعضَ الأقاويل "
.
وقال في حق الزاعم إنه كلام الخلق حين قال: " إِنْ هذَا إِلاَّ قَوْلُ
البَشَرِ سأصْليهِ سَقَر " .
ولما عذب كل أمة بنوع عذاب تولاه بعض الملائكة كصيحة جبريل عليه السلام
بثمود، وإرسال الريح على عاد، والخسف بقارون، وقلب جبريل ديار قوم لوط
عليه السلام، وإرسال الطير الأبابيل على من قصد تخريب الكعبة.
تولى هو بنفسه عقاب المكذبين بالقرآن فقال تعالى: " فذرني وَمَنْ
يُكَذِّبُ بِهذَا الحديث " . " ذَرْني ومَنْ خَلَقتُ وَحِيداً " .
وهذا لأنه أصل هذه الشرائع والمثبت لكل شريعة تقدمت. فإن جمع الملل ليس
عندهم ما يدل على صحة ما كانوا فيه إلا كتابنا لأن كتبهم غيرت وبدلت.
وقد علم كل ذي عقل أن القائل: " إِن هذَا إِلاَّ قَوْلُ البشَرِ " إنما
أشار إلى ما سمعه.
ولا يختلف أولو الألباب وأهل الفهم للخطاب. أن قوله " وإنه " كناية عن
القرآن، وقوله: " تنزل به " كناية أيضاً عنه وقوله: " هذا كتاب " إشارة
إلى حاضر.
وهذا أمر مستقر لم يختلف فيه أحد من القدماء في زمن الرسول صلى الله عليه
وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، ثم دس الشيطان دسائس البدع فقال قوم: هذا
المشار إليه مخلوق، فثبت الإمام أحمد رحمة الله ثبوتاً غيره على دفع هذا
القوم لئلا يتطرق إلى القرآن ما يمحو بعض تعظيمه في النفوس، ويخرجه عن
الإضافة إلى الله عز وجل.
ورأى أن ابتداع ما لم يقل فيه لا يجوز استعماله فقال: كيف أقول ما لم يقل.
ثم لم يختلف الناس في غير ذلك، إلى أن نشأ علي بن إسماعيل الأشعري. فقال
مرة بقول المعتزلة، ثم عن له فادعى أن الكلام صفة قائمة بالنفس. فأوجبت
دعواه هذه أن ما عندنا مخلوق.
وزادت فخبطت العقائد فما زال أهل البدع يجوبون في تيارها إلى اليوم.
والكلام في هذه المسألة مرتب بذكر الحجج والشبه في كتب الأصول فلا أطيل به
ههنا بل أذكر لك جملة تكفي من أراد الله هداه، وهو أن الشرع قنع منا
بالإيمان جملة وبتعظيم الظواهر، ونهى عن الخوض فيما يثير غبار شبهة ولا
تقوى على قطع طريقه أقدام الفهم.
وإذا كان قد نهى عن الخوض في القدر فكيف يجوز الخوض في صفات المقدر ؟..
وما ذاك إلا لأحد الأمرين اللذين ذكرتهما، إما لخوف إثارة شبهة تزلزل
العقائد، أو لأن قوى البشر تعجز عن إدراك الحقائق.
فإذا كانت ظواهر القرآن تثبت وجود القرآن فقال قائل: ليس ههنا قرآن. فقد
رد الظواهر التي تعب الرسول صلى الله عليه وسلم في إثباتها وقرر وجودها في
النفوس.
وبماذا يحل ويحرم، ويبت ويقطع، وليس عندنا من الله تعالى تقدم بشيء.
وهل للمخالف دليل إلا أن يقول: قال الله فيعود فيثبت ما نفى.
فليس الصواب لمن وفق إلا الوقوف مع ظاهر الشرع.
فإن اعترضه ذو شبهة. فقال: هذا صوتك وهذا خطك. فأين القرآن ؟ فليقل له: قد
أجمعنا أنا وأنت على وجود شيء به نحتج جميعاً.
وكما أنك تنكر علي أن أثبت شيئاً لا يتحقق لي إثباته حساً، فأنا أنكر عليك
كيف تنفي وجود شيء قد ثبت شرعاً.
وأما قولهم هل في المصحف إلا ورق وعفص وزاج، فهذا كقول القائل: هل الآدمي
إلا لحم ودم ؟.
هيهات أن معنى الآدمي هو الروح، فمن نظر إلى اللحم والدم وقف مع الحس.
فإن قال: فكذا أقول إن المكتوب غير الكتابة. قلنا له: وهذا مما ننكره عليك
لأنه لا يثبت تحقيق هذا لك ولا لخصمك.
فإن أردت بالكتابة الحبر وتخطيطه فهذا ليس هو القرآن.
وإن أردت المعنى القائم بذلك فهذا ليس هو الكتابة.
وهذه الأشياء لا يصلح الخوض فيها فإن ما دونها لا يمكن تحقيقه على التفصيل
كالروح مثلاً، فإنا نعلم وجودها في الجملة، فأما حقيقتها فلا.
فإذا جهلنا حقائقها كنا لصفات الحق أجهل، فوجب الوقوف مع السمعيات مع نفي
ما لا يليق بالحق.
لأن الخوض يزيد الخائض تخبيطاً ولا يفيده بل يوجب عليه نفي ما
يثبت بالسمع من غير تحقيق أمر عقلي، فلا وجه للسلامة إلا طريق السل
والسلام.
وكذلك أقو أن إثبات الإله بظواهر الآيات والسنن ألزم للعوام من تحديثهم
بالتنزيه وإن كان التنزيه لازماً.
وقد كان ابن عقيل يقول: الأصلح لاعتقاد العوام ظواهر الآي والسنن. ولأنهم
يأنسون بالإثبات فمتى محونا ذلك من قلوبهم زالت السياسات والحشمة.
وتهافت العوام في الشبهة أحب إلي من إغراقهم في التنزيه. لأن التشبيه
يغمسهم في الإثبات. فيطمعوا ويخافوا شيئاً قد أنسوا إلى ما يخاف مثله
ويرجى.
فالتنزيه يرمي بهم إلى النفي ولا طمع ولا مخالفة من النفي.
ومن تدبر الشريعة رآها عامة للمكلفين في التشبيه بالألفاظ التي لا يعطي
ظاهرها سواه كقول الأعرابي: أو يضحك ربنا ؟ قال: نعم فلم يكفهر من هذا
القول.
فصل تكاليف بعد الهمة
أعظم البلايا أن يعطيك همة عالية ويمنعك من العمل بمقتضاها، فيكون من
تأثير همتك الأنفة من قبول إرفاق الخلق استثقالاً لحمل مننهم، ثم يبتليك
بالفقر فتأخذ منهم.
ويلطف مزاجك، فلا تقبل من المأكولات ما سهل إحضاره، فتحتاج إلى فضل نفقة،
ثم يقلل رزقك ويعلق همتك بالمستحسنات. ويقطع بالفقر السبيل إليهن.
ويريك العلوم في مقام معشوق، ويضعف بدنك عن الإعادة ويخلي يديك من المال
الذي تحصل به الكتب.
ويقوي توقك إلى درجات العارفين والزهاد، ويحوجك إلى مخالطة أرباب الدنيا
وهذا البلاء المبين.
وأما الخسيس الهمة الذي لا يستنكف من سؤال الخلق، ولا يرى الاستبدال
بزوجته، ويكتفي بيسير من العلم. ولا يتوق إلى أحوال العارفين. فذاك لا
يؤلمه فقد شيء، ويرى ما وجد هو الغاية. فهو يفرح فرح الأطفال بالزخارف،
فما أهون الأمر عليه.
إنما البلاء على العارف ذي الهمة العالية الذي تدعوه همته إلى جميع
الأضداد للتزيد من مقام الكمال، وتقصر خطاه عن مدارك مقصوده.
فيا له من حال ينفد في طريقه زاد الصابرين.
ولولا حالات غفلة تعتري هذا المبتلي يعيش بها لكان دوام ملاحظته للمقامات
يعمي بصره، واجتهاده في السلوك يخفي قدمه لكن ملاحظات الإمداد له تارة
ببلوغ بعض مراده وتارة بالغفلة عما قصد. تهون عليه العيش.
وهذا كلام عزيز لا يفهمه إلا أربابه، ولا يعلم كنهه إلا أصحابه.
فصل الحزم أولى
تراعنت علي نفسي في طلبها شيئاً من أغراضها بتأويل فاسد، فقلت لها: بالله
عليك تصبري.
فإن في المعبر شغلاً يحذر الغرق من كثرة الموج عن التنزه في عجائب البحر.
إذا هممت بفعل فقدري حصوله ثم تلمحي عواقبه وما تجتنين من ثمراته، فأقل
ذلك الندم على ما فعلت، ولا يؤمن أن يثمر غضب الحق عز وجل وإعراضه عنك.
فأف للقاطع عنه ولو كان الجنة.
ثم اعلمي أيتها النفس أنه ما يمضي شيء جزافاً وأن ميزان العدل تبين فيه
الذرة فتلمحي الأموات والأحياء، وانظري إلى من نشر ذكره بالخير والشر،
وزيادة ذلك ونقصانه.
فسبحان من أظهر دليل الخلوات على أربابها، حتى أن حبات القلوب تتعلق بأهل
الخير، وتنفر من أهل الشر من غير مطالعة لشيء من أعمال الكل.
قال إبليس: أو تترك مرادك لأجل الخلق ؟ قلت: لا.
إنما هذا بعض الثمرات الحاصلة لا عن الغرض.
ونحن نرى من يمشي ثلاثين فرسخاً ليقال ساع، فالمتقي قد نال شرف الذكر وإن
لم يقصد نيل ذلك مترجحاً له في وزن الجزاء: " سَيَجْعَلُ لَهُمُ
الرَّحْمنُ وُدّاً " .
قالت النفس: لقد أمرتني بالصبر على العذاب، لأن ترك الأغراض عذاب.
قلت: لك عن الغرض عوض، ومن كل متروك بدل.
وأنت في مقام مستعبد ولا يصح للأجير أن يلبس ثياب الراحة في زمان
الاستئجار وكل زمان المتقي نهار صوم.
ومن خاف العقاب ترك المشتهى، ومن رام القرب استعمل الورع، وللصبر حلاوة
تبين في العواقب...
فصل الهزيمة أمام الشهوة
من نازعته نفسه إلى لذة محرمة فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها وعقابها،
وسمع هتاف العقل يناديه: ويحك لا تفعل ؟ فإنك تقف عن الصعود، وتأخذ في
الهبوط ويقال لك ابق بما اخترت، فإن شغله هواه فلم يلتفت إلى ما قيل له،
لم يزل في نزول.
وكان مثله في سوء اختياره كالمثل المضروب: أن الكلب قال للأسد:
يا سيد السباع، غير اسمي فإنه قبيح، فقال له: أنت خائن لا يصلح لك غير هذا
الاسم، قال: فجربني، فأعطاه شقة لحم وقال: احفظ لي هذه إلى غد وأنا أغير
اسمك.
فجاع وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر.
فلما غلبته نفسه قال: وأي شيء باسمي ؟ وما كل إلا إسم حسن. فأكل، وهكذا
الخسيس الهمة، القنوع بأقل المنازل، المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل.
فالله الله في حريق الهوى إذا ثار وانظر كيف تطفئه.
فرب زلة أوقعت في بئر بوار، ورب أثر لم ينقلع، والفائت لا يستدرك على
الحقيقة.
فابعد عن أسباب الفتنة، فإن المقاربة محنة لا يكاد صاحبها يسلم والسلام.
فصل فضل المجاهدة
رأيت الخلق كلهم في صف محاربة، والشياطين يرمونهم بنبل الهوى، ويضربونهم
بأسياف اللذة.
فأما المخلطون فصرعى من أول وقت اللقاء.
وأما المتقون ففي جهد جهيد من المجاهدة، فلا بد مع طول الوقوف في المحاربة
من جراح، فهم يجرحون ويداوون إلا أنهم من القتل محفوظون، بلى ! إن الجراحة
في الوجه شين باق، فليحذر ذلك المجاهدون.
فصل احذر أن تقع
الدنيا فخ، والجاهل بأول نظرة يقع، فأما العاقل المتقي فهو يصابر المجاعة،
ويدور حول الحب، والسلامة بعيدة.
فكم من صابر اجتهد سنين ثم في آخر الأمر وقع.
فالحذر الحذر. فقد رأينا من كان على سنن الصواب، ثم زل على شفير القبر.
فصل مهالك الذنوب
اعلموا إخواني ومن يقبل نصيحتي. أن للذنوب تأثيرات قبيحة، مرارتها تزيد.
على حلاوتها أضعافاً مضاعفة.
والمجازي بالمرصاد لا يسبقه شيء ولا يفوته.
أو ليس يروى في التفسير. أن كل واحد من أولاد يعقوب عليهم السلام - وكانوا
اثني عشر - ولد له اثنا عشر ولداً، إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر وجوزي
بتلك الهمة فنقص ولداً.
فواأسفا لمضروب بالسياط ما يحس بالألم، ولمثخن بالجراح وما عنده من نفسه
خبر.
ولمتقلب في عقوبا ما يدري بها، ولعمري أن أعظم العقوبة أن لا يدري
بالعقوبة.
فواعجبا للمغالط نفسه، يرضي نفسه بشهوة ثم يرضي ربه بطاعة، ويقول حسنة،
وسيئة.
ويحك من كيسك تنفق، ومن بضاعتك تهدم، ووجه جاهك تشين.
رب جراحة قتلت، ورب عثرة أهلكت، ورب فارط لا يستدرك.
ويحك انتبه لنفسك ما الذي تنتظر بأوبتك ؟ وماذا تترقب بتوبتك المشيب ؟ فها
هو ذا أوهن العظم وهل بعد رحيل الأهل والأولاد والأقارب، إلا اللحاق.
قدر أن ما تؤمله من الدنيا قد حصل، فكان ماذا ؟ ما هو عاجل فشغلك عاجلاً.
ثم آخر جرعة اللذة شرقة، وإما أن تفارق محبوبتك أو يفارقك.
فيا لها جرعة مريرة تودع عندها أن لو لم تره.
آه لمحجوب العقل عن التأمل، ولمصدود عن الورود، وهو يرى المنهل أما في هذه
القبور نذير ؟ أما في كرور الزمان زاجر ؟.
أين من ملك وبلغ المنى فيما أمل.
نادهم في ناديهم. هيهات صموا عن مناديهم.
فلو أن ما بهم الموت، إنما هنيهة... ثم القبور.
العمل حصل يا معدوماً بالأمس، يا متلاشي الأشلاء في الغد.
بأي وجه تلقى ربك ؟ أيساوي ما تناله من الهوى لفظ عتاب ؟.
بالله إن الرحمة بعد المعاتبة، ربما لم تستوف قلع البغضة من صميم القلب.
فكيف إن أعقب العتاب عقاب، وقد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال:
أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا محمد بن الحسين المعدل، قال: أخبرنا
أبو الفضل الزهري، قال: أخبرنا أحمد بن محمد الزعفراني، قال: حدثنا أبو
العباس بن واصل المقرىء، قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي قال: رأى
جار لنا يحيى بن أكثم بعد موته في منامه، فقال: ما فعل بك ربك ؟ فقال:
وقفت بين يديه، فقال لي: سوءة لك يا شيخ.
فقلت: يا رب إن رسولك قال إنك لتستحي من أبناء الثمانين أن تعذبهم، وأنا
ابن ثمانين أسير الله في الأرض.
فقال لي: صدق رسولي قد عفوت عنك.
وفي رواية أخرى عن محمد بن سلم الخواص، قال: رأيت يحيى بن أكثم في المنام
فقلت: ما فعل الله بك ؟ فقال: أوقفني بين يديه وقال لي يا شيخ السوء لولا
شيبتك لأحرقتك بالنار.
والمقصود من هذا النظر بعين الاعتبار، هل يفي هذا بدخول الجنة فضلاً عن
لذات الدنيا.
فنسأل الله عز وجل أن ينبهنا من رقدات الغافلين، وأن يرينا الأشياء كما هي
لنعرف عيوب الذنوب والله الموفق.
فصل التعلق بالله فوز
ضاق بي أمر أوجب غماً لازماً دائماً، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من
هذه الهموم بكل حيلة وبكل وجه. فما رأيت طريقاً للخلاص. فعرضت لي هذه
الآية: " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً " فعلمت أن
التقوى سبب للمخرج من كل غم. فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت
المخرج.
فلا ينبغي لمخلوق أن يتوكل أو يتسبب أو يتفكر إلا في طاعة الله تعالى،
وامتثال أمره، فإن ذلك سبب لفتح كل مرتج.
ثم أعجبه أن يكون من حيث لم يقدره المتفكر المحتال المدبر، كما قال عز
وجل: " وَيَرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ " .
ثم ينبغي للمتقي أن يعلم أن الله عز وجل كافيه فلا يعلق قلبه بالأسباب،
فقد قال عز وجل: " ومنْ يتوكلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حسبهُ " .
فصل حكمة الإبطاء في إجابة الدعاء
من العجب إلحاحك في طلب أغراضك وكلما زاد تعويقها زاد إلحاحك.
وتنسى أنها قد تمتنع لأحد أمرين، إما لمصلحتك فربما معجل أذى، وإما لذنوبك
فإن صاحب الذنوب بعيد من الإجابة.
فنظف طرق الإجابة من أوساخ المعاصي.
وانظر فيما تطلبه هل هو لإصلاح دينك، أو لمجرد هواك ؟.
فإن كان للهوى المجرد. فاعلم أن من اللطف بك والرحمة لك تعويقه.
وأنت في إلحاحك بمثابة الطفل يطلب ما يؤذيه فيمنع رفقاً به.
وإن كان لصلاح دينك فربما كانت المصلحة تأخيره، أو كان صلاح الدين بعدمه.
وفي الجملة تدبير الحق عز وجل لك خير من تدبيرك، وقد يمنعك ما تهوى ابتلاء
ليبلو صبرك. فأره الصبر الجميل تر عن قرب ما يسر.
ومتى نظفت طرق الإجابة من أدران الذنوب، وصبرت على ما يقضيه لك. فكل ما
يجري أصلح لك. عطاء كان أو منعاً.
فصل الاستعداد للموت
يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعداً.
ولا يغترر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان.
ولهذا يندر من يكبر، وقد أنشدوا:
يعمّر واحدٌ فيغرّ قوماً ... وينسى من يموت من الشباب
ومن الاغترار طول الأمل، وما من آفة أعظم منه.
فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً. وإنما يقدم المعاصي ويؤخر التوبة
لطول الأمل وتبادر الشهوات، وتنسى الإنابة لطول الأمل.
وإن لم تستطع قصر الأمل فاعمل عمل قصير الأمل.
ولا تمس حتى تنظر فيما مضى من يومك، فإن رأيت زلة فامحها بتوبة، أو خرقاً
فارقعه باستغفار.
وإذا أصبحت فتأمل ما مضى في ليلك.
وإياك والتسويف فإنه أكبر جنود إبليس:
وخذ لك منك على مهلة ... ومقبل عيشك لم يدبر
وخف هجمة لا تقيل العثا ... ر وتطوى الورود على المصدر
ومثّل لنفسك أي الرعيل ... يضمك في حلبة المحشر
ثم صور لنفسك قصر العمر، وكثرة الأشغال، وقوة الندم على التفريط عند
الموت؛ وطول الحسرة على البدار بعد الفوت.
وصور ثواب الكاملين وأنت ناقص، والمجتهدين وأنت متكاسل.
ولا تخل نفسك من موعظة تسمعها، وفكرة تحادثها بها.
فإن النفس كالفرس المتشيطن إن أهملت لجامه لم تأمن أن يرمي بك.
وقد والله دنستك أهواؤك، وضيعت عمرك.
فالبدار البدار في الصيانة، قبل تلف الباقي بالصبابة. فكم تعرقل في فخ
الهوى جناح حازم، وكم وقع في بئر بوار مخمور. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فصل إحسان المتاب
الحذر الحذر من المعاصي. فإن عواقبها سيئة.
وكم من معصية لا يزال صاحبها في هبوط أبداً مع تعثير أقدامه، وشدة فقره
وحسراته على ما يفوته من الدنيا، وحسرة لمن نالها.
فلو قارب زمان جزائه على قبيحه الذي ارتكبه كان اعتراضه على القدر في فوات
أغراضه يعيد العذاب جديداً.
فوا أسفاً لمعاقب لا يحس بعقوبته.
وآه من عقاب يتأخر حتى ينسى سببه.
أو ليس ابن سيرين يقول: عيرت رجلاً بالفقر فافتقرت بعد أربعين سنة.
وابن الخلال يقول: نظرت إلى شاب مستحسن فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
فواحسرة لمعاقب لا يدري أن أعظم العقوبة عدم الإحساس بها.
فالله الله في تجويد التوبة عساها تكف كف الجزاء. والحذر الحذر من الذنوب
خصوصاً ذنوب الخلوات. فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه، وأصلح
ما بينك وبينه في السر وقد أصلح لك أحوال العلانية.
ولا تغتر بستره أيها العاصي فربما يجذب عن عورتك، ولا بحلمه
فربما بغت العقاب.
وعليك بالقلق واللجأ إليه والتضرع. فإن نفع شيء فذلك، وتقوت بالحزن، وتمزز
كأس الدمع.
واحفر بمعول الأسى قليب قلب الهوى لعلك تنبط من الماء ما يغسل جرم جرمك.
فصل هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
؟
إخواني: اسمعوا نصيحة من قد جرب وخبر.
إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم
أقداركم وحرمتكم.
ولقد رأيت والله من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه، ثم تعدى الحدود
فهان عند الخلق. وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه وقوة مجاهدته.
ولقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته - مع قصوره بالإضافة إلى ذلك
العالم - فعظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس، ووصفته بما يزيد على
ما فيه من الخير.
ورأيت من كان يرى الاستقامة إذا استقام فإذا زاغ مال عنه اللطف.
ولولا عموم الستر وشمول رحمة الكريم لافتضح هؤلاء المذكورون.
غير أنه في الأغلب أو تلطف في العقاب كما قيل:
ومن كان في سخطه محسناً ... فكيف يكون إذا ما رضي
غير أن العدل لا يحابى. وحاكم الجزاء لا يجوز. وما يضيع عند الأمين شيء.
أيها المذنب: إذا أحسست نفحات الجزاء فلا تكثرن الضجيج، ولا تقولن قد تبت
وندمت، فهلا زال عني من الجزاء ما أكره ! فلعل توبتك ما تحققت.
وإن للمجازاة زماناً يمتد امتداد المرض الطويل. فلا تنجع فيه الحيل حتى
ينقضي أوانه.
وإن بين زمان: وعصى إلى إبان: فتلقى مدة مديدة.
فاصبر أيها الخاطيء حتى يتخلل ماء عينيك خلال ثوب القلب المتنجس. فإذا
عصرته كف الأسى، ثم تكررت دفع الغسلات حكم بالطهارة.
بقي آدم يبكي على زلله ثلاث مائة سنة.
ومكث أيوب عليه السلام في بلائه ثماني عشرة سنة.
وأقام يعقوب يبكي على يوسف عليهما السلام ثمانين سنة.
وللبلايا أوقات ثم تنصرم، ورب عقوبة امتدت إلى زمان الموت.
فاللازم لك أن تلازم محراب الإنابة، وتجلس جلسة المستجدي. وتجعل طعامك
القلق، وشرابك البكاء، فربما قدم بشير القبول فارتد يعقوب الحزن بصيراً.
وإن مت في سجنك فربما ناب حزن الدنيا عن حزن الآخرة، وفي ذلك ربح عظيم.
من أراد دوام العافية والسلامة فليتق الله عز وجل.
فإنه ما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافيه التقوى وإن قل إلا وجد عقوبته
عاجلة أو آجلة.
ومن الاغترار أن تسيء فترى إحساناً فتظن أنك قد سومحت، وتنسى: " مَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ " .
وربما قالت النفس: إنه يغفر فتسامحت ولا شك أنه يغفر ولكن لمن يشاء.
وأنا أشرح لك حالاً فتأمله بفكرك تعرف معنى المغفرة.
وذلك أن من هفا هفوة لم يقصدها ولم يعزم عليها قبل الفعل ولا عزم على
العود بعد الفعل ثم انتبه لما فعل فاستغفر الله كان فعله وإن دخله عمداً
في مقام خطأ.
مثل أن يعرض له مستحسن فيغلبه الطبع فيطلق النظر ويتشاغل في حال نظره
بالتذاذ الطبع عن تلمح معنى النهي، فيكون كالغائب أو كالسكران، فإذا انتبه
لنفسه ندم على فعله فقام الندم بغسل تلك الأوساخ التي كانت كأنها غلطة لم
تقصد.
فهذا معنى قوله تعالى: " إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفْ مِنَ الشيطان تَذَكّرُوا
فَإذَا هم مُبْصِرُونَ " .
فأما المداوم على تلك النظرة المردد لها، المصر عليها، فكأنه في
مقام متعمد للنهي مبارز بالخلاف فالعفو يبعد عنه بمقدار إصراره.
ومن البعد أن لا يرى الجزاء على ذلك، كما قال ابن الجلاء: رآني شيخي وأنا
قائم أتأمل حدثاً نصرانياً، ما هذا ؟ لترين غبها ولو بعد حين، فنسيت
القرآن بعد أربعين سنة.
واعلم أنهم من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة تتأخر.
ومن أعظم العقوبة أن لا يحس الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدين وطمس
القلوب وسوء الاختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن وبلوغ الأغراض.
قال بعض المعتبرين: أطلقت نظري فيما لا يحل لي، ثم كنت أنتظر العقوبة،
فألجئت إلى سفر طويل لا نية لي فيه، فلقيت المشاق، ثم أعقبت ذلك موت أعز
الخلق عندي، وذهاب أشياء كان لها وقع عظيم عندي، ثم تلافيت أمري بالتوبة
فصلح حالي.
ثم عاد الهوى فحملين على إطلاق بصري مرة أخرى، فطمس قلبي وعدمت رقته،
واستلب مني ما هو أكثر من فقد الأول، ووقع لي تعويض عن المفقود بما كان
فقده أصلح.
فلما تأملت ما عوضت وما سلب مني صحت من ألم تلك السياط.
فها أنا أنادي من على الساحل: إخواني احذروا لجة هذا البحر، ولا تغتروا
بسكونه، وعليكم بالساحل، ولازموا حصن التقوى فالعقوبة مرة.
واعلموا أن في ملازمة التقوى مرارات من فقد الأغراض والمشتهيات، غير أنها
في ضرب المثل كالحمية تعقب صحة، والتخليط ربما جلب موت الفجأة.
وبالله لو نمتم على المزابل مع الكلاب في طلب رضى المبتلي كان قليلاً في
نيل رضاه.
ولو بلغتم نهاية الأماني من أغراض الدنيا مع إعراضه عنكم كانت سلامتكم
هلاكاً، وعافيتكم مرضاً، وصحتكم سقماً والأمر بآخره، والعاقل من تلمح
العواقب.
وصابروا رحمكم الله تعالى هجير البلاء فما أسرع زواله.
والله الموفق إذ لا حول إلا به ولا قوة إلا بفضله.
فصل خطر الجدل على العامة
قدم إلى بغداد جماعة من أهل البدع الأعاجم فارتقوا منابر التذكير للعوام،
فكان معظم مجالسهم أنهم يقولون: ليس لله في الأرض كلام. وهل المصحف إلا
ورق وعفص وزاج. وإن الله ليس في السماء وإن الجارية التي قال لها النبي
صلى الله عليه وسلم أين الله ؟ كانت خرساء فأشارت إلى السماء. أي ليس هو
من الأصنام التي تعبد في الأرض.
ثم يقولون: أين الحروفية الذين يزعمون أن القرآن حرف وصوت، هذا عبارة
جبريل. فما زالوا كذلك حتى هان تعظيم القرآن في صدور أكثر العوام، وصار
أحدهم يسمع فيقول هذا هو الصحيح، وإلا فالقرآن شيء يجيء به جبريل في كيس.
فشكا إلي جماعة من أهل السنة فقلت لهم اصبروا فلا بد للشبهات أن ترفع
رأسها في بعض الأوقات، وإن كانت مدموغة. وللباطل جولة وللحق صولة
والدجالون كثير. ولا يخلو بلد ممن يضرب البهرج على مثل سكة السلطان.
قال قائل: فما جوابنا عن قولهم ؟ قلت: اعلم وفقك الله تعالى أن الله عز
وجل ورسوله قنعا من الخلق بالإيمان بالجمل ولم يكلفهم معرفة التفاصيل.
إما لأن الاطلاع على التفاصيل يخبط العقائد وإما لأن قوى البشر تعجز عن
مطالعة ذلك.
فأول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إثبات الخالق ونزل عليه القرآن
بالدليل على وجود الخالق بالنظر في صنعه فقال تعالى: " أَمَّنْ جَعَل
الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَها أَنْهاراً " .
وقال تعالى: " وفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرْونَ " .
وما زال يستدل على وجوده بمخلوقاته، وعلى قدرته بمنوعاته، ثم أثبت نبوة
نبيه بمعجزاته، وكان من أعظمها القرآن الذي جاء به فعجز الخلائق عن مثله.
واكتفى بهذه الأدلة جماعة من الصحابة، ومضى على ذلك القرن الأول والمشرب
صاف لم يتكدر.
وعلم الله عز وجل ما سيكون من البدع، فبالغ في إثبات الأدلة وملأ بها
القرآن.
ولما كان القرآن هو منبع العلوم، وأكبر المعجزات للرسول، أكد الأمر فيه
فقال تعالى: " وهذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ " ، " ونُنزِّل مِنَ
الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاءٌ " .
فأخبر أنه كلامه بقوله تعالى: " يُريدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ
اللَّهِ " .
وأخبر أنه مسموع بقوله تعالى: " حَتى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ " .
وأخبر أنه محفوظ فقال تعالى: " في لَوْحٍ مَحْفُوظٍ " .
وقال تعالى: " بَلْ هُوَ آياتٌ بيِّنَاتٌ في صُدُورِ الذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمِ " .
وأخبر أنه مكتوب ومتلو فقال تعالى: " وَما كُنْتَ تَتْلو مِنْ
قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ولا تَخَطُّهُ بِيَمِينِك " .
إلى ما يطول شرحه من تعدد الآيات في هذه المعاني التي توجب إثبات القرآن.
ثم نزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون أتى به من قبل نفسه. فقال
تعالى. " أَمْ يَقولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُو الحقُّ مِنْ ربِّك " .
وتواعده لو فعل فقال تعالى: " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَينَا بَعضَ الأقاويل "
.
وقال في حق الزاعم إنه كلام الخلق حين قال: " إِنْ هذَا إِلاَّ قَوْلُ
البَشَرِ سأصْليهِ سَقَر " .
ولما عذب كل أمة بنوع عذاب تولاه بعض الملائكة كصيحة جبريل عليه السلام
بثمود، وإرسال الريح على عاد، والخسف بقارون، وقلب جبريل ديار قوم لوط
عليه السلام، وإرسال الطير الأبابيل على من قصد تخريب الكعبة.
تولى هو بنفسه عقاب المكذبين بالقرآن فقال تعالى: " فذرني وَمَنْ
يُكَذِّبُ بِهذَا الحديث " . " ذَرْني ومَنْ خَلَقتُ وَحِيداً " .
وهذا لأنه أصل هذه الشرائع والمثبت لكل شريعة تقدمت. فإن جمع الملل ليس
عندهم ما يدل على صحة ما كانوا فيه إلا كتابنا لأن كتبهم غيرت وبدلت.
وقد علم كل ذي عقل أن القائل: " إِن هذَا إِلاَّ قَوْلُ البشَرِ " إنما
أشار إلى ما سمعه.
ولا يختلف أولو الألباب وأهل الفهم للخطاب. أن قوله " وإنه " كناية عن
القرآن، وقوله: " تنزل به " كناية أيضاً عنه وقوله: " هذا كتاب " إشارة
إلى حاضر.
وهذا أمر مستقر لم يختلف فيه أحد من القدماء في زمن الرسول صلى الله عليه
وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، ثم دس الشيطان دسائس البدع فقال قوم: هذا
المشار إليه مخلوق، فثبت الإمام أحمد رحمة الله ثبوتاً غيره على دفع هذا
القوم لئلا يتطرق إلى القرآن ما يمحو بعض تعظيمه في النفوس، ويخرجه عن
الإضافة إلى الله عز وجل.
ورأى أن ابتداع ما لم يقل فيه لا يجوز استعماله فقال: كيف أقول ما لم يقل.
ثم لم يختلف الناس في غير ذلك، إلى أن نشأ علي بن إسماعيل الأشعري. فقال
مرة بقول المعتزلة، ثم عن له فادعى أن الكلام صفة قائمة بالنفس. فأوجبت
دعواه هذه أن ما عندنا مخلوق.
وزادت فخبطت العقائد فما زال أهل البدع يجوبون في تيارها إلى اليوم.
والكلام في هذه المسألة مرتب بذكر الحجج والشبه في كتب الأصول فلا أطيل به
ههنا بل أذكر لك جملة تكفي من أراد الله هداه، وهو أن الشرع قنع منا
بالإيمان جملة وبتعظيم الظواهر، ونهى عن الخوض فيما يثير غبار شبهة ولا
تقوى على قطع طريقه أقدام الفهم.
وإذا كان قد نهى عن الخوض في القدر فكيف يجوز الخوض في صفات المقدر ؟..
وما ذاك إلا لأحد الأمرين اللذين ذكرتهما، إما لخوف إثارة شبهة تزلزل
العقائد، أو لأن قوى البشر تعجز عن إدراك الحقائق.
فإذا كانت ظواهر القرآن تثبت وجود القرآن فقال قائل: ليس ههنا قرآن. فقد
رد الظواهر التي تعب الرسول صلى الله عليه وسلم في إثباتها وقرر وجودها في
النفوس.
وبماذا يحل ويحرم، ويبت ويقطع، وليس عندنا من الله تعالى تقدم بشيء.
وهل للمخالف دليل إلا أن يقول: قال الله فيعود فيثبت ما نفى.
فليس الصواب لمن وفق إلا الوقوف مع ظاهر الشرع.
فإن اعترضه ذو شبهة. فقال: هذا صوتك وهذا خطك. فأين القرآن ؟ فليقل له: قد
أجمعنا أنا وأنت على وجود شيء به نحتج جميعاً.
وكما أنك تنكر علي أن أثبت شيئاً لا يتحقق لي إثباته حساً، فأنا أنكر عليك
كيف تنفي وجود شيء قد ثبت شرعاً.
وأما قولهم هل في المصحف إلا ورق وعفص وزاج، فهذا كقول القائل: هل الآدمي
إلا لحم ودم ؟.
هيهات أن معنى الآدمي هو الروح، فمن نظر إلى اللحم والدم وقف مع الحس.
فإن قال: فكذا أقول إن المكتوب غير الكتابة. قلنا له: وهذا مما ننكره عليك
لأنه لا يثبت تحقيق هذا لك ولا لخصمك.
فإن أردت بالكتابة الحبر وتخطيطه فهذا ليس هو القرآن.
وإن أردت المعنى القائم بذلك فهذا ليس هو الكتابة.
وهذه الأشياء لا يصلح الخوض فيها فإن ما دونها لا يمكن تحقيقه على التفصيل
كالروح مثلاً، فإنا نعلم وجودها في الجملة، فأما حقيقتها فلا.
فإذا جهلنا حقائقها كنا لصفات الحق أجهل، فوجب الوقوف مع السمعيات مع نفي
ما لا يليق بالحق.
لأن الخوض يزيد الخائض تخبيطاً ولا يفيده بل يوجب عليه نفي ما
يثبت بالسمع من غير تحقيق أمر عقلي، فلا وجه للسلامة إلا طريق السل
والسلام.
وكذلك أقو أن إثبات الإله بظواهر الآيات والسنن ألزم للعوام من تحديثهم
بالتنزيه وإن كان التنزيه لازماً.
وقد كان ابن عقيل يقول: الأصلح لاعتقاد العوام ظواهر الآي والسنن. ولأنهم
يأنسون بالإثبات فمتى محونا ذلك من قلوبهم زالت السياسات والحشمة.
وتهافت العوام في الشبهة أحب إلي من إغراقهم في التنزيه. لأن التشبيه
يغمسهم في الإثبات. فيطمعوا ويخافوا شيئاً قد أنسوا إلى ما يخاف مثله
ويرجى.
فالتنزيه يرمي بهم إلى النفي ولا طمع ولا مخالفة من النفي.
ومن تدبر الشريعة رآها عامة للمكلفين في التشبيه بالألفاظ التي لا يعطي
ظاهرها سواه كقول الأعرابي: أو يضحك ربنا ؟ قال: نعم فلم يكفهر من هذا
القول.
فصل تكاليف بعد الهمة
أعظم البلايا أن يعطيك همة عالية ويمنعك من العمل بمقتضاها، فيكون من
تأثير همتك الأنفة من قبول إرفاق الخلق استثقالاً لحمل مننهم، ثم يبتليك
بالفقر فتأخذ منهم.
ويلطف مزاجك، فلا تقبل من المأكولات ما سهل إحضاره، فتحتاج إلى فضل نفقة،
ثم يقلل رزقك ويعلق همتك بالمستحسنات. ويقطع بالفقر السبيل إليهن.
ويريك العلوم في مقام معشوق، ويضعف بدنك عن الإعادة ويخلي يديك من المال
الذي تحصل به الكتب.
ويقوي توقك إلى درجات العارفين والزهاد، ويحوجك إلى مخالطة أرباب الدنيا
وهذا البلاء المبين.
وأما الخسيس الهمة الذي لا يستنكف من سؤال الخلق، ولا يرى الاستبدال
بزوجته، ويكتفي بيسير من العلم. ولا يتوق إلى أحوال العارفين. فذاك لا
يؤلمه فقد شيء، ويرى ما وجد هو الغاية. فهو يفرح فرح الأطفال بالزخارف،
فما أهون الأمر عليه.
إنما البلاء على العارف ذي الهمة العالية الذي تدعوه همته إلى جميع
الأضداد للتزيد من مقام الكمال، وتقصر خطاه عن مدارك مقصوده.
فيا له من حال ينفد في طريقه زاد الصابرين.
ولولا حالات غفلة تعتري هذا المبتلي يعيش بها لكان دوام ملاحظته للمقامات
يعمي بصره، واجتهاده في السلوك يخفي قدمه لكن ملاحظات الإمداد له تارة
ببلوغ بعض مراده وتارة بالغفلة عما قصد. تهون عليه العيش.
وهذا كلام عزيز لا يفهمه إلا أربابه، ولا يعلم كنهه إلا أصحابه.
تراعنت علي نفسي في طلبها شيئاً من أغراضها بتأويل فاسد، فقلت لها: بالله
عليك تصبري.
فإن في المعبر شغلاً يحذر الغرق من كثرة الموج عن التنزه في عجائب البحر.
إذا هممت بفعل فقدري حصوله ثم تلمحي عواقبه وما تجتنين من ثمراته، فأقل
ذلك الندم على ما فعلت، ولا يؤمن أن يثمر غضب الحق عز وجل وإعراضه عنك.
فأف للقاطع عنه ولو كان الجنة.
ثم اعلمي أيتها النفس أنه ما يمضي شيء جزافاً وأن ميزان العدل تبين فيه
الذرة فتلمحي الأموات والأحياء، وانظري إلى من نشر ذكره بالخير والشر،
وزيادة ذلك ونقصانه.
فسبحان من أظهر دليل الخلوات على أربابها، حتى أن حبات القلوب تتعلق بأهل
الخير، وتنفر من أهل الشر من غير مطالعة لشيء من أعمال الكل.
قال إبليس: أو تترك مرادك لأجل الخلق ؟ قلت: لا.
إنما هذا بعض الثمرات الحاصلة لا عن الغرض.
ونحن نرى من يمشي ثلاثين فرسخاً ليقال ساع، فالمتقي قد نال شرف الذكر وإن
لم يقصد نيل ذلك مترجحاً له في وزن الجزاء: " سَيَجْعَلُ لَهُمُ
الرَّحْمنُ وُدّاً " .
قالت النفس: لقد أمرتني بالصبر على العذاب، لأن ترك الأغراض عذاب.
قلت: لك عن الغرض عوض، ومن كل متروك بدل.
وأنت في مقام مستعبد ولا يصح للأجير أن يلبس ثياب الراحة في زمان
الاستئجار وكل زمان المتقي نهار صوم.
ومن خاف العقاب ترك المشتهى، ومن رام القرب استعمل الورع، وللصبر حلاوة
تبين في العواقب...
من نازعته نفسه إلى لذة محرمة فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها وعقابها،
وسمع هتاف العقل يناديه: ويحك لا تفعل ؟ فإنك تقف عن الصعود، وتأخذ في
الهبوط ويقال لك ابق بما اخترت، فإن شغله هواه فلم يلتفت إلى ما قيل له،
لم يزل في نزول.
وكان مثله في سوء اختياره كالمثل المضروب: أن الكلب قال للأسد:
يا سيد السباع، غير اسمي فإنه قبيح، فقال له: أنت خائن لا يصلح لك غير هذا
الاسم، قال: فجربني، فأعطاه شقة لحم وقال: احفظ لي هذه إلى غد وأنا أغير
اسمك.
فجاع وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر.
فلما غلبته نفسه قال: وأي شيء باسمي ؟ وما كل إلا إسم حسن. فأكل، وهكذا
الخسيس الهمة، القنوع بأقل المنازل، المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل.
فالله الله في حريق الهوى إذا ثار وانظر كيف تطفئه.
فرب زلة أوقعت في بئر بوار، ورب أثر لم ينقلع، والفائت لا يستدرك على
الحقيقة.
فابعد عن أسباب الفتنة، فإن المقاربة محنة لا يكاد صاحبها يسلم والسلام.
فصل فضل المجاهدة
رأيت الخلق كلهم في صف محاربة، والشياطين يرمونهم بنبل الهوى، ويضربونهم
بأسياف اللذة.
فأما المخلطون فصرعى من أول وقت اللقاء.
وأما المتقون ففي جهد جهيد من المجاهدة، فلا بد مع طول الوقوف في المحاربة
من جراح، فهم يجرحون ويداوون إلا أنهم من القتل محفوظون، بلى ! إن الجراحة
في الوجه شين باق، فليحذر ذلك المجاهدون.
الدنيا فخ، والجاهل بأول نظرة يقع، فأما العاقل المتقي فهو يصابر المجاعة،
ويدور حول الحب، والسلامة بعيدة.
فكم من صابر اجتهد سنين ثم في آخر الأمر وقع.
فالحذر الحذر. فقد رأينا من كان على سنن الصواب، ثم زل على شفير القبر.
اعلموا إخواني ومن يقبل نصيحتي. أن للذنوب تأثيرات قبيحة، مرارتها تزيد.
على حلاوتها أضعافاً مضاعفة.
والمجازي بالمرصاد لا يسبقه شيء ولا يفوته.
أو ليس يروى في التفسير. أن كل واحد من أولاد يعقوب عليهم السلام - وكانوا
اثني عشر - ولد له اثنا عشر ولداً، إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر وجوزي
بتلك الهمة فنقص ولداً.
فواأسفا لمضروب بالسياط ما يحس بالألم، ولمثخن بالجراح وما عنده من نفسه
خبر.
ولمتقلب في عقوبا ما يدري بها، ولعمري أن أعظم العقوبة أن لا يدري
بالعقوبة.
فواعجبا للمغالط نفسه، يرضي نفسه بشهوة ثم يرضي ربه بطاعة، ويقول حسنة،
وسيئة.
ويحك من كيسك تنفق، ومن بضاعتك تهدم، ووجه جاهك تشين.
رب جراحة قتلت، ورب عثرة أهلكت، ورب فارط لا يستدرك.
ويحك انتبه لنفسك ما الذي تنتظر بأوبتك ؟ وماذا تترقب بتوبتك المشيب ؟ فها
هو ذا أوهن العظم وهل بعد رحيل الأهل والأولاد والأقارب، إلا اللحاق.
قدر أن ما تؤمله من الدنيا قد حصل، فكان ماذا ؟ ما هو عاجل فشغلك عاجلاً.
ثم آخر جرعة اللذة شرقة، وإما أن تفارق محبوبتك أو يفارقك.
فيا لها جرعة مريرة تودع عندها أن لو لم تره.
آه لمحجوب العقل عن التأمل، ولمصدود عن الورود، وهو يرى المنهل أما في هذه
القبور نذير ؟ أما في كرور الزمان زاجر ؟.
أين من ملك وبلغ المنى فيما أمل.
نادهم في ناديهم. هيهات صموا عن مناديهم.
فلو أن ما بهم الموت، إنما هنيهة... ثم القبور.
العمل حصل يا معدوماً بالأمس، يا متلاشي الأشلاء في الغد.
بأي وجه تلقى ربك ؟ أيساوي ما تناله من الهوى لفظ عتاب ؟.
بالله إن الرحمة بعد المعاتبة، ربما لم تستوف قلع البغضة من صميم القلب.
فكيف إن أعقب العتاب عقاب، وقد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال:
أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا محمد بن الحسين المعدل، قال: أخبرنا
أبو الفضل الزهري، قال: أخبرنا أحمد بن محمد الزعفراني، قال: حدثنا أبو
العباس بن واصل المقرىء، قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي قال: رأى
جار لنا يحيى بن أكثم بعد موته في منامه، فقال: ما فعل بك ربك ؟ فقال:
وقفت بين يديه، فقال لي: سوءة لك يا شيخ.
فقلت: يا رب إن رسولك قال إنك لتستحي من أبناء الثمانين أن تعذبهم، وأنا
ابن ثمانين أسير الله في الأرض.
فقال لي: صدق رسولي قد عفوت عنك.
وفي رواية أخرى عن محمد بن سلم الخواص، قال: رأيت يحيى بن أكثم في المنام
فقلت: ما فعل الله بك ؟ فقال: أوقفني بين يديه وقال لي يا شيخ السوء لولا
شيبتك لأحرقتك بالنار.
والمقصود من هذا النظر بعين الاعتبار، هل يفي هذا بدخول الجنة فضلاً عن
لذات الدنيا.
فنسأل الله عز وجل أن ينبهنا من رقدات الغافلين، وأن يرينا الأشياء كما هي
لنعرف عيوب الذنوب والله الموفق.
ضاق بي أمر أوجب غماً لازماً دائماً، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من
هذه الهموم بكل حيلة وبكل وجه. فما رأيت طريقاً للخلاص. فعرضت لي هذه
الآية: " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً " فعلمت أن
التقوى سبب للمخرج من كل غم. فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت
المخرج.
فلا ينبغي لمخلوق أن يتوكل أو يتسبب أو يتفكر إلا في طاعة الله تعالى،
وامتثال أمره، فإن ذلك سبب لفتح كل مرتج.
ثم أعجبه أن يكون من حيث لم يقدره المتفكر المحتال المدبر، كما قال عز
وجل: " وَيَرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ " .
ثم ينبغي للمتقي أن يعلم أن الله عز وجل كافيه فلا يعلق قلبه بالأسباب،
فقد قال عز وجل: " ومنْ يتوكلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حسبهُ " .
من العجب إلحاحك في طلب أغراضك وكلما زاد تعويقها زاد إلحاحك.
وتنسى أنها قد تمتنع لأحد أمرين، إما لمصلحتك فربما معجل أذى، وإما لذنوبك
فإن صاحب الذنوب بعيد من الإجابة.
فنظف طرق الإجابة من أوساخ المعاصي.
وانظر فيما تطلبه هل هو لإصلاح دينك، أو لمجرد هواك ؟.
فإن كان للهوى المجرد. فاعلم أن من اللطف بك والرحمة لك تعويقه.
وأنت في إلحاحك بمثابة الطفل يطلب ما يؤذيه فيمنع رفقاً به.
وإن كان لصلاح دينك فربما كانت المصلحة تأخيره، أو كان صلاح الدين بعدمه.
وفي الجملة تدبير الحق عز وجل لك خير من تدبيرك، وقد يمنعك ما تهوى ابتلاء
ليبلو صبرك. فأره الصبر الجميل تر عن قرب ما يسر.
ومتى نظفت طرق الإجابة من أدران الذنوب، وصبرت على ما يقضيه لك. فكل ما
يجري أصلح لك. عطاء كان أو منعاً.
يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعداً.
ولا يغترر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان.
ولهذا يندر من يكبر، وقد أنشدوا:
يعمّر واحدٌ فيغرّ قوماً ... وينسى من يموت من الشباب
ومن الاغترار طول الأمل، وما من آفة أعظم منه.
فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً. وإنما يقدم المعاصي ويؤخر التوبة
لطول الأمل وتبادر الشهوات، وتنسى الإنابة لطول الأمل.
وإن لم تستطع قصر الأمل فاعمل عمل قصير الأمل.
ولا تمس حتى تنظر فيما مضى من يومك، فإن رأيت زلة فامحها بتوبة، أو خرقاً
فارقعه باستغفار.
وإذا أصبحت فتأمل ما مضى في ليلك.
وإياك والتسويف فإنه أكبر جنود إبليس:
وخذ لك منك على مهلة ... ومقبل عيشك لم يدبر
وخف هجمة لا تقيل العثا ... ر وتطوى الورود على المصدر
ومثّل لنفسك أي الرعيل ... يضمك في حلبة المحشر
ثم صور لنفسك قصر العمر، وكثرة الأشغال، وقوة الندم على التفريط عند
الموت؛ وطول الحسرة على البدار بعد الفوت.
وصور ثواب الكاملين وأنت ناقص، والمجتهدين وأنت متكاسل.
ولا تخل نفسك من موعظة تسمعها، وفكرة تحادثها بها.
فإن النفس كالفرس المتشيطن إن أهملت لجامه لم تأمن أن يرمي بك.
وقد والله دنستك أهواؤك، وضيعت عمرك.
فالبدار البدار في الصيانة، قبل تلف الباقي بالصبابة. فكم تعرقل في فخ
الهوى جناح حازم، وكم وقع في بئر بوار مخمور. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الحذر الحذر من المعاصي. فإن عواقبها سيئة.
وكم من معصية لا يزال صاحبها في هبوط أبداً مع تعثير أقدامه، وشدة فقره
وحسراته على ما يفوته من الدنيا، وحسرة لمن نالها.
فلو قارب زمان جزائه على قبيحه الذي ارتكبه كان اعتراضه على القدر في فوات
أغراضه يعيد العذاب جديداً.
فوا أسفاً لمعاقب لا يحس بعقوبته.
وآه من عقاب يتأخر حتى ينسى سببه.
أو ليس ابن سيرين يقول: عيرت رجلاً بالفقر فافتقرت بعد أربعين سنة.
وابن الخلال يقول: نظرت إلى شاب مستحسن فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
فواحسرة لمعاقب لا يدري أن أعظم العقوبة عدم الإحساس بها.
فالله الله في تجويد التوبة عساها تكف كف الجزاء. والحذر الحذر من الذنوب
خصوصاً ذنوب الخلوات. فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه، وأصلح
ما بينك وبينه في السر وقد أصلح لك أحوال العلانية.
ولا تغتر بستره أيها العاصي فربما يجذب عن عورتك، ولا بحلمه
فربما بغت العقاب.
وعليك بالقلق واللجأ إليه والتضرع. فإن نفع شيء فذلك، وتقوت بالحزن، وتمزز
كأس الدمع.
واحفر بمعول الأسى قليب قلب الهوى لعلك تنبط من الماء ما يغسل جرم جرمك.
فصل هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
؟
إخواني: اسمعوا نصيحة من قد جرب وخبر.
إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم
أقداركم وحرمتكم.
ولقد رأيت والله من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه، ثم تعدى الحدود
فهان عند الخلق. وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه وقوة مجاهدته.
ولقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته - مع قصوره بالإضافة إلى ذلك
العالم - فعظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس، ووصفته بما يزيد على
ما فيه من الخير.
ورأيت من كان يرى الاستقامة إذا استقام فإذا زاغ مال عنه اللطف.
ولولا عموم الستر وشمول رحمة الكريم لافتضح هؤلاء المذكورون.
غير أنه في الأغلب أو تلطف في العقاب كما قيل:
ومن كان في سخطه محسناً ... فكيف يكون إذا ما رضي
غير أن العدل لا يحابى. وحاكم الجزاء لا يجوز. وما يضيع عند الأمين شيء.
أيها المذنب: إذا أحسست نفحات الجزاء فلا تكثرن الضجيج، ولا تقولن قد تبت
وندمت، فهلا زال عني من الجزاء ما أكره ! فلعل توبتك ما تحققت.
وإن للمجازاة زماناً يمتد امتداد المرض الطويل. فلا تنجع فيه الحيل حتى
ينقضي أوانه.
وإن بين زمان: وعصى إلى إبان: فتلقى مدة مديدة.
فاصبر أيها الخاطيء حتى يتخلل ماء عينيك خلال ثوب القلب المتنجس. فإذا
عصرته كف الأسى، ثم تكررت دفع الغسلات حكم بالطهارة.
بقي آدم يبكي على زلله ثلاث مائة سنة.
ومكث أيوب عليه السلام في بلائه ثماني عشرة سنة.
وأقام يعقوب يبكي على يوسف عليهما السلام ثمانين سنة.
وللبلايا أوقات ثم تنصرم، ورب عقوبة امتدت إلى زمان الموت.
فاللازم لك أن تلازم محراب الإنابة، وتجلس جلسة المستجدي. وتجعل طعامك
القلق، وشرابك البكاء، فربما قدم بشير القبول فارتد يعقوب الحزن بصيراً.
وإن مت في سجنك فربما ناب حزن الدنيا عن حزن الآخرة، وفي ذلك ربح عظيم.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل دموع التوبة
الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي، فإن نارها تحت الرماد.
وربما تأخرت العقوبة ثم فجأت، وربما جاءت مستعجلة، فليبادر بإطفاء ما أوقد
من نيران الذنوب، ولا ماء يطفىء تلك النار إلا ما كان من عين العين.
لعل خصم الجزاء يرضى قبل أن يبت الحاكم في حكمه.
فصل العبودية لله
واعجبا من عارف بالله عز وجل يخالفه ولو في تلف نفسه.
هل العيش إلا معه ؟ هل الدنيا والآخرة إلا له ؟.
أف لمترخص في فعل ما يكره لنيل ما يحب.
تالله لقد فاته أضعاف ما حصل.
أقبل على ما أقوله يا ذا الذوق، هل وقع لك تعثير في عيش ؟ وتخبيط في حال ؟
إلا حال مخالفته:
ولا انثنى عزمي عن بابك ... إلاّ تعثرت بأذيالي
أما سمعت تلك الحكاية عن بعض السلف أنه قال: رأيت على سور بيروت شاباً
يذكر الله تعالى فقلت له: ألك حاجة ؟.
فقال: إذا وقعت لي حاجة سألته إياها بقلبي فقضاها.
يا أرباب المعاملة، بالله عليكم لا تكدروا المشرب، قفوا على باب المراقبة
وقوف الحراس، وادفعوا ما لا يصلح أن يلج فيفسد.
واهجروا أغراضكم لتحصيل محبوب الحبيب، فإن أغراضكم تحصل.
على أنني أقول أف لمن ترك بقصد الجزاء.
أهذا شرط العبودية، كلا ؟.
إنما ينبغي لي إذا كنت مملوكاً أن أفعل ليرضى لا لأعطي.
فإن كنت محباً رأيت قطع الآراب في رضاه وصلا.
أقبل نصحي يا مخدوعاً بغرضه.
إن ضعفت عن عمل بلائه فاستغث به.
وإن آلمك كرب اختياره فه نك بين يديه.
ولا تيأس من روحه وإن قوي خناق البلاء.
بالله إن موت الخادم في الخدمة حسن عند العقلاء.
إخواني لنفسي أقول فمن له شرب معي فليرد، أيتها النفس لقد أعطاك ما لم
تأملي وبلغك ما لم تطلبي. وستر عليك من قبيحك ما لو فاح ضجت المشام، فما
هذا الضجيج من فوات كمال الأغراض.
أمملوكة أنت أم حرة ؟ أما علمت أنك في دار التكليف وهذا الخطاب ينبغي أن
يكون للجهال، فأين دعواك المعرفة ؟.
أتراه لو هبت نفحة، فأخذت البصر كيف كانت تطيب لك الدنيا ؟.
واأسفا عليك لقد عشيت البصيرة التي هي أشرف، وما علمت كم أقول
عسى ولعل ؟ وأنت في الخطأ إلى قدام.
قربت سفينة العمر من ساحل القبر، ومالك في المركب بضاعة تربح.
تلاعبت في بحر العمر ريح الضعف ففرقت تلفيق القوي وكان قد فصلت المركب.
بلغت نهاية الأجل وعين هواك تتلفت إلى الصبا.
بالله عليك لا تشمتي بك الأعداء. هذا أقل الأقسام.
وأوفى منها، أن أقول: بالله عليك لا يفتونك قدم سابق مع قدرتك على قطع
المضمار.
الخلوة، الخلوة واستحضري قرين العقل، وجولي في حيرة الفكر. واستدركي صبابة
الأجل قبل أن تميل بك الصبابة عن الصواب.
واعجبا كلما صعد العمر نزلت. وكلما جد الموت هزلت.
أتراك ممن ختم له بفتنة، وقضيت عليه عند آخر عمره المحنة، كان أول عمرك
خيراً من الأخير.
كنت في زمن الشباب أصلح منك في زمن أيام المشيب: " وَتِلْكَ الأمْثَالُ
تَضْرِبَها لِلنَّاس وَمَا يعقلها إِلاَّ الْعالُمون " .
نسأل الله عز وجل ما لا يحصل إلا به، وهو توفيقه إنه سميع مجيب.
فصل التعفف والصبر
قدرت في بعض الأيام على شهوة النفس هي عندها أحلى من الماء الزلال في فم
الصادي.
وقال التأويل: ما ههنا مانع ولا معوق إلا نوع ورع.
وكان ظاهر الأمر امتناع الجواز. فترددت بين الأمرين، فمنعت النفس عن ذلك.
فبقيت حيرتي لمنع ما هو الغاية في غرضها من غير صاد عنه بحال إلا حذر
المنع الشرعي.
فقلت لها: يا نفس والله ما من سبيل إلى ما تودين، ولا ما دونه ؟.
فتقلقلت فصحت بها: كم وافقتك في مراد ذهبت لذته وبقي التأسف على فعله ؟.
فقدري بلوغ الغرض من هذا المراد، أليس الندم يبقى في مجال اللذة أضعاف
زمانها ؟.
فقالت: كيف أصنع ؟ فقلت:
صبرت ولا واللّه ما بي جلادة ... على الحب لكني صبرت على الرغم
وها أنا ذا أنتظر من الله عز وجل حسن الجزاء على هذا الفعل. وقد تركت باقي
هذه الوجهة البيضاء. أرجو أن أرى حسن الجزاء على الصبر فأسطره فيه إن شاء
الله تعالى.
فإنه قد يعجل جزاء الصبر وقد يؤخره.
فإن عجل سطرته، وإن أخر فما أشك في حسن الجزاء لمن خاف مقام ربه، فإنه من
ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
والله إني ما تركته إلا لله تعالى ويكفيني تركه ذخيرة، حتى لو قيل لي
أتذكر يوماً آثرت الله على هواك، قلت: يوم كذا وكذا.
فافتخري أيتها النفس بتوفيق من وفقك، فكم قد خذل سواك.
واحذري أن تخذلي في مثلها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان هذا في سنة إحدى وستين وخمسمائة، فلما دخلت سنة خمسة وستين، عوضت
خيراً من ذلك بما لا يقارب مما لا يمنع منه ورع ولا غيره.
فقلت: هذا جزاء الترك لأجل الله سبحانه في الدنيا، ولأجر الآخرة خير
والحمد لله.
فصل ذهاب العاجلة
لا أنكر على من طلب لذة الدنيا من طريق المباح. لأنه ليس كل أحد يقوى على
الترك.
إنما المحنة من طلبها فلم يجدها، أو أكثرها، إلا من طريق الحرام، فاجتهد
في تحصيلها، ولم يبال كيف حصلت.
فهذه المحنة التي بخس العقل فيها حقه، ولم ينتفع صابحه بوجود لأنه لو وزن
ما آثر عقابه طاشت كفة اللذة التي فنيت عند أول ذرة من أجزائها.
وكم قد رأينا ممن آثر شهوته فسلبت دينه.
فليعجب العاقل حين التصفح لأحوالهم كيف آثروا شيئاً ما أقاموا معه، وصاروا
إلى عقاب لا يفارقهم.
فالله الله في بخس العقول حقها.
ولينظر السالك أين يضع القدم فرب مستعجل وقع في بئر بوار.
ولتكن عين التيقظ مفتوحة فإنكم في صف حرب لا يدري فيه من أين يتلقى النبل،
فأعينوا أنفسكم ولا تعينوا عليها.
فصل حلاوة الطاعة
الحق عز وجل أقرب إلى عبده من حبل الوريد، لكنه عامل العبد معاملة الغائب
عنه البعيد منه.
فأمر بقصد نيته ورفع اليدين إليه والسؤال له.
فقلوب الجهال تستشعر البعد، ولذلك تقع منهم المعاصي إذ لو تحققت مراقبتهم
للحاضر الناظر لكفوا الأكف عن الخطايا.
والمتيقظون علموا قربه فحضرتهم المراقبة وكفتهم عن الانبساط.
ولولا نوع تغطية على عين المراقبة الحقيقية لما انبسطت كف بأكل ولا قدرت
عين على نظر.
ومن هذا الجنس إنه ليغان على قلبي ومتى تحققت المراقبة حصل الأنس، وإنما
يقع الأنس بتحقيق الطاعة، لأن المخالفة توجب الوحشة، والموافقة مبسطة
المستأنسين.
في لذة عيش المستأنسين، ويا خسار المستوحشين.
وليست الطاعة كما يظن أكثر الجهال أنها في مجرد الصلاة والصيام.
إنما الطاعة الموافقة بامتثال الأمر واجتناب النهي.
هذا هو الأصل والقاعدة الكلية، فكم من متعبد بعيد، لأنه مضيع الأصل وهادم
للقواعد بمخالفة الأمر وارتكاب النهي.
وإنما المحقق من أمسك ذؤابة ميزان المحاسبة للنفس فأدى ما عليه واجتنب ما
نهى عنه.
فإن رزق زيادة تنفل وإلا لم يضره والسلام.
فصل تجميل مستحب
الدنيا في الجملة معبر، فينبغي للإنسان أن لا ينافس بلذاتها وأن يعبر
الأيام بها.
فإنه لو تفكر في كيفية الذبائح ووسخ من يباشرها وعمل الكامخ وغيرها من
المأكولات ما طابت له.
ولو تفكر في جولان اللقمة مختلطة بالريق ما قدر على إساغتها.
والمرء لا يخلو من حالين، إما أن يريد التنعم باللذات المباحات، أو يريد
دفع الوقت بالضرورات.
وأيهما طلب فلا ينبغي له أن يبحث فيما يناله عن باطنه، فإنه لو نظر إلى
عورة الزوجة نبا عنها، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيته رسول الله
ولا رآه مني.
فينبغي للعاقل أن يكون له وقت معلوم يأمر زوجته بالتصنع له فيه ثم يغمض عن
التفتيش ليطيب له عيشه !.
وينبغي لها أن تتفقد من نفسها هذا فلا تحضره إلا على أحسن حال.
وبمثل هذا يدوم العيش.
فأما إذا حصلت البذلة بانت بها العيوب، فنبت النفس وطلبت الاستبدال، ثم
يقع في الثانية مثل ما يقع في الأولى.
وكذلك ينبغي أن يتصنع لها كتصنعها له ليدوم الود بحسن الائتلاف، ومتى لم
يجر الأمر على هذا في حق من له أنفة من شيء تنبو عنه لنفس وقع في أحد
أمرين إما الإعراض عنها، وإما الاستبدال بها.
ويحتاج في حالة الإعراض إلى صبر عن أغراضه، وفي حالة الاستبدال إلى فضل
مؤنة وكلاهما يؤذي.
ومتى لم يستعمل ما وصفنا لم يطب له عيش في متعة، ولم يقدر على دفع الزمان
كما ينبغي.
فصل معرفة الفضل
نازعتني نفسي إلى أمر مكروه في الشرع، وجعلت تنصب لي التأويلات وتدفع
الكراهة، وكانت تأويلاتها فاسدة، والحجة ظاهرة على الكراهة.
فلجأت إلى الله تعالى في دفع ذلك عن قلبي، وأقبلت على القراءة وكان درسي
قد بلغ إلى سورة يوسف فاتحتها، وذلك الخاطر قد شغل قلبي حتى لا أدري ما
أقرأ، فلما بلغت إلى قوله تعالى: " قال معاذ اللّه إنه ربي أحسن مثواي "
انتبهت لها وكأني خوطبت بها.
فأفقت من تلك السكرة، فقلت: يا نفس أفهمت ؟.
هذا حر بيع ظلماً فراعى حق من أحسن إليه، وسماه مالكاً وإن لم يكن له عليه
ملك، فقال: إنه ربي.
ثم زاد في بيان موجب كف كفه عما يؤذيه فقال: أحسن مثواي.
فكيف بك وأنت عبد على الحقيقة لمولى ما زال يحسن إليك من ساعة وجودك.
وإن ستره عليك الزلل أكثر من عدد الحصا.
أفما تذكرين كيف رباك وعلمك ورزقك ودافع عنك، وساق الخير إليك، وهداك أقوم
طريق، ونجاك من كل كيد ؟.
وضم إلى حسن الصورة الظاهرة جودة الذهن الباطن ؟.
وسهل لك مدارك العلوم حتى نلت في قصير الزمان ما لم ينله غيرك في طويله.
وجلى في عرصة لسانك عرائس العلوم في حلل الفصاحة بعد أن ستر عن الخلق
مقابحك، فتلقوها منك بحسن الظن.
وساق رزقك بلا كلفة تكلف ولا كدر من، رغداً غير نزر ؟.
فوالله ما أدري أي نعمة عليك أشرح لك، حسن الصورة وصحة الآلات ؟ أم سلامة
المزاج واعتدال التركيب ؟ أم لطف الطبع الخالي عن خساسة ؟ أم إلهام الرشاد
منذ الصغر ؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش والزلل ؟ أم تحبب طريق
النقل واتباع الأثر من غير جمود على تقليد لمعظم، ولا انخراط في سلك مبتدع
؟.
" وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها " .
كم كائد نصب لك المكايد فوقاك ؟.
كم عدو حط منك بالذم فرقاك ؟.
كم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك ؟.
كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك وأبقاك ؟.
فأنت تصبحين وتمسين سليمة البدن، محروسة الدين، في تزيد من العلم وبلوغ
الأمل.
فإن منعت مراد فرزقت الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة في المنع فسلمي
حتى يقع اليقين بأن المنع أصلح.
ولو ذهبت أعد من هذه النعم ما سنح ذكره امتلأت الطروس ولم تنقطع الكتابة.
وأنت تعلمين أن ما لم أذكره أكثر، وأن ما أومأت إلى ذكره لم يشرح.
فكيف يحسن بك التعرض لما يكرهه ؟ " معاذ اللّه إنه ربي أحسن
مثواي إنه لا يفلح الظالمون " .
فصل اتقاء الشبهات
ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة. وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها.
ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
قال بعض المعتبرين: قدرت مرة على لذة ظاهرها التحريم وتحتمل الإباحة، إذ
الأمر فيها مردد.
فجاهدت النفس فقالت: أنت ما تقدر فلهذا تترك، فقارب المقدور عليه فإذا
تمكنت فتركت كنت تاركاً حقيقة.
ففعلت وتركت، ثم عاودت مرة أخرى في تأويل أرتني فيه الجواز وإن كان الأمر
يحتمل.
فلما وافقتها أثر ذلك ظلمة في قلبي لخوف أن يكون الأمر محرماً.
فرأيت أنها تارة تقوى علي بالترخص والتأويل، وتارة أقوى عليها بالمجاهدة
والامتناع.
فإذا ترخصت لم آمن أن يكون ذلك الأمر محظوراً، ثم أرى عاجلاً تأثير ذلك
الفعل في القلب.
فلما لم آمن عليها بالتأويل تفكرت في قطع طمعها من ذلك الأمر المؤثر فلم
أر ذلك إلا بأن قلت لها: قدري أن هذا الأمر مباح قطعاً، فوالله الذي لا
إله إلا هو لأعدت إليه.
فانقطع طمعها باليمين والمعاهدة، وهذا أبلغ دواء وجدته في امتناعها لأن
تأويلها لا يبلغ إلى أن تأمر بالحنث والتكفير.
فأجود الأشياء قطع أسباب الفتن وترك الترخص فيما يجوز إذا كان حاملاً
ومؤدياً إلى ما لا يجوز والله الموفق.
فصل سكرة الهوى حجاب
لولا غيبة العاصي في وقت المعاصي كان كالمعاند.
غير أن الهوى يحول بينه وبين الفهم للحال، فلا يرى إلا قضاء شهوته.
وإلا فلو لاحت له المخالفة خرج من الدين بالخلاف؛ فإنما يقصد هواه فيقع
الخلاف ضمناً وتبعاً.
وأكثر ما يقع هذا في نار إلى حلفا.
ثم لو ميز العاقل بين قضاء وطره لحظة وانقضاء باقي العمر بالحسرة على قضاء
ذلك الوطر لما قرب منه ولو أعطى الدنيا.
غير أن سكرة الهوى تحول بين الفكر وذلك.
آه كم معصية مضت في ساعتها كأنها لم تكن ثم بقيت آثارها.
وأقله ما لا يبرح من المرارة في الندم.
والطريق الأعظم في الحذر أن لا يتعرض لسبب فتنة، ولا يقاربه.
فمن فهم هذا وبالغ في الاحتراز كان إلى السلامة أقرب.
فصل أشد الناس بلاء
البلايا على مقادير الرجال. فكثير من الناس تراهم ساكتين راضين بما عندهم
من دين ودنيا.
وأولئك قوم لم يرادوا لمقامات الصبر الرفيعة.
أو علم ضعفهم عن مقاومة البلاء فلطف بهم.
إنما المحنة العظمى أن ترزق همة عالية لا تقنع منك إلا بتحقيق الورع،
وتجويد الدين، وكمال العلم، ثم تبتلى بنفس تميل إلى المباحات، وتدعى أنها
تجمع بذلك همها، وتشفي مرضها، لتقبل مزاحمة العلة على تحصيل الفضائل.
وهاتان الحالتان كضدين، لأن الدنيا والآخرة ضرتان.
واللازم في هذا المقام مراعاة الواجبات، وأن لا يفسح للنفس في مباح لا
يؤمن أن يتعدى منه إعراض عن واجب ورع.
المبتلي يصيح، فلأن يبكي الطفل خير من أن يبكي الولد.
واعلم أن فتح باب المباحات ربما جر أذى كثيراُ في الدين، فأوثق السكر قبل
فتح الماء وألبس الدرع قبل لقاء الحرب، وتلمح عواقب ما تجني قبل تحريك
اليد، واستظهر في الحذر باجتناب ما يخاف منه وإن لم يتيقن.
فصل استغل وقتك في الأنفس من العلوم
ينبغي لطالب العلم أن يكون جل همته مصروفاً إلى الحفظ والإعادة.
فلو صح صرف الزمان إلى ذلك كان الأولى.
غير أن البدن مطية، وإجهاد السير مظنة الانقطاع.
ولما كانت القوى تكل فتحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتصنيف لا
بد منه، مع أن المهم الحفظ، وجب تقسيم الزمان على الأمرين فيكون الحفظ في
طرفي النهار وطرفي الليل، ويوزع الباقي بين عمل بالنسخ والمطالعة، وبين
راحة للبدن وأخذ لحظه.
ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء، فإنه متى أخذ أحدهم فوق حقه أثر
الغبن وبان أثره، وإن النفس لتهرب إلى النسخ والمطالعة والتصنيف عن
الإعادة والتكرار لأن ذلك أشهى وأخف عليها.
فليحذر الراكب من إهمال الناقة، ولا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق.
ومع العدل والإنصاف يتأتى كل مراد.
ومن انحرف عن الجادة طالت طريقه.
ومن طوى منازل في منزل أوشك أن يفوته ما جد لأجله، على أن الإنسان إلى
التحريض أحوج لأن الفتور ألصق به من الجد.
وبعد، فاللازم في العلم طلب المهم، فرب صاحب حديث حفظ مثلاً
لحديث: من أتى الجمعة فليغتسل: عشرين طريقاً، والحديث قد ثبت من طريق
واحد، فشغله ذلك عن معرفة آداب الغسل.
والعمر أقصر وأنفس من أن يفرط منه في نفس.
وكفى بالعقل مرشداً إلى الصواب وبالله التوفيق.
فصل صلاح السر أصر القبول
إذا صح قصد العالم استراح من كلف التكلف.
فإن كثيراً من العلماء يأنفون من قول لا أدري، فيحفظون بالفتوى جاههم عند
الناس لئلا يقال: جهلوا الجواب، وإن كانوا على غير يقين مما قالوا.
وهذا نهاية الخذلان.
وقد روي عن مالك بن أنس أن رجلاً سأله عن مسألة فقال: لا أدري، فقال سافرت
البلدان إليك، فقال ارجع إلى بلدك وقل سألت مالكاً فقال لا أدري.
فانظر إلى دين هذا الشخص وعقله كيف استراح من الكلفة، وسلم عند الله عز
وجل.
ثم إن كان المقصود الجاه عندهم، فقلوبهم بيد غيرهم.
والله لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه،
والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذاك.
ورأيت من يلبس فاخر الثياب وليس له كبير نفل ولا تخشع، والقلوب تتهافت على
محبته.
فتدبرت السبب فوجدته السرير، كما روي عن أنس بن مالك أنه لم يكن له كبير
عمل من صلاة وصوم، وإنما كانت له سريرة.
فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعقبت القلوب بنشر طيبه.
فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر.
فصل من أسرار الحرمان
نزلت في شدة وأكثرت من الدعاء أطلب الفرج والراحة، وتأخرت الإجابة،
فانزعجت النفس وقلقت.
فصحت بها: ويلك، تأملي أمرك، أمملوكة أنت أم حرة مالكة ؟. أمدبَّرة أنت أم
مدبِّرة ؟.
أما علمت أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، فإذا طلبت أغراضك، ولم تصبري على
ما ينافي مرادك فأين الابتلاء ؟.
وهل الابتلاء إلا الإعراض وعكس المقاصد.
فافهمي معنى التكليف وقد هان عليك ما عز، وسهل ما استصعب.
فلما تدبرت ما قلته سكنت بعض السكون.
فقلت لها: وعندي جواب ثان، وهو أنك تقتضين الحق بأغراضك ولا تقتضين نفسك
بالواجب له، وهذا عين الجهل.
وإنما كان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس، لأنك مملوكة، والمملوك العاقل
يطالب نفسه بأداء حق المالك، ويعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى.
فسكنت أكثر من ذلك السكون.
فقلت لها: وعندي جواب ثالث، وهو أنك قد استبطأت الإجابة، وأنت سددت طرقها
بالمعاصي، فلو قد فتحت الطريق أسرعت.
كأنك ما علمت أن سبب الراحة التقوى.
أو ما سمعت قوله تعالى: " وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً
وَيَرْزُقهُ " ، " يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً " .
أو ما فهمت أن العكس بالعكس ؟.
آه من سكر غفلة صار أقى من كل سكر في وجه مياه المراد يمنعها من الوصول
إلى زرع الأماني. فعرفت النفس أن هذا حق فاطمأنت.
فقلت: وعندي جواب رابع، وهو أنك تطلبين ما لا تعلمين عاقبته، وربما كان
فيه ضررك.
فمثلك كمثل طفل محموم يطلب الحلوى، والمدبر لك أعلم بالمصالح.
كيف وقد قال الله: " وَعَسَى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكُم " .
فلما بان الصواب للنفس في هذه الأجوبة، زادت طمأنينتها.
فقلت لها: وعندي جواب خامس، وهو أن هذا المطلوب ينقص من أجرك، ويحط من
مرتبتك، فمنع الحق لك ما هذا سبيله عطاء منه لك.
ولو أنك طلبت ما يصلح آخرتك كان أولى لك.
فأولى لك أن تفهمي ما قد شرحت، فقالت: لقد سرحت في رياض ما شرحت، فهمت إذ
فهمت.
الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي، فإن نارها تحت الرماد.
وربما تأخرت العقوبة ثم فجأت، وربما جاءت مستعجلة، فليبادر بإطفاء ما أوقد
من نيران الذنوب، ولا ماء يطفىء تلك النار إلا ما كان من عين العين.
لعل خصم الجزاء يرضى قبل أن يبت الحاكم في حكمه.
واعجبا من عارف بالله عز وجل يخالفه ولو في تلف نفسه.
هل العيش إلا معه ؟ هل الدنيا والآخرة إلا له ؟.
أف لمترخص في فعل ما يكره لنيل ما يحب.
تالله لقد فاته أضعاف ما حصل.
أقبل على ما أقوله يا ذا الذوق، هل وقع لك تعثير في عيش ؟ وتخبيط في حال ؟
إلا حال مخالفته:
ولا انثنى عزمي عن بابك ... إلاّ تعثرت بأذيالي
أما سمعت تلك الحكاية عن بعض السلف أنه قال: رأيت على سور بيروت شاباً
يذكر الله تعالى فقلت له: ألك حاجة ؟.
فقال: إذا وقعت لي حاجة سألته إياها بقلبي فقضاها.
يا أرباب المعاملة، بالله عليكم لا تكدروا المشرب، قفوا على باب المراقبة
وقوف الحراس، وادفعوا ما لا يصلح أن يلج فيفسد.
واهجروا أغراضكم لتحصيل محبوب الحبيب، فإن أغراضكم تحصل.
على أنني أقول أف لمن ترك بقصد الجزاء.
أهذا شرط العبودية، كلا ؟.
إنما ينبغي لي إذا كنت مملوكاً أن أفعل ليرضى لا لأعطي.
فإن كنت محباً رأيت قطع الآراب في رضاه وصلا.
أقبل نصحي يا مخدوعاً بغرضه.
إن ضعفت عن عمل بلائه فاستغث به.
وإن آلمك كرب اختياره فه نك بين يديه.
ولا تيأس من روحه وإن قوي خناق البلاء.
بالله إن موت الخادم في الخدمة حسن عند العقلاء.
إخواني لنفسي أقول فمن له شرب معي فليرد، أيتها النفس لقد أعطاك ما لم
تأملي وبلغك ما لم تطلبي. وستر عليك من قبيحك ما لو فاح ضجت المشام، فما
هذا الضجيج من فوات كمال الأغراض.
أمملوكة أنت أم حرة ؟ أما علمت أنك في دار التكليف وهذا الخطاب ينبغي أن
يكون للجهال، فأين دعواك المعرفة ؟.
أتراه لو هبت نفحة، فأخذت البصر كيف كانت تطيب لك الدنيا ؟.
واأسفا عليك لقد عشيت البصيرة التي هي أشرف، وما علمت كم أقول
عسى ولعل ؟ وأنت في الخطأ إلى قدام.
قربت سفينة العمر من ساحل القبر، ومالك في المركب بضاعة تربح.
تلاعبت في بحر العمر ريح الضعف ففرقت تلفيق القوي وكان قد فصلت المركب.
بلغت نهاية الأجل وعين هواك تتلفت إلى الصبا.
بالله عليك لا تشمتي بك الأعداء. هذا أقل الأقسام.
وأوفى منها، أن أقول: بالله عليك لا يفتونك قدم سابق مع قدرتك على قطع
المضمار.
الخلوة، الخلوة واستحضري قرين العقل، وجولي في حيرة الفكر. واستدركي صبابة
الأجل قبل أن تميل بك الصبابة عن الصواب.
واعجبا كلما صعد العمر نزلت. وكلما جد الموت هزلت.
أتراك ممن ختم له بفتنة، وقضيت عليه عند آخر عمره المحنة، كان أول عمرك
خيراً من الأخير.
كنت في زمن الشباب أصلح منك في زمن أيام المشيب: " وَتِلْكَ الأمْثَالُ
تَضْرِبَها لِلنَّاس وَمَا يعقلها إِلاَّ الْعالُمون " .
نسأل الله عز وجل ما لا يحصل إلا به، وهو توفيقه إنه سميع مجيب.
فصل التعفف والصبر
قدرت في بعض الأيام على شهوة النفس هي عندها أحلى من الماء الزلال في فم
الصادي.
وقال التأويل: ما ههنا مانع ولا معوق إلا نوع ورع.
وكان ظاهر الأمر امتناع الجواز. فترددت بين الأمرين، فمنعت النفس عن ذلك.
فبقيت حيرتي لمنع ما هو الغاية في غرضها من غير صاد عنه بحال إلا حذر
المنع الشرعي.
فقلت لها: يا نفس والله ما من سبيل إلى ما تودين، ولا ما دونه ؟.
فتقلقلت فصحت بها: كم وافقتك في مراد ذهبت لذته وبقي التأسف على فعله ؟.
فقدري بلوغ الغرض من هذا المراد، أليس الندم يبقى في مجال اللذة أضعاف
زمانها ؟.
فقالت: كيف أصنع ؟ فقلت:
صبرت ولا واللّه ما بي جلادة ... على الحب لكني صبرت على الرغم
وها أنا ذا أنتظر من الله عز وجل حسن الجزاء على هذا الفعل. وقد تركت باقي
هذه الوجهة البيضاء. أرجو أن أرى حسن الجزاء على الصبر فأسطره فيه إن شاء
الله تعالى.
فإنه قد يعجل جزاء الصبر وقد يؤخره.
فإن عجل سطرته، وإن أخر فما أشك في حسن الجزاء لمن خاف مقام ربه، فإنه من
ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
والله إني ما تركته إلا لله تعالى ويكفيني تركه ذخيرة، حتى لو قيل لي
أتذكر يوماً آثرت الله على هواك، قلت: يوم كذا وكذا.
فافتخري أيتها النفس بتوفيق من وفقك، فكم قد خذل سواك.
واحذري أن تخذلي في مثلها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان هذا في سنة إحدى وستين وخمسمائة، فلما دخلت سنة خمسة وستين، عوضت
خيراً من ذلك بما لا يقارب مما لا يمنع منه ورع ولا غيره.
فقلت: هذا جزاء الترك لأجل الله سبحانه في الدنيا، ولأجر الآخرة خير
والحمد لله.
لا أنكر على من طلب لذة الدنيا من طريق المباح. لأنه ليس كل أحد يقوى على
الترك.
إنما المحنة من طلبها فلم يجدها، أو أكثرها، إلا من طريق الحرام، فاجتهد
في تحصيلها، ولم يبال كيف حصلت.
فهذه المحنة التي بخس العقل فيها حقه، ولم ينتفع صابحه بوجود لأنه لو وزن
ما آثر عقابه طاشت كفة اللذة التي فنيت عند أول ذرة من أجزائها.
وكم قد رأينا ممن آثر شهوته فسلبت دينه.
فليعجب العاقل حين التصفح لأحوالهم كيف آثروا شيئاً ما أقاموا معه، وصاروا
إلى عقاب لا يفارقهم.
فالله الله في بخس العقول حقها.
ولينظر السالك أين يضع القدم فرب مستعجل وقع في بئر بوار.
ولتكن عين التيقظ مفتوحة فإنكم في صف حرب لا يدري فيه من أين يتلقى النبل،
فأعينوا أنفسكم ولا تعينوا عليها.
الحق عز وجل أقرب إلى عبده من حبل الوريد، لكنه عامل العبد معاملة الغائب
عنه البعيد منه.
فأمر بقصد نيته ورفع اليدين إليه والسؤال له.
فقلوب الجهال تستشعر البعد، ولذلك تقع منهم المعاصي إذ لو تحققت مراقبتهم
للحاضر الناظر لكفوا الأكف عن الخطايا.
والمتيقظون علموا قربه فحضرتهم المراقبة وكفتهم عن الانبساط.
ولولا نوع تغطية على عين المراقبة الحقيقية لما انبسطت كف بأكل ولا قدرت
عين على نظر.
ومن هذا الجنس إنه ليغان على قلبي ومتى تحققت المراقبة حصل الأنس، وإنما
يقع الأنس بتحقيق الطاعة، لأن المخالفة توجب الوحشة، والموافقة مبسطة
المستأنسين.
في لذة عيش المستأنسين، ويا خسار المستوحشين.
وليست الطاعة كما يظن أكثر الجهال أنها في مجرد الصلاة والصيام.
إنما الطاعة الموافقة بامتثال الأمر واجتناب النهي.
هذا هو الأصل والقاعدة الكلية، فكم من متعبد بعيد، لأنه مضيع الأصل وهادم
للقواعد بمخالفة الأمر وارتكاب النهي.
وإنما المحقق من أمسك ذؤابة ميزان المحاسبة للنفس فأدى ما عليه واجتنب ما
نهى عنه.
فإن رزق زيادة تنفل وإلا لم يضره والسلام.
فصل تجميل مستحب
الدنيا في الجملة معبر، فينبغي للإنسان أن لا ينافس بلذاتها وأن يعبر
الأيام بها.
فإنه لو تفكر في كيفية الذبائح ووسخ من يباشرها وعمل الكامخ وغيرها من
المأكولات ما طابت له.
ولو تفكر في جولان اللقمة مختلطة بالريق ما قدر على إساغتها.
والمرء لا يخلو من حالين، إما أن يريد التنعم باللذات المباحات، أو يريد
دفع الوقت بالضرورات.
وأيهما طلب فلا ينبغي له أن يبحث فيما يناله عن باطنه، فإنه لو نظر إلى
عورة الزوجة نبا عنها، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيته رسول الله
ولا رآه مني.
فينبغي للعاقل أن يكون له وقت معلوم يأمر زوجته بالتصنع له فيه ثم يغمض عن
التفتيش ليطيب له عيشه !.
وينبغي لها أن تتفقد من نفسها هذا فلا تحضره إلا على أحسن حال.
وبمثل هذا يدوم العيش.
فأما إذا حصلت البذلة بانت بها العيوب، فنبت النفس وطلبت الاستبدال، ثم
يقع في الثانية مثل ما يقع في الأولى.
وكذلك ينبغي أن يتصنع لها كتصنعها له ليدوم الود بحسن الائتلاف، ومتى لم
يجر الأمر على هذا في حق من له أنفة من شيء تنبو عنه لنفس وقع في أحد
أمرين إما الإعراض عنها، وإما الاستبدال بها.
ويحتاج في حالة الإعراض إلى صبر عن أغراضه، وفي حالة الاستبدال إلى فضل
مؤنة وكلاهما يؤذي.
ومتى لم يستعمل ما وصفنا لم يطب له عيش في متعة، ولم يقدر على دفع الزمان
كما ينبغي.
نازعتني نفسي إلى أمر مكروه في الشرع، وجعلت تنصب لي التأويلات وتدفع
الكراهة، وكانت تأويلاتها فاسدة، والحجة ظاهرة على الكراهة.
فلجأت إلى الله تعالى في دفع ذلك عن قلبي، وأقبلت على القراءة وكان درسي
قد بلغ إلى سورة يوسف فاتحتها، وذلك الخاطر قد شغل قلبي حتى لا أدري ما
أقرأ، فلما بلغت إلى قوله تعالى: " قال معاذ اللّه إنه ربي أحسن مثواي "
انتبهت لها وكأني خوطبت بها.
فأفقت من تلك السكرة، فقلت: يا نفس أفهمت ؟.
هذا حر بيع ظلماً فراعى حق من أحسن إليه، وسماه مالكاً وإن لم يكن له عليه
ملك، فقال: إنه ربي.
ثم زاد في بيان موجب كف كفه عما يؤذيه فقال: أحسن مثواي.
فكيف بك وأنت عبد على الحقيقة لمولى ما زال يحسن إليك من ساعة وجودك.
وإن ستره عليك الزلل أكثر من عدد الحصا.
أفما تذكرين كيف رباك وعلمك ورزقك ودافع عنك، وساق الخير إليك، وهداك أقوم
طريق، ونجاك من كل كيد ؟.
وضم إلى حسن الصورة الظاهرة جودة الذهن الباطن ؟.
وسهل لك مدارك العلوم حتى نلت في قصير الزمان ما لم ينله غيرك في طويله.
وجلى في عرصة لسانك عرائس العلوم في حلل الفصاحة بعد أن ستر عن الخلق
مقابحك، فتلقوها منك بحسن الظن.
وساق رزقك بلا كلفة تكلف ولا كدر من، رغداً غير نزر ؟.
فوالله ما أدري أي نعمة عليك أشرح لك، حسن الصورة وصحة الآلات ؟ أم سلامة
المزاج واعتدال التركيب ؟ أم لطف الطبع الخالي عن خساسة ؟ أم إلهام الرشاد
منذ الصغر ؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش والزلل ؟ أم تحبب طريق
النقل واتباع الأثر من غير جمود على تقليد لمعظم، ولا انخراط في سلك مبتدع
؟.
" وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها " .
كم كائد نصب لك المكايد فوقاك ؟.
كم عدو حط منك بالذم فرقاك ؟.
كم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك ؟.
كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك وأبقاك ؟.
فأنت تصبحين وتمسين سليمة البدن، محروسة الدين، في تزيد من العلم وبلوغ
الأمل.
فإن منعت مراد فرزقت الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة في المنع فسلمي
حتى يقع اليقين بأن المنع أصلح.
ولو ذهبت أعد من هذه النعم ما سنح ذكره امتلأت الطروس ولم تنقطع الكتابة.
وأنت تعلمين أن ما لم أذكره أكثر، وأن ما أومأت إلى ذكره لم يشرح.
فكيف يحسن بك التعرض لما يكرهه ؟ " معاذ اللّه إنه ربي أحسن
مثواي إنه لا يفلح الظالمون " .
فصل اتقاء الشبهات
ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة. وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها.
ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
قال بعض المعتبرين: قدرت مرة على لذة ظاهرها التحريم وتحتمل الإباحة، إذ
الأمر فيها مردد.
فجاهدت النفس فقالت: أنت ما تقدر فلهذا تترك، فقارب المقدور عليه فإذا
تمكنت فتركت كنت تاركاً حقيقة.
ففعلت وتركت، ثم عاودت مرة أخرى في تأويل أرتني فيه الجواز وإن كان الأمر
يحتمل.
فلما وافقتها أثر ذلك ظلمة في قلبي لخوف أن يكون الأمر محرماً.
فرأيت أنها تارة تقوى علي بالترخص والتأويل، وتارة أقوى عليها بالمجاهدة
والامتناع.
فإذا ترخصت لم آمن أن يكون ذلك الأمر محظوراً، ثم أرى عاجلاً تأثير ذلك
الفعل في القلب.
فلما لم آمن عليها بالتأويل تفكرت في قطع طمعها من ذلك الأمر المؤثر فلم
أر ذلك إلا بأن قلت لها: قدري أن هذا الأمر مباح قطعاً، فوالله الذي لا
إله إلا هو لأعدت إليه.
فانقطع طمعها باليمين والمعاهدة، وهذا أبلغ دواء وجدته في امتناعها لأن
تأويلها لا يبلغ إلى أن تأمر بالحنث والتكفير.
فأجود الأشياء قطع أسباب الفتن وترك الترخص فيما يجوز إذا كان حاملاً
ومؤدياً إلى ما لا يجوز والله الموفق.
لولا غيبة العاصي في وقت المعاصي كان كالمعاند.
غير أن الهوى يحول بينه وبين الفهم للحال، فلا يرى إلا قضاء شهوته.
وإلا فلو لاحت له المخالفة خرج من الدين بالخلاف؛ فإنما يقصد هواه فيقع
الخلاف ضمناً وتبعاً.
وأكثر ما يقع هذا في نار إلى حلفا.
ثم لو ميز العاقل بين قضاء وطره لحظة وانقضاء باقي العمر بالحسرة على قضاء
ذلك الوطر لما قرب منه ولو أعطى الدنيا.
غير أن سكرة الهوى تحول بين الفكر وذلك.
آه كم معصية مضت في ساعتها كأنها لم تكن ثم بقيت آثارها.
وأقله ما لا يبرح من المرارة في الندم.
والطريق الأعظم في الحذر أن لا يتعرض لسبب فتنة، ولا يقاربه.
فمن فهم هذا وبالغ في الاحتراز كان إلى السلامة أقرب.
البلايا على مقادير الرجال. فكثير من الناس تراهم ساكتين راضين بما عندهم
من دين ودنيا.
وأولئك قوم لم يرادوا لمقامات الصبر الرفيعة.
أو علم ضعفهم عن مقاومة البلاء فلطف بهم.
إنما المحنة العظمى أن ترزق همة عالية لا تقنع منك إلا بتحقيق الورع،
وتجويد الدين، وكمال العلم، ثم تبتلى بنفس تميل إلى المباحات، وتدعى أنها
تجمع بذلك همها، وتشفي مرضها، لتقبل مزاحمة العلة على تحصيل الفضائل.
وهاتان الحالتان كضدين، لأن الدنيا والآخرة ضرتان.
واللازم في هذا المقام مراعاة الواجبات، وأن لا يفسح للنفس في مباح لا
يؤمن أن يتعدى منه إعراض عن واجب ورع.
المبتلي يصيح، فلأن يبكي الطفل خير من أن يبكي الولد.
واعلم أن فتح باب المباحات ربما جر أذى كثيراُ في الدين، فأوثق السكر قبل
فتح الماء وألبس الدرع قبل لقاء الحرب، وتلمح عواقب ما تجني قبل تحريك
اليد، واستظهر في الحذر باجتناب ما يخاف منه وإن لم يتيقن.
ينبغي لطالب العلم أن يكون جل همته مصروفاً إلى الحفظ والإعادة.
فلو صح صرف الزمان إلى ذلك كان الأولى.
غير أن البدن مطية، وإجهاد السير مظنة الانقطاع.
ولما كانت القوى تكل فتحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتصنيف لا
بد منه، مع أن المهم الحفظ، وجب تقسيم الزمان على الأمرين فيكون الحفظ في
طرفي النهار وطرفي الليل، ويوزع الباقي بين عمل بالنسخ والمطالعة، وبين
راحة للبدن وأخذ لحظه.
ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء، فإنه متى أخذ أحدهم فوق حقه أثر
الغبن وبان أثره، وإن النفس لتهرب إلى النسخ والمطالعة والتصنيف عن
الإعادة والتكرار لأن ذلك أشهى وأخف عليها.
فليحذر الراكب من إهمال الناقة، ولا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق.
ومع العدل والإنصاف يتأتى كل مراد.
ومن انحرف عن الجادة طالت طريقه.
ومن طوى منازل في منزل أوشك أن يفوته ما جد لأجله، على أن الإنسان إلى
التحريض أحوج لأن الفتور ألصق به من الجد.
وبعد، فاللازم في العلم طلب المهم، فرب صاحب حديث حفظ مثلاً
لحديث: من أتى الجمعة فليغتسل: عشرين طريقاً، والحديث قد ثبت من طريق
واحد، فشغله ذلك عن معرفة آداب الغسل.
والعمر أقصر وأنفس من أن يفرط منه في نفس.
وكفى بالعقل مرشداً إلى الصواب وبالله التوفيق.
فصل صلاح السر أصر القبول
إذا صح قصد العالم استراح من كلف التكلف.
فإن كثيراً من العلماء يأنفون من قول لا أدري، فيحفظون بالفتوى جاههم عند
الناس لئلا يقال: جهلوا الجواب، وإن كانوا على غير يقين مما قالوا.
وهذا نهاية الخذلان.
وقد روي عن مالك بن أنس أن رجلاً سأله عن مسألة فقال: لا أدري، فقال سافرت
البلدان إليك، فقال ارجع إلى بلدك وقل سألت مالكاً فقال لا أدري.
فانظر إلى دين هذا الشخص وعقله كيف استراح من الكلفة، وسلم عند الله عز
وجل.
ثم إن كان المقصود الجاه عندهم، فقلوبهم بيد غيرهم.
والله لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه،
والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذاك.
ورأيت من يلبس فاخر الثياب وليس له كبير نفل ولا تخشع، والقلوب تتهافت على
محبته.
فتدبرت السبب فوجدته السرير، كما روي عن أنس بن مالك أنه لم يكن له كبير
عمل من صلاة وصوم، وإنما كانت له سريرة.
فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعقبت القلوب بنشر طيبه.
فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر.
نزلت في شدة وأكثرت من الدعاء أطلب الفرج والراحة، وتأخرت الإجابة،
فانزعجت النفس وقلقت.
فصحت بها: ويلك، تأملي أمرك، أمملوكة أنت أم حرة مالكة ؟. أمدبَّرة أنت أم
مدبِّرة ؟.
أما علمت أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، فإذا طلبت أغراضك، ولم تصبري على
ما ينافي مرادك فأين الابتلاء ؟.
وهل الابتلاء إلا الإعراض وعكس المقاصد.
فافهمي معنى التكليف وقد هان عليك ما عز، وسهل ما استصعب.
فلما تدبرت ما قلته سكنت بعض السكون.
فقلت لها: وعندي جواب ثان، وهو أنك تقتضين الحق بأغراضك ولا تقتضين نفسك
بالواجب له، وهذا عين الجهل.
وإنما كان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس، لأنك مملوكة، والمملوك العاقل
يطالب نفسه بأداء حق المالك، ويعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى.
فسكنت أكثر من ذلك السكون.
فقلت لها: وعندي جواب ثالث، وهو أنك قد استبطأت الإجابة، وأنت سددت طرقها
بالمعاصي، فلو قد فتحت الطريق أسرعت.
كأنك ما علمت أن سبب الراحة التقوى.
أو ما سمعت قوله تعالى: " وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً
وَيَرْزُقهُ " ، " يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً " .
أو ما فهمت أن العكس بالعكس ؟.
آه من سكر غفلة صار أقى من كل سكر في وجه مياه المراد يمنعها من الوصول
إلى زرع الأماني. فعرفت النفس أن هذا حق فاطمأنت.
فقلت: وعندي جواب رابع، وهو أنك تطلبين ما لا تعلمين عاقبته، وربما كان
فيه ضررك.
فمثلك كمثل طفل محموم يطلب الحلوى، والمدبر لك أعلم بالمصالح.
كيف وقد قال الله: " وَعَسَى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكُم " .
فلما بان الصواب للنفس في هذه الأجوبة، زادت طمأنينتها.
فقلت لها: وعندي جواب خامس، وهو أن هذا المطلوب ينقص من أجرك، ويحط من
مرتبتك، فمنع الحق لك ما هذا سبيله عطاء منه لك.
ولو أنك طلبت ما يصلح آخرتك كان أولى لك.
فأولى لك أن تفهمي ما قد شرحت، فقالت: لقد سرحت في رياض ما شرحت، فهمت إذ
فهمت.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى