رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل الغنى عافية للعلماء
حضرنا بعض أغذية أرباب الأموال، فرأيت العلماء أذل الناس عندهم.
فالعلماء يتواضعون لهم ويذلون لموضع طمعهم فيهم، وهم لا يحفلون بهم لما
يعلمونه من احتياجهم إليهم.
فرأيت هذا عيباً في الفريقين.
أما في أهل الدنيا فوجه العتب أنهم كانوا ينبغي لهم تعظيم العلم، ولكن
لجهلهم بقدره فاتهم وآثروا عليه كسب الأموال.
فلا ينبغي أن يطلب منهم تعظيم ما لا يعرفون ولا يعلمون قدره.
وإنما أعود باللوم على العلماء وأقول: ينبغي لكم أن تصونوا أنفسكم التي
شرفت بالعلم عن الذل للأنذال.
وإن كنتم في غنى عنهم كان الذل لهم والطلب منهم حراماً عليكم.
وإن كنتم في كفاف فلم لم تؤثروا التنزه عن الذل بالعفة عن الحطام الفاني
الحاصل بالذلة.
إلا أنه يتخيل لي من هذا الأمر، أني علمت قلة صبر النفس على
الكفاف والعزوف عن الفضول، فإن وجد ذلك منها في وقت لم يوجد على الدوام.
فالأولى للعالم أن يجتهد في طلب الغنى، ويبالغ في الكسب، وإن ضاع بذلك
عليه كثير من زمان طلب العلم؛ فإنه يصون بعرضه عرضه.
وقد كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت وخلف مالاً.
وخلف سفيان الثوري مالاً وقال لولاك لتمندلوا بي.
وقد سبق في كتابي هذا في بعض الفصول شرف المال، ومن كان من الصحابة
والعلماء يقتنيه، والسر في فعلهم ذلك، وحتى طالبي العلم على ذلك ما بينته
من أن النفس لا تثبت على التعفف، ولا تصبر على دوام التزهد.
وكم قد رأينا من شخص قويت عزيمته على طلب الآخرة فأخرج ما في يده، ثم ضعفت
فعاد يكتسب من أقبح وجه.
فالأولى ادخار المال والاستغناء عن الناس. ليخرج الطمع من القلب، ويصفو
نشر العلم من شآئبة ميل.
ومن تأمل أخبار الأخيار من الأحبار وجدهم على هذه الطريقة.
وإنما سلك طريق الترفه عن الكسب من لمي يؤثر عنده بذل الدين والوجه.
فطلب الراحة ونسي أنها في المعنى عناء.
كما فعل جماعة من جهال المتصوفة في إخراج ما في أيديهم وادعاء التوكل.
وما علموا أن الكسب لا ينافي التوكل.
وإنما طلبوا طريق الراحة وجعلوا التعرض للناس كسباً.
وهذه طريقة مركبة من شيئين: أحدهما: قلة الأنفة على العرض. الثاني: قلة
العلم.
فصل غلبة الشهوة
تأملت وقوع المعاصي من العصاة فوجدتهم لا يقصدون العصيان، وإنما يقصدون
موافقة هواهم، فوقع العصيان تبعاً.
فنظرت في سبب ذلك الإقدام مع العلم بوقوع المخالفة فإذا به ملاحظتهم لكرم
الخالق، وفضله الزاخر.
ولو أنهم تأملوا عظمته وهيبته ما انبسطت كف بمخالفته.
فإنه ينبغي والله أن يحذر ممن أقل فعله تعميم الخلق بالموت، حتى إلقاس
الحيوان البهيم للذبح، وتعذيب الأطفال بالمرض، وفقر العالم، وغنى الجاهل.
فليعرض المقدم على الذنوب على نفسه الحذر ممن هذه صفته.
فقد قال الله تعالى: " ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ " .
وملاحظة أسباب الخوف أدنى إلى الأمن من ملاحظة أسباب الرجاء.
فالخائف آخذ بالحزم، والراجي متعلق بحبل طمع، وقد يخلف الظن.
فصل عفة العالم من تمام دينه
رأيت عموم أرباب الأموال يستخدمون العلماء ويتسذلونهم بشيء يسير يعطونهم
من زكاة أموالهم.
فإن كان لأحدهم ختمة قال فلان ما حضر، وإن مرض قال فلان ما تردد.
وكل منته عليه شيء نزر يجب تسليمه إلى مثله.
وقد رضي العلماء بالذل في ذلك لموضع الضرورة فرأيت أن هذا جهل من العلماء
بما يجب عليهم من صيانة العلم.
ودواؤه من جهتين: إحداهما: القناعة باليسير. كما قيل: من رضي بالخل والبقل
لم يستعبده أحد.
والثاني صرف الزمان المصروف في خدمة العلم إلى كسب الدنيا. فإنه يكون
سبباً لإعزاز العلم، وذلك أفضل من صرف جميع الزمان في طلب العلم، مع
احتمال هذا الذل.
ومن تأمل ما تأملته وكانت له أنفة قدر قوته، واحتفظ بما معه، أو سعى في
مكتسب يكفيه.
ومن لم يأنف من مثل هذه الأشياء لم يحظ من العلم إلا بصورته دون معناه.
فصل العقل أصل الدين
مدار الأسر كله على العقل؛ فإنه إذا تم العقل لم يعمل صاحبه إلا على أقوى
دليل.
وثمرة العقل فهم الخطاب، وتلمح المقصود من الأمر.
ومن فهم المقصود وعمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق.
وإني رأيت كثيراً من الناس لا يعملون على دليل. بل كيف اتفق، وربما كان
دليلهم العادات، وهذا أقبح شيء يكون.
ثم رأيت خلقاً كثيراً لا يتبعون الدليل بطرق إثباته كاليهود والنصارى.
فإنهم يقلدون الآباء ولا ينظرون فيما جاء من الشرائع هل صحيح أم لا.
وكذلك يثبتون لإله ولا يعرفون ما يجوز عليه مما لا يجوز.
فينسبون إليه الولد، ويمنعون جواز تغييره ما شرع.
وهؤلاء لم ينظروا حق النظر لا في إثبات الصانع وما يجوز عليه، ولا في
الدليل على صحة النبوات، فتقع أعمالهم ضائعة كالباني على رمل.
ومن هذا القبيل في المعنى قوم يتعبدون ويتزهدون وينصبون أبدانهم في العلم
بأحاديث باطلة. ولا يسألون عنها من يعلم.
ومن الناس من يثبت الدليل ولا يفهم المقصود الذي دل عليه الدليل.
ومن هذا الجنس قوم سمعوا ذم الدنيا فتزهدوا، وما فهموا المقصود،
فظنوا أن الدنيا تذم لذاتها وأن النفس تجب عداوتها، فحملوا على أنفسهم فوق
ما يطاق. وعذبوها بكل نوع، ومنعوها حظوظها. جاهلين بقوله صلى الله عليه
وسلم: إن لنفسك عليك حقاً.
وفيهم من أدته الحال إلى ترك الفرائض، ونحول الجسم، وضعف التقوى.
وكل ذلك لضعف الفهم للمقصود والتلمح للمراد. كما روي عن داود الطائي أنه
كان يترك ماء في دن تحت الأرض فيشرب منه وهو شديد الحر.
وقال لسفيان إذا كنت تأكل اللذيذ الطيب، وتشرب الماء البارد المبرد، فمتى
تحب الموت والقدوم على الله ؟.
وهذا جهل بالمقصود. فإن شرب الماء الحار يورث أمراضاً في البدن ولا يحصل
به الري.
وما أمرنا بتعذيب أنفسنا على هذه الصورة، بل بترك ما تدعو إليه من ما نهى
الله عنه.
وفي الحديث الصحيح: أن أبا بكر رضي الله عنه لما حلب له الراعي في طريق
الهجرة صب الماء على القدح حتى برد أسفله، ثم سقى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفرش له في ظل صخرة.
وكان يستعذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء. وقال: إن كان عندكم ماء
بات في شن وإلا كرعنا.
ولو فهم داود رحمه الله أن إصلاح علف الناقة متعين لقطع المسافة لم يفعل
هذا.
ألا ترى إلى سفيان الثوري فإنه كان شديد المعرفة والخوف وكان يأكل اللذيذ
ويقول: إن الدابة إذا لم يحسن إليها لم تعمل.
ولعل بعض من لم يسمع كلامي هذا يقول: هذا ميل على الزهاد، فأقول: كن مع
العلماء وانظر إلى طريق الحسن، وسفيان، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد،
والشافعي، وهؤلاء أصول الإسلام.
ولا تقلد دينك من قل علمه وإن قوي زهده.
واحمل أمره على أنه كان يطيق هذا ولا تقتد بهم فيما لا تطيقه.
فليس أمرنا إلينا، والنفس وديعة عندنا.
فإن أنكرت ما شرحته فأنت ملحق بالقوم الذي أنكرت عليهم.
هذا رمز إلى المقصود والشرح يطول.
فصل حول تقسيم الأرزاق
الواجب على العاقل أن يتبع الدليل ثم لا ينظر فيما لا يجني من مكروه.
مثال أنه قد ثبت بالدليل القاطع حكمة الخالق عز وجل وملكه وتدبيره.
فإذا رأى الإنسان عالماً محروماً، وجاهلاً مرزوقاً، أوجب عليه الدليل
المثبت حكمة الخالق التسليم إليه، ونسبة العجز عن معرفة الحكمة إلى نفسه.
فإن أقواماً لم يفعلوا ذلك جهلاً منهم، أفتراهم بماذا حكموا ؟.
بفساد هذا التدبير ؟ أليس بمقتضى عقولهم ؟ أو ما عقولهم من جملة مواهبه ؟.
فكيف يحكم على حكمته وتدبيره ببعض مخلوقاته التي هي بالإضافة إليه أنقص من
كل شيء؟.
ولقد بلغني عن اللعين ابن الراوندي أنه كان جالساً على الجسر وفي يده رغيف
يأكله، فجازت خيل وأموال فقال: لمن هذه ؟ فقيل لفلان الخادم.
ثم جازت خيل وأموال فقال: لمن هذه ؟ فقيل لفلان الخادم.
فلما مر الخادم رأى شخصاً محتقراً، فرى الرغيف إلى ناحيته وقال: وهذا
لفلان ! ما هذه القسمة ؟.
ولو فكر المعترض لبانت له وجوه أقلها جهله بمن يدعي معرفته وقلة تعظيمه
له. وذلك يوجب عليه أشد مما كان فيه من تضييق العيش ولكنه ميراث إبليس،
حيث اعتقد سوء التدبير في تفضيل آدم عليه السلام.
فالعجب من تلميذ يتعالم على أستاذه، ومن مملوك يتيه على سيده.
ومما ينبغي فيه الدليل ولا يلتفت إلى ما جنت الحال، أن العلم أشرف مكتسب.
وقد رأى جماعة من الجهلة قلة حظوظ العلماء من الدنيا فأزروا على العلم
وقالوا: لا فائدة فيه.
وذلك لجهلهم بمقدار العلم، فإن تابع الدليل لا يبالي ما جنى، وإنما يبين
الاختبار بفقد الغرض.
ولو لم يكن من الدليل على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم إلا إعراضه عن
الدنيا وتضييق العيش عليه، ثم لم يخلف شيئاً وحرم أهله الميراث، لكفاه ذلك
دليلاً على صدق طلبه لمطلوب آخر.
وربما رأى الجاهل قوماً من العلماء يفعلون خطيئة فيزدري على العلم ويدعيه
ناقصاً وهذا غلط كبير.
فليتق الله العاقل وليعمل بمقتضى العقل فيما يأمر به من طاعة الله تعالى
والعمل بالعلم.
وليعلم أن الابتلاء في الصبر على فوات المطلوبات، وليلزم اتباع الدليل وإن
جنى مكروهاً والله الموفق.
فصل بين آدم ويوسف
قرأت سورة يوسف عليه السلام، فتعجبت من مدحه عليه السلام على صبره وشرح
قصته للناس ورفع قدره بترك ما ترك.
فتأملت خبيئة الأمر فإذا هي مخالفة للهوى المكروه.
فقلت: واعجباً لو وافق هواه من كان يكون ؟.
ولما خالفه لقد صار أمراً عظيماً تضرب الأمثال بصبره، ويفتخر على الخلق
باجتهاده.
وكل ذلك قد كان بصبر ساعة فيا له عزاً وفخراً، أن تملك نفسك ساعة الصبر عن
المحبوب وهو قريب.
وبالعكس منه حالة آدم في موافقته هواه، لقد عادت نقيصة في حقه أبداً لولا
التدارك فتاب عليه.
فتلمحوا رحمكم الله عاقبة الصبر ونهاية الهوى.
فالعاقل من ميز بين الأمرين. الحلوين والمرين.
فإن من عدل ميزانه ولم تمل به كفة الهوى رأى كل الأرباح في الصبر، وكل
الخسران في موافقة النفس.
وكفى بهذا موعظة في مخالفة الهوى لأهل النهى والله الموفق.
فصل تكامل المعارف في إصلاح القلوب
رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن
يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين.
لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق
معانيها والمراد بها.
وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق لأني وجدت جمهور المحدثين وطلاب
الحديث همة أحدهم في الحديث العالي وتكثير الأجزاء.
وجمهور الفقهاء في علوم الجدل وما يغالب به الخصم.
وكيف يرق القلب مع هذه الأشياء ؟.
وقد كان جماعة من السلف يقصدون البعد الصالح للنظر إلى سمته وهديه. لا
لاقتباس علمه.
وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته، فافهم هذا وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة
سير السلف والزهاد في الدنيا ليكون سبباً لرقة قلبك.
وقد جمعت لكل واحد من مشاهير الأخيار كتاباً فيه أخباره وآدابه. فجمعت
كتاباً في أخبار الحسن وكتاباً في أخبار سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم،
وبشر الحافي، وأحمد بن حنبل، ومعروف، وغيرهم من العلماء والزهاد، والله
الموفق للمقصود.
ولا يصلح العمل مع قلة العلم.
فهما في ضرب المثل كسائق وقائد والنفس بينهما حرون ومع جد السائق والقائد
ينقطع المنزل، ونعوذ بالله من الفتور.
فصل قوة الإرادة
ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي
نوع طرد عن الباب، وبعد ظلمة تكاثفت.
فقالت نفسي: ما هذا. أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء.
فقلت لها: يا نفس السوء جوابك من وجهين: أحدهما أنك تأولت ما لا تعتقدين
فلو استفتيت لم تفت بما فعلت.
قالت: لو لم أعتقد جواز ذلك ما فعلته.
قلت: إلا أن اعتقادك ما ترضينه لغيرك في الفتوى.
والثاني أنه ينبغي لك الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك، لأنه لولا نور
في قلبك ما أثر مثل هذا عندك.
قالت فلقد استوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب.
قلت: فاعزمي على الترك وقدري ما تركت جائزاً بالإجماع، وعدي هجره ورعاً،
وقد سلمت.
فصل التوسط في المعاملة
مما أفادتني تجارب الزمان أنه لا ينبغي لأحد أن يظاهر بالعداوة أحداً ما
استطاع، فإنه ربما يحتاج إليه مهما كانت منزلته.
وإن الإنسان ربما لا يظن الحاجة إلى مثله يوماً ما كما لا يحتاج إلى عويد
منبوذ لا يلتفت إليه.
لكم كم من محتقر احتيج إليه. فإذا لم تقع الحاجة إلى ذلك الشخص في جلب نفع
وقعت الحاجة في دفع ضر.
ولقد احتجت في عمري إلى ملاطفة أقوام ما خطر لي قط وقوع الحاجة إلى التلطف
بهم.
واعلم أن الظاهرة بالعداوة قد تجلب أذى من حيث لا يعلم. لأن المظاهر
بالعداوة كشاهر السيف ينتظر مضرباً. وقد يلوح منه مضرب خفي، وإن اجتهد
المتدرع في ستر نفسه فيغتنمه ذلك العدو.
فينبغي لمن عاش في الدنيا أن يجتهد في أن لا يظاهر بالعداوة أحداً لما
بينت من وقوع احتياج الخلق بعضهم إلى بعض وإقدار بعضهم على ضرر بعض.
وهذا فصل مفيد تبين فائدته للإنسان مع تقلب الزمان.
فصل بين المتعة والخوف
رأيت النفس تنظر إلى لذات أرباب الدنيا العاجلة وتنسى كيف حصلت وما
يتضمنها من الآفات.
وبيان هذا أنك إن رأيت صاحب إمارة وسلطنة فتأملت نعمته وجدتها مشوبة فإن
لم يقصد هو الشر حصل من عماله.
ثم هو خائف منزعج في كل أموره حذر من عدو أن يسيئه، قلق ممن هو فوقه أن
يعزله، ومن نظير أن يكيده.
ثم أكثر زمانه يمضي في خدمة من يخافه من السلاطين، وفي حساب أموالهم،
وتنفيذ أوامرهم التي لا تخلو من أشياء منكرة.
وإن عزل أربى ذلك على جميع ما نال من لذة.
ثم تلك اللذة تكون مغمورة بالحذر فيها ومنها وعليها.
وإن رأيت صاحب تجارة رأيته قد تقطع في البلاد فلم ينل ما نال إلا بعد علو
السن وذهاب زمان اللذة.
كما حكي أن رجلاً من الرؤساء كان حال شبيبته فقيراً، فلما كبر استغنى وملك
أموالاً واشترى عبيداً من الترك وغيرهم وجواري من الروم فقال هذه الأبيات
في شرح حاله.
ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا ... ملكته بعد أن جاوزت سبعينا
تطوف بي من الأتراك أغزلة ... مثل الغصون على كثبان يبرينا
وخرد من بنات الروم رائعة ... يحكين بالحسن حور الجنة العينا
يغمزنني بأساريع منعمة ... تكاد تعقد من أطرافها لينا
يردن إحياء ميت لا حراك به ... وكيف يحيين ميتاً صار مدفونا
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا ... فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
وهذه الحالة هي الغالبة فإن الإنسان لا يكاد يجتمع له كل ما يحبه إلا عند
قرب رحيله، فإن بدر ما يحب في بداية شبابه فالصبوة مانعة من فهم التدابير
أو حسن الإلتذاذ.
والإنسان في حالة الصبوة لا يدري أين هو إلا أن يبلغ، فإذا بلغ كانت همته
في المنكوح كيف ما اتفق.
وإن تزوج جاء الأولاد فمنعوه اللذة وانكسر في نفسه وافتقر إلى الكسب عليهم.
فبينما هو قد دعك في تلك المديدة القريبة من الثلاثين وخطه الشيب فانفرق
من نفسه لعلمه أن النساء ينفرقن منه كما قال ابن المعتز بالله:
لقد أتعبت نفسي في مشيبي ... فكيف تحبني الغيد الكعاب
وهكذا لا ترى المتمتع بالمستحسنات، إن وجدهن، لم يجد ما لا يبلغ به المراد.
وإن اشتغل بجمع المال ضاع زمن تمتعه، وإذا تم المطلوب فالشيب أقبح قذى
وأعظم مبغض.
ثم إن صاحب المال خائف على ماله، محاسب لمعامليه، مذموم إن أسرف وإن قتر.
ولده يرصد موته، وجاريته قد لا ترضى بشخصه، وهو مشغول بحفظ حواشيه.
فقد مضى زمانه في محن، واللذات فيها خلس معتادة لا لذة فيها.
ثم في القيامة يحشر الأمير والتاجر خزايا، إلا من عصم الله.
فإياك إياك أن تنظر إلى صورة نعيمهم فإنك تستطيبه لبعده عنك، ولو قد بلغته
كرهته.
ثم في ضمنه من محن الدنيا والآخرة ما لا يوصف.
فعليك بالقناعة مهما أمكن، ففيها سلامة الدنيا والدين.
وقد قيل لبعض الزهاد وعنده خبز يابس. كيف تشتهي هذا. فقال: أتركه حتى
أشتهيه.
حضرنا بعض أغذية أرباب الأموال، فرأيت العلماء أذل الناس عندهم.
فالعلماء يتواضعون لهم ويذلون لموضع طمعهم فيهم، وهم لا يحفلون بهم لما
يعلمونه من احتياجهم إليهم.
فرأيت هذا عيباً في الفريقين.
أما في أهل الدنيا فوجه العتب أنهم كانوا ينبغي لهم تعظيم العلم، ولكن
لجهلهم بقدره فاتهم وآثروا عليه كسب الأموال.
فلا ينبغي أن يطلب منهم تعظيم ما لا يعرفون ولا يعلمون قدره.
وإنما أعود باللوم على العلماء وأقول: ينبغي لكم أن تصونوا أنفسكم التي
شرفت بالعلم عن الذل للأنذال.
وإن كنتم في غنى عنهم كان الذل لهم والطلب منهم حراماً عليكم.
وإن كنتم في كفاف فلم لم تؤثروا التنزه عن الذل بالعفة عن الحطام الفاني
الحاصل بالذلة.
إلا أنه يتخيل لي من هذا الأمر، أني علمت قلة صبر النفس على
الكفاف والعزوف عن الفضول، فإن وجد ذلك منها في وقت لم يوجد على الدوام.
فالأولى للعالم أن يجتهد في طلب الغنى، ويبالغ في الكسب، وإن ضاع بذلك
عليه كثير من زمان طلب العلم؛ فإنه يصون بعرضه عرضه.
وقد كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت وخلف مالاً.
وخلف سفيان الثوري مالاً وقال لولاك لتمندلوا بي.
وقد سبق في كتابي هذا في بعض الفصول شرف المال، ومن كان من الصحابة
والعلماء يقتنيه، والسر في فعلهم ذلك، وحتى طالبي العلم على ذلك ما بينته
من أن النفس لا تثبت على التعفف، ولا تصبر على دوام التزهد.
وكم قد رأينا من شخص قويت عزيمته على طلب الآخرة فأخرج ما في يده، ثم ضعفت
فعاد يكتسب من أقبح وجه.
فالأولى ادخار المال والاستغناء عن الناس. ليخرج الطمع من القلب، ويصفو
نشر العلم من شآئبة ميل.
ومن تأمل أخبار الأخيار من الأحبار وجدهم على هذه الطريقة.
وإنما سلك طريق الترفه عن الكسب من لمي يؤثر عنده بذل الدين والوجه.
فطلب الراحة ونسي أنها في المعنى عناء.
كما فعل جماعة من جهال المتصوفة في إخراج ما في أيديهم وادعاء التوكل.
وما علموا أن الكسب لا ينافي التوكل.
وإنما طلبوا طريق الراحة وجعلوا التعرض للناس كسباً.
وهذه طريقة مركبة من شيئين: أحدهما: قلة الأنفة على العرض. الثاني: قلة
العلم.
فصل غلبة الشهوة
تأملت وقوع المعاصي من العصاة فوجدتهم لا يقصدون العصيان، وإنما يقصدون
موافقة هواهم، فوقع العصيان تبعاً.
فنظرت في سبب ذلك الإقدام مع العلم بوقوع المخالفة فإذا به ملاحظتهم لكرم
الخالق، وفضله الزاخر.
ولو أنهم تأملوا عظمته وهيبته ما انبسطت كف بمخالفته.
فإنه ينبغي والله أن يحذر ممن أقل فعله تعميم الخلق بالموت، حتى إلقاس
الحيوان البهيم للذبح، وتعذيب الأطفال بالمرض، وفقر العالم، وغنى الجاهل.
فليعرض المقدم على الذنوب على نفسه الحذر ممن هذه صفته.
فقد قال الله تعالى: " ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ " .
وملاحظة أسباب الخوف أدنى إلى الأمن من ملاحظة أسباب الرجاء.
فالخائف آخذ بالحزم، والراجي متعلق بحبل طمع، وقد يخلف الظن.
رأيت عموم أرباب الأموال يستخدمون العلماء ويتسذلونهم بشيء يسير يعطونهم
من زكاة أموالهم.
فإن كان لأحدهم ختمة قال فلان ما حضر، وإن مرض قال فلان ما تردد.
وكل منته عليه شيء نزر يجب تسليمه إلى مثله.
وقد رضي العلماء بالذل في ذلك لموضع الضرورة فرأيت أن هذا جهل من العلماء
بما يجب عليهم من صيانة العلم.
ودواؤه من جهتين: إحداهما: القناعة باليسير. كما قيل: من رضي بالخل والبقل
لم يستعبده أحد.
والثاني صرف الزمان المصروف في خدمة العلم إلى كسب الدنيا. فإنه يكون
سبباً لإعزاز العلم، وذلك أفضل من صرف جميع الزمان في طلب العلم، مع
احتمال هذا الذل.
ومن تأمل ما تأملته وكانت له أنفة قدر قوته، واحتفظ بما معه، أو سعى في
مكتسب يكفيه.
ومن لم يأنف من مثل هذه الأشياء لم يحظ من العلم إلا بصورته دون معناه.
مدار الأسر كله على العقل؛ فإنه إذا تم العقل لم يعمل صاحبه إلا على أقوى
دليل.
وثمرة العقل فهم الخطاب، وتلمح المقصود من الأمر.
ومن فهم المقصود وعمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق.
وإني رأيت كثيراً من الناس لا يعملون على دليل. بل كيف اتفق، وربما كان
دليلهم العادات، وهذا أقبح شيء يكون.
ثم رأيت خلقاً كثيراً لا يتبعون الدليل بطرق إثباته كاليهود والنصارى.
فإنهم يقلدون الآباء ولا ينظرون فيما جاء من الشرائع هل صحيح أم لا.
وكذلك يثبتون لإله ولا يعرفون ما يجوز عليه مما لا يجوز.
فينسبون إليه الولد، ويمنعون جواز تغييره ما شرع.
وهؤلاء لم ينظروا حق النظر لا في إثبات الصانع وما يجوز عليه، ولا في
الدليل على صحة النبوات، فتقع أعمالهم ضائعة كالباني على رمل.
ومن هذا القبيل في المعنى قوم يتعبدون ويتزهدون وينصبون أبدانهم في العلم
بأحاديث باطلة. ولا يسألون عنها من يعلم.
ومن الناس من يثبت الدليل ولا يفهم المقصود الذي دل عليه الدليل.
ومن هذا الجنس قوم سمعوا ذم الدنيا فتزهدوا، وما فهموا المقصود،
فظنوا أن الدنيا تذم لذاتها وأن النفس تجب عداوتها، فحملوا على أنفسهم فوق
ما يطاق. وعذبوها بكل نوع، ومنعوها حظوظها. جاهلين بقوله صلى الله عليه
وسلم: إن لنفسك عليك حقاً.
وفيهم من أدته الحال إلى ترك الفرائض، ونحول الجسم، وضعف التقوى.
وكل ذلك لضعف الفهم للمقصود والتلمح للمراد. كما روي عن داود الطائي أنه
كان يترك ماء في دن تحت الأرض فيشرب منه وهو شديد الحر.
وقال لسفيان إذا كنت تأكل اللذيذ الطيب، وتشرب الماء البارد المبرد، فمتى
تحب الموت والقدوم على الله ؟.
وهذا جهل بالمقصود. فإن شرب الماء الحار يورث أمراضاً في البدن ولا يحصل
به الري.
وما أمرنا بتعذيب أنفسنا على هذه الصورة، بل بترك ما تدعو إليه من ما نهى
الله عنه.
وفي الحديث الصحيح: أن أبا بكر رضي الله عنه لما حلب له الراعي في طريق
الهجرة صب الماء على القدح حتى برد أسفله، ثم سقى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفرش له في ظل صخرة.
وكان يستعذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء. وقال: إن كان عندكم ماء
بات في شن وإلا كرعنا.
ولو فهم داود رحمه الله أن إصلاح علف الناقة متعين لقطع المسافة لم يفعل
هذا.
ألا ترى إلى سفيان الثوري فإنه كان شديد المعرفة والخوف وكان يأكل اللذيذ
ويقول: إن الدابة إذا لم يحسن إليها لم تعمل.
ولعل بعض من لم يسمع كلامي هذا يقول: هذا ميل على الزهاد، فأقول: كن مع
العلماء وانظر إلى طريق الحسن، وسفيان، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد،
والشافعي، وهؤلاء أصول الإسلام.
ولا تقلد دينك من قل علمه وإن قوي زهده.
واحمل أمره على أنه كان يطيق هذا ولا تقتد بهم فيما لا تطيقه.
فليس أمرنا إلينا، والنفس وديعة عندنا.
فإن أنكرت ما شرحته فأنت ملحق بالقوم الذي أنكرت عليهم.
هذا رمز إلى المقصود والشرح يطول.
فصل حول تقسيم الأرزاق
الواجب على العاقل أن يتبع الدليل ثم لا ينظر فيما لا يجني من مكروه.
مثال أنه قد ثبت بالدليل القاطع حكمة الخالق عز وجل وملكه وتدبيره.
فإذا رأى الإنسان عالماً محروماً، وجاهلاً مرزوقاً، أوجب عليه الدليل
المثبت حكمة الخالق التسليم إليه، ونسبة العجز عن معرفة الحكمة إلى نفسه.
فإن أقواماً لم يفعلوا ذلك جهلاً منهم، أفتراهم بماذا حكموا ؟.
بفساد هذا التدبير ؟ أليس بمقتضى عقولهم ؟ أو ما عقولهم من جملة مواهبه ؟.
فكيف يحكم على حكمته وتدبيره ببعض مخلوقاته التي هي بالإضافة إليه أنقص من
كل شيء؟.
ولقد بلغني عن اللعين ابن الراوندي أنه كان جالساً على الجسر وفي يده رغيف
يأكله، فجازت خيل وأموال فقال: لمن هذه ؟ فقيل لفلان الخادم.
ثم جازت خيل وأموال فقال: لمن هذه ؟ فقيل لفلان الخادم.
فلما مر الخادم رأى شخصاً محتقراً، فرى الرغيف إلى ناحيته وقال: وهذا
لفلان ! ما هذه القسمة ؟.
ولو فكر المعترض لبانت له وجوه أقلها جهله بمن يدعي معرفته وقلة تعظيمه
له. وذلك يوجب عليه أشد مما كان فيه من تضييق العيش ولكنه ميراث إبليس،
حيث اعتقد سوء التدبير في تفضيل آدم عليه السلام.
فالعجب من تلميذ يتعالم على أستاذه، ومن مملوك يتيه على سيده.
ومما ينبغي فيه الدليل ولا يلتفت إلى ما جنت الحال، أن العلم أشرف مكتسب.
وقد رأى جماعة من الجهلة قلة حظوظ العلماء من الدنيا فأزروا على العلم
وقالوا: لا فائدة فيه.
وذلك لجهلهم بمقدار العلم، فإن تابع الدليل لا يبالي ما جنى، وإنما يبين
الاختبار بفقد الغرض.
ولو لم يكن من الدليل على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم إلا إعراضه عن
الدنيا وتضييق العيش عليه، ثم لم يخلف شيئاً وحرم أهله الميراث، لكفاه ذلك
دليلاً على صدق طلبه لمطلوب آخر.
وربما رأى الجاهل قوماً من العلماء يفعلون خطيئة فيزدري على العلم ويدعيه
ناقصاً وهذا غلط كبير.
فليتق الله العاقل وليعمل بمقتضى العقل فيما يأمر به من طاعة الله تعالى
والعمل بالعلم.
وليعلم أن الابتلاء في الصبر على فوات المطلوبات، وليلزم اتباع الدليل وإن
جنى مكروهاً والله الموفق.
قرأت سورة يوسف عليه السلام، فتعجبت من مدحه عليه السلام على صبره وشرح
قصته للناس ورفع قدره بترك ما ترك.
فتأملت خبيئة الأمر فإذا هي مخالفة للهوى المكروه.
فقلت: واعجباً لو وافق هواه من كان يكون ؟.
ولما خالفه لقد صار أمراً عظيماً تضرب الأمثال بصبره، ويفتخر على الخلق
باجتهاده.
وكل ذلك قد كان بصبر ساعة فيا له عزاً وفخراً، أن تملك نفسك ساعة الصبر عن
المحبوب وهو قريب.
وبالعكس منه حالة آدم في موافقته هواه، لقد عادت نقيصة في حقه أبداً لولا
التدارك فتاب عليه.
فتلمحوا رحمكم الله عاقبة الصبر ونهاية الهوى.
فالعاقل من ميز بين الأمرين. الحلوين والمرين.
فإن من عدل ميزانه ولم تمل به كفة الهوى رأى كل الأرباح في الصبر، وكل
الخسران في موافقة النفس.
وكفى بهذا موعظة في مخالفة الهوى لأهل النهى والله الموفق.
فصل تكامل المعارف في إصلاح القلوب
رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن
يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين.
لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق
معانيها والمراد بها.
وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق لأني وجدت جمهور المحدثين وطلاب
الحديث همة أحدهم في الحديث العالي وتكثير الأجزاء.
وجمهور الفقهاء في علوم الجدل وما يغالب به الخصم.
وكيف يرق القلب مع هذه الأشياء ؟.
وقد كان جماعة من السلف يقصدون البعد الصالح للنظر إلى سمته وهديه. لا
لاقتباس علمه.
وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته، فافهم هذا وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة
سير السلف والزهاد في الدنيا ليكون سبباً لرقة قلبك.
وقد جمعت لكل واحد من مشاهير الأخيار كتاباً فيه أخباره وآدابه. فجمعت
كتاباً في أخبار الحسن وكتاباً في أخبار سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم،
وبشر الحافي، وأحمد بن حنبل، ومعروف، وغيرهم من العلماء والزهاد، والله
الموفق للمقصود.
ولا يصلح العمل مع قلة العلم.
فهما في ضرب المثل كسائق وقائد والنفس بينهما حرون ومع جد السائق والقائد
ينقطع المنزل، ونعوذ بالله من الفتور.
ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي
نوع طرد عن الباب، وبعد ظلمة تكاثفت.
فقالت نفسي: ما هذا. أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء.
فقلت لها: يا نفس السوء جوابك من وجهين: أحدهما أنك تأولت ما لا تعتقدين
فلو استفتيت لم تفت بما فعلت.
قالت: لو لم أعتقد جواز ذلك ما فعلته.
قلت: إلا أن اعتقادك ما ترضينه لغيرك في الفتوى.
والثاني أنه ينبغي لك الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك، لأنه لولا نور
في قلبك ما أثر مثل هذا عندك.
قالت فلقد استوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب.
قلت: فاعزمي على الترك وقدري ما تركت جائزاً بالإجماع، وعدي هجره ورعاً،
وقد سلمت.
مما أفادتني تجارب الزمان أنه لا ينبغي لأحد أن يظاهر بالعداوة أحداً ما
استطاع، فإنه ربما يحتاج إليه مهما كانت منزلته.
وإن الإنسان ربما لا يظن الحاجة إلى مثله يوماً ما كما لا يحتاج إلى عويد
منبوذ لا يلتفت إليه.
لكم كم من محتقر احتيج إليه. فإذا لم تقع الحاجة إلى ذلك الشخص في جلب نفع
وقعت الحاجة في دفع ضر.
ولقد احتجت في عمري إلى ملاطفة أقوام ما خطر لي قط وقوع الحاجة إلى التلطف
بهم.
واعلم أن الظاهرة بالعداوة قد تجلب أذى من حيث لا يعلم. لأن المظاهر
بالعداوة كشاهر السيف ينتظر مضرباً. وقد يلوح منه مضرب خفي، وإن اجتهد
المتدرع في ستر نفسه فيغتنمه ذلك العدو.
فينبغي لمن عاش في الدنيا أن يجتهد في أن لا يظاهر بالعداوة أحداً لما
بينت من وقوع احتياج الخلق بعضهم إلى بعض وإقدار بعضهم على ضرر بعض.
وهذا فصل مفيد تبين فائدته للإنسان مع تقلب الزمان.
رأيت النفس تنظر إلى لذات أرباب الدنيا العاجلة وتنسى كيف حصلت وما
يتضمنها من الآفات.
وبيان هذا أنك إن رأيت صاحب إمارة وسلطنة فتأملت نعمته وجدتها مشوبة فإن
لم يقصد هو الشر حصل من عماله.
ثم هو خائف منزعج في كل أموره حذر من عدو أن يسيئه، قلق ممن هو فوقه أن
يعزله، ومن نظير أن يكيده.
ثم أكثر زمانه يمضي في خدمة من يخافه من السلاطين، وفي حساب أموالهم،
وتنفيذ أوامرهم التي لا تخلو من أشياء منكرة.
وإن عزل أربى ذلك على جميع ما نال من لذة.
ثم تلك اللذة تكون مغمورة بالحذر فيها ومنها وعليها.
وإن رأيت صاحب تجارة رأيته قد تقطع في البلاد فلم ينل ما نال إلا بعد علو
السن وذهاب زمان اللذة.
كما حكي أن رجلاً من الرؤساء كان حال شبيبته فقيراً، فلما كبر استغنى وملك
أموالاً واشترى عبيداً من الترك وغيرهم وجواري من الروم فقال هذه الأبيات
في شرح حاله.
ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا ... ملكته بعد أن جاوزت سبعينا
تطوف بي من الأتراك أغزلة ... مثل الغصون على كثبان يبرينا
وخرد من بنات الروم رائعة ... يحكين بالحسن حور الجنة العينا
يغمزنني بأساريع منعمة ... تكاد تعقد من أطرافها لينا
يردن إحياء ميت لا حراك به ... وكيف يحيين ميتاً صار مدفونا
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا ... فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
وهذه الحالة هي الغالبة فإن الإنسان لا يكاد يجتمع له كل ما يحبه إلا عند
قرب رحيله، فإن بدر ما يحب في بداية شبابه فالصبوة مانعة من فهم التدابير
أو حسن الإلتذاذ.
والإنسان في حالة الصبوة لا يدري أين هو إلا أن يبلغ، فإذا بلغ كانت همته
في المنكوح كيف ما اتفق.
وإن تزوج جاء الأولاد فمنعوه اللذة وانكسر في نفسه وافتقر إلى الكسب عليهم.
فبينما هو قد دعك في تلك المديدة القريبة من الثلاثين وخطه الشيب فانفرق
من نفسه لعلمه أن النساء ينفرقن منه كما قال ابن المعتز بالله:
لقد أتعبت نفسي في مشيبي ... فكيف تحبني الغيد الكعاب
وهكذا لا ترى المتمتع بالمستحسنات، إن وجدهن، لم يجد ما لا يبلغ به المراد.
وإن اشتغل بجمع المال ضاع زمن تمتعه، وإذا تم المطلوب فالشيب أقبح قذى
وأعظم مبغض.
ثم إن صاحب المال خائف على ماله، محاسب لمعامليه، مذموم إن أسرف وإن قتر.
ولده يرصد موته، وجاريته قد لا ترضى بشخصه، وهو مشغول بحفظ حواشيه.
فقد مضى زمانه في محن، واللذات فيها خلس معتادة لا لذة فيها.
ثم في القيامة يحشر الأمير والتاجر خزايا، إلا من عصم الله.
فإياك إياك أن تنظر إلى صورة نعيمهم فإنك تستطيبه لبعده عنك، ولو قد بلغته
كرهته.
ثم في ضمنه من محن الدنيا والآخرة ما لا يوصف.
فعليك بالقناعة مهما أمكن، ففيها سلامة الدنيا والدين.
وقد قيل لبعض الزهاد وعنده خبز يابس. كيف تشتهي هذا. فقال: أتركه حتى
أشتهيه.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل مناجاة
وقع بيني وبين أرباب الولايات نوع معاداة لأجل المذهب. فإني كنت في مجلس
التذكير أنظر أن القرآن كلام الله وأنه قديم، وأقدم أبا بكر.
واتفق في أرباب الولايات من يميل إلى مذهب الأشعري، وفيهم من يميل إلى
مذهب الروافض، وتمالؤا في الباطن.
فقلت يوماً في مناجاتي للحق سبحانه وتعالى: سيدي نواصي الكل بيدك، وما
فيهم من يقدر لي على ضر، إلا أن تجريه على يده، وأنت قلت سبحانك " وما هم
بضارين به من أحد إلاَّ بإذن اللّه " .
وطيبت قلب المبتلي بقولك: " قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب اللّه لنا " .
فإن أجريت على أيدي بعضهم ما يوجب خذلاني كان خوفي على ما نصرته أكثر من
خوفي على نفسي، لئلا يقال لو كان على حق ما خذل.
وإن نظرت إلى تقصيري وذنوبي فإني مستحق للخذلان، غير أني أعيش بما نصرته
من السنة، فأدخلني في خفارته.
وقد استودعني إياك خلق من صالحي عبادك فإن لم تحفظني بي فاحفظني بهم.
سيدي انصرني على من عاداني، فإنهم لا يعرفونك كما ينبغي، وهم معرضون عنك
على كل حال، وأنا - على تقصيري - إليك أنسب.
فصل بلاء المتصوفة
روي عن الحلاج الصوفي أنه كان يقعد في الشمس في الحر الشديد وعرقه يسيل،
فجاز بعض العقلاء فقال له: يا أحمق هذا تقاوي على الله تعالى ... !!!، وما
أحسن ما قال هذا ! فإنه ما وضع التكليف إلا على خلاف الأغراض، وقد يحرج
صاحبه إلى أن يعجز عن الصبر.
فالجاهل الأحمق من تقاوى أو من يسأل البلاء كما قال ذلك الأبله: فكيف ما
شئت فاختبرني.
فصل التجلد للأمور
والسعيد من ذل الله وسأل العافية، فإنه لا يوهب العافية على
الإطلاق إذ لا بد من بلاء، ولا يزال العاقل يسأل العافية لتغلب على جمهور
أحواله فيقرب الصبر على يسير البلاء.
وفي الجملة ينبغي للإنسان أن يعلم أنه لا سبيل إلى محبوباته خالصة، ففي كل
جرعة غصص، وفي كل لقمة شجا:
وكم من يعشق الدنيا قديماً ... ولكن لا سبيل إلى الوصال
وعلى الحقيقة ما الصبر إلا على الأقدار، وقل أن تجري الأقدار إلا على خلاف
مراد النفس: فالعاقل من دارى نفسه في الصبر بوعد الأجر، وتسهيل الأمر،
ليذهب زمان البلاء سالماً من شكوى، ثم يستغيث الله تعالى سائلاً العافية.
فأما المتجلد فما عرف الله قط. نعوذ بالله من الجهل به، ونسأله عرفانه،
إنه كريم مجيب.
فصل طريق النبوة الطريق الأمثل
الجادة السليمة والطريق القويمة، الاقتداء بصاحب الشرع. والبدار إلى
الاستنان به، فهو الكامل الذي لا ينقص فيه.
فإن خلقاً كثيراً انحرفوا إلى جادة الزهد، وحملوا أنفسهم فوق الجهد،
فأفاقوا في أواخر العمر، والبدن قد نهك، وفاتت أمور مهمة من العلم وغيره.
وإن أقواماً انحرفوا إلى صورة العلم فبالغوا في طلبه، فأفاقوا في أواخر
قدم، وقد فاتهم العمل به.
فطريق المصطفى صلى الله عليه وسلم العلم والعمل، والتلطف بالبدن.
كما أوصى عبد الله بن عمر، عمرو بن العاص وقال له: إن لنفسك عليك حقاً،
ولزوجك عليك حقاً.
فهذه هي الطريق الوسطى والقول الفصل.
فأما اليبس المجرد، فكم فوت من علم، لو حصل نيل به أكثر مما نيل بالعمل.
فإن مثل العالم كرجل يعرف الطريق، والعابد جاهل بها، فيمشي العابد من
الفجر إلى العصر، ويقوم العالم قبيل العصر فيلتقيان وقد سبق العالم فضل
شوطه.
فإن قال قائل: بين لي هذا، قلت: صورة التعبد خدمة لله تعالى، وذل له،
وربما لم يطلع العابد على معنى تلك الصورة، لأنه ربما ظن أنه أهل لوجود
الكرامة على يده، وأنه مستحق تقبيل يده، أو إنه خير من كثير من الناس،
وذلك كله لقة العلم.
وأعني بالعلم فهو أصول العلم، لا كثرة الرواية ومطالعة مسائل الخلاف.
فإذا طالع العالم الأصولي، سبق هذا العابد بحسن خلق، ومداراة الناس،
وتواضعه في نفسه، وإرشاده الخلق إلى الله تعالى.
فيعسر هذا على العابد، وهو في ليل جهله بالحال راقد.
ربما تزوج العابد ثم حمل نفسه على التجفف فحبس زوجته عن مطلوب ولم يطلقها،
وصار كالتي حبست الهرة فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض.
ومن تأمل حالة الرسول صلى الله عليه وسلم، رأى كاملاً من الخلق يعطي كل ذي
حق حقه.
فتارة يمزح، وتارة يضحك، ويداعب الأطفال، ويسمع الشعر، ويتكلم بالمعاريض،
ويحسن معاشرة النساء، ويأكل ما قدر عليه وأتيح له، وإن كان لذيذاً كالعسل.
ويستعذب له الماء، ويفرش له في الظل، ولم ينكر ذلك.
ولم يسمع عنه ما حدث بعده من جهال المتصوفة والمتزهدين، ومن منع النفس
شهواتها على الإطلاق.
فقد كان يأكل البطيخ بالرطب، ويقبل، ويمص اللسان، ويطلب المستحسنات.
فأما أكل خبز الشعير ووزن المأكول، وتجفيف البدن، وهجر كل مشتهى، فإنه
تعذيب للنفس، وهدم للبدن، لا يقتضيه عقل، ولا يمدحه شرع.
وإنما اقتنع أقوام بالقليل، لأسباب مثل أن حدثت شبهة فتقللوا، أو اختلط
طعام بطعام فتورعوا.
ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يوفي العبادة حقها بقيام الليل والاجتهاد
في الذكر.
فعليك بطريقته التي هي أكمل الطرق وبشرعته التي لا شوب فيها. ودع حديث
فلان وفلان من الزهاد، واحمل أمرهم على أحسن محمل، وأقم لهم الأعذار مهما
قدرت.
فإن لم تجد عذراً فهم محجوجون بفعله، إذ هو قدوة الخلق، وسيد العقلاء.
وهل فسد الناس إلا بالإنحراف عن الشريعة.
ولقد حدثت آفات من المتصوفة والمتزهدين، خرقوا بها شبكة الشريعة وعبروا،
فمنهم من يدعي المحبة والشوق، ولا يعرف المحبوب.
فتراه يصيح ويستغيث ويمزق ثيابه ويخرج عن حد الشرع بدعواه ومضمونها.
ومنهم من حمل على نفسه بالجوع والصوم الدائم، وقد صح عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن عمرو: صم يوماً وأفطر يوماً، فقال أريد
أفضل من ذلك فقال: لا أفضل.
وفيهم من خرج إلى السياحة فأفات نفسه الجماعة، وفيهم من دفن كتب
العلم وقعد يصلي ويصوم، ولم يعلم أن دفنها خطأ قبيح، لأن النفس تغفل
وتحتاج إلى التذكير في كل وقت، ونعم المذكر كتب العلم.
وإنما دخل إبليس على كل قوم منهم من حيث قدر، وكان مقصوده بدفن الكتب
إطفاء المصباح، ليس العابد في الظلمة.
وما أحسن ما قال بعض العلماء لرجل سأله فقال: أريد أن أمضي إلى جبل
الآكام، فقال هذه - هوكلة - وهذه كلمة عامية معناها حب البطالة.
وعلى الحقيقة الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع
الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير من جماعة، وأتباعة جنازة، وعيادة
مريض.
إلا أنها حالة الجبناء، فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون. وهذه مقامات
الأنبياء عليهم السلام.
أترى كم بين العابد إذا نزلت به حادثة وبين الفقيه ؟.
بالله لو مال الخلق إلى التعبد لضاعت الشريعة.
على أنه لو فهم معنى التعبد لم يقتصر به على الصلاة والصوم فرب ماش في
حاجة مسلم فضل تعبده ذلك على صوم سنة.
والعمل بالبدن سعي الآلات الظاهرة، والعلم سعي الآلات الباطنة من العقل
والفكر والفهم، فلذلك كان أشرف.
فإن قلت: كيف تذم المعتزلين للشر وتنفي عنهم التعبد ؟ قلت: ما أذمهم، بل
حدثت منهم حوادث اقتضاها الجهل من الدعاوي والآفات التي سببها قلة العلم،
وحملوا على أنفسهم التي ليست لهم، وعن غير إذن الآمر ما لم يجز.
حتى أن أحدهم يرى أن فعل ما يؤذي النفس على الإطلاق فضيلة، وحتى قال بعض
الحمقى: دخلت الحمام فوجدت غفلة، فآليت أن لا أخرج حتى أسبح كذا وكذا
تسبحية، فطال الأمر فمرضت.
وهذا رجل خاطر بنفسه في فعل ما ليس له، ومن المتصوفة والزهاد من قنع بصورة
اللباس، وركب من الجهل في الباطن ما لا يسعه كتاب.
طهر الله الأرض منهم وأعان العلماء عليهم.
فإن أكثر الحمقى معهم، فلو أنكر عالم على أحدهم مال العوام على العالم
بقوة الجهل.
ولقد رأيت كثيراً من المتعبدين وهو في مقام العجائز يسبح تسبيحات لا يجوز
النطق بها، ويفعل في صلاته ما لم ترد به السنة.
ولقد دخلت يوماً على بعض من كان يتعبد، وقد أقام إماماً وهو خلفه في جماعة
يصلي بهم صلاة الضحى ويجهر، فقلت لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
صلاة النهار عجماء فغضب ذلك الزاهد وقال: كم ينكر هذا علينا !.
وقد دخل فلان وأنكر فلان وأنكر، نحن نرفع أصواتنا حتى لا ننام. فقلت:
واعجباً ومن قال لكم لا تناموا، أليس في الصحيحين من حديث ابن عمرو أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال به: قم ونم، وقد كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم ينام، ولعله ما مضت عليه ليلة إلا ونام فيها.
ولقد شاهدت رجلاً كان يقال له حسين القزويني بجامع المنصور وهو يمشي في
الجامع مشياً كثيراً دائماً، فسألت ما السبب في هذا المشي ؟ فقيل لي حتى
لا ينام.
وهذه كلها حماقات أوجبتها قلة العلم، لأنه إذا لم تأخذ النفس حظها من
النوم اختلط العقل، وفات المراد من التعبد لبعد الفهم.
ولقد حدثني بعض الصالحين المجاورين بجامع المنصور أن رجلاً اسمه كثير دخل
عليهم الجامع فقال: إني عاهدت الله على أمر ونقضته، وقد جعلت عقوبتي لنفسي
أن لا آكل شيئاً أربعين يوماً، قال: فمكث منها عشرة أيام قريب الحال يصلي
في جماعة، ثم في العشر الثاني بان ضعفه وكان يداري الأمر، ثم صار في العشر
الثالث يصلي قاعداً، ثم استطرح في العشر الرابع، فلما تمت الأربعون جيء
بنقوع فشربه فسمعنا صوته في حلقه مثل ما يقع الماء على المقلاة، ثم مات
بعد أيام.
فقلت: يا الله العجب، انظروا ما فعل الجهل بأهله، ظاهر هذا أنه في النار،
إلا أن يعفى عنه.
ولو فهم العلم وسأل العلماء لعرفوه أنه يجب عليه أن يأكل، وأن ما فعله
بنفسه حرام.
ولكن من أعظم الجهل استبداد الإنسان بعلمه، وكل هذه الحوادث نشأت قليلاً
قليلاً حتى تمكنت.
فأما الشرب الأول فلم يكن فيه من هذا شيء، وما كانت الصحابة تفعل شيئاً من
هذه الأشياء، وقد كانوا يؤثرون ويأكلون دون الشبع، ويصبرون إذا لم يجدوا.
فمن أراد الاقتداء فعليه برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ففي ذلك
الشفاء والمطلوب.
ولا ينبغي أن يخلد العاقل إلى تقليد معظم شاع اسمه، فيقول: قال: أبو يزيد
وقال الثوري، فإن المقلد أعمى.
وكم قد رأينا أعمى يأنف من حمل عصا، فمن فهم هذا المشار إليه طلب
الأفضل والأعلى والله الموفق.
وقع بيني وبين أرباب الولايات نوع معاداة لأجل المذهب. فإني كنت في مجلس
التذكير أنظر أن القرآن كلام الله وأنه قديم، وأقدم أبا بكر.
واتفق في أرباب الولايات من يميل إلى مذهب الأشعري، وفيهم من يميل إلى
مذهب الروافض، وتمالؤا في الباطن.
فقلت يوماً في مناجاتي للحق سبحانه وتعالى: سيدي نواصي الكل بيدك، وما
فيهم من يقدر لي على ضر، إلا أن تجريه على يده، وأنت قلت سبحانك " وما هم
بضارين به من أحد إلاَّ بإذن اللّه " .
وطيبت قلب المبتلي بقولك: " قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب اللّه لنا " .
فإن أجريت على أيدي بعضهم ما يوجب خذلاني كان خوفي على ما نصرته أكثر من
خوفي على نفسي، لئلا يقال لو كان على حق ما خذل.
وإن نظرت إلى تقصيري وذنوبي فإني مستحق للخذلان، غير أني أعيش بما نصرته
من السنة، فأدخلني في خفارته.
وقد استودعني إياك خلق من صالحي عبادك فإن لم تحفظني بي فاحفظني بهم.
سيدي انصرني على من عاداني، فإنهم لا يعرفونك كما ينبغي، وهم معرضون عنك
على كل حال، وأنا - على تقصيري - إليك أنسب.
روي عن الحلاج الصوفي أنه كان يقعد في الشمس في الحر الشديد وعرقه يسيل،
فجاز بعض العقلاء فقال له: يا أحمق هذا تقاوي على الله تعالى ... !!!، وما
أحسن ما قال هذا ! فإنه ما وضع التكليف إلا على خلاف الأغراض، وقد يحرج
صاحبه إلى أن يعجز عن الصبر.
فالجاهل الأحمق من تقاوى أو من يسأل البلاء كما قال ذلك الأبله: فكيف ما
شئت فاختبرني.
والسعيد من ذل الله وسأل العافية، فإنه لا يوهب العافية على
الإطلاق إذ لا بد من بلاء، ولا يزال العاقل يسأل العافية لتغلب على جمهور
أحواله فيقرب الصبر على يسير البلاء.
وفي الجملة ينبغي للإنسان أن يعلم أنه لا سبيل إلى محبوباته خالصة، ففي كل
جرعة غصص، وفي كل لقمة شجا:
وكم من يعشق الدنيا قديماً ... ولكن لا سبيل إلى الوصال
وعلى الحقيقة ما الصبر إلا على الأقدار، وقل أن تجري الأقدار إلا على خلاف
مراد النفس: فالعاقل من دارى نفسه في الصبر بوعد الأجر، وتسهيل الأمر،
ليذهب زمان البلاء سالماً من شكوى، ثم يستغيث الله تعالى سائلاً العافية.
فأما المتجلد فما عرف الله قط. نعوذ بالله من الجهل به، ونسأله عرفانه،
إنه كريم مجيب.
فصل طريق النبوة الطريق الأمثل
الجادة السليمة والطريق القويمة، الاقتداء بصاحب الشرع. والبدار إلى
الاستنان به، فهو الكامل الذي لا ينقص فيه.
فإن خلقاً كثيراً انحرفوا إلى جادة الزهد، وحملوا أنفسهم فوق الجهد،
فأفاقوا في أواخر العمر، والبدن قد نهك، وفاتت أمور مهمة من العلم وغيره.
وإن أقواماً انحرفوا إلى صورة العلم فبالغوا في طلبه، فأفاقوا في أواخر
قدم، وقد فاتهم العمل به.
فطريق المصطفى صلى الله عليه وسلم العلم والعمل، والتلطف بالبدن.
كما أوصى عبد الله بن عمر، عمرو بن العاص وقال له: إن لنفسك عليك حقاً،
ولزوجك عليك حقاً.
فهذه هي الطريق الوسطى والقول الفصل.
فأما اليبس المجرد، فكم فوت من علم، لو حصل نيل به أكثر مما نيل بالعمل.
فإن مثل العالم كرجل يعرف الطريق، والعابد جاهل بها، فيمشي العابد من
الفجر إلى العصر، ويقوم العالم قبيل العصر فيلتقيان وقد سبق العالم فضل
شوطه.
فإن قال قائل: بين لي هذا، قلت: صورة التعبد خدمة لله تعالى، وذل له،
وربما لم يطلع العابد على معنى تلك الصورة، لأنه ربما ظن أنه أهل لوجود
الكرامة على يده، وأنه مستحق تقبيل يده، أو إنه خير من كثير من الناس،
وذلك كله لقة العلم.
وأعني بالعلم فهو أصول العلم، لا كثرة الرواية ومطالعة مسائل الخلاف.
فإذا طالع العالم الأصولي، سبق هذا العابد بحسن خلق، ومداراة الناس،
وتواضعه في نفسه، وإرشاده الخلق إلى الله تعالى.
فيعسر هذا على العابد، وهو في ليل جهله بالحال راقد.
ربما تزوج العابد ثم حمل نفسه على التجفف فحبس زوجته عن مطلوب ولم يطلقها،
وصار كالتي حبست الهرة فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض.
ومن تأمل حالة الرسول صلى الله عليه وسلم، رأى كاملاً من الخلق يعطي كل ذي
حق حقه.
فتارة يمزح، وتارة يضحك، ويداعب الأطفال، ويسمع الشعر، ويتكلم بالمعاريض،
ويحسن معاشرة النساء، ويأكل ما قدر عليه وأتيح له، وإن كان لذيذاً كالعسل.
ويستعذب له الماء، ويفرش له في الظل، ولم ينكر ذلك.
ولم يسمع عنه ما حدث بعده من جهال المتصوفة والمتزهدين، ومن منع النفس
شهواتها على الإطلاق.
فقد كان يأكل البطيخ بالرطب، ويقبل، ويمص اللسان، ويطلب المستحسنات.
فأما أكل خبز الشعير ووزن المأكول، وتجفيف البدن، وهجر كل مشتهى، فإنه
تعذيب للنفس، وهدم للبدن، لا يقتضيه عقل، ولا يمدحه شرع.
وإنما اقتنع أقوام بالقليل، لأسباب مثل أن حدثت شبهة فتقللوا، أو اختلط
طعام بطعام فتورعوا.
ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يوفي العبادة حقها بقيام الليل والاجتهاد
في الذكر.
فعليك بطريقته التي هي أكمل الطرق وبشرعته التي لا شوب فيها. ودع حديث
فلان وفلان من الزهاد، واحمل أمرهم على أحسن محمل، وأقم لهم الأعذار مهما
قدرت.
فإن لم تجد عذراً فهم محجوجون بفعله، إذ هو قدوة الخلق، وسيد العقلاء.
وهل فسد الناس إلا بالإنحراف عن الشريعة.
ولقد حدثت آفات من المتصوفة والمتزهدين، خرقوا بها شبكة الشريعة وعبروا،
فمنهم من يدعي المحبة والشوق، ولا يعرف المحبوب.
فتراه يصيح ويستغيث ويمزق ثيابه ويخرج عن حد الشرع بدعواه ومضمونها.
ومنهم من حمل على نفسه بالجوع والصوم الدائم، وقد صح عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن عمرو: صم يوماً وأفطر يوماً، فقال أريد
أفضل من ذلك فقال: لا أفضل.
وفيهم من خرج إلى السياحة فأفات نفسه الجماعة، وفيهم من دفن كتب
العلم وقعد يصلي ويصوم، ولم يعلم أن دفنها خطأ قبيح، لأن النفس تغفل
وتحتاج إلى التذكير في كل وقت، ونعم المذكر كتب العلم.
وإنما دخل إبليس على كل قوم منهم من حيث قدر، وكان مقصوده بدفن الكتب
إطفاء المصباح، ليس العابد في الظلمة.
وما أحسن ما قال بعض العلماء لرجل سأله فقال: أريد أن أمضي إلى جبل
الآكام، فقال هذه - هوكلة - وهذه كلمة عامية معناها حب البطالة.
وعلى الحقيقة الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع
الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير من جماعة، وأتباعة جنازة، وعيادة
مريض.
إلا أنها حالة الجبناء، فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون. وهذه مقامات
الأنبياء عليهم السلام.
أترى كم بين العابد إذا نزلت به حادثة وبين الفقيه ؟.
بالله لو مال الخلق إلى التعبد لضاعت الشريعة.
على أنه لو فهم معنى التعبد لم يقتصر به على الصلاة والصوم فرب ماش في
حاجة مسلم فضل تعبده ذلك على صوم سنة.
والعمل بالبدن سعي الآلات الظاهرة، والعلم سعي الآلات الباطنة من العقل
والفكر والفهم، فلذلك كان أشرف.
فإن قلت: كيف تذم المعتزلين للشر وتنفي عنهم التعبد ؟ قلت: ما أذمهم، بل
حدثت منهم حوادث اقتضاها الجهل من الدعاوي والآفات التي سببها قلة العلم،
وحملوا على أنفسهم التي ليست لهم، وعن غير إذن الآمر ما لم يجز.
حتى أن أحدهم يرى أن فعل ما يؤذي النفس على الإطلاق فضيلة، وحتى قال بعض
الحمقى: دخلت الحمام فوجدت غفلة، فآليت أن لا أخرج حتى أسبح كذا وكذا
تسبحية، فطال الأمر فمرضت.
وهذا رجل خاطر بنفسه في فعل ما ليس له، ومن المتصوفة والزهاد من قنع بصورة
اللباس، وركب من الجهل في الباطن ما لا يسعه كتاب.
طهر الله الأرض منهم وأعان العلماء عليهم.
فإن أكثر الحمقى معهم، فلو أنكر عالم على أحدهم مال العوام على العالم
بقوة الجهل.
ولقد رأيت كثيراً من المتعبدين وهو في مقام العجائز يسبح تسبيحات لا يجوز
النطق بها، ويفعل في صلاته ما لم ترد به السنة.
ولقد دخلت يوماً على بعض من كان يتعبد، وقد أقام إماماً وهو خلفه في جماعة
يصلي بهم صلاة الضحى ويجهر، فقلت لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
صلاة النهار عجماء فغضب ذلك الزاهد وقال: كم ينكر هذا علينا !.
وقد دخل فلان وأنكر فلان وأنكر، نحن نرفع أصواتنا حتى لا ننام. فقلت:
واعجباً ومن قال لكم لا تناموا، أليس في الصحيحين من حديث ابن عمرو أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال به: قم ونم، وقد كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم ينام، ولعله ما مضت عليه ليلة إلا ونام فيها.
ولقد شاهدت رجلاً كان يقال له حسين القزويني بجامع المنصور وهو يمشي في
الجامع مشياً كثيراً دائماً، فسألت ما السبب في هذا المشي ؟ فقيل لي حتى
لا ينام.
وهذه كلها حماقات أوجبتها قلة العلم، لأنه إذا لم تأخذ النفس حظها من
النوم اختلط العقل، وفات المراد من التعبد لبعد الفهم.
ولقد حدثني بعض الصالحين المجاورين بجامع المنصور أن رجلاً اسمه كثير دخل
عليهم الجامع فقال: إني عاهدت الله على أمر ونقضته، وقد جعلت عقوبتي لنفسي
أن لا آكل شيئاً أربعين يوماً، قال: فمكث منها عشرة أيام قريب الحال يصلي
في جماعة، ثم في العشر الثاني بان ضعفه وكان يداري الأمر، ثم صار في العشر
الثالث يصلي قاعداً، ثم استطرح في العشر الرابع، فلما تمت الأربعون جيء
بنقوع فشربه فسمعنا صوته في حلقه مثل ما يقع الماء على المقلاة، ثم مات
بعد أيام.
فقلت: يا الله العجب، انظروا ما فعل الجهل بأهله، ظاهر هذا أنه في النار،
إلا أن يعفى عنه.
ولو فهم العلم وسأل العلماء لعرفوه أنه يجب عليه أن يأكل، وأن ما فعله
بنفسه حرام.
ولكن من أعظم الجهل استبداد الإنسان بعلمه، وكل هذه الحوادث نشأت قليلاً
قليلاً حتى تمكنت.
فأما الشرب الأول فلم يكن فيه من هذا شيء، وما كانت الصحابة تفعل شيئاً من
هذه الأشياء، وقد كانوا يؤثرون ويأكلون دون الشبع، ويصبرون إذا لم يجدوا.
فمن أراد الاقتداء فعليه برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ففي ذلك
الشفاء والمطلوب.
ولا ينبغي أن يخلد العاقل إلى تقليد معظم شاع اسمه، فيقول: قال: أبو يزيد
وقال الثوري، فإن المقلد أعمى.
وكم قد رأينا أعمى يأنف من حمل عصا، فمن فهم هذا المشار إليه طلب
الأفضل والأعلى والله الموفق.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل أساس البدع
تأملت الدخل الذي دخل في ديننا من ناحيتي العلم والعمل فرأيته من طريقين
قد تقدما هذا الدين وأنس الناس بهما.
فأما أصل الدخل في العلم والاعتقاد فمن الفلسفة.
وهو أن خلقاً من العلماء في ديننا لم يقنعوا بما قنع به رسول الله صلى
الله عليه وسلم من الانعكاف على الكتاب والسنة، فأوغلوا في النظر في مذاهب
أهل الفلسفة وخاضوا في الكلام الذي حملهم على مذاهب ردية أفسدوا بها
العقائد.
وأما أصل الدخل في باب العمل فمن الرهبانية.
فإن خلقاً من المتزهدين أخذوا عن الرهبان طريق التقشف، ولم ينظروا في سيرة
نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسمعوا ذم الدنيا وما فهموا المقصود.
فاجتمع لهم الإعراض عن علم شرعنا مع سوء الفهم للمقصود، فحدثت منهم بدع
قبيحة.
فأول ما ابتدأ به إبليس أنه أمرهم بالإعراض عن العلم، فدفنوا كتب وغسلوها.
وألزمهم زاوية التعبد فيما زعم، وأظهر لهم من الخزعبلات ما أوجب إقبال
العوام عليهم فجعل إلههم هواهم.
ولو علموا أنهم منذ دفنوا كتبهم وفارقوا العلم انطفأ مصباحهم ما فعلوا.
لكن إبليس كان دقيق المكر يوم جعل علمهم في دفين تحت الأرض.
وبالعلم يعلم فساد الطريقين ويهتدي إلى الأصوب.
نسأل الله عز وجل أن لا يحرمنا إياه فإنه النور في الظلم، والأنيس في
الوحدة، والوزير عند الحادثة.
فصل أهل الفراغ بلاء
أعوذ بالله من صحبة الباطلين، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد
اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس
ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، وما يتخلله غيبة.
وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه
واستوحش من الوحدة، وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم
إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام بل يمزجون ذلك بما ذكرته من
تضييع الزمان.
فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب إنتهاؤه بفعل الخير كرهت ذلك وبقيت
مهم بين أمرين.
إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان.
فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلب قصرت في الكلام لأتعجل الفراق.
ثم أعددت أعمالاً تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان
فارغاً. فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد وبري الأقلام، وحزم الدفاتر،
فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها
لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي.
نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه.
ولقد شاهدت خلقاً كثيراً لا يعرفون معنى الحياة، فمنهم من أغناه الله عن
التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس، وكم
تمر به من آفة ومنكر.
ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج؛ ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحوادث من
السلاطين والغلاء والرخص إلى غير ذلك.
فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا
من وفقه وألهمه اغتنام ذلك " وما يلقّاها إلاّ ذو حظ عظيم " .
فصل العالم ومراحل حياته
رأيت من الرأي القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة.
لأني أشافه في عمري عدداً من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقاً لا تحصى ما
خلقوا بعد.
ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما
يستفيدونه من مشايخهم.
فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد، فإنه ليس كل
من صنف صنف.
وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار يطلع الله عز وجل عليها من
شاء من عباده ويوفقه لكشفها، فيجمع ما فرق، أو يرتب ما شتت، أو يشرح ما
أهمل، هذا هو التصنيف المفيد.
وينبغي اغتنام التصنيف في وسط العمر، لأن أوائل العمر زمن الطلب، وآخره
كلال الحواس.
وربما خان الفهم والعقل من قدر عمره، وإنما يكون التقدير على العادات
الغالبة لا أنه لا يعلم الغيب فيكون زمان الطلب والحفظ والتشاغل إلى
الأربعين، ثم يبتدىء بعد الأربعين بالتصانيف والتعليم.
هذا إذا كان قد بلغ ما يريد من الجمع والحفظ وأعين على تحصيل المطالب.
فأما إذا قلت الآلات عنده من الكتب، أو كان في أول عمره ضعيف
الطلب فلم ينل ما يريده في هذا الأوان، أخر التصانيف إلى تمام خمسين سنة.
ثم ابتدأ بعد الخمسين في التصنيف والتعليم إلى رأس الستين، ثم يزيد فيما
بعد الستين في التعليم ويسمع الحديث والعلم ويعلل التصانيف إلى أن يقع مهم
إلى رأس السبعين، فإذا جاوز السبعين جعل الغالب عليه ذكر الآخرة والتهيؤ
للرحيل.
فيوفر نفسه على نفسه إلا من تعليم يحتسبه، أو تصنيف يفتقر إليه، فذلك أشرف
العدد للآخرة.
ولتكن همته في تنظيف نفسه، وتهذيب خلاله، والمبالغة في استدراك زلاته، فإن
اختطف في خلال ما ذكرنا فنية المؤمن خير من عمله.
وإن بلغ إلى هذه المنازل فقد بينا ما يصلح لكل منزل.
وقد قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ
لنفسه كفناً، وقد بلغ جماعة من العلماء سبعاً وسبعين سنة، منهم أحمد بن
حنبل، فإن بلغها فليعلم أنه على شفير القبر، وإن كل يوم يأتي بعدها مستطرف.
فإن تمت له الثمانون فليجعل همته كلها مصروفة إلى تنظيف خلاله، وتهيئة
زاده وليجعل الاستغفار حليفه، والذكر أليفه، وليدقق في محاسبة النفس وفي
بذل العلم، أو مخالطة الخلق.
فإن قرب الاستعراض للجيش يوجب عليه الحذر من العارض.
وليبالغ في إبقاء أثره قبل رحيله، مثل بث علمه، وإنفاق كتبه، وشيء من ماله.
وبعد فمن تولاه الله عز وجل علمه، ومن أراده ألهمه.
نسأل الله عز وجل أن ينعم علينا بأن يتولانا ولا يتولى عنا إنه قريب مجيب.
فصل أثر العادة في الناس
رأيت عادات الناس قد غلبت على عملهم بالشرع، فهم يستوحشون من فعل الشيء
لعدم جريان العادة لا لنهي الشرع !.
فكم من رجل يوصف بالخير يبيع ويشتري، فإذا حصلت له القراضة باعها بالصحيح
من غير تقليد لإمام، أو عمل برخصة، عادة من القوم، واستثقالاً للاستفتاء.
ونرى خلقاً يحافظون على صلاة الرغائب ويتوانون عن الفرائض.
وكثيراً من المتصوفين لا يستوحشون من ظلم الناس، ثم يتصدقون على الفقراء.
وربما توانوا عن إخراج الزكاة، وتكاسلوا باستعمال التأويلات فيها.
ثم إذا حضر أحدهم مجلس وعظ بكى كأنه يصانع بتلك الحال.
ومنهم من يخرج بعض الزكاة مصانعة عما لم يخرجه.
ومنهم من يعلم أن أصل ماله حرام، ويصعب عليه فراقه للعادة.
وفيهم من يحلف بالطلاق ويحنث، ويرى الفراق صعباً.
فربما تأول، وربما تكاسل عن التأويل اتكالاً على عفو الله تعالى، ووعداً
من النفس بالتوبة.
ومنهم من يرى أن استعمال الشرع ربما ان سبباً في تضييق معاشه.
وقد ألف التفسح فلا يسهل عليه فراق ما قد ألف والعادات في الجملة هي
المهلكة.
ولقد حضر عندي رجل شيخ ابن ثمانين سنة، فاشتريت منه دكاناً وعقدت معه
العقد، فلما افترقنا غدر بعد أيام.
فطلبت منه الحضور عند الحاكم فأبى.
فأحضرته فحلف باليمين الغموس أنه ما بعته، فقلت ما تدور عليه السنة.
وأخذ يبرطل لمن يحول بيني وبينه من الظلمة.
فرأيت من العوام من قد غلبت عليه العادات فلا يلتفت معها إلى قول فقيه،
يقول هذا ما قبض الثمن فكيف يصح البيع ؟.
وآخر يقول كيف يحوز لك أن تأخذ دكانه بغير رضاه ؟.
وآخر يقول يجب عليك أن تقيله البيع.
فلما لم أقله أخذ هو وأقاربه يأخذون عرضي، ورأى أنه يحامي عن ملكه، ثم سعى
بي إلى السلطان سعاية يحرض فيها من الكذب ما أدهشني، ويبرطل ما لا لخلق
الظلمة، فبالغوا وسعوا.
إلا أن الله تعالى نجاني من شرهم.
ثم إني أقمت عليه البينة عند الحاكم، فقال بعض أرباب الدنيا للحاكم: لا
تحكم له، فوقف عن الحكم بعد ثبوب البينة عنده، فرأيت من هذا الحاكم ومن
حاكم آخر أعلى منه من ترك إنفاذ الحق حفظاً لرياستهم ما هون عندي ما فعله
ذلك الشيخ حفظاً لماله، لجهله وعلم هؤلاء، فينحل لي من الأمر أن العادات
غلبت على الناس، وأن الشرع أعرض عنه.
وإن وقعت موافقة للشرع فكما اتفق أو لأجل العادة.
فإن الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان عادة قد استمرت، ويأخذ أعراض
الناس وأموالهم عادة غالبة !!.
فكم قد رأيت هذا الشيخ يصلي ويحافظ على الصلاة، ثم لما خاف فوت غرضه ترك
الشرع جانباً.
وكم قد رأيت أولئك الحكام يتعبدون ويطلبون العلم، غير أنهم لما خافوا على
رياستهم أن تزول تركوا جانب الدين.
ثم إن الله تعالى نصرني عليه وتقدم إلي الحاكم بإنفاذ ما ثبت
عنده، ودارت السنة فمات الشيخ على قل، فنسأله عز وجل التوفيق للانقياد
لشرعه ومخالفة أهوائنا.
فصل شرف العلم وتنزيهه
ما أعرف للعالم قط لذة ولا عزاً ولا شرفاً ولا راحة ولا سلامة أفضل من
العزلة.
فإنه ينال بها سلامة بدنه ودينه وجاهه عند الله عز وجل وعند الخلق.
لأن الخلق يهون عليهم من يخالطهم، ولا يعظم عندهم قدر المخالط لهم، ولهذا
عظم قدر الخلفاء لاحتجابهم.
وإذا رأى العوام أحد العلماء مترخصاً في أمر مباح هان عندهم.
فالواجب عليه صيانة علمه وإقامة قدر للعلم عندهم.
فقد قال بعض السلف: كنا نمزح ونضحك، فإذا صرنا يقتدى بنا فما أراه يسعنا
ذلك.
وقال سفيان الثوري: تعلموا هذا العلم واكظموا عليه، ولا تخلطوه بهزل فتمجه
القلوب.
فمراعاة الناس لا ينبغي أن تنكر.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: لولا حدثان قومك في الكفر لنقضت
الكعبة وجعلت لها بابين.
وقال أحمد بن حنبل في الركعتين قبل المغرب: رأيت الناس يكرهونهما فتركتها.
ولا تسمع من جاهل يرى مثل هذه الأشياء رياء، إنما هذه صيانة للعلم.
وبيان هذا أنه لو خرج العالم إلى الناس مكشوف الرأس أو في يده كسرة يأكلها
قل عندهم وإن كان مباحاً، فيصير بمثابة تخليط الطبيب الآمر بالحمية.
فلا ينبغي للعالم أن ينبسط عند العوام حفظاً لهم، ومتى أراد مباحاً
فليستتر به عنهم.
وهذا القدر الذي لاحظه أبو عبيدة حين رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قد
قدم الشام راكباً على حمار ورجلاه من جانب، فقال: يا أمير المؤمنين يتلقاك
عظماء الناس، فما أحسن ما لاحظ.
إلا أن عمر رضي الله عنه أراد تأديب أبي عبيدة بحفظ الأصل فقال: إن الله
أعزكم بالإسلام فمهما طلبتم العز في غيره أذلكم.
والمعنى ينبغي أن يكون طلبكم العز بالدين لا بصور الأفعال، وإن كانت الصور
تلاحظ.
فإن الإنسان يخلو في بيته عرياناً، فإذا خرج إلى الناس لبس ثوبين وعمامة
ورداء.
ومثل هذا لا يكون تصنعاً ولا ينسب إلى كبر.
وقد كن مالك بن أنس يغتسل ويتطيب ويقعد للحديث، ولا تلتفت يا هذا إلى ما
ترى من بذل العلماء على أبواب السلاطين، فإن العزلة أصون للعالم والعلم،
وما يخسره العلماء في ذلك أضعاف ما يربحونه.
وقد كان سيد الفقهاء سعيد بن المسيب لا يغشى الولاة، وعن قول هذا سكتوا
عنه، وهذا فعل الحازم.
فإن أردت اللذة والراحة فعليك أيها العلم بقعر بيتك، وكن معتزلاً عن أهلك
يطب لك عيشك، واجعل للقاء الأهل وقتاً، فإذا عرفوه تصنعوا للقائك، فكانت
المعاشرة بذلك أجود.
وليكن لك مكان في بيتك تخلو فيه، وتحادث سطور كتبك، وتجري في حلبات فكرك.
واحترس من لقاء الخلق وخصوصاً العوام.
واجتهد في كسب يعفك عن الطمع، فهذه نهاية لذة العالم في الدنيا.
وقد قيل لابن المبارك مالك لا تجالسنا ؟ فقال: أنا أذهب فأجالس الصحابة
والتابعين، وأشار بذلك إلى أنه ينظر في كتبه.
ومتى رزق العالم الغني عن الناس والخلوة، فإن كان له فهم يجلب التصانيف
فقد تكاملت لذته.
وإن رزق فهما يرتقي إلى معاملة الحق ومناجاته فقد تعجل دخول الجنة قبل
الممات.
نسأل الله عز وجل همة عالية تسمو إلى الكال، وتوفيقاً لصالح الأعمال،
فالسالكون طريق الحق أفراد.
فصل من قصص الحياة
تأملت أحوال الناس في حالة علو شأنهم فرأيت أكثر الخلق تبين خسارتهم حينئذ.
فمنهم من بالغ في المعاصي من الشباب، ومنهم من فرط في اكتساب العلم، ومنهم
من أكثر من الاستمتاع باللذات.
فكلهم نادم في حالة الكبر حين فوات الاستدراك لذنوب سلفت، أو قوى ضعفت، أو
فضيلة فاتت، فيمضي زمان الكبر في حسرات.
فإن كانت للشيخ إفاقة من ذنوب قد سلفت قال واأسفا على ما جنيت.
وإن لم يكن له إفاقة صار متأسفاً على فوات ما كان يلتذ به.
فأما من أنفق عصر الشباب في العلم فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس
ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً بالإضافة إلى
ما يناله من لذات العلم.
هذا مع وجود لذاته في الطلب الذي كان تأمل به إدراك المطلوب.
وربما كانت تلك الأعمال أطيب مما نيل منها كما قال الشاعر:
اهتز عند تمني وصلها طريا ... ورب أمنية أحلى من الظفر
ولقد تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في
اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصبوة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني
مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه.
ثم تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى
من جاههم. وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم.
فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك.
فقلت له: أيها الجاهل، تقطيع الأيدي لا وقع له عند رؤية يوسف.
وما طالت طريق أدت إلى صديق:
جزى اللّه المسير إليه خيراً ... وإن ترك المطايا كالمزاد
ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل
لأجل ما أطلب وأرجو.
كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على
نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء.
فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم.
فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم
وأحواله وآدابه، وأحوال أصحابه وتابعيهم، فصرت في معرفة طريقه كابن أجود.
وأثمر ذلك عندي من المعاملة ما لا يدري بالعلم، حتى أنني أذكر في زمان
الصبوة، ووقت الغلمة والعزبة قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان
العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي العلم من خوف
الله عز وجل.
ولولا خطايا لا يخلو منها البشر، لقد كنت أخاف على نفسي من العجب.
غير أنه عز وجل صانني، وعلمني، وأطلعني من أسرار العلم معرفته، وإيثار
الخلوة به، حتى أنه لو حضر معي معروف وبشر لرأيتها رحمة.
ثم عاد فغمسني في التقصير والتفريط حتى رأيت أقل الناس خيراً مني.
وتارة يوقظني لقيام الليل ولذة مناجاته، وتارة يحرمني ذلك مع سلامة بدني.
ولولا بشارة العلم بأن هذا نوع تهذيب وتأديب لخرجت إما إلى العجب عند
العمل، وإما إلى اليأس عند البطالة.
لكن رجائي في فضله قد عادل خوفي منه.
وقد يغلب الرجاء بقوة أسبابه، لأني رأيت أنه قد رباني منذ كنت طفلاً، فإن
أبي مات وأنا لا أعقل، والأم لم تلتفت إلي. فركز في طبعي حب العلم.
وما زال يوقعني على المهم فالمهم، ويحملني إلى من يحملني على الأصوب، حتى
قوم أمري.
وكم قد قصدني عدو فصده عني. وإذ رأيته قد نصرني وبصرني ودافع عني ووهب لي،
قوى رجائي في المستقبل بما قد رأيت في الماضي.
ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر
من مائتي نفس.
وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل.
ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام.
وربما لاحت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري وزللي.
ولقد جلست يوماً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا من قد رق قلبه.
أو دمعت عينه. فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكت: فصحت بلسان وجدي: إلهي
وسيدي إن قضيت علي بالعذاب غداً فلا تعلمهم بعذابي صيانة لكرمك لا لأجلي،
لئلا يقولوا عذب من دل عليه.
إلهي قد قيل لنبيك صلى الله عليه وسلم. أقتل ابن أبي المنافق فقال: لا
يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. إلهي فاحفظ حسن عقائدهم في بكرمك أن
تعلمهم بعذاب الدليل عليك.
حاشاك والله يا رب من تكدير الصافي.
لا تبر عوداً أنت ريّشته ... حاشا لباني الجود أن ينقضا
لا تعطش الزرع الذي نبته ... بصوب إنعامك قد روضا
فصل اللذة بين الواقع والخيال
من الأمور التي تخفي على العاقل أن يرى أنه متى لم تكن عنده امرأة أو
جارية يهواها هوى شديداً أنه لا يلتذ في الدنيا.
فإذا صور محبوباً مملوكاً تخايل لذة عظيمة.
وإذا كان عنده من لا يميل إليه اعتقد نفسه محروماً.
وهذا أمر شديد الخفاء، فينبغي أن يوضح. وهو أن المملوك مملول.
ومتى قدر الإنسان على ما يشتهيه مله ومال إلى غيره.
تارة لبيان عيوبه التي تكشفها المخالطة فإنه قد قال الحكماء. العشق يعمي
عن عيوب المحبوب.
وتارة لمكان القدرة عليه، والنفس لا تزال تتطلع إلى ما لا تقدر عليه.
ثم لو قدرنا دوام المحبة مع القدرة فإنها قد تكون ولكن ناقصة بمقدار
القدرة، وإنما يقويها تجني المحبوب. فيكون تجنيه كالامتناع، أو امتناعه من
الموافقة.
فإذا صفا فلا بد من أكدار، منها الحذر عليه، ومنها قلة ميله إلى
هذا العاشق، وربما يتكلف القرب منه ويعلم الإنسان بقلة ميل محبوبه إليه
فينغص بل يبغض.
فإن خاف منه خيانة احتاج إلى حراسة فقويت النغص.
وأصلح المقامات التوسط، وهو اختيار ما تميل النفس إليه ولا يرتقي إلى مقام
العشق، فإن العاشق في عذاب. وإنما يتخايل الفارغ من العشق التذاذ العاشق
وليس كذلك. فإنه كما قيل:
وما في الأرض أشقى من محب ... وإن وجد الهوى عذب المذاق
تراه باكياً في كل وقت ... مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التداني ... وتسخن عينه عند الفراق
تأملت الدخل الذي دخل في ديننا من ناحيتي العلم والعمل فرأيته من طريقين
قد تقدما هذا الدين وأنس الناس بهما.
فأما أصل الدخل في العلم والاعتقاد فمن الفلسفة.
وهو أن خلقاً من العلماء في ديننا لم يقنعوا بما قنع به رسول الله صلى
الله عليه وسلم من الانعكاف على الكتاب والسنة، فأوغلوا في النظر في مذاهب
أهل الفلسفة وخاضوا في الكلام الذي حملهم على مذاهب ردية أفسدوا بها
العقائد.
وأما أصل الدخل في باب العمل فمن الرهبانية.
فإن خلقاً من المتزهدين أخذوا عن الرهبان طريق التقشف، ولم ينظروا في سيرة
نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسمعوا ذم الدنيا وما فهموا المقصود.
فاجتمع لهم الإعراض عن علم شرعنا مع سوء الفهم للمقصود، فحدثت منهم بدع
قبيحة.
فأول ما ابتدأ به إبليس أنه أمرهم بالإعراض عن العلم، فدفنوا كتب وغسلوها.
وألزمهم زاوية التعبد فيما زعم، وأظهر لهم من الخزعبلات ما أوجب إقبال
العوام عليهم فجعل إلههم هواهم.
ولو علموا أنهم منذ دفنوا كتبهم وفارقوا العلم انطفأ مصباحهم ما فعلوا.
لكن إبليس كان دقيق المكر يوم جعل علمهم في دفين تحت الأرض.
وبالعلم يعلم فساد الطريقين ويهتدي إلى الأصوب.
نسأل الله عز وجل أن لا يحرمنا إياه فإنه النور في الظلم، والأنيس في
الوحدة، والوزير عند الحادثة.
أعوذ بالله من صحبة الباطلين، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد
اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس
ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، وما يتخلله غيبة.
وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه
واستوحش من الوحدة، وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم
إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام بل يمزجون ذلك بما ذكرته من
تضييع الزمان.
فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب إنتهاؤه بفعل الخير كرهت ذلك وبقيت
مهم بين أمرين.
إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان.
فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلب قصرت في الكلام لأتعجل الفراق.
ثم أعددت أعمالاً تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان
فارغاً. فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد وبري الأقلام، وحزم الدفاتر،
فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها
لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي.
نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه.
ولقد شاهدت خلقاً كثيراً لا يعرفون معنى الحياة، فمنهم من أغناه الله عن
التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس، وكم
تمر به من آفة ومنكر.
ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج؛ ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحوادث من
السلاطين والغلاء والرخص إلى غير ذلك.
فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا
من وفقه وألهمه اغتنام ذلك " وما يلقّاها إلاّ ذو حظ عظيم " .
رأيت من الرأي القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة.
لأني أشافه في عمري عدداً من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقاً لا تحصى ما
خلقوا بعد.
ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما
يستفيدونه من مشايخهم.
فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد، فإنه ليس كل
من صنف صنف.
وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار يطلع الله عز وجل عليها من
شاء من عباده ويوفقه لكشفها، فيجمع ما فرق، أو يرتب ما شتت، أو يشرح ما
أهمل، هذا هو التصنيف المفيد.
وينبغي اغتنام التصنيف في وسط العمر، لأن أوائل العمر زمن الطلب، وآخره
كلال الحواس.
وربما خان الفهم والعقل من قدر عمره، وإنما يكون التقدير على العادات
الغالبة لا أنه لا يعلم الغيب فيكون زمان الطلب والحفظ والتشاغل إلى
الأربعين، ثم يبتدىء بعد الأربعين بالتصانيف والتعليم.
هذا إذا كان قد بلغ ما يريد من الجمع والحفظ وأعين على تحصيل المطالب.
فأما إذا قلت الآلات عنده من الكتب، أو كان في أول عمره ضعيف
الطلب فلم ينل ما يريده في هذا الأوان، أخر التصانيف إلى تمام خمسين سنة.
ثم ابتدأ بعد الخمسين في التصنيف والتعليم إلى رأس الستين، ثم يزيد فيما
بعد الستين في التعليم ويسمع الحديث والعلم ويعلل التصانيف إلى أن يقع مهم
إلى رأس السبعين، فإذا جاوز السبعين جعل الغالب عليه ذكر الآخرة والتهيؤ
للرحيل.
فيوفر نفسه على نفسه إلا من تعليم يحتسبه، أو تصنيف يفتقر إليه، فذلك أشرف
العدد للآخرة.
ولتكن همته في تنظيف نفسه، وتهذيب خلاله، والمبالغة في استدراك زلاته، فإن
اختطف في خلال ما ذكرنا فنية المؤمن خير من عمله.
وإن بلغ إلى هذه المنازل فقد بينا ما يصلح لكل منزل.
وقد قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ
لنفسه كفناً، وقد بلغ جماعة من العلماء سبعاً وسبعين سنة، منهم أحمد بن
حنبل، فإن بلغها فليعلم أنه على شفير القبر، وإن كل يوم يأتي بعدها مستطرف.
فإن تمت له الثمانون فليجعل همته كلها مصروفة إلى تنظيف خلاله، وتهيئة
زاده وليجعل الاستغفار حليفه، والذكر أليفه، وليدقق في محاسبة النفس وفي
بذل العلم، أو مخالطة الخلق.
فإن قرب الاستعراض للجيش يوجب عليه الحذر من العارض.
وليبالغ في إبقاء أثره قبل رحيله، مثل بث علمه، وإنفاق كتبه، وشيء من ماله.
وبعد فمن تولاه الله عز وجل علمه، ومن أراده ألهمه.
نسأل الله عز وجل أن ينعم علينا بأن يتولانا ولا يتولى عنا إنه قريب مجيب.
فصل أثر العادة في الناس
رأيت عادات الناس قد غلبت على عملهم بالشرع، فهم يستوحشون من فعل الشيء
لعدم جريان العادة لا لنهي الشرع !.
فكم من رجل يوصف بالخير يبيع ويشتري، فإذا حصلت له القراضة باعها بالصحيح
من غير تقليد لإمام، أو عمل برخصة، عادة من القوم، واستثقالاً للاستفتاء.
ونرى خلقاً يحافظون على صلاة الرغائب ويتوانون عن الفرائض.
وكثيراً من المتصوفين لا يستوحشون من ظلم الناس، ثم يتصدقون على الفقراء.
وربما توانوا عن إخراج الزكاة، وتكاسلوا باستعمال التأويلات فيها.
ثم إذا حضر أحدهم مجلس وعظ بكى كأنه يصانع بتلك الحال.
ومنهم من يخرج بعض الزكاة مصانعة عما لم يخرجه.
ومنهم من يعلم أن أصل ماله حرام، ويصعب عليه فراقه للعادة.
وفيهم من يحلف بالطلاق ويحنث، ويرى الفراق صعباً.
فربما تأول، وربما تكاسل عن التأويل اتكالاً على عفو الله تعالى، ووعداً
من النفس بالتوبة.
ومنهم من يرى أن استعمال الشرع ربما ان سبباً في تضييق معاشه.
وقد ألف التفسح فلا يسهل عليه فراق ما قد ألف والعادات في الجملة هي
المهلكة.
ولقد حضر عندي رجل شيخ ابن ثمانين سنة، فاشتريت منه دكاناً وعقدت معه
العقد، فلما افترقنا غدر بعد أيام.
فطلبت منه الحضور عند الحاكم فأبى.
فأحضرته فحلف باليمين الغموس أنه ما بعته، فقلت ما تدور عليه السنة.
وأخذ يبرطل لمن يحول بيني وبينه من الظلمة.
فرأيت من العوام من قد غلبت عليه العادات فلا يلتفت معها إلى قول فقيه،
يقول هذا ما قبض الثمن فكيف يصح البيع ؟.
وآخر يقول كيف يحوز لك أن تأخذ دكانه بغير رضاه ؟.
وآخر يقول يجب عليك أن تقيله البيع.
فلما لم أقله أخذ هو وأقاربه يأخذون عرضي، ورأى أنه يحامي عن ملكه، ثم سعى
بي إلى السلطان سعاية يحرض فيها من الكذب ما أدهشني، ويبرطل ما لا لخلق
الظلمة، فبالغوا وسعوا.
إلا أن الله تعالى نجاني من شرهم.
ثم إني أقمت عليه البينة عند الحاكم، فقال بعض أرباب الدنيا للحاكم: لا
تحكم له، فوقف عن الحكم بعد ثبوب البينة عنده، فرأيت من هذا الحاكم ومن
حاكم آخر أعلى منه من ترك إنفاذ الحق حفظاً لرياستهم ما هون عندي ما فعله
ذلك الشيخ حفظاً لماله، لجهله وعلم هؤلاء، فينحل لي من الأمر أن العادات
غلبت على الناس، وأن الشرع أعرض عنه.
وإن وقعت موافقة للشرع فكما اتفق أو لأجل العادة.
فإن الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان عادة قد استمرت، ويأخذ أعراض
الناس وأموالهم عادة غالبة !!.
فكم قد رأيت هذا الشيخ يصلي ويحافظ على الصلاة، ثم لما خاف فوت غرضه ترك
الشرع جانباً.
وكم قد رأيت أولئك الحكام يتعبدون ويطلبون العلم، غير أنهم لما خافوا على
رياستهم أن تزول تركوا جانب الدين.
ثم إن الله تعالى نصرني عليه وتقدم إلي الحاكم بإنفاذ ما ثبت
عنده، ودارت السنة فمات الشيخ على قل، فنسأله عز وجل التوفيق للانقياد
لشرعه ومخالفة أهوائنا.
فصل شرف العلم وتنزيهه
ما أعرف للعالم قط لذة ولا عزاً ولا شرفاً ولا راحة ولا سلامة أفضل من
العزلة.
فإنه ينال بها سلامة بدنه ودينه وجاهه عند الله عز وجل وعند الخلق.
لأن الخلق يهون عليهم من يخالطهم، ولا يعظم عندهم قدر المخالط لهم، ولهذا
عظم قدر الخلفاء لاحتجابهم.
وإذا رأى العوام أحد العلماء مترخصاً في أمر مباح هان عندهم.
فالواجب عليه صيانة علمه وإقامة قدر للعلم عندهم.
فقد قال بعض السلف: كنا نمزح ونضحك، فإذا صرنا يقتدى بنا فما أراه يسعنا
ذلك.
وقال سفيان الثوري: تعلموا هذا العلم واكظموا عليه، ولا تخلطوه بهزل فتمجه
القلوب.
فمراعاة الناس لا ينبغي أن تنكر.
وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: لولا حدثان قومك في الكفر لنقضت
الكعبة وجعلت لها بابين.
وقال أحمد بن حنبل في الركعتين قبل المغرب: رأيت الناس يكرهونهما فتركتها.
ولا تسمع من جاهل يرى مثل هذه الأشياء رياء، إنما هذه صيانة للعلم.
وبيان هذا أنه لو خرج العالم إلى الناس مكشوف الرأس أو في يده كسرة يأكلها
قل عندهم وإن كان مباحاً، فيصير بمثابة تخليط الطبيب الآمر بالحمية.
فلا ينبغي للعالم أن ينبسط عند العوام حفظاً لهم، ومتى أراد مباحاً
فليستتر به عنهم.
وهذا القدر الذي لاحظه أبو عبيدة حين رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قد
قدم الشام راكباً على حمار ورجلاه من جانب، فقال: يا أمير المؤمنين يتلقاك
عظماء الناس، فما أحسن ما لاحظ.
إلا أن عمر رضي الله عنه أراد تأديب أبي عبيدة بحفظ الأصل فقال: إن الله
أعزكم بالإسلام فمهما طلبتم العز في غيره أذلكم.
والمعنى ينبغي أن يكون طلبكم العز بالدين لا بصور الأفعال، وإن كانت الصور
تلاحظ.
فإن الإنسان يخلو في بيته عرياناً، فإذا خرج إلى الناس لبس ثوبين وعمامة
ورداء.
ومثل هذا لا يكون تصنعاً ولا ينسب إلى كبر.
وقد كن مالك بن أنس يغتسل ويتطيب ويقعد للحديث، ولا تلتفت يا هذا إلى ما
ترى من بذل العلماء على أبواب السلاطين، فإن العزلة أصون للعالم والعلم،
وما يخسره العلماء في ذلك أضعاف ما يربحونه.
وقد كان سيد الفقهاء سعيد بن المسيب لا يغشى الولاة، وعن قول هذا سكتوا
عنه، وهذا فعل الحازم.
فإن أردت اللذة والراحة فعليك أيها العلم بقعر بيتك، وكن معتزلاً عن أهلك
يطب لك عيشك، واجعل للقاء الأهل وقتاً، فإذا عرفوه تصنعوا للقائك، فكانت
المعاشرة بذلك أجود.
وليكن لك مكان في بيتك تخلو فيه، وتحادث سطور كتبك، وتجري في حلبات فكرك.
واحترس من لقاء الخلق وخصوصاً العوام.
واجتهد في كسب يعفك عن الطمع، فهذه نهاية لذة العالم في الدنيا.
وقد قيل لابن المبارك مالك لا تجالسنا ؟ فقال: أنا أذهب فأجالس الصحابة
والتابعين، وأشار بذلك إلى أنه ينظر في كتبه.
ومتى رزق العالم الغني عن الناس والخلوة، فإن كان له فهم يجلب التصانيف
فقد تكاملت لذته.
وإن رزق فهما يرتقي إلى معاملة الحق ومناجاته فقد تعجل دخول الجنة قبل
الممات.
نسأل الله عز وجل همة عالية تسمو إلى الكال، وتوفيقاً لصالح الأعمال،
فالسالكون طريق الحق أفراد.
تأملت أحوال الناس في حالة علو شأنهم فرأيت أكثر الخلق تبين خسارتهم حينئذ.
فمنهم من بالغ في المعاصي من الشباب، ومنهم من فرط في اكتساب العلم، ومنهم
من أكثر من الاستمتاع باللذات.
فكلهم نادم في حالة الكبر حين فوات الاستدراك لذنوب سلفت، أو قوى ضعفت، أو
فضيلة فاتت، فيمضي زمان الكبر في حسرات.
فإن كانت للشيخ إفاقة من ذنوب قد سلفت قال واأسفا على ما جنيت.
وإن لم يكن له إفاقة صار متأسفاً على فوات ما كان يلتذ به.
فأما من أنفق عصر الشباب في العلم فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس
ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً بالإضافة إلى
ما يناله من لذات العلم.
هذا مع وجود لذاته في الطلب الذي كان تأمل به إدراك المطلوب.
وربما كانت تلك الأعمال أطيب مما نيل منها كما قال الشاعر:
اهتز عند تمني وصلها طريا ... ورب أمنية أحلى من الظفر
ولقد تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في
اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصبوة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني
مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه.
ثم تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى
من جاههم. وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم.
فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك.
فقلت له: أيها الجاهل، تقطيع الأيدي لا وقع له عند رؤية يوسف.
وما طالت طريق أدت إلى صديق:
جزى اللّه المسير إليه خيراً ... وإن ترك المطايا كالمزاد
ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل
لأجل ما أطلب وأرجو.
كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على
نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء.
فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم.
فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم
وأحواله وآدابه، وأحوال أصحابه وتابعيهم، فصرت في معرفة طريقه كابن أجود.
وأثمر ذلك عندي من المعاملة ما لا يدري بالعلم، حتى أنني أذكر في زمان
الصبوة، ووقت الغلمة والعزبة قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان
العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي العلم من خوف
الله عز وجل.
ولولا خطايا لا يخلو منها البشر، لقد كنت أخاف على نفسي من العجب.
غير أنه عز وجل صانني، وعلمني، وأطلعني من أسرار العلم معرفته، وإيثار
الخلوة به، حتى أنه لو حضر معي معروف وبشر لرأيتها رحمة.
ثم عاد فغمسني في التقصير والتفريط حتى رأيت أقل الناس خيراً مني.
وتارة يوقظني لقيام الليل ولذة مناجاته، وتارة يحرمني ذلك مع سلامة بدني.
ولولا بشارة العلم بأن هذا نوع تهذيب وتأديب لخرجت إما إلى العجب عند
العمل، وإما إلى اليأس عند البطالة.
لكن رجائي في فضله قد عادل خوفي منه.
وقد يغلب الرجاء بقوة أسبابه، لأني رأيت أنه قد رباني منذ كنت طفلاً، فإن
أبي مات وأنا لا أعقل، والأم لم تلتفت إلي. فركز في طبعي حب العلم.
وما زال يوقعني على المهم فالمهم، ويحملني إلى من يحملني على الأصوب، حتى
قوم أمري.
وكم قد قصدني عدو فصده عني. وإذ رأيته قد نصرني وبصرني ودافع عني ووهب لي،
قوى رجائي في المستقبل بما قد رأيت في الماضي.
ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر
من مائتي نفس.
وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل.
ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام.
وربما لاحت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري وزللي.
ولقد جلست يوماً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا من قد رق قلبه.
أو دمعت عينه. فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكت: فصحت بلسان وجدي: إلهي
وسيدي إن قضيت علي بالعذاب غداً فلا تعلمهم بعذابي صيانة لكرمك لا لأجلي،
لئلا يقولوا عذب من دل عليه.
إلهي قد قيل لنبيك صلى الله عليه وسلم. أقتل ابن أبي المنافق فقال: لا
يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. إلهي فاحفظ حسن عقائدهم في بكرمك أن
تعلمهم بعذاب الدليل عليك.
حاشاك والله يا رب من تكدير الصافي.
لا تبر عوداً أنت ريّشته ... حاشا لباني الجود أن ينقضا
لا تعطش الزرع الذي نبته ... بصوب إنعامك قد روضا
فصل اللذة بين الواقع والخيال
من الأمور التي تخفي على العاقل أن يرى أنه متى لم تكن عنده امرأة أو
جارية يهواها هوى شديداً أنه لا يلتذ في الدنيا.
فإذا صور محبوباً مملوكاً تخايل لذة عظيمة.
وإذا كان عنده من لا يميل إليه اعتقد نفسه محروماً.
وهذا أمر شديد الخفاء، فينبغي أن يوضح. وهو أن المملوك مملول.
ومتى قدر الإنسان على ما يشتهيه مله ومال إلى غيره.
تارة لبيان عيوبه التي تكشفها المخالطة فإنه قد قال الحكماء. العشق يعمي
عن عيوب المحبوب.
وتارة لمكان القدرة عليه، والنفس لا تزال تتطلع إلى ما لا تقدر عليه.
ثم لو قدرنا دوام المحبة مع القدرة فإنها قد تكون ولكن ناقصة بمقدار
القدرة، وإنما يقويها تجني المحبوب. فيكون تجنيه كالامتناع، أو امتناعه من
الموافقة.
فإذا صفا فلا بد من أكدار، منها الحذر عليه، ومنها قلة ميله إلى
هذا العاشق، وربما يتكلف القرب منه ويعلم الإنسان بقلة ميل محبوبه إليه
فينغص بل يبغض.
فإن خاف منه خيانة احتاج إلى حراسة فقويت النغص.
وأصلح المقامات التوسط، وهو اختيار ما تميل النفس إليه ولا يرتقي إلى مقام
العشق، فإن العاشق في عذاب. وإنما يتخايل الفارغ من العشق التذاذ العاشق
وليس كذلك. فإنه كما قيل:
وما في الأرض أشقى من محب ... وإن وجد الهوى عذب المذاق
تراه باكياً في كل وقت ... مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التداني ... وتسخن عينه عند الفراق
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل تفاوت الهمم والآمال
ما ابتلي الإنسان قط بأعظم من علو همته. فإن من علت همته يختار المعالي.
وربما لا يساعد الزمان، وقد تضعف الآلة، فيبقى في عذاب.
وإني أعطيت من علو الهمة طرفاً فأنابه في عذاب، ولا أقول ليته لم يكن فإنه
إنما يحلو العيش بقدر عم العقل، والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان
العقل.
ولقد رأيت أقواماً يصفون علو هممهم، فإذا بها في فن واحد. ولا يبالون
بالنقص فيما هو أهم، قال الرضي:
ولكل جسم في النحول بلية ... وبلاء جسمي من تفاوت همتي
فنظرت فإذا غاية أمله الإمارة. وكان أبو مسلم الخراساني في حال شبيبته لا
يكاد ينام، فقيل له في ذلك فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفس تتوق إلى معالي
الأمور، مع عيش كعيش الهمج الرعاع.
قيل: فما الذي يبرد غليلك. قال: الظفر بالملك.
قيل: فاطلبه، قال: لا يطلب إلا بالأهوال.
قيل: فاركب الأهوال، قال. العقل مانع.
قيل: فما تصنع ؟ قال: سأجعل من عقلي جهلاً، وأحاول به خطراً لا ينال إلا
بالجهل، وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به، فإن الخمول أخو العدم.
فنظرت إلى حال هذا المسكين فإذا هو قد ضيع أهم المهمات وهو جانب الآخرة،
وانتصب في طلب الولايات. فكم فتك وقتل ؟ حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا.
ثم لم يتنعم في ذلك غير ثمان سنين.
ثم اغتيل، ونسي تدبير العقل، فقتل ومضى إلى الآخرة على أقبح حال. وكان
المتنبي يقول:
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلباً بين جنبي ما لهمدى ينتهي بي في مراد أحدّه
يرى جسمه يكسي شفوفاً تربّه ... فيختار أن يكسى دروعاً تهدّه
فتأملت هذا الآخر فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب.
ونظرت إلى علو همتي فرأيتها عجباً. وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني
لا أصل إليه، لأنني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها.
وأريد استقصاء كل فن، هذا أمر يعجز العمر عن بعضه.
فإن عرض لي ذو همة في فن قد بلغ منتهاه رأيته ناقصاً في غيره. فلا أعد
همته تامة.
مثل المحدث فاته الفقه. والفقيه فاته علم الحديث. فلا أرى الرضى بنقصان من
العلوم إلا حادثاً عن نقصه الهمة.
ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم، فأتوق إلى ورع بشر، وزهادة معروف، وهذا
مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيد.
ثم إني أروم الغني عن الخلق، وأستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم
مانع من الكسب. وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية.
ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد، كما أتوق إلى تحقيق التصانيف، ليبقى الخلفان
نائبين عني بعد التلف. وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد.
ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال ثم
لو حصل فرق جمع الهمة.
وكذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم والمشارب، فإنه متعود للترفه
واللطف، وفي قلة المال مانع، وكل ذلك جمع بين أضداد.
فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا.
وأنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب.
ولا أن يؤثر في علمي ولا في عملي.
فواقلقي من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب
بالتصانيف. وتحصيل ما يلائم البدن من المطاعم.
وواأسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم.
ويا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة.
غير أني قد استسلمت لتعذيبي، ولعل تهذيبي في تعذيبي، لأن علو
الهمة تطلب المعالي المقربة إلى الحق عز وجل.
وربما كانت الحيرة في الطلب غليلاً إلى المقصود. وها أنا أحفظ أنفاسي من
أن يضيع منها نفس في غير فائدة.
وإن بلغ همي مراده... وإلا فنية المؤمن أبلغ من عمله.
فصل الترويح عن النفوس
لما سطرت هذا الفصل المتقدم، رأيت أذكار النفس بما لا بد لها في الطريق
منه.
وهو أنه لا بد لها من التلطف، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف.
فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ممكن.
وإذا تعبت الرواحل نهض الحادي يغنيها، وأخذ الراحة للجد جد، وغوص السباح
في طلب الدر صعود.
ودوام السير يحسر الإبل، والمفازة صعبة ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس
فلينظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يتلطف بنفسه، ويمازح
ويخالط النساء، ويقبل ويمص اللسان، ويختار المستحسنات، ويستعذب له الماء
ويختار الماء البارد، والأوفق من المطاعم كلحم الظهر والذراع والحلوى،
وهذا كله رفق بالناقة في طريق السير.
فأما من جرد عليها السوط فإنه يوشك أن لا يقطع الطريق.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن
المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، واعلم أنه ينبغي للعاقل أن يغالط
نفسه فيما يكشف العقل عن عواره، فإن فكر المتيقظ يسبق قبل مباشرة المرأة
إلى أنها اعتناق بجسد يحتوي على قذارة، وقيل بلع اللقمة إلى أنها متقلبة
في الريق ولو أخرجها الإنسان لفظها.
ولو فكر في قرب الموت وما يجري عليه بعده، لبغض عاجل لذته، فلا بد من
مغالطة تجري لينتفع الإنسان بعيشه كما قال لبيد:
فأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
وقال البستي:
أفد طبعك المكدود بالهم راحة ... تجمّ وعللّه بشيء من الزح
ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن ... بمقدار ما يعطي الطعام من الملح
وقال أبو علي بن الشبل:
وإذا هممت فناج نفسك بالمنى ... وعداً، فخيرات الجنان عدات
واجعل رجاءك دون يأسك جنة ... حتى تزول بهمّك الأوقات
واستر عن الجلساء بثك، إنما ... جلساؤك الحسّاد والشّمات
ودع التوقع للحوادث إنهللحي من قبل الممات ممات
فالهم ليس له ثبات مثل ما ... في أهله ما للسرور ثبات
لولا مغالطة النفوس عقولها ... لم تصف للمتيقظين حياة
وقال أيضاً:
يحفظ الجسم تبقى النفس فيه ... بقاء النار تحفظ بالوعاء
فباليأس الممض فلا تمتها ... ولا تمدد لها طول الرجاء
وعدها في شدائدها رخاء ... وذكرها الشدائد في الرخاء
يعد صلاحها هذا وهذا ... وبالتركيب منفعة الدواء
وقد كان عموم السلف يخضبون الشيب لئلا يرى الإنسان منهم ما يكره، وإن كان
الخضاب لا يعدم النفس علمها بذلك، ولكنه نوع مخادعة للنفس.
وما زالت النفوس ترى الظاهر. وإنما الفكر والعقل مع الغائب.
ولا بد من مغالطة تجري ليتم العيش.
ولو عمل العامل بمقتضى قصر الأمل ما كتب العلم ولا صنف.
فافهم هذا الفصل مع الذي تقدمه، فإن الأول في مقام العزيمة، وهذا في مكان
الرخصة.
ولا بد للتعب من راحة وإعانة، والله عز وجل معك على قدر صدق الطلب، وقوة
اللجأ، وخلع الحول والقوة، وهو الموفق.
فصل في تعليم التدبير
قوام الآدمي بشيئين الحرارة والرطوبة.
ومن شأن الحرارة أن تحلل الرطوبة وتفنيها، فالآدمي محتاج إلى تحصيل خلف
للمتحلل.
فأبدان النشوء تغتذي بأكثر مما يتحلل منها.
والأبدان المتناهية تغتذي بمقدار ما يتحلل منها والأبدان التي قد أخذت في
الهرم يتحلل منها أكثر مما تغتذي به. ولا تتشبع مما تغتذي به، وينبغي
للناشيء البالغ أن يتحفظ في النكاح، لأنه بعفته يربي قاعدة قوة يجد أثرها
في الكبر.
وأما المتوسط والواقف السن فينبغي أن يحذر فضول الجماع، فإن حصل له مثل ما
يخرج منه فأسرف، فاللازم أخذ من الحاصل، ويوشك أن يسرع النفاد.
وأما الشيخ فترك النكاح كاللازم له، خصوصاً إذا زاد علو السن، لأنه ينفق
من الجوهر الذي لا يحصل مثله أبداً.
ثم ينبغي أن ينظر العاقل في ماله فيكتسب أكثر مما ينفق ليكون
الفاضل مدخراً لوقت العجز: وليحذر السرف، فإن العدل هو الأصلح.
ثم ينظر في الزوجة، والمطلوب منها شيئان: وجود الولد، وتدبير المنزل، فإذا
كانت مبذرة فعيب لا يحتمل، فإن انضمت صفة العقر فلا وجه للإمساك.
إلا أن تكون مستحسنة الصورة، فإن ضم إليها عقل وعفاف حسن الإمساك.
وإن كانت مما يحتاج أن تحفظ فتركها لازم.
فأما الخدم فليجتهد في تحصيل خادم لا تستعبده الشهوة، فإن عبد الشهوة له
مولى غير سيده.
ولينظر المالك في طبع المملوك، فمنهم من لا يأتي إلا على الإكرام فليكرمه
فإنه يربح محبته ومنهم من لا يأتي إلا على الإهانة فليداره وليعرض عن
الذنوب.
فإن لم يمكن عاتب بلطف، وليحذر العقوبة ما أمكن وليجعل للمماليك زمن راحة.
والعجب ممن يعني بدابته وينسى مداراة جاريته، وأجود المماليك الصغار،
وكذلك الزوجات، لأنهم متعودون خلق المشتري.
وليحفظ نفسه بالهيبة من الإنحراف مع الزوجة، ولا يطلعها على ماله، فإنها
سفيهة تطلب كثرة الإنفاق.
وأما تدبير الأولاد فحفظهم من مخالطة تفسد مستقبلهم.
ومتى كان الصبي ذا أنفة - حيياً - رجى خيره.
وليحمل على صحبة الأشراف والعلماء، وليحذر من مصاحبته للجهال والسفهاء،
فإن الطبع لص.
وليحذر الصبي من الكذب غالة التحذير، ومن المخالطة للصبيان المعوجين.
وليوصه بزيادة البر للوالدين، وليحفظ من مخالطة النساء.
فإذا بلغ فليزوج بصبية لم تعرف غيره فينتفعان.
هذه الإشارة إلى تدبير أمور الدنيا.
فأما تدبير العلم فينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل
بالقرآن والفقه وسماع الحديث.
وليحصل له المحفوظات أكثر من المسموعات، لأن زمان الحفظ إلى خمس عشرة سنة،
فإذا بلغ تشتت همته، فليضرب تارة، ويرشى أخرى، ليبلغ وقد حصل محفوظات سنية.
وأول ما ينبغي أن يكلف حفظ القرآن متقناً، فإنه يثبت ويختلط باللحم والدم،
ثم مقدمة من النحو يعرف بها اللحن، ثم الفقه مذهباً وخلافاً، وما أمكن بعد
هذا من العلوم فحفظه حسن.
وليحذر من عادات أصحاب الحديث، فإنهم يفنون الزمان في سماع الأجزاء التي
تتكرر فيها الأحاديث، فيذهب العمر وما حصلوا فهم شيء.
فإذا بلغوا سناً طبوا جواز فتوى، أو قراءة جزء من القرآن، فعادوا القهقرى.
لأنهم يحفظون بعد كبر السن فلا يحصل مقصودهم، فالحفظ في الصبا للمهم من
العلم أصل عظيم.
وقد رأينا كثيراً ممن تشاغل بالمسموعات وكتابة الأجزاء ورأى الحفظ صعباً
فمال إلى الأسهل فمضى عمره في ذلك.
فلما احتاج إلى نفسه قعد يتحفظ على كبر فلم يحصل مقصوده.
فاليقظة لفهم ما ذكرت، وانظر في الإخلاص، فما ينفع شيء دونه.
فصل عقبى التفريط
اشتد الغلاء ببغداد في أول سنة خمس وسبعين، وكلما جاء الشعير زاد السعر.
وتدافع الناس على اشتراء الطعام فاغتبط من يستعبد كل سنة يزرع ما يقوته،
وفرح من بادر في أول النيسان إلى اشتراء الطعام قبل أن يضاعف ثمنه.
وأخرج الفقراء ما في بيوتهم فرموه في سوق الهوان.
وبان ذل نفوس كانت عزيزة.
فقلت: يا نفس خذي من هذه الحال إشارة، ليغبطن من له عمل صالح وقت الحاجة
إليه، وليفرحن من له جواب عند إقبال المسألة.
وكل الويل على المفرط الذي لا ينظر في عاقبته، فتنبهي.
فقد نبهت ناساً الدنيا على أمر الآخرة.
وبادري موسم الزرع ما دامت الروح في البدن.
فالزمان كله تشرين قبل أن يدخل نيسان الحصاد.
وما لك زرع، وحاجة المفتقرين إلى أموالهم تمنعهم من الإيثار.
فصل هاجس مقلق
تأملت حالة أزعجتني، وهو أن الرجل قد يفعل مع امرأته كل جميل وهي لا تحبه،
وكذا يفعل مع صديقه والصديق يبغضه، وقد يتقرب إلى السلطان بكل ما يقدر
عليه والسلطان لا يؤثره؛ فيبقى متحيراً يقول: ما حيلتي.
فخفت أن تكون هذه حالتي مع الخالق سبحانه، أتقرب إليه وهو لا يريدني.
وربما يكون قد كتبني شقياً في الأزل.
ومن هذا خاف الحسن فقال: أخاف أن يكون اطلع على بعض ذنوبي فقال: لا غفرت
لك.
فليس إلا القلق والخوف لعل سفينة الرجا تسلم - يوم دخلوها الشاطىء - من
جرف.
فصل عدد الأحاديث
جرى بيني وبين أحد أصحاب الحديث كلام في قول الإمام أحمد: صح من
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبع مائة ألف حديث.
فقلت له: إنما يعني به الطرق، فقال: لا بل المتون، فقلت: هذا بعيد التصور.
ثم رأيت لأبي عبد الله الحاكم كلاماً ينصر ما قال ذلك الشخص، وهو أنه قال
في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل: كيف يجوز أن يقال: إن حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عشرة آلاف حديث، وقد روى عنه من أصحابه أربعة
آلاف رجل وامرأة صحبوه نيفاً وعشرين سنة بمكة ثم بالمدينة حفظوا أقواله
وأفعاله، ونومه ويقظته وحركاته وغير ذلك سوى ما حفظوا من أحكام الشريعة.
واحتج بقول أحمد: صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع مائة
ألف حديث وكسر، وأن إسحاق بن راهويه كان يملي سبعين ألف حديث حفظاً، وأن
أبا العباس بن عقدة قال: أحفظ لأهل البيت ثلاث مائة ألف حديث.
قال ابن عقدة: وظهر لابن كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث.
قلت: ولا يحسن أن يشار بهذا إلى المتون. وقد عجبت كيف خفي هذا على الحاكم
وهو يعلم أن أجمع المسانيد الظاهرة مسند أحمد بن حنبل، وقد طاف الدنيا
مرتين حتى حصله وهو أربعون ألف حديث، منها عشرة آلاف مكررة.
قال حنبل بن إسحاق: جمعنا أحمد بن حنبل أنا وصالح وعبد الله، وقرأ علينا
المسند، وقال لنا: هذا كتاب جمعته من أكثر من سبع مائة ألف وخمسين ألفاً.
فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا
إليه، فإن وجدتموه وإلا فليس بحجة.
أفترى يخفى على متيقظ أنه أراد بكونه جمعه من سبعمائة ألف أنه أراد الطرق.
لأن السبع مائة الألف إن كانت من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف
أهملها ؟.
فإن قيل: فقد أخرج في مسنده أشياء ضعيفة. ثم أعوذ بالله أن يكون سبع مائة
ألف ما تحقق منها سوى ثلاثين ألفاً.
وكيف ضاعت هذه الجملة ؟ ولم أهملت وقد وصلت كلها إلى زمن أحمد فانتقى منها
ورمى الباقي ؟.
وأصحاب الحديث قد كتبوا كل شيء من الموضوع والكذب.
وكذلك قال أبو داود: جمعت كتاب السنن من ستمائة ألف حديث.
ولا يحسن أن يقال: إن الصحابة الذين رووها ماتوا ولم يحدثوا بها التابعين.
فإن الأمر قد وصل إلى أحمد فأحصى سبع مائة ألف حديث، وما كان الأمر ليذهب
هكذا عاجلاً.
ومعلوم أنه لو جمع الصحيح والمحال الموضوع وكل منقول عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما بلغ خمسين ألفاً.
فأين الباقي ؟.
ولا يجوز أن يقال تلك الأحاديث كلام التابعين؛ فإن الفقهاء نقلوا مذاهب
القوم ودونوها وأخذوا بها، ولا وجه لتركها، ففهم كل ذي لب أن الإشارة إلى
الطرق، وأن ما توهمه الحاكم فاسد.
ولو عرض هذا الاعتراض عليه، وقيل له: فأين الباقي لم يكن له جواب.
لكن الفهم عزيز. والله المنعم بالتوفيق.
ومثل هذا تغفيل قوم قالوا: إن البخاري لم يخرج كل ما صح عنده، وأن ما أخرج
كالأنموذج، وإلا فكان يطول.
وقد ذهب إلى نحو هذا أبو بكر الإسمعيلي، وحكي عن البخاري أنه قال: ما تركت
من الصحيح أكثر.
وإنما يعني الطرق، يدل على ما قلته أن الدارقطني وهو سيد الحفاظ جمع ما
يلزم البخاري ومسلم إخراجه فبلغ ما لم يذكراه أحاديث يسيرة، ولو كان كما
قالوا لأخرج مجلدات، ثم قوله: ما يلزم البخاري دليل صريح على ما قلته،
لأنه من أخرج الأنموذج لا يلزمه شيء.
وكذلك أخرج أبو عبد الله الحاكم كتاباً جمع فيه ما يلزم البخاري إخراجه
فذكر حديث الطائر فلم يلتفت الحفاظ إلى ما قال.
فما أقل فهم هؤلاء الذين شغلهم نقل الحديث عن التدقيق الذي لا يلزم في صحة
الحديث.
وإنما وقع لقلة الفقه والفهم.
إن البخاري ومسلم تركا أحاديث أقوام ثقات لأنهم خولفوا في الحديث، فنقص
الأكثرون من الحديث وزادوا هم.
ولم كان ثم فقه لعلموا أن الزيادة من الثقة مقبولة.
وتركوا أحاديث أقوام لأنهم انفردوا بالرواية عن شخص. ومعلوم أن انفراد
الثقة لا عيب فيه، وتركوا من ذلك الغرائب، وكل ذلك سوء فهم.
ولهذا لم يلتزم الفقهاء هذا، فقالوا: الزيادة من الثقة مقبولة ولا يقبل
القدح حتى يبين سببه.
وكل من لم يخالط الفقهاء وجهد مع المحدثين تأذى وساء فهمه. فالحمد لله
الذي أنعم علينا بالحالتين.
فصل فقه اللغة
اعلم أن الله عز وجل وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل.
فالنفوس تعلمها ضرورة، وأكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها.
فإنه وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل. فالنفوس تعلمها ضرورة، وأكثر
الخلق لا يحسنون التعبير عنها.
فإنه وضع في النفس أو المصنوع لا بد له من صانع، وأن المبني لا بد له من
بان، وأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في
حالة واحدة.
ومثل هذه الأشياء لا تحتاج إلى دليل، وألهم العرب النطق بالصواب من غير
لحن، فهم يفرقون بين المرفوع والمنصوب بأمارات في جبلتهم، وإن عجزوا عن
النطق بالعلة.
قال عثمان بن جني: سألت يوماً أبا عبد الله محمد بن العساف العقيلي فقلت
له: كيف تقول ضربت أخوك ؟ فقال: أقول ضربت أخاك.
فأدرته على الرفع فأبى وقال لا أقول أخوك أبداً.
قال: فكيف تقول ضربني أخوك ؟ فرفع، فقلت: أليس زعمت أنك لا تقول أخوك
أبداً، فقال إيش هذا، اختلفت جهتها في الكلام.
وهذا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام، وإعطائهم إياه في كل موضع حقه،
وإنه ليس استرسالاً ولا ترخيماً.
قال عثمان: واللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، والنحو انتحاء
سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع والتكسير وغير
ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة أهلها.
ما ابتلي الإنسان قط بأعظم من علو همته. فإن من علت همته يختار المعالي.
وربما لا يساعد الزمان، وقد تضعف الآلة، فيبقى في عذاب.
وإني أعطيت من علو الهمة طرفاً فأنابه في عذاب، ولا أقول ليته لم يكن فإنه
إنما يحلو العيش بقدر عم العقل، والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان
العقل.
ولقد رأيت أقواماً يصفون علو هممهم، فإذا بها في فن واحد. ولا يبالون
بالنقص فيما هو أهم، قال الرضي:
ولكل جسم في النحول بلية ... وبلاء جسمي من تفاوت همتي
فنظرت فإذا غاية أمله الإمارة. وكان أبو مسلم الخراساني في حال شبيبته لا
يكاد ينام، فقيل له في ذلك فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفس تتوق إلى معالي
الأمور، مع عيش كعيش الهمج الرعاع.
قيل: فما الذي يبرد غليلك. قال: الظفر بالملك.
قيل: فاطلبه، قال: لا يطلب إلا بالأهوال.
قيل: فاركب الأهوال، قال. العقل مانع.
قيل: فما تصنع ؟ قال: سأجعل من عقلي جهلاً، وأحاول به خطراً لا ينال إلا
بالجهل، وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به، فإن الخمول أخو العدم.
فنظرت إلى حال هذا المسكين فإذا هو قد ضيع أهم المهمات وهو جانب الآخرة،
وانتصب في طلب الولايات. فكم فتك وقتل ؟ حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا.
ثم لم يتنعم في ذلك غير ثمان سنين.
ثم اغتيل، ونسي تدبير العقل، فقتل ومضى إلى الآخرة على أقبح حال. وكان
المتنبي يقول:
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلباً بين جنبي ما لهمدى ينتهي بي في مراد أحدّه
يرى جسمه يكسي شفوفاً تربّه ... فيختار أن يكسى دروعاً تهدّه
فتأملت هذا الآخر فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب.
ونظرت إلى علو همتي فرأيتها عجباً. وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني
لا أصل إليه، لأنني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها.
وأريد استقصاء كل فن، هذا أمر يعجز العمر عن بعضه.
فإن عرض لي ذو همة في فن قد بلغ منتهاه رأيته ناقصاً في غيره. فلا أعد
همته تامة.
مثل المحدث فاته الفقه. والفقيه فاته علم الحديث. فلا أرى الرضى بنقصان من
العلوم إلا حادثاً عن نقصه الهمة.
ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم، فأتوق إلى ورع بشر، وزهادة معروف، وهذا
مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيد.
ثم إني أروم الغني عن الخلق، وأستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم
مانع من الكسب. وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية.
ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد، كما أتوق إلى تحقيق التصانيف، ليبقى الخلفان
نائبين عني بعد التلف. وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد.
ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال ثم
لو حصل فرق جمع الهمة.
وكذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم والمشارب، فإنه متعود للترفه
واللطف، وفي قلة المال مانع، وكل ذلك جمع بين أضداد.
فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا.
وأنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب.
ولا أن يؤثر في علمي ولا في عملي.
فواقلقي من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب
بالتصانيف. وتحصيل ما يلائم البدن من المطاعم.
وواأسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم.
ويا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة.
غير أني قد استسلمت لتعذيبي، ولعل تهذيبي في تعذيبي، لأن علو
الهمة تطلب المعالي المقربة إلى الحق عز وجل.
وربما كانت الحيرة في الطلب غليلاً إلى المقصود. وها أنا أحفظ أنفاسي من
أن يضيع منها نفس في غير فائدة.
وإن بلغ همي مراده... وإلا فنية المؤمن أبلغ من عمله.
فصل الترويح عن النفوس
لما سطرت هذا الفصل المتقدم، رأيت أذكار النفس بما لا بد لها في الطريق
منه.
وهو أنه لا بد لها من التلطف، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف.
فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ممكن.
وإذا تعبت الرواحل نهض الحادي يغنيها، وأخذ الراحة للجد جد، وغوص السباح
في طلب الدر صعود.
ودوام السير يحسر الإبل، والمفازة صعبة ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس
فلينظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يتلطف بنفسه، ويمازح
ويخالط النساء، ويقبل ويمص اللسان، ويختار المستحسنات، ويستعذب له الماء
ويختار الماء البارد، والأوفق من المطاعم كلحم الظهر والذراع والحلوى،
وهذا كله رفق بالناقة في طريق السير.
فأما من جرد عليها السوط فإنه يوشك أن لا يقطع الطريق.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن
المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، واعلم أنه ينبغي للعاقل أن يغالط
نفسه فيما يكشف العقل عن عواره، فإن فكر المتيقظ يسبق قبل مباشرة المرأة
إلى أنها اعتناق بجسد يحتوي على قذارة، وقيل بلع اللقمة إلى أنها متقلبة
في الريق ولو أخرجها الإنسان لفظها.
ولو فكر في قرب الموت وما يجري عليه بعده، لبغض عاجل لذته، فلا بد من
مغالطة تجري لينتفع الإنسان بعيشه كما قال لبيد:
فأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
وقال البستي:
أفد طبعك المكدود بالهم راحة ... تجمّ وعللّه بشيء من الزح
ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن ... بمقدار ما يعطي الطعام من الملح
وقال أبو علي بن الشبل:
وإذا هممت فناج نفسك بالمنى ... وعداً، فخيرات الجنان عدات
واجعل رجاءك دون يأسك جنة ... حتى تزول بهمّك الأوقات
واستر عن الجلساء بثك، إنما ... جلساؤك الحسّاد والشّمات
ودع التوقع للحوادث إنهللحي من قبل الممات ممات
فالهم ليس له ثبات مثل ما ... في أهله ما للسرور ثبات
لولا مغالطة النفوس عقولها ... لم تصف للمتيقظين حياة
وقال أيضاً:
يحفظ الجسم تبقى النفس فيه ... بقاء النار تحفظ بالوعاء
فباليأس الممض فلا تمتها ... ولا تمدد لها طول الرجاء
وعدها في شدائدها رخاء ... وذكرها الشدائد في الرخاء
يعد صلاحها هذا وهذا ... وبالتركيب منفعة الدواء
وقد كان عموم السلف يخضبون الشيب لئلا يرى الإنسان منهم ما يكره، وإن كان
الخضاب لا يعدم النفس علمها بذلك، ولكنه نوع مخادعة للنفس.
وما زالت النفوس ترى الظاهر. وإنما الفكر والعقل مع الغائب.
ولا بد من مغالطة تجري ليتم العيش.
ولو عمل العامل بمقتضى قصر الأمل ما كتب العلم ولا صنف.
فافهم هذا الفصل مع الذي تقدمه، فإن الأول في مقام العزيمة، وهذا في مكان
الرخصة.
ولا بد للتعب من راحة وإعانة، والله عز وجل معك على قدر صدق الطلب، وقوة
اللجأ، وخلع الحول والقوة، وهو الموفق.
قوام الآدمي بشيئين الحرارة والرطوبة.
ومن شأن الحرارة أن تحلل الرطوبة وتفنيها، فالآدمي محتاج إلى تحصيل خلف
للمتحلل.
فأبدان النشوء تغتذي بأكثر مما يتحلل منها.
والأبدان المتناهية تغتذي بمقدار ما يتحلل منها والأبدان التي قد أخذت في
الهرم يتحلل منها أكثر مما تغتذي به. ولا تتشبع مما تغتذي به، وينبغي
للناشيء البالغ أن يتحفظ في النكاح، لأنه بعفته يربي قاعدة قوة يجد أثرها
في الكبر.
وأما المتوسط والواقف السن فينبغي أن يحذر فضول الجماع، فإن حصل له مثل ما
يخرج منه فأسرف، فاللازم أخذ من الحاصل، ويوشك أن يسرع النفاد.
وأما الشيخ فترك النكاح كاللازم له، خصوصاً إذا زاد علو السن، لأنه ينفق
من الجوهر الذي لا يحصل مثله أبداً.
ثم ينبغي أن ينظر العاقل في ماله فيكتسب أكثر مما ينفق ليكون
الفاضل مدخراً لوقت العجز: وليحذر السرف، فإن العدل هو الأصلح.
ثم ينظر في الزوجة، والمطلوب منها شيئان: وجود الولد، وتدبير المنزل، فإذا
كانت مبذرة فعيب لا يحتمل، فإن انضمت صفة العقر فلا وجه للإمساك.
إلا أن تكون مستحسنة الصورة، فإن ضم إليها عقل وعفاف حسن الإمساك.
وإن كانت مما يحتاج أن تحفظ فتركها لازم.
فأما الخدم فليجتهد في تحصيل خادم لا تستعبده الشهوة، فإن عبد الشهوة له
مولى غير سيده.
ولينظر المالك في طبع المملوك، فمنهم من لا يأتي إلا على الإكرام فليكرمه
فإنه يربح محبته ومنهم من لا يأتي إلا على الإهانة فليداره وليعرض عن
الذنوب.
فإن لم يمكن عاتب بلطف، وليحذر العقوبة ما أمكن وليجعل للمماليك زمن راحة.
والعجب ممن يعني بدابته وينسى مداراة جاريته، وأجود المماليك الصغار،
وكذلك الزوجات، لأنهم متعودون خلق المشتري.
وليحفظ نفسه بالهيبة من الإنحراف مع الزوجة، ولا يطلعها على ماله، فإنها
سفيهة تطلب كثرة الإنفاق.
وأما تدبير الأولاد فحفظهم من مخالطة تفسد مستقبلهم.
ومتى كان الصبي ذا أنفة - حيياً - رجى خيره.
وليحمل على صحبة الأشراف والعلماء، وليحذر من مصاحبته للجهال والسفهاء،
فإن الطبع لص.
وليحذر الصبي من الكذب غالة التحذير، ومن المخالطة للصبيان المعوجين.
وليوصه بزيادة البر للوالدين، وليحفظ من مخالطة النساء.
فإذا بلغ فليزوج بصبية لم تعرف غيره فينتفعان.
هذه الإشارة إلى تدبير أمور الدنيا.
فأما تدبير العلم فينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل
بالقرآن والفقه وسماع الحديث.
وليحصل له المحفوظات أكثر من المسموعات، لأن زمان الحفظ إلى خمس عشرة سنة،
فإذا بلغ تشتت همته، فليضرب تارة، ويرشى أخرى، ليبلغ وقد حصل محفوظات سنية.
وأول ما ينبغي أن يكلف حفظ القرآن متقناً، فإنه يثبت ويختلط باللحم والدم،
ثم مقدمة من النحو يعرف بها اللحن، ثم الفقه مذهباً وخلافاً، وما أمكن بعد
هذا من العلوم فحفظه حسن.
وليحذر من عادات أصحاب الحديث، فإنهم يفنون الزمان في سماع الأجزاء التي
تتكرر فيها الأحاديث، فيذهب العمر وما حصلوا فهم شيء.
فإذا بلغوا سناً طبوا جواز فتوى، أو قراءة جزء من القرآن، فعادوا القهقرى.
لأنهم يحفظون بعد كبر السن فلا يحصل مقصودهم، فالحفظ في الصبا للمهم من
العلم أصل عظيم.
وقد رأينا كثيراً ممن تشاغل بالمسموعات وكتابة الأجزاء ورأى الحفظ صعباً
فمال إلى الأسهل فمضى عمره في ذلك.
فلما احتاج إلى نفسه قعد يتحفظ على كبر فلم يحصل مقصوده.
فاليقظة لفهم ما ذكرت، وانظر في الإخلاص، فما ينفع شيء دونه.
فصل عقبى التفريط
اشتد الغلاء ببغداد في أول سنة خمس وسبعين، وكلما جاء الشعير زاد السعر.
وتدافع الناس على اشتراء الطعام فاغتبط من يستعبد كل سنة يزرع ما يقوته،
وفرح من بادر في أول النيسان إلى اشتراء الطعام قبل أن يضاعف ثمنه.
وأخرج الفقراء ما في بيوتهم فرموه في سوق الهوان.
وبان ذل نفوس كانت عزيزة.
فقلت: يا نفس خذي من هذه الحال إشارة، ليغبطن من له عمل صالح وقت الحاجة
إليه، وليفرحن من له جواب عند إقبال المسألة.
وكل الويل على المفرط الذي لا ينظر في عاقبته، فتنبهي.
فقد نبهت ناساً الدنيا على أمر الآخرة.
وبادري موسم الزرع ما دامت الروح في البدن.
فالزمان كله تشرين قبل أن يدخل نيسان الحصاد.
وما لك زرع، وحاجة المفتقرين إلى أموالهم تمنعهم من الإيثار.
تأملت حالة أزعجتني، وهو أن الرجل قد يفعل مع امرأته كل جميل وهي لا تحبه،
وكذا يفعل مع صديقه والصديق يبغضه، وقد يتقرب إلى السلطان بكل ما يقدر
عليه والسلطان لا يؤثره؛ فيبقى متحيراً يقول: ما حيلتي.
فخفت أن تكون هذه حالتي مع الخالق سبحانه، أتقرب إليه وهو لا يريدني.
وربما يكون قد كتبني شقياً في الأزل.
ومن هذا خاف الحسن فقال: أخاف أن يكون اطلع على بعض ذنوبي فقال: لا غفرت
لك.
فليس إلا القلق والخوف لعل سفينة الرجا تسلم - يوم دخلوها الشاطىء - من
جرف.
جرى بيني وبين أحد أصحاب الحديث كلام في قول الإمام أحمد: صح من
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبع مائة ألف حديث.
فقلت له: إنما يعني به الطرق، فقال: لا بل المتون، فقلت: هذا بعيد التصور.
ثم رأيت لأبي عبد الله الحاكم كلاماً ينصر ما قال ذلك الشخص، وهو أنه قال
في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل: كيف يجوز أن يقال: إن حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عشرة آلاف حديث، وقد روى عنه من أصحابه أربعة
آلاف رجل وامرأة صحبوه نيفاً وعشرين سنة بمكة ثم بالمدينة حفظوا أقواله
وأفعاله، ونومه ويقظته وحركاته وغير ذلك سوى ما حفظوا من أحكام الشريعة.
واحتج بقول أحمد: صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع مائة
ألف حديث وكسر، وأن إسحاق بن راهويه كان يملي سبعين ألف حديث حفظاً، وأن
أبا العباس بن عقدة قال: أحفظ لأهل البيت ثلاث مائة ألف حديث.
قال ابن عقدة: وظهر لابن كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث.
قلت: ولا يحسن أن يشار بهذا إلى المتون. وقد عجبت كيف خفي هذا على الحاكم
وهو يعلم أن أجمع المسانيد الظاهرة مسند أحمد بن حنبل، وقد طاف الدنيا
مرتين حتى حصله وهو أربعون ألف حديث، منها عشرة آلاف مكررة.
قال حنبل بن إسحاق: جمعنا أحمد بن حنبل أنا وصالح وعبد الله، وقرأ علينا
المسند، وقال لنا: هذا كتاب جمعته من أكثر من سبع مائة ألف وخمسين ألفاً.
فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا
إليه، فإن وجدتموه وإلا فليس بحجة.
أفترى يخفى على متيقظ أنه أراد بكونه جمعه من سبعمائة ألف أنه أراد الطرق.
لأن السبع مائة الألف إن كانت من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف
أهملها ؟.
فإن قيل: فقد أخرج في مسنده أشياء ضعيفة. ثم أعوذ بالله أن يكون سبع مائة
ألف ما تحقق منها سوى ثلاثين ألفاً.
وكيف ضاعت هذه الجملة ؟ ولم أهملت وقد وصلت كلها إلى زمن أحمد فانتقى منها
ورمى الباقي ؟.
وأصحاب الحديث قد كتبوا كل شيء من الموضوع والكذب.
وكذلك قال أبو داود: جمعت كتاب السنن من ستمائة ألف حديث.
ولا يحسن أن يقال: إن الصحابة الذين رووها ماتوا ولم يحدثوا بها التابعين.
فإن الأمر قد وصل إلى أحمد فأحصى سبع مائة ألف حديث، وما كان الأمر ليذهب
هكذا عاجلاً.
ومعلوم أنه لو جمع الصحيح والمحال الموضوع وكل منقول عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما بلغ خمسين ألفاً.
فأين الباقي ؟.
ولا يجوز أن يقال تلك الأحاديث كلام التابعين؛ فإن الفقهاء نقلوا مذاهب
القوم ودونوها وأخذوا بها، ولا وجه لتركها، ففهم كل ذي لب أن الإشارة إلى
الطرق، وأن ما توهمه الحاكم فاسد.
ولو عرض هذا الاعتراض عليه، وقيل له: فأين الباقي لم يكن له جواب.
لكن الفهم عزيز. والله المنعم بالتوفيق.
ومثل هذا تغفيل قوم قالوا: إن البخاري لم يخرج كل ما صح عنده، وأن ما أخرج
كالأنموذج، وإلا فكان يطول.
وقد ذهب إلى نحو هذا أبو بكر الإسمعيلي، وحكي عن البخاري أنه قال: ما تركت
من الصحيح أكثر.
وإنما يعني الطرق، يدل على ما قلته أن الدارقطني وهو سيد الحفاظ جمع ما
يلزم البخاري ومسلم إخراجه فبلغ ما لم يذكراه أحاديث يسيرة، ولو كان كما
قالوا لأخرج مجلدات، ثم قوله: ما يلزم البخاري دليل صريح على ما قلته،
لأنه من أخرج الأنموذج لا يلزمه شيء.
وكذلك أخرج أبو عبد الله الحاكم كتاباً جمع فيه ما يلزم البخاري إخراجه
فذكر حديث الطائر فلم يلتفت الحفاظ إلى ما قال.
فما أقل فهم هؤلاء الذين شغلهم نقل الحديث عن التدقيق الذي لا يلزم في صحة
الحديث.
وإنما وقع لقلة الفقه والفهم.
إن البخاري ومسلم تركا أحاديث أقوام ثقات لأنهم خولفوا في الحديث، فنقص
الأكثرون من الحديث وزادوا هم.
ولم كان ثم فقه لعلموا أن الزيادة من الثقة مقبولة.
وتركوا أحاديث أقوام لأنهم انفردوا بالرواية عن شخص. ومعلوم أن انفراد
الثقة لا عيب فيه، وتركوا من ذلك الغرائب، وكل ذلك سوء فهم.
ولهذا لم يلتزم الفقهاء هذا، فقالوا: الزيادة من الثقة مقبولة ولا يقبل
القدح حتى يبين سببه.
وكل من لم يخالط الفقهاء وجهد مع المحدثين تأذى وساء فهمه. فالحمد لله
الذي أنعم علينا بالحالتين.
فصل فقه اللغة
اعلم أن الله عز وجل وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل.
فالنفوس تعلمها ضرورة، وأكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها.
فإنه وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل. فالنفوس تعلمها ضرورة، وأكثر
الخلق لا يحسنون التعبير عنها.
فإنه وضع في النفس أو المصنوع لا بد له من صانع، وأن المبني لا بد له من
بان، وأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في
حالة واحدة.
ومثل هذه الأشياء لا تحتاج إلى دليل، وألهم العرب النطق بالصواب من غير
لحن، فهم يفرقون بين المرفوع والمنصوب بأمارات في جبلتهم، وإن عجزوا عن
النطق بالعلة.
قال عثمان بن جني: سألت يوماً أبا عبد الله محمد بن العساف العقيلي فقلت
له: كيف تقول ضربت أخوك ؟ فقال: أقول ضربت أخاك.
فأدرته على الرفع فأبى وقال لا أقول أخوك أبداً.
قال: فكيف تقول ضربني أخوك ؟ فرفع، فقلت: أليس زعمت أنك لا تقول أخوك
أبداً، فقال إيش هذا، اختلفت جهتها في الكلام.
وهذا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام، وإعطائهم إياه في كل موضع حقه،
وإنه ليس استرسالاً ولا ترخيماً.
قال عثمان: واللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، والنحو انتحاء
سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع والتكسير وغير
ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة أهلها.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى