رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
القاعدة الأولى
في تحقيق مفهوم أصول الفقه
وتعريف موضوعه وغايته وما فيه من البحث عنه من مسائله وما منه استمداده
وأما الأحكام الشرعية
فمن جهة أن الناظر في هذا العلم إنما ينظر في أدلة الأحكام الشرعية فلا بد
أن يكون عالماً بحقائق الأحكام ليتصور القصد إلى إثباتها ونفيها وأن يتمكن
بذلك من إيضاح المسائل بضرب الأمثلة وكثرة الشواهد ويتأهل بالبحث فيها
للنظر والاستدلال.
ولا نقول إن استمداده من وجود هذه الأحكام ونفيها في
آحاد المسائل فإنها من هذه الجهة لأثبت لها بغير أدلتها فلو توقفت الأدلة
على معرفتها من هذه الجهة كان دوراً ممتنعاً.
وأما مبادئه فاعلم أن
مبادئ كل علم هي التصورات والتصديقات المسلمة في ذلك العلم وهي غير مبرهنة
فيه لتوقف مسائل ذلك العلم عليها وسواء كانت مسلمة في نفسها كمبادئ العلم
الأعلى أو غير مسلمة في نفسها بل مقبولة على سبيل المصادرة أو الوضع على أن
تبرهن في علم أعلى من ذلك العلم وما هذه المبادئ في علم الأصول؟.
فنقول:
قد عرف أن استمداد علم أصول الفقه إنما هو من علم الكلام والعربية
والأحكام الشرعية فمبادئه غير خارجة عن هذه الأقسام الثلاثة فلنرسم في كل
مبدأ قسماً:القسم الأول
في المبادئ الكلامية
ومنهم من زعم أن العلم بالعلم ضروري غير نظري لأن كل ما سوى
العلم لا يعلم إلا بالعلم فلو علم بالغير كان دوراً ولأن كل أحد يعلم وجود
نفسه ضرورة والعلم أحد تصورات هذا التصديق فكان ضرورياً وهو أيضاً غير سديد
أما الوجه الأول فلأن جهة توقف غير العلم على العلم من جهة كون العلم
إدراكاً له وتوقف العلم على الغير لا من جهة كون ذلك الغير إدراكاً للعمل
بل من جهة كونه صفة مميزة له عما سواه ومع اختلاف جهة التوقف فلا دور وأما
الوجه الثاني فهو مبني على أن تصورات القضية الضرورية لا بد وأن تكون
ضرورية وليس كذلك لأن القضية الضرورية هي التي يصدق العقل بها بعد تصور
مفرداتها من غير توقف بعد تصور المفردات على نظر واستدلال وسواء كانت
التصورات ضرورية أو نظرية.
ومنهم من سلك في تعريفه التحديد وقد ذكر في
ذلك حدود كثيرة أبطلناها في أبكار الأفكار والمختار في ذلك أن يقال: العلم
عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التميز بين حقائق المعاني الكلية
حصولاً لا يتطرق إليه احتمال نقيضه.
فقولنا صفة كالجنس له ولغيره من
الصفات وقولنا يحصل بها التميز احتراز عن الحياة وسائر الصفات المشروطة
بالحياة وقولنا بين حقائق الكليات احتراز عن الإدراكات الجزئية فإنها إنما
تميز بين المحسوسات الجزئية دون الأمور الكلية وإن سلكنا مذهب الشيخ أبي
الحسن في أن الإدراكات نوع من العلم لم نحتج إلى التقييد بالكليات.
وهو
منقسم إلى قديم لا أول لوجوده وإلى حادث بعد العدم والحادث ينقسم إلى ضروري
وهو العلم الحادث الذي لا قدرة للمكلف على تحصيله بنظر واستدلال فقولنا
العلم الحادث احتراز عن علم الله تعالى وقولنا لا قدرة للمكلف على تحصيله
بنظر واستدلال احتراز عن العلم النظري والنظري هو العلم الذي تضمنه الصحيح.
وأما الظن فعبارة عن ترجح أحد الاحتمالين في النفس على الآخر من غير قطع.القسم الثاني
في المبادئ اللغوية
في أنواعه
في حقيقته
أما
حقيقته فهو ما دل بالوضع على معنى ولا جزء له يدل على شيء أصلاً كلفظ
الإنسان فإن إذ من قولنا إنسان وإن دلت على الشرطية فليست إذ ذاك جزءاً من
لفظ الإنسان وحيث كانت جزءاً من لفظ الإنسان لم تكن شرطية لأن دلالات
الألفاظ ليست لذواتها بل هي تابعة لقصد المتكلم وإرادته ونعلم أن المتكلم
حيث جعل إن شرطية لم يقصد جعلها غير شرطية وعلى هذا فعبد الله إن جعل علماً
على شخص كان مفرداً وإن قصد به النسبة إلى الله تعالى بالعبودية كان
مركباً لدلالة أجزائه على أجزاء معناه.الفصل الثاني
في أقسام دلالته
في أقسام المفرد
في الاسم
فإن
كان الأول فإما عن اسم عين كأسد وعقاب أو اسم معنى كفضل أو اسم صفة كحاتم
وإن كان الثاني فإما عن ماض كشمر أو مضارع كتغلب أو فعل أمر كاصمت وإن كان
الثالث كببه وإن كان مرتجلاً وهو أن لا يكون بينه وبين ما نقل عنه مناسبة
كحمدان.
وإن كان مؤلفاً فإما من اسمين مضافين كعبد الله أو غير مضافين
وأحدهما عامل في الآخر أو غير عامل والأول كتسمية بعض الناس زيد منطلق
والثاني كبعلبك وحضرموت وإما من فعلين كقام قعد وإما من حرفين كتسميته إنما
وإما من اسم وفعل نحو تأبط شراً وإما من حرف واسم كتسميته بزيد وإما من
فعل وحرف كتسميته قام علي.
وأما إن كان الاسم واحداً والمسمى مختلفاً فإما أن يكون موضوعاً على الكل حقيقة بالوضع الأول أو هو مستعار في بعضها.
فإن
كان الأول فهو المشترك وسواء كانت المسميات متباينة كالجون: للسواد
والبياض أو غير متباينة كما إذا أطلقنا اسم الأسود على شخص من الأشخاص
بطريق العلمية وأطلقناه عليه بطريق الاشتقاق من السواد القائم به فإن
مدلوله عند كونه علماً إنما هو ذات الشخص ومدلوله عند كونه مشتقاً الذات مع
الصفة وهي السواد فالذات التي هي مدلول العلم جزء من مدلول اللفظ المشتق
ومدلول اللفظ المشتق وصف لمدلول العلم وإن كان الثاني فهو المجازي.
وأما
إن كان الاسم متعدداً فإما أن يكون المسمى متحداً أو متعدداً فإن كان
متحداً فتلك هي الأسماء المترادفة كالبهتر والبحتر للقصير وإن كان المسمى
متعدداً فتلك هي الأسماء المتباينة كالإنسان والفرس.
مسائل هذه القسمة
ثلاث المسألة الأولى اختلف الناس في اللفظ المشترك هل له وجود في اللغة
فأثبته قوم ونفاه آخرون والمختار جوازه ووقوعه.
أما الجواز العقلي فهو
أنه لا يمتنع عقلاً أن يضع واحد من أهل اللغة لفظاً واحداً على معنيين
مختلفين بالوضع الأول على طريق البدل ويوافقه عليه الباقون أو أن يتفق وضع
إحدى القبيلتين للاسم على معنى حقيقة ووضع الأخرى له بازاء معنى آخر من غير
شعور لكل واحدة بما وضعته الأخرى ثم يشتهر الوضعان ويخفى سببه وهو الأشبه
ولو قدر ذلك لما لزم من فرض وقوعه محال عقلاً.
كيف وإن وضع اللفظ تابع
لغرض الواضع والواضع كما أنه قد يقصد تعريف الشيء لغيره مفصلاً فقد يقصد
تعريفه مجملاً غير مفصل إما لأنه علمه كذلك ولم يعلمه مفصلاً أو لمحذور
يتعلق بالتفصيل دون الإجمال فلا يبعد لهذه الفائدة منهم وضع لفظ يدل عليه
من غير تفصيل.
وأما بيان الوقوع فقد قال قوم إنه لو لم تكن الألفاظ
المشتركة واقعة في اللغة مع أن المسميات غير متناهية والأسماء متناهية
ضرورة تركبها من الحروف المتناهية لخلت أكثر المسميات عن الألفاظ الدالة
عليها مع دعو الحاجة إليها وهو ممتنع وغير سديد من حيث إن الأسماء وإن كانت
مركبة من الحروف المتناهية فلا يلزم أن تكون متناهية إلا أن يكون ما يحصل
من تضاعيف التركيبات متناهية وهو غير مسلم وإن كانت الأسماء متناهية فلا
نسلم أن المسميات المتضادة والمختلفة وهي التي يكون اللفظ مشتركاً بالنسبة
إليها غير متناهية وإن كانت غير متناهية غير أن وضع الأسماء على مسمياتها
مشروط بكون كل واحد من المسميات مقصوداً بالوضع وما لا نهاية له مما يستحيل
فيه ذلك ولئن سلمنا أنه غير ممتنع ولكن لا يلزم من ذلك الوضع ولهذا فإن
كثيراً من المعاني لم تضع العرب بازائها ألفاظاً تدل عليها لا بطريق
الاشتراك ولا التفصيل كأنواع الروائح وكثير من الصفات وقال أبو الحسين
البصري: أطلق أهل اللغة اسم القرء على الطهر والحيض وهما ضدان فدل على وقوع
الاسم المشترك في اللغة.
ولقائل أن يقول: القول بكونه مشتركاً غير
منقول عن أهل الوضع بل غاية المنقول اتحاد الاسم وتعدد المسمى ولعله أطلق
عليهما باعتبار معنى واحد مشترك بينهما لا باعتبار اختلاف حقيقتهما أو أنه
حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وإن خفي موضع الحقيقة والمجاز وهذا هو
الأولى.
أما بالنظر إلى الاحتمال الأول فلما فيه من نفي التجوز
والاشتراك وأما بالنظر إلى الاحتمال الثاني فلأن التجوز أولى من الاشتراك
كما يأتي في موضعه.
والأقرب في ذلك أن يقال اتفق إجماع الكل على
إطلاق اسم الموجود على القديم والحادث حقيقة ولو كان مجازاً في أحدهما لصح
نفيه إذ هو أمارة المجاز وهو ممتنع وعند ذلك فإما أن يكون اسم الموجود
دالاً على ذات الرب تعالى أو على صفة زائدة على ذاته: فإن كان الأول فلا
يخفى أن ذات الرب تعالى مخالفة بذاتها لما سواها من الموجودات الحادثة وإلا
لوجب الاشتراك بينها وبين ما شاركها في معناها في الوجوب ضرورة التساوي في
مفهوم الذات وهو محال وإن كان مدلول اسم الوجود صفة زائدة على ذات الرب
تعالى فإما أن يكون المفهوم منه هو المفهوم من اسم الوجود في الحوادث وإما
خلافه والأول يلزم منه أن يكون مسمى الوجود في الممكن واجباً لذاته ضرورة
أن وجود الباري تعالى واجب لذاته أو أن يكون وجود الرب ممكناً ضرورة إمكان
وجود ما سوى الله تعالى وهو محال وإن كان الثاني لزم منه الاشتراك وهو
المطلوب.
فإن قيل المقصود من وضع الألفاظ إنما هو التفاهم وذلك غير
متحقق مع الاشتراك من حيث أن فهم المدلول منه ضرورة تساوي النسبة غير معلوم
من اللفظ والقرائن فقد تظهر وقد تخفى وبتقدير خفائها يختل المقصود من
الوضع وهو الفهم.
قلنا وإن اختل فهم التفصيل على ما ذكروه فلا يختل معه
الفهم في جهة الجملة كما سبق تقريره وليس فهم التفصيل لغة من الضروريات
بدليل وضع أسماء الأجناس فإنها لا تفيد تفاصيل ما تحتها وإن سلمنا أن
الفائدة المطلوبة إنما هي فهم التفصيل فإنما يمنع ذلك من وضع الألفاظ
المشتركة أن لو لم تكن مفيدة لجميع مدلولاتها بطريق العموم وليس كذلك على
ما ذهب إليه القاضي والشافعي رضي الله عنه كما سيأتي تحقيقه.
وإذا عرف
وقوع الاشتراك لغة فهو أيضاً واقع في كلام الله تعالى والدليل عليه قوله
تعالى: " والليل إذا عسعس " فإنه مشترك بين إقبال الليل وإدباره وهما ضدان
هكذا ذكره صاحب الصحاح.
وما يقوله المانع لذلك من أن المشترك إن كان
المقصود منه الإفهام فإن وجد معه البيان فهو تطويل من غير فائدة وإن لم
يوجد فقد فات المقصود وإن لم يكن المقصود منه الإفهام فهو عبث وهو قبيح
فوجب صيانة كلام الله عنه فهو مبني على الحسن والقبح الذاتي العقلي وسيأتي
إبطاله.
كيف وقد بينا أن مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر أن المشترك نوع
من أنواع العموم والعام غير ممتنع في كلام الله تعالى وبتقدير عدم عمومه
فلا يمتنع أن يكون في الخطاب به فائدة لنيل الثواب بالاستعداد لامتثاله
بتقدير بيانه بظهور دليل يدل على تعيين البعض وإبطال جميع الأقسام سوى
الواحد منها.
المسألة الثانية قد ظن في أشياء أنها مشتركة وهي متواطئة
وفي أشياء أنها متواطئة وهي مشتركة أما الأول فكقولنا مبدأ للنقطة والآن
فإنه لما اختلف الموضوع المنسوب إليه وهو الزمان والخط ظن الاشتراك في اسم
المبدأ وليس كذلك فإن إطلاق اسم المبدأ عليهما إنما كان بالنظر إلى أن كل
واحد منهما أول لشيء لا من حيث هو أول للزمان أو الخط وهو من هذا الوجه
متواطئ وليس بمشترك.
وأما الثاني فكقولنا خمري للون الشبيه بلون الخمر
وللعنب باعتبار أنه يؤول إلى الخمر وللدواء إذا كان يسكر كالخمر أو أن
الخمر جزء منه فإنه لما اتحد المنسوب إليه وهو الخمر ظن أنه متواطئ وليس
كذلك فإن اسم الخمري وإن اتحد المنسوب إليه إنما كان بسبب النسب المختلفة
إليه ومع الاختلاف فلا تواطؤ نعم لو أطلق اسم الخمري في هذه الصور باعتبار
ما وقع به الاشتراك من عموم النسبة وقطع النظر عن خصوصياتها كان متواطئاً.
الثالثة
ذهب شذوذ من الناس إلى امتناع وقوع الترادف في اللغة مصيراً منهم إلى أن
الأصل عند تعدد الأسماء تعدد المسميات واختصاص كل اسم بمسمى غير مسمى الآخر
وبيانه
من أربعة أوجه: الأول: إنه يلزم من اتحاد المسمى تعطيل فائدة أحد اللفظين
لحصولها باللفظ الآخر الثاني: إنه لو قيل باتحاد المسمى فهو نادر بالنسبة
إلى المسمى المتعدد بتعدد الأسماء وغلبة استعمال الأسماء بازاء المسميات
المتعددة تدل على أنه أقرب إلى تحصيل مقصود أهل الوضع من وضعهم فاستعمال
الألفاظ المتعددة فيما هو على خلاف الغالب خلاف الأصل الثالث: إن المؤونة
في حفظ الاسم الواحد أخف من حفظ الاسمين والأصل إنما هو التزام أعظم
المشقتين لتحصيل أعظم الفائدتين الرابع: إنه إذا اتحد الاسم دعت حاجة الكل
إلى معرفته مع خفة المؤونة في حفظه فعمت فائدة التخاطب به ولا كذلك إذا
تعددت الأسماء فإن كل واحد على أمرين: بين أن يحفظ مجموع الأسماء أو البعض
منها والأول شاق جداً وقلما يتفق ذلك والثاني فيلزم منه الإخلال بفائدة
التخاطب لجواز اختصاص كل واحد بمعرفة اسم لا يعرفه الآخر.
وجوابه أن
يقال لا سبيل إلى إنكار الجواز العقلي فإنه لا يمتنع عقلاً أن يضع واحد
لفظين على مسمى واحد ثم يتفق الكل عليه أو أن تضع إحدى القبيلتين أحد
الاسمين على مسمى وتضع الأخرى له اسماً آخر من غير شعور كل قبيلة بوضع
الأخرى ثم يشيع الوضعان بعد بذلك كيف وإن ذلك جائز بل واقع بالنظر إلى
لغتين ضرورة فكان جائزاً بالنظر إلى قبيلتين.
قولهم في الوجه الأول لا
فائدة في أحد الاسمين ليس كذلك فإنه يلزم منه التوسعة في اللغة وتكثير
الطرق المفيدة للمطلوب فيكون أقرب إلى الوصول إليه حيث إنه لا يلزم من تعذر
حصول أحد الطريقين تعذر الآخر بخلاف ما إذا اتحد الطريق وقد يتعلق به
فوائد أخر في النظم والنثر بمساعدة أحد اللفظين في الحرف الروي ووزن البيت
والجناس والمطابقة والخفة في النطق به إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة
لأرباب الأدب وأهل الفصاحة.
وما ذكروه في الوجه الثاني فغير مانع من
وقوع الترادف بدليل الأسماء المشتركة والمجازية وما ذكروه في الوجه الثالث
فإنما يلزم المحذور منه وهو زيادة مؤونة الحفظ إن لو وظف على كل واحد حفظ
جميع المترادفات وليس كذلك بل هو مخير في حفظ الكل أو البعض مع ما فيه من
الفائدة التي ذكرناها.
وعن الوجه الرابع أنه ملغى بالترادف في لغتين كيف
وإنه يلزم من الإخلال بالترادف الإخلال بما ذكرناه من المقاصد أولاً وهو
محذور ثم الدليل على وقوع الترادف في اللغة ما نقل عن العرب من قولهم
الصهلب والشوذب من أسماء الطويل والبهتر والبحتر من أسماء القصير إلى غير
ذلك ولا دليل على امتناع ذلك حتى يتبع ما يقوله من يتعسف في هذا الباب في
بيان اختلاف المدلولات لكنه ربما خفي بعض الألفاظ المترادفة وظهر البعض
فيجعل الأشهر بياناً للأخفى وهو الحد اللفظي.
وقد ظن بأسماء أنها
مترادفة وهي متباينة وذلك عندما إذا كانت الأسماء لموضوع واحد باعتبار
صفاته المختلفة كالسيف والصارم والهندي أو باعتبار صفته وصفة صفته كالناطق
والفصيح وليس كذلك.
ويفارق المرادف المؤكد من جهة أن اللفظ المرادف لا
يزيد مرادفه إيضاحاً ولا يشترط تقدم أحدهما على الآخر ولا يرادف الشيء
بنفسه بخلاف المؤكد والتابع في اللفظ فمخالف لهما فإنه لا بد وأن يكون على
وزن المتبوع وأنه قد لا يفيد معنى أصلاً كقولهم: حس بسن وشيطان ليطان ولهذا
قال ابن دريد: سألت أبا حاتم عن معنى قولهم بسن فقال: ما أدري ما هو.
القسمة
الثانية الاسم ينقسم إلى ظاهر ومضمر وما بينهما وذلك لأنه إما أن يقصد به
البيان مع الاختصار أو لا مع الاختصار فالأول هو الظاهر.
والثاني إما أن لا يقصد معه التنبيه أو يقصد: فالأول هو المضمر والثاني ما بينهما.
فأما
الاسم الظاهر: إما أن لا يكون آخره ألفاً ولا ياء قبلها كسرة أو يكون
فالأول هو الاسم الصحيح فإن دخله حركة الجر مع التنوين فهو المنصرف كزيد
وعمرو وإن لم يكن كذلك فهو غير منصرف كأحمد وإبراهيم.
والثاني هو المعتل
فإن كان في آخره ياء قبلها كسرة فهو المنقوص كالقاضي والداعي وإن كان في
آخره ألف فهو المقصور كالدنيا والأخرى وإن كان في آخره همزة قبلها ألف فهو
الممدود كالرداء والكساء.
وأما المضمر فهو إما منفصل وإما متصل: والمنفصل نحو: أنا ونحن وهو وهي ونحوه والمتصل نحو: فعلت وفعلنا وما بينهما فهو اسم الإشارة.
وهو
إما أن يكون مفرداً ليس معه تنبيه ولا خطاب أو يكون: فالأول نحو: ذا وذان
وذين وأولاء وأما إن كان غير مفرد فإن وجد معه التنبيه لا غير فنحو: هذا
وهذان وإن وجد معه الخطاب فنحو: ذاك وذانك وإن اجتمعا معه فنحو هذاك
وهاتيك.
ثم ما كان من الأسماء الظاهرة فلا يكون من أقل من ثلاثة أحرف
أصول نفياً للإجحاف عنه مع قوته بالنسبة إلى الفعل والحرف إلا فيما شذ من
قولهم: يد ودم وأب وأخ ونحوه مما حذف منه الحرف الثالث.
وما كان من
الأسماء المضمرة متصلاً كان من حرف واحد كالتاء من فعلت وإن كان منفصلاً
فلا يكون من أقل من حرفين يبتدأ بأحدهما ويوقف على الآخر: نحو هو وهي وكذلك
ما كان من أسماء الإشارة فلا يكون من أقل من حرفين أيضاً نحو ذا وذي ونحوه
وبالجملة فإما أن يدل على شيء بعينه أو لا بعينه.
فالأول هو المعرفة
كأسماء الأعلام والمضمرات والمبهمات كأسماء الإشارة والموصولات وما دخل
عليه لام التعريف وما أضيف إلى أحد هذه المعارف والثاني هو النكرة كإنسان
وفرس.
وما ألحق بآخره من الأسماء ياء مشددة مكسور ما قبلها فهو المنسوب كالهاشمي والمكي ونحوه.
القسمة
الثالثة الاسم ينقسم إلى ما هو حقيقة ومجاز أما الحقيقة فهي في اللغة
مأخوذة من الحق والحق هو الثابت اللازم وهو نقيض الباطل ومنه يقال حق الشيء
حقه ويقال حقيقة الشيء أي ذاته الثابتة اللازمة ومنه قوله تعالى " ولكن
حقت كلمة العذاب على الكافرين " " الزمر 71 " أي وجبت وكذلك قوله تعالى "
حقيق على أن لا أقول " " الأعراف 105 " أي واجب علي.
وأما في اصطلاح الأصوليين فاعلم أن الأسماء الحقيقية قد يطلقها الأصوليون على لغوية وشرعية.
واللغوية
تنقسم إلى وضعية وعرفية والكلام إنما هو في الحقيقة الوضعية فلنعرفها ثم
نعود إلى باقي الأقسام وقد ذكر فيها حدود واهية يستغنى عن تضييع الزمان
بذكرها والحق في ذلك أن يقال هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا في اللغة
كالأسد المستعمل في الحيوان الشجاع العريض الأعالي والإنسان في الحيوان
الناطق.
وأما الحقيقة العرفية اللغوية فهي اللفظ المستعمل فيما وضع له
بعرف الاستعمال اللغوي وهي قسمان: الأول أن يكون الاسم قد وضع لمعنى عام ثم
يخصص بعرف استعمال أهل اللغة ببعض مسمياته كاختصاص لفظ الدابة بذوات
الأربع عرفاً وإن كان في أصل اللغة لكل ما دب وذلك إما لسرعة دبيبه أو كثرة
مشاهدته أو كثرة استعماله أو غير ذلك.
الثاني أن يكون الاسم في أصل
اللغة بمعنى ثم يشتهر في عرف استعمالهم بالمجاز الخارج عن الموضوع اللغوي
بحيث إنه لا يفهم من اللفظ عند إطلاقه غيره كاسم الغائط فإنه وإن كان في
أصل اللغة للموضع المطمئن من الأرض غير أنه قد اشتهر في عرفهم بالخارج
المستقدر من الإنسان حتى إنه لا يفهم من ذلك اللفظ عند إطلاقه غيره ويمكن
أن يكون شهرة استعمال لفظ الغائط من الخارج المستقذر من الإنسان لكثرة
مباشرته وغلبة التخاطب به مع الاستنكاف من ذكر الاسم الخاص به لنفرة الطباع
عنه فكنوا عنه بلازمه أو لمعنى آخر.
وأما الحقيقة الشرعية فهي استعمال
الاسم الشرعي فيما كان موضوعاً له أولاً في الشرع وسواء كان الاسم الشرعي
ومسماه لا يعرفهما أهل اللغة أو هما معروفان لهم غير أنهم لم يضعوا ذلك
الاسم لذلك المعنى أو عرفوا المعنى كاسم الصلاة والحج والزكاة ونحوه وكذلك
اسم الإيمان والكفر لكن ربما خصت هذه بالأسماء الدينية.
وإن شئت أن تحد
الحقيقة على وجه يعم جميع هذه الاعتبارات قلت: الحقيقة هي اللفظ المستعمل
فيما وضع له أولاً في الاصطلاح الذي به التخاطب فإنه جامع مانع.
وأما المجاز فمأخوذ في اللغة من الجواز وهو الانتقال من حال إلى حال ومنه يقال جاز فلان من جهة كذا إلى جهة كذا.
وهو
مخصوص في اصطلاح الأصوليين بانتقال اللفظ من جهة الحقيقة إلى غيرها وقبل
النظر في تحديده يجب أن تعلم أن المجاز قد يكون لصرف اللفظ عن الحقيقة
الوضعية وعن العرفية والشرعية إلى غيرها كما كانت الحقيقة منقسمة إلى وضعية
وعرفية وشرعية.
وعند هذا نقول: من اعتقد كون المجاز وضعياً قال في
حد المجاز في اللغة الوضعية هو اللفظ المتواضع على استعماله في غير ما وضع
له أولاً في اللغة لما بينهما من التعلق ومن لم يعتقد كونه وضعياً أبقى
الحد بحاله وأبدل المتواضع عليه بالمستعمل وعلى هذا فلا يخفى حد التجوز عن
الحقيقة العرفية والشرعية.
وإن أردت التحديد على وجه يعم الجميع قلت هو
اللفظ المتواضع على استعماله أو المستعمل في غير ما وضع له أولاً في
الاصطلاح الذي به المخاطبة لما بينهما من التعلق ونعني بالتعلق بين محل
الحقيقة والمجاز أن يكون محل التجوز مشابهاً لمحل الحقيقة في شكله وصورته
كإطلاق اسم الإنسان على المصور على الحائط أو في صفة ظاهرة في محل الحقيقة
كإطلاق اسم الأسد على الإنسان لاشتراكهما في صفة الشجاعة لا في صفة البخر
لخفائها أو لأنه كان حقيقة كإطلاق اسم العبد على المعتق أو لأنه يؤول إليه
في الغالب كتسمية العصير خمراً أو أنه مجاور له في الغالب كقولهم: جرى
النهر والميزاب ونحوه.
وجميع جهات التجوز وإن تعددت غير خارجة عما
ذكرناه وإنما قيدنا الحد باللفظ لأن الكلام إنما هو في المجاز اللفظي لا
مطلقاً وبقولنا المتواضع على استعماله أو المستعمل في غير ما وضع له أولاً
تمييزاً له عن الحقيقة وبقولنا لما بينهما من التعلق لأنه لو لم يكن كذلك
كان ذلك الاستعمال ابتداء وضع آخر وكان اللفظ مشتركاً لا مجازاً.
فإن
قيل ما ذكرتموه من الحد غير جامع لأنه يخرج منه التجوز بتخصيص الاسم ببعض
مدلولاته في اللغة كتخصيص لفظ الدابة بذوات الأربع فإنه مجاز وهو غير
مستعمل في غير ما وضع له أولاً لدخول ذوات الأربع في المدلول الأصلي ويلزم
منه أيضاً خروج التجوز بزيادة الكاف في قوله " ليس كمثله شيء " " الشورى 11
" فإنه مجاز وهو غير مستعمل في إفادة شيء أصلاً ويخرج أيضاً منه التجوز
بلفظ الأسد عن الإنسان حالة قصد تعظيمه وإنما يحصل تعظيمه بتقدير كونه
أسداً لا بمجرد إطلاق اسم الأسد عليه بدليل ما إذا جعل علماً له ومدلوله إذ
ذاك لا يكون غير ما وضع له أولاً وتدخل فيه الحقيقة العرفية كلفظ الغائط
وإن كان اللفظ مستعملاً في غير موضوعه أولاً والحقيقة من حيث هي حقيقة لا
تكون مجازاً.
قلنا: أما الإشكال الأول فمندفع لأنه لا يخفى أن حقيقة
المطلق مخالفة لحقيقة المقيد من حيث هما كذلك فإذا كان لفظ الدابة حقيقة في
مطلق دابة فاستعماله في الدابة المقيدة على الخصوص يكون استعمالاً له في
غير ما وضع له أولاً وأما الكاف في قوله تعالى " ليس كمثله شيء " فليست
مستعملة للاسمية كوضعها في اللغة ولا للتشبيه وإلا كان معناها: ليس لمثله
مثل وهو مثل لمثله فكان تناقضاً فكانت مستعملة لا فيما وضعت له في اللغة
أولاً فكانت داخلة في الحد وأما التعبير بلفظ الأسد عن الإنسان تعظيماً له
فليس لتقدير مسمى الأسد الحقيقي فيه بل لمشاركته له في صفته من الشجاعة
والحقيقة العرفية وإن كانت حقيقة بالنظر إلى تواضع أهل العرف عليها فلا
تخرج عن كونها مجازاً بالنسبة إلى استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولاً
ولا تناقض وإذا عرف معنى الحقيقة والمجاز فمهما ورد لفظ في معنى وتردد بين
القسمين فقد يعرف كونه حقيقة ومجازاً بالنقل عن أهل اللغة وإن لم يكن نقل
فقد يعرف كونه مجازاً بصحة نفيه في نفس الأمر ويعرف كونه حقيقة بعدم ذلك
ولهذا فإنه يصح أن يقال لمن سمي من الناس حماراً لبلادته أنه ليس بحمار ولا
يصح أن يقال إنه ليس بإنسان في نفس الأمر لما كان حقيقة فيه.
ومنها أن
يكون المدلول مما يتبادر إلى الفهم من إطلاق اللفظ من غير قرينة مع عدم
العلم بكونه مجازاً بخلاف غيره من المدلولات فالمتبادر إلى الفهم هو
الحقيقة وغيره هو المجاز.
فإن قيل هذا لا يطرد في المجاز المنقول حيث
إنه يسبق إلى الفهم من اللفظ دون حقيقته فالأمر فيهما بالضد مما ذكرتموه
وينتقض أيضاً باللفظ المشترك فإنه حقيقة في مدلولاته مع عدم تبادر شيء منها
إلى الفهم عند إطلاقه.
قلنا أما الأول فمندفع وذلك لأن اللفظ الوارد
إذا تبادر مدلوله إلى الذهن عند إطلاقه فإن علم كونه مجازاً فهو غير وارد
على ما ذكرناه وإن لم يعلم فالظاهر أنه يكون حقيقة فيه لاختصاص ذلك
بالحقيقة في الغالب وإدراج النادر تحت الغالب أولى وأما اللفظ المشترك فإن
قلنا إنه عام في جميع محامله فقد اندفع الإشكال وإن قلنا إنه لا يتناول إلا
واحداً من مدلولاته على طريق البدل فهو حقيقة في الواحد على البدل لا في
الواحد عيناً والذي هو حقيقة فيه فهو متبادر إلى الفهم عند إطلاقه وهو
الواحد على البدل والذي لم يتبادر إلى الفهم وهو الواحد المعين غير حقيقة
فيه وفيه دقة.
ومنها أن لا يكون اللفظ مطرداً في مدلوله مع عدم ورود
المنع من أهل اللغة والشارع من الاطراد وذلك كتسمية الرجل الطويل نخلة إذ
هو غير مطرد في كل طويل.
فإن قيل: عدم الاطراد لا يدل على التجوز فإن
اسم السخي حقيقة في الكريم والفاضل حقيقة في العالم وهذان المدلولان
موجودان في حق الله تعالى ولا يقال له سخي ولا فاضل وكذلك اسم القارورة
حقيقة في الزجاجة المخصوصة لكونها مقراً للمائعات وهذا المعنى موجود في
الجرة والكوز ولا يسمى قارورة وإن سلمنا ذلك ولكن الاطراد لا يدل على
الحقيقة لجواز اطراد بعض المجازات وعدم الاطراد في بعضها كما ذكرتموه فلا
يلزم منه التعميم.
قلنا: أما الإشكال الأول فقد اندفع بقولنا إذا لم
يوجد مانع شرعي ولا لغوي وفيما أورد من الصور قد وجد المنع ولولاه لكان
الاسم مطرداً فيها وأما الثاني فإنا لا ندعي أن الاطراد دليل الحقيقة ليلزم
ما قيل بل المدعى أن عدم الاطراد دليل المجاز.
ومنها أن يكون الاسم قد
اتفق على كونه حقيقة في غير المسمى المذكور وجمعه مخالف لجمع المسمى
المذكور فنعلم أنه مجاز فيه وذلك كإطلاق اسم الأمر على القول المخصوص وعلى
الفعل في قوله تعالى " وما أمرنا إلا واحدة " " القمر 50 " وقوله تعالى "
وما أمر فرعون برشيد " " هود 97 " فإن جمعه في جهة الحقيقة أوامر وفي الفعل
أمور ولا نقول إن المجاز لا يجمع والحقيقة تجمع كما ذكر بعضهم إذ الإجماع
منعقد على التجوز بلفظ الحمار عن البليد مع صحة تثنيته وجمعه حيث يقال
حماران وحمر.
فإن قيل اختلاف الجمع لا يدل على التجوز في المسمى المذكور
لجواز أن يكون حقيقة فيه واختلاف الجمع بسبب اختلاف المسمى قلنا: الجمع
إنما هو للاسم لا للمسمى فاختلافه لا يكون مؤثراً في اختلاف الجمع.
ومنها
أن يكون الاسم موضوعاً لصفة ولا يصح أن يشتق لموضوعها منها اسم مع عدم
ورود المنع من الاشتقاق فيدل على كونه مجازاً وذلك كإطلاق اسم الأمر على
الفعل فإنه لا يشتق لمن قام به منه اسم الآمر بخلاف اسم القارورة فإنه لا
يطلق على الكوز والجرة بطريق الاشتقاق من قرار المائع فيه مع كون اسم
القرار فيه حقيقة كما اشتق في الزجاجة المخصوصة لورود المنع من أهل اللغة
فيه.
فإن قيل: هذا ينتقض باسم الرائحة القائمة بالجسم فإنه حقيقة مع عدم
الاشتقاق قلنا: لا نسلم عدم الاشتقاق فإنه يصح أن يقال للجسم الذي قامت به
الرائحة متروح.
ومنها أن يكون الاسم مضافاً إلى شيء حقيقة وهو متعذر
الإضافة إليه فيتعين أن يكون مجازاً في شيء آخر وذلك كقوله تعالى " واسأل
القرية " يوسف 83 " .
فإن قيل: لا يدل ذلك على كونه مجازاً في الغير
لجواز أن يكون مشتركاً وتعذر حمل اللفظ المشترك على بعض محامله لا يوجب
جعله مجازاً في الباقي.
قلنا: هذا مبني على القول بالاشتراك وهو خلاف
الأصل والمجاز وإن كان على خلاف الأصل إلا أن المحذور فيه أدنى من محذور
الاشتراك على ما يأتي فكان أولى وعلى هذا نقول: مهما ثبت كون اللفظ حقيقة
في بعض المعاني لزم أن يكون مجازاً فيما عداه إذا لم يكن بينهما معنى مشترك
يصلح أن يكون مدلولاً للفظ بطريق التواطئ.
ومنها أن يكون قد ألف من أهل
اللغة أنهم إذا استعملوا لفظاً بازاء معنى أطلقوه إطلاقاً وإذا استعملوه
بازاء غيره قرنوا به قرينة فيدل ذلك على كونه حقيقة فيما أطلقوه مجازاً في
الغير وذلك لأن وضع الكلام للمعنى إنما كان ليكتفي به في الدلالة والأصل أن
يكون ذاك في الحقيقة دون المجاز لكونها أغلب في الاستعمال.
في تحقيق مفهوم أصول الفقه
وتعريف موضوعه وغايته وما فيه من البحث عنه من مسائله وما منه استمداده
وتصوير مباديه وما لا بد من سبق معرفته قبل الخوض فيه.
فنقول
حق على كل من حاول تحصيل علم من العلوم أن يتصور معناه أولاً بالحد أو
الرسم ليكون على بصيرة فيما يطلبه وأن يعرف موضوعه وهو الشيء الذي يبحث في
ذلك العلم عن أحواله العارضة له تمييزاً له عن غيره وما هو الغاية المقصودة
من تحصيله حتى لا يكون سعيه عبثاً وما عنه البحث فيه من الأحوال التي هي
مسائله لتصور طلبها وما منه استمداده لصحة إسناده عند روم تحقيقه إليه وأن
يتصور مباديه التي لا بد من سبق معرفتها فيه لإمكان البناء عليها.
أما
مفهوم أصول الفقه فنقول: أعلم أن قول القائل أصول الفقه قول مؤلف من مضاف
هو الأصول ومضاف إليه هو الفقه ولن نعرف المضاف قبل معرفة المضاف إليه فلا
جرم أنه يجب تعريف معنى الفقه أولاً ثم معنى الأصول ثانياً أما الفقه: ففي
اللغة عبارة عن الفهم ومنه قوله تعالى: " ما نفقه كثيراً مما تقول " أي: لا
نفهم وقوله تعالى: " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أي لا تفهمون وتقول العرب:
فقهت كلامك أي فهمته.
وقيل: هو العلم والأشبه أن الفهم مغاير للعلم إذ
الفهم عبارة عن جودة الذهن من جهة تهيئه لاقتناص كل ما يرد عليه من المطالب
وإن لم يكن المتصف به عالماً كالعامي الفطن وأما العلم فسيأتي تحقيقه عن
قريب وعلى هذا فكل عالم فهم وليس كل فهم عالماً.
وفي عرف المتشرعين
الفقه مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر
والاستدلال فالعلم احتراز عن الظن بالأحكام الشرعية فإنه وإن تجوز بإطلاق
اسم الفقه عليه في العرف العامي فليس فقهاً في العرف اللغوي والأصولي بل
الفقه العلم بها أو العلم بالعمل بها بناء على الإدراك القطعي وإن كانت
ظنية في نفسها وقولنا بجملة من الأحكام الشرعية احتراز عن العلم بالحكم
الواحد أو الاثنين لا غير فإنه لا يسمى في عرفهم فقهاً.
وإنما لم نقل
بالأحكام لأن ذلك يشعر بكون الفقه هو العلم بجملة الأحكام ويلزم منه أن لا
يكون العلم بما دون ذلك فقهاً وليس كذلك وقولنا الشرعية احتراز عما ليس
بشرعي كالأمور العقلية والحسية وقولنا الفروعية احتراز عن العلم بكون أنواع
الأدلة حججاً فإنه ليس فقهاً في العرف الأصولي وإن كان المعلوم حكماً
شرعياً نظرياً لكونه غير فروعي وقولنا بالنظر والاستدلال احتراز عن علم
الله تعالى بذلك وعلم جبريل والنبي عليه السلام فيما علمه بالوحي فإن علمهم
بذلك لا يكون فقهاً في العرف الأصولي إذ ليس طريق العلم في حقهم بذلك
النظر والاستدلال.
وأما أصول الفقه فاعلم أن أصل كل شيء هو ما يستند
تحقيق ذلك الشيء إليه فأصول الفقه: هي أدلة الفقه وجهات دلالاتها على
الأحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها من جهة الجملة لا من جهة التفصيل
بخلاف الأدلة الخاصة المستعملة في آحاد المسائل الخاصة.
وأما موضوع أصول
الفقه فاعلم أن موضوع كل علم هو الشيء الذي يبحث في ذلك العلم عن أحواله
العارضة لذاته ولما كانت مباحث الأصوليين في علم الأصول لا تخرج عن أحوال
الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية المبحوث عنها فيه وأقسامها واختلاف
مراتبها وكيفية استثمار الأحكام الشرعية عنها على وجه كلي كانت هي موضوع
علم الأصول.
وأما غاية علم الأصول فالوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية
التي هي مناط السعادة الدنيوية والأخروية وأما مسائله فهي أحوال الأدلة
المبحوث عنها فيه مما عرفناه وأما ما منه استمداده فعلم الكلام والعربية
والأحكام الشرعية: أما علم الكلام فلتوقف العلم بكون أدلة الأحكام مفيدة
لها شرعاً على معرفة الله تعالى وصفاته وصدق رسوله فيما جاء به وغير ذلك
مما لا يعرف في غير علم الكلام وأما علم العربية فلتوقف معرفة دلالات
الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة على
معرفة موضوعاتها لغة من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والإطلاق
والتقييد والحذف والإضمار والمنطوق والمفهوم والاقتضاء والإشارة والتنبيه
والإيماء وغيره مما لا يعرف في غير علم العربية.
فنقول
حق على كل من حاول تحصيل علم من العلوم أن يتصور معناه أولاً بالحد أو
الرسم ليكون على بصيرة فيما يطلبه وأن يعرف موضوعه وهو الشيء الذي يبحث في
ذلك العلم عن أحواله العارضة له تمييزاً له عن غيره وما هو الغاية المقصودة
من تحصيله حتى لا يكون سعيه عبثاً وما عنه البحث فيه من الأحوال التي هي
مسائله لتصور طلبها وما منه استمداده لصحة إسناده عند روم تحقيقه إليه وأن
يتصور مباديه التي لا بد من سبق معرفتها فيه لإمكان البناء عليها.
أما
مفهوم أصول الفقه فنقول: أعلم أن قول القائل أصول الفقه قول مؤلف من مضاف
هو الأصول ومضاف إليه هو الفقه ولن نعرف المضاف قبل معرفة المضاف إليه فلا
جرم أنه يجب تعريف معنى الفقه أولاً ثم معنى الأصول ثانياً أما الفقه: ففي
اللغة عبارة عن الفهم ومنه قوله تعالى: " ما نفقه كثيراً مما تقول " أي: لا
نفهم وقوله تعالى: " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أي لا تفهمون وتقول العرب:
فقهت كلامك أي فهمته.
وقيل: هو العلم والأشبه أن الفهم مغاير للعلم إذ
الفهم عبارة عن جودة الذهن من جهة تهيئه لاقتناص كل ما يرد عليه من المطالب
وإن لم يكن المتصف به عالماً كالعامي الفطن وأما العلم فسيأتي تحقيقه عن
قريب وعلى هذا فكل عالم فهم وليس كل فهم عالماً.
وفي عرف المتشرعين
الفقه مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر
والاستدلال فالعلم احتراز عن الظن بالأحكام الشرعية فإنه وإن تجوز بإطلاق
اسم الفقه عليه في العرف العامي فليس فقهاً في العرف اللغوي والأصولي بل
الفقه العلم بها أو العلم بالعمل بها بناء على الإدراك القطعي وإن كانت
ظنية في نفسها وقولنا بجملة من الأحكام الشرعية احتراز عن العلم بالحكم
الواحد أو الاثنين لا غير فإنه لا يسمى في عرفهم فقهاً.
وإنما لم نقل
بالأحكام لأن ذلك يشعر بكون الفقه هو العلم بجملة الأحكام ويلزم منه أن لا
يكون العلم بما دون ذلك فقهاً وليس كذلك وقولنا الشرعية احتراز عما ليس
بشرعي كالأمور العقلية والحسية وقولنا الفروعية احتراز عن العلم بكون أنواع
الأدلة حججاً فإنه ليس فقهاً في العرف الأصولي وإن كان المعلوم حكماً
شرعياً نظرياً لكونه غير فروعي وقولنا بالنظر والاستدلال احتراز عن علم
الله تعالى بذلك وعلم جبريل والنبي عليه السلام فيما علمه بالوحي فإن علمهم
بذلك لا يكون فقهاً في العرف الأصولي إذ ليس طريق العلم في حقهم بذلك
النظر والاستدلال.
وأما أصول الفقه فاعلم أن أصل كل شيء هو ما يستند
تحقيق ذلك الشيء إليه فأصول الفقه: هي أدلة الفقه وجهات دلالاتها على
الأحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها من جهة الجملة لا من جهة التفصيل
بخلاف الأدلة الخاصة المستعملة في آحاد المسائل الخاصة.
وأما موضوع أصول
الفقه فاعلم أن موضوع كل علم هو الشيء الذي يبحث في ذلك العلم عن أحواله
العارضة لذاته ولما كانت مباحث الأصوليين في علم الأصول لا تخرج عن أحوال
الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية المبحوث عنها فيه وأقسامها واختلاف
مراتبها وكيفية استثمار الأحكام الشرعية عنها على وجه كلي كانت هي موضوع
علم الأصول.
وأما غاية علم الأصول فالوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية
التي هي مناط السعادة الدنيوية والأخروية وأما مسائله فهي أحوال الأدلة
المبحوث عنها فيه مما عرفناه وأما ما منه استمداده فعلم الكلام والعربية
والأحكام الشرعية: أما علم الكلام فلتوقف العلم بكون أدلة الأحكام مفيدة
لها شرعاً على معرفة الله تعالى وصفاته وصدق رسوله فيما جاء به وغير ذلك
مما لا يعرف في غير علم الكلام وأما علم العربية فلتوقف معرفة دلالات
الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة على
معرفة موضوعاتها لغة من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والإطلاق
والتقييد والحذف والإضمار والمنطوق والمفهوم والاقتضاء والإشارة والتنبيه
والإيماء وغيره مما لا يعرف في غير علم العربية.
وأما الأحكام الشرعية
فمن جهة أن الناظر في هذا العلم إنما ينظر في أدلة الأحكام الشرعية فلا بد
أن يكون عالماً بحقائق الأحكام ليتصور القصد إلى إثباتها ونفيها وأن يتمكن
بذلك من إيضاح المسائل بضرب الأمثلة وكثرة الشواهد ويتأهل بالبحث فيها
للنظر والاستدلال.
ولا نقول إن استمداده من وجود هذه الأحكام ونفيها في
آحاد المسائل فإنها من هذه الجهة لأثبت لها بغير أدلتها فلو توقفت الأدلة
على معرفتها من هذه الجهة كان دوراً ممتنعاً.
وأما مبادئه فاعلم أن
مبادئ كل علم هي التصورات والتصديقات المسلمة في ذلك العلم وهي غير مبرهنة
فيه لتوقف مسائل ذلك العلم عليها وسواء كانت مسلمة في نفسها كمبادئ العلم
الأعلى أو غير مسلمة في نفسها بل مقبولة على سبيل المصادرة أو الوضع على أن
تبرهن في علم أعلى من ذلك العلم وما هذه المبادئ في علم الأصول؟.
فنقول:
قد عرف أن استمداد علم أصول الفقه إنما هو من علم الكلام والعربية
والأحكام الشرعية فمبادئه غير خارجة عن هذه الأقسام الثلاثة فلنرسم في كل
مبدأ قسماً:القسم الأول
في المبادئ الكلامية
فنقول:
اعلم أنه لما كانت أصول الفقه هي أدلة الفقه وكان الكلام فيها مما يحوج إلى
معرفة الدليل وانقسامه إلى ما يفيد العلم أو الظن وكان ذلك مما لا يتم دون
النظر دعت الحاجة إلى تعريف معنى الدليل والنظر والعلم والظن من جهة
التحديد والتصوير لا غير.
أما الدليل فقد يطلق في اللغة بمعنى الدال وهو
الناصب للدليل وقيل هو الذاكر للدليل وقد يطلق على ما فيه دلالة وإرشاد
وهذا هو المسمى دليلاً في عرف الفقهاء وسواء كان موصلاً إلى علم أو ظن
والأصوليون يفرقون بين ما أوصل إلى العلم وما أوصل إلى الظن فيخصون اسم
الدليل بما أوصل إلى العلم واسم الأمارة بما أوصل إلى الظن.
وعلى هذا فحده على أصول الفقهاء: أنه الذي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
فالقيد
الأول احتراز عما لم يتوصل به إلى المطلوب لعدم النظر فيه فإنه لا يخرج
بذلك عن كونه دليلاً لما كان التوصل به ممكناً والقيد الثاني احتراز عما
إذا كان الناظر في الدليل بنظر فاسد والثالث احتراز عن الحد الموصل إلى
العلم التصوري وهو عام للقاطع والظني.
وأما حده على العرف الأصولي: فهو ما يمكن التوصل به إلى العلم بمطلوب خبري وهو منقسم إلى عقلي محض وسمعي محض ومركب من الأمرين.
فالأول كقولنا في الدلالة على حدوث العالم: العالم مؤلف وكل مؤلف حادث فيلزم عنه العالم حادث.
والثاني كالنصوص من الكتاب والسنة والإجماع والقياس كما يأتي تحقيقه.
والثالث كقولنا في الدلالة على تحريم النبيذ: النبيذ مسكر وكل مسكر حرام لقوله عليه السلام " كل مسكر حرام " فيلزم عنه النبيذ حرام.
وأما
النظر فإنه قد يطلق في اللغة بمعنى الانتظار وبمعنى الرؤية بالعين والرأفة
والرحمة والمقابلة والتفكر والاعتبار وهذا الاعتبار الأخير هو المسمى
بالنظر في عرف المتكلمين.
وقد قال القاضي أبو بكر في حده: هو الفكر الذي يطلب به من قام به علماً أو ظناً.
وقد
احترز بقوله يطلب به عن الحياة وسائر الصفات المشروطة بالحياة فإنها لا
يطلب بها ذلك وإن كان من قامت به يطلبه وقصد بقوله علماً أو ظناً التعميم
للعلم والظن ليكون الحد جامعاً وهو حسن غير أنه يمكن أن يعبر عنه بعبارة
أخرى لا يتجه عليها من الإشكاليات ما قد يتجه على عبارة القاضي على ما
بيناه في أبكار الأفكار وهو أن يقال: النظر عبارة عن التصرف بالعقل في
الأمور السابقة بالعلم والظن للمناسبة للمطلوب بتأليف خاص قصداً لتحصيل ما
ليس حاصلاً في العقل وهو عام للنظر المتضمن للتصور والتصديق والقاطع والظني
وهو منقسم إلى ما وقف الناظر فيه على وجه دلالة الدليل على المطلوب فيكون
صحيحاً وإلى ما ليس كذلك فيكون فاسداً وشرط وجوده مطلقاً وانتفاء أضداده من
النوم والغفلة والموت وحصول العلم بالمطلوب وغير ذلك.
وأما العلم فقد
اختلف المتكلمون في تحديده فمنهم من زعم أنه لا سبيل إلى تحديده لكن اختلف
هؤلاء: فمنهم من قال: بيان طريق تعريفه إنما هو بالقسمة والمثال كإمام
الحرمين والغزالي وهو غير سديد فإن القسمة إن لم تكن مفيدة لتمييزه عما
سواه فليست معرفة له وإن كانت مميزة له عما سواه فلا معنى للتحديد بالرسم
سوى هذا.
اعلم أنه لما كانت أصول الفقه هي أدلة الفقه وكان الكلام فيها مما يحوج إلى
معرفة الدليل وانقسامه إلى ما يفيد العلم أو الظن وكان ذلك مما لا يتم دون
النظر دعت الحاجة إلى تعريف معنى الدليل والنظر والعلم والظن من جهة
التحديد والتصوير لا غير.
أما الدليل فقد يطلق في اللغة بمعنى الدال وهو
الناصب للدليل وقيل هو الذاكر للدليل وقد يطلق على ما فيه دلالة وإرشاد
وهذا هو المسمى دليلاً في عرف الفقهاء وسواء كان موصلاً إلى علم أو ظن
والأصوليون يفرقون بين ما أوصل إلى العلم وما أوصل إلى الظن فيخصون اسم
الدليل بما أوصل إلى العلم واسم الأمارة بما أوصل إلى الظن.
وعلى هذا فحده على أصول الفقهاء: أنه الذي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
فالقيد
الأول احتراز عما لم يتوصل به إلى المطلوب لعدم النظر فيه فإنه لا يخرج
بذلك عن كونه دليلاً لما كان التوصل به ممكناً والقيد الثاني احتراز عما
إذا كان الناظر في الدليل بنظر فاسد والثالث احتراز عن الحد الموصل إلى
العلم التصوري وهو عام للقاطع والظني.
وأما حده على العرف الأصولي: فهو ما يمكن التوصل به إلى العلم بمطلوب خبري وهو منقسم إلى عقلي محض وسمعي محض ومركب من الأمرين.
فالأول كقولنا في الدلالة على حدوث العالم: العالم مؤلف وكل مؤلف حادث فيلزم عنه العالم حادث.
والثاني كالنصوص من الكتاب والسنة والإجماع والقياس كما يأتي تحقيقه.
والثالث كقولنا في الدلالة على تحريم النبيذ: النبيذ مسكر وكل مسكر حرام لقوله عليه السلام " كل مسكر حرام " فيلزم عنه النبيذ حرام.
وأما
النظر فإنه قد يطلق في اللغة بمعنى الانتظار وبمعنى الرؤية بالعين والرأفة
والرحمة والمقابلة والتفكر والاعتبار وهذا الاعتبار الأخير هو المسمى
بالنظر في عرف المتكلمين.
وقد قال القاضي أبو بكر في حده: هو الفكر الذي يطلب به من قام به علماً أو ظناً.
وقد
احترز بقوله يطلب به عن الحياة وسائر الصفات المشروطة بالحياة فإنها لا
يطلب بها ذلك وإن كان من قامت به يطلبه وقصد بقوله علماً أو ظناً التعميم
للعلم والظن ليكون الحد جامعاً وهو حسن غير أنه يمكن أن يعبر عنه بعبارة
أخرى لا يتجه عليها من الإشكاليات ما قد يتجه على عبارة القاضي على ما
بيناه في أبكار الأفكار وهو أن يقال: النظر عبارة عن التصرف بالعقل في
الأمور السابقة بالعلم والظن للمناسبة للمطلوب بتأليف خاص قصداً لتحصيل ما
ليس حاصلاً في العقل وهو عام للنظر المتضمن للتصور والتصديق والقاطع والظني
وهو منقسم إلى ما وقف الناظر فيه على وجه دلالة الدليل على المطلوب فيكون
صحيحاً وإلى ما ليس كذلك فيكون فاسداً وشرط وجوده مطلقاً وانتفاء أضداده من
النوم والغفلة والموت وحصول العلم بالمطلوب وغير ذلك.
وأما العلم فقد
اختلف المتكلمون في تحديده فمنهم من زعم أنه لا سبيل إلى تحديده لكن اختلف
هؤلاء: فمنهم من قال: بيان طريق تعريفه إنما هو بالقسمة والمثال كإمام
الحرمين والغزالي وهو غير سديد فإن القسمة إن لم تكن مفيدة لتمييزه عما
سواه فليست معرفة له وإن كانت مميزة له عما سواه فلا معنى للتحديد بالرسم
سوى هذا.
ومنهم من زعم أن العلم بالعلم ضروري غير نظري لأن كل ما سوى
العلم لا يعلم إلا بالعلم فلو علم بالغير كان دوراً ولأن كل أحد يعلم وجود
نفسه ضرورة والعلم أحد تصورات هذا التصديق فكان ضرورياً وهو أيضاً غير سديد
أما الوجه الأول فلأن جهة توقف غير العلم على العلم من جهة كون العلم
إدراكاً له وتوقف العلم على الغير لا من جهة كون ذلك الغير إدراكاً للعمل
بل من جهة كونه صفة مميزة له عما سواه ومع اختلاف جهة التوقف فلا دور وأما
الوجه الثاني فهو مبني على أن تصورات القضية الضرورية لا بد وأن تكون
ضرورية وليس كذلك لأن القضية الضرورية هي التي يصدق العقل بها بعد تصور
مفرداتها من غير توقف بعد تصور المفردات على نظر واستدلال وسواء كانت
التصورات ضرورية أو نظرية.
ومنهم من سلك في تعريفه التحديد وقد ذكر في
ذلك حدود كثيرة أبطلناها في أبكار الأفكار والمختار في ذلك أن يقال: العلم
عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التميز بين حقائق المعاني الكلية
حصولاً لا يتطرق إليه احتمال نقيضه.
فقولنا صفة كالجنس له ولغيره من
الصفات وقولنا يحصل بها التميز احتراز عن الحياة وسائر الصفات المشروطة
بالحياة وقولنا بين حقائق الكليات احتراز عن الإدراكات الجزئية فإنها إنما
تميز بين المحسوسات الجزئية دون الأمور الكلية وإن سلكنا مذهب الشيخ أبي
الحسن في أن الإدراكات نوع من العلم لم نحتج إلى التقييد بالكليات.
وهو
منقسم إلى قديم لا أول لوجوده وإلى حادث بعد العدم والحادث ينقسم إلى ضروري
وهو العلم الحادث الذي لا قدرة للمكلف على تحصيله بنظر واستدلال فقولنا
العلم الحادث احتراز عن علم الله تعالى وقولنا لا قدرة للمكلف على تحصيله
بنظر واستدلال احتراز عن العلم النظري والنظري هو العلم الذي تضمنه الصحيح.
وأما الظن فعبارة عن ترجح أحد الاحتمالين في النفس على الآخر من غير قطع.القسم الثاني
في المبادئ اللغوية
كنا
بينا فيما تقدم وجه استمداد الأصول من اللغة فلا بد من تعريف المبادئ
المأخوذة منها ولنقدم على ذلك مقدمة فنقول: اعلم أنه لما كان نوع الإنسان
أشرف موجود في عالم السفليات لكونه مخلوقاً لمعرفة الله تعالى التي هي أجل
المطلوبات وأسنى المرغوبات بما خصه الله به من العقل الذي به إدراك
المعقولات والمميز بين حقائق الموجودات على ما قال عليه السلام حكاية عن
ربه " كنت كنزاً لم أعرف فخلقت خلقاً لأعرف به " .
ولما كان هذا المقصود
لا يتم دون الاطلاع على المقدمات النظرية المستندة إلى القضايا الضرورية
المتوسل بها إلى مطلوباته وتحقيق ما جاء به وكان كل واحد لا يستقل بتحصيل
معارفه بنفسه وحده دون معين ومساعد له من نوعه دعت الحاجة إلى نصب دلائل
يتوصل بها كل واحد إلى معرفة ما في ضمير الآخر من المعلومات المعينة له في
تحقيق غرضه وأخف ما يكون من ذلك ما كان من الأفعال الاختيارية وأخف من ذلك
ما كان منها لا يفتقر إلى الآلات والأدوات ولا فيه ضرر الازدحام ولا بقاء
له مع الاستغناء عنه وهو مقدور عليه في كل الأوقات من غير مشقة ولا نصب
وذلك هو ما يتركب من المقاطع الصوتية التي خص بها نوع الإنسان دون سائر
أنواع الحيوان عناية من الله تعالى به.
ومن اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية حدثت الدلائل الكلامية والعبارات اللغوية وهي إما أن لا تكون موضوعة لمعنى أو هي موضوعة.
والقسم الأول مهمل لا اعتبار به والثاني يستدعي النظر في أنواعه وابتداء وضعه وطريق معرفته فهذان أصلان لا بد من النظر فيهما.
؟
الأصل الأولبينا فيما تقدم وجه استمداد الأصول من اللغة فلا بد من تعريف المبادئ
المأخوذة منها ولنقدم على ذلك مقدمة فنقول: اعلم أنه لما كان نوع الإنسان
أشرف موجود في عالم السفليات لكونه مخلوقاً لمعرفة الله تعالى التي هي أجل
المطلوبات وأسنى المرغوبات بما خصه الله به من العقل الذي به إدراك
المعقولات والمميز بين حقائق الموجودات على ما قال عليه السلام حكاية عن
ربه " كنت كنزاً لم أعرف فخلقت خلقاً لأعرف به " .
ولما كان هذا المقصود
لا يتم دون الاطلاع على المقدمات النظرية المستندة إلى القضايا الضرورية
المتوسل بها إلى مطلوباته وتحقيق ما جاء به وكان كل واحد لا يستقل بتحصيل
معارفه بنفسه وحده دون معين ومساعد له من نوعه دعت الحاجة إلى نصب دلائل
يتوصل بها كل واحد إلى معرفة ما في ضمير الآخر من المعلومات المعينة له في
تحقيق غرضه وأخف ما يكون من ذلك ما كان من الأفعال الاختيارية وأخف من ذلك
ما كان منها لا يفتقر إلى الآلات والأدوات ولا فيه ضرر الازدحام ولا بقاء
له مع الاستغناء عنه وهو مقدور عليه في كل الأوقات من غير مشقة ولا نصب
وذلك هو ما يتركب من المقاطع الصوتية التي خص بها نوع الإنسان دون سائر
أنواع الحيوان عناية من الله تعالى به.
ومن اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية حدثت الدلائل الكلامية والعبارات اللغوية وهي إما أن لا تكون موضوعة لمعنى أو هي موضوعة.
والقسم الأول مهمل لا اعتبار به والثاني يستدعي النظر في أنواعه وابتداء وضعه وطريق معرفته فهذان أصلان لا بد من النظر فيهما.
؟
في أنواعه
وهي نوعان وذلك لأنه إما أن يكون اللفظ الدال بالوضع مفرداً أو مركباً النوع الأول في المفرد وفيه ستة فصول.
الفصل الأولفي حقيقته
أما
حقيقته فهو ما دل بالوضع على معنى ولا جزء له يدل على شيء أصلاً كلفظ
الإنسان فإن إذ من قولنا إنسان وإن دلت على الشرطية فليست إذ ذاك جزءاً من
لفظ الإنسان وحيث كانت جزءاً من لفظ الإنسان لم تكن شرطية لأن دلالات
الألفاظ ليست لذواتها بل هي تابعة لقصد المتكلم وإرادته ونعلم أن المتكلم
حيث جعل إن شرطية لم يقصد جعلها غير شرطية وعلى هذا فعبد الله إن جعل علماً
على شخص كان مفرداً وإن قصد به النسبة إلى الله تعالى بالعبودية كان
مركباً لدلالة أجزائه على أجزاء معناه.الفصل الثاني
في أقسام دلالته
وهو
إما أن تكون دلالته لفظية أو غير لفظية واللفظية إما أن تعتبر بالنسبة إلى
كمال المعنى الموضوع له اللفظ أو إلى بعضه: فالأول دلالة المطابقة كدلالة
لفظ الإنسان على معناه والثاني دلالة التضمن كدلالة لفظ الإنسان على ما في
معناه من الحيوان أو الناطق والمطابقة أعم من التضمن لجواز أن يكون المدلول
بسيطاً لا جزء له.
وأما غير اللفظية فهي دلالة الالتزام وهي أن يكون
اللفظ له معنى وذلك المعنى له لازم من خارج فعند فهم مدلول اللفظ من اللفظ
ينتقل الذهن من مدلول اللفظ إلى لازمه ولو قدر عدم هذا الانتقال الذهني لما
كان ذلك اللازم مفهوماً ودلالة الالتزام وإن شاركت دلالة التضمن في
افتقارهما إلى نظر عقلي يعرف اللازم في الالتزام والجزء في دلالة التضمن
غير أنه في التضمن لتعريف كون الجزء داخلاً في مدلول اللفظ وفي الالتزام
لتعريف كونه خارجاً عن مدلول اللفظ فلذلك كانت دلالة التضمن لفظية بخلاف
دلالة الالتزام ودلالة الالتزام مساوية لدلالة المطابقة ضرورة امتناع خلو
مدلول اللفظ المطابق عن لازم وأعم من دلالة التضمن لجواز أن يكون اللازم
لما لا جزء له.
الفصل الثالثإما أن تكون دلالته لفظية أو غير لفظية واللفظية إما أن تعتبر بالنسبة إلى
كمال المعنى الموضوع له اللفظ أو إلى بعضه: فالأول دلالة المطابقة كدلالة
لفظ الإنسان على معناه والثاني دلالة التضمن كدلالة لفظ الإنسان على ما في
معناه من الحيوان أو الناطق والمطابقة أعم من التضمن لجواز أن يكون المدلول
بسيطاً لا جزء له.
وأما غير اللفظية فهي دلالة الالتزام وهي أن يكون
اللفظ له معنى وذلك المعنى له لازم من خارج فعند فهم مدلول اللفظ من اللفظ
ينتقل الذهن من مدلول اللفظ إلى لازمه ولو قدر عدم هذا الانتقال الذهني لما
كان ذلك اللازم مفهوماً ودلالة الالتزام وإن شاركت دلالة التضمن في
افتقارهما إلى نظر عقلي يعرف اللازم في الالتزام والجزء في دلالة التضمن
غير أنه في التضمن لتعريف كون الجزء داخلاً في مدلول اللفظ وفي الالتزام
لتعريف كونه خارجاً عن مدلول اللفظ فلذلك كانت دلالة التضمن لفظية بخلاف
دلالة الالتزام ودلالة الالتزام مساوية لدلالة المطابقة ضرورة امتناع خلو
مدلول اللفظ المطابق عن لازم وأعم من دلالة التضمن لجواز أن يكون اللازم
لما لا جزء له.
في أقسام المفرد
وهو إما أن يصح جعله أحد جزأي القضية الخبرية التي هي ذات جزأين فقط أو لا يصح.
فإن
كان الأول فإما أن يصح تركب القضية الخبرية من جنسه أو لا يصح فإن كان
الأول فهو الاسم وإن كان الثاني فهو الفعل وأما قسيم القسم الأول فهو
الحرف.
ولا يلزم على ما ذكرناه الأسماء النواقص كالذي والتي والمضمرات
كهو وهي حيث إنه لا يمكن جعلها أحد جزأي القضية الخبرية عند تجردها ولا
تركب القضية الخبرية منها.
لأنها وإن تعذر ذلك فيها عند تجردها فالنواقص
عند تعينها بالصلة لا يمتنع ذلك منها وكذلك المضمرات عند إضافتها إلى
المظهرات بخلاف الحروف.
الفصل الرابعفإن
كان الأول فإما أن يصح تركب القضية الخبرية من جنسه أو لا يصح فإن كان
الأول فهو الاسم وإن كان الثاني فهو الفعل وأما قسيم القسم الأول فهو
الحرف.
ولا يلزم على ما ذكرناه الأسماء النواقص كالذي والتي والمضمرات
كهو وهي حيث إنه لا يمكن جعلها أحد جزأي القضية الخبرية عند تجردها ولا
تركب القضية الخبرية منها.
لأنها وإن تعذر ذلك فيها عند تجردها فالنواقص
عند تعينها بالصلة لا يمتنع ذلك منها وكذلك المضمرات عند إضافتها إلى
المظهرات بخلاف الحروف.
في الاسم
وهو ما دل
على معنى في نفسه ولا يلزم منه الزمان الخارج عن معناه لبنيته ثم لا يخلو
إما أن يكون واحداً أو متعدداً: فإن كان واحداً فمسماه إما أن يكون واحداً
أو متعدداً فإن كان واحداً فمفهومه منقسم على وجوه.
القسمة الأولى: أنه
إما أن يكون بحيث يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون أو لا يصح فإن كان الأول
فهو كلي وسواء وقعت فيه الشركة بالفعل إما بين أشخاص متناهية كاسم الكوكب
أو غير متناهية كاسم الإنسان أو لم تقع إما لمانع من خارج كاسم العالم
والشمس والقمر أو بحكم الاتفاق كاسم عناق مغرب أو جبل من ذهب.
وهو إما
أن يكون صفة أو لا يكون صفة والصفة كالعالم والقادر وما ليس بصفة إما أن
يكون عينا كالإنسان والفرس وإما معنى كالعلم والجهل وما كان من هذه الأسماء
لا اختلاف في مدلوله بشدة ولا ضعف ولا تقدم وتأخر فهو المتواطئ كلفظ
الإنسان والفرس وإلا فمشكك كلفظ الوجود والأبيض.
وعلى كل تقدير إما أن يكون ذاتياً للمشتركات فيه أو عرضياً.
فإن
كان ذاتياً فالمشتركات فيه إما أن تكون مختلفة بالذوات أو بالعرض: فإن كان
الأول فإما أن يقال عليها في جواب ما هي فهو الجنس أو لا يقال كذلك فهو
ذاتي مشترك إما جنس جنس أو فصل جنس وإن كانت مختلفة بالعرض فإما أن يقال
عليها في جواب ما أو لا والأول هو النوع والثاني هو فصل النوع.
وإن كان عرضياً فإن كانت المشتركات مختلفة بالذوات فهو العرض العام وإلا فهو الخاصة.
وأما إن كان مفهومه غير صالح لاشتراك كثيرين فيه فهو الجزئي وهو إما أن لا يكون فيه تأليف أو فيه.
والأول
إما أن لا يكون مرتجلاً أو هو مرتجل: فإن لم يكن مرتجلاً فإما أن لا يكون
منقولاً كزيد وعمرو أو هو منقول والمنقول إما عن اسم أو فعل أو صوت.
على معنى في نفسه ولا يلزم منه الزمان الخارج عن معناه لبنيته ثم لا يخلو
إما أن يكون واحداً أو متعدداً: فإن كان واحداً فمسماه إما أن يكون واحداً
أو متعدداً فإن كان واحداً فمفهومه منقسم على وجوه.
القسمة الأولى: أنه
إما أن يكون بحيث يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون أو لا يصح فإن كان الأول
فهو كلي وسواء وقعت فيه الشركة بالفعل إما بين أشخاص متناهية كاسم الكوكب
أو غير متناهية كاسم الإنسان أو لم تقع إما لمانع من خارج كاسم العالم
والشمس والقمر أو بحكم الاتفاق كاسم عناق مغرب أو جبل من ذهب.
وهو إما
أن يكون صفة أو لا يكون صفة والصفة كالعالم والقادر وما ليس بصفة إما أن
يكون عينا كالإنسان والفرس وإما معنى كالعلم والجهل وما كان من هذه الأسماء
لا اختلاف في مدلوله بشدة ولا ضعف ولا تقدم وتأخر فهو المتواطئ كلفظ
الإنسان والفرس وإلا فمشكك كلفظ الوجود والأبيض.
وعلى كل تقدير إما أن يكون ذاتياً للمشتركات فيه أو عرضياً.
فإن
كان ذاتياً فالمشتركات فيه إما أن تكون مختلفة بالذوات أو بالعرض: فإن كان
الأول فإما أن يقال عليها في جواب ما هي فهو الجنس أو لا يقال كذلك فهو
ذاتي مشترك إما جنس جنس أو فصل جنس وإن كانت مختلفة بالعرض فإما أن يقال
عليها في جواب ما أو لا والأول هو النوع والثاني هو فصل النوع.
وإن كان عرضياً فإن كانت المشتركات مختلفة بالذوات فهو العرض العام وإلا فهو الخاصة.
وأما إن كان مفهومه غير صالح لاشتراك كثيرين فيه فهو الجزئي وهو إما أن لا يكون فيه تأليف أو فيه.
والأول
إما أن لا يكون مرتجلاً أو هو مرتجل: فإن لم يكن مرتجلاً فإما أن لا يكون
منقولاً كزيد وعمرو أو هو منقول والمنقول إما عن اسم أو فعل أو صوت.
فإن
كان الأول فإما عن اسم عين كأسد وعقاب أو اسم معنى كفضل أو اسم صفة كحاتم
وإن كان الثاني فإما عن ماض كشمر أو مضارع كتغلب أو فعل أمر كاصمت وإن كان
الثالث كببه وإن كان مرتجلاً وهو أن لا يكون بينه وبين ما نقل عنه مناسبة
كحمدان.
وإن كان مؤلفاً فإما من اسمين مضافين كعبد الله أو غير مضافين
وأحدهما عامل في الآخر أو غير عامل والأول كتسمية بعض الناس زيد منطلق
والثاني كبعلبك وحضرموت وإما من فعلين كقام قعد وإما من حرفين كتسميته إنما
وإما من اسم وفعل نحو تأبط شراً وإما من حرف واسم كتسميته بزيد وإما من
فعل وحرف كتسميته قام علي.
وأما إن كان الاسم واحداً والمسمى مختلفاً فإما أن يكون موضوعاً على الكل حقيقة بالوضع الأول أو هو مستعار في بعضها.
فإن
كان الأول فهو المشترك وسواء كانت المسميات متباينة كالجون: للسواد
والبياض أو غير متباينة كما إذا أطلقنا اسم الأسود على شخص من الأشخاص
بطريق العلمية وأطلقناه عليه بطريق الاشتقاق من السواد القائم به فإن
مدلوله عند كونه علماً إنما هو ذات الشخص ومدلوله عند كونه مشتقاً الذات مع
الصفة وهي السواد فالذات التي هي مدلول العلم جزء من مدلول اللفظ المشتق
ومدلول اللفظ المشتق وصف لمدلول العلم وإن كان الثاني فهو المجازي.
وأما
إن كان الاسم متعدداً فإما أن يكون المسمى متحداً أو متعدداً فإن كان
متحداً فتلك هي الأسماء المترادفة كالبهتر والبحتر للقصير وإن كان المسمى
متعدداً فتلك هي الأسماء المتباينة كالإنسان والفرس.
مسائل هذه القسمة
ثلاث المسألة الأولى اختلف الناس في اللفظ المشترك هل له وجود في اللغة
فأثبته قوم ونفاه آخرون والمختار جوازه ووقوعه.
أما الجواز العقلي فهو
أنه لا يمتنع عقلاً أن يضع واحد من أهل اللغة لفظاً واحداً على معنيين
مختلفين بالوضع الأول على طريق البدل ويوافقه عليه الباقون أو أن يتفق وضع
إحدى القبيلتين للاسم على معنى حقيقة ووضع الأخرى له بازاء معنى آخر من غير
شعور لكل واحدة بما وضعته الأخرى ثم يشتهر الوضعان ويخفى سببه وهو الأشبه
ولو قدر ذلك لما لزم من فرض وقوعه محال عقلاً.
كيف وإن وضع اللفظ تابع
لغرض الواضع والواضع كما أنه قد يقصد تعريف الشيء لغيره مفصلاً فقد يقصد
تعريفه مجملاً غير مفصل إما لأنه علمه كذلك ولم يعلمه مفصلاً أو لمحذور
يتعلق بالتفصيل دون الإجمال فلا يبعد لهذه الفائدة منهم وضع لفظ يدل عليه
من غير تفصيل.
وأما بيان الوقوع فقد قال قوم إنه لو لم تكن الألفاظ
المشتركة واقعة في اللغة مع أن المسميات غير متناهية والأسماء متناهية
ضرورة تركبها من الحروف المتناهية لخلت أكثر المسميات عن الألفاظ الدالة
عليها مع دعو الحاجة إليها وهو ممتنع وغير سديد من حيث إن الأسماء وإن كانت
مركبة من الحروف المتناهية فلا يلزم أن تكون متناهية إلا أن يكون ما يحصل
من تضاعيف التركيبات متناهية وهو غير مسلم وإن كانت الأسماء متناهية فلا
نسلم أن المسميات المتضادة والمختلفة وهي التي يكون اللفظ مشتركاً بالنسبة
إليها غير متناهية وإن كانت غير متناهية غير أن وضع الأسماء على مسمياتها
مشروط بكون كل واحد من المسميات مقصوداً بالوضع وما لا نهاية له مما يستحيل
فيه ذلك ولئن سلمنا أنه غير ممتنع ولكن لا يلزم من ذلك الوضع ولهذا فإن
كثيراً من المعاني لم تضع العرب بازائها ألفاظاً تدل عليها لا بطريق
الاشتراك ولا التفصيل كأنواع الروائح وكثير من الصفات وقال أبو الحسين
البصري: أطلق أهل اللغة اسم القرء على الطهر والحيض وهما ضدان فدل على وقوع
الاسم المشترك في اللغة.
ولقائل أن يقول: القول بكونه مشتركاً غير
منقول عن أهل الوضع بل غاية المنقول اتحاد الاسم وتعدد المسمى ولعله أطلق
عليهما باعتبار معنى واحد مشترك بينهما لا باعتبار اختلاف حقيقتهما أو أنه
حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وإن خفي موضع الحقيقة والمجاز وهذا هو
الأولى.
أما بالنظر إلى الاحتمال الأول فلما فيه من نفي التجوز
والاشتراك وأما بالنظر إلى الاحتمال الثاني فلأن التجوز أولى من الاشتراك
كما يأتي في موضعه.
والأقرب في ذلك أن يقال اتفق إجماع الكل على
إطلاق اسم الموجود على القديم والحادث حقيقة ولو كان مجازاً في أحدهما لصح
نفيه إذ هو أمارة المجاز وهو ممتنع وعند ذلك فإما أن يكون اسم الموجود
دالاً على ذات الرب تعالى أو على صفة زائدة على ذاته: فإن كان الأول فلا
يخفى أن ذات الرب تعالى مخالفة بذاتها لما سواها من الموجودات الحادثة وإلا
لوجب الاشتراك بينها وبين ما شاركها في معناها في الوجوب ضرورة التساوي في
مفهوم الذات وهو محال وإن كان مدلول اسم الوجود صفة زائدة على ذات الرب
تعالى فإما أن يكون المفهوم منه هو المفهوم من اسم الوجود في الحوادث وإما
خلافه والأول يلزم منه أن يكون مسمى الوجود في الممكن واجباً لذاته ضرورة
أن وجود الباري تعالى واجب لذاته أو أن يكون وجود الرب ممكناً ضرورة إمكان
وجود ما سوى الله تعالى وهو محال وإن كان الثاني لزم منه الاشتراك وهو
المطلوب.
فإن قيل المقصود من وضع الألفاظ إنما هو التفاهم وذلك غير
متحقق مع الاشتراك من حيث أن فهم المدلول منه ضرورة تساوي النسبة غير معلوم
من اللفظ والقرائن فقد تظهر وقد تخفى وبتقدير خفائها يختل المقصود من
الوضع وهو الفهم.
قلنا وإن اختل فهم التفصيل على ما ذكروه فلا يختل معه
الفهم في جهة الجملة كما سبق تقريره وليس فهم التفصيل لغة من الضروريات
بدليل وضع أسماء الأجناس فإنها لا تفيد تفاصيل ما تحتها وإن سلمنا أن
الفائدة المطلوبة إنما هي فهم التفصيل فإنما يمنع ذلك من وضع الألفاظ
المشتركة أن لو لم تكن مفيدة لجميع مدلولاتها بطريق العموم وليس كذلك على
ما ذهب إليه القاضي والشافعي رضي الله عنه كما سيأتي تحقيقه.
وإذا عرف
وقوع الاشتراك لغة فهو أيضاً واقع في كلام الله تعالى والدليل عليه قوله
تعالى: " والليل إذا عسعس " فإنه مشترك بين إقبال الليل وإدباره وهما ضدان
هكذا ذكره صاحب الصحاح.
وما يقوله المانع لذلك من أن المشترك إن كان
المقصود منه الإفهام فإن وجد معه البيان فهو تطويل من غير فائدة وإن لم
يوجد فقد فات المقصود وإن لم يكن المقصود منه الإفهام فهو عبث وهو قبيح
فوجب صيانة كلام الله عنه فهو مبني على الحسن والقبح الذاتي العقلي وسيأتي
إبطاله.
كيف وقد بينا أن مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر أن المشترك نوع
من أنواع العموم والعام غير ممتنع في كلام الله تعالى وبتقدير عدم عمومه
فلا يمتنع أن يكون في الخطاب به فائدة لنيل الثواب بالاستعداد لامتثاله
بتقدير بيانه بظهور دليل يدل على تعيين البعض وإبطال جميع الأقسام سوى
الواحد منها.
المسألة الثانية قد ظن في أشياء أنها مشتركة وهي متواطئة
وفي أشياء أنها متواطئة وهي مشتركة أما الأول فكقولنا مبدأ للنقطة والآن
فإنه لما اختلف الموضوع المنسوب إليه وهو الزمان والخط ظن الاشتراك في اسم
المبدأ وليس كذلك فإن إطلاق اسم المبدأ عليهما إنما كان بالنظر إلى أن كل
واحد منهما أول لشيء لا من حيث هو أول للزمان أو الخط وهو من هذا الوجه
متواطئ وليس بمشترك.
وأما الثاني فكقولنا خمري للون الشبيه بلون الخمر
وللعنب باعتبار أنه يؤول إلى الخمر وللدواء إذا كان يسكر كالخمر أو أن
الخمر جزء منه فإنه لما اتحد المنسوب إليه وهو الخمر ظن أنه متواطئ وليس
كذلك فإن اسم الخمري وإن اتحد المنسوب إليه إنما كان بسبب النسب المختلفة
إليه ومع الاختلاف فلا تواطؤ نعم لو أطلق اسم الخمري في هذه الصور باعتبار
ما وقع به الاشتراك من عموم النسبة وقطع النظر عن خصوصياتها كان متواطئاً.
الثالثة
ذهب شذوذ من الناس إلى امتناع وقوع الترادف في اللغة مصيراً منهم إلى أن
الأصل عند تعدد الأسماء تعدد المسميات واختصاص كل اسم بمسمى غير مسمى الآخر
وبيانه
من أربعة أوجه: الأول: إنه يلزم من اتحاد المسمى تعطيل فائدة أحد اللفظين
لحصولها باللفظ الآخر الثاني: إنه لو قيل باتحاد المسمى فهو نادر بالنسبة
إلى المسمى المتعدد بتعدد الأسماء وغلبة استعمال الأسماء بازاء المسميات
المتعددة تدل على أنه أقرب إلى تحصيل مقصود أهل الوضع من وضعهم فاستعمال
الألفاظ المتعددة فيما هو على خلاف الغالب خلاف الأصل الثالث: إن المؤونة
في حفظ الاسم الواحد أخف من حفظ الاسمين والأصل إنما هو التزام أعظم
المشقتين لتحصيل أعظم الفائدتين الرابع: إنه إذا اتحد الاسم دعت حاجة الكل
إلى معرفته مع خفة المؤونة في حفظه فعمت فائدة التخاطب به ولا كذلك إذا
تعددت الأسماء فإن كل واحد على أمرين: بين أن يحفظ مجموع الأسماء أو البعض
منها والأول شاق جداً وقلما يتفق ذلك والثاني فيلزم منه الإخلال بفائدة
التخاطب لجواز اختصاص كل واحد بمعرفة اسم لا يعرفه الآخر.
وجوابه أن
يقال لا سبيل إلى إنكار الجواز العقلي فإنه لا يمتنع عقلاً أن يضع واحد
لفظين على مسمى واحد ثم يتفق الكل عليه أو أن تضع إحدى القبيلتين أحد
الاسمين على مسمى وتضع الأخرى له اسماً آخر من غير شعور كل قبيلة بوضع
الأخرى ثم يشيع الوضعان بعد بذلك كيف وإن ذلك جائز بل واقع بالنظر إلى
لغتين ضرورة فكان جائزاً بالنظر إلى قبيلتين.
قولهم في الوجه الأول لا
فائدة في أحد الاسمين ليس كذلك فإنه يلزم منه التوسعة في اللغة وتكثير
الطرق المفيدة للمطلوب فيكون أقرب إلى الوصول إليه حيث إنه لا يلزم من تعذر
حصول أحد الطريقين تعذر الآخر بخلاف ما إذا اتحد الطريق وقد يتعلق به
فوائد أخر في النظم والنثر بمساعدة أحد اللفظين في الحرف الروي ووزن البيت
والجناس والمطابقة والخفة في النطق به إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة
لأرباب الأدب وأهل الفصاحة.
وما ذكروه في الوجه الثاني فغير مانع من
وقوع الترادف بدليل الأسماء المشتركة والمجازية وما ذكروه في الوجه الثالث
فإنما يلزم المحذور منه وهو زيادة مؤونة الحفظ إن لو وظف على كل واحد حفظ
جميع المترادفات وليس كذلك بل هو مخير في حفظ الكل أو البعض مع ما فيه من
الفائدة التي ذكرناها.
وعن الوجه الرابع أنه ملغى بالترادف في لغتين كيف
وإنه يلزم من الإخلال بالترادف الإخلال بما ذكرناه من المقاصد أولاً وهو
محذور ثم الدليل على وقوع الترادف في اللغة ما نقل عن العرب من قولهم
الصهلب والشوذب من أسماء الطويل والبهتر والبحتر من أسماء القصير إلى غير
ذلك ولا دليل على امتناع ذلك حتى يتبع ما يقوله من يتعسف في هذا الباب في
بيان اختلاف المدلولات لكنه ربما خفي بعض الألفاظ المترادفة وظهر البعض
فيجعل الأشهر بياناً للأخفى وهو الحد اللفظي.
وقد ظن بأسماء أنها
مترادفة وهي متباينة وذلك عندما إذا كانت الأسماء لموضوع واحد باعتبار
صفاته المختلفة كالسيف والصارم والهندي أو باعتبار صفته وصفة صفته كالناطق
والفصيح وليس كذلك.
ويفارق المرادف المؤكد من جهة أن اللفظ المرادف لا
يزيد مرادفه إيضاحاً ولا يشترط تقدم أحدهما على الآخر ولا يرادف الشيء
بنفسه بخلاف المؤكد والتابع في اللفظ فمخالف لهما فإنه لا بد وأن يكون على
وزن المتبوع وأنه قد لا يفيد معنى أصلاً كقولهم: حس بسن وشيطان ليطان ولهذا
قال ابن دريد: سألت أبا حاتم عن معنى قولهم بسن فقال: ما أدري ما هو.
القسمة
الثانية الاسم ينقسم إلى ظاهر ومضمر وما بينهما وذلك لأنه إما أن يقصد به
البيان مع الاختصار أو لا مع الاختصار فالأول هو الظاهر.
والثاني إما أن لا يقصد معه التنبيه أو يقصد: فالأول هو المضمر والثاني ما بينهما.
فأما
الاسم الظاهر: إما أن لا يكون آخره ألفاً ولا ياء قبلها كسرة أو يكون
فالأول هو الاسم الصحيح فإن دخله حركة الجر مع التنوين فهو المنصرف كزيد
وعمرو وإن لم يكن كذلك فهو غير منصرف كأحمد وإبراهيم.
والثاني هو المعتل
فإن كان في آخره ياء قبلها كسرة فهو المنقوص كالقاضي والداعي وإن كان في
آخره ألف فهو المقصور كالدنيا والأخرى وإن كان في آخره همزة قبلها ألف فهو
الممدود كالرداء والكساء.
وأما المضمر فهو إما منفصل وإما متصل: والمنفصل نحو: أنا ونحن وهو وهي ونحوه والمتصل نحو: فعلت وفعلنا وما بينهما فهو اسم الإشارة.
وهو
إما أن يكون مفرداً ليس معه تنبيه ولا خطاب أو يكون: فالأول نحو: ذا وذان
وذين وأولاء وأما إن كان غير مفرد فإن وجد معه التنبيه لا غير فنحو: هذا
وهذان وإن وجد معه الخطاب فنحو: ذاك وذانك وإن اجتمعا معه فنحو هذاك
وهاتيك.
ثم ما كان من الأسماء الظاهرة فلا يكون من أقل من ثلاثة أحرف
أصول نفياً للإجحاف عنه مع قوته بالنسبة إلى الفعل والحرف إلا فيما شذ من
قولهم: يد ودم وأب وأخ ونحوه مما حذف منه الحرف الثالث.
وما كان من
الأسماء المضمرة متصلاً كان من حرف واحد كالتاء من فعلت وإن كان منفصلاً
فلا يكون من أقل من حرفين يبتدأ بأحدهما ويوقف على الآخر: نحو هو وهي وكذلك
ما كان من أسماء الإشارة فلا يكون من أقل من حرفين أيضاً نحو ذا وذي ونحوه
وبالجملة فإما أن يدل على شيء بعينه أو لا بعينه.
فالأول هو المعرفة
كأسماء الأعلام والمضمرات والمبهمات كأسماء الإشارة والموصولات وما دخل
عليه لام التعريف وما أضيف إلى أحد هذه المعارف والثاني هو النكرة كإنسان
وفرس.
وما ألحق بآخره من الأسماء ياء مشددة مكسور ما قبلها فهو المنسوب كالهاشمي والمكي ونحوه.
القسمة
الثالثة الاسم ينقسم إلى ما هو حقيقة ومجاز أما الحقيقة فهي في اللغة
مأخوذة من الحق والحق هو الثابت اللازم وهو نقيض الباطل ومنه يقال حق الشيء
حقه ويقال حقيقة الشيء أي ذاته الثابتة اللازمة ومنه قوله تعالى " ولكن
حقت كلمة العذاب على الكافرين " " الزمر 71 " أي وجبت وكذلك قوله تعالى "
حقيق على أن لا أقول " " الأعراف 105 " أي واجب علي.
وأما في اصطلاح الأصوليين فاعلم أن الأسماء الحقيقية قد يطلقها الأصوليون على لغوية وشرعية.
واللغوية
تنقسم إلى وضعية وعرفية والكلام إنما هو في الحقيقة الوضعية فلنعرفها ثم
نعود إلى باقي الأقسام وقد ذكر فيها حدود واهية يستغنى عن تضييع الزمان
بذكرها والحق في ذلك أن يقال هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا في اللغة
كالأسد المستعمل في الحيوان الشجاع العريض الأعالي والإنسان في الحيوان
الناطق.
وأما الحقيقة العرفية اللغوية فهي اللفظ المستعمل فيما وضع له
بعرف الاستعمال اللغوي وهي قسمان: الأول أن يكون الاسم قد وضع لمعنى عام ثم
يخصص بعرف استعمال أهل اللغة ببعض مسمياته كاختصاص لفظ الدابة بذوات
الأربع عرفاً وإن كان في أصل اللغة لكل ما دب وذلك إما لسرعة دبيبه أو كثرة
مشاهدته أو كثرة استعماله أو غير ذلك.
الثاني أن يكون الاسم في أصل
اللغة بمعنى ثم يشتهر في عرف استعمالهم بالمجاز الخارج عن الموضوع اللغوي
بحيث إنه لا يفهم من اللفظ عند إطلاقه غيره كاسم الغائط فإنه وإن كان في
أصل اللغة للموضع المطمئن من الأرض غير أنه قد اشتهر في عرفهم بالخارج
المستقدر من الإنسان حتى إنه لا يفهم من ذلك اللفظ عند إطلاقه غيره ويمكن
أن يكون شهرة استعمال لفظ الغائط من الخارج المستقذر من الإنسان لكثرة
مباشرته وغلبة التخاطب به مع الاستنكاف من ذكر الاسم الخاص به لنفرة الطباع
عنه فكنوا عنه بلازمه أو لمعنى آخر.
وأما الحقيقة الشرعية فهي استعمال
الاسم الشرعي فيما كان موضوعاً له أولاً في الشرع وسواء كان الاسم الشرعي
ومسماه لا يعرفهما أهل اللغة أو هما معروفان لهم غير أنهم لم يضعوا ذلك
الاسم لذلك المعنى أو عرفوا المعنى كاسم الصلاة والحج والزكاة ونحوه وكذلك
اسم الإيمان والكفر لكن ربما خصت هذه بالأسماء الدينية.
وإن شئت أن تحد
الحقيقة على وجه يعم جميع هذه الاعتبارات قلت: الحقيقة هي اللفظ المستعمل
فيما وضع له أولاً في الاصطلاح الذي به التخاطب فإنه جامع مانع.
وأما المجاز فمأخوذ في اللغة من الجواز وهو الانتقال من حال إلى حال ومنه يقال جاز فلان من جهة كذا إلى جهة كذا.
وهو
مخصوص في اصطلاح الأصوليين بانتقال اللفظ من جهة الحقيقة إلى غيرها وقبل
النظر في تحديده يجب أن تعلم أن المجاز قد يكون لصرف اللفظ عن الحقيقة
الوضعية وعن العرفية والشرعية إلى غيرها كما كانت الحقيقة منقسمة إلى وضعية
وعرفية وشرعية.
وعند هذا نقول: من اعتقد كون المجاز وضعياً قال في
حد المجاز في اللغة الوضعية هو اللفظ المتواضع على استعماله في غير ما وضع
له أولاً في اللغة لما بينهما من التعلق ومن لم يعتقد كونه وضعياً أبقى
الحد بحاله وأبدل المتواضع عليه بالمستعمل وعلى هذا فلا يخفى حد التجوز عن
الحقيقة العرفية والشرعية.
وإن أردت التحديد على وجه يعم الجميع قلت هو
اللفظ المتواضع على استعماله أو المستعمل في غير ما وضع له أولاً في
الاصطلاح الذي به المخاطبة لما بينهما من التعلق ونعني بالتعلق بين محل
الحقيقة والمجاز أن يكون محل التجوز مشابهاً لمحل الحقيقة في شكله وصورته
كإطلاق اسم الإنسان على المصور على الحائط أو في صفة ظاهرة في محل الحقيقة
كإطلاق اسم الأسد على الإنسان لاشتراكهما في صفة الشجاعة لا في صفة البخر
لخفائها أو لأنه كان حقيقة كإطلاق اسم العبد على المعتق أو لأنه يؤول إليه
في الغالب كتسمية العصير خمراً أو أنه مجاور له في الغالب كقولهم: جرى
النهر والميزاب ونحوه.
وجميع جهات التجوز وإن تعددت غير خارجة عما
ذكرناه وإنما قيدنا الحد باللفظ لأن الكلام إنما هو في المجاز اللفظي لا
مطلقاً وبقولنا المتواضع على استعماله أو المستعمل في غير ما وضع له أولاً
تمييزاً له عن الحقيقة وبقولنا لما بينهما من التعلق لأنه لو لم يكن كذلك
كان ذلك الاستعمال ابتداء وضع آخر وكان اللفظ مشتركاً لا مجازاً.
فإن
قيل ما ذكرتموه من الحد غير جامع لأنه يخرج منه التجوز بتخصيص الاسم ببعض
مدلولاته في اللغة كتخصيص لفظ الدابة بذوات الأربع فإنه مجاز وهو غير
مستعمل في غير ما وضع له أولاً لدخول ذوات الأربع في المدلول الأصلي ويلزم
منه أيضاً خروج التجوز بزيادة الكاف في قوله " ليس كمثله شيء " " الشورى 11
" فإنه مجاز وهو غير مستعمل في إفادة شيء أصلاً ويخرج أيضاً منه التجوز
بلفظ الأسد عن الإنسان حالة قصد تعظيمه وإنما يحصل تعظيمه بتقدير كونه
أسداً لا بمجرد إطلاق اسم الأسد عليه بدليل ما إذا جعل علماً له ومدلوله إذ
ذاك لا يكون غير ما وضع له أولاً وتدخل فيه الحقيقة العرفية كلفظ الغائط
وإن كان اللفظ مستعملاً في غير موضوعه أولاً والحقيقة من حيث هي حقيقة لا
تكون مجازاً.
قلنا: أما الإشكال الأول فمندفع لأنه لا يخفى أن حقيقة
المطلق مخالفة لحقيقة المقيد من حيث هما كذلك فإذا كان لفظ الدابة حقيقة في
مطلق دابة فاستعماله في الدابة المقيدة على الخصوص يكون استعمالاً له في
غير ما وضع له أولاً وأما الكاف في قوله تعالى " ليس كمثله شيء " فليست
مستعملة للاسمية كوضعها في اللغة ولا للتشبيه وإلا كان معناها: ليس لمثله
مثل وهو مثل لمثله فكان تناقضاً فكانت مستعملة لا فيما وضعت له في اللغة
أولاً فكانت داخلة في الحد وأما التعبير بلفظ الأسد عن الإنسان تعظيماً له
فليس لتقدير مسمى الأسد الحقيقي فيه بل لمشاركته له في صفته من الشجاعة
والحقيقة العرفية وإن كانت حقيقة بالنظر إلى تواضع أهل العرف عليها فلا
تخرج عن كونها مجازاً بالنسبة إلى استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولاً
ولا تناقض وإذا عرف معنى الحقيقة والمجاز فمهما ورد لفظ في معنى وتردد بين
القسمين فقد يعرف كونه حقيقة ومجازاً بالنقل عن أهل اللغة وإن لم يكن نقل
فقد يعرف كونه مجازاً بصحة نفيه في نفس الأمر ويعرف كونه حقيقة بعدم ذلك
ولهذا فإنه يصح أن يقال لمن سمي من الناس حماراً لبلادته أنه ليس بحمار ولا
يصح أن يقال إنه ليس بإنسان في نفس الأمر لما كان حقيقة فيه.
ومنها أن
يكون المدلول مما يتبادر إلى الفهم من إطلاق اللفظ من غير قرينة مع عدم
العلم بكونه مجازاً بخلاف غيره من المدلولات فالمتبادر إلى الفهم هو
الحقيقة وغيره هو المجاز.
فإن قيل هذا لا يطرد في المجاز المنقول حيث
إنه يسبق إلى الفهم من اللفظ دون حقيقته فالأمر فيهما بالضد مما ذكرتموه
وينتقض أيضاً باللفظ المشترك فإنه حقيقة في مدلولاته مع عدم تبادر شيء منها
إلى الفهم عند إطلاقه.
قلنا أما الأول فمندفع وذلك لأن اللفظ الوارد
إذا تبادر مدلوله إلى الذهن عند إطلاقه فإن علم كونه مجازاً فهو غير وارد
على ما ذكرناه وإن لم يعلم فالظاهر أنه يكون حقيقة فيه لاختصاص ذلك
بالحقيقة في الغالب وإدراج النادر تحت الغالب أولى وأما اللفظ المشترك فإن
قلنا إنه عام في جميع محامله فقد اندفع الإشكال وإن قلنا إنه لا يتناول إلا
واحداً من مدلولاته على طريق البدل فهو حقيقة في الواحد على البدل لا في
الواحد عيناً والذي هو حقيقة فيه فهو متبادر إلى الفهم عند إطلاقه وهو
الواحد على البدل والذي لم يتبادر إلى الفهم وهو الواحد المعين غير حقيقة
فيه وفيه دقة.
ومنها أن لا يكون اللفظ مطرداً في مدلوله مع عدم ورود
المنع من أهل اللغة والشارع من الاطراد وذلك كتسمية الرجل الطويل نخلة إذ
هو غير مطرد في كل طويل.
فإن قيل: عدم الاطراد لا يدل على التجوز فإن
اسم السخي حقيقة في الكريم والفاضل حقيقة في العالم وهذان المدلولان
موجودان في حق الله تعالى ولا يقال له سخي ولا فاضل وكذلك اسم القارورة
حقيقة في الزجاجة المخصوصة لكونها مقراً للمائعات وهذا المعنى موجود في
الجرة والكوز ولا يسمى قارورة وإن سلمنا ذلك ولكن الاطراد لا يدل على
الحقيقة لجواز اطراد بعض المجازات وعدم الاطراد في بعضها كما ذكرتموه فلا
يلزم منه التعميم.
قلنا: أما الإشكال الأول فقد اندفع بقولنا إذا لم
يوجد مانع شرعي ولا لغوي وفيما أورد من الصور قد وجد المنع ولولاه لكان
الاسم مطرداً فيها وأما الثاني فإنا لا ندعي أن الاطراد دليل الحقيقة ليلزم
ما قيل بل المدعى أن عدم الاطراد دليل المجاز.
ومنها أن يكون الاسم قد
اتفق على كونه حقيقة في غير المسمى المذكور وجمعه مخالف لجمع المسمى
المذكور فنعلم أنه مجاز فيه وذلك كإطلاق اسم الأمر على القول المخصوص وعلى
الفعل في قوله تعالى " وما أمرنا إلا واحدة " " القمر 50 " وقوله تعالى "
وما أمر فرعون برشيد " " هود 97 " فإن جمعه في جهة الحقيقة أوامر وفي الفعل
أمور ولا نقول إن المجاز لا يجمع والحقيقة تجمع كما ذكر بعضهم إذ الإجماع
منعقد على التجوز بلفظ الحمار عن البليد مع صحة تثنيته وجمعه حيث يقال
حماران وحمر.
فإن قيل اختلاف الجمع لا يدل على التجوز في المسمى المذكور
لجواز أن يكون حقيقة فيه واختلاف الجمع بسبب اختلاف المسمى قلنا: الجمع
إنما هو للاسم لا للمسمى فاختلافه لا يكون مؤثراً في اختلاف الجمع.
ومنها
أن يكون الاسم موضوعاً لصفة ولا يصح أن يشتق لموضوعها منها اسم مع عدم
ورود المنع من الاشتقاق فيدل على كونه مجازاً وذلك كإطلاق اسم الأمر على
الفعل فإنه لا يشتق لمن قام به منه اسم الآمر بخلاف اسم القارورة فإنه لا
يطلق على الكوز والجرة بطريق الاشتقاق من قرار المائع فيه مع كون اسم
القرار فيه حقيقة كما اشتق في الزجاجة المخصوصة لورود المنع من أهل اللغة
فيه.
فإن قيل: هذا ينتقض باسم الرائحة القائمة بالجسم فإنه حقيقة مع عدم
الاشتقاق قلنا: لا نسلم عدم الاشتقاق فإنه يصح أن يقال للجسم الذي قامت به
الرائحة متروح.
ومنها أن يكون الاسم مضافاً إلى شيء حقيقة وهو متعذر
الإضافة إليه فيتعين أن يكون مجازاً في شيء آخر وذلك كقوله تعالى " واسأل
القرية " يوسف 83 " .
فإن قيل: لا يدل ذلك على كونه مجازاً في الغير
لجواز أن يكون مشتركاً وتعذر حمل اللفظ المشترك على بعض محامله لا يوجب
جعله مجازاً في الباقي.
قلنا: هذا مبني على القول بالاشتراك وهو خلاف
الأصل والمجاز وإن كان على خلاف الأصل إلا أن المحذور فيه أدنى من محذور
الاشتراك على ما يأتي فكان أولى وعلى هذا نقول: مهما ثبت كون اللفظ حقيقة
في بعض المعاني لزم أن يكون مجازاً فيما عداه إذا لم يكن بينهما معنى مشترك
يصلح أن يكون مدلولاً للفظ بطريق التواطئ.
ومنها أن يكون قد ألف من أهل
اللغة أنهم إذا استعملوا لفظاً بازاء معنى أطلقوه إطلاقاً وإذا استعملوه
بازاء غيره قرنوا به قرينة فيدل ذلك على كونه حقيقة فيما أطلقوه مجازاً في
الغير وذلك لأن وضع الكلام للمعنى إنما كان ليكتفي به في الدلالة والأصل أن
يكون ذاك في الحقيقة دون المجاز لكونها أغلب في الاستعمال.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ومنها أنه إذا كان اللفظ حقيقة في معنى ولذلك المعنى متعلق فإطلاقه
بازاء ما ليس له ذلك المتعلق يدل على كونه مجازاً فيه كإطلاق اسم القدرة
على الصفة المؤثرة في الإيجاد فإن لها مقدوراً وإطلاقها على المخلوقات في
قولهم انظر إلى قدرة الله لا مقدور لها.
فإن: قيل التعلق ليس من توابع
كون اللفظ حقيقياً بل من توابع المسمى ولا يلزم من اختلاف المسمى إذا كان
الاسم في أحدهما حقيقة أن يكون مجازاً في الآخر لجواز الاشتراك فجوابه ما
سبق.
ومنها أن يكون الاسم الموضوع لمعنى مما يتوقف إطلاقه عليه على
تعلقه بمسمى ذلك الاسم في موضع آخر ولا كذلك بالعكس فيعلم أن المتوقف مجاز
والآخر غير مجاز.
وتشترك الحقيقة والمجاز في امتناع اتصاف أسماء الأعلام
بهما كزيد وعمرو وذلك لأن الحقيقة على ما تقدم إنما تكون عند استعمال
اللفظ فيما وضع له أولاً والمجاز في غير ما وضع له أولاً وذلك يستدعي كون
الاسم الحقيقي والمجازي في وضع اللغة موضوعاً لشيء قبل هذا الاستعمال في
وضع اللغة وأسماء الأعلام ليست كذلك فإن مستعملها لم يستعملها فيما وضعه
أهل اللغة له أولاً ولا في غيره لأنها لم تكن من وضعهم فلا تكون حقيقة ولا
مجازاً وعلى هذا فالألفاظ الموضوعة أولاً في ابتداء الوضع في اللغة لا توصف
بكونها حقيقة ولا مجازاً وإلا كانت موضوعة قبل ذلك الوضع وهو خلاف الفرض
وكذلك كل وضع ابتدائي حتى الأسماء المخترعة ابتداء لأرباب الحرف والصناعات
لأدواتهم وآلاتهم وإنما تصير حقيقة ومجازاً باستعمالها بعد ذلك وبهذا يعلم
بطلان قول من قال إن كل مجاز له حقيقة ولا عكس وذلك لأن غاية المجاز أن
يكون مستعملاً في غير ما وضع له أولاً وما وضع له اللفظ أولاً ليس حقيقة
ولا مجازاً على ما عرف وبالنظر إلى ما حققناه في معنى الحقيقة والمجاز يعلم
أن تسمية اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً حقيقة وإن كان حقيقة بالنظر
إلى الأمر العرفي غير أنه مجاز بالنظر إلى كونه منقولاً من الوجوب والثبوت
الذي هو مدلول الحقيقة أولاً في اللغة على ما سبق تحقيقه.
وتشترك
الحقيقة والمجاز أيضاً أن كل ما كان من كلام العرب ما عدا الوضع الأول فإنه
لا يخلو عن الحقيقة والمجاز معا بل لا بد من أحدهما فيه.
مسائل هذه
القسمة خمس: المسألة الأولى في الأسماء الشرعية ولا شك في إمكانها إذ لا
إحالة في وضع الشارع اسماً من أسماء أهل اللغة أو من غير أسمائهم على معنى
يعرفونه أو لا يعرفونه لم يكن موضوعاً لأسمائهم فإن دلالات الأسماء على
المعاني ليست لذواتها ولا الاسم واجب للمعنى بدليل انتفاء الاسم قبل
التسمية وجواز إبدال اسم البياض بالسواد في ابتداء الوضع وكما في أسماء
الأعلام والأسماء الموضوعة لأرباب الحرف والصناعات لأدواتهم وآلاتهم.
وإنما
الخلاف نفياً وإثباتاً في الوقوع والحجاج هاهنا مفروض فيما استعمله الشارع
من أسماء أهل اللغة كلفظ الصوم والصلاة هل خرج به عن وضعهم أم لا فمنع
القاضي أبو بكر من ذلك وأثبته المعتزلة والخوارج والفقهاء.
احتج القاضي
بمسلكين: الأول أن الشارع لو فعل ذلك لزمه تعريف الأمة بالتوقيف نقل تلك
الأسامي وإلا كان مكلفاً لهم بفهم مراده من تلك الأسماء وهم لا يفهمونه وهو
تكليف بما لا يطاق والتوقيف الوارد في مثل هذه الأمور لا بد وأن يكون
متواتراً لعدم قيام الحجة بالآحاد فيها ولا تواتر وهذه الحجة غير مرضية أما
أولاً فلأنها مبنية على امتناع التكليف بما لا يطاق وهو فاسد على ما عرف
من أصول أصحابنا القائلين بخلافه في هذه المسألة وإن كان ذلك ممتنعاً عند
المعتزلة وبتقدير امتناع التكليف بما لا يطاق إنما يكون هذا تكليفاً بما لا
يطاق إذ لو كلفهم بفهمها قبل تفهيمهم وليس كذلك.
قوله التفهيم إنما
يكون بالنقل لا نسلم وما المانع أن يكون تفهيمهم بالتكرير والقرائن
المتضافرة مرة بعد مرة كما يفعل الوالدان بالولد الصغير والأخرس في تعريفه
لما في ضميره لغيره بالإشارة.
المسلك الثاني أن هذه الألفاظ قد اشتمل
عليها القرآن فلو كانت مفيدة لغير مدلولاتها في اللغة لما كانت من لسان
أهل اللغة كما لو قال أكرم العلماء وأراد به الجهال أو الفقراء وذلك لأن
كون اللفظ عربياً ليس لذاته وصورته بل لدلالته على ما وضعه أهل اللغة
بازائه وإلا كانت جميع ألفاظهم قبل التواضع عليها عربية وهو ممتنع ويلزم من
ذلك أن لا يكون القرآن عربياً وهو على خلاف قوله تعالى " إنا جعلناه
قرآناً عربياً " الزخرف 3 " وقوله تعالى " بلسان عربي مبين " " الشعراء 195
" وقوله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " " إبراهيم 4 " وذلك
ممتنع وهذا المسلك ضعيف أيضاً إذ لقائل أن يقول: لا أسلم أنه يلزم من ذلك
خروج القرآن عن كونه عربياً فإن قيل لأنه إذا كان مشتملاً على ما ليس بعربي
فما بعضه عربي وبعضه غير عربي لا يكون كله عربياً وفي ذلك مخالفة ظواهر
النصوص المذكورة فيمكن أن يقال: لا نسلم دلالة النصوص على كون القرآن
بكليته عربياً لأن القرآن قد يطلق على السورة الواحدة منه بل على الآية
الواحدة كما يطلق على الكل ولهذا يصح أن يقال للسورة الواحدة: هذا قرآن
والأصل في الإطلاق الحقيقة ولأن القرآن مأخوذ من الجمع ومنه يقال: قرأت
الناقة لبنها في ضرعها إذا جمعته وقرأت الماء في الحوض أي جمعته والسورة
الواحدة فيها معنى الجمع لتألفها من حروف وكلمات وآيات فصح إطلاق القرآن
عليها غايته أنا خالفنا هذا في غير الكتاب العزيز فوجب العمل بمقتضى هذا
الأصل في الكتاب وبعضه ولأنه لو حلف أنه لا يقرأ القرآن فقرأ سورة منه حنث
ولو لم يكن قرآناً لما حنث وإذا كان كذلك فليس الحمل على الكل أولى من
البعض وعند ذلك أمكن حمله على البعض الذي ليس فيه غير العربية.
فإن قيل:
أجمعت الأمة على أن الله تعالى لم ينزل إلا قرآناً واحداً فلو كان البعض
قرآناً والكل قرآناً لزمت التثنية في القرآن وهو خلاف الإجماع وإذا لم يكن
القرآن إلا واحداً تعين أن يكون هو الكل ضرورة الإجماع على تسميته قرآناً.
قلنا:
أجمعت الأمة على أن الله تعالى لم ينزل إلا قرآناً واحداً بمعنى أنه لم
ينزل غير هذا القرآن أو بمعنى أن المجموع قرآن وبعضه ليس بقرآن الأول مسلم
والثاني ممنوع.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الدليل على كون بعض القرآن
قرآناً معارض بما يدل على أنه ليس بقرآن وهو صحة قول القائل عن السورة
والآية: هذا بعض القرآن.
قلنا: المراد به إنما هو بعض الجملة المسماة
بالقرآن وليس في ذلك ما يدل على أن البعض ليس بقرآن حقيقة فإن جزء الشيء
إذا شارك كله في معناه كان مشاركاً له في اسمه ولهذا يقال إن بعض اللحم لحم
وبعض العظم عظم وبعض الماء ماء لاشتراك الكل والبعض في المعنى المسمى بذلك
الاسم وإنما يمتنع ذلك فيما كان البعض فيه غير مشارك للكل في المعنى
المسمى بذلك الاسم ولهذا لا يقال: بعض العشرة عشرة وبعض المائة مائة وبعض
الرغيف رغيف وبعض الدار دار إلى غير ذلك وعند ذلك فما لم يبينوا كون ما نحن
فيه من القسم الثاني دون الأول فهو غير لازم وإن سلمنا التعارض من كل وجه
فليس القول بالنفي أولى من القول بالإثبات وعلى المستدل الترجيح وإن سلمنا
دلالة النصوص على كون القرآن بجملته عربياً لكن بجهة الحقيقة أو المجاز
الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأن ما الغالب منه العربية يسمى عربياً وإن
كان فيه ما ليس بعربي كما يسمى الزنجي أسود وإن كان بعضه اليسير مبيضاً
كأسنانه وشحمة عينيه والرومي أبيض وإن كان البعض اليسير منه أسود كالناظر
من عينيه وكذل البيت من الشعر بالفارسية يسمى فارسياً وإن كان مشتملاً على
كلمات يسيرة من العربية.
ويدل على هذا التجوز ما اشتمل عليه القرآن
من الحروف المعجمة في أوائل السور فإنها ليست من لغة العرب في شيء وأيضاً
فإن القرآن قد اشتمل على عبادات غير معلومة للعرب فلا يتصور التعبير عنها
في لغتهم فلا بد لها من أسماء تدل عليها غير عربية وأيضاً فإن القرآن مشتمل
على قوله تعالى " وما كان الله ليضيع إيمانكم " " البقرة 143 " وأراد به
صلاتكم وليس الإيمان في اللغة بمعنى الصلاة بل بمعنى التصديق وعلى قوله "
أقيموا الصلاة " البقرة 43 " والصلاة في اللغة بمعنى الدعاء وفي الشرع
عبارة عن الأفعال المخصوصة وعلى قوله تعالى " وآتوا الزكاة " " البقرة 43 "
والزكاة في اللغة عبارة عن النماء والزيادة وفي الشرع عبارة عن وجوب أداء
مال مخصوص وعلى قوله تعالى: " كتب عليكم الصيام " " البقرة 138 " والصوم في
اللغة عبارة عن مطلق إمساك وفي الشرع عبارة عن إمساك مخصوص بل وقد يطلق
الصوم في الشرع في حالة لا إمساك فيها كحالة الناسي أكلاً وعلى قوله تعالى:
" ولله على الناس حج البيت " " آل عمران 97 " والحج في اللغة عبارة عن
مطلق قصد وفي الشرع عبارة عن القصد إلى مكان مخصوص.
وهذا كله يدل على اشتمال القرآن على ما ليس بعربي فكان إطلاق اسم العربي عليه مجازاً.
فإن
قيل: أما الحروف المعجمة التي في أوائل السور فهي أسماؤها وأما العبادات
الحادثة فمن حيث إنها أفعال محسوسة معلومة للعرب ومسماة بأسماء خاصة لها
لغة غير أن الشرع اعتبرها في الثواب والعقاب عليها بتقدير الفعل أو الترك
وليس في ذلك ما يدل على اشتمال القرآن على ما ليس بعربي وأما الآيات
المذكورة فهي محمولة على مدلولاتها لغة أما قوله تعالى " وما كان الله
ليضيع إيمانكم " " البقرة 143 " فالمراد به تصديقكم بالصلاة وقوله تعالى "
أقيموا الصلاة " " البقرة 43 " فالمراد به الدعاء وكذلك قوله " وآتوا
الزكاة " البقرة 43 " فالمراد به النمو والمراد من الصوم الإمساك ومن الحج
القصد غير أن الشارع شرط في إجزائها وصحتها شرعاً ضم غيرها إليها وليس في
ذلك ما يدل على تغيير الوضع اللغوي وإن سلمنا دخول هذه الشروط في مسمى هذه
الأسماء لكن بطريق المجاز أما في الصلاة فمن جهة أن الدعاء جزؤها والشيء قد
يسمى باسم جزئه ومنه قول الشاعر:
يناشدني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وأراد
به القرآن فسماه باسم جزئه وكذلك الكلام في الصوم والزكاة والحج ويمكن أن
يقال بأن تسمية الصوم الخاص وكذلك الزكاة والحج والإيمان من باب التصرف
بتخصيص الاسم ببعض مسمياته لغة كما في لفظ الدابة والشارع له ولاية هذا
التصرف كما لأهل اللغة ويخص الصلاة أن أفعالها إنما سميت صلاة لكونها مما
يتبع بها فعل الإمام فإن التالي للسابق من الخيل يسمى مصلياً لكونه تابعاً
ويخص الزكاة أن تسمية الواجب زكاة باسم سببه والتجوز باسم السبب عن المسبب
جائز لغة والمجاز من اللغة لا من غيرها.
قلنا: أما الحروف فإنها إذا
كانت أسماء لآحاد السور فهي أعلام لها وليست لغوية فقد اشتمل القرآن على ما
ليس من لغة العرب وما ذكروه في العبادات الحادثة في الشرع فإنما يصح أن لو
لم تكن قد أطلق عليها أسماء لم تكن العرب قد أطلقتها عليه ويدل على هذا
الإطلاق ما ذكر من الآيات قولهم: إن هذه الأسماء محمولة على موضوعاتها لغة:
غير أن الشارع شرط في إجزائها شروطاً لا تصح بدونها فإن مسمى الصلاة في
اللغة هو الدعاء وقد يطلق اسم الصلاة على الأفعال التي لا دعاء فيها كصلاة
الأخرس الذي لا يفهم الدعاء في الصلاة حتى يأتي به وبتقدير أن يكون الدعاء
متحققاً فليس هو المسمى بالصلاة وحده ودليله أنه يصح أن يقال إنه في الصلاة
حالة كونه غير داع ولم كان هو المسمى بالصلاة لا غير لصح عند فراغه من
الدعاء أن يقال: خرج من الصلاة وإذا عاد إليه يقال: عاد إلى الصلاة وأن لا
يسمى الشخص مصلياً حالة عدم الدعاء مع تلبسه بباقي الأفعال وكل ذلك خلاف
الإجماع.
قولهم: تسمية هذه الأفعال بهذه الأسماء إنما هو بطريق المجاز
قلنا: الأصل في الإطلاق الحقيقة قولهم: إن الدعاء جزء من هذه الأفعال
والشيء قد يسمى باسم جزئه.
قلنا: كل جزء أو بعض الأجزاء: الأول ممنوع
والثاني مسلم ولهذا فإن العشرة لا تسمى خمسة ولا الكل جزءاً وإن كان بعضه
يسمى جزءاً إلى أمثلة كثيرة لا تحصى.
وليس القول بأن ما نحن فيه من
القبيل الجائز أولى من غيره وإن سلمنا صحة ذلك تجوزاً ولكن ليس القول
بالتجوز في هذه الأسماء وإجراء لفظ القرآن على حقيقته أولى من العكس.
فإن
قيل: بل ما ذكرناه أولى فإن ما ذكرتموه يلزم منه النقل وتغيير اللغة
فيستدعي ثبوت أصل الوضع وإثبات وضع آخر والوضع اللغوي لا يفتقر إلى شيء آخر
ولا يلزم منه تغيير فكان أولى وأيضاً فإن الغالب من الأوضاع البقاء لا
التغيير وإدراج ما نحن فيه تحت الأغلب أغلب.
قلنا: بل جانب الخصم أولى
لما فيه من ارتكاب مجاز واحد وما ذكرتموه ففيه ارتكاب مجازات كثيرة فكان
أولى وعلى هذا فقد اندفع قولهم بالتجوز بجهة التخصيص أيضاً وما ذكروه من
تسمية أفعال الصلاة لما فيها من المتابعة للإمام فيلزم منه أن لا تسمى صلاة
الإمام والمنفرد صلاة لعدم هذا المعنى فيها وقولهم في الزكاة أن الواجب
سمي زكاة باسم سببه تجوزاً فيلزم عليه أن لا تصح تسميته زكاة عند عدم
النماء في المال وإن كان النماء حاصلاً فالتجوز باسم السبب عن المسبب جائز
مطلقاً أو في بعض الأسباب: الأول ممنوع: والثاني مسلم ولهذا فإنه لا يصح
تسمية الصيد شبكة وإن كان نصبها سبباً له ولا يسمى الابن أباً وإن كان الأب
سبباً له وكذلك لا يسمى العالم إلهاً وإن كان الإله تعالى سبباً له إلى
غير ذلك من النظائر وعند ذلك فليس القول بأن ما نحن فيه من قبيل التجوز به
أولى من غيره.
وأما المعتزلة فقد احتجوا بما سبق من الآيات وبقولهم إن
الإيمان في اللغة هو التصديق وفي الشرع يطلق على غير التصديق ويدل عليه
السلام " الإيمان بضع وسبعون باباً أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله
وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " سمي إماطة الأذى إيماناً وليس بتصديق
وأيضاً فإن الدين في الشرع عبارة عن فعل العبادات وإقامة الصلاة وإيتاء
الزكاة بدليل قوله تعالى " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين "
إلى آخر الآية ثم قال " وذلك دين القيمة " " البينة 5 " فكان راجعاً إلى كل
المذكور والدين هو الإسلام لقوله تعالى " إن الدين عند الله الإسلام " "
آل عمران 19 " والإسلام هو الإيمان فيكون الإيمان في الشرع هو فعل
العبادات.
ودليل كون الإيمان هو الإسلام إنه لو كان الإيمان غير الإسلام
لما كان مقبولاً من صاحبه لقوله تعالى " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن
يقبل منه " " آل عمران 85 " وأيضاً فإنه استثنى المسلمين من المؤمنين في
قوله تعالى " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من
المسلمين " الذاريات 53 " والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه
وأيضاً قوله تعالى " وما كان الله ليضيع إيمانكم " " البقرة 143 " وأراد به
الصلاة إلى بيت المقدس وأيضاً فإن قاطع الطريق وإن كان مصدقاً فليس بمؤمن
لأنه يدخل النار بقوله تعالى " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " " البقرة 114 "
والداخل في النار مخزي لقوله تعالى حكاية عن أهل النار " ربنا إنك من تدخل
النار فقد أخزيته " " آل عمران 192 " مع التقرير لهم على ذلك والمؤمن غير
مخزي لقوله تعالى " يوم لا يخزي الله النبي والذين أمنوا معه " " التحريم 8
" وأيضاً فإن المكلف يوصف بكونه مؤمناً حالة كونه غافلاً عن التصديق
بالنوم وغيره وأيضاً فإنه لو كان الإيمان في الشرع هو الإيمان اللغوي أي
التصديق لسمي في الشرع المصدق بشريك الإله تعالى مؤمناً والمصدق بالله مع
إنكار الرسالة مؤمناً إلى نظائره.
ولقائل أن يقول: أما الآيات السابق
ذكرها فيمكن أن يقال في جوابها إن إطلاق اسم الصلاة والزكاة والصوم والحج
إنما كان بطريق المجاز على ما سبق والمجاز غير خارج عن اللغة وتسمية إماطة
الأذى عن الطريق إيمانا أمكن أن يكون لكونه دليلاً على الإيمان فعبر باسم
المدلول عن الدال وهو أيضاً جهة من جهات التجوز.
فإن قيل: الأصل إنما هو الحقيقة قلنا: إلا أنه يلزم منه التغيير ومخالفة الوضع اللغوي فيتقابلان وليس أحدهما أولى من الآخر لما سبق.
وقولهم
إن الإيمان هو الإسلام بما ذكروه فهو معارض بقوله تعالى " قل لم تؤمنوا
ولكن قولوا أسلمنا " " الحجرات 14 " ولو اتحدا لما صح هذا القول وليس
أحدهما أولى من الآخر بل الترجيح للتغاير نظراً إلى أن الأصل عند تعدد
الأسماء تعدد المسميات ولئلا يلزم منه التغيير في الوضع وبهذا يندفع ما
ذكروه من الاستثناء وقوله تعالى " وما كان الله ليضيع إيمانكم " " البقرة
183 " فالمراد به التصديق بالصلاة لا نفس الصلاة فلا تغيير وإن كان المراد
به الصلاة غير أن الصلاة لما كانت تدل على التصديق سميت باسم مدلولها وذلك
مجاز من وضع اللغة.
وقوله تعالى: " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا
معه " " التحريم 8 " لا يتناول كل مؤمن بل من آمن مع النبي عليه السلام
وهو صريح في ذلك وأولئك لم يصدر منهم ما دل صدر الآية عليه من الحراب لله
ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الذي أوجب دخول النار في الآية ولا يلزم من
نفي الخزي عمن آمن مع النبي نفيه عن غيره.
وقولهم إن المكلف يوصف
بالإيمان حالة كونه غافلاً عن التصديق بالله تعالى إنما كان ذلك بطريق
المجاز لكونه كان مصدقاً وأنه يؤول إلى التصديق وهو جهة من جهات التجوز.
وما يقال من أن الأصل الحقيقة فقد سبق جوابه كيف وإن ذلك لازم لهم في كل ما يفسرون الإيمان به ومع اتحاد المحذور فتقرير الوضع أولى.
والمصدق
بشريك الإله تعالى ليس مؤمناً شرعاً لأن الإيمان في الشرع مطلق تصديق بل
تصديق خاص وهو التصديق بالله وبما جاءت به رسله وهو من باب تخصيص الاسم
ببعض مسمياته في اللغة فكان مجازاً لغوياً وبه يندفع ما قيل من التصديق
بالله والكفر برسوله حيث أن مسمى الإيمان الشرعي لم يوجد وإذا عرف ضعف
المأخذ من الجانبين فالحق عندي في ذلك إنما هو إمكان كل واحد من المذهبين
وأما ترجيح الواقع منهما فعسى أن يكون عند غيري تحقيقه.
المسألة الثانية اختلف الأصوليون في اشتمال اللغة على الأسماء المجازية: فنفاه الأستاذ أبو إسحاق ومن تابعه وأثبته الباقون وهو الحق.
حجة
المثبتين أنه قد ثبت إطلاق أهل اللغة اسم الأسد على الإنسان الشجاع
والحمار على الإنسان البليد وقولهم ظهر الطريق ومتنها وفلان على جناح السفر
وشابت لمة الليل وقامت الحرب على ساق وكبد السماء إلى غير ذلك.
وإطلاق
هذه الأسماء لغة مما لا ينكر إلا عن عناد وعند ذلك فإما أن يقال إن هذه
الأسماء حقيقة في هذه الصور أو مجازية لاستحالة خلو الأسماء اللغوية عنهما
ما سوى الوضع الأول كما سبق تحقيقه لا جائز أن يقال بكونها حقيقة فيها
لأنها حقيقة فيما سواها بالاتفاق فإن لفظ الأسد حقيقة في السبع والحمار في
البهيمة والظهر والمتن والساق والكبد في الأعضاء المخصوصة بالحيوان واللمة
في الشعر إذا جاوز شحمة الأذن وعند ذلك فلو كانت هذه الأسماء حقيقية فيما
ذكر من الصور لكان اللفظ مشتركاً ولو كان مشتركاً لما سبق إلى الفهم عند
إطلاق هذه الألفاظ البعض دون البعض ضرورة التساوي في الدلالة الحقيقية ولا
شك أن السابق إلى الفهم من إطلاق لفظ الأسد إنما هو السبع ومن إطلاق لفظ
الحمار إنما هو البهيمة وكذلك في باقي الصور.
كيف وإن أهل الأعصار لم تزل تتناقل في أقوالها وكتبها عن أهل الوضع تسمية هذا حقيقة وهذا مجازاً.
فإن
قيل: لو كان في لغة العرب لفظ مجازي فأما أن يفيد معناه بقرينة أو لا
بقرينة فإن كان الأول فهو مع القرينة لا يحتمل غير ذلك المعنى فكان مع
القرينة حقيقة في ذلك المعنى وإن كان الثاني فهو أيضاً حقيقة إذ لا معنى
للحقيقة إلا ما يكون مستقلاً بالإفادة من غير قرينة.
وأيضاً فإنه ما من
صورة من الصور إلا ويمكن أن يعبر عنها باللفظ الحقيقي الخاص بها فاستعمال
اللفظ المجازي فيها مع افتقاره إلى القرينة من غير حاجة بعيد عن أهل الحكمة
والبلاغة في وضعهم.
قلنا: جواب الأول أن المجاز لا يفيد عند عدم الشهرة
إلا بقرينة ولا معنى للمجاز سوى هذا والنزاع في ذلك لفظي كيف وإن المجاز
والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنوية فلا تكون الحقيقة صفة
للمجموع.
وجواب الثاني أن الفائدة في استعمال اللفظ المجازي دون
الحقيقة قد تكون لاختصاصه بالخفة على اللسان أو لمساعدته في وزن الكلام
نظماً ونثراً والمطابقة والمجانسة والسجع وقصد التعظيم والعدول عن الحقيقي
للتحقير إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة في الكلام.
المسألة الثالثة اختلفوا في دخول الأسماء المجازية في كلام الله تعالى: فنفاه أهل الظاهر والرافضة وأثبته الباقون.
احتج
المثبتون بقوله تعالى " ليس كمثله شيء " " الشورى 11 " وبقوله تعالى "
واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها " " يوسف 82 " وبقوله
تعالى " جداراً يريد أن ينقض " " الكهف 77 " .
والأول من باب التجوز
بالزيادة ولهذا لو حذفت الكاف بقي الكلام مستقلاً والثاني من باب النقصان
فإن المراد به أهل القرية لاستحالة سؤال القرية والعير وهي البهائم.
والثالث من باب الاستعارة لتعذر الإرادة من الجدار وإذا امتنع حمل هذه الألفاظ على ظواهرها في اللغة فما تكون محمولة عليه هو المجاز.
فإن
قيل لا نسلم التجوز فيما ذكرتموه من الألفاظ أما قوله تعالى " ليس كمثله
شيء " " الشورى 11 " فهو حقيقة في نفي التشبيه إذ الكاف للتشبيه.
وأما
قوله تعالى " واسأل القرية " " يوسف 82 " فالمراد به مجتمع الناس فإن
القرية مأخوذة من الجمع ومنه يقال قرأت الماء في الحوض أي جمعته وقرأت
الناقة لبنها في ضرعها أي جمعته ويقال لمن صار معروفاً بالضيافة مقري ويقري
لاجتماع الأضياف عنده وسمي القرآن قرآناً لذلك أيضاً لاشتماله على مجموع
السور والآيات وأما العير فهي القافلة ومن فيها من الناس ثم وإن كان اسم
القرية للجدران والعير للبهائم غير أن الله تعالى قادر على إنطاقها وزمن
النبوة زمن خرق العوائد فلا يمتنع نطقها بسؤال النبي لها.
وقوله تعالى " جداراً يريد أن ينقض " " الكهف 77 " فمحمول أيضاً على حقيقته لأنه لا يتعذر على الله تعالى خلق الإرادة فيه.
سلمنا
دلالة ما ذكرتموه على التجوز لكنه معارض بما يدل على عدمه وذلك لأن المجاز
كذب ولذلك يصدق نفيه عند قول القائل للبليد حمار وللإنسان الشجاع أسد
ونقيض النفي الصادق يكون كاذباً ولأن المجاز هو الركيك من الكلام وكلام
الرب تعالى مما يصان عنه.
سلمنا أنه ليس بكذب غير أنه إنما يصار إليه عند العجز عن الحقيقة ويتعالى الرب عن ذلك.
سلمنا
أنه غير متوقف على العجز عن الحقيقة غير أنه مما لا يفيد معناه بلفظه دون
قرينة وربما تخفى فيقع الالتباس على المخاطب وهو قبيح من الحكيم.
سلمنا
أنه لا يفضي إلى الالتباس غير أنه إذا خاطب بالمجاز وجب وصفه بكونه متجوزاً
نظراً إلى الاشتقاق كما في الواحد منا وهو خلاف الإجماع.
سلمنا عدم اتصافه بذلك غير أن كلام الله تعالى حق فله حقيقة والحقيقة مقابلة للمجاز.
والجواب
قولهم " ليس كمثله شيء " " الشورى 11 " لنفي التشبيه ليس كذلك فإنه لو
كانت الكاف هاهنا للتشبيه لكان معنى النفي: ليس مثل مثله شيء وهو تناقض
ضرورة أنه مثل لمثله فالمثل في الآية زائد والمراد من قولهم مثلك لا يقول
هذا المشارك له في صفاته.
وقولهم: المراد من القرية الناس المجتمعون ليس
كذلك لأن القرية هي المحل الذي يقع فيه الاجتماع لا نفس الاجتماع ومن ذلك
سمي الزمان الذي فيه يجتمع دم الحيض قراً وكذلك يقال القاري لجامع القرآن
والمقري لجامع الأضياف.
قولهم: إن العير هي القافلة المجتمعة من الناس
قلنا من الناس والبهائم لا نفس الناس فقط ولهذا لا يقال لمجتمع الناس من
غير أن يكون معهم بهائم قافلة قولهم لو سأل لوقع الجواب.
قلنا: جواب
الجدران والبهائم ثم غير واقع على وفق الاختيار في عموم الأوقات بل إن وقع
فإنما يقع بتقدير تحدي النبي عليه السلام به ولم يكن كذلك فيما نحن فيه فلا
يمكن الاعتماد عليه ثم وإن أمكن تخيل ما قالوه مع بعده فبماذا يعتذر عن
قوله تعالى " تجري من تحتها الأنهار " والأنهار غير جارية وعن قوله تعالى "
واشتعل الرأس شيباً " " مريم 4 " وهو غير مشتعل وعن قوله تعالى " واخفض
لهما جناح الذل " " الإسراء 24 " والذل لا جناح له وقوله تعالى " الحج أشهر
معلومات " " البقرة 197 " والأشهر ليست هي الحج وإنما هي طرف لأفعال الحج
وقوله تعالى " لهدمت صوامع وبيع وصلوات " " الحج 40 " والصلوات لا تهدم
وقوله " أو جاء أحد منكم من الغائط " " المائدة 6 " وقوله: " الله نور
السماوات والأرض " " النور 35 " وقوله " فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم "
" البقرة 194 " والقصاص ليس بعدوان وقوله " وجزاء سيئة سيئة مثلها " "
الشورى 40 " وقوله " الله يستهزئ بهم ويمكرون ويمكر الله " " الأنفال 30 "
وقوله " كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله " " المائدة 64 " وقوله تعالى
" أحاط بهم سرادقها " " الكهف 29 " إلى ما لا يحصى ذكره من المجازات.
وعن
المعارضة الأولى بمنع كون المجاز كذباً فإنه إنما يكون كذباً أن لو أثبت
ذلك حقيقة لا مجازاً كيف وإن الكذب مستقبح عند العقلاء بخلاف الاستعارة
والتجوز فإنه عندهم من المستحسنات.
قولهم إنه من ركيك الكلام ليس كذلك
بل ربما كان المجاز أفصح وأقرب إلى تحصيل مقاصد المتكلم البليغ على ما سبق
وعن الثانية بمنع ما ذكروه من اشتراط المصير إلى المجاز بالعجز عن الحقيقة
بل إنما يصار إليه مع القدرة على الحقيقة لما ذكرناه من المقاصد فيما تقدم.
وعن
الثالثة أنها مبنية على القول بالتقبيح العقلي وقد أبطلناه كيف وهو لازم
على الخصوم فيما ورد من الآيات المتشابهات فما هو الجواب في المتشابهات؟ هو
الجواب لنا هاهنا.
وعن الرابعة أنه إنما لم يسم متجوزاً لأن ذلك مما
يوهم التسمح في أقواله بالقبيح ولهذا يفهم منه ذلك عند قول القائل " فلان
متجوز في مقاله " فيتوقف إطلاقه في حق الله تعالى على الإطلاق الشرعي ولم
يرد.
وعن الخامسة أن كلام الله وإن كان له حقيقة فبمعنى كونه صدقاً لا بمعنى الحقيقة المقابلة للمجاز.
المسألة الرابعة اختلفوا في اشتمال القرآن على كلمة غير عربية فأثبته ابن عباس وعكرمة ونفاه الباقون.
احتج
النافون بقوله تعالى " ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته
أأعجمي وعربي " " فصلت 44 " فنفي أن يكون أعجمياً وقطع اعتراضهم بتنوعه بين
أعجمي وعربي ولا ينتفي الاعتراض وفيه أعجمي وبقوله تعالى " بلسان عربي
مبين " " الشعراء 195 " وبقوله " إنا أنزلناه قرآناً عربياً " " يوسف 2 "
وظاهر ذلك ينافي أن يكون فيه ما ليس بعربي.
واحتج المثبتون لذلك بقولهم:
القرآن مشتمل على المشكاة وهي هندية وإستبرق وسجيل بالفارسية وطه بالنبطية
وقسطاس بالرومية والأب وهي كلمة لا تعرفها العرب ولذلك روي عن عمر أنه لما
تلا هذه الآية قال: هذه الفاكهة فما الأب قالوا: ولأن النبي عليه السلام
مبعوث إلى أهل كل لسان كافة على ما قال تعالى " كافة للناس بشيراً ونذيراً "
" سبأ 28 " وقال عليه السلام بعثت إلى الأسود والأحمر فلا ينكر أن يكون
كتابه جامعاً للغة الكل ليتحقق خطابه للكل إعجازاً وبياناً وأيضاً فإن
النبي عليه السلام لم يدع أنه كلامه بل كلام الله تعالى رب العالمين المحيط
بجميع اللغات فلا يكون تكلمه باللغات المختلفة منكراً غايته أنه لا يكون
مفهوماً للعرب وليس ذلك بدعاً بدليل تضمنه للآيات المتشابهات والحروف
المعجمة في أوائل السور.
أجاب النافون وقالوا: أما الكلمات المذكورة فلا
نسلم أنها ليست عربية وغايته اشتراك اللغات المختلفة في بعض الكلمات وهو
غير ممتنع كما في قولهم سروال بدل سراويل وفي قولهم تنور فإنه قد قيل إنه
مما اتفق فيه جميع اللغات ولا يلزم من خفاء كلمة الأب على عمر أن لا يكون
عربياً إذ ليس كل كلمات العربية مما أحاط بها كل واحد من آحاد العرب ولهذا
قال ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى " فاطر السماوات والأرض " " فاطر 1 "
حتى سمعت امرأة من العرب تقول: أنا فطرته أي ابتدأته.
وأما بعثته إلى
الكل فلا يوجب ذلك اشتمال الكتاب على غير لغة العرب لما ذكروه وإلا لزم
اشتماله على جميع اللغات ولما جاز الاقتصار من كل لغة على كلمة واحدة لتعذر
البيان والإعجاز بها وما ذكروه فغايته أنه إذا كان كلام الله المحيط بجميع
اللغات فلا يمتنع أن يكون مشتملاً على اللغات المختلفة ولكنه لا يوجبه فلا
يقع ذلك في مقابلة النصوص الدالة على عدمه.
المسألة الخامسة اختلفوا في
إطلاق الاسم على مسماه المجازي: هل يفتقر في كل صورة إلى كونه منقولاً عن
العرب أو يكفي فيه ظهور العلاقة المعتبرة في التجوز كما عرفناه أولاً فمنهم
من شرط في ذلك النقل مع العلاقة ومنهم من اكتفى بالعلاقة لا غير.
احتج
الشارطون للنقل بأنه لو اكتفى بالعلاقة لجاز تسمية غير الإنسان نخلة
لمشابهته لها في الطول كما جاز في الإنسان ولجاز تسمية الصيد شبكة والثمرة
شجرة وظل الحائط حائطاً والابن أباً تعبيراً عن هذه الأشياء بأسماء أسبابها
لما بينها وبين أسبابها من الملازمة في الغالب وهي من الجهات المصححة
للتجوز وليس كذلك فدل على أنه لا بد من نقل الاستعمال.
ولقائل أن يقول:
ما المانع أن يكون تحقق العلاقة بين محل الحقيقة ومحل التجوز كافياً في
جواز إطلاق الاسم على جهة المجاز وحيث وجدت العلاقة المجوزة للإطلاق في بعض
الصور وامتنع الإطلاق فإنما كان لوجود المنع من قبل أهل اللغة لا للتوقف
على نقل استعمالهم للاسم فيها على الخصوص فإن قيل: لو لم يكن نقل استعمال
أهل اللغة معتبراً في محل التجوز فتسميته باسم الحقيقة إما بالقياس عليه:
أو أنه مخترع للواضع المتأخر الأول ممتنع لما يأتي والثاني فلا يكون من لغة
العرب.
قلنا: لا يلزم من عدم التنصيص في آحاد الصور من أهل اللغة على
التسمية أن يكون كما ذكروه بل ثم قسم ثالث: وهو أن تنص العرب نصاً كلياً
على جواز إطلاق الاسم الحقيقي على كل ما كان بينه وبينه علاقة منصوص عليها
من قبلهم كما بيناه ولا معنى للمجاز إلا هذا وهو غير خارج عن لغتهم.
فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتموه لكان المنع منهم متحققاً مع وجود المطلق وهو تعارض مخالف للأصل بخلاف ما ذكرناه.
قلنا: أمكن أن يكون المطلق ما ذكرناه مشروطاً بعدم ظهور المنع ومع ظهور المنع فلا مطلق وفيه عوص.
واحتج
النافون بأن إطلاق المجاز مما لا يفتقر إلى بحث ونظر دقيق في الجهات
المصححة في التجوز والأمر النقلي لا يكون كذلك وأيضاً فإنه لو كان نقلياً
لما افتقر فيه إلى العلاقة بينه وبين محل الحقيقة بل لكان النقل فيه
كافياً.
ولقائل أن يقول: أما الأول فالنظر ليس في النقل بل في العلاقة
التي بين محل التجوز والحقيقة وأما الثاني فلأن الافتقار إلى العلاقة إنما
كان لضرورة توقف المجاز من حيث هو مجاز عليها وإلا كان إطلاق الاسم عليه من
باب الاشتراك لا من باب المجاز وإذا تقاومت الاحتمالات في هذه المسألة
فعلى الناظر بالاجتهاد في الترجيح.
القسمة الرابعة الاسم لا يخلو إما أن يكون بحيث لا يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون أو يصح فالأول اسم العلم كزيد وعمرو.
والثاني
إما أن لا يكون صفة أو هو صفة والأول هو اسم الجنس وهو إما أن يكون عيناً
كالإنسان والفرس أو غير عين كالعلم والجهل والصفة كالقائم والقاعد وهو
الاسم المشتق والمشتق هو ما غير من أسماء المعاني عن شكله بزيادة أو نقصان
في الحروف أو الحركات أو فيهما وجعل دالا على ذلك المعنى وعلى موضوع له غير
معين كتسمية الجسم الذي قام به السواد أسود والبياض أبيض ونحوه ولا يتصور
أن يكون المشتق إلا كذلك.
وهل يشترط قيام المشتق منها بما له الاشتقاق
وهل يلزم الاشتقاق من الصفة المعنوية لما قامت به فذلك مما أوجبه أصحابنا
ونفاه المعتزلة حيث إنهم جوزوا اشتقاق اسم المتكلم لله تعالى من كلام مخلوق
له غير قائم بذاته ولم يوجبوا الاشتقاق منه للمحل الذي خلق فيه وقد عرفنا
مأخذ الخلاف من الجانبين وما هو الصحيح منه في أبكار الأفكار فليلتمس.
مسائل
هذه القسمة مسألتان: المسألة الأولى في أن بقاء الصفة المشتق منها هل
يشترط في إطلاق اسم المشتق حقيقة أم لا فأثبته قوم ونفاه آخرون.
وقد
فصل بعضهم بين ما هو ممكن الحصول وما ليس ممكناً فاشترط ذلك في الممكن دون
غيره احتج الشارطون بأنه لو كان إطلاق الضارب على شخص ما حقيقة بعد انقضائه
صفة الضرب منه لما صح نفيه ويصح أن يقال إنه في الحال ليس بضارب.
ولقائل
أن يقول: صحة سلب الضاربية عنه في الحال إنما يلزم منه سلبها عنه مطلقاً
إذ لو لم يكن أعم من الضاربية في الحال وهو غير مسلم وعند ذلك فلا يلزم من
صحة سلب الأخص سلب الأعم.
فإن قيل قول القائل هذا ضارب لا يفيد سوى كونه ضارباً في الحال فإذا سلم صحة سلبه في الحال فهو المطلوب.
قلنا:
هذا بعينه إعادة دعوى محل النزاع بل الضارب هو من حصل له الضرب وهو أعم من
حصول الضرب له في الحال فالضارب أعم من الضارب في الحال.
فإن قيل: وكما
أن حصول الضرب أعم من حصول الضرب في الحال لانقسامه إلى الماضي والحال فهو
أعم من المستقبل أيضاً لانقسامه إلى الحال والمستقبل فإن صدق اسم الضارب
حقيقة باعتبار هذا المعنى الأعم فليكن اسم الضارب حقيقة قبل وجود الضرب منه
كما كان حقيقة بعد زوال الضرب.
قلنا: الضارب حقيقة من حصل منه الضرب
وهذا يصدق على من وجد منه الضرب في الماضي أو الحال بخلاف من سيوجد منه
الضرب في المستقبل فإنه لا يصدق عليه أنه حصل منه الضرب وعند ذلك فلا يلزم
من صدق الضارب حقيقة على من وجد منه الضرب صدقه حقيقة على من سيوجد منه
الضرب ولم يوجد.
فصل بعضهم بين ما هو ممكن الحصول وما ليس ممكناً فاشترط ذلك في الممكن دون
غيره احتج الشارطون بأنه لو كان إطلاق الضارب على شخص ما حقيقة بعد انقضائه
صفة الضرب منه لما صح نفيه ويصح أن يقال إنه في الحال ليس بضارب.
ولقائل
أن يقول: صحة سلب الضاربية عنه في الحال إنما يلزم منه سلبها عنه مطلقاً
إذ لو لم يكن أعم من الضاربية في الحال وهو غير مسلم وعند ذلك فلا يلزم من
صحة سلب الأخص سلب الأعم.
فإن قيل قول القائل هذا ضارب لا يفيد سوى كونه ضارباً في الحال فإذا سلم صحة سلبه في الحال فهو المطلوب.
قلنا:
هذا بعينه إعادة دعوى محل النزاع بل الضارب هو من حصل له الضرب وهو أعم من
حصول الضرب له في الحال فالضارب أعم من الضارب في الحال.
فإن قيل: وكما
أن حصول الضرب أعم من حصول الضرب في الحال لانقسامه إلى الماضي والحال فهو
أعم من المستقبل أيضاً لانقسامه إلى الحال والمستقبل فإن صدق اسم الضارب
حقيقة باعتبار هذا المعنى الأعم فليكن اسم الضارب حقيقة قبل وجود الضرب منه
كما كان حقيقة بعد زوال الضرب.
قلنا: الضارب حقيقة من حصل منه الضرب
وهذا يصدق على من وجد منه الضرب في الماضي أو الحال بخلاف من سيوجد منه
الضرب في المستقبل فإنه لا يصدق عليه أنه حصل منه الضرب وعند ذلك فلا يلزم
من صدق الضارب حقيقة على من وجد منه الضرب صدقه حقيقة على من سيوجد منه
الضرب ولم يوجد.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
واحتج النافون بوجوه: الأول أن أهل اللغة قالوا: إذا كان اسم الفاعل
بتقدير الماضي لا يعمل عمل الفعل فلا يقال ضارب زيداً أمس كما يقال بتقدير
المستقبل بل يقال ضارب زيد أطلقوا عليه اسم الفاعل باعتبار ما صدر عنه من
الفعل الماضي.
الثاني أنه لو كان وجود ما منه الاشتقاق شرطاً في صحة
الاشتقاق حقيقة لما كان إطلاق اسم المتكلم والمخبر حقيقة أصلاً لأن ذلك لا
يصح إلا بعد تحقق الكلام منه والخبر وهو إنما يتم بمجموع حروفه وأجزائه ولا
وجود للحروف السابقة مع الحرف الأخير أصلاً ولا حقاً بامتناع كونه متكلماً
حقيقة قبل وجود الكلام فلو لم يكن حقيقة عند آخر جزء من الكلام والخبر مع
عدم وجود الكلام والخبر في تلك الحالة لما كان حقيقة أصلاً وهو ممتنع وإلا
لصح أن يقال إنه ليس بمتكلم إذ هو لازم نفي الحقيقة ولما حنث من حلف أن
فلاناً لم يتكلم حقيقة وإنني لا أكلم فلاناً حقيقة إذا كان قد تكلم أو
كلمه.
الثالث إن الضارب من حصل منه الضرب ومن وجد منه الضرب في الماضي يصدق عليه أنه قد حصل منه الضرب فكان ضارباً حقيقة.
ولقائل
أن يقول: أما الوجه الأول فإنه لا يلزم من إطلاق اسم الفاعل عليه أن يكون
حقيقة ولهذا فإنهم قالوا: اسم الفاعل إذا كان بتقدير المستقبل عمل عمل
الفعل فقيل ضارب زيداً غداً وليس ذلك حقيقة بالاتفاق وأما الوجه الثاني
فغير لازم أيضاً إذ للخصم أن يقول شرط كون المشتق حقيقة إنما هو وجود ما
منه الاشتقاق إن أمكن وإلا فوجود آخر جزء منه وذلك متحقق في الكلام والخبر
بخلاف ما نحن فيه.
وأما الثالث فلا نسلم أن اسم الضارب حقيقة على من وجد
منه الضرب مطلقاً بل من الضرب حاصل منه حالة تسميته ضارباً ثم يلزم تسمية
أجلاء الصحابة كفرة لما وجد منهم من الكفر السابق والقائم قاعداً والقاعد
قائماً لما وجد منه من القعود والقيام السابق وهو غير جائز بإجماع المسلمين
وأهل اللسان هذا ما عندي في هذه المسألة وعليك بالنظر والاعتبار.
المسألة
الثانية اختلفوا في الأسماء اللغوية: هل ثبتت قياساً أم لا فأثبته القاضي
أبو بكر وابن سريج من أصحابنا وكثير من الفقهاء وأهل العربية وأنكره معظم
أصحابنا والحنفية وجماعة من أهل الأدب مع اتفاقهم على امتناع جريان القياس
في أسماء الأعلام وأسماء الصفات.
أما أسماء الأعلام فلكونها غير موضوعة
لمعان موجبة لها والقياس لا بد فيه من معنى جامع إما معرف وإما داع وإذا
قيل في حق الأشخاص في زماننا: هذا سيبويه وهذا جالينوس فليس بطريق القياس
في التسمية بل معناه: هذا حافظ كتاب سيبويه وعلم جالينوس بطريق التجوز كما
يقال: قرأت سيبويه والمراد به كتابه.
بتقدير الماضي لا يعمل عمل الفعل فلا يقال ضارب زيداً أمس كما يقال بتقدير
المستقبل بل يقال ضارب زيد أطلقوا عليه اسم الفاعل باعتبار ما صدر عنه من
الفعل الماضي.
الثاني أنه لو كان وجود ما منه الاشتقاق شرطاً في صحة
الاشتقاق حقيقة لما كان إطلاق اسم المتكلم والمخبر حقيقة أصلاً لأن ذلك لا
يصح إلا بعد تحقق الكلام منه والخبر وهو إنما يتم بمجموع حروفه وأجزائه ولا
وجود للحروف السابقة مع الحرف الأخير أصلاً ولا حقاً بامتناع كونه متكلماً
حقيقة قبل وجود الكلام فلو لم يكن حقيقة عند آخر جزء من الكلام والخبر مع
عدم وجود الكلام والخبر في تلك الحالة لما كان حقيقة أصلاً وهو ممتنع وإلا
لصح أن يقال إنه ليس بمتكلم إذ هو لازم نفي الحقيقة ولما حنث من حلف أن
فلاناً لم يتكلم حقيقة وإنني لا أكلم فلاناً حقيقة إذا كان قد تكلم أو
كلمه.
الثالث إن الضارب من حصل منه الضرب ومن وجد منه الضرب في الماضي يصدق عليه أنه قد حصل منه الضرب فكان ضارباً حقيقة.
ولقائل
أن يقول: أما الوجه الأول فإنه لا يلزم من إطلاق اسم الفاعل عليه أن يكون
حقيقة ولهذا فإنهم قالوا: اسم الفاعل إذا كان بتقدير المستقبل عمل عمل
الفعل فقيل ضارب زيداً غداً وليس ذلك حقيقة بالاتفاق وأما الوجه الثاني
فغير لازم أيضاً إذ للخصم أن يقول شرط كون المشتق حقيقة إنما هو وجود ما
منه الاشتقاق إن أمكن وإلا فوجود آخر جزء منه وذلك متحقق في الكلام والخبر
بخلاف ما نحن فيه.
وأما الثالث فلا نسلم أن اسم الضارب حقيقة على من وجد
منه الضرب مطلقاً بل من الضرب حاصل منه حالة تسميته ضارباً ثم يلزم تسمية
أجلاء الصحابة كفرة لما وجد منهم من الكفر السابق والقائم قاعداً والقاعد
قائماً لما وجد منه من القعود والقيام السابق وهو غير جائز بإجماع المسلمين
وأهل اللسان هذا ما عندي في هذه المسألة وعليك بالنظر والاعتبار.
المسألة
الثانية اختلفوا في الأسماء اللغوية: هل ثبتت قياساً أم لا فأثبته القاضي
أبو بكر وابن سريج من أصحابنا وكثير من الفقهاء وأهل العربية وأنكره معظم
أصحابنا والحنفية وجماعة من أهل الأدب مع اتفاقهم على امتناع جريان القياس
في أسماء الأعلام وأسماء الصفات.
أما أسماء الأعلام فلكونها غير موضوعة
لمعان موجبة لها والقياس لا بد فيه من معنى جامع إما معرف وإما داع وإذا
قيل في حق الأشخاص في زماننا: هذا سيبويه وهذا جالينوس فليس بطريق القياس
في التسمية بل معناه: هذا حافظ كتاب سيبويه وعلم جالينوس بطريق التجوز كما
يقال: قرأت سيبويه والمراد به كتابه.
وأما أسماء الصفات الموضوعة
للفرق بين الصفات كالعالم والقادر فلأنها واجبة الاطراد نظراً إلى تحقق
معنى الاسم فإن مسمى العالم من قام به العلم وهو متحقق في حق كل من قام به
العلم فكان إطلاق اسم العالم عليه ثابتاً بالوضع لا بالقياس إذ ليس قياس
أحد المسميين المتماثلين في المسمى على الآخر أولى من العكس وإنما الخلاف
في الأسماء الموضوعة على مسمياتها مستلزمة لمعان في محالها وجوداً وعدماً
وذلك كإطلاق اسم الخمر على النبيذ بواسطة مشاركته للمعتصر من العنب في
الشدة المطربة المخمرة على العقل وكإطلاق اسم السارق على النباش بواسطة
مشاركته للسارقين من الأحياء في أخذ المال على سبيل الخفية وكإطلاق اسم
الزاني على اللائط بواسطة مشاركته للزاني في إيلاج الفرج المحرم والمختار
أنه لا قياس وذلك لأنه إما أن ينقل عن العرب أنهم وضعوا اسم الخمر لكل مسكر
أو للمعتصر من العنب خاصة أو لم ينقل شيء من ذلك.
فإن كان الأول فاسم
الخمر ثابت للنبيذ بالتوقيف لا بالقياس وإن كان الثاني فالتعدية تكون على
خلاف المنقول عنهم ولا يكون ذلك من لغتهم.
وإن كان الثالث فيحتمل أن
يكون الوصف الجامع الذي به التعدية دليلاً على التعدية ويحتمل أن لا يكون
دليلاً بدليل ما صرح بذلك وإذا احتمل احتمل فليس أحد الأمرين أولى من الآخر
فالتعدية تكون ممتنعة.
فإن قيل الوصف الجامع وإن احتمل أن لا يكون
دليلاً غير أن احتمال كونه دليلاً أظهر وبيانه من ثلاثة أوجه: الأول إن
الاسم دار مع الوصف في الأصل وجوداً وعدماً والدوران دليل كون وجود الوصف
أمارة على الاسم فيلزم من وجوده في الفرع وجود الاسم.
الثاني إن العرب
إنما سمت باسم الفرس والإنسان الذي كان في زمانهم وكذلك وصفوا الفاعل في
زمانهم بأنه رفع والمفعول نصب وإنما وصفوا بعض الفاعلين والمفعولين ومع ذلك
فالاسم مطرد في زماننا بإجماع أهل اللغة في كل إنسان وفرس وفاعل ومفعول
وليس ذلك إلا بطريق القياس.
الثالث قوله تعالى " فاعتبروا يا أولي
الأبصار " " الحشر 2 " وهو عام في كل قياس ثم ما ذكرتموه باطل بالقياس
الشرعي فإن كل ما ذكرتموه من الأقسام بعينه متحقق فيه ومع ذلك فالقياس صحيح
متبع وهو أيضاً على خلاف مذهب الشافعي فإنه سمي النبيذ خمراً وأوجب الحد
بشربه وأوجب الحد على اللائط قياساً على الزنى وأوجب الكفارة في يمين
الغموس قياساً على اليمين في المستقبل وتأول حديث " الشفعة للجار " بحمله
على الشريك في الممر وقال العرب تسمي الزوجة جاراً فالشريك أولى.
قلنا:
جواب الأول: إن دوران الاسم مع الوصف في الأصل وجوداً وعدماً لا يدل على
كونه علة للاسم بمعنى كونه داعياً إليه وباعثاً بل إن كان ولا بد فبمعنى
كونه أمارة وكما دار مع اسم الخمر مع الشدة المطربة دار مع خصوص شدة
المعتصر من العنب وذلك غير موجود في النبيذ فلا قياس ثم ما ذكروه منتقض
بتسمية العرب للرجل الطويل نخلة والفرس الأسود أدهم والملون بالبياض
والسواد أبلق والاسم فيه دائر مع الوصف في الأصل وجوداً وعدماً ومع ذلك لم
يسموا الفرس والجمل لطوله نخلة ولا الإنسان المسود أدهم ولا المتلون من
باقي الحيوانات بالسواد والبياض أبلق وكل ما هو جوابهم في هذه الصور جوابنا
في موضع النزاع.
وجواب الثاني أن ما وقع الاستشهاد به لم يكن مستند
التسمية فيه على الإطلاق القياس بل العرب وضعت تلك الأسماء للأجناس
المذكورة بطريق العموم لا أنها وضعتها للمعين ثم طرد القياس في الباقي.
وجواب
الثالث بمنع العموم في كل اعتبار وإن كان عاماً في المعتبر فلا يدخل فيه
القياس في اللغة وأما النقض بالقياس الشرعي فغير متجه من جهة أن اجتماع
الأمة من السلف عندنا أوجب الإلحاق عند ظن الاشتراك في علة حكم الأصل حتى
إنه لو لم يكن إجماع لم يكن قياس ولا إجماع فيما نحن فيه من الأمة السابقة
على الإلحاق فلا قياس.
وأما تسمية الشافعي رضي الله عنه النبيذ خمراً
فلم يكن في ذلك مستنداً إلى القياس بل إلى قوله عليه السلام " إن من التمر
خمراً " وهو توقيف لا قياس وإيجابه للحد في اللواط وفي النبش لم يكن لكون
اللواط زنى ولا لكون النبش سرقة بل لمساواة اللواط للزنى والنبش للسرقة في
المفسدة المناسبة للحد المعتبر في الشرع.
وأما يمين الغموس فإنما سميت يميناً لا بالقياس بل بقوله صلى الله عليه وسلم " اليمن الغموس تدع الديار بلاقع " فكان ذلك بالتوقيف.
وأما
تسمية الشافعي للشريك جاراً إنما كان بالتوقيف لا بالقياس على الزوجة
وإنما ذكر الزوجة لقطع الاستبعاد في تسمية الشريك جاراً لزيادة قربه
بالنسبة إلى الجار الملاصق فقال: الزوجة أقرب من الشريك وهي جار فلا يستبعد
ذلك فيما هو أبعد منها وبتقدير أن يكون قائلاً بالقياس في اللغة إلا أن
غيره مخالف له والحق من قوليهما أحق أن يتبع.الفصل الخامس
في الفعل وأقسامه
والفعل
ما دل على حدث مقترن بزمان محصل والحدث المصدر وهو اسم الفعل والزمان
المحصل الماضي والحال والمستقبل وهو منقسم بحسب انقسام الزمان فالماضي منه
كقام وقعد.
والحاضر والمستقبل في اللفظ واحد ويسمى المضارع وهو ما في
أوله إحدى الزوائد الأربع وهي: الهمزة والتاء والنون والياء كقولك: أقوم
وتقوم ونقوم ويقوم وتخليص المستقبل عن الحاضر بدخول السين أو سوف عليه
كقولك: سيقوم وسوف يقوم وأما فعل الأمر فما نزع منه حرف المضارعة لا غير
كقولك في يقوم قم ونحوه.
ويدخل في هذه الأقسام فعل ما لم يسم فاعله وأفعال القلوب والجوارح والأفعال الناقصة وأفعال المدح والذم والتعجب.
والفعل
وإن كان كلمة مفردة عند النحاة مطلقاً فعند الحكماء المفرد منه إنما هو
الماضي دون المضارع وذلك لأن حرف المضارعة في المضارع هو الدال على الموضوع
معيناً كان أو غير معين والمفرد هو الدال الذي لا جزء له يدل على شيء
أصلاً على ما سبق تحقيقه في حد المفرد وهو بخلاف الماضي فإنه وإن دل على
الفعل وعلى موضوعه فليس فيه حرف يدل على الموضوع فكان مفرداً.
وقد ألحق
بعضهم ما كان من المضارع الذي في أوله الياء بالماضي في الإفراد دون غيره
لاشتراكهما في الدلالة على الفعل وعلى موضوع له غير معين وليس بحق فإنهما
وإن اشتركا في هذا المعنى فمفترقان من جهة دلالة الياء على الموضوع الذي
ليس معيناً بخلاف الماضي حيث إنه لم يوجد منه حرف يدل على الموضوع كما سبق.
الفصل السادسما دل على حدث مقترن بزمان محصل والحدث المصدر وهو اسم الفعل والزمان
المحصل الماضي والحال والمستقبل وهو منقسم بحسب انقسام الزمان فالماضي منه
كقام وقعد.
والحاضر والمستقبل في اللفظ واحد ويسمى المضارع وهو ما في
أوله إحدى الزوائد الأربع وهي: الهمزة والتاء والنون والياء كقولك: أقوم
وتقوم ونقوم ويقوم وتخليص المستقبل عن الحاضر بدخول السين أو سوف عليه
كقولك: سيقوم وسوف يقوم وأما فعل الأمر فما نزع منه حرف المضارعة لا غير
كقولك في يقوم قم ونحوه.
ويدخل في هذه الأقسام فعل ما لم يسم فاعله وأفعال القلوب والجوارح والأفعال الناقصة وأفعال المدح والذم والتعجب.
والفعل
وإن كان كلمة مفردة عند النحاة مطلقاً فعند الحكماء المفرد منه إنما هو
الماضي دون المضارع وذلك لأن حرف المضارعة في المضارع هو الدال على الموضوع
معيناً كان أو غير معين والمفرد هو الدال الذي لا جزء له يدل على شيء
أصلاً على ما سبق تحقيقه في حد المفرد وهو بخلاف الماضي فإنه وإن دل على
الفعل وعلى موضوعه فليس فيه حرف يدل على الموضوع فكان مفرداً.
وقد ألحق
بعضهم ما كان من المضارع الذي في أوله الياء بالماضي في الإفراد دون غيره
لاشتراكهما في الدلالة على الفعل وعلى موضوع له غير معين وليس بحق فإنهما
وإن اشتركا في هذا المعنى فمفترقان من جهة دلالة الياء على الموضوع الذي
ليس معيناً بخلاف الماضي حيث إنه لم يوجد منه حرف يدل على الموضوع كما سبق.
في الحرف وأصنافه
الحرف
ما دل على معنى في غيره وهو على أصناف: منها حرف الإضافة وهو ما يفضي
بمعاني الأفعال إلى الأسماء وهو ثلاثة أقسام: الأول منه ما لا يكون إلا
حرفاً كمن وإلى وحتى وفي والباء واللام ورب وواو القسم وتائه.
أما من
فهي قد تكون لابتداء الغاية كقولك سرت من بغداد وللتبعيض كقولك أكلت من
الخبز ولبيان الجنس كقولك خاتم من حديد وزائدة كقولك ما جاءني من أحد.
وأما
إلى فهي قد تكون لانتهاء الغاية كقولك سرت إلى بغداد وبمعنى مع كقوله
تعالى " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " " النساء 2 " وأما حتى ففي معنى
إلى.
وأما في فللظرفية كقولك وزيد في الدار وقد ترد بمعنى على كقوله
تعالى " ولأصلبنكم في جذوع النخل " " طه 71 " وقد يتجوز بها في قولهم نظرت
في العلم الفلاني.
وأما الباء فللإلصاق كقولك به داء وقد تكون للاستعانة
كقولك كتبت بالقلم والمصاحبة كقولك اشتريت الفرس بسرجه وقد ترد بمعنى على
قال الله تعالى " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن
تأمنه بدينار لا يؤده إليك " " آل عمران 75 " أي على قنطار وعلى دينار وقد
ترد بمعنى من أجل قال الله تعالى " ولم أكن بدعائك رب شقياً " " مريم 4 "
أي لأجل دعائك وقيل بمعنى في دعائك وقد تكون زائدة كقوله تعالى " ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة " " البقرة 195 " .
وأما اللام فهي للاختصاص كقولك: المال لزيد وقد تكون زائدة كقوله ردف لكم.
وأما رب فهي للتقليل ولا تدخل إلا على النكرة كقولك رب رجل عالم.
وأما واو القسم فمبدلة عن باء الإلصاق في قولك أقسمت بالله والتاء مبدلة من الواو في تالله.
القسم الثاني: ما يكون حرفاً واسماً كعلي وعن والكاف ومذ ومنذ.
فأما على فهي للاستعلاء وهي إما حرف كقولك على زيد دين وإما اسم كقول الشاعر:
غدت من عليه بعد ما تم ظمئها ... تصل وعن قيض بزيزاء مجهل
وأما عن فللمباعدة: وهي إما حرف كقوله تعالى " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " " النور 62 " وإما اسم كقولك جلست من عن يمينه.
وأما الكاف فقد تكون حرفاً للتشبيه كقولك زيد كعمرو وقد تكون اسماً كقول الشاعر:
ما دل على معنى في غيره وهو على أصناف: منها حرف الإضافة وهو ما يفضي
بمعاني الأفعال إلى الأسماء وهو ثلاثة أقسام: الأول منه ما لا يكون إلا
حرفاً كمن وإلى وحتى وفي والباء واللام ورب وواو القسم وتائه.
أما من
فهي قد تكون لابتداء الغاية كقولك سرت من بغداد وللتبعيض كقولك أكلت من
الخبز ولبيان الجنس كقولك خاتم من حديد وزائدة كقولك ما جاءني من أحد.
وأما
إلى فهي قد تكون لانتهاء الغاية كقولك سرت إلى بغداد وبمعنى مع كقوله
تعالى " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " " النساء 2 " وأما حتى ففي معنى
إلى.
وأما في فللظرفية كقولك وزيد في الدار وقد ترد بمعنى على كقوله
تعالى " ولأصلبنكم في جذوع النخل " " طه 71 " وقد يتجوز بها في قولهم نظرت
في العلم الفلاني.
وأما الباء فللإلصاق كقولك به داء وقد تكون للاستعانة
كقولك كتبت بالقلم والمصاحبة كقولك اشتريت الفرس بسرجه وقد ترد بمعنى على
قال الله تعالى " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن
تأمنه بدينار لا يؤده إليك " " آل عمران 75 " أي على قنطار وعلى دينار وقد
ترد بمعنى من أجل قال الله تعالى " ولم أكن بدعائك رب شقياً " " مريم 4 "
أي لأجل دعائك وقيل بمعنى في دعائك وقد تكون زائدة كقوله تعالى " ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة " " البقرة 195 " .
وأما اللام فهي للاختصاص كقولك: المال لزيد وقد تكون زائدة كقوله ردف لكم.
وأما رب فهي للتقليل ولا تدخل إلا على النكرة كقولك رب رجل عالم.
وأما واو القسم فمبدلة عن باء الإلصاق في قولك أقسمت بالله والتاء مبدلة من الواو في تالله.
القسم الثاني: ما يكون حرفاً واسماً كعلي وعن والكاف ومذ ومنذ.
فأما على فهي للاستعلاء وهي إما حرف كقولك على زيد دين وإما اسم كقول الشاعر:
غدت من عليه بعد ما تم ظمئها ... تصل وعن قيض بزيزاء مجهل
وأما عن فللمباعدة: وهي إما حرف كقوله تعالى " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " " النور 62 " وإما اسم كقولك جلست من عن يمينه.
وأما الكاف فقد تكون حرفاً للتشبيه كقولك زيد كعمرو وقد تكون اسماً كقول الشاعر:
يضحكن عن كالبرد المنهم
وأما مذ ومنذ فحرفان لابتداء الغاية في الزمان تقول: ما رأيته مذ اليوم ومنذ يوم الجمعة وقد يكونان اسمين إذا رفعا ما بعدهما.
القسم الثالث: ما يكون حرفاً وفعلاً كحاشا وخلا وعدا فإنها تخفض ما بعدها بالحرفية وقد تنصبه بالفعلية.
ومنها الحرف المضارع للفعل وهو ينصب الاسم ويرفع الخبر مثل إن وأن ولكن وكأن وليت ولعل.
ومنها
حروف العطف وهي عشرة: منها أربعة تشترك في جميع المعطوف والمعطوف عليه في
حكم غير أنها تختلف في أمور أخرى وهذه هي الواو والفاء وثم وحتى.
أما
الواو فقد اتفق جماهير أهل الأدب على أنها للجمع المطلق غير مقتضية ترتيباً
ولا معية ونقل عن بعضهم أنها للترتيب مطلقاً ونقل عن الفراء أنها للترتيب
حيث يستحيل الجمع كقوله " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا " وقيل إنها
ترد بمعنى أو كقوله تعالى " أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " " فاطر 1 " قيل
أراد مثنى أو ثلاث أو رباع وقد ترد للاستئناف كالواو في قوله تعالى " وما
يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمناً به " " آل عمران 7 "
تقديره والراسخون يقولون آمنا به وقد ترد بمعنى مع في باب المفعول معه
تقول جاء البرد والطيالسة وقد ترد بمعنى إذ قال الله تعالى " ثم أنزل عليكم
من بعد الغم أمنة نعاساً " إلى قوله " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " " آل
عمران 154 " أي إذ طائفة قد أهمتهم أنفسهم احتج القائلون بالجمع المطلق من
تسعة أوجه.
الأول: أنه لو كانت الواو في قول القائل رأيت زيداً وعمراً
للترتيب لما صح قوله تعالى " ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة " " البقرة 58 "
في آية وفي آية أخرى " وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً " " الأعراف 161 "
مع اتحاد القضية لما فيه من جعل المتقدم متأخراً ومتقدماً.
الثاني: أنه لو كانت للترتيب لما حسن قول القائل تقاتل زيد وعمرو إذ لا ترتيب فيه.
الثالث: أنه كان يلزم أن يكون قول القائل جاء زيد وعمرو كاذباً عند مجيئهما معاً أو تقدم المتأخر وليس كذلك.
الرابع: أنه كان يلزم أن يكون قوله رأيت زيداً وعمراً بعده تكريراً وقبله تناقضاً.
الخامس: أنها لو كانت للترتيب لما حسن الاستفسار عن تقدم أحدهما وتأخر الآخر لكونه مفهوماً من ظاهر العطف.
السادس: أنه كان يجب على العبد الترتيب عند قول سيده له إيت بزيد وعمرو.
السابع:
هو أن واو العطف في الأسماء المختلفة جارية مجرى واو الجمع وفي الأسماء
المتماثلة مجرى ياء التثنية وهما لا يقتضيان الترتيب فكذلك ما هو جار
مجراهما.
الثامن: أن الجمع المطلق معقول فلا بد له من حرف يفيده وليس ثم من الحروف ما يفيده سوى الواو بالإجماع فتعين أن يكون هو الواو.
التاسع:
أنها لو أفادت الترتيب لدخلت في جواب الشرط كالفاء ولا يحسن أن يقال إذا
دخل زيد الدار وأعطه درهماً كما يحسن أن يقال فأعطه درهماً.
ولقائل أن
يقول: على الوجه الأول إذا كان من أصل المخالف أن الواو ظاهرة في الترتيب
فلا يمنع ذلك من حملها على غير الترتيب تجوزاً وعلى هذا فحيث تعذر حملها
على الترتيب في الآيتين المذكورتين لا يمنع من استعمالها في غير الترتيب
بجهة التجوز وكذلك الكلام في قولهم تقاتل زيد وعمرو ولا يلزم من التجوز
بالواو في غير الترتيب أن يتجوز عنه بالفاء وثم إذ هو غير لازم مع اختلاف
الحروف.
وعلى الوجه الثالث: أنه لا يلزم أن يكون كاذباً بتقدير المعية
أو تقدم المتأخر في اللفظ لإمكان التجوز بها عن الجمع المطلق كما لو قال
رأيت أسداً وكان قد رأى إنساناً شجاعاً.
وعلى الرابع: أنه إذا قال: رأيت
زيداً وعمراً بعده لا يكون تكريراً لأنه يكون مفيداً لامتناع حمله على
الجمع المطلق لاحتمال توهمه بجهة التجوز وإذا قال رأيت زيداً وعمراً قبله
لا يكون تناقضاً لكونه مفيداً لإرادة جهة التجوز.
وعلى الخامس: أنه إنما حسن الاستفسار لاحتمال اللفظ له تجوزاً.
وعلى
السادس: أنه إنما لم يجب على العبد الترتيب نظراً إلى قرينة الحال
المقتضية لإرادة جهة التجوز حتى إنه لو فرض عدم القرينة لقد كان ذلك موجباً
للترتيب.
فإن قيل لو كانت الواو حقيقة في الترتيب فإفادتها للجمع
المطلق عند تفسيرها به إن كان مجازاً فهو خلاف الأصل وإن كان حقيقة فليزم
منه الاشتراك وهو أيضاً على خلاف الأصل.
قلنا: ولو كانت حقيقة في
الجمع المطلق فإفادتها للترتيب عند تفسيرها به وإن كان مجازاً فهو خلاف
الأصل وإن كان حقيقة كان مشتركاً وهو خلاف الأصل وليس أحد الأمرين أولى من
الآخر.
فإن قيل: بل ما ذكرناه أولى لأنها إذا كانت حقيقة في الترتيب خلا
الجمع المطلق عن حرف يخصه ويدل عليه وإذا كانت حقيقة في الجمع المطلق لم
يخل الترتيب عن حرف يدل عليه لدلالة الفاء وثم عليه.
قلنا: فنحن إنما
نجعلها حقيقة في الترتيب المطلق المشترك بين الفاء وثم وذلك مما لا تدل
عليه الفاء و ثم دلالة مطابقة بل إما بجهة التضمن أو الالتزام وكما أنها
تدل على الترتيب المشترك بدلالة التضمن أو الالتزام فتدل على الجمع المطلق
هذه الدلالة وعند ذلك فليس إخلاء الترتيب المشترك عن لفظ يطابقه أولى من
إخلاء الجمع المطلق.
وعلى السابع: أن ما ذكروه إنما يلزم أن لو كانت
الواو جارية مجرى واو الجمع وياء التثنية مطلقاً وليس كذلك لأنه لا مانع من
كونها جارية مجراهما في مطلق الجمع مع كونها مختصة بالترتيب كما في الفاء
وثم.
وعلى الثامن: أنه كما أن الجمع المطلق معقول ولا بد له من حرف يدل
عليه فالترتيب المطلق أيضاً معقول ولا بد له من حرف يدل عليه وليس ما يفيده
بالإجماع سوى الواو فتعين كيف وإن الجمع المطلق حاصل بقوله رأيت زيداً
رأيت عمراً.
وعلى التاسع: أن ما ذكروه منتقض بثم وبعد وأما المثبتون
للترتيب فقد احتجوا بالنقل والحكم والمعنى أما النقل فقوله تعالى " يا أيها
الذين آمنوا اركعوا واسجدوا " " الحج 87 " فإنه مقتض للترتيب وأيضاً ما
روي أنه لما نزل قوله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله " " البقرة
158 " قال الصحابة للنبي عليه السلام بم نبدأ؟ قال " ابدؤوا بما بدأ الله
به " ولولا أن الواو للترتيب لما كان كذلك وأيضاً ما روي أن واحداً قام بين
يدي رسول الله وقال من أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى
فقال عليه السلام " بئس خطيب القوم أنت قل ومن عصى الله ورسوله فقد غوى "
ولو كانت الواو للجمع المطلق لما وقع الفرق وأيضاً ما روي عن عمر أنه قال
لشاعر قال كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً لو قدمت الإسلام على الشيب
لأجزتك وكان عمر من أهل اللسان وذلك يدل على الترتيب وأيضاً ما روي أن
الصحابة أنكروا على ابن عباس وقالوا له لم تأمرنا بالعمرة قبل الحج وقد قال
الله " وأتموا الحج والعمرة لله " " البقرة 196 " وكانوا أيضاً من أهل
اللسان وذلك يدل على الترتيب ولولا أن الواو للترتيب لما كان كذلك.
وأما
الحكم فإنه لو قال الزوج لزوجته قبل الدخول بها أنت طالق وطالق وطالق وقع
بها طلقة واحدة ولو كانت الواو للجمع المطلق لوقعت الثلاث كما لو قال لها:
أنت طالق ثلاثاً.
وأما المعنى فهو أن الترتيب في اللفظ يستدعي سبباً والترتيب في الوجود صالح له فوجب الحمل عليه.
أجاب
النافون عن النقل: أما الآية فلا نسلم أن الترتيب مستفاد منها بل من دليل
آخر وهو أن النبي عليه السلام صلى ورتب الركوع قبل السجود وقال " صلوا كما
رأيتموني أصلي " ولو كانت الواو للترتيب لما احتاج النبي عليه السلام إلى
هذا البيان.
وأما قوله عليه السلام " ابدؤوا بما بدأ الله به " فهو دليل
عليهم حيث سأله الصحابة عن ذلك مع أنهم من أهل اللسان ولو كانت الواو
للترتيب لما احتاجوا إلى ذلك السؤال.
ولقائل أن يقول: ولو كانت للجمع
المطلق لما احتاجوا إلى السؤال فيتعارضان ويبقى قوله عليه السلام " ابدؤوا
بما بدأ الله به " وهو دليل الترتيب.
وأما قوله عليه السلام " قل ومن
عصى الله ورسوله فقد غوى " إنما قصد به إفراد ذكر الله تعالى أولا مبالغة
في تعظيمه لا أن الواو للترتيب ويدل عليه أن معصية الله ورسوله لا انفكاك
لإحداهما عن الأخرى حتى يتصور فيهما الترتيب.
وأما قول عمر فمبني على قصد التعظيم بتقديم ذكر الأعظم على قصد الترتيب.
وأما
قصة الصحابة مع ابن عباس فلم يكن مستند إنكارهم لأمره بتقديم العمرة على
الحج كون الآية مقتضية لترتيب العمرة بعد الحج بل لأنها مقتضية للجمع
المطلق وأمره بالترتيب مخالف لمقتضى الآية كيف وإن فهمهم لترتيب العمرة على
الحج من الآية معارض بما فهمه ابن عباس وهو ترجمان القرآن.
وأما
الحكم فهو ممنوع على أصل من يعتقد أن الواو للجمع المطلق وبه قال أحمد بن
حنبل وبعض أصحاب مالك والليث بن سعد وربيعة بن أبي ليلى وقد نقل عن الشافعي
ما يدل عليه في القديم وإن سلم ذلك فالوجه في تخريجه أن يقال: إذا قال لها
أنت طالق ثلاثاً فالأخير تفسير للأول والكلام يعتبر بجملته بخلاف قوله:
أنت طالق وطالق وطالق.
وأما المعنى فهو منقوض بقوله: رأيت زيداً رأيت
عمراً فإن تقديم أحد الاسمين في الذكر لا يستدعي تقديمه في نفس الأمر
إجماعاً كيف وإنه يجوز أن يكون السبب في تقديمه ذكراً لزيادة حبه له
واهتمامه بالإخبار عنه أو لأنه قصد الإخبار عنه لا غير ثم تجدد له قصد
الإخبار عن الآخر عند إخباره عن الأول.
وبالجملة فالكلام في هذه المسألة
متجاذب وإن كان الأرجح هو الأول في النفس وأما الفاء وثم وحتى فإنها تقتضي
الترتيب وتختلف من جهات أخر.
فأما الفاء فمقتضاها إيجاب الثاني بعد
الأول من غير مهلة هذا مما اتفق الأدباء على نقله عن أهل اللغة وقوله تعالى
" وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا " " الأعراف 4 " وإن كان مجيء البأس
لا يتأخر عن الهلاك فيجب تأويله بالحكم بمجيء البأس بعد هلاكها ضرورة
موافقة للنقل وقوله تعالى " لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب " " طه
61 " وقوله تعالى " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة " "
البقرة 283 " فإنه وإن كان الإسحات بالعذاب مما يتراخى عن الافتراء بالكذب
وكذلك الرهن مما يتراخى عن المداينة غير أنه يجب تأويله بأن حكم الافتراء
الإسحات وحكم المداينة الرهنية لما ذكرناه من موافقة النقل وقد ترد الفاء
مورد الواو كقول الشاعر:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وأما ثم فإنها
توجب الثاني بعد الأول بمهلة وقوله تعالى " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل
صالحاً ثم اهتدى " " طه 82 " وإن كان الاهتداء يتراخى عن التوبة والإيمان
والعمل الصالح فيجب حمله على دوام الاهتداء وثباته ضرورة موافقة النقل وقيل
إنها قد ترد بمعنى الواو كقوله تعالى " فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما
يفعلون " " يونس 46 " لاستحالة كونه شاهداً بعد أن لم يكن شاهداً.
وأما
حتى فموجبة لكون المعطوف جزءاً من المعطوف عليه نحو قولك: مات الناس حتى
الأنبياء وقدم الحاج حتى المشاة فالأول أفضله والثاني دونه وثلاثة منها
تشترك في تعليق الحكم بأحد المذكورين وهي أو وإما وأم.
إلا أن أو وإما
يقعان في الخبر والأمر والاستفهام وأم لا تقع إلا في الاستفهام غير أن أو
وإما في الخبر للشك تقول جاء زيد أو عمرو وجاء إما زيد وإما عمرو وفي الأمر
للتخيير تقول: اضرب زيداً أو عمراً واضرب إما زيداً وإما عمراً وللإباحة
تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين وأو في الاستفهام مع الشك في وجود الأمرين
وأم مع العلم بأحدهما والشك في تعيينه.
وثلاثة منها تشترك في أن المعطوف
مخالف للمعطوف عليه في حكمه وهي: لا وبل ولكن تقول: جاءني زيد لا عمر بل
عمرو وما جاءني زيد لكن عمرو ومنها حروف النفي وهي: ما ولا ولم ولما ولن
وإن بالتخفيف.
فأما ما فلنفي الحال أو الماضي القريب من الحال كقولك ما
تفعل ما فعل وأما لا فلنفي المستقبل إما خبراً كقولك لا رجل في الدار أو
نهياً كقولك: لا تفعل أو دعاء كقولك لا رعاك الله وأما لم ولما فلقلب
المضارع إلى الماضي تقول: لم يفعل ولما يفعل.
ولن لتأكيد المستقبل
كقولك: لن أبرح اليوم مكاني تأكيداً كقولك: لا أبرح اليوم مكاني وإن لنفي
الحال كقوله تعالى " إن كانت إلا صيحة واحدة " " يس 29 " .
ومنها حروف
التنبيه وهي: ها وألا وأما تقول: ها أفعل كذا وألا زيد قائم وأما إنك خارج
ومنها حروف النداء وهي: يا وأيا وهيا وأي والهمزة ووا والثلاثة الأول لنداء
البعيد وأي والهمزة للقريب ووا للندبة.
ومنها حروف التصديق والإيجاب
وهي نعم وبلى وأجل وجير وإي وإن فنعم مصدقة لما سبق من قول القائل: قام زيد
ما قام زيد وبلى لإيجاب ما نفي كقولك: بلى لمن قال: ما قام زيد وأجل
لتصديق الخبر لا غير كقولك: أجل لمن قال: جاء زيد.
وجير وإن وإي للتحقيق تقول: جير لأفعلن كذلك وإن الأمر كذا وإي والله ومنها حروف الاستثناء وهي إلا وحاشا وعدا وخلا.
والحرف المصدري وهو ما في قولك: أعجبني ما صنعت أي صنعك وأن في قولك: أريد أن تفعل كذا أي فعلك.
وحروف التحضيض وهي: لولا ولوما وهلا وألا فعلت كذا إذا أردت الحث على الفعل.
وحرف تقريب الماضي من الحال وهو قد في قولك: قد قام زيد.
وحروف الاستفهام وهي: الهمزة وهل في قولك: أزيد قام؟ وهل زيد قائم؟.
وحروف الاستقبال وهي السين وسوف وأن ولا وإن في قولك: سيفعل وسوف يفعل وأريد أن تفعل ولا تفعل وإن تفعل.
وحروف الشرط وهي: إن ولو في قولك: إن جئتني ولو جئتني أكرمتك.
وحرف التعليل وهو كي في قولك: قصدت فلاناً كي يحسن إلي.
وحرف الردع وهو كلا في قولك جواباً لمن قال لك: إن الأمر كذا.
ومنها
حروف اللامات وهي لام التعريف الداخلة على الاسم المنكر لتعريفه كالرجل
ولام جواب القسم في قولك والله لأفعلن كذا والموطئة للقسم في قولك: والله
لئن أكرمتني لأكرمنك ولام جواب لو ولولا في قولك: لو كان كذا لكان كذا
ولولا كان كذا لكان كذا ولام الأمر في قولك ليفعل زيد ولام الابتداء في
قولك لزيد منطلق ومنها تاء التأنيث الساكنة في قولك فعلت ومنها التنوين
والنون المؤكدة في قولك: والله لأفعلن كذا وهذا آخر الكلام في النوع الأول.
النوع
الثاني في تحقيق مفهوم المركب من مفردات الألفاظ وهو الكلام. اعلم أن اسم
الكلام قد يطلق على العبارات الدالة بالوضع تارة وعلى مدلولها القائم
بالنفس تارة على ما حققناه في كتبنا الكلامية والمقصود هاهنا إنما هو معنى
الكلام اللساني دون النفساني.
والكلام اللساني قد يطلق تارة على ما ألف
من الحروف والأصوات من غير دلالة على شيء ويسمى مهملاً وإلى ما يدل ولهذا
يقال في اللغة: هذا كلام مهمل وهذا كلام غير مهمل وسواء كان إطلاق الكلام
على المهمل حقيقة أو مجازاً والغرض هاهنا إنما هو بيان الكلام الذي ليس
بمهمل لغة وقد اختلف فيه: فذهب أكثر الأصوليين إلى أن الكلمة الواحدة إذا
كانت مركبة من حرفين فصاعداً كلام ولا جرم قالوا في حده هو ما انتظم من
الحروف المسموعة المميزة المتواضع على استعمالها الصادرة عن مختار واحد
وقصدوا بالقيد الأول الاحتراز عن الحرف الواحد كالزاي من زيد وبالقيد
الثاني الاحتراز عن حروف الكتابة وبالقيد الثالث الاحتراز عن أصوات كثيرة
من البهائم والمهملات من الألفاظ وبالقيد الرابع الاحتراز عن الاسم الواحد
إذا صدرت حروفه كل حرف من شخص فإنه لا يسمى كلاماً.
ومنهم من قال: إن
الكلمة الواحدة لا تسمى كلاماً لكن اختلفوا فيما اجتمع من كلمات وهو غير
مفيد كقول القائل: زيد لا كلما ونحوه هل هو كلام فمنهم من قال: إنه كلام
لأن آحاد كلماته وضعت للدلالة ومنهم من لم يسمه كلاماً والنزاع في إطلاق
اسم الكلام في هذه الصور مائل إلى الاصطلاح الخارج عن وضع اللغة باتفاق من
أهل الأدب وأما مأخذه في اصطلاح أهل اللغة قال الزمخشري: وهو ناقد بصير في
هذه الصناعة الكلام هو المركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى فقوله
المركب من كلمتين احتراز عن الكلمة الواحدة وقوله أسندت إحداهما إلى الأخرى
احتراز عن قولك زيد عمرو وعن قولك: زيد على أو زيد في أو قام في فإن
المجموع منهما مركب من كلمتين وليس بكلام لعدم إسناد إحداهما إلى الأخرى
وأقل ما يكون ذلك من اسمين كقولك: زيد قائم أو اسم وفعل كقولك: زيد قام
وتسمى الأولى جملة اسمية والثانية جملة فعلية ولا يتركب الكلام من الاسم
والحرف فقط ولا من الأفعال وحدها ولا من الحروف ولا من الأفعال والحروف.
فإن
قيل: ما ذكرتموه من الحد منتقض بما تركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى
الأخرى وهما مهملتان فإنه لا يكون كلاماً وذلك كما لو أسندت مقلوب زيد إلى
مقلوب رجل فقلت زيد هو لجر.
قلنا: المراد من الكلمة التي منها التأليف
اللفظة الواحدة الدالة بالوضع على معنى مفرد ولا وجود لذلك فيما ذكروه غير
أن ما ذكروه من الحد يدخل فيه قول القائل حيوان ناطق وإنسان عالم وغير ذلك
من النسب التقييدية فإنه لا يعد كلاماً مفيداً وإن أسند فيه إحدى الكلمتين
إلى الأخرى والوجب أن يقال: الكلام ما تألف من كلمتين تأليفا يحسن السكوت
عليه.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى