رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
رأى المؤلف في السعادة
إن
الإنسان ذو فضيلة روحانية يناسب بها الأرواح الطيبة التي تسمى ملائكة وذو
فضيلة جسمانية يناسب بها الأنعام لأنه مركب منهما فهو بالخير الجسماني
الذي يناسب به الأنعام مقيم في هذا العالم السفلي مدة قصيرة ليعمره وينظمه
ويرتبه. حتى إذا ظفر بهذه المرتبة على الكمال انتقل إلى العالم العلوي
وأقام فيه دائما سرمدا في صحبة الملائكة والأرواح الطيبة وينبغي أن يفهم
من قولنا العالم السفلي والعالم االعلوي ما ذكرناه فيما تقدم. فإنا قد
قلنا هناك أنا لسنا نعني بالعلوي المكان العلى في الحس ولا بالعالم السفلي
المكان الأسفل في الحس بل كل محسوس فهو أسفل وإنكان محسوسا في المكان
الأعلى. وكل معقول فيهو أعلى وإن كان معقولا في المكان الأسفل وينبغي أن
يعلم أنه لا يحتاج في صحة الأرواح الطيبة المستغنية عن الأبدان إلى شيء من
السعادات البدنية التي ذكرناها سوى سعادة النفس فقط أعني المعقولات
الأبدية التي هي الحكمة فقط. فإذا ما دام الإنسان إنسانا فلا تتم له
السعادة إلا بتحصيل الحالين جميعا وليس يحصلان على التمام إلا بالأشياء
النافعة في الوصول إلى الحكمة الأبدية. فالسعيد إذا من الناس يكون في إحدى
مرتبتين. إما في مرتبة الأشياء الجسمانية متعلقا بأحوالها السفلى سعيدا
بها وهو مع ذلك يطالع الأمور الشريفة باحثا عنها مشتقا إليها متحركا نحوها
مغتبطا بها. وإما أن يكون في رتبة الأشياء الروحانية متعلقا بأحوالها
العليا سعيدا بها وهو مع ذلك يطالع الأمور البدنية معتبرا بها ناظرا في
علامات القدرة الإلهية ودلالل الحكمة البالغة مقتديا بها ناظما لها مفيضا
للخيرات عليها سابقا لها نحو الأفضل، فالأفضل بحسب قبولها وعلى نحو
استطاعتها. وأي امرىء لم يحصل في إحدى هاتين المنزلتين فهو في رتبة
الأنعام بل هو أضل. وإنما صار أضل لأن تلك غير معرضة لهذه الخيرات ولا
أعطيت استطاعة تتحرك بها نحو هذه المراتب العالية. وإنما تتحرك بقواها نحو
كمالاتها الخاصة بها والإنسان معرض لها مندوب إليها مزاح العلة فيها وهو
مع ذلك غير محصل لها ولا سع نحوها.
وهو مع ذلك مؤثر لضدها يستعمل
قواه الشريفة في الأمور الدنيئة وتلك محصلة لكمالاتها التي تخصها فإذا
الأنعام إذا منعت الخيرات الإنسية حرمت جوار الأرواح الطيبة ودخول الجنة
التي وعد المتقون فهي معذورة. والإنسان غير معذور. مثل الأول مثل الأعمى
إذا جار عنالطريق فتردى في بئر فهو مرحوم غير ملوم. ومثل الثاني مثل بصير
يجور على بصيرة حتى يتردى في البئر فهو ممقوت ملوم. وإذ قد تبين أن السعيد
لا محالة في إحدى المرتبتين اللتين ذكرناها فقد تبين أيضا أن أحدهما ناقص
مقصر عن الآخر وأن الأنقص منهما ليس يخلو ولا يتعرى من الآلام والحسرات
لأجل خدائع الطبيعة والزخارف الحسية التي تعترضه فيما يلابسه وتعوقه عما
يلاحظه وتمنعه من الترقي فيها على ما ينبغي وتشغله بما يتعلق به من الأمور
الجسمانية. فصاحب هذه المرتبة غير كامل على الإطلاق ولا سعيد تام، وأن
صاحب المرتبة الأخرى هو السعيد التام وهو الذي توفر حظه من الحكمة فهو
مقيم بروحانيته بين الملاء الأعلى يستمد منهم لطائف الحكمة ويستنير بالنور
الإلهي ويستزيد من فضائله بحسب عنايته بها وقلة عوائقه عنها. ولذلك يكون
أبدا خاليا من الآلام والحسرات التي لا يخلو صاحب المرتبة الأولى منها
ويكون مسرورا أبدا بذاته مغتبطا بحاله وبما يحصل له دائما من فيض نور
الأمل فليس يسر إلا بتلك الأحوال ولا يغتبط إلا بتلك المحاسن ولا يهش إلا
لإظهار تلك الحكمة بين أهلها ولا يرتاح إلا لمن ناسبه أو قاربه وأحب
الإقتباس منه. وهذه المرتبة التي من وصل إليها فقد وصل إلى آخر السعادات
وأقصاها وهو الذي لا يبالي بفراق الأحباب من أهل الدنيا ولا يتحسر على ما
يفوته من التنعم فيها. وهو الذي يرى جسمه وماله وجميع خيرات الدنيا التي
عددناها في السعادات التي في بدنه الخارجة عنه كلها كلا عليه إلا في
ضرورات يحتاج إليها لبدنه الذي هو مربوط به لا يستطيع الإنحلال عنه إلا
عند مشيئة خالقه وهو الذي يتشاق إلى صحبة أشكاله وملاقاة من يناسبه من
الأرواح الطيبة والملائكة المقربين. وهو الذي لا يفعل إلا ما أراده الله
منه ولا يختار إلا ما قرب إليه لا يخالفه إلى شيء من شهواته الرديئة ولا
ينخدع بخدائع الطبيعة ولا يلتفت إلى شيء يعوقه عن سعادته.
وهو الذي لا
يحزن على فقد محبوب ولا يتحسر على فوت مطلوب. إلا أن هذه المرتبة الأخيرة
تتفاوت تفاوتا عظيما أعني أن من يسل إليها من الناس يكون على طبقات كثيرة
غير متقاربة.
وهاتان المرتبتان هما اللتان ساق الحكيم الكلام إليهما
واختار المرتبة الأخيرة منهما وذلك في كتابه المسمى " فضائل النفس " وأنا
أورد ألفاظه التي نقلت إلى العربية بعينها قال: ؟؟أول رتب الفضائل اول رتب
الفضائل تسمى سعادة وهي أن يصرف الإنسان إرادته ومحاولاته إلى مصالحه في
العالم المحسوس والأمور المحسوسة من أمور النفس والبدن وما كان من الأحوال
متصلا بهما ومشاركا لهما من الأمور النفسانية ويكون تصرفه في الأحوال
المحسوسة تصرفا لا يخرج به عن الإعتدال الملائم لأحواله الحسية. وهذه حال
قد يتلبس فيها الإنسان بالأهواء والشهوات إلا ان ذلك بقدر معتدل غير مفرط
وهو إلى ما ينبغي أقرب منه إلى ما لا يسيغه وذلك انه يجري أمره نحو صواب
التدبير المتوسط في كل فضيلة ولا يخرج به عن تقدير الفكر وأن لابس الأمور
المحسوسة وتصرف فيها.
ثم الرتبة الثانية وهي التي يصرف الإنسان فيها
إرادته ومحاولاته إلى الأمر الأفضل من صلاح النفس والبدن من غير أن يتلبس
مع ذلك بشيء من الأهواء والشهوات ولا يكترث بشيء من النفسيات المحسوسة إلا
بما تدعوه إليه الضرورة. ثم تتزايد رتبة الإنسان في هذا الضرب من الفضيلة.
وذلك أن الأماكن والرتب في هذا الضرب من الفضائل كثيرة بعضها فوق بعض وسبب
ذلك. اما أولا فاختلاف طبائع الناس. وثانيا على حسب العادات.
وثالثا
بحسب منازلهم ومواضعهم من الفضل والعلم والمعرفة والفهم. ورابعا بحسب
همهم. وخامسا بحسب شوقهم ومعاناتهم ويقال ايضا بحسب جدهم.
ثم تكون
النقلة في آخر هذه المرتبة أعني هذا الصنف من الفضيلة إلى الفضيلة الإلهية
المحضة. وهي التي لا يكون فيها تشوف إلى آت ولا تلفت إلى ماض ولا تشييع
لحال ولا تطلع إلى ناء ولا ضن بقريب ولا خوف ولا فزع من أمر ولا شغف بحال
ولا طلب لحظ من حظوظ الإنسانية ولا من الحظوظ النفسانية أيضا ولا ما تدعو
الضرورة إليه من حاجة البدن والقوى الطبيعية ولا القوى النفسانية. لكن
يتصرف بتصرف الخير العقلي في أعالي رتب الفضائل وهو صرف الوكد إلى الأمور
الإلهية ومعاناتها ومحاولاتها بلا طلب عوض أعني أن يكون تصرفه فيها
ومعاناته ومحاولته لها لنفس ذاتها فقط وهذه الرتبة أيضا تتزايد بالناس
بحسب الهمم والشوق وفضل المعاناة والمحاولة وقوة التحيزة؟ وصحة القة وحسب
الهمم والشوق وفضل المعاناة والمحاولة وقوة التحيزة؟ وصحة الثقة وبحسب
منزلة من بلغ إلى هذا المبلغ من الفضيلة في هذه الأحوال التي عددناها إلى
أن يكون تشبهه بالعلة الأولى واقتداؤه بها وبأفعالها.
آخر مراتب
الفضائل
وإنما يمتلأ من ذلك إذا صفا من
الأمر الطبيعي ألبتة ونفى منه نفيا كاملا. ثم حينئذ يمتلىء معرفة إلهية
وشوقا إلهيا ويوقن بالأمور الإلهية بما يتقرر في نفسه وفي ذاته التي هي
العقل كما تقررت فيه القضايا الأول التي تسمى العلوم الأوائل. إلا أن تصور
العقل ورويته في هذه الحال بالأمور الإلهية وتيقنه لها يكون بمعنى أشرف
وألطف وأظهر وأشهد انكشافا له وبيانا من القضايا الأول التي تسمىالعلوم
الأوائل العقلية. فهذه ألفاظ هذا الحكيم قد نقلتها نقلا. (وهي نقل أبي
عثمان الدمشقي. وهذا الرجل فصيح باللغتين جميعا أعني اليونانية والعربية
مرضى النقل عند جميع من طالع هاتين اللغتين وهو مع ذلك شديد التحري لا
يراد الألفاظ اليونانية ومعانيها من ألفاظ العرب ومعانيها لا تختلف في لفظ
ولامعنى، ومن رجع إلى هذا الكتاب أعني المسمى بفضائل النفس قرأ هذه
الألفاظ كما نقلتها) وليست تحصل هذه المراتب التي يترقى فيها صاحب السعادة
التامة إلا بعد أن يعلم أجزاء الحكمة كلها علما صحيحا ويستوفيها أولا أولا
كما رتبناها في كتابنا المسمى بترتيب السعادات. ومن ظن من الناس أنه يصل
إليها بغير تلك الطريقة وعلى غير ذلك المنهج فقد ظن باطلا وبعد عن الحق
بعدا كثيرا. وليتذكر في هذا الموضع الخطأ العظيم الذي وقع فيه قوم ظنوا
أنهم يدركون الفضيلة بتعطيل القوة العالمة وإهمالها وبترك النظر الخاص
بالعقل واكتفائهم بأعمال ليست مدنية ولا بحسب ما يقسطه التمييز والعقل.
وقد
سماهم
قوم العاملة والناجية. ولذلك رتبنا هذا الكتاب عقب ذلك الكتاب ليلحظ
منهما السعادة الأخيرة المطلوبة بالحكمة البالغة وتتهذب لها النفس وتتهيأ
لقبولها غسلا وتنقية من الأمور الطبيعية وشهوات الأبدان. ولذلك سميته أيضا
بكتاب طهارة الأعراق (وقد قال أرسطوطاليس في كتابه المسمى بالأخلاق) إن
هذا الكتاب لا ينتفع به الأحداث كثير منفعة ولا من هو في طبيعة الأحداث
قال ولست أعني بالحدث ههنا حدث السن لأن الزمان لا تأثير له في هذا
المعنى. وإنما أعني السيرة التي يقصدها أهل الشهوات واللذات الحسية. وأما
أنا فأقول أني ما ذكرت هذه المرتبة الأخيرة من السعادة طمعا في وصول
الأحداث إليها. بل ليمر على سمعهم فقط وليعلم أن ههنا مرتبة حكمية لا يصل
إليها إلا أهلها الأعلون مرتبة. فليلتمس كل من نظر في هذا الكتاب المرتبة
الأولى منها بالأخلاق التي وصفتها فإن وفق بعد ذلك وأعانه الشوق الشديد
والحرص التام وسائر ما ذكرناه ووصفناه عن الحكيم فليترق في درجة الحكمة
وليتصاعد فيها بجهده فإن الله عز وجل يعينه ويفقه. فإذا بلغ الإنسان إلى
غاية هذه السعادة ثم فارق بجسمه الكثيف دنياه الدنيئة وتجرد بنفسه اللطيفة
التي عنى بتطهيرها وغسلها من الأدناس الطبيعية لأخراه العلية فقد فاز وأعد
ذاته للقيا خالقه عزوجل أعدادا روحانيا لبس فيه نزاع إلى تلك القوى التي
كانت تعوقه عن سعادته ولاتشوق إليها لأنه قد تطهر منها وتنزه عنها ولم تبق
فيه إرادة لها ولا حرص عليها وقد استخلصها للقاء رب العالمين ولقبول
كراماته وفيض نوره الذي كان غير مستعد له ولا فيه قبول من عطائه ويأتيه
حينئذ الذي وعد به المتقون والأبرار كما سبق الإيماء إليه مرارا في قوله
عزوجل (فَلا تَعلَمُ نَفسٌ ما أُخفيَ لَهُم مِن قُرَةِ أَعيُن): وفي قول
النبي صلى الله عليه وسلم: {هناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على
قلب بشر}.
الرتبة الأولى من السعادة الأخيرة
وإذ قد
لخصنا أمر هاتين المنزلتين من السعادة القصوى فقد تبين بيانا كافيا أن
إحداهما بالإضافة إلينا أولى والأخرى ثانية ومن المحال أن أنسلك إلى
الثانية من غير أن نمر بالأولى فقد وجب أن نعود إلى ما بدأنا به من ذكر
الرتبة الأولى من السعادة الأخيرة ونستوفي الكلام فيها وفي الأخلاق التي
بنينا الكتاب عليها ونخلي عن بيان الرتبة الثانية إلى وقت آخر فنقول: أن
من عنى ببعض القوى التي ذكرناها دون بعض أو تعمد لإصلاحها في وقت دون وقت
لم تحصل له السعادة. وكذلك يكون حال الرجل في تدبير منزله إذا عنى ببعض
أجزائه دون بعض أو في وقت دون وقت فإنه لا يكون مدبر منزل. وكذلك حال مدبر
المدينة إذا خص بنظره طائفة دون طائفة أووقتا دون وقت لا يستحق إسم
الرياسة على الإطلاق. (وارسطوطاليس: تمثل بأن قال أن الخطاف الواحد إذا
ظهر لا يدل على طبيعة الربيع. ولا يوم واحد معتدل الهواء يبشر بالربيع.
فعلى طالب السعادة أن يطلب السيرة اللذيذة عنده فيسر بها دائما فإن تلك
السيرة هي واحدة ولذيذة في نفسها. فلذلك قلنا أنه ينبغي أن يتشوقها دائما
ويثبت عليها أبدا، ولما كانت السيرة ثلاثة لأنها تنقسم بإنقسام الغايات
الثلاثة التي يقصدها الناس. أعني سيرة اللذة وسيرة الكرامة. وسيرة الحكمة
وكنت سيرة الحكمة أشرفها وأتمها وكانت فضائل النفس كثيرة. وجب أن يفضل
الإنسان بأفضلها ويشرف بأشرفها. فسيرة الأفاضل السعداء سيرة لذيذة بنفسها
لأن أفعالهم أبدا مختارة وممدوحة وكل إنسان يلتذ بما هو محبوب عنده. يلتذ
بعدل العادل أو يلتذ بحكمة الحكيم والأفعال الفاضلة والغايات التي ينتهي
إليها بالفضائل لذيذة محبوبة فالسعادة ألذ من كل شيء " وأرسطوطاليس يقول
أن السعادة الإلهية وإن كانت كما ذكرناها من الشرف وسيرتها ألذ وأشرف من
كل سيرة فإنها محتاجة إلى السعادات الأخر الخارجة لأن تظهر بها وإلا كانت
كامنة غير ظاهرة. وإن كانت كذلك كان صاحبها كالفاضل النائم الذي لا يظهر
فعله وحينئذ لا يكون بينه وبين غيره فرق ما وصفنا حالهما فيما تقدم
فالمطلع إذا على حقيقة هذه السعادة المتمكن من إظهار فعله بها هو الذي
يلتذ بها وهو الذي يسر سرورا حقيقيا غير مموه ولا مزخرف بالباطل. وهو الذي
يخرج من حد المحبة إلى العشق والهيمان وحينئذ يأنف أن يصير سلطانه العالي
يحب سلطان بطنه وفرجه فلا يخدم بأشرف جزء فيه أخس جزء فيه. وأعني بالسرور
والمزخرف بالأباطيل اللذات التي تشاركنا فيها الحيوانات التي ليست بناطقة
فإن تلك اللذات حسية تنصرم وشيكا وتملها الحواس سريعا. فإذا دامت عليها
صارت كريهة وربما عادت مؤلمة وكما أن للحس لذة عرضية على حدة فكذلك للعقل
لذة ذاتية على حدة لأن لذة العقل لذة ذاتية ولذة الحس عرضية. فمن لا يعرف
اللذة بالحقيقة كيف يلتذ بها؟ ومن لا يعرف الرياسة الذاتية كيف يصير
إليها؟ فأنا قد قدمنا وصفها وشوقنا إليها بإعادة الكلام فيها مرارا وقلنا.
من لا يعرف الخير المطلق والفضيلة التامة ولا يعرف الحكمة العملية يعني
إيثار الأفضل والعمل به والثبات عليه لا ينشط له ولا يرتاح إليه. ومن كان
كذلك فكيف يلتذ ويتنعم بما شرحناه ودللنا عليه؟ وقد كان للحكماء المتقدمين
مثل يضربونه ويكتبونه في الهياكل " وهي مساجدهم ومصلاهم: وهو هذا الملك
الموكل بالدنيا يقول إن ههنا خيرا وهناك شرا وههنا ما ليس بخير ولا شر.
فمن عرف هذه الثلاثة حق معرفتها تخلص مني ونجا سالما. ومن لم يعرفها قتلته
شر قتلة وذلك أني لا أقتله قتلا وحيا ولكني أقتله أولا أولا في زمان طويل
" .
فهذا المثل من نظر فيه وتأمله عرف منه جميع ما قدمنا ذكره،
وينبغي أن يعلم ان السعيد الذي ذكرنا حاله ما دام حيا تحت هذا الفلك
الدائر بكواكبه ودرجاته ومطالع سعوده ونحوسه يرد عليه من النكبات والنوائب
وأنواع المحن والمصائب ما يرد على غيره. إلا أنه يذعر منها ولا يلحقه ما
يلحق غيره من المشقة في احتمالها لأنه غير مستعد لسرعة الإنفصال منها
بعادة الهلع والجزع والأحزان ولا قابل أثر الهموم والأحزان بالأحوال
العارضة. وإن أصابه من هذه الآلام شيء فهو يقدر على ضبط نفسه كيلا تنقله
عن السعادة إلى ضدها بل لا تخرجه عن حد السعادة ألبتة. ولو ابتلى ببلايا
أيوب عليه السلام وأضعافها ما اخرجه عن حد السعادة. وذلك لما يجد في نفسه
من المحافظة على شروط الشجاعة والصبر على ما يجزع منه أصحاب خور الطباع
فيكون سروره أولا بذاته وبالأحاديث الجميلة التي تنشر عنه ويرى أن القاتل
الذي يدعي الشطارة والمصارع الذي يهوي الغلبة كل واحد منهما يصبر على
شدائد عظيمة من تقطيع أعضاء نفسه وترك الشهوات التي يتمكن منها طلبا لما
يحصل له من الغلبة وانتشار الصيت فيرى نفسه أحرى وأولى منهما بالصبر إذا
كان غرضه أشرف وصيته في الفضلاء أبلغ وأشهر وأكرم ولأنه بالصبر إذا كان
غرضه أشرف وصيته في الفضلاء أبلغ وأشهر وأكرم ولأنه " يسعد في نفسه ثم
يصير قدوة لغيره. وأرسطو طاليس يقول: إن بعض الأشياء تعرض من سوء البخت
بما يكون يسيرا سهل المحتمل. فإذا عرض للإنسان وأحتمله لم يكن فيه دلالة
على كبر نفسه وعظم همته. ومن لم يكن سعيدا ولا سبقت له رياسة بهذه الصناعة
الشريفة من تهذيب الأخلاق فإنه سينفعل إنفعالا قويا فيعرض له عند حلول
المصائب إحدى الحالتين: أما الإضطراب الفاحش والألم الشديد والخروج بها
إلى الحد الذي يرثى له ويرحم وأما أن يتشبه بالسعداء ويسمع مواعظهم فيظهر
الصبر والسكون إلا أنه جزع الباطن متألم الضميرز وكما أن الأعضاء المفلوجة
إذا حركت إلى اليمين تحركت إلى الشمال كذلك تكون حركات نفوس الأشرار تتحرك
إلى خلاف ما يحملونها عليه من الجميل أعني إذا تشبهوا بالأجواد وأهل
العدالة كانت هذه حالهم " .
رأى أرسطوطاليس في بقاء النفس
من ذلك كان أيضا شنيعا. ثم أرسطوطاليس يحل
هذا الشك بأن يقول ما هذا معناه: أن سيرة الإنسان ينبغي أن تكون سيرة
محمودة لأنه يختار في كل ما يعرض له أفضل الأعمال من الصبر مرة ومن إختيار
الفضل فالأفضل مرة. ومن التصرف في الأموال إذا اتسع فيها وحسن التجمل إذا
عدمها ليكون سعيدا في جميع أحواله غير منتقل عن السعادة بوجه من الوجوه.
فالسعيد
إذا
ورد عليه نحس عظيم جعل سيرته أكثر سعادة لأنه يداريه مدارة جميلة
ويصبر على الشدائد صبرا حسنا. ومتى لم يفعل ذلك كدر سعادته ونغضها وجلب له
أحزانا وغموما تعوقه عن أفعال كثيرة. والجميل إذا ظهر من السعداء في هذه
الأحوال والأفعال كان أشد إشراقا وحسنا وذلك إذا احتمل ما كبر وعظم من
المصائب احتمالا سهلا بعد أن لا يكون ذلك لا لعدم حسه ولا لنقصان فهمه
بالأمور بل لشهامته وكبر نفسه قال: إذا كانت الأفعال هي ملاك السيرة كما
قلنا فليس يكون أحد من السعداء شقيا لأنه ليس يفعل في وقت من الأوقات
أفعالا مرذولة. فإذا كان هكذا فالسعيد أبدا يكون مغبوطا وإن حلت به
المصائب التي حلت ببرنامس ولا يكون أيضا شقيا ولا سريع التنقل من ذلك لأنه
ليس ينتقل عن السعادة بسهولة ولا تنقله عنها الأوقات اليسيرة بل لا تنقله
عنها الآفات العظيمة الكثيرة وليس يكون سعيدا إذا نالته هذه الأمور زمانا
يسيرا بل إذا ظفر بأمور جميلة في زمان طويل. ثم قال بعد قليل: وأما حال
الإنسان بعد موته فالقول بأن الآفات التي تعرض لأولاد الميت وأصدقائه
بأجمعهم ليست تتعلق به أصلا مضاد لما يعتقده جميع الناس. وإذا كانت الأمور
العارضة لهؤلاء كثيرة متيقنة وكان بعضها يتعدى إلى الميت أكثر وبعضها أقل
صارت قسمتنا إياها إلى الأشياء الجزئية بلا نهاية.
وأما إذا قيل قولا
كليا وعلى طريق الرسم فخليق أن نكتفي بما نقوله فيها وهو أنه كما أن
الآفات التي تعرض للميت في حياته بعضها يثقل عليه إحتماله ويثلم في سيرته
وبعضها يخف عليه احتماله كذلك يكون حاله فيما يعرض لأولاده وأصدقائه وكل
واحد من العوارض التي تعرض للأحياء مخالف لما يعرض لهم إذا ماتوا أكثر من
مخالفة كل ما يضرب به المثل ويشبه إن كان يصل إليهم من هذه الأشياء شيء
خيرا كان أو شرا أن يكون يسيرا نزرا بمقدار ما لا يجعل غير السعيد سعيدا
ولا ينتزع السعادة من السعداء. هذا حل أرسطوطاليس للشك الذي أورده.
لذة
السعادة
وذلك ان الطبع يكرهها فإن انصرف الإنسن إليها
بمعرفته وتمييزه احتاج فيها إلى صبر ورياضة حتى إذا تبصر فيها وتدرب لها
إنكشف له حسها وبهاؤها، وصارت عنده بمكان في الحسن. ومن هنا تبين أن
الإنسان في إبتداء تكوينه محتاج إلى سياسة الوالدين ثم إلى الشريعة
الإلهية والدين القيم حتى تهديه وتقومه إلى الحكم البالغة ليتولى تدبير
نفسه إلى آخر عمره. وقد تبين مع ذلك تعلق السعادة بالجود. وذلك أنا قد
بينا لذة فاعلة ولذة الفاعل أبدا تكون في الإعطاء ولذة المنفعل أبدا تكون
في الأخذ. ولا تظهر لذة السعيد إلا بإبراز فضائله وإظهار حكمته ووضعها
كفائته في مواضعها وكذلك البناء الحاذق والصانع اللطيف والموسيقاني
المحسن. وبالجملة كل صانع حاذق فاضل في صناعته ينسر بإظهار فضائله
وإذاعتها بين أهلها ومستحقيها. وهذا هو معنى الجود إلا أن الجود بأعلى
الأشياء وأكرمها أفضل وأشرف من الجود بأدونها وأخسها وقد عرض لهذا الجود
مع شرفه وعلو مرتبته ضد ما عرض لذلك الجود الآخر مع نزارته وقلته. وذلك أن
صاحب الأموال والمقتنيات الخارجة كلها ينتقص ماله بالإنفاق وينثلم بالبذل
وتفني ذخائره. وأما صاحب السعادة العامة فإن أمواله لا تنقص بالإنفاق بل
تزيد ولا تفنى ذخائره بالتبذير بل تنمو. وتلك معرضة للآفات الكثيرة من
الأعداء واللصوص وسائر المتسلطين وهذه محروسة من كل آفة لا سبيل للأشرار
والأعداء إليها بوجه ولا سبب. فقد ظهرت لذة السعيد كيف تكون ومن أين
تبتدىء وإلى أين تنتهي وكيف يكون السرور الحقيقي واللذة الذاتية. وتبين
أيضا أنها أبدية وتامة وإلهية وأن ضدها هو الشقاء لذاته بالضد وعلى العكس
أعني أن لذاته كلها عرضية ومنتقلة عن طبائعها إلى أضدادها حتى مؤلمة أو
مكروهة وأنها غير إلهية بل شيطانية وغير ممدوحة بل هي مذمومة. وذلك بأن
ينظر في السعادة هل هي ممدوحة. فإن ارسطوطاليس يقول أن الأشياء التي هي في
غاية الفضل لا يوجد لها مدح لأنها أفضل وأمدح وأجل من أن تمدح قال: وذلك
أنا قد ننسب المتأهلين والخيار من الناس إلى السعادة وليس يوجد أحد من
الناس يمدح السعادة نفسها كما يمدح العدل. لكنه يجلها ويكرمها إلى أنها
أمر إلهي بالأشياء التي هي أفضل من المدح وهو الله تعالى وإلى الخير فإن
المدح هو الفضيلة والعمل بها. ثم انتهى كلامه هذا إلى أن قال: فالله تعالى
أكرم وأشرف من أن يمدح بل إنما يمجدونه ونحن نمجد الله تعالى ونقدسه
تمجيدا كثيرا.
وأما السعادة فلأنها أمر إلهي وإنما تفعل الأشياء كلها
لأجلها فهي كذلك أيضا ممجدة. فعلى هذا الأمر ينبغي أن لا تمدح السعادة
لأنها أجل من كل مدح بل نمجدها في نفسها وتمدح الأمور كلها بها وبقدر
قسطها منها.
المقالة الرابعة
وهذه
الأفعال قد تظهر ممن ليس بسعيد ولا فاضل. وذلك أنه قد يعمل بعض الناس عمل
العدول وليس بعادل ويعمل عمل الشجعان وليس بشجاع ويعمل عمل الإعفاء وليس
بعفيف. مثال ذلك أن من ترك الشهوات من المآكل والمشارب وسائر اللذات التي
ينهمك فيها غيره إما أنه ينتظر منها أكثر مما يحضره وإما لأنه لا يعرفها
ولم يباشرها كالأعراب الذين يبعدون عن البلاد وكالرعاة في البوادي وقلل
الجبال. وإما لأنه ممتلىء مما يجده ويحضره وإما لجمود شهوته ونقصان
تركيبه. وإما لأنه استشعر خوفا من تناولها مكروها يلحقه بسببها. وإما لأنه
ممنوع منها. فإن هؤلاء كلهم يعملون عمل الإعفاء وليسوا بإعفاء على الحقيقة
وإنما يسمى عفيفا على الحقيقة من وفي العفة حدها المذكور فيما تقدم
واختارها لنفسها لا لغرض آخر غيرها وآثرها لأنها فضيلة ثم تناول كل واحدة
من شهواته بمقدار الحاجة ومن الوجه الذي يعمل أعمال الشجعان وليس بشجاع.
وذلك أن من باشر الحروب وأقدم على ركوب الأهوال لبعض مايوصل إليه المال أو
لبعض الرغبات التي لا تحد كثرة فإن الأهوال لبعض ما يوصل إليه المال أو
لبعض ما يوصل إليه المال أو لبعض الرغبات التي لا تحد كثرة فإن مثل هذا
يعمل عمل الشجعان ولكن يعمله بطبيعة الشره لا بطبيعة الفضيلة التي تدعي
شجاعة. وكل من كان أكثر إقداما واصبر على الأهوال لهذه الأحوال يجب أن
يكون أكثر شرها ونهما لا أكثر شجاعة. وذلك أنه يخاطر بنفسه الشريفة ويصبر
على المكاره العظيمة طمعا في المال وما يصل إليه بالمال. وقد رأينا أهل
الشقاوة يعملون عمل الإعفاء وعمل الشجعان وهم أبعد الناس عن كل فضيلة.
وذلك أنهم يصبرون عن الشهوات كلها ويصبرون على عقوبات السلطان وضرب السياط
وتقطيع الأعضاء والجراحات التي لا يؤمن منها وينتهون فيها لأقصى الصبر على
الصلب وثمل العيون وقطع الأيدي والأرجل وضروب التمثيل طلبا لإسم وذكر بين
قوم في مثل حالهم من سوء الإختيار ونقصان الفضائل. وقد يعمل أيضا عمل
الشجعان من يخاف لأئمة عشيرته أوعقوبة سلطان أو خوف سقوط جاهه أو ما أشبه
ذلك.
وقد يعمل عمل الشجعان من اتفق له مرارا كثيرة أن يغلب أقرانه
فهو يقدم ثقة منه بالعادة الجارية وجهلا بمواقع الإتفاقات. وقد يعمل عمل
الشجعان العشاق وذلك أنهم يركبون الأهوال في طلب المعشوق لرغبتهم في
الفجور أو لحرصهم على متعة العين منه لا لطلب الفضيلة ولا لإختيار الموت
الجميل على الحياة الرديئة كما يفعل الشجاع بالحقيقة. وأما شجاعة الأسد.
وذلك أنها قد وثقت بقوتها وأنها تفوق غيرها فهي تقدم لا بطبيعة الشجاعة بل
لتمام القدرة وثقة النفس والغلبة. وهو كصاحب السلاح منا إذا قدم على
الأعزل. وليست هذه شجاعة مع عدم الإختيار الذي يستعمله الشجاع وذلك أن
الشجاع خوفه من الأمر أشد من خوفه من الموت ولذلك يختار الموت الجميل على
الحياة القبيحة. على أن لذة الشجاع ليست تكون في مبادىء أموره فإن مباديء
الأمور تكون مؤذية له لكنها تكون في عواقب الأمور وتكون أيضا باقية مدة
عمره وبعد عمره لا سيما إذا حامى عن دينه وعن اعتقاداته الصحيحة في
وحدانية الله عز وجل والشريعة التي هي سياسة الله وسنته العادلة التي بها
مصالح العباد في الدنيا والآخرة. فإن مثل هذا فكر في قصر مدة عمره وعلم
أنه لا محالة يحامي عن دينه ويمنع العدو من استباحة حريمه والتغلب على
مدينته ويأنف من الفرار ويعلم أن الجبان إذا اختار الفرار فإنما يستبقي
شيئا هو لا محالة فإن زائل وأن تأخر أياما معدودة. ثم هو في هذه الحياة
اليسيرة ممفوت مكدر الحياة بالذل وضروب الصغار. وهذه حال الشجاع مع قوى
نفسه أعني بمقاومة شهواته واستسلامه لذات الشجاعة بعينها. ومن سمع كلام
الإمام صلوات الله عليه الذي صدوره عن حقيقة الشجاع إذ قال لأصحابه: {أيها
الناس إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفس ابن أب يطالب بيده لألف ضربة بالسيف
على الرأس أهون من ميتة على الفراش}. تبين له أن جميع ما أحصيناه للإنسان
ليس بمعدود فيها وإن كان يشبهها بالصورة. ذلك أنه ليس كل من يقدم على
الأهوال فهو شجاع ولا كل من لا يخاف من الفضائح فهو شجاع. وذلك أن من لا
يفزع من ذهاب شرفه أوف ضيحة حرمه أو عند حدوث الرجفات والزلازل والصواعق
أو الزمانة في الأمراض أو عدم الإخوان والأصدقاء أو عند إضطراب البحر وخول
الأمواج والهواء الهائج فهو بأن يوصف بالجنون مرة وبالقحة مرة أولى بأن
يوصف بالشجاعة.
إن
الإنسان ذو فضيلة روحانية يناسب بها الأرواح الطيبة التي تسمى ملائكة وذو
فضيلة جسمانية يناسب بها الأنعام لأنه مركب منهما فهو بالخير الجسماني
الذي يناسب به الأنعام مقيم في هذا العالم السفلي مدة قصيرة ليعمره وينظمه
ويرتبه. حتى إذا ظفر بهذه المرتبة على الكمال انتقل إلى العالم العلوي
وأقام فيه دائما سرمدا في صحبة الملائكة والأرواح الطيبة وينبغي أن يفهم
من قولنا العالم السفلي والعالم االعلوي ما ذكرناه فيما تقدم. فإنا قد
قلنا هناك أنا لسنا نعني بالعلوي المكان العلى في الحس ولا بالعالم السفلي
المكان الأسفل في الحس بل كل محسوس فهو أسفل وإنكان محسوسا في المكان
الأعلى. وكل معقول فيهو أعلى وإن كان معقولا في المكان الأسفل وينبغي أن
يعلم أنه لا يحتاج في صحة الأرواح الطيبة المستغنية عن الأبدان إلى شيء من
السعادات البدنية التي ذكرناها سوى سعادة النفس فقط أعني المعقولات
الأبدية التي هي الحكمة فقط. فإذا ما دام الإنسان إنسانا فلا تتم له
السعادة إلا بتحصيل الحالين جميعا وليس يحصلان على التمام إلا بالأشياء
النافعة في الوصول إلى الحكمة الأبدية. فالسعيد إذا من الناس يكون في إحدى
مرتبتين. إما في مرتبة الأشياء الجسمانية متعلقا بأحوالها السفلى سعيدا
بها وهو مع ذلك يطالع الأمور الشريفة باحثا عنها مشتقا إليها متحركا نحوها
مغتبطا بها. وإما أن يكون في رتبة الأشياء الروحانية متعلقا بأحوالها
العليا سعيدا بها وهو مع ذلك يطالع الأمور البدنية معتبرا بها ناظرا في
علامات القدرة الإلهية ودلالل الحكمة البالغة مقتديا بها ناظما لها مفيضا
للخيرات عليها سابقا لها نحو الأفضل، فالأفضل بحسب قبولها وعلى نحو
استطاعتها. وأي امرىء لم يحصل في إحدى هاتين المنزلتين فهو في رتبة
الأنعام بل هو أضل. وإنما صار أضل لأن تلك غير معرضة لهذه الخيرات ولا
أعطيت استطاعة تتحرك بها نحو هذه المراتب العالية. وإنما تتحرك بقواها نحو
كمالاتها الخاصة بها والإنسان معرض لها مندوب إليها مزاح العلة فيها وهو
مع ذلك غير محصل لها ولا سع نحوها.
وهو مع ذلك مؤثر لضدها يستعمل
قواه الشريفة في الأمور الدنيئة وتلك محصلة لكمالاتها التي تخصها فإذا
الأنعام إذا منعت الخيرات الإنسية حرمت جوار الأرواح الطيبة ودخول الجنة
التي وعد المتقون فهي معذورة. والإنسان غير معذور. مثل الأول مثل الأعمى
إذا جار عنالطريق فتردى في بئر فهو مرحوم غير ملوم. ومثل الثاني مثل بصير
يجور على بصيرة حتى يتردى في البئر فهو ممقوت ملوم. وإذ قد تبين أن السعيد
لا محالة في إحدى المرتبتين اللتين ذكرناها فقد تبين أيضا أن أحدهما ناقص
مقصر عن الآخر وأن الأنقص منهما ليس يخلو ولا يتعرى من الآلام والحسرات
لأجل خدائع الطبيعة والزخارف الحسية التي تعترضه فيما يلابسه وتعوقه عما
يلاحظه وتمنعه من الترقي فيها على ما ينبغي وتشغله بما يتعلق به من الأمور
الجسمانية. فصاحب هذه المرتبة غير كامل على الإطلاق ولا سعيد تام، وأن
صاحب المرتبة الأخرى هو السعيد التام وهو الذي توفر حظه من الحكمة فهو
مقيم بروحانيته بين الملاء الأعلى يستمد منهم لطائف الحكمة ويستنير بالنور
الإلهي ويستزيد من فضائله بحسب عنايته بها وقلة عوائقه عنها. ولذلك يكون
أبدا خاليا من الآلام والحسرات التي لا يخلو صاحب المرتبة الأولى منها
ويكون مسرورا أبدا بذاته مغتبطا بحاله وبما يحصل له دائما من فيض نور
الأمل فليس يسر إلا بتلك الأحوال ولا يغتبط إلا بتلك المحاسن ولا يهش إلا
لإظهار تلك الحكمة بين أهلها ولا يرتاح إلا لمن ناسبه أو قاربه وأحب
الإقتباس منه. وهذه المرتبة التي من وصل إليها فقد وصل إلى آخر السعادات
وأقصاها وهو الذي لا يبالي بفراق الأحباب من أهل الدنيا ولا يتحسر على ما
يفوته من التنعم فيها. وهو الذي يرى جسمه وماله وجميع خيرات الدنيا التي
عددناها في السعادات التي في بدنه الخارجة عنه كلها كلا عليه إلا في
ضرورات يحتاج إليها لبدنه الذي هو مربوط به لا يستطيع الإنحلال عنه إلا
عند مشيئة خالقه وهو الذي يتشاق إلى صحبة أشكاله وملاقاة من يناسبه من
الأرواح الطيبة والملائكة المقربين. وهو الذي لا يفعل إلا ما أراده الله
منه ولا يختار إلا ما قرب إليه لا يخالفه إلى شيء من شهواته الرديئة ولا
ينخدع بخدائع الطبيعة ولا يلتفت إلى شيء يعوقه عن سعادته.
وهو الذي لا
يحزن على فقد محبوب ولا يتحسر على فوت مطلوب. إلا أن هذه المرتبة الأخيرة
تتفاوت تفاوتا عظيما أعني أن من يسل إليها من الناس يكون على طبقات كثيرة
غير متقاربة.
وهاتان المرتبتان هما اللتان ساق الحكيم الكلام إليهما
واختار المرتبة الأخيرة منهما وذلك في كتابه المسمى " فضائل النفس " وأنا
أورد ألفاظه التي نقلت إلى العربية بعينها قال: ؟؟أول رتب الفضائل اول رتب
الفضائل تسمى سعادة وهي أن يصرف الإنسان إرادته ومحاولاته إلى مصالحه في
العالم المحسوس والأمور المحسوسة من أمور النفس والبدن وما كان من الأحوال
متصلا بهما ومشاركا لهما من الأمور النفسانية ويكون تصرفه في الأحوال
المحسوسة تصرفا لا يخرج به عن الإعتدال الملائم لأحواله الحسية. وهذه حال
قد يتلبس فيها الإنسان بالأهواء والشهوات إلا ان ذلك بقدر معتدل غير مفرط
وهو إلى ما ينبغي أقرب منه إلى ما لا يسيغه وذلك انه يجري أمره نحو صواب
التدبير المتوسط في كل فضيلة ولا يخرج به عن تقدير الفكر وأن لابس الأمور
المحسوسة وتصرف فيها.
ثم الرتبة الثانية وهي التي يصرف الإنسان فيها
إرادته ومحاولاته إلى الأمر الأفضل من صلاح النفس والبدن من غير أن يتلبس
مع ذلك بشيء من الأهواء والشهوات ولا يكترث بشيء من النفسيات المحسوسة إلا
بما تدعوه إليه الضرورة. ثم تتزايد رتبة الإنسان في هذا الضرب من الفضيلة.
وذلك أن الأماكن والرتب في هذا الضرب من الفضائل كثيرة بعضها فوق بعض وسبب
ذلك. اما أولا فاختلاف طبائع الناس. وثانيا على حسب العادات.
وثالثا
بحسب منازلهم ومواضعهم من الفضل والعلم والمعرفة والفهم. ورابعا بحسب
همهم. وخامسا بحسب شوقهم ومعاناتهم ويقال ايضا بحسب جدهم.
ثم تكون
النقلة في آخر هذه المرتبة أعني هذا الصنف من الفضيلة إلى الفضيلة الإلهية
المحضة. وهي التي لا يكون فيها تشوف إلى آت ولا تلفت إلى ماض ولا تشييع
لحال ولا تطلع إلى ناء ولا ضن بقريب ولا خوف ولا فزع من أمر ولا شغف بحال
ولا طلب لحظ من حظوظ الإنسانية ولا من الحظوظ النفسانية أيضا ولا ما تدعو
الضرورة إليه من حاجة البدن والقوى الطبيعية ولا القوى النفسانية. لكن
يتصرف بتصرف الخير العقلي في أعالي رتب الفضائل وهو صرف الوكد إلى الأمور
الإلهية ومعاناتها ومحاولاتها بلا طلب عوض أعني أن يكون تصرفه فيها
ومعاناته ومحاولته لها لنفس ذاتها فقط وهذه الرتبة أيضا تتزايد بالناس
بحسب الهمم والشوق وفضل المعاناة والمحاولة وقوة التحيزة؟ وصحة القة وحسب
الهمم والشوق وفضل المعاناة والمحاولة وقوة التحيزة؟ وصحة الثقة وبحسب
منزلة من بلغ إلى هذا المبلغ من الفضيلة في هذه الأحوال التي عددناها إلى
أن يكون تشبهه بالعلة الأولى واقتداؤه بها وبأفعالها.
آخر مراتب
الفضائل
وآخر
المراتب في الفضيلة أن تكون أفعال الإنسان كلها أفعال الهية وهذه الأفعال
هي خير محض والفعل إذا كان خيرا محضا فليس يفعله فاعله من أجل شيء آخر غير
الفعل نفسه. وذلك أن الخير المحض هو غاية متوخاة لذاتها أي هو الأمر
المطلوب المقصود لذاته. والأمر الذي هو غاية متوخاة لذاتها أي هو الأمر
المطلوب المقصود لذاته. والأمر الذي هو غاية في نهاية النفاسة ليس يكون من
أجل شيء آخر. فأفعال الإنسان إذا صارت كلها إلاهية فهي كلها إنما تصدر عن
لبه وذاته الحقيقية التي هي عقله الإلهي الذي هو ذاته بالحقيقة وتزول
وتتهدر سائر دواعي طباعه البدني بسائر عوارض النفسين البهيميتين وعوارض
التخيل المتولد عنهما وعن دواعي نفسه الحسية فلا يبقى له حينئذ ارادة ولا
همة خارجتان عن فعله من أجلهما يفعل مايفعل. لكنه يفعل ما يفعله بلا إرادة
ولا همة في سوي الفعل أي لا يكون غرضه في فعله غير ذات الفعل وهذا هو سبيل
العقل الإلهي. فهذه الحال هي آخر رتب الفضائل التي يتقبل فيها الإنسان
أفعال المبدأ الأول خالق الكل عز وجل.
أعني أن يكون فيما يفعله لا يطلب
به حظا ولا مجازاة ولا عوضا ولا زيادة لكن يكون فعله بعينه هو غرضه أي ليس
يفعل من أجل شيء آخر سوى ذات الفعل. ومعنى ذاته هو أن لا يفعل ما يفعله من
أجل شيء غير فعله نفسه وذاته نفسها هي الفعل الإلهي نفسه وهكذا يفعل
الباري تعالى لذاته لا من أجل شيء آخر خارج عنه. وذلك أن فعل الإنسان في
هذه الحال يكون كما قلنا خيرا محضا وحكمة محضة فيبدأ بالفعل لنفس إظهار
الفعل فقط لا لغاية أخرى يتوخاها بالفعل وهكذا فعل الله عز وجل الخاص به
ليس هو على القصد الأول من أجل شيء خارج عن ذاته. أعني ليس ذلك من أجل
سياسة الأشياء التي نحن بعضها لأنه لو كان كذلك لكانت أفعاله حينئذ من أجل
سياسة الشياء التي نحن بعضها لأنه لو كان كذلك لكانت أفعاله حينئذ إنما
كانت وتكون وتتم بمشارفة الأمور التي من خارج ولتدبيرها وتدبير أحوالها
وإهتمامه بها.
وعلى هذا تكون الأشياء التي من خارج أسبابا وعللا
لأفعاله. وهذا شنيع قبيح تعالى الله عنه علوا كبيرا. لكن عنايته عزوجل
بالأشياء التي من خارج وفعله الذي يدبرها به ويرفدها إنما هو على القصد
الثاني وليس يفعل ما يفعله من أجل الأشياء أنفسها لكن من أجل ذاته أيضا.
وذلك لأجل أن ذاته تفضل لذاتها لا من أجل المفضل عليه ولا من أجل شيء آخر.
وهكذا سبيل الإنسان إذا بلغ إلى الغاية القصوى في الإمكان من الإقتداء
بالباري عز وجل وتكون أفعاله التي يفعلها على القصد الأول من أجل ذلك
الغير لكن يفعل بذلك الغير ما يفعله به بقصد ثان وفعله ذلك من أجل ذاته
بالقصد الأول ومن اجل الفعل نفسه أي لنفس الفضيلة ولنفس الخير لأن فعله
ذلك فضيلة وخير ففعله لنفس الفعل لا لإجتلاب منفعة ولا لدفع مضرة ولا
للتباهي وطلب الرياسة ومحبة الكرامة فهذا هو غرض الفلسفة ومنهى السعادة.
إلا أن الإنسان لا يصل إلى هذه الحال حتى تفني إرادته كلها التي بحسب
الأمور الخارجة وتفني العوارض النفسانية وتموت خواطره التي تكون عن
العوارض ويمتلىء شعارا إلهيا وهمة إلهية.
المراتب في الفضيلة أن تكون أفعال الإنسان كلها أفعال الهية وهذه الأفعال
هي خير محض والفعل إذا كان خيرا محضا فليس يفعله فاعله من أجل شيء آخر غير
الفعل نفسه. وذلك أن الخير المحض هو غاية متوخاة لذاتها أي هو الأمر
المطلوب المقصود لذاته. والأمر الذي هو غاية متوخاة لذاتها أي هو الأمر
المطلوب المقصود لذاته. والأمر الذي هو غاية في نهاية النفاسة ليس يكون من
أجل شيء آخر. فأفعال الإنسان إذا صارت كلها إلاهية فهي كلها إنما تصدر عن
لبه وذاته الحقيقية التي هي عقله الإلهي الذي هو ذاته بالحقيقة وتزول
وتتهدر سائر دواعي طباعه البدني بسائر عوارض النفسين البهيميتين وعوارض
التخيل المتولد عنهما وعن دواعي نفسه الحسية فلا يبقى له حينئذ ارادة ولا
همة خارجتان عن فعله من أجلهما يفعل مايفعل. لكنه يفعل ما يفعله بلا إرادة
ولا همة في سوي الفعل أي لا يكون غرضه في فعله غير ذات الفعل وهذا هو سبيل
العقل الإلهي. فهذه الحال هي آخر رتب الفضائل التي يتقبل فيها الإنسان
أفعال المبدأ الأول خالق الكل عز وجل.
أعني أن يكون فيما يفعله لا يطلب
به حظا ولا مجازاة ولا عوضا ولا زيادة لكن يكون فعله بعينه هو غرضه أي ليس
يفعل من أجل شيء آخر سوى ذات الفعل. ومعنى ذاته هو أن لا يفعل ما يفعله من
أجل شيء غير فعله نفسه وذاته نفسها هي الفعل الإلهي نفسه وهكذا يفعل
الباري تعالى لذاته لا من أجل شيء آخر خارج عنه. وذلك أن فعل الإنسان في
هذه الحال يكون كما قلنا خيرا محضا وحكمة محضة فيبدأ بالفعل لنفس إظهار
الفعل فقط لا لغاية أخرى يتوخاها بالفعل وهكذا فعل الله عز وجل الخاص به
ليس هو على القصد الأول من أجل شيء خارج عن ذاته. أعني ليس ذلك من أجل
سياسة الأشياء التي نحن بعضها لأنه لو كان كذلك لكانت أفعاله حينئذ من أجل
سياسة الشياء التي نحن بعضها لأنه لو كان كذلك لكانت أفعاله حينئذ إنما
كانت وتكون وتتم بمشارفة الأمور التي من خارج ولتدبيرها وتدبير أحوالها
وإهتمامه بها.
وعلى هذا تكون الأشياء التي من خارج أسبابا وعللا
لأفعاله. وهذا شنيع قبيح تعالى الله عنه علوا كبيرا. لكن عنايته عزوجل
بالأشياء التي من خارج وفعله الذي يدبرها به ويرفدها إنما هو على القصد
الثاني وليس يفعل ما يفعله من أجل الأشياء أنفسها لكن من أجل ذاته أيضا.
وذلك لأجل أن ذاته تفضل لذاتها لا من أجل المفضل عليه ولا من أجل شيء آخر.
وهكذا سبيل الإنسان إذا بلغ إلى الغاية القصوى في الإمكان من الإقتداء
بالباري عز وجل وتكون أفعاله التي يفعلها على القصد الأول من أجل ذلك
الغير لكن يفعل بذلك الغير ما يفعله به بقصد ثان وفعله ذلك من أجل ذاته
بالقصد الأول ومن اجل الفعل نفسه أي لنفس الفضيلة ولنفس الخير لأن فعله
ذلك فضيلة وخير ففعله لنفس الفعل لا لإجتلاب منفعة ولا لدفع مضرة ولا
للتباهي وطلب الرياسة ومحبة الكرامة فهذا هو غرض الفلسفة ومنهى السعادة.
إلا أن الإنسان لا يصل إلى هذه الحال حتى تفني إرادته كلها التي بحسب
الأمور الخارجة وتفني العوارض النفسانية وتموت خواطره التي تكون عن
العوارض ويمتلىء شعارا إلهيا وهمة إلهية.
وإنما يمتلأ من ذلك إذا صفا من
الأمر الطبيعي ألبتة ونفى منه نفيا كاملا. ثم حينئذ يمتلىء معرفة إلهية
وشوقا إلهيا ويوقن بالأمور الإلهية بما يتقرر في نفسه وفي ذاته التي هي
العقل كما تقررت فيه القضايا الأول التي تسمى العلوم الأوائل. إلا أن تصور
العقل ورويته في هذه الحال بالأمور الإلهية وتيقنه لها يكون بمعنى أشرف
وألطف وأظهر وأشهد انكشافا له وبيانا من القضايا الأول التي تسمىالعلوم
الأوائل العقلية. فهذه ألفاظ هذا الحكيم قد نقلتها نقلا. (وهي نقل أبي
عثمان الدمشقي. وهذا الرجل فصيح باللغتين جميعا أعني اليونانية والعربية
مرضى النقل عند جميع من طالع هاتين اللغتين وهو مع ذلك شديد التحري لا
يراد الألفاظ اليونانية ومعانيها من ألفاظ العرب ومعانيها لا تختلف في لفظ
ولامعنى، ومن رجع إلى هذا الكتاب أعني المسمى بفضائل النفس قرأ هذه
الألفاظ كما نقلتها) وليست تحصل هذه المراتب التي يترقى فيها صاحب السعادة
التامة إلا بعد أن يعلم أجزاء الحكمة كلها علما صحيحا ويستوفيها أولا أولا
كما رتبناها في كتابنا المسمى بترتيب السعادات. ومن ظن من الناس أنه يصل
إليها بغير تلك الطريقة وعلى غير ذلك المنهج فقد ظن باطلا وبعد عن الحق
بعدا كثيرا. وليتذكر في هذا الموضع الخطأ العظيم الذي وقع فيه قوم ظنوا
أنهم يدركون الفضيلة بتعطيل القوة العالمة وإهمالها وبترك النظر الخاص
بالعقل واكتفائهم بأعمال ليست مدنية ولا بحسب ما يقسطه التمييز والعقل.
وقد
سماهم
قوم العاملة والناجية. ولذلك رتبنا هذا الكتاب عقب ذلك الكتاب ليلحظ
منهما السعادة الأخيرة المطلوبة بالحكمة البالغة وتتهذب لها النفس وتتهيأ
لقبولها غسلا وتنقية من الأمور الطبيعية وشهوات الأبدان. ولذلك سميته أيضا
بكتاب طهارة الأعراق (وقد قال أرسطوطاليس في كتابه المسمى بالأخلاق) إن
هذا الكتاب لا ينتفع به الأحداث كثير منفعة ولا من هو في طبيعة الأحداث
قال ولست أعني بالحدث ههنا حدث السن لأن الزمان لا تأثير له في هذا
المعنى. وإنما أعني السيرة التي يقصدها أهل الشهوات واللذات الحسية. وأما
أنا فأقول أني ما ذكرت هذه المرتبة الأخيرة من السعادة طمعا في وصول
الأحداث إليها. بل ليمر على سمعهم فقط وليعلم أن ههنا مرتبة حكمية لا يصل
إليها إلا أهلها الأعلون مرتبة. فليلتمس كل من نظر في هذا الكتاب المرتبة
الأولى منها بالأخلاق التي وصفتها فإن وفق بعد ذلك وأعانه الشوق الشديد
والحرص التام وسائر ما ذكرناه ووصفناه عن الحكيم فليترق في درجة الحكمة
وليتصاعد فيها بجهده فإن الله عز وجل يعينه ويفقه. فإذا بلغ الإنسان إلى
غاية هذه السعادة ثم فارق بجسمه الكثيف دنياه الدنيئة وتجرد بنفسه اللطيفة
التي عنى بتطهيرها وغسلها من الأدناس الطبيعية لأخراه العلية فقد فاز وأعد
ذاته للقيا خالقه عزوجل أعدادا روحانيا لبس فيه نزاع إلى تلك القوى التي
كانت تعوقه عن سعادته ولاتشوق إليها لأنه قد تطهر منها وتنزه عنها ولم تبق
فيه إرادة لها ولا حرص عليها وقد استخلصها للقاء رب العالمين ولقبول
كراماته وفيض نوره الذي كان غير مستعد له ولا فيه قبول من عطائه ويأتيه
حينئذ الذي وعد به المتقون والأبرار كما سبق الإيماء إليه مرارا في قوله
عزوجل (فَلا تَعلَمُ نَفسٌ ما أُخفيَ لَهُم مِن قُرَةِ أَعيُن): وفي قول
النبي صلى الله عليه وسلم: {هناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على
قلب بشر}.
الرتبة الأولى من السعادة الأخيرة
وإذ قد
لخصنا أمر هاتين المنزلتين من السعادة القصوى فقد تبين بيانا كافيا أن
إحداهما بالإضافة إلينا أولى والأخرى ثانية ومن المحال أن أنسلك إلى
الثانية من غير أن نمر بالأولى فقد وجب أن نعود إلى ما بدأنا به من ذكر
الرتبة الأولى من السعادة الأخيرة ونستوفي الكلام فيها وفي الأخلاق التي
بنينا الكتاب عليها ونخلي عن بيان الرتبة الثانية إلى وقت آخر فنقول: أن
من عنى ببعض القوى التي ذكرناها دون بعض أو تعمد لإصلاحها في وقت دون وقت
لم تحصل له السعادة. وكذلك يكون حال الرجل في تدبير منزله إذا عنى ببعض
أجزائه دون بعض أو في وقت دون وقت فإنه لا يكون مدبر منزل. وكذلك حال مدبر
المدينة إذا خص بنظره طائفة دون طائفة أووقتا دون وقت لا يستحق إسم
الرياسة على الإطلاق. (وارسطوطاليس: تمثل بأن قال أن الخطاف الواحد إذا
ظهر لا يدل على طبيعة الربيع. ولا يوم واحد معتدل الهواء يبشر بالربيع.
فعلى طالب السعادة أن يطلب السيرة اللذيذة عنده فيسر بها دائما فإن تلك
السيرة هي واحدة ولذيذة في نفسها. فلذلك قلنا أنه ينبغي أن يتشوقها دائما
ويثبت عليها أبدا، ولما كانت السيرة ثلاثة لأنها تنقسم بإنقسام الغايات
الثلاثة التي يقصدها الناس. أعني سيرة اللذة وسيرة الكرامة. وسيرة الحكمة
وكنت سيرة الحكمة أشرفها وأتمها وكانت فضائل النفس كثيرة. وجب أن يفضل
الإنسان بأفضلها ويشرف بأشرفها. فسيرة الأفاضل السعداء سيرة لذيذة بنفسها
لأن أفعالهم أبدا مختارة وممدوحة وكل إنسان يلتذ بما هو محبوب عنده. يلتذ
بعدل العادل أو يلتذ بحكمة الحكيم والأفعال الفاضلة والغايات التي ينتهي
إليها بالفضائل لذيذة محبوبة فالسعادة ألذ من كل شيء " وأرسطوطاليس يقول
أن السعادة الإلهية وإن كانت كما ذكرناها من الشرف وسيرتها ألذ وأشرف من
كل سيرة فإنها محتاجة إلى السعادات الأخر الخارجة لأن تظهر بها وإلا كانت
كامنة غير ظاهرة. وإن كانت كذلك كان صاحبها كالفاضل النائم الذي لا يظهر
فعله وحينئذ لا يكون بينه وبين غيره فرق ما وصفنا حالهما فيما تقدم
فالمطلع إذا على حقيقة هذه السعادة المتمكن من إظهار فعله بها هو الذي
يلتذ بها وهو الذي يسر سرورا حقيقيا غير مموه ولا مزخرف بالباطل. وهو الذي
يخرج من حد المحبة إلى العشق والهيمان وحينئذ يأنف أن يصير سلطانه العالي
يحب سلطان بطنه وفرجه فلا يخدم بأشرف جزء فيه أخس جزء فيه. وأعني بالسرور
والمزخرف بالأباطيل اللذات التي تشاركنا فيها الحيوانات التي ليست بناطقة
فإن تلك اللذات حسية تنصرم وشيكا وتملها الحواس سريعا. فإذا دامت عليها
صارت كريهة وربما عادت مؤلمة وكما أن للحس لذة عرضية على حدة فكذلك للعقل
لذة ذاتية على حدة لأن لذة العقل لذة ذاتية ولذة الحس عرضية. فمن لا يعرف
اللذة بالحقيقة كيف يلتذ بها؟ ومن لا يعرف الرياسة الذاتية كيف يصير
إليها؟ فأنا قد قدمنا وصفها وشوقنا إليها بإعادة الكلام فيها مرارا وقلنا.
من لا يعرف الخير المطلق والفضيلة التامة ولا يعرف الحكمة العملية يعني
إيثار الأفضل والعمل به والثبات عليه لا ينشط له ولا يرتاح إليه. ومن كان
كذلك فكيف يلتذ ويتنعم بما شرحناه ودللنا عليه؟ وقد كان للحكماء المتقدمين
مثل يضربونه ويكتبونه في الهياكل " وهي مساجدهم ومصلاهم: وهو هذا الملك
الموكل بالدنيا يقول إن ههنا خيرا وهناك شرا وههنا ما ليس بخير ولا شر.
فمن عرف هذه الثلاثة حق معرفتها تخلص مني ونجا سالما. ومن لم يعرفها قتلته
شر قتلة وذلك أني لا أقتله قتلا وحيا ولكني أقتله أولا أولا في زمان طويل
" .
فهذا المثل من نظر فيه وتأمله عرف منه جميع ما قدمنا ذكره،
وينبغي أن يعلم ان السعيد الذي ذكرنا حاله ما دام حيا تحت هذا الفلك
الدائر بكواكبه ودرجاته ومطالع سعوده ونحوسه يرد عليه من النكبات والنوائب
وأنواع المحن والمصائب ما يرد على غيره. إلا أنه يذعر منها ولا يلحقه ما
يلحق غيره من المشقة في احتمالها لأنه غير مستعد لسرعة الإنفصال منها
بعادة الهلع والجزع والأحزان ولا قابل أثر الهموم والأحزان بالأحوال
العارضة. وإن أصابه من هذه الآلام شيء فهو يقدر على ضبط نفسه كيلا تنقله
عن السعادة إلى ضدها بل لا تخرجه عن حد السعادة ألبتة. ولو ابتلى ببلايا
أيوب عليه السلام وأضعافها ما اخرجه عن حد السعادة. وذلك لما يجد في نفسه
من المحافظة على شروط الشجاعة والصبر على ما يجزع منه أصحاب خور الطباع
فيكون سروره أولا بذاته وبالأحاديث الجميلة التي تنشر عنه ويرى أن القاتل
الذي يدعي الشطارة والمصارع الذي يهوي الغلبة كل واحد منهما يصبر على
شدائد عظيمة من تقطيع أعضاء نفسه وترك الشهوات التي يتمكن منها طلبا لما
يحصل له من الغلبة وانتشار الصيت فيرى نفسه أحرى وأولى منهما بالصبر إذا
كان غرضه أشرف وصيته في الفضلاء أبلغ وأشهر وأكرم ولأنه بالصبر إذا كان
غرضه أشرف وصيته في الفضلاء أبلغ وأشهر وأكرم ولأنه " يسعد في نفسه ثم
يصير قدوة لغيره. وأرسطو طاليس يقول: إن بعض الأشياء تعرض من سوء البخت
بما يكون يسيرا سهل المحتمل. فإذا عرض للإنسان وأحتمله لم يكن فيه دلالة
على كبر نفسه وعظم همته. ومن لم يكن سعيدا ولا سبقت له رياسة بهذه الصناعة
الشريفة من تهذيب الأخلاق فإنه سينفعل إنفعالا قويا فيعرض له عند حلول
المصائب إحدى الحالتين: أما الإضطراب الفاحش والألم الشديد والخروج بها
إلى الحد الذي يرثى له ويرحم وأما أن يتشبه بالسعداء ويسمع مواعظهم فيظهر
الصبر والسكون إلا أنه جزع الباطن متألم الضميرز وكما أن الأعضاء المفلوجة
إذا حركت إلى اليمين تحركت إلى الشمال كذلك تكون حركات نفوس الأشرار تتحرك
إلى خلاف ما يحملونها عليه من الجميل أعني إذا تشبهوا بالأجواد وأهل
العدالة كانت هذه حالهم " .
رأى أرسطوطاليس في بقاء النفس
ومما
يستدل
به من كلام أرسطوطاليس على أنه كان يقول ببقاء النفس والمعاد: كلامه
المتداول في كتاب الأخلاق وهو هذا قال " قد حكمنا أن السعادة شيء ثابت غير
متغير وقد علمنا أيضا أن الإنسان قد تلحقه تغيرات كثيرة واتفاقات شتى.
فإنه قد يمكن لمن لمن هو أرغد الناس عيشا أن يصاب بمصائب عظيمة كمارمز في
برنامس. ومن يتفق له هذه المصائب ومات عليها فليس يسميه أحد من الناس
سعيدا. وليس ينبغي على هذا القياس أن يسمي إنسان من الناس سعيدا ما دام
حيا بل ينتظر به آخر عمره ثم يحكم عليه.
فالإنسان إذا أنما يصير سعيدا
إذا مات. إلا أن هذا قول في غاية الشناعة إذا كنا نقول أن السعادة هي خير
ما. ثم قال في هذا الموضع أيضا موضع شك. ثم قال في هذا الموضع أيضا موضع
شك فإنه قد يظن بالميت أن يلحقه خير وشر إذ يلحق الحي أيضا وهو لا يحس به
مثل الكرامة أو الهوان واستقامة أمر الأولاد وأولاد الأولاد. ففي هذه
الأشياء خير لأنه قد يمكن فيمن عاش عمره كله إلى أن يبلغ الشيخوخة سعيدا
وتوفى على هذا السبيل أن يلحقه مثل هذه التغيرات في أولاده حتى يكون بعضهم
خيارا حسن السيرة وبعضهم يضد ذلك. ومن البين أنه قد يمكن أن يوجد بين
الآباء والأولاد تباين وإختلاف بكل جهة. ولكن من المنكر أن يكون الميت
بتغير غيره يصير مرة سعيدا ومرةأخرى شقيا. ومن المنكر أن لا تكون أمور
الأولاد متصلة بالوالدين في وقت من الأوقات. ولكن ينبغي أن نعود إلى ما
كان الشك واقعا فيه. فهذا الشك الذي أورده أرسطوطاليس على نفسه في هذا
الموضع هو شك من يعتقد أن للإنسان بعد موته أحوالا وأنه يتصل به لا محالة
من أمور أولاده وأولاد اولاده أحوال مختلفة بحسب أخلاق سير الأولاد. فكيف
تقول ليت شعري في الإنسان إذا مات سعيدا ثم لحقه من شقا بعض أولاده أو سوء
سيرة من يحيا من نسله ما يكون ضد سيرته وهو حي فإنه أن غير سعادته كان هذا
شنيعا وإن لم يلحقه أيضا شيء.
يستدل
به من كلام أرسطوطاليس على أنه كان يقول ببقاء النفس والمعاد: كلامه
المتداول في كتاب الأخلاق وهو هذا قال " قد حكمنا أن السعادة شيء ثابت غير
متغير وقد علمنا أيضا أن الإنسان قد تلحقه تغيرات كثيرة واتفاقات شتى.
فإنه قد يمكن لمن لمن هو أرغد الناس عيشا أن يصاب بمصائب عظيمة كمارمز في
برنامس. ومن يتفق له هذه المصائب ومات عليها فليس يسميه أحد من الناس
سعيدا. وليس ينبغي على هذا القياس أن يسمي إنسان من الناس سعيدا ما دام
حيا بل ينتظر به آخر عمره ثم يحكم عليه.
فالإنسان إذا أنما يصير سعيدا
إذا مات. إلا أن هذا قول في غاية الشناعة إذا كنا نقول أن السعادة هي خير
ما. ثم قال في هذا الموضع أيضا موضع شك. ثم قال في هذا الموضع أيضا موضع
شك فإنه قد يظن بالميت أن يلحقه خير وشر إذ يلحق الحي أيضا وهو لا يحس به
مثل الكرامة أو الهوان واستقامة أمر الأولاد وأولاد الأولاد. ففي هذه
الأشياء خير لأنه قد يمكن فيمن عاش عمره كله إلى أن يبلغ الشيخوخة سعيدا
وتوفى على هذا السبيل أن يلحقه مثل هذه التغيرات في أولاده حتى يكون بعضهم
خيارا حسن السيرة وبعضهم يضد ذلك. ومن البين أنه قد يمكن أن يوجد بين
الآباء والأولاد تباين وإختلاف بكل جهة. ولكن من المنكر أن يكون الميت
بتغير غيره يصير مرة سعيدا ومرةأخرى شقيا. ومن المنكر أن لا تكون أمور
الأولاد متصلة بالوالدين في وقت من الأوقات. ولكن ينبغي أن نعود إلى ما
كان الشك واقعا فيه. فهذا الشك الذي أورده أرسطوطاليس على نفسه في هذا
الموضع هو شك من يعتقد أن للإنسان بعد موته أحوالا وأنه يتصل به لا محالة
من أمور أولاده وأولاد اولاده أحوال مختلفة بحسب أخلاق سير الأولاد. فكيف
تقول ليت شعري في الإنسان إذا مات سعيدا ثم لحقه من شقا بعض أولاده أو سوء
سيرة من يحيا من نسله ما يكون ضد سيرته وهو حي فإنه أن غير سعادته كان هذا
شنيعا وإن لم يلحقه أيضا شيء.
من ذلك كان أيضا شنيعا. ثم أرسطوطاليس يحل
هذا الشك بأن يقول ما هذا معناه: أن سيرة الإنسان ينبغي أن تكون سيرة
محمودة لأنه يختار في كل ما يعرض له أفضل الأعمال من الصبر مرة ومن إختيار
الفضل فالأفضل مرة. ومن التصرف في الأموال إذا اتسع فيها وحسن التجمل إذا
عدمها ليكون سعيدا في جميع أحواله غير منتقل عن السعادة بوجه من الوجوه.
فالسعيد
إذا
ورد عليه نحس عظيم جعل سيرته أكثر سعادة لأنه يداريه مدارة جميلة
ويصبر على الشدائد صبرا حسنا. ومتى لم يفعل ذلك كدر سعادته ونغضها وجلب له
أحزانا وغموما تعوقه عن أفعال كثيرة. والجميل إذا ظهر من السعداء في هذه
الأحوال والأفعال كان أشد إشراقا وحسنا وذلك إذا احتمل ما كبر وعظم من
المصائب احتمالا سهلا بعد أن لا يكون ذلك لا لعدم حسه ولا لنقصان فهمه
بالأمور بل لشهامته وكبر نفسه قال: إذا كانت الأفعال هي ملاك السيرة كما
قلنا فليس يكون أحد من السعداء شقيا لأنه ليس يفعل في وقت من الأوقات
أفعالا مرذولة. فإذا كان هكذا فالسعيد أبدا يكون مغبوطا وإن حلت به
المصائب التي حلت ببرنامس ولا يكون أيضا شقيا ولا سريع التنقل من ذلك لأنه
ليس ينتقل عن السعادة بسهولة ولا تنقله عنها الأوقات اليسيرة بل لا تنقله
عنها الآفات العظيمة الكثيرة وليس يكون سعيدا إذا نالته هذه الأمور زمانا
يسيرا بل إذا ظفر بأمور جميلة في زمان طويل. ثم قال بعد قليل: وأما حال
الإنسان بعد موته فالقول بأن الآفات التي تعرض لأولاد الميت وأصدقائه
بأجمعهم ليست تتعلق به أصلا مضاد لما يعتقده جميع الناس. وإذا كانت الأمور
العارضة لهؤلاء كثيرة متيقنة وكان بعضها يتعدى إلى الميت أكثر وبعضها أقل
صارت قسمتنا إياها إلى الأشياء الجزئية بلا نهاية.
وأما إذا قيل قولا
كليا وعلى طريق الرسم فخليق أن نكتفي بما نقوله فيها وهو أنه كما أن
الآفات التي تعرض للميت في حياته بعضها يثقل عليه إحتماله ويثلم في سيرته
وبعضها يخف عليه احتماله كذلك يكون حاله فيما يعرض لأولاده وأصدقائه وكل
واحد من العوارض التي تعرض للأحياء مخالف لما يعرض لهم إذا ماتوا أكثر من
مخالفة كل ما يضرب به المثل ويشبه إن كان يصل إليهم من هذه الأشياء شيء
خيرا كان أو شرا أن يكون يسيرا نزرا بمقدار ما لا يجعل غير السعيد سعيدا
ولا ينتزع السعادة من السعداء. هذا حل أرسطوطاليس للشك الذي أورده.
لذة
السعادة
ولما
قلنا أن السعادة ألذ الأشياء وأفضلها وأجودها وأوضحها وجب أن يبين وجه
اللذة فيها بأتم بيان كما قلناه فيما مضى. أن اللذة تنقسم إلى قسمين
أحدهما لذة انفعالية والأخرى لذة فعلية أي فاعلة. فأما اللذة الإنفعالية
فهي شبيهة بلذة الإناث واللذة الفاعلة تشبه لذة الذكور. ولذلك صارت اللذة
الأنفعالية هي التي تشاركنا في الحيوانات التي ليست بناطقة وذلك أنها
مقترنة بالشهوات ومحبة الإنتقام وهي انفعالات النفسين البهيميتين. وأما
اللذة الأخرى فهي الفاعلة وهي التي يختص بها الحيوان الناطق ولأنها غير
هيولانية ولا منفعلة انفعالا لأنها صارت لذة تامة وتلك ناقصة وهذه ذاتية
وتلك عرضية. وأعني بالذاتية والعرضية أن اللذات الحسية المقترنة بالشهوات
تزول سريعا وتنقضي وشيكا بل تنقلب لذاتها فتصير غير لذات بل تصير آلاما
كثيرة أو مكروهة بشعة مستقبحة وهذه أضداد اللذة ومقابلاتها. وأما اللذة
الذاتية فإنها لا تصير في وقت آخر غير لذة ولا تنتقل عن حالتها بل هي
ثابتة أبدا. وإذا كانت كذلك فقد صح حكمنا ووضح أن السعيد تكون لذته ذاتية
لا عرضية وعقلية لا حسبة وفعلية لا انفعالية والهية لا بهيمية. ولذلك قالت
الحكماء أن اللذة إذا كانت صحيحة ساقت البدن من النقص إلى التمام ومن
السقم إلى الصحة.
وكذلك تسوق النفس من الجهل إلى العلم ومن الرذيلة إلى
الفضيلة. إلا أن ههنا سرا ينبغي أن يقف عليه المتعلم وهو أن ميله إلى
اللذة الحسية ميل قوي جدا وشوقه إليها شوق مزعج ولا تزيد العادة في قوة
الطبع الذي لنا كبير زيادة لفرط ما جبلنا عليه في البدء من القوة والشوق.
ولذلك متى كانت هذه اللذة حسية قبيحة جدا ثم مال الطبع إليها بافراط
وانفعل عنها بقوة استحسن الإنسان فيها كل قبيح وهون على نفسه منها كل صعب
ولا يرى موضع الغلط ولا مكان القبيح حتى تبصره الحكمة. وأما اللذة العقلية
الجميلة فأمرها بالضد.
قلنا أن السعادة ألذ الأشياء وأفضلها وأجودها وأوضحها وجب أن يبين وجه
اللذة فيها بأتم بيان كما قلناه فيما مضى. أن اللذة تنقسم إلى قسمين
أحدهما لذة انفعالية والأخرى لذة فعلية أي فاعلة. فأما اللذة الإنفعالية
فهي شبيهة بلذة الإناث واللذة الفاعلة تشبه لذة الذكور. ولذلك صارت اللذة
الأنفعالية هي التي تشاركنا في الحيوانات التي ليست بناطقة وذلك أنها
مقترنة بالشهوات ومحبة الإنتقام وهي انفعالات النفسين البهيميتين. وأما
اللذة الأخرى فهي الفاعلة وهي التي يختص بها الحيوان الناطق ولأنها غير
هيولانية ولا منفعلة انفعالا لأنها صارت لذة تامة وتلك ناقصة وهذه ذاتية
وتلك عرضية. وأعني بالذاتية والعرضية أن اللذات الحسية المقترنة بالشهوات
تزول سريعا وتنقضي وشيكا بل تنقلب لذاتها فتصير غير لذات بل تصير آلاما
كثيرة أو مكروهة بشعة مستقبحة وهذه أضداد اللذة ومقابلاتها. وأما اللذة
الذاتية فإنها لا تصير في وقت آخر غير لذة ولا تنتقل عن حالتها بل هي
ثابتة أبدا. وإذا كانت كذلك فقد صح حكمنا ووضح أن السعيد تكون لذته ذاتية
لا عرضية وعقلية لا حسبة وفعلية لا انفعالية والهية لا بهيمية. ولذلك قالت
الحكماء أن اللذة إذا كانت صحيحة ساقت البدن من النقص إلى التمام ومن
السقم إلى الصحة.
وكذلك تسوق النفس من الجهل إلى العلم ومن الرذيلة إلى
الفضيلة. إلا أن ههنا سرا ينبغي أن يقف عليه المتعلم وهو أن ميله إلى
اللذة الحسية ميل قوي جدا وشوقه إليها شوق مزعج ولا تزيد العادة في قوة
الطبع الذي لنا كبير زيادة لفرط ما جبلنا عليه في البدء من القوة والشوق.
ولذلك متى كانت هذه اللذة حسية قبيحة جدا ثم مال الطبع إليها بافراط
وانفعل عنها بقوة استحسن الإنسان فيها كل قبيح وهون على نفسه منها كل صعب
ولا يرى موضع الغلط ولا مكان القبيح حتى تبصره الحكمة. وأما اللذة العقلية
الجميلة فأمرها بالضد.
وذلك ان الطبع يكرهها فإن انصرف الإنسن إليها
بمعرفته وتمييزه احتاج فيها إلى صبر ورياضة حتى إذا تبصر فيها وتدرب لها
إنكشف له حسها وبهاؤها، وصارت عنده بمكان في الحسن. ومن هنا تبين أن
الإنسان في إبتداء تكوينه محتاج إلى سياسة الوالدين ثم إلى الشريعة
الإلهية والدين القيم حتى تهديه وتقومه إلى الحكم البالغة ليتولى تدبير
نفسه إلى آخر عمره. وقد تبين مع ذلك تعلق السعادة بالجود. وذلك أنا قد
بينا لذة فاعلة ولذة الفاعل أبدا تكون في الإعطاء ولذة المنفعل أبدا تكون
في الأخذ. ولا تظهر لذة السعيد إلا بإبراز فضائله وإظهار حكمته ووضعها
كفائته في مواضعها وكذلك البناء الحاذق والصانع اللطيف والموسيقاني
المحسن. وبالجملة كل صانع حاذق فاضل في صناعته ينسر بإظهار فضائله
وإذاعتها بين أهلها ومستحقيها. وهذا هو معنى الجود إلا أن الجود بأعلى
الأشياء وأكرمها أفضل وأشرف من الجود بأدونها وأخسها وقد عرض لهذا الجود
مع شرفه وعلو مرتبته ضد ما عرض لذلك الجود الآخر مع نزارته وقلته. وذلك أن
صاحب الأموال والمقتنيات الخارجة كلها ينتقص ماله بالإنفاق وينثلم بالبذل
وتفني ذخائره. وأما صاحب السعادة العامة فإن أمواله لا تنقص بالإنفاق بل
تزيد ولا تفنى ذخائره بالتبذير بل تنمو. وتلك معرضة للآفات الكثيرة من
الأعداء واللصوص وسائر المتسلطين وهذه محروسة من كل آفة لا سبيل للأشرار
والأعداء إليها بوجه ولا سبب. فقد ظهرت لذة السعيد كيف تكون ومن أين
تبتدىء وإلى أين تنتهي وكيف يكون السرور الحقيقي واللذة الذاتية. وتبين
أيضا أنها أبدية وتامة وإلهية وأن ضدها هو الشقاء لذاته بالضد وعلى العكس
أعني أن لذاته كلها عرضية ومنتقلة عن طبائعها إلى أضدادها حتى مؤلمة أو
مكروهة وأنها غير إلهية بل شيطانية وغير ممدوحة بل هي مذمومة. وذلك بأن
ينظر في السعادة هل هي ممدوحة. فإن ارسطوطاليس يقول أن الأشياء التي هي في
غاية الفضل لا يوجد لها مدح لأنها أفضل وأمدح وأجل من أن تمدح قال: وذلك
أنا قد ننسب المتأهلين والخيار من الناس إلى السعادة وليس يوجد أحد من
الناس يمدح السعادة نفسها كما يمدح العدل. لكنه يجلها ويكرمها إلى أنها
أمر إلهي بالأشياء التي هي أفضل من المدح وهو الله تعالى وإلى الخير فإن
المدح هو الفضيلة والعمل بها. ثم انتهى كلامه هذا إلى أن قال: فالله تعالى
أكرم وأشرف من أن يمدح بل إنما يمجدونه ونحن نمجد الله تعالى ونقدسه
تمجيدا كثيرا.
وأما السعادة فلأنها أمر إلهي وإنما تفعل الأشياء كلها
لأجلها فهي كذلك أيضا ممجدة. فعلى هذا الأمر ينبغي أن لا تمدح السعادة
لأنها أجل من كل مدح بل نمجدها في نفسها وتمدح الأمور كلها بها وبقدر
قسطها منها.
المقالة الرابعة
(ظهور الفضائل ممن ليس
بسعيد ولا فاضل) قد قلنا فيما سلف أن السعادة تظهر في الأفعال من العدالة
والشجاعة والعفة وسائر ما تحت هذه الأنواع التي أحصيناها وحددناها.
بسعيد ولا فاضل) قد قلنا فيما سلف أن السعادة تظهر في الأفعال من العدالة
والشجاعة والعفة وسائر ما تحت هذه الأنواع التي أحصيناها وحددناها.
وهذه
الأفعال قد تظهر ممن ليس بسعيد ولا فاضل. وذلك أنه قد يعمل بعض الناس عمل
العدول وليس بعادل ويعمل عمل الشجعان وليس بشجاع ويعمل عمل الإعفاء وليس
بعفيف. مثال ذلك أن من ترك الشهوات من المآكل والمشارب وسائر اللذات التي
ينهمك فيها غيره إما أنه ينتظر منها أكثر مما يحضره وإما لأنه لا يعرفها
ولم يباشرها كالأعراب الذين يبعدون عن البلاد وكالرعاة في البوادي وقلل
الجبال. وإما لأنه ممتلىء مما يجده ويحضره وإما لجمود شهوته ونقصان
تركيبه. وإما لأنه استشعر خوفا من تناولها مكروها يلحقه بسببها. وإما لأنه
ممنوع منها. فإن هؤلاء كلهم يعملون عمل الإعفاء وليسوا بإعفاء على الحقيقة
وإنما يسمى عفيفا على الحقيقة من وفي العفة حدها المذكور فيما تقدم
واختارها لنفسها لا لغرض آخر غيرها وآثرها لأنها فضيلة ثم تناول كل واحدة
من شهواته بمقدار الحاجة ومن الوجه الذي يعمل أعمال الشجعان وليس بشجاع.
وذلك أن من باشر الحروب وأقدم على ركوب الأهوال لبعض مايوصل إليه المال أو
لبعض الرغبات التي لا تحد كثرة فإن الأهوال لبعض ما يوصل إليه المال أو
لبعض ما يوصل إليه المال أو لبعض الرغبات التي لا تحد كثرة فإن مثل هذا
يعمل عمل الشجعان ولكن يعمله بطبيعة الشره لا بطبيعة الفضيلة التي تدعي
شجاعة. وكل من كان أكثر إقداما واصبر على الأهوال لهذه الأحوال يجب أن
يكون أكثر شرها ونهما لا أكثر شجاعة. وذلك أنه يخاطر بنفسه الشريفة ويصبر
على المكاره العظيمة طمعا في المال وما يصل إليه بالمال. وقد رأينا أهل
الشقاوة يعملون عمل الإعفاء وعمل الشجعان وهم أبعد الناس عن كل فضيلة.
وذلك أنهم يصبرون عن الشهوات كلها ويصبرون على عقوبات السلطان وضرب السياط
وتقطيع الأعضاء والجراحات التي لا يؤمن منها وينتهون فيها لأقصى الصبر على
الصلب وثمل العيون وقطع الأيدي والأرجل وضروب التمثيل طلبا لإسم وذكر بين
قوم في مثل حالهم من سوء الإختيار ونقصان الفضائل. وقد يعمل أيضا عمل
الشجعان من يخاف لأئمة عشيرته أوعقوبة سلطان أو خوف سقوط جاهه أو ما أشبه
ذلك.
وقد يعمل عمل الشجعان من اتفق له مرارا كثيرة أن يغلب أقرانه
فهو يقدم ثقة منه بالعادة الجارية وجهلا بمواقع الإتفاقات. وقد يعمل عمل
الشجعان العشاق وذلك أنهم يركبون الأهوال في طلب المعشوق لرغبتهم في
الفجور أو لحرصهم على متعة العين منه لا لطلب الفضيلة ولا لإختيار الموت
الجميل على الحياة الرديئة كما يفعل الشجاع بالحقيقة. وأما شجاعة الأسد.
وذلك أنها قد وثقت بقوتها وأنها تفوق غيرها فهي تقدم لا بطبيعة الشجاعة بل
لتمام القدرة وثقة النفس والغلبة. وهو كصاحب السلاح منا إذا قدم على
الأعزل. وليست هذه شجاعة مع عدم الإختيار الذي يستعمله الشجاع وذلك أن
الشجاع خوفه من الأمر أشد من خوفه من الموت ولذلك يختار الموت الجميل على
الحياة القبيحة. على أن لذة الشجاع ليست تكون في مبادىء أموره فإن مباديء
الأمور تكون مؤذية له لكنها تكون في عواقب الأمور وتكون أيضا باقية مدة
عمره وبعد عمره لا سيما إذا حامى عن دينه وعن اعتقاداته الصحيحة في
وحدانية الله عز وجل والشريعة التي هي سياسة الله وسنته العادلة التي بها
مصالح العباد في الدنيا والآخرة. فإن مثل هذا فكر في قصر مدة عمره وعلم
أنه لا محالة يحامي عن دينه ويمنع العدو من استباحة حريمه والتغلب على
مدينته ويأنف من الفرار ويعلم أن الجبان إذا اختار الفرار فإنما يستبقي
شيئا هو لا محالة فإن زائل وأن تأخر أياما معدودة. ثم هو في هذه الحياة
اليسيرة ممفوت مكدر الحياة بالذل وضروب الصغار. وهذه حال الشجاع مع قوى
نفسه أعني بمقاومة شهواته واستسلامه لذات الشجاعة بعينها. ومن سمع كلام
الإمام صلوات الله عليه الذي صدوره عن حقيقة الشجاع إذ قال لأصحابه: {أيها
الناس إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفس ابن أب يطالب بيده لألف ضربة بالسيف
على الرأس أهون من ميتة على الفراش}. تبين له أن جميع ما أحصيناه للإنسان
ليس بمعدود فيها وإن كان يشبهها بالصورة. ذلك أنه ليس كل من يقدم على
الأهوال فهو شجاع ولا كل من لا يخاف من الفضائح فهو شجاع. وذلك أن من لا
يفزع من ذهاب شرفه أوف ضيحة حرمه أو عند حدوث الرجفات والزلازل والصواعق
أو الزمانة في الأمراض أو عدم الإخوان والأصدقاء أو عند إضطراب البحر وخول
الأمواج والهواء الهائج فهو بأن يوصف بالجنون مرة وبالقحة مرة أولى بأن
يوصف بالشجاعة.
وكذلك من خاطر بنفسه في وقت الأمن والطمأنينة بأن
يثب من سطح عال أو يصعد مرتقى صعبا أو يحمل نفسه على خوض ماء غزير وهو لا
يحسن السباحة أو يساور جملا هائجا أو ثورا صعبا او فرسا لم يرض من غير
ضرورة تدعوه إلى ذلك بل مرآة بالشجاعة وإظهار مرتبة الشجعان فهو بأن يسمى
مطرمذا مائقا أولى منه بأن يسمى شجاعا. وأما من خنق نفسه خوفا من الفقر أو
الذل أو أهلكها بالسم وما أشبهه من باب الضيم فهو بأن يوصف بالجبن أولى
منه بأن يوصف بالشجاعة. وذلك أن الإقدام وقع منه بطبيعة الجبن لا بطبيعة
الشجاعة فإن الشجاع يصير على مايرد عليه من الشدائد صبرا جميلا ويعمل
أعمالا تليق بتلك الحال كما شرحناه فيما تقدم. ولذلك يجب أن يعظم الشجاع
ويشح بنفسه وحقيق على السلطان خاصة والقيم بأمر الدين والملك أن ينافس فيه
ويجل قدره ويعلي خطره ويميزه عن سائر من يتشبه به ممن ذكرناه. فقد تبين من
جميع ما قلناه أن الشجاع هو الذي يستهين بالشدائد في الأمور الجميلة ويصبر
على الأمور الهائلة ويستخف بما يستعظمه عوام الناس حتى بالموت لإختيار
الأمر الأفضل ولا يحزن على مالا درك فيه ولا يضطرب عندما يفدحه من المصائب
ويكون غضبه إذا غضب بمقدار ما يجب وعلى من يجب وفي الوقت الذي يجب. وكذلك
يكون انتقامه على هذه الشرائط فإن الحكماء قالوا أن من لاينتقم يلحق قلبه
ذبول فإذا انتقم عاد إلى حالته من النشاط وهذا الإنتقام إذا كان بحسب
الشجاعة كان محمودا وإذا لم يكن كذلك كان مذموما. فقد نقل إلينا في
الأخبار المأثورة عمن أقدم على سلطان قوي ورام أن ينتقم منه فأهلك نفسه من
غير أن يضر سلطانه روايات كثيرة وكذلك حال من أقدم على قرن قوي أو خصم ألد
لا يستطيع مقاومته فإن الإنتقام منه يعود وبالا عليه وزيادة في الذل
والعجز. فإذا ليست تنم شرائط الشجاعة والعفة إلا للحكيم الذي يستعمل كل
شيء في موضعه الخاص به ويقدر أقساط العقل له. فكل شجاع عفيف حكيم وكل حكيم
شجاع عفيف وهذه الحال بعينها تظهر فيمن عمل عمل الإسخياء وليس بسخي. وذلك
أن من بذل أمواله في شهواته طلبا للسمعة والرياء أو تقربا إلى السلطان أو
لدفع مضرة عن نفسه وحرمه وأولاده أو بذلها لمن لا يستحق من أهل الشر
أوالملهين أو المساخرين أو بذلها لطمع في أكثر منها على سبيل التجارة
والمرابحة فكل هؤلاء يعمل عمل الإسخياء وليس بسخي. أما بعضهم فيبذل ماله
بطبيعة الشره وأما بعضهم فبطبيعة الطرمذة والرياء وبعضهم على طريق
الإزدياد من المال والربح فيه وأما بعضهم فعلى سبيل التبذير وقلة المعرفة
بقدر المال. وهذا أكثر ما يعرض للوارث ولمن لا يتعب في اكتساب المال فلا
يعرف صعوبة الأمر فيه. وذلك أن المال صعب الإكتساب سهل الإنفاق والتفرقة
قد شبهه الحكماء بمن يرفع حملا ثقيلا إلى قلة جبل ثم يرسله فإن الأمر في
ترقيته واصعاده صعب ولكن إرساله من هناك أمر سهل.
يثب من سطح عال أو يصعد مرتقى صعبا أو يحمل نفسه على خوض ماء غزير وهو لا
يحسن السباحة أو يساور جملا هائجا أو ثورا صعبا او فرسا لم يرض من غير
ضرورة تدعوه إلى ذلك بل مرآة بالشجاعة وإظهار مرتبة الشجعان فهو بأن يسمى
مطرمذا مائقا أولى منه بأن يسمى شجاعا. وأما من خنق نفسه خوفا من الفقر أو
الذل أو أهلكها بالسم وما أشبهه من باب الضيم فهو بأن يوصف بالجبن أولى
منه بأن يوصف بالشجاعة. وذلك أن الإقدام وقع منه بطبيعة الجبن لا بطبيعة
الشجاعة فإن الشجاع يصير على مايرد عليه من الشدائد صبرا جميلا ويعمل
أعمالا تليق بتلك الحال كما شرحناه فيما تقدم. ولذلك يجب أن يعظم الشجاع
ويشح بنفسه وحقيق على السلطان خاصة والقيم بأمر الدين والملك أن ينافس فيه
ويجل قدره ويعلي خطره ويميزه عن سائر من يتشبه به ممن ذكرناه. فقد تبين من
جميع ما قلناه أن الشجاع هو الذي يستهين بالشدائد في الأمور الجميلة ويصبر
على الأمور الهائلة ويستخف بما يستعظمه عوام الناس حتى بالموت لإختيار
الأمر الأفضل ولا يحزن على مالا درك فيه ولا يضطرب عندما يفدحه من المصائب
ويكون غضبه إذا غضب بمقدار ما يجب وعلى من يجب وفي الوقت الذي يجب. وكذلك
يكون انتقامه على هذه الشرائط فإن الحكماء قالوا أن من لاينتقم يلحق قلبه
ذبول فإذا انتقم عاد إلى حالته من النشاط وهذا الإنتقام إذا كان بحسب
الشجاعة كان محمودا وإذا لم يكن كذلك كان مذموما. فقد نقل إلينا في
الأخبار المأثورة عمن أقدم على سلطان قوي ورام أن ينتقم منه فأهلك نفسه من
غير أن يضر سلطانه روايات كثيرة وكذلك حال من أقدم على قرن قوي أو خصم ألد
لا يستطيع مقاومته فإن الإنتقام منه يعود وبالا عليه وزيادة في الذل
والعجز. فإذا ليست تنم شرائط الشجاعة والعفة إلا للحكيم الذي يستعمل كل
شيء في موضعه الخاص به ويقدر أقساط العقل له. فكل شجاع عفيف حكيم وكل حكيم
شجاع عفيف وهذه الحال بعينها تظهر فيمن عمل عمل الإسخياء وليس بسخي. وذلك
أن من بذل أمواله في شهواته طلبا للسمعة والرياء أو تقربا إلى السلطان أو
لدفع مضرة عن نفسه وحرمه وأولاده أو بذلها لمن لا يستحق من أهل الشر
أوالملهين أو المساخرين أو بذلها لطمع في أكثر منها على سبيل التجارة
والمرابحة فكل هؤلاء يعمل عمل الإسخياء وليس بسخي. أما بعضهم فيبذل ماله
بطبيعة الشره وأما بعضهم فبطبيعة الطرمذة والرياء وبعضهم على طريق
الإزدياد من المال والربح فيه وأما بعضهم فعلى سبيل التبذير وقلة المعرفة
بقدر المال. وهذا أكثر ما يعرض للوارث ولمن لا يتعب في اكتساب المال فلا
يعرف صعوبة الأمر فيه. وذلك أن المال صعب الإكتساب سهل الإنفاق والتفرقة
قد شبهه الحكماء بمن يرفع حملا ثقيلا إلى قلة جبل ثم يرسله فإن الأمر في
ترقيته واصعاده صعب ولكن إرساله من هناك أمر سهل.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الحاجة إلى المال واكتسابه بالطرق الشريفة العادلة
فهذه أحوال المكتسبين للأموال ومنفقيها وكذلك حال من عمل عمل
العدول وليس بعدل. وذلك أنه إذا عدل في بعض الأمور مراآة ليصل به إلى
كرامة أو مال أو غير ذلك من الشهوات أو لغرض آخر مما عددناه فيما تقدم
فليس يسمي عادلا وإنما يعمل عمل العدول للغرض الذي يقصده. وينبغي أن ينسب
فعله إلى غرضه فإنه بحسب هذا يفعل ذلك كما قلنا وشرحنا.
العادل
وأما العدالة التي تقع في المظالم والأمور
القسمية فهي بالنسبة المساحية أشبه وذلك أن الإنسان متى كان على نسبة من
إنسان آخر فأبطل هذه النسبة بحيف أو ضرر يلحقه به، فإن العدالة توجب أن
يلحق به ضرر مثله ليعود التناسب إلى ما كان عليه. فالعادل من شأنه أن
يساوي بين الأشياء الغير المتساوية.
مثال ذلك أن الخط إذا قسم بقسمين
غير متساويين نقص من الزائد وزاد على الناقص حتى يحصل له التساوي ويذهب
عنه معنى القلة والكثرة ومعنى الزيادة والنقصان وكذلك الخفة والثقل وجميع
ما أشبه ذلك. ولكن ينبغي أن يكون عالما بطبيعة الوسط حتى يمكنه أن يرد
الطرفين إليه مثال ذلك الربح والخسران فإنهما في باب المعاملات طرفان
أحدهما زيادة والآخر نقصان فإذا أخذ أقل مما يجب صار إلى جانب النقصان وإن
أخذ أكثر مما يجب كان خارجا إلى جانب الزيادة.
لزوم الشريعة في
المعاملات
فالإمام العادل الحاكم
بالسوية يبطل هذه الأنواع ويخلف صاحب الشريعة في حفظ المساواة فهو لا يعطي
ذاته من الخيرات أكثر مما يعطي غيره. ولذلك قيل في الخبر أن الخلافة تطهر
الإنسان. قال فأما العامة فإنها تؤهل لمرتبة الإمامة التي هي الخلافة
العامة بما ذكرناه. من كان شريفا في حسبه ونسبه وبعضهم يؤهل لذلك من كان
كثير المال. وأما العقلاء فإنهم يؤهلون لذلك من كان حكيما فاضلا فإن
الحكمة والفضيلة هي التي تعطي الرياسات والسيادات الحقيقية وهي التي رتبت
الثاني والأول في مرتبتيهما وفضلتهما.
أسباب المضرات
إن
ارسطوطاليس قسم العدالة إلى أقسام ثلاثة: أحدها ما يقوم به الناس لرب
العالمين. وهو أن يجري الإنسان فيما بينه وبين الخالق عزوجل على ما ينبغي
وبحسب ما يجب عليه من حقه وبقدر طاقته. وذلك أن العدل إذا كان هو اعطاء ما
يجب من يجب كما يجب. فمن المحال ان لا يكون لله تعالى الذي وهب لنا هذه
الخيرات العظيمة واجب ينبغي أن يقوم به الناس. والثاني ما يقوم به بعض
الناس لبعض من أداء الحقوق وتعظيم الرؤساء وتأدية الآمانات والنصفة في
المعاملات. والثالث ما يقومون به من حقوق أسلافهم مثل أداء الديون عنهم
وإنفاذ وصاياهم وما أشبه ذلك فهذا ما قاله ارسطوطاليس وأما تحقيق ما قاله،
مما يجب لله عز وجل وإن كان ظاهرا فأنا نقول فيه ما يليق بهذا الموضع. وهو
أن العدالة لما كانت تظهر في الأخذ والإعطاء وفي الكرامة التي ذكرناها.
وجب أن يكون لما يصل إلينا من عطيات الخالق عز وجل ونعمه التي لا تحصى حق
يقابل عليه. وذلك أن من أعطى خيرا ما وإن كان قليلا ثم لم ير أن يقابله
بضرب من المقابلة فهو جائر. فكيف به إذا أعطى جما كثيرا وأخد أخذا دائما
ثم لم يعط في مقابلته شيء البتة. ثم على قدر النعمة التي تصل إلى الإنسان
يجب أن يكون إجتهاده في المقابلة عليها. مثال ذلك أن الملك الفاضل إذا أمن
السرب وبسط العدل وأوسع العمارة وحمى الحريم وذب عن الحوزة ومنع من
التظالم ووفر الناس على ما يختارونه من مصالحهم ومعايشهم. فقد أحسن إلى كل
واحد من رعيته إحسانا يخصه في نفسه وإن كان قد عمهم بالخير واستحق من كل
واحد منهم أن يقابله بضرب من المقابلة متى قعد عنه كان جائرا إذ كان يأخذ
نعمته ولا يعطيه شيئا. لكن مقابلة الملك الفاضل من رعيته إنما تكون بإخلاص
الدعاء ونشر المحاسن وجميل الشكر وبذل الطاعة وترك المخالفة في السر
والعلانية والمحبة الصادقة والإئتمام بسيرته نحو الإستطاعة والإقتداء به
في تدبير منزله وأهله وولده وعشيرته فإن: نسبة الملك إلى مدينته ورعيته
كنسبة صاحب المنزل إلى منزله وأهله. فمن لم يقابل ذلك الإحسان بهذه الطاعة
والمحبة فقد جار وظلم وهذا الظلم وإن كان في نفسه قبيحا فإن مراتبه كثيرة.
لأن مقابلة كل نعمة إنما تكون بحسب منزلتها وموقعها وبقدر فائدتها
وعائدتها وعلى مقدار عددها. فإن كانت النعم كثيرة العدد وعظيمة الوقع فكيف
يكون حال من لا يلزم لها حقا ولا يرى عليها مقابلة بطاعة ولا شكر ولا محبة
صادقة ولا مسعاة صالحة. فإذا كان هذا معروفا غير منكور واجبا غير مجحود في
ملوكنا ورؤسائنا.
فبالأحرى أن يكون لملك الملوك الذي يصل إلينا في كل
طرفة عين ضروب إحسانه الفائض على أجسامنا ونفوسنا التي لا يقع عليها إحصاء
ولا عدد من الحقوق الواجب علينا القيام بها والنهوض بتأديتها، أترانا نجهل
النعمة الأولى علينا بالوجود ثم تتابعها متواترة بعد ذلك بالخلق الجسداني
الذي أفنى فيه صاحب كتابي التشريح ومنافع الأعضاء ألف ورقة ثم لم يبلغ بعض
ما عليه كنه الأمرز أم ترانا نجهل م اوهب لنا من نفوسنا وما ركب فيها من
القوى والملكات التي لا نهاية لها وما أمدها به من فيض العقل ونوره وبهائه
وبركاتهز وما عرضنا به للملك الأبدي والنعيم السرمدي (لا) لعمري ما يجهل
هذه النعمة إلا النعم. فإما الإنسان فيعرف من ذلك ما يضطره إليه مشاهدة
أحواله في جميع أوقاته، وإذا كان الخلاق تعالى غنيا عن معونتنا ومساعينا
فمن المحال القبيح والجور الفاحش أن نلتزم له نحن حقا ولا نقابله على هذه
الآلاء والنعم بما يزيل عنا سمة الجور والخروج عن شريطة العدل.
ما
يجب على الإنسان لخالقه
إن
أرسطوطاليس لم ينص في هذ1ا الموضع علىالعبادة التي يجب أن نلتزمها لخالقنا
عز وجل غير أ،ه قال ما معناه وقد اختلفت لناس فيما ينبغي أن يقوم
بهالمخلوقون لخالقهم فبعضهم رأى أنه صلوات وصيام وخدمة هياكل ومصليات
وقرابين. وبعضهم رأى أن يقتصر على الإقرار بربوبيته والإعتراف بإحسانه
وتمجيده بحسب استطاعته وبعضهم رأى أن يتقرب إليه بأن يحسن إلى نفسه
بتزكيتها وحسن سياستها. والإحسان إلى المستحقين من أهل نوعه بالمواساة ثم
بالحكمة وبعضهم رأى اللهج بالفكر في الإلهيات والتصرف نحو المحاولات التي
يتزايد بها الإنسان من معرفة ربه عز وجل حتى تتكامل معرفته به وبحقيقة
وحدانيته وصرف الوكد إليه. وبعضهم رأى أن الواجب للرب جل ذكره على الناس
ليس سبيله واحدا ولا هو شيء بعينه يلتزمه الجميع التزاما واحدا وعلى مثال
واحد لكنه يختلف بحسب اختلاف طبقات الناس ومراتبهم من العلم فهذا ما قاله
أرسطوطاليس بألفاظه المنقولة إلى العربية. وأما الحدث من الفلاسفة فإنهم
قالوا إن عبادة الله عزوجل على ثلاثة أنواع. أحدها فيما يجب له على
الأبدان كالصلاة والصيام والسعي إلى المواقف الشريفة لمناجاة الله عزوجل.
والثاني فيما يجب له على النفوس كالإعتقادات الصحيحة وكالعلم بتوحيد الله
عز إسمه وما يستحقه من الثناء والتمجيد وكالفر فيما أفاضه على العالم من
وجوده وحكمته ثم الإتساع في هذه المعارف. والثالث فيما يجب له عند مشاركات
الناس في المدن وهي في المعاملات والمزارعات والمناكح وفي تأدية الأمانات
مع نصيحة البعض للبعض بضروب المعاونات وعند جهاج الأعداء والذب عن الحريم
وحماية الحوزة قالوا فهذه هي العبادات وهي الطرق المؤدية إلى الله عز وجل.
وهذه
الأنواع
وإن كانت معدودة ومحصورة فإنها منقسمة إلى أنواع كثيرة وأقسام غير
محصاة، وللإنسان مقامات ومنازل عند الله عز وجل. فالمقام الأول للموقنين
وهو رتبة الحكماء وأجلة العلماء. والمقام الثاني مقام المحسنين. وهو رتبة
الذين يعملون بما يعملون. وهو ما ذكرناه في كتابنا هذا من الفضائل والعمل
بها والمقام الثالث مقام الأبرار وهو رتبة المصلحين وهؤلاء هم خلفاء الله
بالحقيقة في إصلاح العباد والبلاد. والمقام الرابع مقام الفائزين وهو رتبة
المخلصين في المحبة وإليها ننتهي رتبة الإتحاد وليس بعدها منزلة ولا مقام
لمخلوق ويسعد الإنسان بهذه المنازل إذا حصلت له أربع خلال. أولها الحرص
والنشاط والثاني العلوم الحقيقة والمعارف اليقينية. والثالث الحياء من
الجهل ونقصان القريحة اللذين يحدثان بالإهمال. والرابع لزوم هذه الفضائل
والترقي فيها دائما بحسب الإستطاعة فهذه أسباب الإتصال.
أسباب
الإنقطاع عن الله
قال
والعدالة توسط ليس على جهة التوسط الذي في الفضائل التي تقدم ذكرها. لكن
لأنها في الوسط والجور في الطرفين. وإنما صار الجور في الطرفين لأنه زيادة
ونقصان. وذلك أن من شأن الجور طلب الزيادة والنقصان معا.
أما الزيادة
فمن النافع على الإطلاق. وأما النقصان فمن لاضار فلذلك يكون الجائر
مستعملا للزيادة والنقصان إما لنفسه فيستعمل الزيادة في النافع. وأما
لغيره فيستعمل النقصان منه، وأما في الضار فبالضد وعلى العكس. وذلك أنه
إما لنفسه فيستعمل النقصان وإما لغيره فيستعمل الزيادة والفضائل التي قلنا
أنها أوساط بين الرذائل وهي غايات ونهايات. وذلك أن الوسط ههنا نهاية لها
من كل جهة فهو في غاية البعد منها ولذلك متى بعد عن الوسط زيادة بعد قرب
من رذيلة كما قلناه فيما تقدم. فقد تبين من جميع ما قدمنا أن الفضائل كلها
إعتدالات وأن العدالة إسم يشملها ويعمها كلها وأن الشريعة لما كانت تقدر
الأفعال الإرادية التي تقع بالروية الإلهي صار المتمسك بها في معاملاته
عدلا والمخالف جائرا. فلهذا قلنا ان العدالة لقب للمتمسك بالشريعة، إلا
أنا قد قلنا مع ذلك انها هيئة نفسانية تصدر عنها هذه الفضيلة.
فتصور
الهيئة النفسانية فإنك سترى رؤية واضحة أن صاحبها ينقاد ولا محالة للشريعة
طوعا ولا يضادها بنوع من أنواع التضاد وذلك أنه إذا حافظ على المناسبات
التي ذكرناها لأنها مساواة وآثرها بعد إجالة الرأي فيها على سبيل الإختيار
لها والرغبة فيها وجب عليه موافقة الشريعة وترك مخالفتها.
وأقل ماتكون
المساواة بين اثنين ولكنها تكون في معاملة مشتركة بينهما وهو الشيء الثالث
وربما كانا شيئين كما قلنا فتصير المناسبات كما بينا بين أربعة أشياء.
وينبغي أن يعلم ان هذه الهيئة النفسانية هي غير الفعل وغير المعرفة وغيرة
القوة.
أما الفعل فلأنّا قد بينا انه قد يقع على غير هيئة نفسانية. كمن
يعمل أعمال العدالة وليس بعادل وكمن يعمل أعمال الشجاعة وليس بشجاع وأما
القوة والمعرفة فلان كل واحدة منهما هي بعينها للضدين معا. فإن العلم
بالضدين واحد وكذلك القوة على الضدين قوة واحدة. وأما لاهيئة القابلة لأحد
الضدين فهي غير الهيئة القابلة للضد الآخر. ومثال ذلك هيئة الشجاعة فإنها
غير هيئة الجبن وكذلك هيئة العفة غير هيئة الشره وهيئة العدالة غير هيئة
الجور. ثم إن العدالة والخيرية يشتركان في باب المعاملات والأخذ والإعطاء.
إلا أن العدالة تقع في اكتساب المال على الشرائط التي قدمنا القول فيها.
والخيرية تقع في إنفاق المال على الشرائط التي ذكرناها أيضا ومن شأن من
يكتسب أن يأخذ فهو بالمنفعل أشبه ومن شأن المنفق أن يعطي فهو بالفاعل
أشبه. فلهذه العلة تكون محبة الناس للخير أشد من محبتهم للعادل. إلا أن
نظام العالم بسبب العدالة أكثر منه بالخيرية. وخاصة الفضيلة هي في فعل
الخير لا في ترك الشر وخاصة محبة الناس وحمدهم في بذل المعروف لا في جمع
المال. فالخير لا يكرم المال ولا يجمعه لذاته بل ليصرفه في وجوهه التي
يكتسب بها المحبات والمحامد. ومن خاصة الخير أن لا يكون كثير المال لأنه
منفاق ولا يكون أيضا فقيرا لأنه كسوب من حيث ينبغي وهو غير متكاسل عن
الكسب ألبتة لأنه بالمال يصل إلى فضيلة الخيرية. ولذلك لا يضيع المال ولا
يستعمل فيه التبذير ولا يشح أيضا فلا يستعمل التقتير: خير عادل وليس كل
عادل خيرا.
مسألة عويصة أولى
وفي هذا الموضع مسألة
عويصة سأل عنها الحكماء أنفسهم وأجابوا عنها بجواب مقنع ويمكن أن يجاب
فيها بجواب آخر أشد إقناعا ويجب أن نذكر لاجميع وهو: أن لشاك أن يشك فيقول
إذا كانت العدالة فعلا اختياريا يتعاطاه العادل ويقصد به تحصيل الفضيلة
لنفسه والمحمدة من الناس فيجب أن يكون الجور فعلا اختياريا يتعاطاه الجائر
ويقصد به تحصيل الرذيلة لنفسه ومذمة الناس. ومن القبيح الشنيع أن يظن
بالإنسان العاقل أنه يقصد الأضرار بنفسه بعدالروية وعلى سبيل الإختيار. ثم
أجابوا عن ذلك وحلوا هذا الشك بأن قالوا أن من ارتكب فعلا يؤديه إلى ضرر
أو عذاب فإنه يكون ظالما لنفسه وضارا لها من حيث يقدر أنه ينفعها وذلك
لسوء اختياره وترك مشاورة العقل فيه. مثال ذلك الحاسد فإنه ربما جنة على
نفسه لأعلى سبيل إيثار الأضرار بها بل لأنه يظن أنه ينفعها في العاجل
بالخلاص من الأذى الذي يلحقه من الحسد. هذا جواب القوم وأما الجواب الآخر
فهو أن الإنسان لما كان ذا قوى كثيرة يسمى بمجموعها إنسانا واحدا لم ينكر
أن تصدر عنه أفعال مختلفة بحسب تلك القوى. وإنما المنكر أن يكون الشيء
الواحد البسيط ذو القوة الواحدة تقع منه بتلك القوة أفعال مختلفة لا بحسب
الآلات المختلفة ولا بقدر القابلات منه بل بتلك القوة الواحدة فقط. فهذ1
لعمري منكر شنيع ولكن الإنسان قد تبين من حاله أن له قوى كثيرة فيعمل بكل
قوة عملا مخالفا للعمل بالأخرى أعني أن صاحب الغضب إذا استشاط يختار
أفعالا مخالفة لأفعاله إذا كان ساكنا وديعا.
وكذلك صاحب الشهوة الهائجة
وصاحب النشوة الطروب فإن من شأن هؤلاء أن يستخدموا العقل الشريف في تلك
الأحوال ولا يستشيرونه ولذلك تجد العاقل إذا تغيرت أحواله تلك فصار من
الغضب إلى الرضا ومن السكر إلى الإفاقة تعجب من نفسه وقال ليت شعري كيف
اخترت تلك الأفعال القبيحة ويلحقه الندم. وإنما ذلك لأن القوة التي تهيج
به تدعوه إلى ارتكاب فعل يظنه في تلك الحال صالحا له جميلا به لتتم له
حركة القوة الهائجة به. فإذا سكن عنها وراجع عقله رأى قبح ذلك الفعل
وفساده. وقوى الإنسان التي تدعوه إلى ضروب الشهوات ومحبة الكرامات كثيرة
جدا فهو بحسب قواه الكثيرة تكون أفعاله كثيرة.
فإذا تعود الإنسان أن
تكون سيرته فاضلة ولم يقدم على شيء من أفعاله إلا بعد مطالعة العقل الصريح
وبعد مراعاة الشريعة القويمة كانت أفعاله كلها منتظمة غير مختلفة ولا
خارجة عن سنن العدل أعني المساواة التي قدمنا القول فيها.
ولهذا السبب
قلنا أن السعيد هو من اتفق له في صباه أن يأنس بالشريعة ويستسلم لها
ويتعود جميع ما تأمره به حتى إذا بلغ المبلغ الذي يمكنه به أن يعرف
الأسباب والعلل طال الحكمة فوجدها موافقة لما تقدمت عادته به فاستحكم رأيه
وقويت بصيرته ونفذت عزيمته.
مسألة عويصة ثانية
وههنا
مسألة عويصة أشد من الأولى وهو أن التفضل شيء محمود جدا وليس يقع تحت
العدالة لأن العدالة كما ذكرنا مساواة ة والتفضل زيادة وقد حكمنا أن
العدالة تجمع الفضائل كلها ولا مزيد عليها بل يجب أن تكون الزيادة عليها
مذمومة كما أن النقصان عنها مذوم ليكون شرف الوسط الذي تقدم وصفه في سائر
الأخلاق حاصلا للعدالة. فالجواب عنها ان التفضل احتياط يقع من صاحبه في
العدالة ليأمن به وقوع النقص في شيء من شرائطها وليس الوسط في كلا الطرفين
من الأخلاق على شريطة واحدة وذلك أن الزيادة في باب السخاء إذا لم تخرج
إلى باب التبذير أحسن من النقصان فيه وأشبه بالمحافظة على شرائطه فتصير
كالاحتياط فيه والأخذ بالحزم فيه. وأما العفة فإن النقصان من الوسط فيها
أحسن من الزيادة عليه وأشبه بالمحافظة على شرائطه وأبلغ في الاحتياط عليه
وأخذ الحزم فيه ومع ذلك فليس يستعمل التفضل إلا حيث تستعلم العدالة. وأعني
بذلك أن من أعطى ماله من لا يستحق شيئا منه وترك مواساة من يستحقه لا يسمى
متفضلا بل مضيعا. وإنما يكون متفضلا إذا أعطى من يستحق كل ما يستحق ثم
زاده تفضلا وهذه الزيادة ليست من الزيادة التي ذكرناها في باب السخاء لأن
تلك الزيادة ذهاب إلى الطرف الذي يسمى تبذيرا وهو مذموم ويعرف ذلك من حده
وهو بذل مالا ينبغي كمالا ينبغي في الوقت الذي لا ينبغي. فإذا التفضل غير
خارج عن شرط العدالة بل هو احتياط فيها، ولذلك قيل أن المتفضل أشرف من
العادل. فقد بان أن التفضل ليس غير العدالة بل هو العدالة مع الاحتياط
فيها وكأنه مبالغة لا يخرجها عن معناها لأن هذه الهيئة النفسانية ليست غير
تلك الهيئة بل هي. فأما الأطراف التي هي رذائل أعني الزيادة والنقصان التي
سبق القول فيهما فهي كلها هيئات مذمومة غير الهيئات المحمودة. وحدود هذه
الأشياء هي التي تحصل لك معانيها ومشاركة بعضها البعض. ومباينة بعضها
البعض. وأيضا فإن الشريعة تأمر بالعدالة أمرا كليا وليست تنحط إلى
الجزئيات وأعني بذلك أن العدالة التي هي المساواة تكون مرة في باب الكم
ومرة في باب الكيف وفي سائر المقولات وبيان ذلك أن نسبة الماء إلى الهواء
مثلا ليست تكون بالكمية بل بالكيفية ولو كانت بالكمية لوجب أن يكونا
متساويين في المساحة ولو كانا كذلك لتغالبا وأحال أحدهما الآخر إلى ذاته.
وكذلك
النار
والهواء ولو أحالت هذه العناصر بعضها بعضا لفنى العالم في أقرب مدة.
ولكن الباري تقدس اسمه عدل بين هذه بالقوة فتقاومت فليس يغلب أحد الآخر
بالكلية وإنما يحيل الجزء منهاالجزء في الأطراف أعني حيث تلتقي نهاياتها.
وأما كلياتها فلا تقدر على كلياتها لأن قواها متساوية متعادلة على غاية
التسوية والتعادل.
وبهذا النوع من العدل قيل بالعدل قامت السموات
والأرض ولو رجح أحدهما على الآخر بزيادة يسير قوة لأحال الزائد الناقص
وقوى عليه فبطل العالم فسبحان القائم بالقسط لا إله إلا هو.
؟؟الشريعة
تأمر بالعدالة ولما كانت الشريعة تأمر بالعدالة الكاملة لم تأمر بالتفضل
الكلي بل ندبت إليه ندبا يستعمل في الجزئيات التي لا يمكن أن تعين عليها
لأنها بلا نهاية وجزمت القول في العدالة الكلية لأنها محصورة يمكن أن تعين
عليها وقد تبين أيضا مما قدمنا أن التفضل إنما يكون في العدالة التي تخص
الإنسان في نفسه. أعني تسوية المعاملة أولا فيما بينه وبين غيره ثم
الإستظهار فيه والإحتياط عليه بما يكون تفضلا ولو كان حاكما بين قوم ولا
نصيب له في تلك الحكومة لم يجز له التفضل ولم يسعه إلا العدل المحض
والتسوية الصحيحة بلا زيادة ولا نقصان. وتبين أيضا أن الهيئة التي تصدر
عنها الأفعال العادلة متى نسبت إلى صاحبها سميت فضيلة وإذا نسبت إلى من
يعامله بها سميت عدالة وإذا اعتبرت بذاتها سميت ملكة نفسانية.
فاستعمال
المر
العاقل العدل على نفسه أو ما يلزمه ويجب عليه. وقد ذكرنا فيما تقدم
كيف يفعل ذلك وبينا كيف يعدل قواه الكثيرة إذا هاج به بعضها وأشرنا إلى
أجناس هذه القوى الكثيرة وأن بعضها يكون بالشهوات المختلفة وبعضها بطلب
الكرامات الكثيرة وأنها إذا تغالبت وتهايجت حدث في الإنسان باضطرابها
أنواع الشر وجذبته كل واحدة منها إلى ما يوافقها وهكذا سبيل كل مركب من
كثرة إذا لم يكن لها رئيس واحد ينظمها ويوحدها. وارسطوطاليس يشبه من كان
كذلك بمن يجذب من جهات كثيرة فيقطع بينها وينشق بحسب تلك الجهات وقواها.
وليس
ينظم
هذه الكثرة التي ركب الإنسان منها إلا الرئيس الواحد الموهوب له من
الفطرة. أعني العقل الذي به تميز من البهائم وهو خليفة الله عز وجل عنده
فإن هذه القوى كلها إذا ساسها العقل انتظمت وزال عنها سوء النظام الذي
يحدث من الكثرة وجميع ما ذكرنا من إصلاح الأخلاق مبني عليه. فإذا تم
للإنسان ذلك أعني أن يعدل على نفسه وأحرز هذه الفضيلة فقد لزمه أن يعدل
على أصدقائه وأهله وعشيرته ثم يستعمله في الأباعد وسائر الحيوان وإذ قد صح
ذلك وظهر ظهورا حسيا فقد ظهر بظهوره إن شر الناس من جار على نفسه ثم على
أصدقائه وعشيرته ثم على كافة الناس والحيوان لأن العلم بأحد الضدين هو
العلم بالضد الآخر. فخير الناس العادل وشرهم الجائر كما تبين ذلك. وقد
ادعى قوم أن نظام أمر الموجودات كلها وصلاح أحوالها معلق بالمحبة وقالوا
أن الإنسان إنما اضطر إلى اقتناء هذه الفضيلة أعني الهيئة التي تصدر عنها
العدالة عند تعاطي المعاملات لما فاته شرف المحبة. ولو كان المتعاملون
أحباء لتناصفوا ولم يقع بينهم خلاف. وذلك أن الصديق يحب صديقه ويريد له ما
يريد لنفسه ولا تتم الثقة والتعاضد والتوازر الأبين المتحابين.
وإذا
تعاضدوا وجمعتهم المحبة وصلوا إلى جميع المحبوبات ولم تتعذر عليهم المطالب
وإن كانت صعبة شديدة. وحيئنذ ينشئون الآراء الصائبة وتتعاون العقول على
استخراج الغوامض من التدابير القويمة ويتقوون على نيل الخيرات كلها
بالتعاضد.
وهؤلاء القوم إنما نظروا إلى فضيلة التأحد التي تحصل بين
الكثرة ولمعرى انها اشرف غايات أهل المدينة. وذلك أنهم إذا تحابوا تواصلوا
وأراد كل واحد منهم لصاحبه مثل ما يريده لنفسه فتصير القوى الكثيرة واحدة
ولم يتعذر على أحد منهم رأى صحيح ولا عمل صواب ويكون مثلهم في جميع ما
يحاولونه مثل من يريد تحريك ثقل عظيم بنفسه فلا يطيق ذلك.
فإن استعان
بقوة غيره حركه. ومدبر المدينة إنما يقصد بجميع تدابيره إيقاع المودات بين
أهلها وإذا تم له هذا خاصة فقد تمت له جميع الخيرات التي تتعذر عليه وحده
على أفراد أهل مدينته وحينئذ يغلب أقرانه ويعمر بلدانه ويعيش وهو ورعيته
مغبوطين. ولكن هذا التأحد المطلوب بهذهالمحبة المرغوب فيهما لا يتم إلا
بالآراء الصحيحة التي يرجى الإتفاق من العقول السليمة عليها والإعتقادات
القوية التي لا تحصل إلا بالديانات التي يقصد بها وجه الله عز وجل وأصناف
المحبات كثيرة وإن كانت ترتقي كلها إلى وجه واحد وسنقول فيها بمعونة الله
فيما يتلو هذه المقالة إن شاء الله.
؟المقالة الخامسة (التعاون
والإتحاد) قد سبق القول في حاجة بعض الناس إلى بعض وتبين أن كل واحد منهم
يجد تمامه عند صاحبه وأن الضرورة داعية إلى استعانة بعضهم ببعض لأن الناس
مطبوعون على النقصانات ومضطرون إلى تماماتها ولا سبيل فالحاجة صادقة
والضرورة داعية إلى حال تجمع وتؤلف بين أشتات الأشخاص ليصيروا بالاتفاق
والإئتلاف كالشخص الواحد الذي تجتمع أعضاؤه كلها على الفعل الواحد النافع
له.
؟المحبة وللمحبة أنواع وأسبابها تكون بعدد أنواعها. فأحد أنواعها
ما ينعقد سريعا وينحل سريعا. والثاني ما ينعقد سريعا وينحل بطيئا. والثالث
ما ينعقد بطيئا وينحل سريعا. والرابع ما ينعقد بطيئا وينحل بطيئا. وإنما
انقسمت إلى هذه الأنواع فقد لأن مقاصد الناس في مطالبهم وسيرهم ثلاثة
ويتركب بينها رابع وهي اللذة والخير والمنافع والمتركب منها.
الحاجة
إلى المال ضرورية في العيش وهو نافع في إظهار الحكمة والفضيلة ومن اكتسبه
من وجهه صعب عليه. وذلك أن المكاسب الجميلة قليلة ووجوهها يسيرة عند الرجل
العادل الحر وأما غير العادل الحر فليس يبالي كيف اكتسبه ومن أين وصل إليه
ولأجل ذلك يوجد كثير من الأحرار والفضلاء ناقصي الحظ منه. ويوجدون أيضا
ذامين للبخت شاكين منه، وأما أضدادهم فلأجل أنهم يكتسبون المال من وجوه
الخيانات ولا يبالون كيف وصل إليهم فإنهم يوجدون أبدا وافري الحظ منه
وأسمى النفقات شاكرين لبخوتهم والعامة يغبطونهم ويحسدونهم. إلا أن لعاقل
إذا رأى نفسه وهو برىء من المذمات نقي العرض من السوآت لم يتدنس بالقبيح
منالمكاسب ولم يتطرق إليه بخيانة ولا سرقة ولا ظلم لمن هو دونه أو مثله
وتجنب فيه وجوه العار والفضائح كالقيادة والخداع وترويج السلع القبيحة
علىالملوك واستنزالهم عن أموالهم بالخدع والمكر ومساعتهم على الفواحش
وتحسين القبائح فيما يوافق هواهم، وما يجري مجرى ذلك من السعاية والنميمة
والغيبة وضروب الفساد التي يرتكبها طلاب المال من غير وجهه بضروب
المغابنات ووجوه الظلم يسر بنفسه ويعتاض من المال الراحة والمحمدة فلا
يلوم البخت ولا يبغض الدول ولا يحسد أصحاب الأموال المكتسبة من غير وجوهها
الجميلة.
إلى المال ضرورية في العيش وهو نافع في إظهار الحكمة والفضيلة ومن اكتسبه
من وجهه صعب عليه. وذلك أن المكاسب الجميلة قليلة ووجوهها يسيرة عند الرجل
العادل الحر وأما غير العادل الحر فليس يبالي كيف اكتسبه ومن أين وصل إليه
ولأجل ذلك يوجد كثير من الأحرار والفضلاء ناقصي الحظ منه. ويوجدون أيضا
ذامين للبخت شاكين منه، وأما أضدادهم فلأجل أنهم يكتسبون المال من وجوه
الخيانات ولا يبالون كيف وصل إليهم فإنهم يوجدون أبدا وافري الحظ منه
وأسمى النفقات شاكرين لبخوتهم والعامة يغبطونهم ويحسدونهم. إلا أن لعاقل
إذا رأى نفسه وهو برىء من المذمات نقي العرض من السوآت لم يتدنس بالقبيح
منالمكاسب ولم يتطرق إليه بخيانة ولا سرقة ولا ظلم لمن هو دونه أو مثله
وتجنب فيه وجوه العار والفضائح كالقيادة والخداع وترويج السلع القبيحة
علىالملوك واستنزالهم عن أموالهم بالخدع والمكر ومساعتهم على الفواحش
وتحسين القبائح فيما يوافق هواهم، وما يجري مجرى ذلك من السعاية والنميمة
والغيبة وضروب الفساد التي يرتكبها طلاب المال من غير وجهه بضروب
المغابنات ووجوه الظلم يسر بنفسه ويعتاض من المال الراحة والمحمدة فلا
يلوم البخت ولا يبغض الدول ولا يحسد أصحاب الأموال المكتسبة من غير وجوهها
الجميلة.
فهذه أحوال المكتسبين للأموال ومنفقيها وكذلك حال من عمل عمل
العدول وليس بعدل. وذلك أنه إذا عدل في بعض الأمور مراآة ليصل به إلى
كرامة أو مال أو غير ذلك من الشهوات أو لغرض آخر مما عددناه فيما تقدم
فليس يسمي عادلا وإنما يعمل عمل العدول للغرض الذي يقصده. وينبغي أن ينسب
فعله إلى غرضه فإنه بحسب هذا يفعل ذلك كما قلنا وشرحنا.
العادل
فأما
العادل
بالحقيقة فهو الذي قواه وأفعاله وأحواله كلها حتى لا يزيد بعضها
على بعض ثم يروم ذلك فيما هوخارج عنه من المعاملاب والكرامات ويقصد في
جميع ذلك فضيلة العدالة نفسها لا غرضا آخر سواها وإنما يتم له ذلك إذا
كانت له هيئة نفسانية أدبية تصدر عنها أفعاله كلها بحسبها. ولما كانت
العدالة وسطا بين أطراف وهيئة يقتدر بها على رد الزائد والناقص إليها صارت
أتم الفضائل وأشبهها بالوحدة. وأعني بذلك أن لوحدة هي التي لها الشرف
الأعلى والرتبة القصوى. وكل كثرة لا يضبطها معنى يوحدها فلا قوام لها ولا
نبات. والزيادة والنقصان والكثرة والقلة هي التي تفسد الأشياء إذا لم يكن
بينها مناسبة تحفظ عليها الإعتدال بوجه ما. فالإعتدال هو الذي يرد إليها
ظل الوحدة ومعناها. وهو الذي يلبسها شرف الوحدة ويزيل عنها رذيلة الكثرة
والتفاوت والإضطراب الذي لا يحد ولا يضبط بالمساواة التي هي خليفة الوحدة
في جميع الكثرات واشتقاق هذا الإسم يدلك على معناه. وذلك أن العدل في
الأحمال والإعتدال في الأثقال والعدالة في الأفعال مشتقة من معنى المساواة
والمساواة هي أشرف النسب المذكورة في صناعة الأرتماطيقي ولذلك لا تنقسم
ولا يوجد لها أنواع وإنما هي وحدة في معناها أو ظل للوحدة. فإذا لم نجد
المساواة التي هي المثل بالحقيقة في الكثرة عدلنا إلى النسب المذكورة التي
تنحل إليها وتعود إلى حقيقتها. وذلك أنا حينئذ نضطر إلى ان نقول نسبة هذا
إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا. ولذلك لا توجد النسبة إلا بين أربعة أو ثلاثة
يتكرر فيها الوسط فتصير أيضا أربعة والنسبة الأولى تسمى منفصلة والثانية
تسمى متصلة. ومثال الأولى ا ب ج د فنقول نسبة (1) إلى (ب) إلى (د). ومثال
الثانية أن نأخذ الباء مشتركا فنقول نسبة (1) إلى (ب) كنسبة (ب) إلى (ج)
وهذه النسبة توجد بين ثلاثة أشياء.
وهي النسبة العددية والنسبة
المساحية والنسبة التأليفية وجميع ذلك مبين مشروح في المختصر الذي عملناه
في صناعة العدد. وأما سائر النسب فراجعة إليها ولذلك عظمها الأوائل
واستخرجوا بها العلوم الجمة الشريفة ولما كانت نسبة المساواة عزيزة لأنها
نظيرة الوحدة عدلنا إلى حفظ هذه النسب الأخر في الأمور الكثيرة التي
تلابسها لأنها عائدة إليها وغير خارجة عنها فنقول:
مواضع العدالةإن
العدالة موجودة في ثلاثة مواضع: أحدها قسمة الأموال والكرامات والثاني
قسمة المعاملات الإرادية كالبيع والشراء والمعاوضات. والثالث قسمة الأشياء
التي وقع فيها ظلم وتعد. فأما العدالة في الأمور التي تكون في القسم الأول
فتكون بالنسبة المنفصلة التي بين الأربعة أعني أن تكون نسبة الأول إلى
الثاني كنسبة الثالث إلى الرابع. مثال ذلك أن يقال نسبة هذا الإنسان إلى
هذه الكرامة أو إلى هذا المال كنسبة كل من كان في مثل مرتبته إلى مثل قسطه
فإذا يجب أن يوفر علهي ويسلم، وأما في الأمور التي تكون في القسم الثاني
أعني المعاملات والمعاوضات فيكون بالنسبة المنفصلة مرة وبالنسبة المتصلة
له أخرى. مثاله أن تقول نسبة هذا البزاز إلىهذا الإسكاف كنسبة هذا الثوب
إلى هذا لخف ثم ليس يمنع مانع أن تقول نسبة البزار إلى الإسكاف كنسبة
الإسكاف إلى النجار أو تقول: نسبة الثوب إلى الخف كنسبة الخف إلى الكرسي.
ويتبين لك من هذين المثالين أن النسبة الأولى تكون بالعمق فقط والنسبة
الثانية تكون بالعرض والعمق جميعا أعني أن الأولى تقع بين الكليين
والجزئيين وهو بالعمق أشبه. والثانية تقع بالعرض في الجزئيين وقد تقع بين
الكلين والجزئيين أيضا.
العادل
بالحقيقة فهو الذي قواه وأفعاله وأحواله كلها حتى لا يزيد بعضها
على بعض ثم يروم ذلك فيما هوخارج عنه من المعاملاب والكرامات ويقصد في
جميع ذلك فضيلة العدالة نفسها لا غرضا آخر سواها وإنما يتم له ذلك إذا
كانت له هيئة نفسانية أدبية تصدر عنها أفعاله كلها بحسبها. ولما كانت
العدالة وسطا بين أطراف وهيئة يقتدر بها على رد الزائد والناقص إليها صارت
أتم الفضائل وأشبهها بالوحدة. وأعني بذلك أن لوحدة هي التي لها الشرف
الأعلى والرتبة القصوى. وكل كثرة لا يضبطها معنى يوحدها فلا قوام لها ولا
نبات. والزيادة والنقصان والكثرة والقلة هي التي تفسد الأشياء إذا لم يكن
بينها مناسبة تحفظ عليها الإعتدال بوجه ما. فالإعتدال هو الذي يرد إليها
ظل الوحدة ومعناها. وهو الذي يلبسها شرف الوحدة ويزيل عنها رذيلة الكثرة
والتفاوت والإضطراب الذي لا يحد ولا يضبط بالمساواة التي هي خليفة الوحدة
في جميع الكثرات واشتقاق هذا الإسم يدلك على معناه. وذلك أن العدل في
الأحمال والإعتدال في الأثقال والعدالة في الأفعال مشتقة من معنى المساواة
والمساواة هي أشرف النسب المذكورة في صناعة الأرتماطيقي ولذلك لا تنقسم
ولا يوجد لها أنواع وإنما هي وحدة في معناها أو ظل للوحدة. فإذا لم نجد
المساواة التي هي المثل بالحقيقة في الكثرة عدلنا إلى النسب المذكورة التي
تنحل إليها وتعود إلى حقيقتها. وذلك أنا حينئذ نضطر إلى ان نقول نسبة هذا
إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا. ولذلك لا توجد النسبة إلا بين أربعة أو ثلاثة
يتكرر فيها الوسط فتصير أيضا أربعة والنسبة الأولى تسمى منفصلة والثانية
تسمى متصلة. ومثال الأولى ا ب ج د فنقول نسبة (1) إلى (ب) إلى (د). ومثال
الثانية أن نأخذ الباء مشتركا فنقول نسبة (1) إلى (ب) كنسبة (ب) إلى (ج)
وهذه النسبة توجد بين ثلاثة أشياء.
وهي النسبة العددية والنسبة
المساحية والنسبة التأليفية وجميع ذلك مبين مشروح في المختصر الذي عملناه
في صناعة العدد. وأما سائر النسب فراجعة إليها ولذلك عظمها الأوائل
واستخرجوا بها العلوم الجمة الشريفة ولما كانت نسبة المساواة عزيزة لأنها
نظيرة الوحدة عدلنا إلى حفظ هذه النسب الأخر في الأمور الكثيرة التي
تلابسها لأنها عائدة إليها وغير خارجة عنها فنقول:
مواضع العدالةإن
العدالة موجودة في ثلاثة مواضع: أحدها قسمة الأموال والكرامات والثاني
قسمة المعاملات الإرادية كالبيع والشراء والمعاوضات. والثالث قسمة الأشياء
التي وقع فيها ظلم وتعد. فأما العدالة في الأمور التي تكون في القسم الأول
فتكون بالنسبة المنفصلة التي بين الأربعة أعني أن تكون نسبة الأول إلى
الثاني كنسبة الثالث إلى الرابع. مثال ذلك أن يقال نسبة هذا الإنسان إلى
هذه الكرامة أو إلى هذا المال كنسبة كل من كان في مثل مرتبته إلى مثل قسطه
فإذا يجب أن يوفر علهي ويسلم، وأما في الأمور التي تكون في القسم الثاني
أعني المعاملات والمعاوضات فيكون بالنسبة المنفصلة مرة وبالنسبة المتصلة
له أخرى. مثاله أن تقول نسبة هذا البزاز إلىهذا الإسكاف كنسبة هذا الثوب
إلى هذا لخف ثم ليس يمنع مانع أن تقول نسبة البزار إلى الإسكاف كنسبة
الإسكاف إلى النجار أو تقول: نسبة الثوب إلى الخف كنسبة الخف إلى الكرسي.
ويتبين لك من هذين المثالين أن النسبة الأولى تكون بالعمق فقط والنسبة
الثانية تكون بالعرض والعمق جميعا أعني أن الأولى تقع بين الكليين
والجزئيين وهو بالعمق أشبه. والثانية تقع بالعرض في الجزئيين وقد تقع بين
الكلين والجزئيين أيضا.
وأما العدالة التي تقع في المظالم والأمور
القسمية فهي بالنسبة المساحية أشبه وذلك أن الإنسان متى كان على نسبة من
إنسان آخر فأبطل هذه النسبة بحيف أو ضرر يلحقه به، فإن العدالة توجب أن
يلحق به ضرر مثله ليعود التناسب إلى ما كان عليه. فالعادل من شأنه أن
يساوي بين الأشياء الغير المتساوية.
مثال ذلك أن الخط إذا قسم بقسمين
غير متساويين نقص من الزائد وزاد على الناقص حتى يحصل له التساوي ويذهب
عنه معنى القلة والكثرة ومعنى الزيادة والنقصان وكذلك الخفة والثقل وجميع
ما أشبه ذلك. ولكن ينبغي أن يكون عالما بطبيعة الوسط حتى يمكنه أن يرد
الطرفين إليه مثال ذلك الربح والخسران فإنهما في باب المعاملات طرفان
أحدهما زيادة والآخر نقصان فإذا أخذ أقل مما يجب صار إلى جانب النقصان وإن
أخذ أكثر مما يجب كان خارجا إلى جانب الزيادة.
لزوم الشريعة في
المعاملات
والشريعة
هي التي ترسم في كل واحد من هذه الأشياء التوسط والإعتدال لأن الناس هم
مدنيون بالطيع ولا يتم لهم عيش إلا بالتعاون فيجب أن بعضهم يخدم بعضا
ويأخذ بعضهم من بعض ويعطي بعضهم بعضا فهم يطلبون المكافأة المناسبة. فإذا
أخذ الإسكاف من النجار عمله وأعطاه عمله فهي المعاوضة إذا كان العملان
متساويين ولكن ليس يمنع مانع أن يكون عمل الواحد خيرا من عمل الآخر فيكون
الدينار هو المقوم والمسوي بينهما.
فالدينار هو عدل ومتوسط إلا انه
ساكت والإنسان الناطق هو الذي يستعمله ويقوم به جمي الأمور التي تكون
بالمعاملات حتى تجري على إستقامة ونظام ومناسبة صحيحة عادلة. ولذلك يستعان
بالحاكم الذي هو عدل ناطق إذا لم يستقم الأمر بين الخصمين بالدينار الذي
هو عدل ساكت وأرسطوطاليس يقول: {إن الدينار ناموس عادل " ومعنى الناموس في
لغته السياسية والتدبير وما أشبه ذلك. فهو يقول في كتابه المعروف
بنيقوماخيا " إن الناموس الأكبر هو من عند الله تبارك وتعالى والحاكم
ناموس ثاني من قبله والدينار ناموس ثالث. فناموس الله تعالى قدوة النواميس
كلها " يعني الشريعة والحاكم الثاني مقتد به والدينار مقتد ثالث وإنما
قومت الأشياء المختلفة بالأثمان المختلفة لتصح المشاركات والمعاملات
ويتبين وجه الأخذ والإعطاء. فالدينار هو الذي يسوي بين المختلفات ويزيد في
شيء وينقص في آخر حتى يحصل بينهما الإعتدال فتستوي المعاملة بين الفلاح
والنجار مثلا. وهذا هو العدل المدني وبالعدل المدني عمرت المدن وبالجور
المدني خربت المدن. وليس يمنع مانع من أن يكون عمل يسير يساوي عملا كثيرا
مثلا ذلك ان المهندس ينظر نظرا قليلا ويعمل عملا يسيرا ويساوي نظره هذا
عملا كثيرا من أقوام يكدون بين يديه ويعلمون بما يرسمه. وكذلك صاحب الجيش
يكون تدبيره ونظره يسيرا ولكنه يساوي أعمالا كثيرة مما يحارب بين يديه
ويعمل الأعمال الثقيلة العظيمة. فالجائر يبطل التساوي وهو عند أرسطوطاليس
على ثلاث منازل. فالجائر الأعظم هو الذي لا يقبل الشريعة ولا يدخل تحتها.
والجائر الثاني هو الذي لا يقبل قول الحاكم العادل في معاملاته وأموره
كلها. والجائر الثالث هو الذي لا يكتسب ويغتصب الأموال فيعطي نفسه أكثر
مما يجب لها وغيره أقل مما يجب له قال: " فالمستمسك بالشريعة يعمل بطبيعة
المساواة فيكتسب الخير والسعادة من وجوه العدالة لأن الشريعة تأمر
بالأشياء المحمودة لأنها من عند الله عزوجل فلا تأمر إلا بالخير وإلا
بالأشياء التي تفعل السعادة. وهي أيضا تنهى عن الرداآت البدنية وتأمر
بالشجاعة وحفظ الترتيب والثبات في مصاف الجهاد. وتأمر بالعفة وتنهى عن
الفسوق وعن الإفتراء والشتم والهجر وبالجملة تأمر بجميع الفضائل وتنهى عن
جميع الرذائل. فالعادل يستعمل العدالة في ذاته وفي شركائه المدنيين "
والجائر يستعمل الجور في ذاته وفي أصدقائه ثم في جميع شركائه المدنيين
قال: {وليست العدالة جزءا من الفضيلة بل هي الفضيلة كلها ولا الجور ظاهر
ينفعل بالإرداة مثل ما يكون في البيع والشراء والكفالات والقروض والعواري.
وبعضها خفي ينفعل أيضا بالإرادة مثل السرقة والفجور والقيادة وخداع
المماليك وشهادة الزور وبعضها غشمى على سبيل التغلب مثل التعذيب بالدهق
والقيود والأغلال.
الإمام العادل
هي التي ترسم في كل واحد من هذه الأشياء التوسط والإعتدال لأن الناس هم
مدنيون بالطيع ولا يتم لهم عيش إلا بالتعاون فيجب أن بعضهم يخدم بعضا
ويأخذ بعضهم من بعض ويعطي بعضهم بعضا فهم يطلبون المكافأة المناسبة. فإذا
أخذ الإسكاف من النجار عمله وأعطاه عمله فهي المعاوضة إذا كان العملان
متساويين ولكن ليس يمنع مانع أن يكون عمل الواحد خيرا من عمل الآخر فيكون
الدينار هو المقوم والمسوي بينهما.
فالدينار هو عدل ومتوسط إلا انه
ساكت والإنسان الناطق هو الذي يستعمله ويقوم به جمي الأمور التي تكون
بالمعاملات حتى تجري على إستقامة ونظام ومناسبة صحيحة عادلة. ولذلك يستعان
بالحاكم الذي هو عدل ناطق إذا لم يستقم الأمر بين الخصمين بالدينار الذي
هو عدل ساكت وأرسطوطاليس يقول: {إن الدينار ناموس عادل " ومعنى الناموس في
لغته السياسية والتدبير وما أشبه ذلك. فهو يقول في كتابه المعروف
بنيقوماخيا " إن الناموس الأكبر هو من عند الله تبارك وتعالى والحاكم
ناموس ثاني من قبله والدينار ناموس ثالث. فناموس الله تعالى قدوة النواميس
كلها " يعني الشريعة والحاكم الثاني مقتد به والدينار مقتد ثالث وإنما
قومت الأشياء المختلفة بالأثمان المختلفة لتصح المشاركات والمعاملات
ويتبين وجه الأخذ والإعطاء. فالدينار هو الذي يسوي بين المختلفات ويزيد في
شيء وينقص في آخر حتى يحصل بينهما الإعتدال فتستوي المعاملة بين الفلاح
والنجار مثلا. وهذا هو العدل المدني وبالعدل المدني عمرت المدن وبالجور
المدني خربت المدن. وليس يمنع مانع من أن يكون عمل يسير يساوي عملا كثيرا
مثلا ذلك ان المهندس ينظر نظرا قليلا ويعمل عملا يسيرا ويساوي نظره هذا
عملا كثيرا من أقوام يكدون بين يديه ويعلمون بما يرسمه. وكذلك صاحب الجيش
يكون تدبيره ونظره يسيرا ولكنه يساوي أعمالا كثيرة مما يحارب بين يديه
ويعمل الأعمال الثقيلة العظيمة. فالجائر يبطل التساوي وهو عند أرسطوطاليس
على ثلاث منازل. فالجائر الأعظم هو الذي لا يقبل الشريعة ولا يدخل تحتها.
والجائر الثاني هو الذي لا يقبل قول الحاكم العادل في معاملاته وأموره
كلها. والجائر الثالث هو الذي لا يكتسب ويغتصب الأموال فيعطي نفسه أكثر
مما يجب لها وغيره أقل مما يجب له قال: " فالمستمسك بالشريعة يعمل بطبيعة
المساواة فيكتسب الخير والسعادة من وجوه العدالة لأن الشريعة تأمر
بالأشياء المحمودة لأنها من عند الله عزوجل فلا تأمر إلا بالخير وإلا
بالأشياء التي تفعل السعادة. وهي أيضا تنهى عن الرداآت البدنية وتأمر
بالشجاعة وحفظ الترتيب والثبات في مصاف الجهاد. وتأمر بالعفة وتنهى عن
الفسوق وعن الإفتراء والشتم والهجر وبالجملة تأمر بجميع الفضائل وتنهى عن
جميع الرذائل. فالعادل يستعمل العدالة في ذاته وفي شركائه المدنيين "
والجائر يستعمل الجور في ذاته وفي أصدقائه ثم في جميع شركائه المدنيين
قال: {وليست العدالة جزءا من الفضيلة بل هي الفضيلة كلها ولا الجور ظاهر
ينفعل بالإرداة مثل ما يكون في البيع والشراء والكفالات والقروض والعواري.
وبعضها خفي ينفعل أيضا بالإرادة مثل السرقة والفجور والقيادة وخداع
المماليك وشهادة الزور وبعضها غشمى على سبيل التغلب مثل التعذيب بالدهق
والقيود والأغلال.
الإمام العادل
فالإمام العادل الحاكم
بالسوية يبطل هذه الأنواع ويخلف صاحب الشريعة في حفظ المساواة فهو لا يعطي
ذاته من الخيرات أكثر مما يعطي غيره. ولذلك قيل في الخبر أن الخلافة تطهر
الإنسان. قال فأما العامة فإنها تؤهل لمرتبة الإمامة التي هي الخلافة
العامة بما ذكرناه. من كان شريفا في حسبه ونسبه وبعضهم يؤهل لذلك من كان
كثير المال. وأما العقلاء فإنهم يؤهلون لذلك من كان حكيما فاضلا فإن
الحكمة والفضيلة هي التي تعطي الرياسات والسيادات الحقيقية وهي التي رتبت
الثاني والأول في مرتبتيهما وفضلتهما.
أسباب المضرات
وأسباب
المضرات كلها تتفنن إلى أربعة أنواع. أحدها الشهوة والرداءة التابعة لها.
والثاني الشرارة والجور التابع لها. والثالث الخطاء ويتبعه الحزن والرابع
الشقاء، أما الشهوة فإنها تحمل الإنسان على الأضرار بغيره إلا أنه لا يكون
مؤثرا له ولا ملتذا به. ولكنه يفعله ليصل به إلى شهوته وربما كان متألما
به كارها له إلا أن قوة الشهوة تحمله على إرتكاب ما يرتكبه. وأما اشرير
فإنه يتعمد الأضرار بغيره على سبيل الإيثار له والإلتذاذ به. كمن يسعى إلى
السلطان ويحمله على إزالة نعمة لا يصل إليه منها شيء. ولكن يلتذ بالمكروه
الذي يصل إلى غيره. وأما الخطأ فإن صاحبه لا يقصد الأضرار بغيره ولا يؤثره
ولا يلتذ به بل بقصد فعلا ما فيعرض منه فعل آخر. وصاحب الفعل يحزن ويكتئب
لما أتفق إليه من الخطاء. وأما الشقاء فصاحبه لا يكون هذا مبدأ فعله ولا
له فيه صنع بالقصد. بل يوقعه فيه سبب آخر من خارج.
وذلك كمن تصدم به
دابته صديقا له فتقتله. فهذا يسمى شقيا وهو مرحوم معذور لا يجب عليه عتب
ولا عقوبة. وأما السكران والغضبان والغيران إذا فعلوا فعلا قبيحا فإنهم
يستحقون العتب والتفويه لأن مبتدأ أفعالهم منهم. وذلك أن السكران باختياره
أزال عقله والغضبان والغيران اختارا الإنقياد بهاتين القوتين إذا هاجتا
بهما، ونعود إلى ما كنا فيه من ذكر العدالة فنقول:
تقسيم العدالة
المضرات كلها تتفنن إلى أربعة أنواع. أحدها الشهوة والرداءة التابعة لها.
والثاني الشرارة والجور التابع لها. والثالث الخطاء ويتبعه الحزن والرابع
الشقاء، أما الشهوة فإنها تحمل الإنسان على الأضرار بغيره إلا أنه لا يكون
مؤثرا له ولا ملتذا به. ولكنه يفعله ليصل به إلى شهوته وربما كان متألما
به كارها له إلا أن قوة الشهوة تحمله على إرتكاب ما يرتكبه. وأما اشرير
فإنه يتعمد الأضرار بغيره على سبيل الإيثار له والإلتذاذ به. كمن يسعى إلى
السلطان ويحمله على إزالة نعمة لا يصل إليه منها شيء. ولكن يلتذ بالمكروه
الذي يصل إلى غيره. وأما الخطأ فإن صاحبه لا يقصد الأضرار بغيره ولا يؤثره
ولا يلتذ به بل بقصد فعلا ما فيعرض منه فعل آخر. وصاحب الفعل يحزن ويكتئب
لما أتفق إليه من الخطاء. وأما الشقاء فصاحبه لا يكون هذا مبدأ فعله ولا
له فيه صنع بالقصد. بل يوقعه فيه سبب آخر من خارج.
وذلك كمن تصدم به
دابته صديقا له فتقتله. فهذا يسمى شقيا وهو مرحوم معذور لا يجب عليه عتب
ولا عقوبة. وأما السكران والغضبان والغيران إذا فعلوا فعلا قبيحا فإنهم
يستحقون العتب والتفويه لأن مبتدأ أفعالهم منهم. وذلك أن السكران باختياره
أزال عقله والغضبان والغيران اختارا الإنقياد بهاتين القوتين إذا هاجتا
بهما، ونعود إلى ما كنا فيه من ذكر العدالة فنقول:
تقسيم العدالة
إن
ارسطوطاليس قسم العدالة إلى أقسام ثلاثة: أحدها ما يقوم به الناس لرب
العالمين. وهو أن يجري الإنسان فيما بينه وبين الخالق عزوجل على ما ينبغي
وبحسب ما يجب عليه من حقه وبقدر طاقته. وذلك أن العدل إذا كان هو اعطاء ما
يجب من يجب كما يجب. فمن المحال ان لا يكون لله تعالى الذي وهب لنا هذه
الخيرات العظيمة واجب ينبغي أن يقوم به الناس. والثاني ما يقوم به بعض
الناس لبعض من أداء الحقوق وتعظيم الرؤساء وتأدية الآمانات والنصفة في
المعاملات. والثالث ما يقومون به من حقوق أسلافهم مثل أداء الديون عنهم
وإنفاذ وصاياهم وما أشبه ذلك فهذا ما قاله ارسطوطاليس وأما تحقيق ما قاله،
مما يجب لله عز وجل وإن كان ظاهرا فأنا نقول فيه ما يليق بهذا الموضع. وهو
أن العدالة لما كانت تظهر في الأخذ والإعطاء وفي الكرامة التي ذكرناها.
وجب أن يكون لما يصل إلينا من عطيات الخالق عز وجل ونعمه التي لا تحصى حق
يقابل عليه. وذلك أن من أعطى خيرا ما وإن كان قليلا ثم لم ير أن يقابله
بضرب من المقابلة فهو جائر. فكيف به إذا أعطى جما كثيرا وأخد أخذا دائما
ثم لم يعط في مقابلته شيء البتة. ثم على قدر النعمة التي تصل إلى الإنسان
يجب أن يكون إجتهاده في المقابلة عليها. مثال ذلك أن الملك الفاضل إذا أمن
السرب وبسط العدل وأوسع العمارة وحمى الحريم وذب عن الحوزة ومنع من
التظالم ووفر الناس على ما يختارونه من مصالحهم ومعايشهم. فقد أحسن إلى كل
واحد من رعيته إحسانا يخصه في نفسه وإن كان قد عمهم بالخير واستحق من كل
واحد منهم أن يقابله بضرب من المقابلة متى قعد عنه كان جائرا إذ كان يأخذ
نعمته ولا يعطيه شيئا. لكن مقابلة الملك الفاضل من رعيته إنما تكون بإخلاص
الدعاء ونشر المحاسن وجميل الشكر وبذل الطاعة وترك المخالفة في السر
والعلانية والمحبة الصادقة والإئتمام بسيرته نحو الإستطاعة والإقتداء به
في تدبير منزله وأهله وولده وعشيرته فإن: نسبة الملك إلى مدينته ورعيته
كنسبة صاحب المنزل إلى منزله وأهله. فمن لم يقابل ذلك الإحسان بهذه الطاعة
والمحبة فقد جار وظلم وهذا الظلم وإن كان في نفسه قبيحا فإن مراتبه كثيرة.
لأن مقابلة كل نعمة إنما تكون بحسب منزلتها وموقعها وبقدر فائدتها
وعائدتها وعلى مقدار عددها. فإن كانت النعم كثيرة العدد وعظيمة الوقع فكيف
يكون حال من لا يلزم لها حقا ولا يرى عليها مقابلة بطاعة ولا شكر ولا محبة
صادقة ولا مسعاة صالحة. فإذا كان هذا معروفا غير منكور واجبا غير مجحود في
ملوكنا ورؤسائنا.
فبالأحرى أن يكون لملك الملوك الذي يصل إلينا في كل
طرفة عين ضروب إحسانه الفائض على أجسامنا ونفوسنا التي لا يقع عليها إحصاء
ولا عدد من الحقوق الواجب علينا القيام بها والنهوض بتأديتها، أترانا نجهل
النعمة الأولى علينا بالوجود ثم تتابعها متواترة بعد ذلك بالخلق الجسداني
الذي أفنى فيه صاحب كتابي التشريح ومنافع الأعضاء ألف ورقة ثم لم يبلغ بعض
ما عليه كنه الأمرز أم ترانا نجهل م اوهب لنا من نفوسنا وما ركب فيها من
القوى والملكات التي لا نهاية لها وما أمدها به من فيض العقل ونوره وبهائه
وبركاتهز وما عرضنا به للملك الأبدي والنعيم السرمدي (لا) لعمري ما يجهل
هذه النعمة إلا النعم. فإما الإنسان فيعرف من ذلك ما يضطره إليه مشاهدة
أحواله في جميع أوقاته، وإذا كان الخلاق تعالى غنيا عن معونتنا ومساعينا
فمن المحال القبيح والجور الفاحش أن نلتزم له نحن حقا ولا نقابله على هذه
الآلاء والنعم بما يزيل عنا سمة الجور والخروج عن شريطة العدل.
ما
يجب على الإنسان لخالقه
إن
أرسطوطاليس لم ينص في هذ1ا الموضع علىالعبادة التي يجب أن نلتزمها لخالقنا
عز وجل غير أ،ه قال ما معناه وقد اختلفت لناس فيما ينبغي أن يقوم
بهالمخلوقون لخالقهم فبعضهم رأى أنه صلوات وصيام وخدمة هياكل ومصليات
وقرابين. وبعضهم رأى أن يقتصر على الإقرار بربوبيته والإعتراف بإحسانه
وتمجيده بحسب استطاعته وبعضهم رأى أن يتقرب إليه بأن يحسن إلى نفسه
بتزكيتها وحسن سياستها. والإحسان إلى المستحقين من أهل نوعه بالمواساة ثم
بالحكمة وبعضهم رأى اللهج بالفكر في الإلهيات والتصرف نحو المحاولات التي
يتزايد بها الإنسان من معرفة ربه عز وجل حتى تتكامل معرفته به وبحقيقة
وحدانيته وصرف الوكد إليه. وبعضهم رأى أن الواجب للرب جل ذكره على الناس
ليس سبيله واحدا ولا هو شيء بعينه يلتزمه الجميع التزاما واحدا وعلى مثال
واحد لكنه يختلف بحسب اختلاف طبقات الناس ومراتبهم من العلم فهذا ما قاله
أرسطوطاليس بألفاظه المنقولة إلى العربية. وأما الحدث من الفلاسفة فإنهم
قالوا إن عبادة الله عزوجل على ثلاثة أنواع. أحدها فيما يجب له على
الأبدان كالصلاة والصيام والسعي إلى المواقف الشريفة لمناجاة الله عزوجل.
والثاني فيما يجب له على النفوس كالإعتقادات الصحيحة وكالعلم بتوحيد الله
عز إسمه وما يستحقه من الثناء والتمجيد وكالفر فيما أفاضه على العالم من
وجوده وحكمته ثم الإتساع في هذه المعارف. والثالث فيما يجب له عند مشاركات
الناس في المدن وهي في المعاملات والمزارعات والمناكح وفي تأدية الأمانات
مع نصيحة البعض للبعض بضروب المعاونات وعند جهاج الأعداء والذب عن الحريم
وحماية الحوزة قالوا فهذه هي العبادات وهي الطرق المؤدية إلى الله عز وجل.
وهذه
الأنواع
وإن كانت معدودة ومحصورة فإنها منقسمة إلى أنواع كثيرة وأقسام غير
محصاة، وللإنسان مقامات ومنازل عند الله عز وجل. فالمقام الأول للموقنين
وهو رتبة الحكماء وأجلة العلماء. والمقام الثاني مقام المحسنين. وهو رتبة
الذين يعملون بما يعملون. وهو ما ذكرناه في كتابنا هذا من الفضائل والعمل
بها والمقام الثالث مقام الأبرار وهو رتبة المصلحين وهؤلاء هم خلفاء الله
بالحقيقة في إصلاح العباد والبلاد. والمقام الرابع مقام الفائزين وهو رتبة
المخلصين في المحبة وإليها ننتهي رتبة الإتحاد وليس بعدها منزلة ولا مقام
لمخلوق ويسعد الإنسان بهذه المنازل إذا حصلت له أربع خلال. أولها الحرص
والنشاط والثاني العلوم الحقيقة والمعارف اليقينية. والثالث الحياء من
الجهل ونقصان القريحة اللذين يحدثان بالإهمال. والرابع لزوم هذه الفضائل
والترقي فيها دائما بحسب الإستطاعة فهذه أسباب الإتصال.
أسباب
الإنقطاع عن الله
وأما أسباب الإنقاطات عن الله عز وجل والمساقط وهي
التي تعرف باللعاين. فأولها السقوط الذي يستحق به الأعراض وتتبعه
الإستهانة.
والثاني
السقوط الذي يستحق به الحجاب ويتبعه الإستخفاف، والثالث السقوط الذي يستحق
بالطرد ويتبعه المقت. والرابع السقوط الذي يستحق به الخسأة ويتبعه البغض.
وإنما يشقى لاعبد إذا حصل على أربع خلال.
أولها الكسل والبطالة
ويتبعهما ضياع الزمان وفناء العمر بغير فائدة إنسانية. والثاني الغباوة
والجهل المتولدان عن ترك النظر ورياضة النفس بالتعاليم التي أحصيناها في
كتاب مراتب السعادات.
والثالث الوقاحة التي ينتجها إهمال النفس إذا
تتبعت الشهوات وترك زمامها لركوب الخطايا والسيئات، والرابع الإنهماك الذي
يحدث من الإستمرار في القبائح وترك الإنابة وهذه الأنواع الأربعة مسماة في
الشريعة بأربعة أسماء، فالأول هو الزيغ والثاني هو الرين والثالث هو
الغشاوة، والرابع هو الختم.
ولكل واحدة من هذه الشقاوات علاج خاص
سنذكره عند مدواة أسقام النفس حتى تعود إلى الصحة بإذن الله عز وجل. وهذه
الأشياء التي عددناها الآن لاخلاف بين الحكماء فيها وبين أصحاب الشرائع
وإنما تختلف بالعبارات والإشارات إليها بحسب اللغات. وأفلاطون يقول
إنالعدالة إذا حصلت للإنسان أشرق بهاكل واحد واحد من أجزاء النفس وذلك
لحصول فضائلها أجمع فيها فيحنئذ تنهض النفس فتؤدي فعلها الخاص بها على
أفضل ما يكون وهو غاية قرب الإنسان السعيد من الإله تقدس إسمه.
التي تعرف باللعاين. فأولها السقوط الذي يستحق به الأعراض وتتبعه
الإستهانة.
والثاني
السقوط الذي يستحق به الحجاب ويتبعه الإستخفاف، والثالث السقوط الذي يستحق
بالطرد ويتبعه المقت. والرابع السقوط الذي يستحق به الخسأة ويتبعه البغض.
وإنما يشقى لاعبد إذا حصل على أربع خلال.
أولها الكسل والبطالة
ويتبعهما ضياع الزمان وفناء العمر بغير فائدة إنسانية. والثاني الغباوة
والجهل المتولدان عن ترك النظر ورياضة النفس بالتعاليم التي أحصيناها في
كتاب مراتب السعادات.
والثالث الوقاحة التي ينتجها إهمال النفس إذا
تتبعت الشهوات وترك زمامها لركوب الخطايا والسيئات، والرابع الإنهماك الذي
يحدث من الإستمرار في القبائح وترك الإنابة وهذه الأنواع الأربعة مسماة في
الشريعة بأربعة أسماء، فالأول هو الزيغ والثاني هو الرين والثالث هو
الغشاوة، والرابع هو الختم.
ولكل واحدة من هذه الشقاوات علاج خاص
سنذكره عند مدواة أسقام النفس حتى تعود إلى الصحة بإذن الله عز وجل. وهذه
الأشياء التي عددناها الآن لاخلاف بين الحكماء فيها وبين أصحاب الشرائع
وإنما تختلف بالعبارات والإشارات إليها بحسب اللغات. وأفلاطون يقول
إنالعدالة إذا حصلت للإنسان أشرق بهاكل واحد واحد من أجزاء النفس وذلك
لحصول فضائلها أجمع فيها فيحنئذ تنهض النفس فتؤدي فعلها الخاص بها على
أفضل ما يكون وهو غاية قرب الإنسان السعيد من الإله تقدس إسمه.
قال
والعدالة توسط ليس على جهة التوسط الذي في الفضائل التي تقدم ذكرها. لكن
لأنها في الوسط والجور في الطرفين. وإنما صار الجور في الطرفين لأنه زيادة
ونقصان. وذلك أن من شأن الجور طلب الزيادة والنقصان معا.
أما الزيادة
فمن النافع على الإطلاق. وأما النقصان فمن لاضار فلذلك يكون الجائر
مستعملا للزيادة والنقصان إما لنفسه فيستعمل الزيادة في النافع. وأما
لغيره فيستعمل النقصان منه، وأما في الضار فبالضد وعلى العكس. وذلك أنه
إما لنفسه فيستعمل النقصان وإما لغيره فيستعمل الزيادة والفضائل التي قلنا
أنها أوساط بين الرذائل وهي غايات ونهايات. وذلك أن الوسط ههنا نهاية لها
من كل جهة فهو في غاية البعد منها ولذلك متى بعد عن الوسط زيادة بعد قرب
من رذيلة كما قلناه فيما تقدم. فقد تبين من جميع ما قدمنا أن الفضائل كلها
إعتدالات وأن العدالة إسم يشملها ويعمها كلها وأن الشريعة لما كانت تقدر
الأفعال الإرادية التي تقع بالروية الإلهي صار المتمسك بها في معاملاته
عدلا والمخالف جائرا. فلهذا قلنا ان العدالة لقب للمتمسك بالشريعة، إلا
أنا قد قلنا مع ذلك انها هيئة نفسانية تصدر عنها هذه الفضيلة.
فتصور
الهيئة النفسانية فإنك سترى رؤية واضحة أن صاحبها ينقاد ولا محالة للشريعة
طوعا ولا يضادها بنوع من أنواع التضاد وذلك أنه إذا حافظ على المناسبات
التي ذكرناها لأنها مساواة وآثرها بعد إجالة الرأي فيها على سبيل الإختيار
لها والرغبة فيها وجب عليه موافقة الشريعة وترك مخالفتها.
وأقل ماتكون
المساواة بين اثنين ولكنها تكون في معاملة مشتركة بينهما وهو الشيء الثالث
وربما كانا شيئين كما قلنا فتصير المناسبات كما بينا بين أربعة أشياء.
وينبغي أن يعلم ان هذه الهيئة النفسانية هي غير الفعل وغير المعرفة وغيرة
القوة.
أما الفعل فلأنّا قد بينا انه قد يقع على غير هيئة نفسانية. كمن
يعمل أعمال العدالة وليس بعادل وكمن يعمل أعمال الشجاعة وليس بشجاع وأما
القوة والمعرفة فلان كل واحدة منهما هي بعينها للضدين معا. فإن العلم
بالضدين واحد وكذلك القوة على الضدين قوة واحدة. وأما لاهيئة القابلة لأحد
الضدين فهي غير الهيئة القابلة للضد الآخر. ومثال ذلك هيئة الشجاعة فإنها
غير هيئة الجبن وكذلك هيئة العفة غير هيئة الشره وهيئة العدالة غير هيئة
الجور. ثم إن العدالة والخيرية يشتركان في باب المعاملات والأخذ والإعطاء.
إلا أن العدالة تقع في اكتساب المال على الشرائط التي قدمنا القول فيها.
والخيرية تقع في إنفاق المال على الشرائط التي ذكرناها أيضا ومن شأن من
يكتسب أن يأخذ فهو بالمنفعل أشبه ومن شأن المنفق أن يعطي فهو بالفاعل
أشبه. فلهذه العلة تكون محبة الناس للخير أشد من محبتهم للعادل. إلا أن
نظام العالم بسبب العدالة أكثر منه بالخيرية. وخاصة الفضيلة هي في فعل
الخير لا في ترك الشر وخاصة محبة الناس وحمدهم في بذل المعروف لا في جمع
المال. فالخير لا يكرم المال ولا يجمعه لذاته بل ليصرفه في وجوهه التي
يكتسب بها المحبات والمحامد. ومن خاصة الخير أن لا يكون كثير المال لأنه
منفاق ولا يكون أيضا فقيرا لأنه كسوب من حيث ينبغي وهو غير متكاسل عن
الكسب ألبتة لأنه بالمال يصل إلى فضيلة الخيرية. ولذلك لا يضيع المال ولا
يستعمل فيه التبذير ولا يشح أيضا فلا يستعمل التقتير: خير عادل وليس كل
عادل خيرا.
مسألة عويصة أولى
وفي هذا الموضع مسألة
عويصة سأل عنها الحكماء أنفسهم وأجابوا عنها بجواب مقنع ويمكن أن يجاب
فيها بجواب آخر أشد إقناعا ويجب أن نذكر لاجميع وهو: أن لشاك أن يشك فيقول
إذا كانت العدالة فعلا اختياريا يتعاطاه العادل ويقصد به تحصيل الفضيلة
لنفسه والمحمدة من الناس فيجب أن يكون الجور فعلا اختياريا يتعاطاه الجائر
ويقصد به تحصيل الرذيلة لنفسه ومذمة الناس. ومن القبيح الشنيع أن يظن
بالإنسان العاقل أنه يقصد الأضرار بنفسه بعدالروية وعلى سبيل الإختيار. ثم
أجابوا عن ذلك وحلوا هذا الشك بأن قالوا أن من ارتكب فعلا يؤديه إلى ضرر
أو عذاب فإنه يكون ظالما لنفسه وضارا لها من حيث يقدر أنه ينفعها وذلك
لسوء اختياره وترك مشاورة العقل فيه. مثال ذلك الحاسد فإنه ربما جنة على
نفسه لأعلى سبيل إيثار الأضرار بها بل لأنه يظن أنه ينفعها في العاجل
بالخلاص من الأذى الذي يلحقه من الحسد. هذا جواب القوم وأما الجواب الآخر
فهو أن الإنسان لما كان ذا قوى كثيرة يسمى بمجموعها إنسانا واحدا لم ينكر
أن تصدر عنه أفعال مختلفة بحسب تلك القوى. وإنما المنكر أن يكون الشيء
الواحد البسيط ذو القوة الواحدة تقع منه بتلك القوة أفعال مختلفة لا بحسب
الآلات المختلفة ولا بقدر القابلات منه بل بتلك القوة الواحدة فقط. فهذ1
لعمري منكر شنيع ولكن الإنسان قد تبين من حاله أن له قوى كثيرة فيعمل بكل
قوة عملا مخالفا للعمل بالأخرى أعني أن صاحب الغضب إذا استشاط يختار
أفعالا مخالفة لأفعاله إذا كان ساكنا وديعا.
وكذلك صاحب الشهوة الهائجة
وصاحب النشوة الطروب فإن من شأن هؤلاء أن يستخدموا العقل الشريف في تلك
الأحوال ولا يستشيرونه ولذلك تجد العاقل إذا تغيرت أحواله تلك فصار من
الغضب إلى الرضا ومن السكر إلى الإفاقة تعجب من نفسه وقال ليت شعري كيف
اخترت تلك الأفعال القبيحة ويلحقه الندم. وإنما ذلك لأن القوة التي تهيج
به تدعوه إلى ارتكاب فعل يظنه في تلك الحال صالحا له جميلا به لتتم له
حركة القوة الهائجة به. فإذا سكن عنها وراجع عقله رأى قبح ذلك الفعل
وفساده. وقوى الإنسان التي تدعوه إلى ضروب الشهوات ومحبة الكرامات كثيرة
جدا فهو بحسب قواه الكثيرة تكون أفعاله كثيرة.
فإذا تعود الإنسان أن
تكون سيرته فاضلة ولم يقدم على شيء من أفعاله إلا بعد مطالعة العقل الصريح
وبعد مراعاة الشريعة القويمة كانت أفعاله كلها منتظمة غير مختلفة ولا
خارجة عن سنن العدل أعني المساواة التي قدمنا القول فيها.
ولهذا السبب
قلنا أن السعيد هو من اتفق له في صباه أن يأنس بالشريعة ويستسلم لها
ويتعود جميع ما تأمره به حتى إذا بلغ المبلغ الذي يمكنه به أن يعرف
الأسباب والعلل طال الحكمة فوجدها موافقة لما تقدمت عادته به فاستحكم رأيه
وقويت بصيرته ونفذت عزيمته.
مسألة عويصة ثانية
وههنا
مسألة عويصة أشد من الأولى وهو أن التفضل شيء محمود جدا وليس يقع تحت
العدالة لأن العدالة كما ذكرنا مساواة ة والتفضل زيادة وقد حكمنا أن
العدالة تجمع الفضائل كلها ولا مزيد عليها بل يجب أن تكون الزيادة عليها
مذمومة كما أن النقصان عنها مذوم ليكون شرف الوسط الذي تقدم وصفه في سائر
الأخلاق حاصلا للعدالة. فالجواب عنها ان التفضل احتياط يقع من صاحبه في
العدالة ليأمن به وقوع النقص في شيء من شرائطها وليس الوسط في كلا الطرفين
من الأخلاق على شريطة واحدة وذلك أن الزيادة في باب السخاء إذا لم تخرج
إلى باب التبذير أحسن من النقصان فيه وأشبه بالمحافظة على شرائطه فتصير
كالاحتياط فيه والأخذ بالحزم فيه. وأما العفة فإن النقصان من الوسط فيها
أحسن من الزيادة عليه وأشبه بالمحافظة على شرائطه وأبلغ في الاحتياط عليه
وأخذ الحزم فيه ومع ذلك فليس يستعمل التفضل إلا حيث تستعلم العدالة. وأعني
بذلك أن من أعطى ماله من لا يستحق شيئا منه وترك مواساة من يستحقه لا يسمى
متفضلا بل مضيعا. وإنما يكون متفضلا إذا أعطى من يستحق كل ما يستحق ثم
زاده تفضلا وهذه الزيادة ليست من الزيادة التي ذكرناها في باب السخاء لأن
تلك الزيادة ذهاب إلى الطرف الذي يسمى تبذيرا وهو مذموم ويعرف ذلك من حده
وهو بذل مالا ينبغي كمالا ينبغي في الوقت الذي لا ينبغي. فإذا التفضل غير
خارج عن شرط العدالة بل هو احتياط فيها، ولذلك قيل أن المتفضل أشرف من
العادل. فقد بان أن التفضل ليس غير العدالة بل هو العدالة مع الاحتياط
فيها وكأنه مبالغة لا يخرجها عن معناها لأن هذه الهيئة النفسانية ليست غير
تلك الهيئة بل هي. فأما الأطراف التي هي رذائل أعني الزيادة والنقصان التي
سبق القول فيهما فهي كلها هيئات مذمومة غير الهيئات المحمودة. وحدود هذه
الأشياء هي التي تحصل لك معانيها ومشاركة بعضها البعض. ومباينة بعضها
البعض. وأيضا فإن الشريعة تأمر بالعدالة أمرا كليا وليست تنحط إلى
الجزئيات وأعني بذلك أن العدالة التي هي المساواة تكون مرة في باب الكم
ومرة في باب الكيف وفي سائر المقولات وبيان ذلك أن نسبة الماء إلى الهواء
مثلا ليست تكون بالكمية بل بالكيفية ولو كانت بالكمية لوجب أن يكونا
متساويين في المساحة ولو كانا كذلك لتغالبا وأحال أحدهما الآخر إلى ذاته.
وكذلك
النار
والهواء ولو أحالت هذه العناصر بعضها بعضا لفنى العالم في أقرب مدة.
ولكن الباري تقدس اسمه عدل بين هذه بالقوة فتقاومت فليس يغلب أحد الآخر
بالكلية وإنما يحيل الجزء منهاالجزء في الأطراف أعني حيث تلتقي نهاياتها.
وأما كلياتها فلا تقدر على كلياتها لأن قواها متساوية متعادلة على غاية
التسوية والتعادل.
وبهذا النوع من العدل قيل بالعدل قامت السموات
والأرض ولو رجح أحدهما على الآخر بزيادة يسير قوة لأحال الزائد الناقص
وقوى عليه فبطل العالم فسبحان القائم بالقسط لا إله إلا هو.
؟؟الشريعة
تأمر بالعدالة ولما كانت الشريعة تأمر بالعدالة الكاملة لم تأمر بالتفضل
الكلي بل ندبت إليه ندبا يستعمل في الجزئيات التي لا يمكن أن تعين عليها
لأنها بلا نهاية وجزمت القول في العدالة الكلية لأنها محصورة يمكن أن تعين
عليها وقد تبين أيضا مما قدمنا أن التفضل إنما يكون في العدالة التي تخص
الإنسان في نفسه. أعني تسوية المعاملة أولا فيما بينه وبين غيره ثم
الإستظهار فيه والإحتياط عليه بما يكون تفضلا ولو كان حاكما بين قوم ولا
نصيب له في تلك الحكومة لم يجز له التفضل ولم يسعه إلا العدل المحض
والتسوية الصحيحة بلا زيادة ولا نقصان. وتبين أيضا أن الهيئة التي تصدر
عنها الأفعال العادلة متى نسبت إلى صاحبها سميت فضيلة وإذا نسبت إلى من
يعامله بها سميت عدالة وإذا اعتبرت بذاتها سميت ملكة نفسانية.
فاستعمال
المر
العاقل العدل على نفسه أو ما يلزمه ويجب عليه. وقد ذكرنا فيما تقدم
كيف يفعل ذلك وبينا كيف يعدل قواه الكثيرة إذا هاج به بعضها وأشرنا إلى
أجناس هذه القوى الكثيرة وأن بعضها يكون بالشهوات المختلفة وبعضها بطلب
الكرامات الكثيرة وأنها إذا تغالبت وتهايجت حدث في الإنسان باضطرابها
أنواع الشر وجذبته كل واحدة منها إلى ما يوافقها وهكذا سبيل كل مركب من
كثرة إذا لم يكن لها رئيس واحد ينظمها ويوحدها. وارسطوطاليس يشبه من كان
كذلك بمن يجذب من جهات كثيرة فيقطع بينها وينشق بحسب تلك الجهات وقواها.
وليس
ينظم
هذه الكثرة التي ركب الإنسان منها إلا الرئيس الواحد الموهوب له من
الفطرة. أعني العقل الذي به تميز من البهائم وهو خليفة الله عز وجل عنده
فإن هذه القوى كلها إذا ساسها العقل انتظمت وزال عنها سوء النظام الذي
يحدث من الكثرة وجميع ما ذكرنا من إصلاح الأخلاق مبني عليه. فإذا تم
للإنسان ذلك أعني أن يعدل على نفسه وأحرز هذه الفضيلة فقد لزمه أن يعدل
على أصدقائه وأهله وعشيرته ثم يستعمله في الأباعد وسائر الحيوان وإذ قد صح
ذلك وظهر ظهورا حسيا فقد ظهر بظهوره إن شر الناس من جار على نفسه ثم على
أصدقائه وعشيرته ثم على كافة الناس والحيوان لأن العلم بأحد الضدين هو
العلم بالضد الآخر. فخير الناس العادل وشرهم الجائر كما تبين ذلك. وقد
ادعى قوم أن نظام أمر الموجودات كلها وصلاح أحوالها معلق بالمحبة وقالوا
أن الإنسان إنما اضطر إلى اقتناء هذه الفضيلة أعني الهيئة التي تصدر عنها
العدالة عند تعاطي المعاملات لما فاته شرف المحبة. ولو كان المتعاملون
أحباء لتناصفوا ولم يقع بينهم خلاف. وذلك أن الصديق يحب صديقه ويريد له ما
يريد لنفسه ولا تتم الثقة والتعاضد والتوازر الأبين المتحابين.
وإذا
تعاضدوا وجمعتهم المحبة وصلوا إلى جميع المحبوبات ولم تتعذر عليهم المطالب
وإن كانت صعبة شديدة. وحيئنذ ينشئون الآراء الصائبة وتتعاون العقول على
استخراج الغوامض من التدابير القويمة ويتقوون على نيل الخيرات كلها
بالتعاضد.
وهؤلاء القوم إنما نظروا إلى فضيلة التأحد التي تحصل بين
الكثرة ولمعرى انها اشرف غايات أهل المدينة. وذلك أنهم إذا تحابوا تواصلوا
وأراد كل واحد منهم لصاحبه مثل ما يريده لنفسه فتصير القوى الكثيرة واحدة
ولم يتعذر على أحد منهم رأى صحيح ولا عمل صواب ويكون مثلهم في جميع ما
يحاولونه مثل من يريد تحريك ثقل عظيم بنفسه فلا يطيق ذلك.
فإن استعان
بقوة غيره حركه. ومدبر المدينة إنما يقصد بجميع تدابيره إيقاع المودات بين
أهلها وإذا تم له هذا خاصة فقد تمت له جميع الخيرات التي تتعذر عليه وحده
على أفراد أهل مدينته وحينئذ يغلب أقرانه ويعمر بلدانه ويعيش وهو ورعيته
مغبوطين. ولكن هذا التأحد المطلوب بهذهالمحبة المرغوب فيهما لا يتم إلا
بالآراء الصحيحة التي يرجى الإتفاق من العقول السليمة عليها والإعتقادات
القوية التي لا تحصل إلا بالديانات التي يقصد بها وجه الله عز وجل وأصناف
المحبات كثيرة وإن كانت ترتقي كلها إلى وجه واحد وسنقول فيها بمعونة الله
فيما يتلو هذه المقالة إن شاء الله.
؟المقالة الخامسة (التعاون
والإتحاد) قد سبق القول في حاجة بعض الناس إلى بعض وتبين أن كل واحد منهم
يجد تمامه عند صاحبه وأن الضرورة داعية إلى استعانة بعضهم ببعض لأن الناس
مطبوعون على النقصانات ومضطرون إلى تماماتها ولا سبيل فالحاجة صادقة
والضرورة داعية إلى حال تجمع وتؤلف بين أشتات الأشخاص ليصيروا بالاتفاق
والإئتلاف كالشخص الواحد الذي تجتمع أعضاؤه كلها على الفعل الواحد النافع
له.
؟المحبة وللمحبة أنواع وأسبابها تكون بعدد أنواعها. فأحد أنواعها
ما ينعقد سريعا وينحل سريعا. والثاني ما ينعقد سريعا وينحل بطيئا. والثالث
ما ينعقد بطيئا وينحل سريعا. والرابع ما ينعقد بطيئا وينحل بطيئا. وإنما
انقسمت إلى هذه الأنواع فقد لأن مقاصد الناس في مطالبهم وسيرهم ثلاثة
ويتركب بينها رابع وهي اللذة والخير والمنافع والمتركب منها.
وإذا
كانت هذه غايات الناس في مقاصدهم فلا محالة أنها أسباب المحبة من عاون
عليها وصار سببا للوصول إليها فقد أفلح: فأما المحبة التي يكون سببها
اللذة فهي التي تنعقد سريعا وتنحل سريعا. وذلك أن اللذة سريعة التغير كما
شرحنا أمرها فيما نقدم وأما المحبة التي سببها الخير فهي التي تنعقد سريعا
وتنحل بطيئا. وأما المحبة التي سببها المنافع فهي التي تنعقد بطيئا وتنحل
سريعا. وأما التي تتركب من هذه إذا كان فيها لأنها تكون بإرادة وروية
وتكون فبها مجازاة ومكافأة.
فأما التي تكون بين الحيوانات غير الناطقة
فالأحرى بها أن تسمى ألفا وتقع بين الأشكال منها خاصة. وأما التي لا نفوس
لها من الأحجار وأمثالها فليس يوجد فيها إلا الميل الطبيعي إلى مراكزها
التي تخصها. وقد يوجد أيضا بينها منافرة ومشاكلة بحسب أمزجتها الحادثة
فيها من عناصرها الأولى وهذه الأمزجة كثيرة وإذا وقع منها شيء يتناسب نسبة
تأليفية او عددية أو مساحية حدثت بينها ضروب من المشاكلة. وإذا كان أضداد
هذه النسب حدثت بينها منافرة وتحدث لها أشياء تسمى خواص وهي أفعال بديعة
وهي التي تسمى أسرار الطبائع ولا سيما في النسب التأليفية فإنها أشرف
النسب بعد نسبة المساواة ولها أضداد أعني هذه النسب. وهي مبينة مشروحة في
صناعة الإرتماطيقي ثم في صناعة التأليف. وأما الأمزجة التي بحسب هذه النسب
فهي خفية عنا وعسرة المرام وقد ادعة قوم الوصول إليها. وليست تكون هذه
الأفعال والخواص التي تحدث بين الأمزجة من النسب المذكورة موجودة في
العناصر أنفسها والكلام فيها خارج عن غرضنا. وإنما ذكرناها هنا لأنها تشبه
المشاكلات والمنافرات التي بين الحيوان في الظاهر والنسبة التي تحدث بين
الناس بالإراة وهي التي تتكلم فيها ويقع فيها مكافأة ومجازاة.
كانت هذه غايات الناس في مقاصدهم فلا محالة أنها أسباب المحبة من عاون
عليها وصار سببا للوصول إليها فقد أفلح: فأما المحبة التي يكون سببها
اللذة فهي التي تنعقد سريعا وتنحل سريعا. وذلك أن اللذة سريعة التغير كما
شرحنا أمرها فيما نقدم وأما المحبة التي سببها الخير فهي التي تنعقد سريعا
وتنحل بطيئا. وأما المحبة التي سببها المنافع فهي التي تنعقد بطيئا وتنحل
سريعا. وأما التي تتركب من هذه إذا كان فيها لأنها تكون بإرادة وروية
وتكون فبها مجازاة ومكافأة.
فأما التي تكون بين الحيوانات غير الناطقة
فالأحرى بها أن تسمى ألفا وتقع بين الأشكال منها خاصة. وأما التي لا نفوس
لها من الأحجار وأمثالها فليس يوجد فيها إلا الميل الطبيعي إلى مراكزها
التي تخصها. وقد يوجد أيضا بينها منافرة ومشاكلة بحسب أمزجتها الحادثة
فيها من عناصرها الأولى وهذه الأمزجة كثيرة وإذا وقع منها شيء يتناسب نسبة
تأليفية او عددية أو مساحية حدثت بينها ضروب من المشاكلة. وإذا كان أضداد
هذه النسب حدثت بينها منافرة وتحدث لها أشياء تسمى خواص وهي أفعال بديعة
وهي التي تسمى أسرار الطبائع ولا سيما في النسب التأليفية فإنها أشرف
النسب بعد نسبة المساواة ولها أضداد أعني هذه النسب. وهي مبينة مشروحة في
صناعة الإرتماطيقي ثم في صناعة التأليف. وأما الأمزجة التي بحسب هذه النسب
فهي خفية عنا وعسرة المرام وقد ادعة قوم الوصول إليها. وليست تكون هذه
الأفعال والخواص التي تحدث بين الأمزجة من النسب المذكورة موجودة في
العناصر أنفسها والكلام فيها خارج عن غرضنا. وإنما ذكرناها هنا لأنها تشبه
المشاكلات والمنافرات التي بين الحيوان في الظاهر والنسبة التي تحدث بين
الناس بالإراة وهي التي تتكلم فيها ويقع فيها مكافأة ومجازاة.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الصداقة
فإذا الجوهر الإلهي الذي في الإنسان إذا صفا من كدورته
التي حصلت فيه من ملابسة الطبيعة ولم تجذبه أنواع الشهورات وأصناف محبات
الكرامات اشتاف إلى شبيهه ورأى بعين عقله الخير الأول المحض الذي لا تشوبه
مادة فأسرع إليه وحينئذ يفيض نور ذلك الخير الأول عليه فيلتذ به لذة لا
تشبهها لذة ويصير إلى معنى الإتحاد الذي وصفناه استعمل الطبيعة البدنية أم
لم يستعملها. إلا أنه بعد مفارقته الطبيعة بالكلية أحق بهذه المرتبة
العالية لأنه ليس يصفو الصفاء التام إلا بعد مفارقته الحياة الدنيوية.
ومن
فضائل
هذه المحبة الإلهية أنها لا تقبل النقصان ولا تقدع فيها السعاية ولا
يعترض عليها الملك ولا تكون إلا بين الأخيار فقط. وأما المحبات التي تكون
بسبب المنفعة واللذة فقد تكون بين الأشرار وبين الأخيار والأشرار. إلا
أنها تنقضي وتنحل مع تقضي المنافع واللذائذ لأنها عرضية وكثيرا ما تحدث
بالإجتماعات في المواضع الغريبة. إلا انها تزول بزوال المواضع كالسفينة
وما جرى مجراها.
والسبب في هذه المحبة الأنس وذلك أن الإنسان آنس
بالطبع وليس بوحشي ولا نفور ومنه اشتق إسم الإنسان في اللغة العربية وقد
تبين ذلك في صناعة النحو وليس كما قال الشاعر:
سميت إنسانا لأنك ناس
فإن
هذا
الشاعر ظن أن الإنسان مشتق من النسيان وهو غلط منه. وينبغي ان يعلم أن
هذا الأنس الطبيعي في الإنسان هو الذي ينبغي أن نحرص عليه ونكتسبه مع
أبناء جنسنا حتى لا يفوتنا بجهدنا واستطاعتنا فإنه مبدأ المحبات كلها.
الشريعة
تدعو إلى الأنس والمحبة
وحيئنذ تتبدل أوضاع الدين ويجد الناس رخصة في شهواتهم ويكثر من
يساعدهم على ذلك فتنقلب هيئة السعادة إلى ضدها ويحدث بينهم الإختلاف
والتباغض فأداهم ذلك إلى الشتات والفرقة وبطل الفرض الشريف وانتقض النظام
الذي طلبه صاحب الشرع بالأوضاع الإلهية فاحتيج حينئذ إلى تجديد الأمر
واستئناف التدبير وطلب الإمام الحق والملك العدل ونعود إلى ذكر أجناس
المحبات وأسبابها فنقول:
أجناس المحبات وأسبابها
وكذلك محبة الوالد
للولد والولد للوالد فإن أنواع هذه المحبة مختلفة وأسبابها أيضا مختلفة
كما قلنا إلا أن محبة الوالد للولد والولد للوالد وإن كان بينهما اختلاف
ما من وجه فإن بينهما إتفاقا ذاتيا.
وأعني بالذاتي ههنا إن الوالد يرى
في ولده أنه هو هو وأنه نسخ صورته التي تخصه من الإنسانية في شخص ولده
نسخا طبيعيا ونقل ذاته إلى ذاته نقلا حقيقيا. وحق له أن يرى ذلك لأن
التدبير الإلهي بالسياسة الطبيعية التي هي سياسته عز وجل هو الذي عاون
الإنسان على إنشاء الولد وجعله السبب الثاني في إيجاده ونقل صورته
الإنسانية إليه.
ولذلك يحب الوالد لولده جميع ما يحبه لنفسه ويسعى في
تأديبه وتكميله بكل ما فاته في نفسه طول عمره. ولا يشق عليه أن يقال له
ولدك أفضل منك لأنه يرى أنه هو هو. وكما أن الإنسان إذا تزايد في نفسه
حالا فحالا وترقى في الفضيلة درجة فدرجة لا يشق عليه أن يقال له إنك الآن
أفضل مما كنت بل يسره ذلك كذلك تكون حاله إذا قيل له في ولده مثل ذلك. ثم
تفضل أيضا محبة الوالد على محبة الولد بأنه الفاعل له وبأنه يعرفه منذ أول
تكوينه ويستبشر به وهو جنين ثم تزداد محبته له مع التربية والنشأة ويتأكد
سروره به وتأميله له. ويحدث له اليقين بأنه باق به صورة وأن فنى بجسمه
مادة وهذه المعاني الجليلة عند أهل العلم تتراءى للعوام كأنها من وراء ستر.
وأما
محبة
الولد للوالد فإنها تنقص عن هذه الرتبة بأن الولد مفعول وبأنه لا
يعرف ذاته ولا فاعل ذاته إلا بعد زمان طويل وبعد أن يستثبت أباه حسا
وينتفع به دهرا ثم يعقل بعد ذلك أمره بالصحة وعلى مقدار عقله واستبصاره في
الأمور يكون تعظيمه لوالديه ومحبه لهما ولهذه العلة وصى الله عز وجل الولد
بوالده ولم يوص الوالد بولده. وأما محبة الأخوة بعضهم لبعض فلأن سبب
تكوينهم ونشؤهم واحد بعينه.
نسبة الملك إلى رعيته
وأماالمحبة
التي لا تشوبها الإنفعالات ولا تطرأ عليها الآفات وهي محبة العبد لخالقه
عز وجل فإنها إنما تخلص للعالم العرباني وحده خاصة ولا سبيل لغيره إليها
إلا بالدعوى الكاذبة. وكيف يجد الإنسان السبيل غلىمحبة من لا يعرفه ولا
يعرف ضروب إنعامه الدارة عليه ووجوه إحسانه المتصلة به في بدنه وفنسه
اللهم إلا أن يتصور في نفسه صنما ويظنه الخالق عزوجل فيحبه ويعبده فإن
اكثر الناس كما قال تعالى: (وَما يُؤمِنُ أَكثَرُهم بِاللهِ إِلا وَهُم
مُشرِكون) ولعمري أن العامة تدعى المعرفة والمحبة وهم يتصورون شخصا وشبحا
فتكون عبادتهم له دون الله وهذا هو الضلال البعيد. ومدعو هذه المحبة
كثيرون جدا والمحقون منهم قليلون حداا بل هم أقل من القليل. وهذه المحبة
لا محالة تتصل بها الطاعة والتعظيم ويتلوها ويقرب منها محبة الوالدين
وإكرامهما وطاعتهما. وليس يرتقي إلى مرتبتهما شيء من المحبات الأخر إلا
محبة الحكماء وطاعتهما. وليس يرتقي إلى مرتبتهما شيء من المحبات الأخر إلا
محبة المحكماء عند تلامذتهم فإنها متوسطة بين المحبة الأولى والمحبة
الثانية.
وذلك أن المحبة الأولى لا يبلغها شيء من المحبات كما أن
أسبابها لا يبلغها شيء من الأسباب والنعم التي تأتي من قبلها لا يشبهها
شيء من النعم. وأماالمحبة الثانية فهي تتلوها لأن سببها هو السبب الثاني
في وجودنا الحسي أعني أبداننا وتكويننا.
وأما محبة الحكماء فهي أشرف
وأكرم من محبة الوالدين لأجل أن تربيتهم هي لنفوسنا وهم الأسباب في وجودنا
الحقيقي وبهم وصولنا إلى السعادة التامة التي نلنا بها اللقاء الأبدي
والنعيم السرمدي في جوار رب العالمين. فبحسب فضل إنعامهم علينا وبقدر فضل
النفوس على الأبدان تجب حقوقهم وتلزم طاعتهم ومحبتهم وليس يبلغ أحد جزاء
ولا مكافأة الأول ولا ما يستأهله الثاني أعني الوالدين وإن هو اجتهد وبالغ
ولا يؤدي حقوقهما أبدا وإن خدم بأقصى طاقته وغاية وسعه، وأما محبة طلب
الحكمة للحكيم والتلميذ الصالح للمعلم الخير فإنها من جنس المحبة الأولى
وفي طريقها. وذلك لأجل الخير العظيم الذي يشرف عليه ويصل إليه وللرجاء
الكريم الذي لا يتحقق إلا بعنايته ولا يتم إلا بمطالعته. ولأنه والدروحاني
ورب بشرى وإحسانه إحسان إليه ذلك أنه يربيه بالفضيلة التامة ويغذوه
بالحكمة البالغة ويسوقه إلى الحياة الأبدية والنعيم السرمدي. وإذا كان هو
السبب في كل وجودنا العقلي وهو المربي لنفوسنا الروحانية فبحسب فضل النفس
على البدن يجب أن يفضل المنعم بذاك وبقدر فضلها على البدن يكون فضل
التربية على التربية فيحق أن يحب التلميذ معلم الحكمة محبة خالصة شبيهة
بالمحبة الأولى. ولذلك قلنا أن هذه المحبة من جنس المحبة الأولى والطاعة
له من جنس تلك الطاعة وكذلك تعظيمه له وإجلاله إياه. ثم لما كان سبب هاتين
النعمتين ومعرضنا لهما وسائقنا إليهما وإلىجميع النعم هو السبب الأول الذي
هو سبب الخيرات كلها قربت منا أوبعدت عنا عرفناها أو لم نعرفها وجب أن
تكون محبتنا لهفي أعلى مراتب المحبات وكذلك طاعتنا له وتمجيدنا إياه. ويجب
على من بلغ هذه المنزلة من الأخلاق أنيعرف مراتب المحبات وما يستحقه كل
واحد من صاحبه حتى لا يبذل كرامة الوالد للرئيس الأجنبي ولا كرامة الصديق
للسلطان ولا كرامة الولد للعثير ولا كرامة الأب للإبن.
فإن لكل واحد من
هؤلاء وأشباههم صنفا من الكرامة وحقا من الجزاء ليس للآخر ومتى خلط فيه
اضطرب وفسد وحدثت الملامات وإذا وفى كل واحد منهم حقه وقسطه من المحبة
والخدمة والنصيحة كان عادلا وأوجبت له محبته وعدالته فيها محبته لصاحبه
ومعامله. وكذلك يجب أن يجري الأمر في مؤانسة الأصحاب والخلطاء والمعاشرين
من توفية حقوقهم وإعطائهم ماهو خاص بهم. ومن غش المحبة والصداقة كان أسوأ
حالا ممن غش الدرهم والدينار.
فإن الحيكم ذكر أن المحبة المغشوشة
تنحل سريعا وتفسد وشيكا كما أن الدرهم والدينار إذا كانا مغشوشين فسدا
سريعا وهذا واجب في جميع أنواع المحبات. ولذلك يتعاطى العاقل أبدا أنمطاء
واحدا ويلزم مذهبا واحدا في إرادة الخير ويفعل جميع ما يفعله من أجل ذاته
ويرى خيره عند غيره كما يراه عند نفسه. وأما صديقه فقد قلنا أنه هو هو إلا
أنه غير بالشخص إما سائر مخالطيه ومعارفه فإنه يسلك بهم مسلك أصدقائه كأنه
مجتهد في أن يبلغ بهم وفيهم منازل الأصدقاء بالحقيقة وأن كان لا يمكن ذلك
في جميعهم. فهذه سيرة الخير في نفسه وفي رؤسائه وأهله وعشيرته وأصدقائه
وسلطانه.
الشرير
وأما من وصل إليه بتعب وسافر في طلبه وشقى
بجمعه فإنه لا محالة يكون شديد الضن به والمحبة له. ولهذه العلة صارت الأم
أكثر محبة للولد من الأب ويعرض لها من الحنين والوله أضعاف ما يعرض للأب.
وبهذا
النوع
من المحبة يحب الشاعر شعره ويعجب به أكثر من أعجاب غيره ولك فاعل
فعل يتعب به فهو يحب فعله. وأيضا فإن المنفعل لا يتعب كتعب الفاعل والآخذ
منفعل والمعطي فاعل فمن هذه الوجوه يتبين أن مصطنع المعروف يحب من أحسن
إليه حيا شديدا. ومن الناس من يصطنع المعروف لأجل الخير نفسه. ومنهم من
يصطنعه لأجل الذكر الجميل. ومنهم من يصطنعه رياء فقط. ومن البين أن أعلاهم
مرتبة من صنعه لذاته أعني لذات الخير. وصاحب هذه الرتبة لا يعرف الذكر
الجميل والثناء الباقي ومحبة من لم يصطنع المعروف عنده وإن لم يقصد ذلك
الفعل ولا بالنية.
ولما حكمنا فيما تقدم حكما مقبولا لا يرده أحد وهو
أن كل إنسان يجب نفسه وكانت هذه المحبة لا محالة تنقسم بالأقسام الثلاثة
التي ذكرناها أعني اللذة والمنافع والخير وجب من ذلك أن لا يوجد من لا
يميز بين هذه الأقسام حتى يعرف الأفضل ، فالأفضل منها فلا يدري كيف يحسن
إلى نفسه التي هي محبوبته فيقع في ضروب من الخطأ لجهله بالخير الحقيقي.
ولذلك
صار
بعض الناس يختار لنفسه سيرة اللذة وبعضهم سيرة الكرامة والمنافع لأنهم
لا يعرفون ما هو أفضل منها. وأما من عرف سيرة الخير وعلو مرتبته فهو لا
محالة يختار لنفسه أفضل السير وأكرم الخيرات فلا يؤثر اللذات البهيمية ولا
اللذات الخارجة عن نفسه فإنها عرضية كلها ومستحيلة ومنحلة لكنه يختار لها
أتم الخيرات وأعلاها واعظمها وهو الخير الذي لها بالذات أعني الذي ليس
بخارج عنها وهو الذي ينسب إلى جزئه الإلهي ومن سار بهذه السيرة وأختارها
لنفسه فقد أحسن إليها وأنزلها في الشرف الأعلى وأهلّها لقبول الفيض الإلهي
واللذة الحقيقية التي لا تفارقه أبدا. وإذا كان بهذه الحال فهو لا محالة
يفعل سائر الخيرات الأخر وينفع غيره ببذل الأموال والسماحة بجمع ما يتشاح
الناس عليه ويخص أصدقاءه من ذلك بكل ما يضيق عنه ذرع أصحاب السير الباقية
فيصير معظما عند كل واحد ولا سيما عند صديقه. وقد بينا فيما تقدم ان
الإنسان مدني بالطبع وشرحنا ومن كان تمامه عند غيره فمن المحال أن يصل مع
الوحدة والتفرد إلى سعادته التامة.
؟الأصدقاء: فالسعيد إذا من اكتسب
الأصدقاء واجتهد في بذل الخيرات لهم ليكتسب بهم مالا يقدر أن يكتسبه لذاته
فيلتذ بهم أيام حياته ويلتذون أيضا به.
وقد شرحنا حال هذه اللذة وأنها
باقية إلهية غير منحلة ولا متغيرة وهؤلاء في جملة الناس قليلون جدا. وأما
أصحاب اللذات البهيمية والنافع فيها فكثيرون جدا وقد يكتفي من هؤلاء
بالقليل كالأبازير في الطعام وكالملح خاصة. وأما الصديق الأول الذي ذكرنا
وصفه فلا يمكن أن يكون كثيرا لعزته ولأنه محبوب بإفراط وإفراط المحبة لا
يصح ولا يتم إلا لواحد. وأما حسن العشرة وكرم اللقاء والسعي لكل أحد بسيرة
الصديق الحقيقي فمبذول لأجل طلب الفضيلة ولأنا قد قلنا فيما تقدم أن الرجل
الخير الفاضل يسلك في عشرة معارفه مسلك الصديق وإن لم تتم الصداقة
الحقيقية فيهم. وارسطوطاليس يقول: (إن الإنسان محتاج إلى الصديق عند حسن
الحال وعند سوؤ الحال. فعند سوء الحال يحتاج إلى معونة الأصقاء وعند حسن
الحال يحتاج إلى المؤانسة وإلى من يحسن إليه).
ولعمري ان الملك
العظيم يحتاج إلى من يصطنعه ويضع إحسانه عنده كما أن الفقير من الناس
يحتاج إلى صديق يصطنعه ويضع عنده المعروف. قال (ومن أجل فضيلة الصداقة
يشارك الناس بعضهم بعضا ويتعاشرون عشرة جميلة ويجتمعون في الرياضات والصيد
والدعوات،وأما سقراطيس فإنه قال بهذه الألفاظ: (إني لأكثر التعجب ممن يعلم
أولاده أخبار الملوك ووقع بعضهم ببعض وذكر الحروب والضغائن ومن انتقم أو
وثبت على صاحبه ولا يخطر ببالهم امر المودة وأحاديث الألفة وما يحصل من
لخيرات العامة لجميع الناس بالمحبة والأنس. وأنه لا يستطيع أحد من الناس
أن يعيش بغير المودة وإن مالت إليه الدنيا بجميع رغائبها. فإن ظن أحد أن
أمر المودة صغير فالصغير من ظن ذلك. وإن قدر أنه موجود ويسير الخطب يدرك
بالهوينا فما أصعبه وما أعسر وجود صداقة يوثق بها عند البلوى) ثم قال:
(لكني أعتقد وأقول أن قدر المودة وخطرها عندي أعظم من جميع ذهب كنوز قارون
ومن ذخائر الملوك ومن جميع ما يتنافس فيه أهل الأرض من الجواهر وماتحويه
الدنيا برا وبحرا ما يتقلبون فيه من سائر الأمتعة والأثاث.
ولا يعدل
جميع ذلك ما اخترته لنفسي من فضيلة المودة. وذلك أن جميع ما أحصيته لا ينفع
صاحبه إذا حلت به لوعة مصيبة في صديقه.
وافهم
من الصديق ههنا أنه آخر هو أنت سواء كان أخا من نسب أو غريبا أو ولدا أو
والدا ولا يقوم له جميع ما في الأرض مقام صديق يثق به في مهم يساعده عليه
سعادة عاجلة أو آجلة تتم له.
فطوبى لمن أوتي هذه النعمة العظيمة وهو
خلو من السلطان. وأعظم طوبى لمن أتيه في سلطان. ذلك أن من باشر أمور
الرعية وأراد أن يعرف أحوالهم وينظر في أمورهم حق النظر لن يكفيه أذنان
ولا عينان ولا قلبد واحد فإن وجد إخوانا ذوي ثقة وجد بهم عيونا وآذانا
وقلوبا كأنها بأجمعها له فقربت عليه أطرافه واطلع من أدنى أمره على أقصاه
ورأى الغائب بصورة الشاهد. فأنى توجد هذه الفضيلة إلا عند الصديق وكيف
يطمع فيها عند غير الرفيق الشفيق؟) ؟كيف يختار الصديق وإذ قد عرفنا هذه
النعمة الجليلة فيجب علينا أن ننظر كيف نقتنيها ومن أين نطلبها وإذا حصلت
لنا كيف نحتفظ بها لئلا يصيبنا فيها ما أصاب الرجل الذي ضرب به المثل حين
طلب شاة سمينة فوجدها وارمة فاغتر بها وظن الورم سمنا فأخذه الشاعر فقال:
أعيذها
نظرات صادقة ... ان تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
لا
سيما وقد علمنا أن الإنسان من بين الحيوان يتصنع حتى يظهر للناس منه مالا
حقيقة له فيبذل ماله وهو بخيل ليقال هو جواد ويقدم في بعض المواطن على بعض
المخاوف ليقال هو شجاع.
وكذلك يكون حال من لا يعرف الحشائش والنبات
فإنها تشتبه في عينه حتى ربما تناول منها شيئا وهو يظنه حلو فإذا طعمه
وجده مرا وربما ظنه غذاء فيكون سما. فينبغي لنا أننحذر ركوب لخطر في تحصيل
هذه النعمة الجليلة حتى لا نقع في مودة المموهين الخداعين الذين يتصورون
لنا بصورة الفضلاء الأخيار. فإذا حصلونا في شباكهم افترسونا كما تفترس
السباع أكيلتها. والطرق إلى السلامة من هذا الخطر بحسب ما أخذناه عن
سقراطيس إذا أردنا أن نستفيد صديقا أن نسأل عنه كيف كان في صباه مع والديه
ومع إخواته وعشيرته فإن كان صالحا معهم فارج الصلاح منه وإلا فابعد منه
وإياك وإياه. قال: (ثم إعرف بعد ذلك سيرته مع أصدقائه قبلك فأضفها إلى
سيرته مع إخوته وآبائه. ثم تتبع أمره في شكر من يجب عليه شكره أو كفره
النعمة. ولست أعني بالشكر المكافأة التي ربما عجز عنها بالفعل ولكن ربما
عطل نيته في الشكر فلا يكافىء بما يستطيع وبما يقدر عليه ويغتنم الجميل
الذي يسدى إليه ويراه حقا له أو يتكاسل عن شكره باللسان. وليس أحد يتعذر
عليه نشر النعمة التي تتولاه والثناء على صاحبها والإعتداد له بها. وليس
شيء أشد إحتياجا للنقم من الكفر وحسبك ما أعده الله لكافر نعمته من النقم
مع تعاليه عن الإستضرار بالكفر. ولا شيء أجلب للنعمة ولا أشد تثبيتا لها
من الشكر وحسبك ما وعد الله به الشاكرين مع إستغنائه عن الشكر. فتعرف هذا
الخلق ممن تريد مؤاخاته واحذر أن تبتلي بالكفر للنعم ولا تكن بالمستحقر
لأيادي الإخوان وإحسان السلطان.
ثم انظر إلى ميله إلى الراحات
وتباطئه عن الحركة التي فيها أدنى نصب. فإن هذا خلق ردىء ويتبعه الميل إلى
اللذات فيكون سببا للتقاعد عما يجب عليه من الحقوق.
ثم انظر نظرا شافيا
في محبته للذهب والفضة وإستهانته بجمعهما وحرصه عليهما فإن كثيرا من
المتعاشرين يتظاهرون بالمحبة ويتهادون ويتناصحون فإذا وقعت بينهم معاملة
في هذين الحجرين هر بعضهم على بعض هرير الكلاب وخرجوا إلى ضروب العداوة.
ثم انظر في محبته للرئاسة والتفريط فإن من أحب الغلبة والترؤس وأن يفرط لا
ينصفك في المودة ولا يرضى منك بمثل ما يعطيك ويحمله الخيلاء والتيه على
الإستهانة بأصدقائه وطلب الترفع عليهم ولا تتم مع ذلك مودة ولا غبطة ولا
بد من أن تؤول الحال بينهم إلى العداوة والأحقاد والأضغان الكثيرة. ثم
انظر هل هو ممن يستهزىء بالغناء واللحون وضروب اللهو واللعب وسماع المجون
والمضاحيك فإن كان كذلك فما أشغله عن مساعدات إخوانه ومواساتهم وما أشد
هربه عن مكافأة بإحسان وإحتمال النصب ودخول تحت جميل. فإن وجدته بريئا من
هذه الخلال فلتحتفظ عليه ولترغب فيه ولتكتف بواحد إن وجد فإن الكمال عزيز.
وأيضا
فإن
من كثرت أصدقاؤه لم يف بحقوقهم واضطر إلى الأغضاء عن بعض ما يجب عليه
والتقصير في بعضه وربما ترادفت عليه أحوال متضادة أعني أن تدعوه مساعدة
صديق إلى أن يسر بسروره ومساعدة آخر أن يغتم بغمه وأن يسعى بسعي واحد
ويقعد بقعود آخر مع أحوال تشبه هذه كثيرة مختلفة. ولا ينبغي أن يحملك ما
حضضتك عليه من طلب الفضائل ممن تصادقه على تتبع صغار عيوبه فتصير بذلك إلى
أن لا يسلم لك أحد فتبقى خلوا من الصديق. بل يجب أن تغض عن المعايب
اليسيرة التي لا يسلم من مثلها البشر وتنظر ما تجده في نفسك من عيب فتحتمل
مثله من غيرك. واحذر عداوة من صادقته أو خالته أو خالطته مخالطة الصديق
واسمع قول الشاعر:
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب
فإن
الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
؟؟آداب
الصداقة لذلك يجب عليك متى حصل لك صديق أن تكثر مراعاته وتبالغ في تفقده
ولا تستهين باليسير من حقه عند مهم يعرض له أو حادث يحدث به.
فأما في
أوقات الرخاء فينبغي أن تلقاه بالوجه الطلق والخلق الرحب وأن تظهر له في
عينك وحركاتك وفي هشاشتك وارتياحك عند مشاهدته إياك ما يزداد به في كل يوم
وكل حال ثقة بمودتك وسكونا إليك ويرى السرور في جميع أعضائك التي يظهر
السرور فيها إذا لقيك. فإن التحفي الشديد عن طلعة الصديق لا يخفى وسرور
الشكل بالشك أمر غير مشكل. ثم ينبغي أن تفعل مثل ذلك بمن تعلم أنه يؤثره
ويحبه من صديق أو ولد أو تابع أو حاشية وتثنى عليهم من غير إسراف يخرج بك
إلى الملق الذي يمقتك عليه ويظهر لك منك تكلف فيه. وإنما يتم لك ذلك إذا
توخيت الصدق في كل ما تثنى به عليه. والزم هذه الطريقة حتى لا يقع منك
توان فيها بوجه من الوجوه وفي حال من الأحوال. فإن ذلك يجلب المحبة
الخالصة ويكسب الثقة التامة ويهديك محبة الغرباء ومن لا معرفة لك به.
وكما
أن
الحمام إذا ألف بيوتنا وآنس لمجالسنا وطاف بها يجلب لنا أشكاله وأمثاله
فكذلك حال الإنسان إذا عرفنا واختلط بنا إختلاط الراغب فينا الآنس بنا. بل
يزيد على الحيوان الغير الناطق بحسن الوصف وجميل الثناء ونشر المحاسن.
وأعلم أن مشاركة الصديق في السراء إذا كنت فيها وإن كانت واجبة عليك حتى
لا تستأثرها ولا تختص بشيء منها فإن مشاركته في الضراء أوجب وموقعها عنده
أعظم. وانظر عند ذلك أن إصابته نكبة أو لحقته مصيبة أوعثر به الدهر كيف
تكون مواساتك له بنفسك وما لك وكيف يظهر له تفقدك ومراعاتك. ولا تنتظرن به
أن يسألك تصريحا أو تعريضا بل اطلع على قلبه وأسبق إلى ما في نفسه وشاركه
في مضض ما لحقه ليخف عنه. وإن بلغت مرتبة من السلطان والغنى فاغمس إخوانك
فيها من غير امتنان ولا تطاول. وإن رأيت من بعضهم نبوا عنك أو نقصانا مما
عهدته فداخله زيادة مداخلة واختلط به واجتذبه إليك. فإنك إن أنفت من ذلك
أو تداخلك شيء من الكبر والصلف عليهم انتقض حبل المودة وانتكثت قوته. ومع
ذلك فلست تأمن أن يزولوا عنك فتستحي منهم وتضطر إلى قطيعتهم حتى لا تنظر
إليهم. ثم حافظ على هذه الشروط بالمداومة عليها لتبقى المودة على حال
واحدة. وليس هذا الشرط خاصا بالمودة بل هو مطرد في كل ما يخصك أعني أن
مركوبك وملبوسك ومنزلك متى لم تراعها مراعاة متصلة فسدت وانتقضت. فإذا
كانت صورة حائطك وسطوحك كذلك ومتى غفلت أو توانيت لم تأمن تقوضه وتهدمه
فكيف ترى أن تجفو من ترجوه لكل خير وتنتظر مشاركته في السراء والضراء؟ ومع
ذلك فإن ضرر تلك يختص بك بمنفعة واحدة. وأما صديقك فوجوه الضرر التي تدخل
عليك بجفائه وانتقاض مودته كثيرة عظيمة. ذلك أنه ينقلب عدوا وتتحول منافعه
مضارا فلا تأمن غوائله وعدواته مع عدمك الرغائب والمنافع به وينقطع رجاؤك
فيما لا تجد له خلفا ولا تستفيد عنه عوضا ولا يسد مسده شيء.
وإذا
راعيت شرطوه وحافظت عليها بالمداومة أمنت جميع ذلك. ثم احذر المراء معه
خاصة وإن كان واجبا أن تحذره مع كل أحد فإن مماراة الصديق تقتلع المودة من
أصلها لأنها سبب الإختلاف والإختلاف سبب التباين الذي هربنا منه إلى ضده
وقبحنا أثره واخترنا عليه الألفة التي طلبناها وأثنينا عليها وقلنا أن
الله عز وجل دعا إليها بالشريعة القويمة. وإني لأعرف من يؤثر المراء ويزعم
أنه يقدح خاطره ويشحذ ذهنه ويثير شكوكه فهو يتعمد في المحافل التي تجمع
رؤوساء أهل النظر ومتعاطي العلوم مماراة صديقه ويخرج في كلامه معه إلى
ألفاظ الجهال من العامة وسقاطهم ليزيد في خجل صديقه وليظهر انقطاعه
وتبلجه. وليس يفعل ذلك عند خلوته به ومذاكرته له وإنما يفعله حين يظن به
أنه أدق نظرا أو أحضر حجة وأغزر علما واحدّ قريحة. فما كنت أشبهه إلا بأهل
البغي وجبابرة أصحاب الأموال والمشبهين بهم من أهل البدع فإن هؤلاء يستحقر
بعضهم بعضا ولا يزال يصغر بصاحبه ويزدري على مروءته ويتطلب عيوبه ويتتبع
عثراته ويبالغ كل واحد فيما يقدر عليه من إساءة صاحبه حتى يؤدي بهم الحال
إلى العداوة التامة التي يكون معها السعاية وإزالة النعم وتجاوز ذلك إلى
سفك الدم وأنواع الشرور. فكيف يثبت مع المراء محبة ويرجى به ألفة؟ ثم احذر
في صديقك إن كنت متحققا بعلم أو متحليا بأدب أن تبخل عليه بذلك الفن أو
يرى فيك أنك تحب الإستبداد دونه والإستئثار عليه فإن أهل العلم لا يرى
بعضهم في بعض ما يراه أهل الدنيا بينهم. ذلك أن متاع الدنيا قليل فإذا
تزاحم عليه قوم ثلم بعضهم حال بعض ونقص حظ كل واحد من حظ الآخر. وأما
العلم فإنه بالضد وليس أحد ينقص منه ما يأخذه غيره بل يزكو على النفقة
ويربو مع الصداقة ويزيد على الإنفاق وكثرة الخرج فإذا بخل صاحب علم بعلمه
فإنما ذلك لأحوال فيه كلها قبيحة. وهي أنه أما أن يكون قليل البضاعة منه
فهو يخاف أن يفنى ما عنده أو يرد عليه مالا يعرفه فيزول تشرفه عند الجهال.
وأما أن يكون مكتسبا به فهو يخشى أن يضيق مكسبه به وينقص حظه منه. وأما أن
يكون حسودا والحسود بعيد من كل فضيلة لا يوده أحد. وإني لأعرف من لا يرضى
بأن يبخل بعلم نفسه حتى يبخل بعلم غيره ويكثر عتبه وسخطه على من لا يفيد
غيره من التلامذة المستحقين لفائدة العلم. وكثيرا ما يتوصل إلى أخذ الكتب
من أصحابها ثم منعهم منها. وهذا خلق لا تبقى معه مودة بل يجلب إلى صاحبه
عداوة لا يحسبها ويقطع أطماع أصدقائه من صداقته. ثم احذر أن تنبسط بأصحابك
ومن يخلو بك من اتباعك وتحمل أحدا منهم على ذكر شيء في نفسه. ولا ترخص في
عيب شيء يتصل به فضلا عن عيبه ولا يطمعن أحد في ذلك من أولى السبائك
والمتصلين بك لا جدا ولا هزلا وكيف تحتمل ذلك فيه وأنت عينه وقلبه وخليفته
على الناس كلهم بل أنت هوفإنه إن بلغه شيء مما حذرتك منه لم يشك أن ذلك
كان عن رأيك وهواك فينقلب عدوا وينفرك عنك نفور الضد.
فإن عرفت منه أنت
عيبا فوافقه عليه موافقة لطيفة ليس فيها غلظة. فإن الطبيب الرقيق ربما بلغ
بالدواء اللطيف ما يبلغه غيره بالشق والقطع والكي بل ربما توصل بالغذاء
إلى الشفاء واكتفى به عن المعالجة بالدواء. ولست أحب أن تغضى عما تعرفه في
صديقك وأن تترك موافقته عليه بهذا الضرب من الموافقة.
فإن ذلك خيانة
منك ومسامحة فيما يعود ضرره عليه وليس من حق الصديق أن يعرف ويبذل بعيوب
الأضداد حتى يعيبوه ويثلبوه. ثم احذر النميمة وسماعها.
وذلك أن الأشرار
يدخلون بين الأخيار في صورة النصحاء فيوهمونهم النصيحة وينقلون إليهم في
عرض الأحاديث اللذيذة أخبار أصدقائهم محرفة مموهة حتى إذا تجاسروا عليهم
بالحديث المختلق يصرحون لهم بما يفسد موداتهم ويشوه وجوه أصدقائهم إلى أن
يبغض بعضهم بعضا.
وللقدماء في هذه المعنى كتب مؤلفة يحذرون فيها من
النميمة ويشبهون صورة النمام بمن يحك بأظافيره أصول البنيان القوية حتى
يؤثر فيها ثم لا يزال يزيد ويمعن حتى يدخل فيها المعقول فيقلعه من أصله
ويضربون له الأمثال الكثيرة المشبهة بحديث الثور مع الأسد في كتاب كليلة
ودمنه. ونحن تكتفي بهذا القدر من الإيماء لئلا نخرج عن رسم كتابنا وعما
بنينا عليه مذهبنا من الإيجاز في الشرح. ولست أترك مع الإيجاز والإختصار
تعظيم هذا الباب وتكريره عليك لتعلم أن القدماء إنما ألفوا فيه الكتب
وضربوا له الأمثال وأكثروا فيه من الوصايا لما رواءه من النفع العظيم عند
السامعين من الأخيار ولما خافوه من الضرر الكثير على من يستهين به من
الأغمار. وليعلم المثل المضروب في السباع القوية إذا دخل عليها الثعلب
الرواغ على ضعفه أهلكها ودمرها.
وفي الملوك الحصفاء يدخل بينهم أهل
النميمة في صورة الناصحين حتى يفسدوا نيتهم على وزرائهم المبالغين في
نصيحتهم المجتهدين في تثبيت ملكهم إلى أن يغضبوا عليهم ويصرفوا به عيونهم
منهم وإلى أن يبطشوا بهم قتلا وتعذيبا وهم غير مذنبين ولا مجترمين ولا
مستحقين إلا الكرامة والإحسان فإذا بلغ بهم من الإفساد والإضرار ما بلغوه
من هؤلاء فباللأحرى أن يبلغوه منا إذا لم يجدوه في أصدقائنا الذين
اخترناهم على الأيام وادخرناهم للشدائد وأحللناهم محل أرواحنا وزدناهم
تفضلا وإكراما.
ويتبين لك من جميع ما قدمناه أن الصداقة وأصناف المحبات
التي تتم بها سعادة الإنسان من حيث هو مدني بالطبع إنما اختلفت ودخل فيها
ضروب الفساد وزال عنها معنى التأحد وعرض لها الإنتشار حتى احتجنا إلى
حفظها والتعب الكثير بنظامها من أجل النقائص الكثيرة التي فينا وحاجتنا
إلى إتمامها مع الحوادث التي تعرض لنا من الكون والفساد. فإن الفضائل
الخلقية إنما وضعت لأجل المعاملات والمعاشرات التي لا يتم الوجود الإنساني
إلا بها. ذلك أن العدل إنما احتيج إليه لتصحيح المعاملات وليزول به معنى
الجور الذي هو رذيلة عند المتعاملين. وإنما وضعت العفة فضيلة لأجل اللذات
الرديئة التي تحي الخيانات العظيمة على النفس والبدن. وكذلك الشجاعة وضعت
فضيلة من أجل الأمور الهائلة التي يجب أن يقدم الإنسان عليها في بعض
الأوقات ولا يهرب منها وعلى هذا جميع الأخلاق المرضية التي وصفناها وحضضنا
على إقتنائها. وأيضا فإن جميع هذه الفضائل تحتاج إلى أسباب خارجة من
الأموال واكتسابها من وجوهها ليمكنه أن يفعل بها فعل الأحرار والعادل
يحتاج إلى مثل ذلك ليجازي من عاشره بجميل ويكافىء من عامله بإحسان وجميعها
لا تقوم إلا بالأبدان والأنفس وما هو خارجعنها على حسب تقسيمنا السعادات
فيما مضى.
وكلما كانت الحاجات كثيرة احتيج إلى المواد الخارجة عنا
أكثر فهذه حالة السعادات الإنسانية التي لا تتم لنا إلا بالأفعال والأحوال
المدنية وبالأعوان الصالحين والأصدقاء المخلصين وهي كما تراها كثيرة
والتعب بها عزيم ومن قصر فيها قصرت به السعادة الخاصة به. ولذلك صار الكسل
ومحبة الراحة من أعظم الرذائل لأنهما يحولان بين المرء وبين جميع الخيرات
والفضائل ويسلخان الإنسان من الإنسانية. ولذلك ذممنا المتوسمين بالزهد إذا
تفردوا عن الناس وسكنوا الجبال والمفازات واختاروا التوحش الذي هو ضد
التمدن لأنهم ينسلخون عن جميع الفضائل الخلقية التي عددناها كلها. وكيف
يعف ويعدل ويسخو ويشجع من فارق الناس وتفرد عنهم وعدم الفضائل الخلقية.
وهل هو إلا بمنزلة الجماد والميت وأما محبة الحكمة والإنصراف إلى التصور
العقلي وإستعمال الآراء الإلهية فإنها خاصة بالجزء الإلهي من الناس وليس
يعرض لها شيء من الآفات التي تعرض للمحبات الأخرى الخلقية وضروب الفساد
ولذلك قلنا أنها لا تقبل النميمة ولا نوعا من أنواع الشرور لأنها الخير
المحض وسببها الخير الأول الذي لا تشوبه مادة ولا تلحقه الشرور التي في
المادة وما دام الإنسان يستعمل الأخلاق والفضائل الإنسانية فإنها تعوقه عن
هذا الخير الأول وهذه السعادة الإلهية ولكن ليس يتم له إلا بتلك ومن أصل
تلك الفضائل بنفسه ثم اشتغل عنها بالفضيلة الإلهية فقد اشتغل بذاته حقا
ونجا من مجاهدات الطبيعة والآمها ومن مجاهدات النفس وقواها وصار مع
الأرواح الطيبة واختلط بالملائكة المقربين فإذا انتقل من وجوده الأول إلى
وجوده الثاني حصل في النعيم الأبدي والسرور السرمدي.
؟رأى أرسطوطاليس
في السعادة التامة وقد أطلق أرسطوطاليس جميع هذه الألفاظ وقال أن السعادة
التامة الخالصة هي لله عز وجل ثم للملائكة والمتأهلين. ثم قال ولا ينبغي
أن يضاف إلى الملائكة تلك الفضائل التي عددناها في سعاد الإنسان فإنهم لا
يتعاملون ولا يكون عند أحد منهم وديعة فيحتاج إلى ردها ولا لأحد منهم
تجارة فيحتاج إلى العدالة ولا يفزعه شيء فيحتاج إلى النجدة ولا له نفقات
فيحتاج إلى الذهب والفضة ولا له شهوات فيحتاج إلى ضبط النفس وإلى فضيلة
العفة ولا هو مركب من الإستقصات الأربعة التي تحل في أضدادها فيحتاج إلى
الغذاء.
فإذا هؤلاء الأبرار المطهرون من بين خلق الله عز وجل غير
محتاجين إلى الفضائل الإنسية والله تعالى وتقدس وجل أعلى من ملائكته فيجب
أن ننزه عن جميع ماذكرناه من فضائل الإنسان وإنما نذكره بالخير البسيط
الذي يشبهه وننسب إليه الأمور العقلية التي تليق به. فبالحق الواجب الذي
لا مرية فيه لا يحبه إلا السعيد الخير من الناس الذي يعرف السعادة والخير
بالحقيقة فلذلك يتقرب إليه بهما جهده ويطلب مرضاته بقدر قاته ويتقبل أوامر
بنحو استطاعته. ومن أحب الله تعالى هذه المحبة وتقرب إليه هذا التقرب
وأطاعه هذه الطاعة أحبه الله وقربه وأرضاه وأستحق خلته التي أطلقتها
الشريعة على بعض البشر حيث قيل إبراهيم خليل الله، وأما أرسطوطاليس فإنه
أطلق بعد ذلك بالعلة شيئا غير مطلق في لغتنا. وذلك أنه قال (من أحب الله
وتعاهده كما يتعاهد
الصداقة
نوع من المحبة إلا أنها أخص منها وهي المودة بعينها وليس يمكن أن تقع بين
جماعة كثيرين كما تقع المحبة. وأما العشق فهو إفراط في المحبة وهو أخص من
المودة وذلك أنه لا يمكن أن يقع إلا بين اثنين فقط ولا يقع في النافع ولا
في المركب من النافع وغيره وإنما يع لمحب اللذة بإفراد ولمحب الخير بافراط
وأحدهما مذموم والآخر محمود، فالصداقة بين الأحداث ومن كان في مثل طباعهم
إنما تحدث لأجل اللذة فهم يتصادقون سريعا ويتقاطعون سريعا وربما اتفق ذلك
بينهم في الزمان القليل مرارا كثيرة، وربما بقيت بقدر ثقتهم ببقاء اللذة
ومعاودتها حالا بعد حال. فإذا انقطعت هذه الثقة بمعلودتها انقطعت الصداقة
بالوقت وفي الحال. والصداقة من المشائخ ومن كان في مثل طباعهم إنما نقع
لمكان المنفعة فهم يتصادقون بسببها فإذا كانت المنافع مشتركة بينهم وهي في
الأكثر طويلة المدة كانت الصداقة باقية. فحين تنقطع علاقة المنفعة بينهم
وينقطع رجاؤهم من المنفعة المشتركة تنقطع موداتهم. والصداقة بين الأخيار
تكون لأجل الخير وسببها هو الخير.
ولما كان الخير شيئا غير متغير الذات
صارت مودات أصحابه باقية غير متغيرة. وأيضا لما كان الإنسان مركبا من
طبائع متضادة صار ميل كل واحد منها يخالف ميل الآخر. فاللذة التي توافق
إحداها تخالف لذة الأخرى التي تضادها فلا تخلص له لذة غير مشوبة بأذى.
ولما كان فيه أيضا جوهر آخر بسيط إلهي غير مخالط لشيء من الطبائع الأخرى
صارت له لذة غير مشابهة لشيء من تلك اللذات وذلك أنها بسيطة أيضا. والمحبة
التي سببها هذه اللذة هي التي تفرط حتى تصير عشقا تاما خالصا شبيها
بالوله. وهي المحبة الإلهية الموصوفة التي يدعيها بعض المتألهين وهي التي
يقول فيها أرسطوطاليس حكاية عن ابرفليطس: " إن الأشياء المختلفة لا تتشاكل
ولا يكون منها تأليف جيد.
وأما الأشياء المتشاكلة وهي التي يسر بعضها
ببعض ويشتاق بعضها إلى بعض فأقول عنها. إن الجواهر البسيطة إذا تشاكلت
واشتاق بعضها إلى بعض تألفت وإذا تألفت صارت شيئا واحدا لا غيرية بينها إذ
الغيرية إنما تحدث من جهة الهيولي. وأما الأشياء ذوات الهيولي وهي الإجرام
فإنها وإن اشتاقت بنوع من الشوق إلى التألف فإنها لا تتحد ولا يمكن ذلك
فيها. وذلك أنها تلتقي بنهاياتها وسطوحها دون ذواتها وهذا الإلتقاء سريع
الإنفصال إذ كان التأحد فيه ممتنعا. وإنما تتأحد بنحو استطاعتها أعني
ملاقاة سطوحها.
نوع من المحبة إلا أنها أخص منها وهي المودة بعينها وليس يمكن أن تقع بين
جماعة كثيرين كما تقع المحبة. وأما العشق فهو إفراط في المحبة وهو أخص من
المودة وذلك أنه لا يمكن أن يقع إلا بين اثنين فقط ولا يقع في النافع ولا
في المركب من النافع وغيره وإنما يع لمحب اللذة بإفراد ولمحب الخير بافراط
وأحدهما مذموم والآخر محمود، فالصداقة بين الأحداث ومن كان في مثل طباعهم
إنما تحدث لأجل اللذة فهم يتصادقون سريعا ويتقاطعون سريعا وربما اتفق ذلك
بينهم في الزمان القليل مرارا كثيرة، وربما بقيت بقدر ثقتهم ببقاء اللذة
ومعاودتها حالا بعد حال. فإذا انقطعت هذه الثقة بمعلودتها انقطعت الصداقة
بالوقت وفي الحال. والصداقة من المشائخ ومن كان في مثل طباعهم إنما نقع
لمكان المنفعة فهم يتصادقون بسببها فإذا كانت المنافع مشتركة بينهم وهي في
الأكثر طويلة المدة كانت الصداقة باقية. فحين تنقطع علاقة المنفعة بينهم
وينقطع رجاؤهم من المنفعة المشتركة تنقطع موداتهم. والصداقة بين الأخيار
تكون لأجل الخير وسببها هو الخير.
ولما كان الخير شيئا غير متغير الذات
صارت مودات أصحابه باقية غير متغيرة. وأيضا لما كان الإنسان مركبا من
طبائع متضادة صار ميل كل واحد منها يخالف ميل الآخر. فاللذة التي توافق
إحداها تخالف لذة الأخرى التي تضادها فلا تخلص له لذة غير مشوبة بأذى.
ولما كان فيه أيضا جوهر آخر بسيط إلهي غير مخالط لشيء من الطبائع الأخرى
صارت له لذة غير مشابهة لشيء من تلك اللذات وذلك أنها بسيطة أيضا. والمحبة
التي سببها هذه اللذة هي التي تفرط حتى تصير عشقا تاما خالصا شبيها
بالوله. وهي المحبة الإلهية الموصوفة التي يدعيها بعض المتألهين وهي التي
يقول فيها أرسطوطاليس حكاية عن ابرفليطس: " إن الأشياء المختلفة لا تتشاكل
ولا يكون منها تأليف جيد.
وأما الأشياء المتشاكلة وهي التي يسر بعضها
ببعض ويشتاق بعضها إلى بعض فأقول عنها. إن الجواهر البسيطة إذا تشاكلت
واشتاق بعضها إلى بعض تألفت وإذا تألفت صارت شيئا واحدا لا غيرية بينها إذ
الغيرية إنما تحدث من جهة الهيولي. وأما الأشياء ذوات الهيولي وهي الإجرام
فإنها وإن اشتاقت بنوع من الشوق إلى التألف فإنها لا تتحد ولا يمكن ذلك
فيها. وذلك أنها تلتقي بنهاياتها وسطوحها دون ذواتها وهذا الإلتقاء سريع
الإنفصال إذ كان التأحد فيه ممتنعا. وإنما تتأحد بنحو استطاعتها أعني
ملاقاة سطوحها.
فإذا الجوهر الإلهي الذي في الإنسان إذا صفا من كدورته
التي حصلت فيه من ملابسة الطبيعة ولم تجذبه أنواع الشهورات وأصناف محبات
الكرامات اشتاف إلى شبيهه ورأى بعين عقله الخير الأول المحض الذي لا تشوبه
مادة فأسرع إليه وحينئذ يفيض نور ذلك الخير الأول عليه فيلتذ به لذة لا
تشبهها لذة ويصير إلى معنى الإتحاد الذي وصفناه استعمل الطبيعة البدنية أم
لم يستعملها. إلا أنه بعد مفارقته الطبيعة بالكلية أحق بهذه المرتبة
العالية لأنه ليس يصفو الصفاء التام إلا بعد مفارقته الحياة الدنيوية.
ومن
فضائل
هذه المحبة الإلهية أنها لا تقبل النقصان ولا تقدع فيها السعاية ولا
يعترض عليها الملك ولا تكون إلا بين الأخيار فقط. وأما المحبات التي تكون
بسبب المنفعة واللذة فقد تكون بين الأشرار وبين الأخيار والأشرار. إلا
أنها تنقضي وتنحل مع تقضي المنافع واللذائذ لأنها عرضية وكثيرا ما تحدث
بالإجتماعات في المواضع الغريبة. إلا انها تزول بزوال المواضع كالسفينة
وما جرى مجراها.
والسبب في هذه المحبة الأنس وذلك أن الإنسان آنس
بالطبع وليس بوحشي ولا نفور ومنه اشتق إسم الإنسان في اللغة العربية وقد
تبين ذلك في صناعة النحو وليس كما قال الشاعر:
سميت إنسانا لأنك ناس
فإن
هذا
الشاعر ظن أن الإنسان مشتق من النسيان وهو غلط منه. وينبغي ان يعلم أن
هذا الأنس الطبيعي في الإنسان هو الذي ينبغي أن نحرص عليه ونكتسبه مع
أبناء جنسنا حتى لا يفوتنا بجهدنا واستطاعتنا فإنه مبدأ المحبات كلها.
الشريعة
تدعو إلى الأنس والمحبة
وإنما
وضع للناس بالشريعة وبالعادة الجميلة إتخاذ الدعوات والإجتماع في المآدب
ليحصل لهم هذا الأنس. والشريعة إنما أوجبت على الناس أن يجتمعوا في
مساجدهم كل يوم خمس مرات وفضلت صلاة الجماعة على صلاة الآحاد ليحصل لهم
هذا الأنس الطبيعي الذي هو فيهم بالقوة حتى يخرج إلى الفعل ثم يتأكد
بالإعتقادات الصحيحة التي تجمعهم.
وهذا الإجتماع في كل يوم ليس يتعذر
على أهل كل محلة وسكة. والدليل على أن غرض صاحب الشريعة ما ذكرناه أنه
أوجب على أهل المدينة بأسرهم أن يجتمعوا في كل أسبوع يوما بعينه في مسجد
يسعهم ليجتمع أيضا شمل أهل المحال والسكك في كل أسبوع كما اجتمع شمل أهل
الدور والمنازل في كل يوم. ثم أوجب أيضا أن يجتمع أهل المدينة مع أهل
القرى والرساتيق المتقاربين في كل سنة مرتين في مصلى بارزين مصحرين ليسعهم
المكان ويتجدد الأنس بين كافتهم وتشملهم المحبة الناظمة لهم.
ثم اوجب
بعد ذلك أن يجتمعوا في العمر كله مرة واحدة في الموضع المقدس بمكة ولم
يعين من العمر وقت مخصوص ليتسع لهم الزمان وليجتمع أهل المدن المتباعدة
كما اجتمع أهل المدينة الواحدة ويصير حالهم في الأنس والمحبة وشمول الخير
والسعادة كحال المجتمعين في كل سنة وفي كل اسبوع وفي كل يوم فيجتمعوا بذلك
إلى الأنس الطبيعي وإلى الخيرات المشتركة وتتجدد بينهم محبة الشريعة
وليكبروا الله على ما هداهم ويغتبطوا بالدين القويم القيم الذي ألفهم على
تقوى الله وطاعته.
الخليفة يحرس الدينوالقائم بحفظ هذه
السنة وغيرها من وظائف الشرع حتى لا تزول عن أوضاعها هوالإمام وصناعته هي
صناعة الملك. والأوائل لا يسمون بالملك إلا من حرس الدين وقام بحفظ مراتبه
وأوامره وزواجره. وأما من أعرض عن ذلك فيسمونه متغلبا ولا يؤهلونه لإسم
الملك وذلك أن الدين هو وضع إليه يسوق الناس باختيارهم إلى السعادة القصوى.
والملك
هو
حارس هذا الوضع الإلهي حافظ على الناس ما ا×ذوا به. وقد قال حكيم الفرس
وملكهم ازدشير: " إن الدين والملك إخوان توأمان لايتم أحدهما إلا بالآخر "
فالدين أس والملك حارس. وكل مالا أس له فمهدوم. وكل مالا حارس له فضائع.
ولذلك حكمنا على الحارس الذي نصب للدين أن يتيقظ في موضعه ويحكم صناعته
ولا يباشر أمره يالهوينا ولا يشتغل بلذة تخصه ولا يطلب الكرامة والغلبة
إلا من وجهها. فإنه متى أغفل شيئا من حدوده دخل عليه من هنالك الخلل
والوهن.
وضع للناس بالشريعة وبالعادة الجميلة إتخاذ الدعوات والإجتماع في المآدب
ليحصل لهم هذا الأنس. والشريعة إنما أوجبت على الناس أن يجتمعوا في
مساجدهم كل يوم خمس مرات وفضلت صلاة الجماعة على صلاة الآحاد ليحصل لهم
هذا الأنس الطبيعي الذي هو فيهم بالقوة حتى يخرج إلى الفعل ثم يتأكد
بالإعتقادات الصحيحة التي تجمعهم.
وهذا الإجتماع في كل يوم ليس يتعذر
على أهل كل محلة وسكة. والدليل على أن غرض صاحب الشريعة ما ذكرناه أنه
أوجب على أهل المدينة بأسرهم أن يجتمعوا في كل أسبوع يوما بعينه في مسجد
يسعهم ليجتمع أيضا شمل أهل المحال والسكك في كل أسبوع كما اجتمع شمل أهل
الدور والمنازل في كل يوم. ثم أوجب أيضا أن يجتمع أهل المدينة مع أهل
القرى والرساتيق المتقاربين في كل سنة مرتين في مصلى بارزين مصحرين ليسعهم
المكان ويتجدد الأنس بين كافتهم وتشملهم المحبة الناظمة لهم.
ثم اوجب
بعد ذلك أن يجتمعوا في العمر كله مرة واحدة في الموضع المقدس بمكة ولم
يعين من العمر وقت مخصوص ليتسع لهم الزمان وليجتمع أهل المدن المتباعدة
كما اجتمع أهل المدينة الواحدة ويصير حالهم في الأنس والمحبة وشمول الخير
والسعادة كحال المجتمعين في كل سنة وفي كل اسبوع وفي كل يوم فيجتمعوا بذلك
إلى الأنس الطبيعي وإلى الخيرات المشتركة وتتجدد بينهم محبة الشريعة
وليكبروا الله على ما هداهم ويغتبطوا بالدين القويم القيم الذي ألفهم على
تقوى الله وطاعته.
الخليفة يحرس الدينوالقائم بحفظ هذه
السنة وغيرها من وظائف الشرع حتى لا تزول عن أوضاعها هوالإمام وصناعته هي
صناعة الملك. والأوائل لا يسمون بالملك إلا من حرس الدين وقام بحفظ مراتبه
وأوامره وزواجره. وأما من أعرض عن ذلك فيسمونه متغلبا ولا يؤهلونه لإسم
الملك وذلك أن الدين هو وضع إليه يسوق الناس باختيارهم إلى السعادة القصوى.
والملك
هو
حارس هذا الوضع الإلهي حافظ على الناس ما ا×ذوا به. وقد قال حكيم الفرس
وملكهم ازدشير: " إن الدين والملك إخوان توأمان لايتم أحدهما إلا بالآخر "
فالدين أس والملك حارس. وكل مالا أس له فمهدوم. وكل مالا حارس له فضائع.
ولذلك حكمنا على الحارس الذي نصب للدين أن يتيقظ في موضعه ويحكم صناعته
ولا يباشر أمره يالهوينا ولا يشتغل بلذة تخصه ولا يطلب الكرامة والغلبة
إلا من وجهها. فإنه متى أغفل شيئا من حدوده دخل عليه من هنالك الخلل
والوهن.
وحيئنذ تتبدل أوضاع الدين ويجد الناس رخصة في شهواتهم ويكثر من
يساعدهم على ذلك فتنقلب هيئة السعادة إلى ضدها ويحدث بينهم الإختلاف
والتباغض فأداهم ذلك إلى الشتات والفرقة وبطل الفرض الشريف وانتقض النظام
الذي طلبه صاحب الشرع بالأوضاع الإلهية فاحتيج حينئذ إلى تجديد الأمر
واستئناف التدبير وطلب الإمام الحق والملك العدل ونعود إلى ذكر أجناس
المحبات وأسبابها فنقول:
أجناس المحبات وأسبابها
إن
هذه الأسباب كلها ماخلا المحبة الإلهية إذا كانت مشتركة بين المتحابين
وكانت واحدة بعينها جاز في الشيئين أن ينعقدا معا وينحلا معا وجاز أيضا أن
يبقى أحدهما وينحل الآخر.
مثال ذلك أن اللذات المشتركة بين الرجل
والمرأة هي سبب للمحبة بينهما فقد يجوز أن تجتمع المحبات لأن السبب واحد
وهي اللذة. وقد يجوز أن تنقطع إحداهما وتبقى الأخرى وذلك أن اللذة تتغير
ولا تكاد تثبت كما تقم وصفها. فقد يجوز أن يتغير سبب إحدى المحبتين ويثبت
الآخر. وايضا فإن بين الرجل وبين زوجته خيرات مشتركة ومنافع مختلفة وهما
يتعاونان عليها أعني الخيرات الخارجة عنها وهي الأسباب التي تعمر بها
المنازل.
فالمرأة تنتظر من زوجها تلك الخيرات لأنه هو الذي يكتسبها
ويحضرها. وأما الرجل فإنه ينتظر من زوجته ضبط تلك الخيرات لأنها هي التي
تحفظها وتدبرها لتثمر ولا تضيع فمتى قصر أحدهما اختلفت المحبة وحدثت
الشكايات ولا تزال كذلك إلى أن تتقطع أو تبقى مع الشكايات والملامة. وكذلك
حال المنفعة المشتركة بين الناس إذا كانت واحدة بعينها.
وأما المحبات
المختلفة التي أسبابها مختلفة فهي أولى بسرعة التحلل. ومثال ذلك أن تكون
محبة أحد المتحابين لأجل المنفعة ومحبة الآخر لأجل اللذة كما يعرض ذلك
للمعاشرين على أن أحدهما مغن والآخر مستمع فإن المغنى منهما يحب المستمع
لأجل المنفعة والمستمع منهما يحب المغنى لأجل اللذة. وكما يعرض أيضا بين
العاشق والمعشوق اللذين أحدهما يلتذ بالنظر والآخر ينتظر المنفعة وهذا
الصنف من المحبة يعرض فيه أبدا التشكي والتظلم. وذلك أن طالب اللذة يتعجل
مطلوبه وطالب المنفعة يتأخر عنه ولا يكاد يعتدل الأمر بينهما. لذلك ترى
العاشق يشكو معشوقه ويتظلم منه وهو بالحقيقة ظالم ينبغي أن يشتكي لأنه
يتعجل لذته بالنظر ولا يرى المكافأة بما يستحق صاحب.
والمحبة اللوامة
كثيرة الأنواع غلا أن الأصل فيها ما ذكرت. ويوشك أن تكو المحبة بين الرئيس
والمرؤوس والغنى والفقير تعرض لها الملامة والتوبيخ لأجل اختلاف الأسباب
ولأن كل واحد ينتظر من المكافأة عند الآخر ما لا يجده عنده فيقع فساد في
النيات بينهما ثم استبطاء ثم ملامات. ويزيل ذلك طلب العدالة ورضاء كل واحد
بما يستحقه من الآخر وبذل كل واحد للآخر العدل المبسوط بينهما.
والمماليك
خاصة
لا يرضيهم من مواليهم إلا الزيادة الكثيرة في الإستحقاق وكذلك
الموالي يستبطئون العبيد في الخمدمة والشفقة والنصيحة وفي جميع ذلك يقع
اللوم وفساد الضمير.
فهذه المحبة اللوامة لا يكاد يخلوا الإنسان منها
إلا على شريطة العدل وطلب الوسط من الإستحقاق والرضا به وهو صعب.
محبة
الأخياروأما
محبة الأخيار بعضهم بعضا فإنها تكون لا للذة خارجة ولا لمنفعة بل للمناسبة
الجوهرية بينهما وهي قصد الخير والتماس الفضيلة. فإذا أحب أحدهم للمناسبة
الجوهرية بينهما وهي قصد الخير والتماس الفضيلة. فإذا أحب أحدهم الآخر
لهذه المناسبة لم تكن بينهم مخالفة ولا منازعة ونصح بعضهم بعضا وتلاقوا
بالعدالة والتساوي في إرادة الخير وهذا التساوي في النصيحة وإرادة الخير
هو الذي يوحد كثرتهم. ولهذا حد الصديق بأنه آخر هو أنت إلا أنه غيرك
بالشخص ولهذا صار عزيز الوجود ولم يوثق بصداقة الأحداث والعوام ومن ليس
بحكيم لأن هؤلاء يحبون ويصادقون لأحل اللذة والمنفعة ولا يعرفون الخير
بالحقيقة وأغراضهم غير صحيحة، وأما للسلاطين فإنهم يظهرون الصداقة على
أنهم متفضلون ومحسنون إلى من يصادقهم فلا يدخلون تحت الحد الذي ذكرناه وفي
صداقتهم زيادة ونقصان المساواة عزيزة الوجود عندهم.
هذه الأسباب كلها ماخلا المحبة الإلهية إذا كانت مشتركة بين المتحابين
وكانت واحدة بعينها جاز في الشيئين أن ينعقدا معا وينحلا معا وجاز أيضا أن
يبقى أحدهما وينحل الآخر.
مثال ذلك أن اللذات المشتركة بين الرجل
والمرأة هي سبب للمحبة بينهما فقد يجوز أن تجتمع المحبات لأن السبب واحد
وهي اللذة. وقد يجوز أن تنقطع إحداهما وتبقى الأخرى وذلك أن اللذة تتغير
ولا تكاد تثبت كما تقم وصفها. فقد يجوز أن يتغير سبب إحدى المحبتين ويثبت
الآخر. وايضا فإن بين الرجل وبين زوجته خيرات مشتركة ومنافع مختلفة وهما
يتعاونان عليها أعني الخيرات الخارجة عنها وهي الأسباب التي تعمر بها
المنازل.
فالمرأة تنتظر من زوجها تلك الخيرات لأنه هو الذي يكتسبها
ويحضرها. وأما الرجل فإنه ينتظر من زوجته ضبط تلك الخيرات لأنها هي التي
تحفظها وتدبرها لتثمر ولا تضيع فمتى قصر أحدهما اختلفت المحبة وحدثت
الشكايات ولا تزال كذلك إلى أن تتقطع أو تبقى مع الشكايات والملامة. وكذلك
حال المنفعة المشتركة بين الناس إذا كانت واحدة بعينها.
وأما المحبات
المختلفة التي أسبابها مختلفة فهي أولى بسرعة التحلل. ومثال ذلك أن تكون
محبة أحد المتحابين لأجل المنفعة ومحبة الآخر لأجل اللذة كما يعرض ذلك
للمعاشرين على أن أحدهما مغن والآخر مستمع فإن المغنى منهما يحب المستمع
لأجل المنفعة والمستمع منهما يحب المغنى لأجل اللذة. وكما يعرض أيضا بين
العاشق والمعشوق اللذين أحدهما يلتذ بالنظر والآخر ينتظر المنفعة وهذا
الصنف من المحبة يعرض فيه أبدا التشكي والتظلم. وذلك أن طالب اللذة يتعجل
مطلوبه وطالب المنفعة يتأخر عنه ولا يكاد يعتدل الأمر بينهما. لذلك ترى
العاشق يشكو معشوقه ويتظلم منه وهو بالحقيقة ظالم ينبغي أن يشتكي لأنه
يتعجل لذته بالنظر ولا يرى المكافأة بما يستحق صاحب.
والمحبة اللوامة
كثيرة الأنواع غلا أن الأصل فيها ما ذكرت. ويوشك أن تكو المحبة بين الرئيس
والمرؤوس والغنى والفقير تعرض لها الملامة والتوبيخ لأجل اختلاف الأسباب
ولأن كل واحد ينتظر من المكافأة عند الآخر ما لا يجده عنده فيقع فساد في
النيات بينهما ثم استبطاء ثم ملامات. ويزيل ذلك طلب العدالة ورضاء كل واحد
بما يستحقه من الآخر وبذل كل واحد للآخر العدل المبسوط بينهما.
والمماليك
خاصة
لا يرضيهم من مواليهم إلا الزيادة الكثيرة في الإستحقاق وكذلك
الموالي يستبطئون العبيد في الخمدمة والشفقة والنصيحة وفي جميع ذلك يقع
اللوم وفساد الضمير.
فهذه المحبة اللوامة لا يكاد يخلوا الإنسان منها
إلا على شريطة العدل وطلب الوسط من الإستحقاق والرضا به وهو صعب.
محبة
الأخياروأما
محبة الأخيار بعضهم بعضا فإنها تكون لا للذة خارجة ولا لمنفعة بل للمناسبة
الجوهرية بينهما وهي قصد الخير والتماس الفضيلة. فإذا أحب أحدهم للمناسبة
الجوهرية بينهما وهي قصد الخير والتماس الفضيلة. فإذا أحب أحدهم الآخر
لهذه المناسبة لم تكن بينهم مخالفة ولا منازعة ونصح بعضهم بعضا وتلاقوا
بالعدالة والتساوي في إرادة الخير وهذا التساوي في النصيحة وإرادة الخير
هو الذي يوحد كثرتهم. ولهذا حد الصديق بأنه آخر هو أنت إلا أنه غيرك
بالشخص ولهذا صار عزيز الوجود ولم يوثق بصداقة الأحداث والعوام ومن ليس
بحكيم لأن هؤلاء يحبون ويصادقون لأحل اللذة والمنفعة ولا يعرفون الخير
بالحقيقة وأغراضهم غير صحيحة، وأما للسلاطين فإنهم يظهرون الصداقة على
أنهم متفضلون ومحسنون إلى من يصادقهم فلا يدخلون تحت الحد الذي ذكرناه وفي
صداقتهم زيادة ونقصان المساواة عزيزة الوجود عندهم.
وكذلك محبة الوالد
للولد والولد للوالد فإن أنواع هذه المحبة مختلفة وأسبابها أيضا مختلفة
كما قلنا إلا أن محبة الوالد للولد والولد للوالد وإن كان بينهما اختلاف
ما من وجه فإن بينهما إتفاقا ذاتيا.
وأعني بالذاتي ههنا إن الوالد يرى
في ولده أنه هو هو وأنه نسخ صورته التي تخصه من الإنسانية في شخص ولده
نسخا طبيعيا ونقل ذاته إلى ذاته نقلا حقيقيا. وحق له أن يرى ذلك لأن
التدبير الإلهي بالسياسة الطبيعية التي هي سياسته عز وجل هو الذي عاون
الإنسان على إنشاء الولد وجعله السبب الثاني في إيجاده ونقل صورته
الإنسانية إليه.
ولذلك يحب الوالد لولده جميع ما يحبه لنفسه ويسعى في
تأديبه وتكميله بكل ما فاته في نفسه طول عمره. ولا يشق عليه أن يقال له
ولدك أفضل منك لأنه يرى أنه هو هو. وكما أن الإنسان إذا تزايد في نفسه
حالا فحالا وترقى في الفضيلة درجة فدرجة لا يشق عليه أن يقال له إنك الآن
أفضل مما كنت بل يسره ذلك كذلك تكون حاله إذا قيل له في ولده مثل ذلك. ثم
تفضل أيضا محبة الوالد على محبة الولد بأنه الفاعل له وبأنه يعرفه منذ أول
تكوينه ويستبشر به وهو جنين ثم تزداد محبته له مع التربية والنشأة ويتأكد
سروره به وتأميله له. ويحدث له اليقين بأنه باق به صورة وأن فنى بجسمه
مادة وهذه المعاني الجليلة عند أهل العلم تتراءى للعوام كأنها من وراء ستر.
وأما
محبة
الولد للوالد فإنها تنقص عن هذه الرتبة بأن الولد مفعول وبأنه لا
يعرف ذاته ولا فاعل ذاته إلا بعد زمان طويل وبعد أن يستثبت أباه حسا
وينتفع به دهرا ثم يعقل بعد ذلك أمره بالصحة وعلى مقدار عقله واستبصاره في
الأمور يكون تعظيمه لوالديه ومحبه لهما ولهذه العلة وصى الله عز وجل الولد
بوالده ولم يوص الوالد بولده. وأما محبة الأخوة بعضهم لبعض فلأن سبب
تكوينهم ونشؤهم واحد بعينه.
نسبة الملك إلى رعيته
ويجب
أن تكون نسبة الملك إلى رعيته نسبة أبوية ونسبة رعيته إليه نسبة بنوية
ونسبة الرعية بعضهم إلى بعض نسبة أخوية حتى تكون السياسات محفوظة على
شرائطها الصحيحة. وذلك أن مراعاة الملك لرعيته هي مراعاة الأب لأولاده
ومعاملته إياهم تلكالمعاملة. وقد كنا أشرنا إلى ذلك وسنزيده بيانا إذا
صرنا إلى ذكر سياسة الملك في موضع آخر. وعنايته برعيته يجب أن تكون مثل
عناية الأب بأولاده شفقة وتحننا وتعهدا وتعطفا خلافة لصاحب الشريعة صلى
الله عليه وسلم بل لمشرع الشريعة تعالى ذكره في الرأفة والرحمة وطلب
المصالح لهم ودفع المكاره عنهم وحفظ النظام فيهم وبالجملة في كل ما يجلب
الخير ويمنع الشر. فإنه عند ذلك تحبه رعيته محبة الأولاد للأب الشفيق
وتحدث بينهما تلك النسبة وإنما تختلف هذه المحبات بالتفاضل الذي يكون بعظم
المنافع.
فيجب أن يكرم الأب كرامة أبوية. ويكرم السلطان كرامة
سلطانية،ويكرم الناس بعضهم بعضا كرامة أخوية ولكل مرتبة من هذه استئهال
خاص بها واستحقاب واجب لها. فإذا لم يحفظ بالعدالة زاد ونقص وعرض لها
الفساد وانتقلت الرياسات وانعكست الأمور فيعترض لرياسة الملك أن تنتقل إلى
رياسة التغلب ويتبع ذلك أن تنتقل محبة الرعية إلى البغض له ويعرض لرياسات
من دونه مثل ذلك. فتصير محبة الأخيار إلى تباغض الأشرار وتعود الألفة
نفارا والتواد نفاقا ويطلب كل واحد لنفسه ما يظنه خيرا له وأن أضر بغيره
وتبطل الصداقات والخير المشترك بين الناس ويؤول الأمر إلى الهرج الذي هو
ضد النظام الذي رتبه الله لخلقه ورسمه بالشريعة وأوجبه بالحكمة البالغة.
المحبة
التي لا تطرأ عليها الآفات
أن تكون نسبة الملك إلى رعيته نسبة أبوية ونسبة رعيته إليه نسبة بنوية
ونسبة الرعية بعضهم إلى بعض نسبة أخوية حتى تكون السياسات محفوظة على
شرائطها الصحيحة. وذلك أن مراعاة الملك لرعيته هي مراعاة الأب لأولاده
ومعاملته إياهم تلكالمعاملة. وقد كنا أشرنا إلى ذلك وسنزيده بيانا إذا
صرنا إلى ذكر سياسة الملك في موضع آخر. وعنايته برعيته يجب أن تكون مثل
عناية الأب بأولاده شفقة وتحننا وتعهدا وتعطفا خلافة لصاحب الشريعة صلى
الله عليه وسلم بل لمشرع الشريعة تعالى ذكره في الرأفة والرحمة وطلب
المصالح لهم ودفع المكاره عنهم وحفظ النظام فيهم وبالجملة في كل ما يجلب
الخير ويمنع الشر. فإنه عند ذلك تحبه رعيته محبة الأولاد للأب الشفيق
وتحدث بينهما تلك النسبة وإنما تختلف هذه المحبات بالتفاضل الذي يكون بعظم
المنافع.
فيجب أن يكرم الأب كرامة أبوية. ويكرم السلطان كرامة
سلطانية،ويكرم الناس بعضهم بعضا كرامة أخوية ولكل مرتبة من هذه استئهال
خاص بها واستحقاب واجب لها. فإذا لم يحفظ بالعدالة زاد ونقص وعرض لها
الفساد وانتقلت الرياسات وانعكست الأمور فيعترض لرياسة الملك أن تنتقل إلى
رياسة التغلب ويتبع ذلك أن تنتقل محبة الرعية إلى البغض له ويعرض لرياسات
من دونه مثل ذلك. فتصير محبة الأخيار إلى تباغض الأشرار وتعود الألفة
نفارا والتواد نفاقا ويطلب كل واحد لنفسه ما يظنه خيرا له وأن أضر بغيره
وتبطل الصداقات والخير المشترك بين الناس ويؤول الأمر إلى الهرج الذي هو
ضد النظام الذي رتبه الله لخلقه ورسمه بالشريعة وأوجبه بالحكمة البالغة.
المحبة
التي لا تطرأ عليها الآفات
وأماالمحبة
التي لا تشوبها الإنفعالات ولا تطرأ عليها الآفات وهي محبة العبد لخالقه
عز وجل فإنها إنما تخلص للعالم العرباني وحده خاصة ولا سبيل لغيره إليها
إلا بالدعوى الكاذبة. وكيف يجد الإنسان السبيل غلىمحبة من لا يعرفه ولا
يعرف ضروب إنعامه الدارة عليه ووجوه إحسانه المتصلة به في بدنه وفنسه
اللهم إلا أن يتصور في نفسه صنما ويظنه الخالق عزوجل فيحبه ويعبده فإن
اكثر الناس كما قال تعالى: (وَما يُؤمِنُ أَكثَرُهم بِاللهِ إِلا وَهُم
مُشرِكون) ولعمري أن العامة تدعى المعرفة والمحبة وهم يتصورون شخصا وشبحا
فتكون عبادتهم له دون الله وهذا هو الضلال البعيد. ومدعو هذه المحبة
كثيرون جدا والمحقون منهم قليلون حداا بل هم أقل من القليل. وهذه المحبة
لا محالة تتصل بها الطاعة والتعظيم ويتلوها ويقرب منها محبة الوالدين
وإكرامهما وطاعتهما. وليس يرتقي إلى مرتبتهما شيء من المحبات الأخر إلا
محبة الحكماء وطاعتهما. وليس يرتقي إلى مرتبتهما شيء من المحبات الأخر إلا
محبة المحكماء عند تلامذتهم فإنها متوسطة بين المحبة الأولى والمحبة
الثانية.
وذلك أن المحبة الأولى لا يبلغها شيء من المحبات كما أن
أسبابها لا يبلغها شيء من الأسباب والنعم التي تأتي من قبلها لا يشبهها
شيء من النعم. وأماالمحبة الثانية فهي تتلوها لأن سببها هو السبب الثاني
في وجودنا الحسي أعني أبداننا وتكويننا.
وأما محبة الحكماء فهي أشرف
وأكرم من محبة الوالدين لأجل أن تربيتهم هي لنفوسنا وهم الأسباب في وجودنا
الحقيقي وبهم وصولنا إلى السعادة التامة التي نلنا بها اللقاء الأبدي
والنعيم السرمدي في جوار رب العالمين. فبحسب فضل إنعامهم علينا وبقدر فضل
النفوس على الأبدان تجب حقوقهم وتلزم طاعتهم ومحبتهم وليس يبلغ أحد جزاء
ولا مكافأة الأول ولا ما يستأهله الثاني أعني الوالدين وإن هو اجتهد وبالغ
ولا يؤدي حقوقهما أبدا وإن خدم بأقصى طاقته وغاية وسعه، وأما محبة طلب
الحكمة للحكيم والتلميذ الصالح للمعلم الخير فإنها من جنس المحبة الأولى
وفي طريقها. وذلك لأجل الخير العظيم الذي يشرف عليه ويصل إليه وللرجاء
الكريم الذي لا يتحقق إلا بعنايته ولا يتم إلا بمطالعته. ولأنه والدروحاني
ورب بشرى وإحسانه إحسان إليه ذلك أنه يربيه بالفضيلة التامة ويغذوه
بالحكمة البالغة ويسوقه إلى الحياة الأبدية والنعيم السرمدي. وإذا كان هو
السبب في كل وجودنا العقلي وهو المربي لنفوسنا الروحانية فبحسب فضل النفس
على البدن يجب أن يفضل المنعم بذاك وبقدر فضلها على البدن يكون فضل
التربية على التربية فيحق أن يحب التلميذ معلم الحكمة محبة خالصة شبيهة
بالمحبة الأولى. ولذلك قلنا أن هذه المحبة من جنس المحبة الأولى والطاعة
له من جنس تلك الطاعة وكذلك تعظيمه له وإجلاله إياه. ثم لما كان سبب هاتين
النعمتين ومعرضنا لهما وسائقنا إليهما وإلىجميع النعم هو السبب الأول الذي
هو سبب الخيرات كلها قربت منا أوبعدت عنا عرفناها أو لم نعرفها وجب أن
تكون محبتنا لهفي أعلى مراتب المحبات وكذلك طاعتنا له وتمجيدنا إياه. ويجب
على من بلغ هذه المنزلة من الأخلاق أنيعرف مراتب المحبات وما يستحقه كل
واحد من صاحبه حتى لا يبذل كرامة الوالد للرئيس الأجنبي ولا كرامة الصديق
للسلطان ولا كرامة الولد للعثير ولا كرامة الأب للإبن.
فإن لكل واحد من
هؤلاء وأشباههم صنفا من الكرامة وحقا من الجزاء ليس للآخر ومتى خلط فيه
اضطرب وفسد وحدثت الملامات وإذا وفى كل واحد منهم حقه وقسطه من المحبة
والخدمة والنصيحة كان عادلا وأوجبت له محبته وعدالته فيها محبته لصاحبه
ومعامله. وكذلك يجب أن يجري الأمر في مؤانسة الأصحاب والخلطاء والمعاشرين
من توفية حقوقهم وإعطائهم ماهو خاص بهم. ومن غش المحبة والصداقة كان أسوأ
حالا ممن غش الدرهم والدينار.
فإن الحيكم ذكر أن المحبة المغشوشة
تنحل سريعا وتفسد وشيكا كما أن الدرهم والدينار إذا كانا مغشوشين فسدا
سريعا وهذا واجب في جميع أنواع المحبات. ولذلك يتعاطى العاقل أبدا أنمطاء
واحدا ويلزم مذهبا واحدا في إرادة الخير ويفعل جميع ما يفعله من أجل ذاته
ويرى خيره عند غيره كما يراه عند نفسه. وأما صديقه فقد قلنا أنه هو هو إلا
أنه غير بالشخص إما سائر مخالطيه ومعارفه فإنه يسلك بهم مسلك أصدقائه كأنه
مجتهد في أن يبلغ بهم وفيهم منازل الأصدقاء بالحقيقة وأن كان لا يمكن ذلك
في جميعهم. فهذه سيرة الخير في نفسه وفي رؤسائه وأهله وعشيرته وأصدقائه
وسلطانه.
الشرير
وأما الشرير فإنه يهرب من هذه السيرة
وينقر منها لرداءة الهيئة التي حصلت له ولمحبة البطالة والتكاسل عن معرفة
الخير والتمييز بينه وبين الشر وبين ماهو مظنون عنده خيرا وليس بخير.
ومن
كان على هذه الحالة من الشر ورداءة الهيئة كانت أفعاله كلها رديئة.
ومن
كانت ذاته رديئة هرب من ذاته لأجل أن الرداءة مهووب منها واضطر إلى صحبة
قوم يناسبونه ليفنى عمره معهم ويشتغل بهم عن ذاته وما يجده فيها من
الإضطراب والقلق. ذلك أن هؤلاء الأشرار إذا خلوا بأنفسهم تذكروا أفعالهم
الرديئة وهاجت بهم القوى المتضادة التي تدعوهم إلى إرتكاب الشرور المتضادة
فيألمون من ذواتهم وتتشاغب نفوسهم كل الشغب وتجذبهم القوى التي فيهم وهي
التي لم يروضوها بالأدب الحقيقي إلى جهات مختلفة من اللذات الرديئة وطلب
الكرامات التي لا يستحقونها والشهوات الرديئة التي تهلكهم سريعا.
فإذا
جذبتهم هذه القوى إلى جهات مختلفة أحدثت فيهم آلاما كثيرة لأنه لا يمكن أن
يفرح ويحزن معاولا يرضى ويسخط في حال واحدة ولا يستطيع أن يؤلف بين
الأضداد حتى تجتمع له فهومن شقائه يهرب من ذاته لأنها رديئة فاسدة متألمة
كثيرة الشغب عليه ويلتمس لعشرته ومخالطة من هومثله وأسوأ حالا منه فيجد
للوقت راحة به وسكونا إليه لأجل المشاكلة ثم يعود بعد قليل وبالا عليه
وزيادة في خباله وفساده فيألم به ويهرب منه ليس له محب ولا ذاته ولا له
نصيح ولا نفسه وليس يتحصل الأعلى الندامة ولا يرجع إلا إلى الشقوة.
الخير
الفاضلوأما
الرجل الخير الفاضل فإن سيرته جيدة محبوبة فهو يحب ذاته وأفعاله ويسر
بنفسه ويسر به أيضا غيره ويختار كل إنسان مواصلته ومصادقته فهو صديق نفسه
والناس أصدقاؤه وليس يضاده إلا الشرير فقط ويعرض لمن هذه سيرته أن يحسن
إلىغيره بقصد وبغير قصد. وذلك أن أفعاله لذيذة محبوبوة واللذيذ المحبوب
مختار فيكثر المقبلون عليه والمحتفون به والآخذون عنه.
وهذا هو الإحسان
الذاتي الذي يبقى ولا ينقطع ويتزايد على الأيام ولا ينتقص.
وأما الإحسان
العرضي الذي ليس بخلقي ولا هو سيرة لصاحبه فإنه ينقطع ويلحق فيه اللوم.
والمحبة التي تعرض منه تلحق بالمحبات اللوامة.
ولذلك
يوصي صاحبه بتربيته فيقال له تربية الصنعة أصعب من إبتدائها. والمحبة التي
تحدث بين المحسن والمحسن إليه يكون فيها زيادة ونقصان أعني أن محبة المحسن
للمحسن إليه أشد من محبة المحسن إليه للمحسن. واستدل أرسطوطاليس على ذلك
بأن المقرض وصانع المعروف يهتم كل واحد منهما بمن أقرضه واصطنع المعروف
عنده ويتعاهد أنهما ويحبان سلامتهما. أما المقرض فربما أحب سلامة المقترض
لمكان الأخذ لا لمكان المحبة أعني أنه يدعو له بالسلامة والبقاء وسبوغ
النعمة ليصل إلى حقهز وأما المقترض فليس يعني كبير عناية بالمقرضولا يدعو
له بهذه الدعوات وأما مصطنع المعروف فإنه بالحق الواجب يود الذي اصطنع
إليه معروفه وإن لم ينتظر منه منفعة. ذلك أن كل صانع فعل جيد محمود يحب
مصنوعه فإذا كان مصنوعه مستقيما جيدا وجب أن يكون محبوبا في الغاية. فقد
تبين أن محبة المحسن أشد من محبة المحسن إليه.
وأما المحسن إليه فشهوته
للإحسان أشد وأزيد من شهوة المحسن. وايضا فإن المحبة المكتسبة بالإحسان
المرباة على طول الزمان تجري مجرى القنيات التي يتعب بتحصيلها فإن ما
يكتسب منها على سبيل التعب والنصب تكون المحبة له أشد والضن به أكثر. ومن
وصل إلى المال بغير تعب لم يكترث به ولم يشح عليه وبذله في غير موضعه كما
يفعل الوراث ومن يجري مجراهم.
وينقر منها لرداءة الهيئة التي حصلت له ولمحبة البطالة والتكاسل عن معرفة
الخير والتمييز بينه وبين الشر وبين ماهو مظنون عنده خيرا وليس بخير.
ومن
كان على هذه الحالة من الشر ورداءة الهيئة كانت أفعاله كلها رديئة.
ومن
كانت ذاته رديئة هرب من ذاته لأجل أن الرداءة مهووب منها واضطر إلى صحبة
قوم يناسبونه ليفنى عمره معهم ويشتغل بهم عن ذاته وما يجده فيها من
الإضطراب والقلق. ذلك أن هؤلاء الأشرار إذا خلوا بأنفسهم تذكروا أفعالهم
الرديئة وهاجت بهم القوى المتضادة التي تدعوهم إلى إرتكاب الشرور المتضادة
فيألمون من ذواتهم وتتشاغب نفوسهم كل الشغب وتجذبهم القوى التي فيهم وهي
التي لم يروضوها بالأدب الحقيقي إلى جهات مختلفة من اللذات الرديئة وطلب
الكرامات التي لا يستحقونها والشهوات الرديئة التي تهلكهم سريعا.
فإذا
جذبتهم هذه القوى إلى جهات مختلفة أحدثت فيهم آلاما كثيرة لأنه لا يمكن أن
يفرح ويحزن معاولا يرضى ويسخط في حال واحدة ولا يستطيع أن يؤلف بين
الأضداد حتى تجتمع له فهومن شقائه يهرب من ذاته لأنها رديئة فاسدة متألمة
كثيرة الشغب عليه ويلتمس لعشرته ومخالطة من هومثله وأسوأ حالا منه فيجد
للوقت راحة به وسكونا إليه لأجل المشاكلة ثم يعود بعد قليل وبالا عليه
وزيادة في خباله وفساده فيألم به ويهرب منه ليس له محب ولا ذاته ولا له
نصيح ولا نفسه وليس يتحصل الأعلى الندامة ولا يرجع إلا إلى الشقوة.
الخير
الفاضلوأما
الرجل الخير الفاضل فإن سيرته جيدة محبوبة فهو يحب ذاته وأفعاله ويسر
بنفسه ويسر به أيضا غيره ويختار كل إنسان مواصلته ومصادقته فهو صديق نفسه
والناس أصدقاؤه وليس يضاده إلا الشرير فقط ويعرض لمن هذه سيرته أن يحسن
إلىغيره بقصد وبغير قصد. وذلك أن أفعاله لذيذة محبوبوة واللذيذ المحبوب
مختار فيكثر المقبلون عليه والمحتفون به والآخذون عنه.
وهذا هو الإحسان
الذاتي الذي يبقى ولا ينقطع ويتزايد على الأيام ولا ينتقص.
وأما الإحسان
العرضي الذي ليس بخلقي ولا هو سيرة لصاحبه فإنه ينقطع ويلحق فيه اللوم.
والمحبة التي تعرض منه تلحق بالمحبات اللوامة.
ولذلك
يوصي صاحبه بتربيته فيقال له تربية الصنعة أصعب من إبتدائها. والمحبة التي
تحدث بين المحسن والمحسن إليه يكون فيها زيادة ونقصان أعني أن محبة المحسن
للمحسن إليه أشد من محبة المحسن إليه للمحسن. واستدل أرسطوطاليس على ذلك
بأن المقرض وصانع المعروف يهتم كل واحد منهما بمن أقرضه واصطنع المعروف
عنده ويتعاهد أنهما ويحبان سلامتهما. أما المقرض فربما أحب سلامة المقترض
لمكان الأخذ لا لمكان المحبة أعني أنه يدعو له بالسلامة والبقاء وسبوغ
النعمة ليصل إلى حقهز وأما المقترض فليس يعني كبير عناية بالمقرضولا يدعو
له بهذه الدعوات وأما مصطنع المعروف فإنه بالحق الواجب يود الذي اصطنع
إليه معروفه وإن لم ينتظر منه منفعة. ذلك أن كل صانع فعل جيد محمود يحب
مصنوعه فإذا كان مصنوعه مستقيما جيدا وجب أن يكون محبوبا في الغاية. فقد
تبين أن محبة المحسن أشد من محبة المحسن إليه.
وأما المحسن إليه فشهوته
للإحسان أشد وأزيد من شهوة المحسن. وايضا فإن المحبة المكتسبة بالإحسان
المرباة على طول الزمان تجري مجرى القنيات التي يتعب بتحصيلها فإن ما
يكتسب منها على سبيل التعب والنصب تكون المحبة له أشد والضن به أكثر. ومن
وصل إلى المال بغير تعب لم يكترث به ولم يشح عليه وبذله في غير موضعه كما
يفعل الوراث ومن يجري مجراهم.
وأما من وصل إليه بتعب وسافر في طلبه وشقى
بجمعه فإنه لا محالة يكون شديد الضن به والمحبة له. ولهذه العلة صارت الأم
أكثر محبة للولد من الأب ويعرض لها من الحنين والوله أضعاف ما يعرض للأب.
وبهذا
النوع
من المحبة يحب الشاعر شعره ويعجب به أكثر من أعجاب غيره ولك فاعل
فعل يتعب به فهو يحب فعله. وأيضا فإن المنفعل لا يتعب كتعب الفاعل والآخذ
منفعل والمعطي فاعل فمن هذه الوجوه يتبين أن مصطنع المعروف يحب من أحسن
إليه حيا شديدا. ومن الناس من يصطنع المعروف لأجل الخير نفسه. ومنهم من
يصطنعه لأجل الذكر الجميل. ومنهم من يصطنعه رياء فقط. ومن البين أن أعلاهم
مرتبة من صنعه لذاته أعني لذات الخير. وصاحب هذه الرتبة لا يعرف الذكر
الجميل والثناء الباقي ومحبة من لم يصطنع المعروف عنده وإن لم يقصد ذلك
الفعل ولا بالنية.
ولما حكمنا فيما تقدم حكما مقبولا لا يرده أحد وهو
أن كل إنسان يجب نفسه وكانت هذه المحبة لا محالة تنقسم بالأقسام الثلاثة
التي ذكرناها أعني اللذة والمنافع والخير وجب من ذلك أن لا يوجد من لا
يميز بين هذه الأقسام حتى يعرف الأفضل ، فالأفضل منها فلا يدري كيف يحسن
إلى نفسه التي هي محبوبته فيقع في ضروب من الخطأ لجهله بالخير الحقيقي.
ولذلك
صار
بعض الناس يختار لنفسه سيرة اللذة وبعضهم سيرة الكرامة والمنافع لأنهم
لا يعرفون ما هو أفضل منها. وأما من عرف سيرة الخير وعلو مرتبته فهو لا
محالة يختار لنفسه أفضل السير وأكرم الخيرات فلا يؤثر اللذات البهيمية ولا
اللذات الخارجة عن نفسه فإنها عرضية كلها ومستحيلة ومنحلة لكنه يختار لها
أتم الخيرات وأعلاها واعظمها وهو الخير الذي لها بالذات أعني الذي ليس
بخارج عنها وهو الذي ينسب إلى جزئه الإلهي ومن سار بهذه السيرة وأختارها
لنفسه فقد أحسن إليها وأنزلها في الشرف الأعلى وأهلّها لقبول الفيض الإلهي
واللذة الحقيقية التي لا تفارقه أبدا. وإذا كان بهذه الحال فهو لا محالة
يفعل سائر الخيرات الأخر وينفع غيره ببذل الأموال والسماحة بجمع ما يتشاح
الناس عليه ويخص أصدقاءه من ذلك بكل ما يضيق عنه ذرع أصحاب السير الباقية
فيصير معظما عند كل واحد ولا سيما عند صديقه. وقد بينا فيما تقدم ان
الإنسان مدني بالطبع وشرحنا ومن كان تمامه عند غيره فمن المحال أن يصل مع
الوحدة والتفرد إلى سعادته التامة.
؟الأصدقاء: فالسعيد إذا من اكتسب
الأصدقاء واجتهد في بذل الخيرات لهم ليكتسب بهم مالا يقدر أن يكتسبه لذاته
فيلتذ بهم أيام حياته ويلتذون أيضا به.
وقد شرحنا حال هذه اللذة وأنها
باقية إلهية غير منحلة ولا متغيرة وهؤلاء في جملة الناس قليلون جدا. وأما
أصحاب اللذات البهيمية والنافع فيها فكثيرون جدا وقد يكتفي من هؤلاء
بالقليل كالأبازير في الطعام وكالملح خاصة. وأما الصديق الأول الذي ذكرنا
وصفه فلا يمكن أن يكون كثيرا لعزته ولأنه محبوب بإفراط وإفراط المحبة لا
يصح ولا يتم إلا لواحد. وأما حسن العشرة وكرم اللقاء والسعي لكل أحد بسيرة
الصديق الحقيقي فمبذول لأجل طلب الفضيلة ولأنا قد قلنا فيما تقدم أن الرجل
الخير الفاضل يسلك في عشرة معارفه مسلك الصديق وإن لم تتم الصداقة
الحقيقية فيهم. وارسطوطاليس يقول: (إن الإنسان محتاج إلى الصديق عند حسن
الحال وعند سوؤ الحال. فعند سوء الحال يحتاج إلى معونة الأصقاء وعند حسن
الحال يحتاج إلى المؤانسة وإلى من يحسن إليه).
ولعمري ان الملك
العظيم يحتاج إلى من يصطنعه ويضع إحسانه عنده كما أن الفقير من الناس
يحتاج إلى صديق يصطنعه ويضع عنده المعروف. قال (ومن أجل فضيلة الصداقة
يشارك الناس بعضهم بعضا ويتعاشرون عشرة جميلة ويجتمعون في الرياضات والصيد
والدعوات،وأما سقراطيس فإنه قال بهذه الألفاظ: (إني لأكثر التعجب ممن يعلم
أولاده أخبار الملوك ووقع بعضهم ببعض وذكر الحروب والضغائن ومن انتقم أو
وثبت على صاحبه ولا يخطر ببالهم امر المودة وأحاديث الألفة وما يحصل من
لخيرات العامة لجميع الناس بالمحبة والأنس. وأنه لا يستطيع أحد من الناس
أن يعيش بغير المودة وإن مالت إليه الدنيا بجميع رغائبها. فإن ظن أحد أن
أمر المودة صغير فالصغير من ظن ذلك. وإن قدر أنه موجود ويسير الخطب يدرك
بالهوينا فما أصعبه وما أعسر وجود صداقة يوثق بها عند البلوى) ثم قال:
(لكني أعتقد وأقول أن قدر المودة وخطرها عندي أعظم من جميع ذهب كنوز قارون
ومن ذخائر الملوك ومن جميع ما يتنافس فيه أهل الأرض من الجواهر وماتحويه
الدنيا برا وبحرا ما يتقلبون فيه من سائر الأمتعة والأثاث.
ولا يعدل
جميع ذلك ما اخترته لنفسي من فضيلة المودة. وذلك أن جميع ما أحصيته لا ينفع
صاحبه إذا حلت به لوعة مصيبة في صديقه.
وافهم
من الصديق ههنا أنه آخر هو أنت سواء كان أخا من نسب أو غريبا أو ولدا أو
والدا ولا يقوم له جميع ما في الأرض مقام صديق يثق به في مهم يساعده عليه
سعادة عاجلة أو آجلة تتم له.
فطوبى لمن أوتي هذه النعمة العظيمة وهو
خلو من السلطان. وأعظم طوبى لمن أتيه في سلطان. ذلك أن من باشر أمور
الرعية وأراد أن يعرف أحوالهم وينظر في أمورهم حق النظر لن يكفيه أذنان
ولا عينان ولا قلبد واحد فإن وجد إخوانا ذوي ثقة وجد بهم عيونا وآذانا
وقلوبا كأنها بأجمعها له فقربت عليه أطرافه واطلع من أدنى أمره على أقصاه
ورأى الغائب بصورة الشاهد. فأنى توجد هذه الفضيلة إلا عند الصديق وكيف
يطمع فيها عند غير الرفيق الشفيق؟) ؟كيف يختار الصديق وإذ قد عرفنا هذه
النعمة الجليلة فيجب علينا أن ننظر كيف نقتنيها ومن أين نطلبها وإذا حصلت
لنا كيف نحتفظ بها لئلا يصيبنا فيها ما أصاب الرجل الذي ضرب به المثل حين
طلب شاة سمينة فوجدها وارمة فاغتر بها وظن الورم سمنا فأخذه الشاعر فقال:
أعيذها
نظرات صادقة ... ان تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
لا
سيما وقد علمنا أن الإنسان من بين الحيوان يتصنع حتى يظهر للناس منه مالا
حقيقة له فيبذل ماله وهو بخيل ليقال هو جواد ويقدم في بعض المواطن على بعض
المخاوف ليقال هو شجاع.
وكذلك يكون حال من لا يعرف الحشائش والنبات
فإنها تشتبه في عينه حتى ربما تناول منها شيئا وهو يظنه حلو فإذا طعمه
وجده مرا وربما ظنه غذاء فيكون سما. فينبغي لنا أننحذر ركوب لخطر في تحصيل
هذه النعمة الجليلة حتى لا نقع في مودة المموهين الخداعين الذين يتصورون
لنا بصورة الفضلاء الأخيار. فإذا حصلونا في شباكهم افترسونا كما تفترس
السباع أكيلتها. والطرق إلى السلامة من هذا الخطر بحسب ما أخذناه عن
سقراطيس إذا أردنا أن نستفيد صديقا أن نسأل عنه كيف كان في صباه مع والديه
ومع إخواته وعشيرته فإن كان صالحا معهم فارج الصلاح منه وإلا فابعد منه
وإياك وإياه. قال: (ثم إعرف بعد ذلك سيرته مع أصدقائه قبلك فأضفها إلى
سيرته مع إخوته وآبائه. ثم تتبع أمره في شكر من يجب عليه شكره أو كفره
النعمة. ولست أعني بالشكر المكافأة التي ربما عجز عنها بالفعل ولكن ربما
عطل نيته في الشكر فلا يكافىء بما يستطيع وبما يقدر عليه ويغتنم الجميل
الذي يسدى إليه ويراه حقا له أو يتكاسل عن شكره باللسان. وليس أحد يتعذر
عليه نشر النعمة التي تتولاه والثناء على صاحبها والإعتداد له بها. وليس
شيء أشد إحتياجا للنقم من الكفر وحسبك ما أعده الله لكافر نعمته من النقم
مع تعاليه عن الإستضرار بالكفر. ولا شيء أجلب للنعمة ولا أشد تثبيتا لها
من الشكر وحسبك ما وعد الله به الشاكرين مع إستغنائه عن الشكر. فتعرف هذا
الخلق ممن تريد مؤاخاته واحذر أن تبتلي بالكفر للنعم ولا تكن بالمستحقر
لأيادي الإخوان وإحسان السلطان.
ثم انظر إلى ميله إلى الراحات
وتباطئه عن الحركة التي فيها أدنى نصب. فإن هذا خلق ردىء ويتبعه الميل إلى
اللذات فيكون سببا للتقاعد عما يجب عليه من الحقوق.
ثم انظر نظرا شافيا
في محبته للذهب والفضة وإستهانته بجمعهما وحرصه عليهما فإن كثيرا من
المتعاشرين يتظاهرون بالمحبة ويتهادون ويتناصحون فإذا وقعت بينهم معاملة
في هذين الحجرين هر بعضهم على بعض هرير الكلاب وخرجوا إلى ضروب العداوة.
ثم انظر في محبته للرئاسة والتفريط فإن من أحب الغلبة والترؤس وأن يفرط لا
ينصفك في المودة ولا يرضى منك بمثل ما يعطيك ويحمله الخيلاء والتيه على
الإستهانة بأصدقائه وطلب الترفع عليهم ولا تتم مع ذلك مودة ولا غبطة ولا
بد من أن تؤول الحال بينهم إلى العداوة والأحقاد والأضغان الكثيرة. ثم
انظر هل هو ممن يستهزىء بالغناء واللحون وضروب اللهو واللعب وسماع المجون
والمضاحيك فإن كان كذلك فما أشغله عن مساعدات إخوانه ومواساتهم وما أشد
هربه عن مكافأة بإحسان وإحتمال النصب ودخول تحت جميل. فإن وجدته بريئا من
هذه الخلال فلتحتفظ عليه ولترغب فيه ولتكتف بواحد إن وجد فإن الكمال عزيز.
وأيضا
فإن
من كثرت أصدقاؤه لم يف بحقوقهم واضطر إلى الأغضاء عن بعض ما يجب عليه
والتقصير في بعضه وربما ترادفت عليه أحوال متضادة أعني أن تدعوه مساعدة
صديق إلى أن يسر بسروره ومساعدة آخر أن يغتم بغمه وأن يسعى بسعي واحد
ويقعد بقعود آخر مع أحوال تشبه هذه كثيرة مختلفة. ولا ينبغي أن يحملك ما
حضضتك عليه من طلب الفضائل ممن تصادقه على تتبع صغار عيوبه فتصير بذلك إلى
أن لا يسلم لك أحد فتبقى خلوا من الصديق. بل يجب أن تغض عن المعايب
اليسيرة التي لا يسلم من مثلها البشر وتنظر ما تجده في نفسك من عيب فتحتمل
مثله من غيرك. واحذر عداوة من صادقته أو خالته أو خالطته مخالطة الصديق
واسمع قول الشاعر:
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب
فإن
الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
؟؟آداب
الصداقة لذلك يجب عليك متى حصل لك صديق أن تكثر مراعاته وتبالغ في تفقده
ولا تستهين باليسير من حقه عند مهم يعرض له أو حادث يحدث به.
فأما في
أوقات الرخاء فينبغي أن تلقاه بالوجه الطلق والخلق الرحب وأن تظهر له في
عينك وحركاتك وفي هشاشتك وارتياحك عند مشاهدته إياك ما يزداد به في كل يوم
وكل حال ثقة بمودتك وسكونا إليك ويرى السرور في جميع أعضائك التي يظهر
السرور فيها إذا لقيك. فإن التحفي الشديد عن طلعة الصديق لا يخفى وسرور
الشكل بالشك أمر غير مشكل. ثم ينبغي أن تفعل مثل ذلك بمن تعلم أنه يؤثره
ويحبه من صديق أو ولد أو تابع أو حاشية وتثنى عليهم من غير إسراف يخرج بك
إلى الملق الذي يمقتك عليه ويظهر لك منك تكلف فيه. وإنما يتم لك ذلك إذا
توخيت الصدق في كل ما تثنى به عليه. والزم هذه الطريقة حتى لا يقع منك
توان فيها بوجه من الوجوه وفي حال من الأحوال. فإن ذلك يجلب المحبة
الخالصة ويكسب الثقة التامة ويهديك محبة الغرباء ومن لا معرفة لك به.
وكما
أن
الحمام إذا ألف بيوتنا وآنس لمجالسنا وطاف بها يجلب لنا أشكاله وأمثاله
فكذلك حال الإنسان إذا عرفنا واختلط بنا إختلاط الراغب فينا الآنس بنا. بل
يزيد على الحيوان الغير الناطق بحسن الوصف وجميل الثناء ونشر المحاسن.
وأعلم أن مشاركة الصديق في السراء إذا كنت فيها وإن كانت واجبة عليك حتى
لا تستأثرها ولا تختص بشيء منها فإن مشاركته في الضراء أوجب وموقعها عنده
أعظم. وانظر عند ذلك أن إصابته نكبة أو لحقته مصيبة أوعثر به الدهر كيف
تكون مواساتك له بنفسك وما لك وكيف يظهر له تفقدك ومراعاتك. ولا تنتظرن به
أن يسألك تصريحا أو تعريضا بل اطلع على قلبه وأسبق إلى ما في نفسه وشاركه
في مضض ما لحقه ليخف عنه. وإن بلغت مرتبة من السلطان والغنى فاغمس إخوانك
فيها من غير امتنان ولا تطاول. وإن رأيت من بعضهم نبوا عنك أو نقصانا مما
عهدته فداخله زيادة مداخلة واختلط به واجتذبه إليك. فإنك إن أنفت من ذلك
أو تداخلك شيء من الكبر والصلف عليهم انتقض حبل المودة وانتكثت قوته. ومع
ذلك فلست تأمن أن يزولوا عنك فتستحي منهم وتضطر إلى قطيعتهم حتى لا تنظر
إليهم. ثم حافظ على هذه الشروط بالمداومة عليها لتبقى المودة على حال
واحدة. وليس هذا الشرط خاصا بالمودة بل هو مطرد في كل ما يخصك أعني أن
مركوبك وملبوسك ومنزلك متى لم تراعها مراعاة متصلة فسدت وانتقضت. فإذا
كانت صورة حائطك وسطوحك كذلك ومتى غفلت أو توانيت لم تأمن تقوضه وتهدمه
فكيف ترى أن تجفو من ترجوه لكل خير وتنتظر مشاركته في السراء والضراء؟ ومع
ذلك فإن ضرر تلك يختص بك بمنفعة واحدة. وأما صديقك فوجوه الضرر التي تدخل
عليك بجفائه وانتقاض مودته كثيرة عظيمة. ذلك أنه ينقلب عدوا وتتحول منافعه
مضارا فلا تأمن غوائله وعدواته مع عدمك الرغائب والمنافع به وينقطع رجاؤك
فيما لا تجد له خلفا ولا تستفيد عنه عوضا ولا يسد مسده شيء.
وإذا
راعيت شرطوه وحافظت عليها بالمداومة أمنت جميع ذلك. ثم احذر المراء معه
خاصة وإن كان واجبا أن تحذره مع كل أحد فإن مماراة الصديق تقتلع المودة من
أصلها لأنها سبب الإختلاف والإختلاف سبب التباين الذي هربنا منه إلى ضده
وقبحنا أثره واخترنا عليه الألفة التي طلبناها وأثنينا عليها وقلنا أن
الله عز وجل دعا إليها بالشريعة القويمة. وإني لأعرف من يؤثر المراء ويزعم
أنه يقدح خاطره ويشحذ ذهنه ويثير شكوكه فهو يتعمد في المحافل التي تجمع
رؤوساء أهل النظر ومتعاطي العلوم مماراة صديقه ويخرج في كلامه معه إلى
ألفاظ الجهال من العامة وسقاطهم ليزيد في خجل صديقه وليظهر انقطاعه
وتبلجه. وليس يفعل ذلك عند خلوته به ومذاكرته له وإنما يفعله حين يظن به
أنه أدق نظرا أو أحضر حجة وأغزر علما واحدّ قريحة. فما كنت أشبهه إلا بأهل
البغي وجبابرة أصحاب الأموال والمشبهين بهم من أهل البدع فإن هؤلاء يستحقر
بعضهم بعضا ولا يزال يصغر بصاحبه ويزدري على مروءته ويتطلب عيوبه ويتتبع
عثراته ويبالغ كل واحد فيما يقدر عليه من إساءة صاحبه حتى يؤدي بهم الحال
إلى العداوة التامة التي يكون معها السعاية وإزالة النعم وتجاوز ذلك إلى
سفك الدم وأنواع الشرور. فكيف يثبت مع المراء محبة ويرجى به ألفة؟ ثم احذر
في صديقك إن كنت متحققا بعلم أو متحليا بأدب أن تبخل عليه بذلك الفن أو
يرى فيك أنك تحب الإستبداد دونه والإستئثار عليه فإن أهل العلم لا يرى
بعضهم في بعض ما يراه أهل الدنيا بينهم. ذلك أن متاع الدنيا قليل فإذا
تزاحم عليه قوم ثلم بعضهم حال بعض ونقص حظ كل واحد من حظ الآخر. وأما
العلم فإنه بالضد وليس أحد ينقص منه ما يأخذه غيره بل يزكو على النفقة
ويربو مع الصداقة ويزيد على الإنفاق وكثرة الخرج فإذا بخل صاحب علم بعلمه
فإنما ذلك لأحوال فيه كلها قبيحة. وهي أنه أما أن يكون قليل البضاعة منه
فهو يخاف أن يفنى ما عنده أو يرد عليه مالا يعرفه فيزول تشرفه عند الجهال.
وأما أن يكون مكتسبا به فهو يخشى أن يضيق مكسبه به وينقص حظه منه. وأما أن
يكون حسودا والحسود بعيد من كل فضيلة لا يوده أحد. وإني لأعرف من لا يرضى
بأن يبخل بعلم نفسه حتى يبخل بعلم غيره ويكثر عتبه وسخطه على من لا يفيد
غيره من التلامذة المستحقين لفائدة العلم. وكثيرا ما يتوصل إلى أخذ الكتب
من أصحابها ثم منعهم منها. وهذا خلق لا تبقى معه مودة بل يجلب إلى صاحبه
عداوة لا يحسبها ويقطع أطماع أصدقائه من صداقته. ثم احذر أن تنبسط بأصحابك
ومن يخلو بك من اتباعك وتحمل أحدا منهم على ذكر شيء في نفسه. ولا ترخص في
عيب شيء يتصل به فضلا عن عيبه ولا يطمعن أحد في ذلك من أولى السبائك
والمتصلين بك لا جدا ولا هزلا وكيف تحتمل ذلك فيه وأنت عينه وقلبه وخليفته
على الناس كلهم بل أنت هوفإنه إن بلغه شيء مما حذرتك منه لم يشك أن ذلك
كان عن رأيك وهواك فينقلب عدوا وينفرك عنك نفور الضد.
فإن عرفت منه أنت
عيبا فوافقه عليه موافقة لطيفة ليس فيها غلظة. فإن الطبيب الرقيق ربما بلغ
بالدواء اللطيف ما يبلغه غيره بالشق والقطع والكي بل ربما توصل بالغذاء
إلى الشفاء واكتفى به عن المعالجة بالدواء. ولست أحب أن تغضى عما تعرفه في
صديقك وأن تترك موافقته عليه بهذا الضرب من الموافقة.
فإن ذلك خيانة
منك ومسامحة فيما يعود ضرره عليه وليس من حق الصديق أن يعرف ويبذل بعيوب
الأضداد حتى يعيبوه ويثلبوه. ثم احذر النميمة وسماعها.
وذلك أن الأشرار
يدخلون بين الأخيار في صورة النصحاء فيوهمونهم النصيحة وينقلون إليهم في
عرض الأحاديث اللذيذة أخبار أصدقائهم محرفة مموهة حتى إذا تجاسروا عليهم
بالحديث المختلق يصرحون لهم بما يفسد موداتهم ويشوه وجوه أصدقائهم إلى أن
يبغض بعضهم بعضا.
وللقدماء في هذه المعنى كتب مؤلفة يحذرون فيها من
النميمة ويشبهون صورة النمام بمن يحك بأظافيره أصول البنيان القوية حتى
يؤثر فيها ثم لا يزال يزيد ويمعن حتى يدخل فيها المعقول فيقلعه من أصله
ويضربون له الأمثال الكثيرة المشبهة بحديث الثور مع الأسد في كتاب كليلة
ودمنه. ونحن تكتفي بهذا القدر من الإيماء لئلا نخرج عن رسم كتابنا وعما
بنينا عليه مذهبنا من الإيجاز في الشرح. ولست أترك مع الإيجاز والإختصار
تعظيم هذا الباب وتكريره عليك لتعلم أن القدماء إنما ألفوا فيه الكتب
وضربوا له الأمثال وأكثروا فيه من الوصايا لما رواءه من النفع العظيم عند
السامعين من الأخيار ولما خافوه من الضرر الكثير على من يستهين به من
الأغمار. وليعلم المثل المضروب في السباع القوية إذا دخل عليها الثعلب
الرواغ على ضعفه أهلكها ودمرها.
وفي الملوك الحصفاء يدخل بينهم أهل
النميمة في صورة الناصحين حتى يفسدوا نيتهم على وزرائهم المبالغين في
نصيحتهم المجتهدين في تثبيت ملكهم إلى أن يغضبوا عليهم ويصرفوا به عيونهم
منهم وإلى أن يبطشوا بهم قتلا وتعذيبا وهم غير مذنبين ولا مجترمين ولا
مستحقين إلا الكرامة والإحسان فإذا بلغ بهم من الإفساد والإضرار ما بلغوه
من هؤلاء فباللأحرى أن يبلغوه منا إذا لم يجدوه في أصدقائنا الذين
اخترناهم على الأيام وادخرناهم للشدائد وأحللناهم محل أرواحنا وزدناهم
تفضلا وإكراما.
ويتبين لك من جميع ما قدمناه أن الصداقة وأصناف المحبات
التي تتم بها سعادة الإنسان من حيث هو مدني بالطبع إنما اختلفت ودخل فيها
ضروب الفساد وزال عنها معنى التأحد وعرض لها الإنتشار حتى احتجنا إلى
حفظها والتعب الكثير بنظامها من أجل النقائص الكثيرة التي فينا وحاجتنا
إلى إتمامها مع الحوادث التي تعرض لنا من الكون والفساد. فإن الفضائل
الخلقية إنما وضعت لأجل المعاملات والمعاشرات التي لا يتم الوجود الإنساني
إلا بها. ذلك أن العدل إنما احتيج إليه لتصحيح المعاملات وليزول به معنى
الجور الذي هو رذيلة عند المتعاملين. وإنما وضعت العفة فضيلة لأجل اللذات
الرديئة التي تحي الخيانات العظيمة على النفس والبدن. وكذلك الشجاعة وضعت
فضيلة من أجل الأمور الهائلة التي يجب أن يقدم الإنسان عليها في بعض
الأوقات ولا يهرب منها وعلى هذا جميع الأخلاق المرضية التي وصفناها وحضضنا
على إقتنائها. وأيضا فإن جميع هذه الفضائل تحتاج إلى أسباب خارجة من
الأموال واكتسابها من وجوهها ليمكنه أن يفعل بها فعل الأحرار والعادل
يحتاج إلى مثل ذلك ليجازي من عاشره بجميل ويكافىء من عامله بإحسان وجميعها
لا تقوم إلا بالأبدان والأنفس وما هو خارجعنها على حسب تقسيمنا السعادات
فيما مضى.
وكلما كانت الحاجات كثيرة احتيج إلى المواد الخارجة عنا
أكثر فهذه حالة السعادات الإنسانية التي لا تتم لنا إلا بالأفعال والأحوال
المدنية وبالأعوان الصالحين والأصدقاء المخلصين وهي كما تراها كثيرة
والتعب بها عزيم ومن قصر فيها قصرت به السعادة الخاصة به. ولذلك صار الكسل
ومحبة الراحة من أعظم الرذائل لأنهما يحولان بين المرء وبين جميع الخيرات
والفضائل ويسلخان الإنسان من الإنسانية. ولذلك ذممنا المتوسمين بالزهد إذا
تفردوا عن الناس وسكنوا الجبال والمفازات واختاروا التوحش الذي هو ضد
التمدن لأنهم ينسلخون عن جميع الفضائل الخلقية التي عددناها كلها. وكيف
يعف ويعدل ويسخو ويشجع من فارق الناس وتفرد عنهم وعدم الفضائل الخلقية.
وهل هو إلا بمنزلة الجماد والميت وأما محبة الحكمة والإنصراف إلى التصور
العقلي وإستعمال الآراء الإلهية فإنها خاصة بالجزء الإلهي من الناس وليس
يعرض لها شيء من الآفات التي تعرض للمحبات الأخرى الخلقية وضروب الفساد
ولذلك قلنا أنها لا تقبل النميمة ولا نوعا من أنواع الشرور لأنها الخير
المحض وسببها الخير الأول الذي لا تشوبه مادة ولا تلحقه الشرور التي في
المادة وما دام الإنسان يستعمل الأخلاق والفضائل الإنسانية فإنها تعوقه عن
هذا الخير الأول وهذه السعادة الإلهية ولكن ليس يتم له إلا بتلك ومن أصل
تلك الفضائل بنفسه ثم اشتغل عنها بالفضيلة الإلهية فقد اشتغل بذاته حقا
ونجا من مجاهدات الطبيعة والآمها ومن مجاهدات النفس وقواها وصار مع
الأرواح الطيبة واختلط بالملائكة المقربين فإذا انتقل من وجوده الأول إلى
وجوده الثاني حصل في النعيم الأبدي والسرور السرمدي.
؟رأى أرسطوطاليس
في السعادة التامة وقد أطلق أرسطوطاليس جميع هذه الألفاظ وقال أن السعادة
التامة الخالصة هي لله عز وجل ثم للملائكة والمتأهلين. ثم قال ولا ينبغي
أن يضاف إلى الملائكة تلك الفضائل التي عددناها في سعاد الإنسان فإنهم لا
يتعاملون ولا يكون عند أحد منهم وديعة فيحتاج إلى ردها ولا لأحد منهم
تجارة فيحتاج إلى العدالة ولا يفزعه شيء فيحتاج إلى النجدة ولا له نفقات
فيحتاج إلى الذهب والفضة ولا له شهوات فيحتاج إلى ضبط النفس وإلى فضيلة
العفة ولا هو مركب من الإستقصات الأربعة التي تحل في أضدادها فيحتاج إلى
الغذاء.
فإذا هؤلاء الأبرار المطهرون من بين خلق الله عز وجل غير
محتاجين إلى الفضائل الإنسية والله تعالى وتقدس وجل أعلى من ملائكته فيجب
أن ننزه عن جميع ماذكرناه من فضائل الإنسان وإنما نذكره بالخير البسيط
الذي يشبهه وننسب إليه الأمور العقلية التي تليق به. فبالحق الواجب الذي
لا مرية فيه لا يحبه إلا السعيد الخير من الناس الذي يعرف السعادة والخير
بالحقيقة فلذلك يتقرب إليه بهما جهده ويطلب مرضاته بقدر قاته ويتقبل أوامر
بنحو استطاعته. ومن أحب الله تعالى هذه المحبة وتقرب إليه هذا التقرب
وأطاعه هذه الطاعة أحبه الله وقربه وأرضاه وأستحق خلته التي أطلقتها
الشريعة على بعض البشر حيث قيل إبراهيم خليل الله، وأما أرسطوطاليس فإنه
أطلق بعد ذلك بالعلة شيئا غير مطلق في لغتنا. وذلك أنه قال (من أحب الله
وتعاهده كما يتعاهد
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى