صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
الأصل الثاني
في مبدأ اللغات وطرق معرفتها
أول ما يجب
تقديمه أن ما وضع من الألفاظ الدالة على معانيها هل هو لمناسبة طبيعية بين
اللفظ ومعناه أم لا فذهب أرباب علم التكسير وبعض المعتزلة إلى ذلك مصيراً
منهم إلى أنه لو لم يكن بين اللفظ ومعناه مناسبة طبيعية لما كان اختصاص ذلك
المعنى بذلك اللفظ أولى من غيره ولا وجه له فإنا نعلم أن الواضع في ابتداء
الوضع لو وضع لفظ الوجود على العدم والعدم على الوجود واسم كل ضد على
مقابله لما كان ممتنعاً كيف وقد وضع ذلك كما في اسم الجون والقرء ونحوه
والاسم الواحد لا يكون مناسباً بطبعه لشيء ولعدمه وحيث خصص الواضع بعض
الألفاظ ببعض المدلولات إنما كان ذلك نظراً إلى الإرادة المخصصة كان الواضع
هو الله تعالى أو المخلوق إما لغرض أو لا لغرض وإذا بطلت المناسبة
الطبيعية وظهر أن مستند تخصيص بعض الألفاظ ببعض المعاني إنما هو الوضع
الاختياري فقد اختلف الأصوليون فيه فذهب الأشعري وأهل الظاهر وجماعة من
الفقهاء إلى أن الواضع هو الله تعالى ووضعه متلقي لنا من جهة التوقيف
الإلهي إما بالوحي أو بأن يخلق الله الأصوات والحروف ويسمعها لواحد أو
لجماعة ويخلق له أو لهم العلم الضروري بأنها قصدت للدلالة على المعاني
محتجين على ذلك بآيات منها قوله تعالى: " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم
على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا
علم لنا إلا ما علمتنا " دل على أن آدم والملائكة لا يعلمون إلا بتعليم
الله تعالى ومنها قوله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء " وقوله تعالى: "
تبياناً لكل شيء " وقوله تعالى: " اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم
الإنسان ما لم يعلم " واللغات داخلة في هذه المعلومات وقوله تعالى: " إن هي
إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان " ذمهم على
تسمية بعض الأشياء من غير توقيف فدل على أن ما عداها توقيف وقوله تعالى: "
ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم " والمراد به اللغات لا نفس
اختلاف هيئات الجوارح من الألسنة لأن اختلاف اللغات أبلغ في مقصود الآية
فكان أولى بالحمل عليه.
وذهبت البهشمية وجماعة من المتكلمين إلى أن ذلك
من وضع أرباب اللغات واصطلاحهم وأن واحدا أو جماعة انبعثت داعيته أو
دواعيهم إلى وضع هذه الألفاظ بازاء معانيها ثم حصل تعريف الباقين بالإشارة
والتكرار كما يفعل الوالدان بالولد الرضيع وكما يعرف الأخرس ما في ضميره
بالإشارة والتكرار مرة بعد أخرى محتجين على ذلك بقوله تعالى: " وما أرسلنا
من رسول إلا بلسان قومه " وهذا دليل على تقدم اللغة على البعثة والتوقيف.
وذهب
الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائني إلى أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى
التواضع بالتوقيف وإلا فلو كان بالاصطلاح فالاصطلاح عليه متوقف على ما
يدعو به الإنسان غيره إلى الاصطلاح على ذلك الأمر فإن كان بالاصطلاح لزم
التسلسل وهو ممتنع فلم يبق غير التوقيف وجوز حصول ما عدا ذلك بكل واحد من
الطريقين.
وذهب القاضي أبو بكر وغيره من أهل التحقيق إلى أن كل واحد من
هذه المذاهب ممكن بحيث لو فرض وقوعه لم يلزم عنه محال لذاته وأما وقوع
البعض دون البعض فليس عليه دليل قاطع والظنون فمتعارضة يمتنع معها المصير
إلى التعيين.
هذا ما قيل والحق أن يقال إن كان المطلوب في هذه المسألة
يقين الوقوع لبعض هذه المذاهب فالحق ما قاله القاضي أبو بكر إذ لا يقين من
شيء منها على ما يأتي تحقيقه.
وإن كان المقصود إنما هو الظن وهو الحق
فالحق ما صار إليه الأشعري لما قيل من النصوص لظهورها في المطلوب فإن قيل
لا نسلم ظهور النصوص المذكورة في المطلوب.
أما قوله تعالى: " وعلم آدم
الأسماء كلها " فالمراد بالتعليم إنما هو إلهامه وبعث داعيته على الوضع
وسمي بذلك معلماً لكونه الهادي إليه لا بمعنى أنه أفهمه ذلك بالخطاب على ما
قال تعالى في حق داود: " وعلمناه صنعة لبوس لكم " معناه ألهمناه ذلك وقوله
تعالى في حق سليمان: " ففهمناها سليمان " أي ألهمناه.
سلمنا أن
المراد به الإفهام بالخطاب والتوقيف ولكن أراد به كل الأسماء مطلقاً أو
الأسماء التي كانت موجودة في زمانه الأول ممنوع والثاني مسلم سلمنا أنه
أراد به جميع الأسماء مطلقاً غير أن ذلك يدل على أن علم آدم بها كان
توقيفياً ولا يلزم أن يكون أصلها بالتوقيف لجواز أن يكون من مصطلح خلق سابق
على آدم والباري تعالى علمه ما اصطلح عليه غيره.
سلمنا أن جميع الأسماء
المعلومة لآدم بالتوقيف له ولكنه يحتمل أنه أنسيها ولم يوقف عليها من بعده
واصطلح أولاده من بعده على هذه اللغات والكلام إنما هو في هذه اللغات.
وأما
قول الملائكة " لا علم لنا إلا ما علمتنا " فلا يدل على أن أصل اللغات
التوقيف لما عرف في حق آدم وقوله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء "
فالمراد به أن ما ورد في الكتاب لا تفريط فيه وإن كان المراد به أنه بين
فيه كل شيء فلا منافاة بينه وبين كونه معرفاً للغات من تقدم.
وعلى هذا
يخرج الجواب عن قوله تعالى: " تبياناً لكل شيء " وعن قوله " علم الإنسان ما
لم يعلم " وأما آية الذم فالذم فيها إنما كان على إطلاقهم أسماء الأصنام
مع اعتقادهم كونها آلهة وأما آية اختلاف الألسنة فهي غير محمولة على نفس
الجارحة بالإجماع فلا بد من التأويل وليس تأويلها بالحمل على اللغات أولى
من تأويلها بالحمل على الإقدار على اللغات كيف وأن التوقيف يتوقف على معرفة
كون تلك الألفاظ دالة على تلك المعاني وذلك لا يعرف إلا بأمر خارج عن تلك
الألفاظ والكلام فيه إن كان توقيفياً كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع فلم
يبق غير الاصطلاح.
ثم ما ذكرتموه معارض بقوله تعالى: " وما أرسلنا من
رسول إلا بلسان قومه " وذلك يدل على سبق اللغات على البعثة والجواب: قولهم:
المراد من تعليم آدم إلهامه بالوضع والاصطلاح مع نفسه وهو خلاف الظاهر من
إطلاق لفظ التعليم ولهذا فإن من اخترع أمراً واصطلح عليه مع نفسه يصح أن
يقال: إنه ما علمه أحد ذلك ولو كان إطلاق التعليم بمعنى الإلهام بما يفعله
الإنسان مع نفسه حقيقة لما صح نفيه وحيث صح نفيه دل على كونه مجازاً والأصل
في الإطلاق الحقيقة ولا يلزم من التأويل فيما ذكروه من التعليم في حق داود
وسليمان التأويل فيما نحن فيه إلا أن الاشتراك في دليل التأويل والأصل
عدمه.
وقولهم: أراد به الأسماء الموجودة في زمانه إنما يصح أن لو لم يكن
جميع الأسماء موجودة في زمانه وهو غير مسلم بل الباري تعالى علمه كل ما
يمكن التخاطب به ويجب الحمل عليه عملا بعموم اللفظ.
قولهم: من الجائز أن
يكون جميع الأسماء من مصطلح من كان قبل آدم قلنا: وإن كان ذلك محتملاً إلا
أن الأصل عدمه فمن ادعاه يحتاج إلى دليل وبه يبطل أنه يحتمل أنه أنسيها إذ
الأصل عدم النسيان وبقاء ما كان على ما كان وعلى هذا فقد خرج الجواب عما
ذكروه من تأويل قول الملائكة " لا علم لنا إلا ما علمتنا " إذ هو مبني على
ما قيل من التأويل في حق آدم وقد عرف جوابه.
قولهم: المراد من قوله
تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء " أنه لا تفريط فيما في الكتاب ليس
كذلك فإن ذلك معلوم لكل عاقل قطعاً فحمل اللفظ عليه لا يكون مفيداً.
قولهم:
لا منافاة بينه وبين كونه معرفاً للغات من تقدم فقد سبق جوابه وبه يخرج
الجواب عما ذكروه على قوله تعالى: " تبياناً لكل شيء " وعن قوله " علم
الإنسان ما لم يعلم " .
قولهم في آية الذم إنما ذمهم على اعتقادهم كون
الأصنام آلهة فهو خلاف الظاهر من إضافة الذم إلى التسمية ولا يقبل من غير
دليل وما ذكروه على الآية الأخيرة فلا يخفى أن الترجيح بحمل اللفظ على
اختلاف اللغات دون حمله على الإقدار على اللغات لكونه أقل في الإضمار إذ هو
يفتقر إلى إضمار اللغات لا غير وما ذكروه يفتقر إلى إضمار القدرة على
اللغات فلا يصار إليه.
قولهم في المعنى إنه يفضي إلى التسلسل ليس كذلك
فإنه لا مانع أن يخلق الله تعالى العبارات ويخلق لمن يسمعها العلم الضروري
بأن واضعاً وضعها لتلك المعاني كما سبق ثم ما ذكروه لازم عليهم في القول
بالاصطلاح فإن ما يدعى به إلى الوضع والاصطلاح لا بد وأن يكون معلوماً فإن
كان معلوماً بالاصطلاح لزم التسلسل وهو ممتنع فلم يبق غير التوقيف.
وما
ذكروه من المعارضة بالآية الأخيرة فإنما يلزم أن لو كان طريق التوقيف
منحصراً في الرسالة وليس كذلك بل جاز أن يكون أصل التوقيف معلوما إما
بالوحي من غير واسطة وإما بخلق اللغات وخلق العلم الضروري للسامعين بأن
واضعاً وضعها لتلك المعاني على ما سبق.
وأما طرق معرفتها لنا فاعلم أن
ما كان منها معلوماً بحيث لا يتشكك فيه مع التشكيك كعلمنا بتسمية الجوهر
جوهراً والعرض عرضاً ونحوه من الأسامي فنعلم أن مدرك ذلك إنما هو التواتر
القاطع وما لم يكن معلوماً لنا ولا تواتر فيه فطريق تحصيل الظن به إنما هو
إخبار الآحاد ولعل الأكثر إنما هو الأول.القسم الثالث
في المبادئ الفقهية والأحكام الشرعية
في الحاكم
الثالثة لو كان الخبر الكاذب قبيحاً لذاته فالمقتضي
له لا بد وأن يكون ثبوتياً ضرورة اقتضائه للقبح الثبوتي وهو إن كان صفة
لمجموع حروف الخبر فهو محال لاستحالة اجتماعها في الوجود وإن كان صفة
لبعضها لزم أن تكون أجزاء الخبر الكاذب كاذبة ضرورة كون المقتضي لقبح الخبر
الكاذب إنما هو الكذب وذلك محال.
الرابعة أنه لو كان قبح الكذب وصفاً
حقيقياً لما اختلف باختلاف الأوضاع وقد اختلف حيث إن الخبر الكاذب قد يخرج
عن كونه كذباً وقبيحاً بوضع الواضع له أمراً أو نهياً.
الخامسة لو كان
الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عندما إذا استفيد به عصمة دم
نبي عن ظالم يقصد قتله السادسة لو كان الظلم قبيحاً لكونه ظلماً لكان
المعلول متقدماً على علته لأن قبح الظلم الذي هو معلول للظلم متقدم على
الظلم ولهذا ليس لفاعله أن يفعله وكان القبح مع كونه وصفاً ثبوتياً ضرورة
اتصاف العدم بنقيضه معللاً بما العدم جزء منه وذلك لأن مفهوم الظلم أنه
إضرار غير مستحق ولا استحقاق عدم وهو ممتنع.
السابعة أن أفعال العبد غير
مختارة له وما يكون كذلك لا يكون حسناً ولا قبيحاً لذاته إجماعاً وبيان
كونه غير مختار أن فعله إن كان لازماً له لا يسعه تركه فهو مضطر إليه لا
مختار له وإن جاز تركه فإن افتقر في فعله إلى مرجح عاد التقسيم وهو تسلسل
ممتنع وإلا فهو اتفاقي لا اختياري.
وهذه الحجج ضعيفة: أما الأولى فلأنه
أمكن أن يقال بأن صدقه في الساعة الأخرى حسن ولا يلزم من ملازمة القبيح له
قبحه وإن كان قبيحاً من جهة استلزامه للقبيح فلا يمتنع الحكم عليه بالحسن
والقبح بالنظر إلى ما اختص به من الوجوه والاعتبارات الموجبة للحسن والقبح
كما هو مذهب الجبائية وإن قدر امتناع ذلك فلا يمتنع الحكم بقبح صدقه لما
ذكروه وقبح كذبه لكونه كذباً.
وأما الثانية فلأنه لا امتناع من القول
بقبح الخبر مشروطاً بعدم زيد في الدار والشرط غير مؤثر وأما الثالثة فلما
يلزمها من امتناع اتصاف الخبر بكونه كاذباً وهو محال وأما الرابعة فلأنه لا
مانع من أن يكون قبح الخبر الكاذب مشروطاً بالوضع وعدم مطابقته للمخبر عنه
مع علم المخبر به كما كان ذلك مشروطاً في كونه كذباً وأما الخامسة فلأن
الكذب في الصورة المفروضة غير متعين لخلاص النبي لإمكان الإتيان بصورة
الخبر من غير قصد له أو مع التعريض وقصد الإخبار عن الغير وإذا لم يكن
متعيناً له كان قبيحاً وإن قدر تعيينه فالحسن والواجب ما لازمه من تخليص
النبي لا نفي الكذب واللازم غير الملزوم وغايته أنه لا يأثم به مع قبحه ولا
يحرم شرعاً لترجح المانع عليه.
وأما السادسة فلأنه أمكن منع تقدم قبح
الظلم عليه ضرورة كونه صفة له بل المتقدم إنما هو الحكم على ما سيوجد من
الظلم بكونه قبيحاً شرعاً وعرفاً وأمكن منع تعليل القبح بالعدم وعدم
الاستحقاق وإن كان لازماً للظلم فلا يلزم أن يكون داخلاً في مفهومه فأمكن
أن يكون الظلم علة القبح بما فيه من الأمر الوجودي والعدم شرطه.
وأما
السابعة فلأنه يلزم أن يكون الرب تعالى مضطراً إلى أفعاله غير مختار فيها
لتحقق عين ما ذكروه من القسمة في أفعاله وهو محال ويلزم أيضاً منها امتناع
الحكم بالحسن والقبح الشرعي على الأفعال والجواب يكون مشتركاً.
والمعتمد
في ذلك أن يقال لو كان فعل من الأفعال حسناً أو قبيحاً لذاته فالمفهوم من
كونه قبيحاً وحسناً ليس هو نفس ذات الفعل وإلا كان من علم حقيقة الفعل
عالماً بحسنه وقبحه وليس كذلك لجواز أن يعلم حقيقة الفعل ويتوقف العلم
بحسنه وقبحه على النظر كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع وإن كان مفهومه
زائداً على مفهوم الفعل الموصوف به فهو صفة وجودية لأن نقيضه وهو لا حسن
ولا قبح صفة للعدم المحض فكان عدمياً ويلزم من ذلك كون الحسن والقبح
وجودياً وهو قائم بالفعل لكونه صفة له ويلزم من ذلك قيام العرض بالعرض وهو
محال وذلك لأن العرض الذي هو محل العرض لا بد وأن يكون قائماً بالجوهر أو
بما هو في آخر الأمر قائم بالجوهر قطعاً للتسلسل الممتنع وقيام العرض
بالجوهر لا معنى له غير وجوده في حيث الجوهر تبعاً له فيه وقيام أحد
العرضين بالآخر لا معنى له سوى أنه في حيث العرض الذي قيل إنه قائم به وحيث
ذلك العرض هو حيث الجوهر فهما في حيث الجوهر وقائمان به ولا معنى لقيام
أحدهما بالآخر وإن كان قيام أحدهما بالآخر مشروطاً بقيام العرض الآخر به.
فإن
قيل: ما ذكرتموه يلزم منه امتناع اتصاف الفعل بكونه ممكناً ومعلوماً
ومقدوراً ومذكوراً وهو محال ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيض مدلوله
وبيانه من جهة الاستدلال والإلزام: أما الاستدلال فمن وجهين: الأول اتفاق
العقلاء على حسن الصدق النافع وقبح الكذب المضر وكذلك حسن الإيمان وقبح
الكفران وغير ذلك مع قطع النظر عن كل حالة تقدر من عرف أو شريعة أو غير ذلك
فكان ذاتياً والعلم به ضروري الثاني: إنا نعلم أن من استوى في تحصيل غرضه
الصدق والكذب وقطع النظر في حقه عن الاعتقادات والشرائع وغير ذلك من
الأحوال فإنه يميل إلى الصدق ويؤثره وليس ذلك إلا لحسنه في نفسه وكذلك نعلم
أن من رأى شخصاً مشرفاً على الهلاك وهو قادر على إنقاذه فإنه يميل إليه
وإن كان بحيث لا يتوقع في مقابلة ذلك حصول غرض دنياوي ولا أخروي بل ربما
كان يتضرر بالتعب والتعني وليس ذلك إلا لحسنه في ذاته.
وأما من جهة
الإلزام فهو أنه لو كان السمع وورود الأمر والنهي هو مدرك الحسن والقبح لما
فرق العاقل بين من أحسن إليه وأساء ولما كان فعل الله حسناً قبل ورود
السمع ولجاز من الله الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة ولجاز إظهار المعجزة
على يد الكذاب ولا امتنع الحكم بقبح الكذب على الله تعالى قبل ورود السمع
ولكان الوجوب أيضاً متوقفاً على السمع ويلزم من ذلك إفحام الرسل من حيث إن
النبي إذا بعث وادعى الرسالة ودعا إلى النظر في معجزته فللمدعو أن يقول: لا
أنظر في معجزتك ما لم يجب علي النظر ووجوب النظر متوقف على استقرار الشرع
بالنظر في معجزتك وهو دور.
والجواب عن الأول: أن ما ذكروه من الصفات
فأمور تقديرية فمفهوم نقائضها سلب التقدير والأمور المقدرة ليست من الصفات
العرضية فلا يلزم منه قيام العرض بالعرض فإن قيل مثله في الحسن والقبح فقد
خرج عن كونه من الصفات الثبوتية للذات وهو المطلوب وعن المعارضة الأولى
بمنع إجماع العقلاء على الحسن والقبح فيما ذكروه فإن من العقلاء من لا
يعتقد ذلك كبعض الملاحدة ونحن أيضاً لا نوافق على قبح إيلام البهائم من غير
جرم ولا غرض وهو من صور النزاع وإن كان ذلك متفقاً عليه بين العقلاء فلا
يلزم أن يكون العلم به ضرورياً وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء عادة وإن
كان ذلك معلوماً ضرورة فلا يلزم من أن يكون ذاتياً إلا أن يكون مجرداً من
أمر خارج وهو غير مسلم على ما يأتي وعن المعارضة الثانية أنه لا يخلو إما
أن يقال بالتفاوت بين الصدق والكذب ولو بوجه أو لا يقال به والأول يلزمه
إبطال الاستدلال والثاني يمنع معه إيثار أحد الأمرين دون الآخر وعلى هذا إن
كان ميله إلى الإنقاذ لتحقق أمر خارج فالاستدلال باطل وإن لم يكن فالميل
إلى الإنقاذ لا يكون مسلماً وإن سلم دلالة ما ذكرتموه في حق الشاهد فلا
يلزم مثله في حق الغائب إلا بطريق قياسه على الشاهد وهو متعذر لما بيناه في
علم الكلام ثم كيف يقاس والإجماع منعقد على التفرقة بتقبيح تمكين السيد
لعبيده من الفواحش مع العلم بهم والقدرة على منعهم دون تقبيح ذلك بالنسبة
إلى الله تعالى.
فإن قيل: إنما لم يقبح من الله ذلك لعدم قدرته على
منع الخلق من المعاصي وذلك لأن ما يقع من العبد من المعصية لا بد وأن يكون
وقوعها معلوماً للرب وإلا كان جاهلاً بعواقب الأمور وهو محال ومنع الرب
تعالى من وقوع ما هو معلوم الوقوع له لا يكون مقدوراً كما ذهب إليه النظام.
قلنا:
فما قيل فهو بعينه لازم بالنسبة إلى السيد وأولى أن لا يكون السيد قادراً
على المنع ومع ذلك فالفرق واقع والجواب: عن الإلزام الأول: أن مفهوم الحسن
والقبح بمعنى موافقة الغرض ومخالفته وبمعنى ما للفاعل أن يفعله وأن لا
يفعله متحقق قبل ورود الشرع لا بالمعنى الذاتي وعن الثاني: أن فعل الله قبل
ورود الشرع حسن بمعنى أن له فعله وعن الثالث: أنه لا معنى للطاعة عندنا
إلا ما ورد الأمر به ولا معنى للمعصية إلا ما ورد النهي عنه وعلى هذا فلا
يمتنع ورود الأمر بما كان منهياً والنهي بما كان مأموراً.
وعن الرابع:
أنه إنما يلزم أن لو لم يكن لامتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب مدرك سوى
القبح الذاتي وليس كذلك وبه اندفاع الإلزام الخامس أيضاً وعن السادس: ما
سيأتي في المسألة بعدها وإذا بطل معنى الحسن والقبح الذاتي لزم منه امتناع
وجوب شكر المنعم عقلاً وامتناع حكم عقلي قبل ورود الشرع إذ هما مبنيان على
ذلك غير أن عادة الأصوليين جارية لفرض الكلام في هاتين المسألتين إظهاراً
لما يختص بكل واحد من الإشكالات والمناقضات.
المسألة الثانية مذهب
أصحابنا وأهل السنة أن شكر المنعم واجب سمعاً لا عقلاً خلافاً للمعتزلة في
الوجوب العقلي احتج أصحابنا على امتناع إيجاب العقل لذلك بأن قالوا لو كان
العقل موجباً فلا بد وأن يوجب لفائدة وإلا كان إيجابه عبثاً وهو قبيح
ويمتنع عود الفائدة إلى الله تعالى لتعاليه عنها وإن عادت إلى العبد فإما
أن تعود إليه في الدنيا أو في الأخرى.
الأول محال فإن شكر الله تعالى
عند الخصوم ليس هو معرفة الله تعالى لأن الشكر فرع المعرفة وإنما هو عبارة
عن إتعاب النفس وإلزام المشقة لها بتكليفها تجنب المستقبحات العقلية وفعل
المستحسنات العقلية وهو فرع التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه فلم يبق
سوى التعب والعناء المحض الذي لا حظ للنفس فيه.
والثاني محال لعدم
استقلال العقل بمعرفة الفائدة الأخروية دون إخبار الشارع بها ولا إخبار
وأيضاً فإنه لا معنى لكون الشيء واجباً سوى ترجح فعله على تركه وبالعقل
يعرف الترجيح لا أنه مرجح فلا يكون موجباً إذ الموجب هو المرجح وإذا بطل
الإيجاب العقلي تعين الإيجاب الشرعي ضرورة انعقاد الإجماع على حصر الوجوب
في الشرع والعقل فإذا بطل أحد القسمين تعين الثاني منهما.
فإن قيل: شكر
المنعم معلوم لكل أحد ضرورة فما ذكرتموه استدلال على إبطال أمر ضروري فلا
يقبل وإن لم يكن كذلك فلم قلتم إن إيجاب العقل للشكر لا بد وأن يكون لفائدة
قولكم حتى لا يكون عبثاً قبيحاً فهذا منكم لا يستقيم مع إنكار القبح
العقلي كيف وإن تلك الفائدة إما أن تكون واجبة التحصيل وإما أن لا تكون
كذلك: فإن كانت واجبة التحصيل استدعت فائدة أخرى وهو تسلسل ممتنع وإن لم
تكن واجبة فما يوجبه العقل بها أولى أن لا يكون واجباً وإن كان لفائدة فما
المانع أن تكون الفائدة في الشكر نفس الشكر لا أمراً خارجاً عنه كما أن
تحصيل المصلحة ودفع المفسدة عن النفس مطلوب لنفسه لا لغيره وإن كان لا بد
من فائدة خارجة عن كون الشكر شكراً فما المانع أن تكون الفائدة الأمن من
احتمال العقاب بتقدير عدم الشكر على ما أنعم الله به عليه من النعم إذ هو
محتمل ولا يخلو العاقل عن خطور هذا الاحتمال بباله وذلك من أعظم الفوائد
وإن سلم دلالة ما ذكرتموه على امتناع الإيجاب العقلي لكنه بعينه دال على
امتناع الإيجاب الشرعي.
والجواب أن ذاك يكون مشتركاً وإن لم يكن كذلك
ولكن ما ذكرتموه معارض بما يدل على جواز الإيجاب العقلي وذلك إنه لم يكن
العقل موجباً لانحصرت مدارك الوجوب في الشرع لما ذكرتموه في الإجماع وذلك
محال لما يلزم عنه من إفحام الرسل وإبطال مقصود البعثة وذلك أن النبي إذا
ادعى الرسالة وتحدي بالمعجزة ودعا الناس إلى النظر فيها لظهور صدقه فللمدعو
أن يقول: لا أنظر في معجزتك إلا أن يكون النظر واجباً علي شرعاً ووجوب
النظر شرعاً متوقف على استقرار الشرع وذلك متوقف على وجوب النظر وهو دور
ممتنع.
والجواب: لا نسلم أن العلم الضروري بما ذكروه عقلاً إذ هو دعوى
محل النزاع وإن سلم ذلك لكن بالنسبة إلى من ينتفع بالشكر ويتضرر بعدمه وأما
بالنسبة إلى الله تعالى مع استحالة ذلك في حقه فلا قولهم: لم قلتم برعاية
الفائدة قلنا: لما ذكرناه.
قولهم: هذا منكم لا يستقيم قلنا: إنما ذكرنا
ذلك بطريق الإلزام للخصم لكونه قائلاً به وبه يبطل ما ذكروه في إبطال رعاية
الفائدة كيف وقد أمكن أن يقال بوجوب تحصيل الحكمة لحكمة هي نفسها كما
ذكروه من جلب المصلحة ودفع المفسدة عن النفس ولا يمكن أن يقال مثل ذلك في
فعل الشكر فإن نفس الفعل ليس هو الحكمة المطلوبة من إيجاده ولو أمكن ذلك
لأمكن أن يقال مثله في جميع الأفعال وهو خلاف الإجماع وإذا لم تكن الفائدة
المطلوبة من إيجاده بقي التقسيم بحالة.
قولهم: ما المانع أن تكون
الفائدة هي الأمن على ما ذكروه فهو مبني على امتناع خلو العاقل عن خطور ما
ذكروه من الاحتمال بباله وهو غير مسلم على ما هو معلوم من أكثر العقلاء
شاهداً وبتقدير صحة ذلك فما ذكروه معارض باحتمال خطور العقاب بباله على شكر
الله تعالى وإتعابه لنفسه وتصرفه فيها مع أنها مملوكة لله تعالى دون إذنه
من غير منفعة ترجع إليه ولا إلى الله تعالى وليس أحدهما أولى من الآخر بل
ربما كان هذا الاحتمال راجحاً وذلك من جهة أنه قد تقرر في العقول أن من أخذ
في التقرب والخدمة إلى بعض الملوك العظماء بتحريك أنملته في كسر بيته
وإظهار شكره بين العباد في البلاد على إعطائه لقمة من الخبز مع استغنائه
واستغناء الملك عنها فإنه يعد مستهزئاً بذلك الملك مستحقاً للعقاب على
صنعه.
ولا يخفى أن شكر الشاكرين بالنسبة إلى جلال الله تعالى دون تحريك
الأنملة بالنسبة إلى جلال الملك وأن ما أنعم الله به على العبيد لعدم تناهي
ملكه وتناهي ملك غيره دون تلك اللقمة فكان المتعاطي لخدمة الله وشكره على
ما أنعم به عليه به أولى بالذم واستحقاق العقاب ولولا ورود الشرع بطلب ذلك
من العبيد وحثهم عليه لما وقع الإقدام عليه.
وما يقال من حال المشتغل
بالشكر والخدمة أرجى حالاً من المعرض عن ذلك عرفاً فكان أولى فهو مسلم في
حق من ينتفع بالخدمة والشكر ويتضرر بعدمهما والباري تعالى منزه عن ذلك فلا
يطرد ما ذكروه في حقه.
قولهم: ما ذكرتموه لازم عليكم في الإيجاب الشرعي
ليس كذلك فإن الفائدة الأخروية وإن لم يستقل العاقل بمعرفتها فالله تعالى
عالم بها كيف وإن ذلك إنما يلزم منا أن لو اعتبرنا الحكمة في الإيجاب
الشرعي وليس ذلك على ما عرف من أصلنا.
وأما المعارضة بما ذكروه من إفحام
الرسل فجوابه من وجهين: الأول منع توقف استقرار الشرع على نظر المدعو في
المعجزة بل مهما ظهرت المعجزة في نفسها وكان صدق النبي فيما ادعاه ممكناً
وكان المدعو عاقلاً متمكناً من النظر والمعرفة فقد استقر الشرع وثبت
والمدعو مفرط في حق نفسه الثاني إن الدور لازم على القائل بالإيجاب العقلي
لأن العقل بجوهره غير موجب دون النظر والاستدلال وإلا لما خلا عاقل عن ذلك
وعند ذلك فللمدعو أن يقول لا أنظر في معجزتك حتى أعرف وجوب النظر ولا أعرف
وجوب النظر حتى أنظر وهو دور مفحم والجواب إذ ذاك يكون واحداً وعلى كل
تقدير فالمسألة ظنية لا قطعية.
المسألة الثالثة
مذهب الأشاعرة
وأهل الحق أنه لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود الشرع وأما المعتزلة فإنهم
قسموا الأفعال الخارجة عن الأفعال الاضطرارية إلى ما حسنه العقل وإلى ما
قبحه وإلى ما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح فما حسنه العقل إن استوى فعله
وتركه في النفع والضرر سموه مباحاً وإن ترجح فعله على تركه فإن لحق الذم
بتركه سموه واجباً وسواء كان مقصوداً لنفسه كالإيمان أو لغيره كالنظر
المفضي إلى معرفة الله تعالى وإن لم يلحق الذم بتركه سموه مندوباً وما قبحه
العقل فإن التحق الذم بفعله سموه حراماً وإلا فمكروه وما لم يقض العقل فيه
بحسن ولا قبح فقد اختلفوا فيه فمنهم من حظره ومنهم من أباحه ومنهم من وقف
عن الأمرين.
احتجت الأشاعرة بالمنقول والمعقول: أما المنقول فقول الله
تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " " الإسراء 15 " ووجه الدلالة
منه أنه أمن من العذاب قبل بعثه الرسل وذلك يستلزم انتفاء الوجوب والحرمة
قبل البعثة وإلا لما أمن من العذاب بتقدير ترك الواجب وفعل المحرم إذ هو
لازم لهما وأيضاً قوله تعالى " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " "
النساء 165 " ومفهومه يدل على الاحتجاج قبل البعثة ويلزم من ذلك نفي
الموجب والمحرم.
وأما من جهة المعقول فلأن ثبوت الحكم إما بالشرع أو
بالعقل بالإجماع ولا شرع قبل ورود الشرع والعقل غير موجب ولا محرم لما سبق
في المسألة المتقدمة فلا حكم.
فإن قيل: أما الآية الأولى فلا حجة فيها
فإنه ليس العذاب من لوازم ترك الواجب وفعل المحرم ولهذا يجوز انفكاكه عنهما
بناء على عفو أو شفاعة فنفيه قبل ورود الشرع لا يلزم منه نفيهما سلمنا أنه
لازم لهما لكن بعد ورود الشرع لا قبله وعلى هذا فلا يلزم نفيهما من نفيه
قبل ورود الشرع سلمنا أنه لازم لهما لكنه لازم للواجب والمحرم شرعاً أو
عقلاً: الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا فاللازم من نفيه قبل الشرع نفي
الواجب والمحرم شرعاً لا عقلاً سلمنا ذلك ولكن ليس في الآية ما يدل على نفي
الإباحة والوقف لعدم ملازمة العذاب لشيء من ذلك إجماعاً.
وأما الآية
الأخرى " وإن سلمنا كون المفهوم حجة " فالاعتراض على الآية الأولى بعينه
وارد هاهنا وأما ما ذكرتموه من المعقول فقد سبق ما فيه كيف وأن ما ذكرتموه
من الدلالة على نفي الحكم حكم بنفي الحكم فكان متناقضاً.
والجواب عن
السؤال الأول أن وقوع العذاب بالفعل وإن لم يكن لازماً من ترك الواجب وفعل
المحرم فلازمه عدم الأمن من ذلك لعدم تحقق الواجب والمحرم دونه وهذا اللازم
منتف قبل ورود الشرع على ما دلت عليه الآية فلا ملزوم وبه يندفع ما ذكروه
من السؤال الثاني والثالث.
والتمسك بالآية إنما هو في نفي الوجوب
والحرمة قبل لا غير ونفي ما سوى ذلك فإنما يستفاد من دليل آخر على ما
سنبينه وبه اندفع السؤال الرابع.
وما ذكروه على الدليل العقلي فقد سبق
أيضاً جوابه ونفي الحكم وإن كان حكماً غير أن المنفي ليس هو الحكم مطلقاً
ليلزم التناقض بل نفي ما أثبتوه من الأحكام المذكورة فلا تناقض وأما
القائلون بالإباحة إن فسروها بنفي الحرج عن الفعل والترك فلا نزاع في هذا
المعنى وإنما النزاع في صحة إطلاق لفظ الإباحة بازائه ولهذا فإنه يمتنع
إطلاق لفظ الإباحة على أفعال الله تعالى مع تحقق ذلك المعنى فيها وإن
فسروها بتخيير الفاعل بين الفعل والترك فإما أن يكون ذلك التخيير للفاعل من
نفسه وإما من غيره فإن كان الأول فيلزم منه تسمية أفعال الله مباحة لتحقق
ذلك في حقه وهو ممتنع بالإجماع وإن كان الثاني فالمخير إما الشرع وإما
العقل بالإجماع ولا شرع قبل ورود الشرع وتخيير العقل عندهم إنما يكون فيما
استوى فعله وتركه من الأفعال الحسنة عقلاً أو فيما لم يقض العقل فيه بحسن
ولا قبح وهو فرع الحسن والقبح العقلي وقد أبطلناه وإن فسروه بأمر آخر فلا
بد من تصويره.
فإن قيل: المباح هو المأذون في فعله وقد ورد دليل الإذن من الله تعالى قبل ورود الشرع وإن لم ترد صورة الإذن وبيانه من وجهين:
الأول
هو أن الله تعالى خلق الطعوم من المأكولات والذوق فينا وأقدرنا عليها
وعرفنا بالأدلة العقلية أنها نافعة لنا غير مضرة ولا ضرر عليه في الانتفاع
بها وهو دليل الإذن منه لنا في ذلك وصار هذا كما لو قدم إنسان طعاماً بين
يدي إنسان على هذه الصفات فإن العقلاء يقضون بكونه قد أذن له فيه.
الثاني
أن خلقه للطعوم في الأجسام مع إمكان ألا يخلقها لا بد له من فائدة نفياً
للعبث عنه وليست تلك الفائدة عائدة إلى الله تعالى لتعاليه عنها فلا بد من
عودها إلى العبد وليست هي الإضرار ولا ما هو خارج عن الإضرار والانتفاع إذ
هو خلاف الإجماع فكانت فائدتها الانتفاع بها وهو دليل الإذن في إدراكها
وسواء كان الانتفاع بها بجهة الالتذاذ بها وتقوم البنية أو بجهة تجنبها
لنيل الثواب أو الاستدلال بها على معرفة الله تعالى لتوقف ذلك كله على
إدراكها واحتمال وجود مفسدة فيه مع عدم الاطلاع عليها لا يكون مانعاً من
الإذن والحكم بالإباحة بدليل الاستضاءة بسراج الغير والاستظلال بحائطه.
قلنا:
أما الوجه الأول فحاصله يرجع إلى قياس الغائب على الشاهد وقد أبطلناه وأما
الثاني فمبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعاله تعالى وهو ممنوع على ما عرف
من أصلنا ثم إذا كان مأذوناً فيه من جهة الشارع فإباحته شرعية لا عقلية.
وأما
القائلون بالوقف إن عنوا به توقف الحكم بهذه الأشياء على ورود السمع فحق
وإن عنوا به الإحجام عن الحكم بالوجوب أو الحظر أو الإباحة لتعارض أدلتها
ففاسد لما سبق.الأصل الثاني
في حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه
وما يتعلق به من المسائل.
أما حقيقة الوجوب فاعلم أن الوجوب في
اللغة قد يطلق بمعنى السقوط ومنه يقال: وجبت الشمس إذا سقطت ووجب الحائط
إذا سقط وقد يطلق بمعنى الثبوت والاستقرار ومنه قوله عليه السلام " إذا وجب
المريض فلا تبكين باكية " أي استقر وزال عنه التزلزل والاضطراب.
وأما
في العرف الشرعي فقد قيل: هو ما يستحق تاركه العقاب على تركه وهو إن أريد
بالاستحقاق ما يستدعي مستحقاً عليه فباطل لعدم تحقق ذلك بالنسبة إلى الله
تعالى على ما بيناه في علم الكلام وبالنسبة إلى أحد من المخلوقين بالإجماع
وإن أريد به أنه لو عوقب لكان ذلك ملائماً لنظر الشارع فلا بأس به.
وقيل:
هو ما توعد بالعقاب على تركه وهو باطل لأن التوعد بالعقاب على الترك خبر
ولو ورد لتحقق العقاب بتقدير الترك لاستحالة الخلف في خبر الصادق وإن كان
ذلك في حق غيره يعد كرماً وفضيلة لما يلزمه من المصلحة الراجحة وليس كذلك
لجواز العفو عنه.
وقيل: هو الذي يخاف العقاب على تركه ويبطل بالمشكوك في
وجوبه كيف وإن هذه الحدود ليست حداً للحكم الشرعي وهو الوجوب بل للفعل
الذي هو متعلق الوجوب.
والحق في ذلك أن يقال: الوجوب الشرعي عبارة عن
خطاب الشارع بما ينتهض تركه سبباً للذم شرعاً في حالة ما فالقيد الأول
احتراز عن خطاب غير الشارع والثاني احتراز عن بقية الأحكام والثالث احتراز
عن ترك الواجب الموسع أول الوقت فإنه سبب للذم بتقدير إخلاء جميع الوقت عنه
وإخلاء أول الوقت من غير عزم على الفعل بعده وعن ترك الواجب المخير فإنه
سبب للذم بتقدير ترك البدل وليس سبباً له بتقدير فعل البدل وعلى هذا إن
قلنا إن الأذان وصلاة العيد فرض كفاية واتفق أهل بلدة على تركه قوتلوا وإن
قلنا إنه سنة فلا.
وبالجملة فلا بد في الوجوب من ترجيح الفعل على الترك
بما يتعلق به من الذم أو الثواب الخاص به فإنه لا تحقق للوجوب مع تساوي
طرفي الفعل والترك في الغرض وربما أشار القاضي أبو بكر إلى خلافه وإذا عرف
معنى الوجوب الشرعي فلا بد من الإشارة إلى ما يتعلق به من المسائل وهي سبع.
المسألة
الأولى هل الفرض غير الواجب أو هو هو أما في اللغة فالواجب هو الساقط
والثابت كما سبق تعريفه وأما الفرض فقد يطلق في اللغة بمعنى التقدير ومنه
قولهم: فرضتا القوس للحزتين اللتين في سيتيه موضع الوتر وفرضة النهر وهو
موضع اجتماع السفن ومنه قولهم: فرض الحاكم النفقة أي قدرها وقد يطلق بمعنى
الإنزال ومنه قوله تعالى " إن الذي فرض عليك القرآن " " القصص 85 " أي أنزل
وقد يطلق بمعنى الحل ومنه قوله تعالى: " ما كان على النبي من حرج فيما فرض
الله له " " الأحزاب 38 " أي أحل له.
وأما في الشرع فلا فرق بين الفرض
والواجب عند أصحابنا إذ الواجب في الشرع على ما ذكرناه عبارة عن خطاب
الشارع بما ينتهض تركه سبباً للذم شرعاً في حالة ما وهذا المعنى بعينه
متحقق في الفرض الشرعي وخص أصحاب أبي حنيفة اسم الفرض بما كان من ذلك
مقطوعاً به واسم الواجب بما كان مظنوناً مصيراً منهم إلى أن الفرض هو
التقدير والمظنون لم يعلم كونه مقدراً علينا بخلاف المقطوع فلذلك خص
المقطوع باسم الفرض دون المظنون والأشبه ما ذكره أصحابنا من حيث إن
الاختلاف في طريق إثبات الحكم حتى يكون هذا معلوماً وهذا مظنوناً غير موجب
لاختلاف ما ثبت به.
ولهذا فإن اختلاف طرق الواجبات في الظهور والخفاء
والقوة والضعف بحيث إن المكلف يقتل بترك البعض منها دون البعض لا يوجب
اختلاف الواجب في حقيقته من حيث هو واجب وكذا اختلاف طرق النوافل غير موجب
لاختلاف حقائقها وكذلك اختلاف طرق الحرام بالقطع والظن غير موجب لاختلافه
في نفسه من حيث هو حرام كيف وإن الشارع قد أطلق اسم الفرض على الواجب في
قوله تعالى " فمن فرض فيهن الحج " " البقرة 197 " أي أوجب والأصل أن يكون
مشعراً به حقيقة وأن لا يكون له مدلول سواه نفياً للتجوز والاشتراك عن
اللفظ والذي يؤيد إخراج قيد القطع عن مفهوم الفرض إجماع الأمة على إطلاق
اسم الفرض على ما أدى من الصلوات المختلف في صحتها بين الأئمة بقولهم: أد
فرض الله تعالى والأصل في الإطلاق الحقيقة وما ذكره الخصوم في تخصيص اسم
الفرض المقطوع به فمن باب التحكم حيث إن الفرض في اللغة هو التقدير مطلقاً
كان مقطوعاً به أو مظنوناً فتخصيص ذلك بأحد القسمين دون الآخر بغير دليل لا
يكون مقبولاً وبالجملة فالمسألة لفظية.
المسألة الثانية لا فرق عند
أصحابنا بين واجب العين والواجب على الكفاية من جهة الوجوب لشمول حد الواجب
لهما خلافاً لبعض الناس مصيراً منه إلى أن واجب العين لا يسقط بفعل الغير
بخلاف واجب الكفاية وغايته الاختلاف في طريق الإسقاط وذلك لا يوجب الاختلاف
في الحقيقة كالاختلاف في طريق الثبوت كما سبق ولهذا فإن من ارتد وقتل
فقتله بالردة وبالقتل واجب ومع ذلك فأحد الواجبين يسقط بالتوبة دون الواجب
الآخر ولم يلزم من ذلك اختلافهما.
المسألة الثالثة اختلفوا في الواجب
المخير كما في خصال الكفارة: فمذهب الأشاعرة والفقهاء أن الواجب منها واحد
لا بعينه ويتعين بفعل المكلف وأطلق الجبائي وابنه القول بوجوب الجميع على
التخيير.
حجة أصحابنا أنه لا يخلو إما أن يقال بوجوب الجميع أو بوجوب
واحد والواحد إما معين وإما غير معين لا جائز أن يقال بالأول لخمسة أوجه:
الأول أنه لو كان التخيير موجباً للجميع لكان الأمر بإيجاب عتق عبد من
العبيد على طريق التخيير موجباً للجميع وهو محال.
الثاني أن ذلك مما
يمنع من التخيير ولهذا فإنه لا يحسن أن يقول القائل لغيره أوجبت عليك
صلاتين فصل أيهما شئت واترك أيهما شئت كما لا يحسن أن يقول: أوجبت عليك
الصلاة وخيرتك في فعلها وتركها لما فيه من رفع الواجب وليس ذلك من لغة
العرب في شيء.
الثالث أن الواجب ما لا يجوز تركه مع القدرة عليه والأمر فيما نحن فيه بخلافه.
الرابع أن الخصوم قد وافقوا على أنه لو أتى بالجميع أو ترك الجميع فإنه لا يثاب ولا يعاقب على الجميع.
الخامس
أنه لو كان الجميع واجباً لنوي نية أداء الواجب في كل واحدة من الخصال
عندما إذا فعل الجميع وهو خلاف الإجماع ولا جائز أن يقال بأن الواجب واحد
معين إذ هو خلاف مقتضى التخيير ولأنه كان يلزم أن لا يحصل الإجزاء بتقدير
أداء غيره مع القدرة عليه وهو خلاف الإجماع فلم يبق غير الإبهام.
غير أن
أبا الحسين البصري قد تكلف رد الخلاف في هذه المسألة إلى اللفظ دون المعنى
وذلك أنه قال: معنى إيجاب الجميع أن الله تعالى حرم ترك الجميع لا كل واحد
واحد منها بتقدير فعل المكلف لواحد منها مع تفويض فعل أي واحد منها كان
إلى المكلف وهذا هو بعينه مذهب الفقهاء غير أن ما ذكره في تفسير وجوب
الجميع وإن كان رافعاً للخلاف غير أنه خلاف ما نقله الأئمة عن الجبائي
وابنه من إطلاق القول بوجوب الجميع والدلائل المشعرة بذلك فلننسج في الحجاج
على منوالهم.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الدليل إنما يلزم أن لو كانت
آية التكفير وهي قوله تعالى: " فكفارته إطعام عشرة مساكين " " المائدة 89 "
الآية دالة على تخيير كل واحد واحد من الأمة بين خصال الكفارة بجهة
الإيجاب وما المانع أن يكون ذلك إخباراً عما يوجد من الكفارة وتقديره فما
يوجد من الكفارة هو إطعام من حانث أو كسوة من حانث آخر أو عتق من حانث آخر
سلمنا دلالتها على الإيجاب لكن لا أنها خطاب بالتخيير لكل واحد واحد من
الأمة بل المراد بها إيجاب الإطعام على البعض والكسوة على البعض والعتق على
البعض فكأنه قال: فكفارته إطعام عشرة مساكين لبعضهم أو الكسوة لبعض آخر أو
العتق لبعض آخر سلمنا دلالة ما ذكرتموه لكنه معارض بما يدل على إبطال
مدلوله وبيانه من أحد عشر وجهاً.
الأول أن الخصال المذكورة إما أن تكون
مستوية فيما يرجع إلى الصفات المقتضية للوجوب أو أنها مختصة بالبعض دون
البعض فإن كان الأول فيلزم التسوية في الوجوب بين الكل وإن كان الثاني كان
ذلك البعض هو الواجب بعينه دون غيره.
الثاني أن الواجب ما تعلق به خطاب
الشرع بالإيجاب وخطاب الشرع إنما يتعلق بالمعين دون المبهم ولهذا فإنه
يمتنع تعلق الإيجاب بأحد شخصين لا بعينه فكذلك بفعل أحد أمرين لا يعينه
وعند ذلك فيلزم تعلقه بالكل أو ببعض منه معين.
الثالث أن الإيجاب طلب والطلب يستدعي م
الأصل الثاني
في مبدأ اللغات وطرق معرفتها
أول ما يجب
تقديمه أن ما وضع من الألفاظ الدالة على معانيها هل هو لمناسبة طبيعية بين
اللفظ ومعناه أم لا فذهب أرباب علم التكسير وبعض المعتزلة إلى ذلك مصيراً
منهم إلى أنه لو لم يكن بين اللفظ ومعناه مناسبة طبيعية لما كان اختصاص ذلك
المعنى بذلك اللفظ أولى من غيره ولا وجه له فإنا نعلم أن الواضع في ابتداء
الوضع لو وضع لفظ الوجود على العدم والعدم على الوجود واسم كل ضد على
مقابله لما كان ممتنعاً كيف وقد وضع ذلك كما في اسم الجون والقرء ونحوه
والاسم الواحد لا يكون مناسباً بطبعه لشيء ولعدمه وحيث خصص الواضع بعض
الألفاظ ببعض المدلولات إنما كان ذلك نظراً إلى الإرادة المخصصة كان الواضع
هو الله تعالى أو المخلوق إما لغرض أو لا لغرض وإذا بطلت المناسبة
الطبيعية وظهر أن مستند تخصيص بعض الألفاظ ببعض المعاني إنما هو الوضع
الاختياري فقد اختلف الأصوليون فيه فذهب الأشعري وأهل الظاهر وجماعة من
الفقهاء إلى أن الواضع هو الله تعالى ووضعه متلقي لنا من جهة التوقيف
الإلهي إما بالوحي أو بأن يخلق الله الأصوات والحروف ويسمعها لواحد أو
لجماعة ويخلق له أو لهم العلم الضروري بأنها قصدت للدلالة على المعاني
محتجين على ذلك بآيات منها قوله تعالى: " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم
على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا
علم لنا إلا ما علمتنا " دل على أن آدم والملائكة لا يعلمون إلا بتعليم
الله تعالى ومنها قوله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء " وقوله تعالى: "
تبياناً لكل شيء " وقوله تعالى: " اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم
الإنسان ما لم يعلم " واللغات داخلة في هذه المعلومات وقوله تعالى: " إن هي
إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان " ذمهم على
تسمية بعض الأشياء من غير توقيف فدل على أن ما عداها توقيف وقوله تعالى: "
ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم " والمراد به اللغات لا نفس
اختلاف هيئات الجوارح من الألسنة لأن اختلاف اللغات أبلغ في مقصود الآية
فكان أولى بالحمل عليه.
وذهبت البهشمية وجماعة من المتكلمين إلى أن ذلك
من وضع أرباب اللغات واصطلاحهم وأن واحدا أو جماعة انبعثت داعيته أو
دواعيهم إلى وضع هذه الألفاظ بازاء معانيها ثم حصل تعريف الباقين بالإشارة
والتكرار كما يفعل الوالدان بالولد الرضيع وكما يعرف الأخرس ما في ضميره
بالإشارة والتكرار مرة بعد أخرى محتجين على ذلك بقوله تعالى: " وما أرسلنا
من رسول إلا بلسان قومه " وهذا دليل على تقدم اللغة على البعثة والتوقيف.
وذهب
الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائني إلى أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى
التواضع بالتوقيف وإلا فلو كان بالاصطلاح فالاصطلاح عليه متوقف على ما
يدعو به الإنسان غيره إلى الاصطلاح على ذلك الأمر فإن كان بالاصطلاح لزم
التسلسل وهو ممتنع فلم يبق غير التوقيف وجوز حصول ما عدا ذلك بكل واحد من
الطريقين.
وذهب القاضي أبو بكر وغيره من أهل التحقيق إلى أن كل واحد من
هذه المذاهب ممكن بحيث لو فرض وقوعه لم يلزم عنه محال لذاته وأما وقوع
البعض دون البعض فليس عليه دليل قاطع والظنون فمتعارضة يمتنع معها المصير
إلى التعيين.
هذا ما قيل والحق أن يقال إن كان المطلوب في هذه المسألة
يقين الوقوع لبعض هذه المذاهب فالحق ما قاله القاضي أبو بكر إذ لا يقين من
شيء منها على ما يأتي تحقيقه.
وإن كان المقصود إنما هو الظن وهو الحق
فالحق ما صار إليه الأشعري لما قيل من النصوص لظهورها في المطلوب فإن قيل
لا نسلم ظهور النصوص المذكورة في المطلوب.
أما قوله تعالى: " وعلم آدم
الأسماء كلها " فالمراد بالتعليم إنما هو إلهامه وبعث داعيته على الوضع
وسمي بذلك معلماً لكونه الهادي إليه لا بمعنى أنه أفهمه ذلك بالخطاب على ما
قال تعالى في حق داود: " وعلمناه صنعة لبوس لكم " معناه ألهمناه ذلك وقوله
تعالى في حق سليمان: " ففهمناها سليمان " أي ألهمناه.
سلمنا أن
المراد به الإفهام بالخطاب والتوقيف ولكن أراد به كل الأسماء مطلقاً أو
الأسماء التي كانت موجودة في زمانه الأول ممنوع والثاني مسلم سلمنا أنه
أراد به جميع الأسماء مطلقاً غير أن ذلك يدل على أن علم آدم بها كان
توقيفياً ولا يلزم أن يكون أصلها بالتوقيف لجواز أن يكون من مصطلح خلق سابق
على آدم والباري تعالى علمه ما اصطلح عليه غيره.
سلمنا أن جميع الأسماء
المعلومة لآدم بالتوقيف له ولكنه يحتمل أنه أنسيها ولم يوقف عليها من بعده
واصطلح أولاده من بعده على هذه اللغات والكلام إنما هو في هذه اللغات.
وأما
قول الملائكة " لا علم لنا إلا ما علمتنا " فلا يدل على أن أصل اللغات
التوقيف لما عرف في حق آدم وقوله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء "
فالمراد به أن ما ورد في الكتاب لا تفريط فيه وإن كان المراد به أنه بين
فيه كل شيء فلا منافاة بينه وبين كونه معرفاً للغات من تقدم.
وعلى هذا
يخرج الجواب عن قوله تعالى: " تبياناً لكل شيء " وعن قوله " علم الإنسان ما
لم يعلم " وأما آية الذم فالذم فيها إنما كان على إطلاقهم أسماء الأصنام
مع اعتقادهم كونها آلهة وأما آية اختلاف الألسنة فهي غير محمولة على نفس
الجارحة بالإجماع فلا بد من التأويل وليس تأويلها بالحمل على اللغات أولى
من تأويلها بالحمل على الإقدار على اللغات كيف وأن التوقيف يتوقف على معرفة
كون تلك الألفاظ دالة على تلك المعاني وذلك لا يعرف إلا بأمر خارج عن تلك
الألفاظ والكلام فيه إن كان توقيفياً كالكلام في الأول وهو تسلسل ممتنع فلم
يبق غير الاصطلاح.
ثم ما ذكرتموه معارض بقوله تعالى: " وما أرسلنا من
رسول إلا بلسان قومه " وذلك يدل على سبق اللغات على البعثة والجواب: قولهم:
المراد من تعليم آدم إلهامه بالوضع والاصطلاح مع نفسه وهو خلاف الظاهر من
إطلاق لفظ التعليم ولهذا فإن من اخترع أمراً واصطلح عليه مع نفسه يصح أن
يقال: إنه ما علمه أحد ذلك ولو كان إطلاق التعليم بمعنى الإلهام بما يفعله
الإنسان مع نفسه حقيقة لما صح نفيه وحيث صح نفيه دل على كونه مجازاً والأصل
في الإطلاق الحقيقة ولا يلزم من التأويل فيما ذكروه من التعليم في حق داود
وسليمان التأويل فيما نحن فيه إلا أن الاشتراك في دليل التأويل والأصل
عدمه.
وقولهم: أراد به الأسماء الموجودة في زمانه إنما يصح أن لو لم يكن
جميع الأسماء موجودة في زمانه وهو غير مسلم بل الباري تعالى علمه كل ما
يمكن التخاطب به ويجب الحمل عليه عملا بعموم اللفظ.
قولهم: من الجائز أن
يكون جميع الأسماء من مصطلح من كان قبل آدم قلنا: وإن كان ذلك محتملاً إلا
أن الأصل عدمه فمن ادعاه يحتاج إلى دليل وبه يبطل أنه يحتمل أنه أنسيها إذ
الأصل عدم النسيان وبقاء ما كان على ما كان وعلى هذا فقد خرج الجواب عما
ذكروه من تأويل قول الملائكة " لا علم لنا إلا ما علمتنا " إذ هو مبني على
ما قيل من التأويل في حق آدم وقد عرف جوابه.
قولهم: المراد من قوله
تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شيء " أنه لا تفريط فيما في الكتاب ليس
كذلك فإن ذلك معلوم لكل عاقل قطعاً فحمل اللفظ عليه لا يكون مفيداً.
قولهم:
لا منافاة بينه وبين كونه معرفاً للغات من تقدم فقد سبق جوابه وبه يخرج
الجواب عما ذكروه على قوله تعالى: " تبياناً لكل شيء " وعن قوله " علم
الإنسان ما لم يعلم " .
قولهم في آية الذم إنما ذمهم على اعتقادهم كون
الأصنام آلهة فهو خلاف الظاهر من إضافة الذم إلى التسمية ولا يقبل من غير
دليل وما ذكروه على الآية الأخيرة فلا يخفى أن الترجيح بحمل اللفظ على
اختلاف اللغات دون حمله على الإقدار على اللغات لكونه أقل في الإضمار إذ هو
يفتقر إلى إضمار اللغات لا غير وما ذكروه يفتقر إلى إضمار القدرة على
اللغات فلا يصار إليه.
قولهم في المعنى إنه يفضي إلى التسلسل ليس كذلك
فإنه لا مانع أن يخلق الله تعالى العبارات ويخلق لمن يسمعها العلم الضروري
بأن واضعاً وضعها لتلك المعاني كما سبق ثم ما ذكروه لازم عليهم في القول
بالاصطلاح فإن ما يدعى به إلى الوضع والاصطلاح لا بد وأن يكون معلوماً فإن
كان معلوماً بالاصطلاح لزم التسلسل وهو ممتنع فلم يبق غير التوقيف.
وما
ذكروه من المعارضة بالآية الأخيرة فإنما يلزم أن لو كان طريق التوقيف
منحصراً في الرسالة وليس كذلك بل جاز أن يكون أصل التوقيف معلوما إما
بالوحي من غير واسطة وإما بخلق اللغات وخلق العلم الضروري للسامعين بأن
واضعاً وضعها لتلك المعاني على ما سبق.
وأما طرق معرفتها لنا فاعلم أن
ما كان منها معلوماً بحيث لا يتشكك فيه مع التشكيك كعلمنا بتسمية الجوهر
جوهراً والعرض عرضاً ونحوه من الأسامي فنعلم أن مدرك ذلك إنما هو التواتر
القاطع وما لم يكن معلوماً لنا ولا تواتر فيه فطريق تحصيل الظن به إنما هو
إخبار الآحاد ولعل الأكثر إنما هو الأول.القسم الثالث
في المبادئ الفقهية والأحكام الشرعية
اعلم أن الحكم الشرعي يستدعي حاكماً ومحكوماً فيه ومحكوماً عليه فلنفرض في كل واحد أصلاً وهي أربعة أصول.
الأصل الأولفي الحاكم
اعلم
أنه لا حاكم سوى الله تعالى ولا حكم إلا ما حكم به ويتفرع عليه أن العقل
لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب شكر المنعم وأنه لا حكم قبل ورود الشرع ولنرسم
في كل واحد مسألة: المسألة الأولى مذهب أصحابنا وأكثر العقلاء أن الأفعال
لا توصف بالحسن والقبح لذواتها وأن العقل لا يحسن ولا يقبح وإنما إطلاق اسم
الحسن والقبح عندهم باعتبارات ثلاثة إضافية غير حقيقية.
أولها إطلاق
اسم الحسن على ما وافق الغرض والقبيح على ما خالفه وليس ذلك ذاتياً
لاختلافه وتبدله بالنسبة إلى اختلاف الأغراض بخلاف اتصاف المحل بالسواد
والبياض وثانيها إطلاق اسم الحسن على ما أمر الشارع بالثناء على فاعله
ويدخل فيه أفعال الله تعالى والواجبات والمندوبات دون المباحات وإطلاق اسم
القبيح على ما أمر الشارع بذم فاعله ويدخل فيه الحرام دون المكروه والمباح
وذلك أيضاً مما يختلف باختلاف ورود أمر الشارع في الأفعال.
وثالثها
إطلاق اسم الحسن على ما لفاعله مع العلم به والقدرة عليه أن يفعله بمعنى
نفي الحرج عنه في فعله وهو أعم من الاعتبار الأول لدخول المباح فيه والقبيح
في مقابلته ولا يخفى أن ذلك أيضاً مما يختلف باختلاف الأحوال فلا يكون
ذاتياً وعلى هذا فما كان من أفعال الله تعالى بعد ورود الشرع فحسن
بالاعتبار الثاني والثالث وقبله بالاعتبار الثالث وما كان من أفعال العقلاء
قبل ورود الشرع فحسنه وقبيحه بالاعتبار الأول والثالث وبعده بالاعتبارات
الثلاثة.
وذهب المعتزلة والكرامية والخوارج والبراهمة وغيرهم إلى أن
الأفعال منقسمة إلى حسنة وقبيحة لذواتها لكن منها ما يدرك حسنه وقبحه
بضرورة العقل كحسن الإيمان وقبح الكفران أو بنظره كحسن الصدق المضر وقبح
الكذب النافع أو بالسمع كحسن العبادات لكن اختلفوا: فزعمت الأوائل من
المعتزلة أن الحسن والقبيح غير مختص بصفة موجبة لحسنه وقبحه ومنهم من أوجب
ذلك كالجبائية ومنهم من فصل وأوجب ذلك في القبيح دون الحسن ونشأ بينهم بسبب
هذا الاختلاف اختلاف في العبارات الدالة على معنى للحسن والقبيح أومأنا
إليها وإلى مناقضتهم فيها في علم الكلام وقد احتج أصحابنا بحجج: الأولى أنه
لو كان الكذب قبيحاً لذاته للزم منه أنه إذا قال: إن بقيت ساعة أخرى كذبت
أن يكون الحسن منه في الساعة الأخرى الصدق أو الكذب: والأول ممتنع لما
يلزمه من كذب الخبر الأول وهو قبيح وما لزم منه القبيح فهو قبيح فلم يبق
غير الثاني وهو المطلوب.
الثانية لو كان قبح الخبر الكاذب ذاتياً فإذا
قال القائل: زيد في الدار ولم يكن فيها فالمقتضي لقبحه إما نفس ذلك اللفظ
وإما عدم المخبر عنه وإما مجموع الأمرين وإما أمر خارج: الأول يلزمه قبح
ذلك الخبر وإن كان صادقاً والثاني يلزمه أن يكون العدم علة للأمر الثبوتي
والثالث يلزمه أن يكون العدم جزء علة الأمر الثبوتي والكل محال وإن كان
الرابع فذلك المقتضي الخارج إما لازم للخبر المفروض وإما غير لازم فإن كان
الأول فإن كان لازماً لنفس اللفظ لزم قبحه وإن كان صادقاً وإن كان لازماً
لعدم المخبر عنه أو لمجموع الأمرين كان العدم مؤثراً في الأمر الثبوتي وهو
محال وإن كان لازماً لأمر خارج عاد التقسيم في ذلك الخارج وهو تسلسل وإن لم
يكن ذلك المقتضي الخارج لازماً للخبر الكاذب أمكن مفارقته له فلا يكون
الخبر الكاذب قبيحاً.
أنه لا حاكم سوى الله تعالى ولا حكم إلا ما حكم به ويتفرع عليه أن العقل
لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب شكر المنعم وأنه لا حكم قبل ورود الشرع ولنرسم
في كل واحد مسألة: المسألة الأولى مذهب أصحابنا وأكثر العقلاء أن الأفعال
لا توصف بالحسن والقبح لذواتها وأن العقل لا يحسن ولا يقبح وإنما إطلاق اسم
الحسن والقبح عندهم باعتبارات ثلاثة إضافية غير حقيقية.
أولها إطلاق
اسم الحسن على ما وافق الغرض والقبيح على ما خالفه وليس ذلك ذاتياً
لاختلافه وتبدله بالنسبة إلى اختلاف الأغراض بخلاف اتصاف المحل بالسواد
والبياض وثانيها إطلاق اسم الحسن على ما أمر الشارع بالثناء على فاعله
ويدخل فيه أفعال الله تعالى والواجبات والمندوبات دون المباحات وإطلاق اسم
القبيح على ما أمر الشارع بذم فاعله ويدخل فيه الحرام دون المكروه والمباح
وذلك أيضاً مما يختلف باختلاف ورود أمر الشارع في الأفعال.
وثالثها
إطلاق اسم الحسن على ما لفاعله مع العلم به والقدرة عليه أن يفعله بمعنى
نفي الحرج عنه في فعله وهو أعم من الاعتبار الأول لدخول المباح فيه والقبيح
في مقابلته ولا يخفى أن ذلك أيضاً مما يختلف باختلاف الأحوال فلا يكون
ذاتياً وعلى هذا فما كان من أفعال الله تعالى بعد ورود الشرع فحسن
بالاعتبار الثاني والثالث وقبله بالاعتبار الثالث وما كان من أفعال العقلاء
قبل ورود الشرع فحسنه وقبيحه بالاعتبار الأول والثالث وبعده بالاعتبارات
الثلاثة.
وذهب المعتزلة والكرامية والخوارج والبراهمة وغيرهم إلى أن
الأفعال منقسمة إلى حسنة وقبيحة لذواتها لكن منها ما يدرك حسنه وقبحه
بضرورة العقل كحسن الإيمان وقبح الكفران أو بنظره كحسن الصدق المضر وقبح
الكذب النافع أو بالسمع كحسن العبادات لكن اختلفوا: فزعمت الأوائل من
المعتزلة أن الحسن والقبيح غير مختص بصفة موجبة لحسنه وقبحه ومنهم من أوجب
ذلك كالجبائية ومنهم من فصل وأوجب ذلك في القبيح دون الحسن ونشأ بينهم بسبب
هذا الاختلاف اختلاف في العبارات الدالة على معنى للحسن والقبيح أومأنا
إليها وإلى مناقضتهم فيها في علم الكلام وقد احتج أصحابنا بحجج: الأولى أنه
لو كان الكذب قبيحاً لذاته للزم منه أنه إذا قال: إن بقيت ساعة أخرى كذبت
أن يكون الحسن منه في الساعة الأخرى الصدق أو الكذب: والأول ممتنع لما
يلزمه من كذب الخبر الأول وهو قبيح وما لزم منه القبيح فهو قبيح فلم يبق
غير الثاني وهو المطلوب.
الثانية لو كان قبح الخبر الكاذب ذاتياً فإذا
قال القائل: زيد في الدار ولم يكن فيها فالمقتضي لقبحه إما نفس ذلك اللفظ
وإما عدم المخبر عنه وإما مجموع الأمرين وإما أمر خارج: الأول يلزمه قبح
ذلك الخبر وإن كان صادقاً والثاني يلزمه أن يكون العدم علة للأمر الثبوتي
والثالث يلزمه أن يكون العدم جزء علة الأمر الثبوتي والكل محال وإن كان
الرابع فذلك المقتضي الخارج إما لازم للخبر المفروض وإما غير لازم فإن كان
الأول فإن كان لازماً لنفس اللفظ لزم قبحه وإن كان صادقاً وإن كان لازماً
لعدم المخبر عنه أو لمجموع الأمرين كان العدم مؤثراً في الأمر الثبوتي وهو
محال وإن كان لازماً لأمر خارج عاد التقسيم في ذلك الخارج وهو تسلسل وإن لم
يكن ذلك المقتضي الخارج لازماً للخبر الكاذب أمكن مفارقته له فلا يكون
الخبر الكاذب قبيحاً.
الثالثة لو كان الخبر الكاذب قبيحاً لذاته فالمقتضي
له لا بد وأن يكون ثبوتياً ضرورة اقتضائه للقبح الثبوتي وهو إن كان صفة
لمجموع حروف الخبر فهو محال لاستحالة اجتماعها في الوجود وإن كان صفة
لبعضها لزم أن تكون أجزاء الخبر الكاذب كاذبة ضرورة كون المقتضي لقبح الخبر
الكاذب إنما هو الكذب وذلك محال.
الرابعة أنه لو كان قبح الكذب وصفاً
حقيقياً لما اختلف باختلاف الأوضاع وقد اختلف حيث إن الخبر الكاذب قد يخرج
عن كونه كذباً وقبيحاً بوضع الواضع له أمراً أو نهياً.
الخامسة لو كان
الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عندما إذا استفيد به عصمة دم
نبي عن ظالم يقصد قتله السادسة لو كان الظلم قبيحاً لكونه ظلماً لكان
المعلول متقدماً على علته لأن قبح الظلم الذي هو معلول للظلم متقدم على
الظلم ولهذا ليس لفاعله أن يفعله وكان القبح مع كونه وصفاً ثبوتياً ضرورة
اتصاف العدم بنقيضه معللاً بما العدم جزء منه وذلك لأن مفهوم الظلم أنه
إضرار غير مستحق ولا استحقاق عدم وهو ممتنع.
السابعة أن أفعال العبد غير
مختارة له وما يكون كذلك لا يكون حسناً ولا قبيحاً لذاته إجماعاً وبيان
كونه غير مختار أن فعله إن كان لازماً له لا يسعه تركه فهو مضطر إليه لا
مختار له وإن جاز تركه فإن افتقر في فعله إلى مرجح عاد التقسيم وهو تسلسل
ممتنع وإلا فهو اتفاقي لا اختياري.
وهذه الحجج ضعيفة: أما الأولى فلأنه
أمكن أن يقال بأن صدقه في الساعة الأخرى حسن ولا يلزم من ملازمة القبيح له
قبحه وإن كان قبيحاً من جهة استلزامه للقبيح فلا يمتنع الحكم عليه بالحسن
والقبح بالنظر إلى ما اختص به من الوجوه والاعتبارات الموجبة للحسن والقبح
كما هو مذهب الجبائية وإن قدر امتناع ذلك فلا يمتنع الحكم بقبح صدقه لما
ذكروه وقبح كذبه لكونه كذباً.
وأما الثانية فلأنه لا امتناع من القول
بقبح الخبر مشروطاً بعدم زيد في الدار والشرط غير مؤثر وأما الثالثة فلما
يلزمها من امتناع اتصاف الخبر بكونه كاذباً وهو محال وأما الرابعة فلأنه لا
مانع من أن يكون قبح الخبر الكاذب مشروطاً بالوضع وعدم مطابقته للمخبر عنه
مع علم المخبر به كما كان ذلك مشروطاً في كونه كذباً وأما الخامسة فلأن
الكذب في الصورة المفروضة غير متعين لخلاص النبي لإمكان الإتيان بصورة
الخبر من غير قصد له أو مع التعريض وقصد الإخبار عن الغير وإذا لم يكن
متعيناً له كان قبيحاً وإن قدر تعيينه فالحسن والواجب ما لازمه من تخليص
النبي لا نفي الكذب واللازم غير الملزوم وغايته أنه لا يأثم به مع قبحه ولا
يحرم شرعاً لترجح المانع عليه.
وأما السادسة فلأنه أمكن منع تقدم قبح
الظلم عليه ضرورة كونه صفة له بل المتقدم إنما هو الحكم على ما سيوجد من
الظلم بكونه قبيحاً شرعاً وعرفاً وأمكن منع تعليل القبح بالعدم وعدم
الاستحقاق وإن كان لازماً للظلم فلا يلزم أن يكون داخلاً في مفهومه فأمكن
أن يكون الظلم علة القبح بما فيه من الأمر الوجودي والعدم شرطه.
وأما
السابعة فلأنه يلزم أن يكون الرب تعالى مضطراً إلى أفعاله غير مختار فيها
لتحقق عين ما ذكروه من القسمة في أفعاله وهو محال ويلزم أيضاً منها امتناع
الحكم بالحسن والقبح الشرعي على الأفعال والجواب يكون مشتركاً.
والمعتمد
في ذلك أن يقال لو كان فعل من الأفعال حسناً أو قبيحاً لذاته فالمفهوم من
كونه قبيحاً وحسناً ليس هو نفس ذات الفعل وإلا كان من علم حقيقة الفعل
عالماً بحسنه وقبحه وليس كذلك لجواز أن يعلم حقيقة الفعل ويتوقف العلم
بحسنه وقبحه على النظر كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع وإن كان مفهومه
زائداً على مفهوم الفعل الموصوف به فهو صفة وجودية لأن نقيضه وهو لا حسن
ولا قبح صفة للعدم المحض فكان عدمياً ويلزم من ذلك كون الحسن والقبح
وجودياً وهو قائم بالفعل لكونه صفة له ويلزم من ذلك قيام العرض بالعرض وهو
محال وذلك لأن العرض الذي هو محل العرض لا بد وأن يكون قائماً بالجوهر أو
بما هو في آخر الأمر قائم بالجوهر قطعاً للتسلسل الممتنع وقيام العرض
بالجوهر لا معنى له غير وجوده في حيث الجوهر تبعاً له فيه وقيام أحد
العرضين بالآخر لا معنى له سوى أنه في حيث العرض الذي قيل إنه قائم به وحيث
ذلك العرض هو حيث الجوهر فهما في حيث الجوهر وقائمان به ولا معنى لقيام
أحدهما بالآخر وإن كان قيام أحدهما بالآخر مشروطاً بقيام العرض الآخر به.
فإن
قيل: ما ذكرتموه يلزم منه امتناع اتصاف الفعل بكونه ممكناً ومعلوماً
ومقدوراً ومذكوراً وهو محال ثم ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيض مدلوله
وبيانه من جهة الاستدلال والإلزام: أما الاستدلال فمن وجهين: الأول اتفاق
العقلاء على حسن الصدق النافع وقبح الكذب المضر وكذلك حسن الإيمان وقبح
الكفران وغير ذلك مع قطع النظر عن كل حالة تقدر من عرف أو شريعة أو غير ذلك
فكان ذاتياً والعلم به ضروري الثاني: إنا نعلم أن من استوى في تحصيل غرضه
الصدق والكذب وقطع النظر في حقه عن الاعتقادات والشرائع وغير ذلك من
الأحوال فإنه يميل إلى الصدق ويؤثره وليس ذلك إلا لحسنه في نفسه وكذلك نعلم
أن من رأى شخصاً مشرفاً على الهلاك وهو قادر على إنقاذه فإنه يميل إليه
وإن كان بحيث لا يتوقع في مقابلة ذلك حصول غرض دنياوي ولا أخروي بل ربما
كان يتضرر بالتعب والتعني وليس ذلك إلا لحسنه في ذاته.
وأما من جهة
الإلزام فهو أنه لو كان السمع وورود الأمر والنهي هو مدرك الحسن والقبح لما
فرق العاقل بين من أحسن إليه وأساء ولما كان فعل الله حسناً قبل ورود
السمع ولجاز من الله الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة ولجاز إظهار المعجزة
على يد الكذاب ولا امتنع الحكم بقبح الكذب على الله تعالى قبل ورود السمع
ولكان الوجوب أيضاً متوقفاً على السمع ويلزم من ذلك إفحام الرسل من حيث إن
النبي إذا بعث وادعى الرسالة ودعا إلى النظر في معجزته فللمدعو أن يقول: لا
أنظر في معجزتك ما لم يجب علي النظر ووجوب النظر متوقف على استقرار الشرع
بالنظر في معجزتك وهو دور.
والجواب عن الأول: أن ما ذكروه من الصفات
فأمور تقديرية فمفهوم نقائضها سلب التقدير والأمور المقدرة ليست من الصفات
العرضية فلا يلزم منه قيام العرض بالعرض فإن قيل مثله في الحسن والقبح فقد
خرج عن كونه من الصفات الثبوتية للذات وهو المطلوب وعن المعارضة الأولى
بمنع إجماع العقلاء على الحسن والقبح فيما ذكروه فإن من العقلاء من لا
يعتقد ذلك كبعض الملاحدة ونحن أيضاً لا نوافق على قبح إيلام البهائم من غير
جرم ولا غرض وهو من صور النزاع وإن كان ذلك متفقاً عليه بين العقلاء فلا
يلزم أن يكون العلم به ضرورياً وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء عادة وإن
كان ذلك معلوماً ضرورة فلا يلزم من أن يكون ذاتياً إلا أن يكون مجرداً من
أمر خارج وهو غير مسلم على ما يأتي وعن المعارضة الثانية أنه لا يخلو إما
أن يقال بالتفاوت بين الصدق والكذب ولو بوجه أو لا يقال به والأول يلزمه
إبطال الاستدلال والثاني يمنع معه إيثار أحد الأمرين دون الآخر وعلى هذا إن
كان ميله إلى الإنقاذ لتحقق أمر خارج فالاستدلال باطل وإن لم يكن فالميل
إلى الإنقاذ لا يكون مسلماً وإن سلم دلالة ما ذكرتموه في حق الشاهد فلا
يلزم مثله في حق الغائب إلا بطريق قياسه على الشاهد وهو متعذر لما بيناه في
علم الكلام ثم كيف يقاس والإجماع منعقد على التفرقة بتقبيح تمكين السيد
لعبيده من الفواحش مع العلم بهم والقدرة على منعهم دون تقبيح ذلك بالنسبة
إلى الله تعالى.
فإن قيل: إنما لم يقبح من الله ذلك لعدم قدرته على
منع الخلق من المعاصي وذلك لأن ما يقع من العبد من المعصية لا بد وأن يكون
وقوعها معلوماً للرب وإلا كان جاهلاً بعواقب الأمور وهو محال ومنع الرب
تعالى من وقوع ما هو معلوم الوقوع له لا يكون مقدوراً كما ذهب إليه النظام.
قلنا:
فما قيل فهو بعينه لازم بالنسبة إلى السيد وأولى أن لا يكون السيد قادراً
على المنع ومع ذلك فالفرق واقع والجواب: عن الإلزام الأول: أن مفهوم الحسن
والقبح بمعنى موافقة الغرض ومخالفته وبمعنى ما للفاعل أن يفعله وأن لا
يفعله متحقق قبل ورود الشرع لا بالمعنى الذاتي وعن الثاني: أن فعل الله قبل
ورود الشرع حسن بمعنى أن له فعله وعن الثالث: أنه لا معنى للطاعة عندنا
إلا ما ورد الأمر به ولا معنى للمعصية إلا ما ورد النهي عنه وعلى هذا فلا
يمتنع ورود الأمر بما كان منهياً والنهي بما كان مأموراً.
وعن الرابع:
أنه إنما يلزم أن لو لم يكن لامتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب مدرك سوى
القبح الذاتي وليس كذلك وبه اندفاع الإلزام الخامس أيضاً وعن السادس: ما
سيأتي في المسألة بعدها وإذا بطل معنى الحسن والقبح الذاتي لزم منه امتناع
وجوب شكر المنعم عقلاً وامتناع حكم عقلي قبل ورود الشرع إذ هما مبنيان على
ذلك غير أن عادة الأصوليين جارية لفرض الكلام في هاتين المسألتين إظهاراً
لما يختص بكل واحد من الإشكالات والمناقضات.
المسألة الثانية مذهب
أصحابنا وأهل السنة أن شكر المنعم واجب سمعاً لا عقلاً خلافاً للمعتزلة في
الوجوب العقلي احتج أصحابنا على امتناع إيجاب العقل لذلك بأن قالوا لو كان
العقل موجباً فلا بد وأن يوجب لفائدة وإلا كان إيجابه عبثاً وهو قبيح
ويمتنع عود الفائدة إلى الله تعالى لتعاليه عنها وإن عادت إلى العبد فإما
أن تعود إليه في الدنيا أو في الأخرى.
الأول محال فإن شكر الله تعالى
عند الخصوم ليس هو معرفة الله تعالى لأن الشكر فرع المعرفة وإنما هو عبارة
عن إتعاب النفس وإلزام المشقة لها بتكليفها تجنب المستقبحات العقلية وفعل
المستحسنات العقلية وهو فرع التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه فلم يبق
سوى التعب والعناء المحض الذي لا حظ للنفس فيه.
والثاني محال لعدم
استقلال العقل بمعرفة الفائدة الأخروية دون إخبار الشارع بها ولا إخبار
وأيضاً فإنه لا معنى لكون الشيء واجباً سوى ترجح فعله على تركه وبالعقل
يعرف الترجيح لا أنه مرجح فلا يكون موجباً إذ الموجب هو المرجح وإذا بطل
الإيجاب العقلي تعين الإيجاب الشرعي ضرورة انعقاد الإجماع على حصر الوجوب
في الشرع والعقل فإذا بطل أحد القسمين تعين الثاني منهما.
فإن قيل: شكر
المنعم معلوم لكل أحد ضرورة فما ذكرتموه استدلال على إبطال أمر ضروري فلا
يقبل وإن لم يكن كذلك فلم قلتم إن إيجاب العقل للشكر لا بد وأن يكون لفائدة
قولكم حتى لا يكون عبثاً قبيحاً فهذا منكم لا يستقيم مع إنكار القبح
العقلي كيف وإن تلك الفائدة إما أن تكون واجبة التحصيل وإما أن لا تكون
كذلك: فإن كانت واجبة التحصيل استدعت فائدة أخرى وهو تسلسل ممتنع وإن لم
تكن واجبة فما يوجبه العقل بها أولى أن لا يكون واجباً وإن كان لفائدة فما
المانع أن تكون الفائدة في الشكر نفس الشكر لا أمراً خارجاً عنه كما أن
تحصيل المصلحة ودفع المفسدة عن النفس مطلوب لنفسه لا لغيره وإن كان لا بد
من فائدة خارجة عن كون الشكر شكراً فما المانع أن تكون الفائدة الأمن من
احتمال العقاب بتقدير عدم الشكر على ما أنعم الله به عليه من النعم إذ هو
محتمل ولا يخلو العاقل عن خطور هذا الاحتمال بباله وذلك من أعظم الفوائد
وإن سلم دلالة ما ذكرتموه على امتناع الإيجاب العقلي لكنه بعينه دال على
امتناع الإيجاب الشرعي.
والجواب أن ذاك يكون مشتركاً وإن لم يكن كذلك
ولكن ما ذكرتموه معارض بما يدل على جواز الإيجاب العقلي وذلك إنه لم يكن
العقل موجباً لانحصرت مدارك الوجوب في الشرع لما ذكرتموه في الإجماع وذلك
محال لما يلزم عنه من إفحام الرسل وإبطال مقصود البعثة وذلك أن النبي إذا
ادعى الرسالة وتحدي بالمعجزة ودعا الناس إلى النظر فيها لظهور صدقه فللمدعو
أن يقول: لا أنظر في معجزتك إلا أن يكون النظر واجباً علي شرعاً ووجوب
النظر شرعاً متوقف على استقرار الشرع وذلك متوقف على وجوب النظر وهو دور
ممتنع.
والجواب: لا نسلم أن العلم الضروري بما ذكروه عقلاً إذ هو دعوى
محل النزاع وإن سلم ذلك لكن بالنسبة إلى من ينتفع بالشكر ويتضرر بعدمه وأما
بالنسبة إلى الله تعالى مع استحالة ذلك في حقه فلا قولهم: لم قلتم برعاية
الفائدة قلنا: لما ذكرناه.
قولهم: هذا منكم لا يستقيم قلنا: إنما ذكرنا
ذلك بطريق الإلزام للخصم لكونه قائلاً به وبه يبطل ما ذكروه في إبطال رعاية
الفائدة كيف وقد أمكن أن يقال بوجوب تحصيل الحكمة لحكمة هي نفسها كما
ذكروه من جلب المصلحة ودفع المفسدة عن النفس ولا يمكن أن يقال مثل ذلك في
فعل الشكر فإن نفس الفعل ليس هو الحكمة المطلوبة من إيجاده ولو أمكن ذلك
لأمكن أن يقال مثله في جميع الأفعال وهو خلاف الإجماع وإذا لم تكن الفائدة
المطلوبة من إيجاده بقي التقسيم بحالة.
قولهم: ما المانع أن تكون
الفائدة هي الأمن على ما ذكروه فهو مبني على امتناع خلو العاقل عن خطور ما
ذكروه من الاحتمال بباله وهو غير مسلم على ما هو معلوم من أكثر العقلاء
شاهداً وبتقدير صحة ذلك فما ذكروه معارض باحتمال خطور العقاب بباله على شكر
الله تعالى وإتعابه لنفسه وتصرفه فيها مع أنها مملوكة لله تعالى دون إذنه
من غير منفعة ترجع إليه ولا إلى الله تعالى وليس أحدهما أولى من الآخر بل
ربما كان هذا الاحتمال راجحاً وذلك من جهة أنه قد تقرر في العقول أن من أخذ
في التقرب والخدمة إلى بعض الملوك العظماء بتحريك أنملته في كسر بيته
وإظهار شكره بين العباد في البلاد على إعطائه لقمة من الخبز مع استغنائه
واستغناء الملك عنها فإنه يعد مستهزئاً بذلك الملك مستحقاً للعقاب على
صنعه.
ولا يخفى أن شكر الشاكرين بالنسبة إلى جلال الله تعالى دون تحريك
الأنملة بالنسبة إلى جلال الملك وأن ما أنعم الله به على العبيد لعدم تناهي
ملكه وتناهي ملك غيره دون تلك اللقمة فكان المتعاطي لخدمة الله وشكره على
ما أنعم به عليه به أولى بالذم واستحقاق العقاب ولولا ورود الشرع بطلب ذلك
من العبيد وحثهم عليه لما وقع الإقدام عليه.
وما يقال من حال المشتغل
بالشكر والخدمة أرجى حالاً من المعرض عن ذلك عرفاً فكان أولى فهو مسلم في
حق من ينتفع بالخدمة والشكر ويتضرر بعدمهما والباري تعالى منزه عن ذلك فلا
يطرد ما ذكروه في حقه.
قولهم: ما ذكرتموه لازم عليكم في الإيجاب الشرعي
ليس كذلك فإن الفائدة الأخروية وإن لم يستقل العاقل بمعرفتها فالله تعالى
عالم بها كيف وإن ذلك إنما يلزم منا أن لو اعتبرنا الحكمة في الإيجاب
الشرعي وليس ذلك على ما عرف من أصلنا.
وأما المعارضة بما ذكروه من إفحام
الرسل فجوابه من وجهين: الأول منع توقف استقرار الشرع على نظر المدعو في
المعجزة بل مهما ظهرت المعجزة في نفسها وكان صدق النبي فيما ادعاه ممكناً
وكان المدعو عاقلاً متمكناً من النظر والمعرفة فقد استقر الشرع وثبت
والمدعو مفرط في حق نفسه الثاني إن الدور لازم على القائل بالإيجاب العقلي
لأن العقل بجوهره غير موجب دون النظر والاستدلال وإلا لما خلا عاقل عن ذلك
وعند ذلك فللمدعو أن يقول لا أنظر في معجزتك حتى أعرف وجوب النظر ولا أعرف
وجوب النظر حتى أنظر وهو دور مفحم والجواب إذ ذاك يكون واحداً وعلى كل
تقدير فالمسألة ظنية لا قطعية.
المسألة الثالثة
مذهب الأشاعرة
وأهل الحق أنه لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود الشرع وأما المعتزلة فإنهم
قسموا الأفعال الخارجة عن الأفعال الاضطرارية إلى ما حسنه العقل وإلى ما
قبحه وإلى ما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح فما حسنه العقل إن استوى فعله
وتركه في النفع والضرر سموه مباحاً وإن ترجح فعله على تركه فإن لحق الذم
بتركه سموه واجباً وسواء كان مقصوداً لنفسه كالإيمان أو لغيره كالنظر
المفضي إلى معرفة الله تعالى وإن لم يلحق الذم بتركه سموه مندوباً وما قبحه
العقل فإن التحق الذم بفعله سموه حراماً وإلا فمكروه وما لم يقض العقل فيه
بحسن ولا قبح فقد اختلفوا فيه فمنهم من حظره ومنهم من أباحه ومنهم من وقف
عن الأمرين.
احتجت الأشاعرة بالمنقول والمعقول: أما المنقول فقول الله
تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " " الإسراء 15 " ووجه الدلالة
منه أنه أمن من العذاب قبل بعثه الرسل وذلك يستلزم انتفاء الوجوب والحرمة
قبل البعثة وإلا لما أمن من العذاب بتقدير ترك الواجب وفعل المحرم إذ هو
لازم لهما وأيضاً قوله تعالى " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " "
النساء 165 " ومفهومه يدل على الاحتجاج قبل البعثة ويلزم من ذلك نفي
الموجب والمحرم.
وأما من جهة المعقول فلأن ثبوت الحكم إما بالشرع أو
بالعقل بالإجماع ولا شرع قبل ورود الشرع والعقل غير موجب ولا محرم لما سبق
في المسألة المتقدمة فلا حكم.
فإن قيل: أما الآية الأولى فلا حجة فيها
فإنه ليس العذاب من لوازم ترك الواجب وفعل المحرم ولهذا يجوز انفكاكه عنهما
بناء على عفو أو شفاعة فنفيه قبل ورود الشرع لا يلزم منه نفيهما سلمنا أنه
لازم لهما لكن بعد ورود الشرع لا قبله وعلى هذا فلا يلزم نفيهما من نفيه
قبل ورود الشرع سلمنا أنه لازم لهما لكنه لازم للواجب والمحرم شرعاً أو
عقلاً: الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا فاللازم من نفيه قبل الشرع نفي
الواجب والمحرم شرعاً لا عقلاً سلمنا ذلك ولكن ليس في الآية ما يدل على نفي
الإباحة والوقف لعدم ملازمة العذاب لشيء من ذلك إجماعاً.
وأما الآية
الأخرى " وإن سلمنا كون المفهوم حجة " فالاعتراض على الآية الأولى بعينه
وارد هاهنا وأما ما ذكرتموه من المعقول فقد سبق ما فيه كيف وأن ما ذكرتموه
من الدلالة على نفي الحكم حكم بنفي الحكم فكان متناقضاً.
والجواب عن
السؤال الأول أن وقوع العذاب بالفعل وإن لم يكن لازماً من ترك الواجب وفعل
المحرم فلازمه عدم الأمن من ذلك لعدم تحقق الواجب والمحرم دونه وهذا اللازم
منتف قبل ورود الشرع على ما دلت عليه الآية فلا ملزوم وبه يندفع ما ذكروه
من السؤال الثاني والثالث.
والتمسك بالآية إنما هو في نفي الوجوب
والحرمة قبل لا غير ونفي ما سوى ذلك فإنما يستفاد من دليل آخر على ما
سنبينه وبه اندفع السؤال الرابع.
وما ذكروه على الدليل العقلي فقد سبق
أيضاً جوابه ونفي الحكم وإن كان حكماً غير أن المنفي ليس هو الحكم مطلقاً
ليلزم التناقض بل نفي ما أثبتوه من الأحكام المذكورة فلا تناقض وأما
القائلون بالإباحة إن فسروها بنفي الحرج عن الفعل والترك فلا نزاع في هذا
المعنى وإنما النزاع في صحة إطلاق لفظ الإباحة بازائه ولهذا فإنه يمتنع
إطلاق لفظ الإباحة على أفعال الله تعالى مع تحقق ذلك المعنى فيها وإن
فسروها بتخيير الفاعل بين الفعل والترك فإما أن يكون ذلك التخيير للفاعل من
نفسه وإما من غيره فإن كان الأول فيلزم منه تسمية أفعال الله مباحة لتحقق
ذلك في حقه وهو ممتنع بالإجماع وإن كان الثاني فالمخير إما الشرع وإما
العقل بالإجماع ولا شرع قبل ورود الشرع وتخيير العقل عندهم إنما يكون فيما
استوى فعله وتركه من الأفعال الحسنة عقلاً أو فيما لم يقض العقل فيه بحسن
ولا قبح وهو فرع الحسن والقبح العقلي وقد أبطلناه وإن فسروه بأمر آخر فلا
بد من تصويره.
فإن قيل: المباح هو المأذون في فعله وقد ورد دليل الإذن من الله تعالى قبل ورود الشرع وإن لم ترد صورة الإذن وبيانه من وجهين:
الأول
هو أن الله تعالى خلق الطعوم من المأكولات والذوق فينا وأقدرنا عليها
وعرفنا بالأدلة العقلية أنها نافعة لنا غير مضرة ولا ضرر عليه في الانتفاع
بها وهو دليل الإذن منه لنا في ذلك وصار هذا كما لو قدم إنسان طعاماً بين
يدي إنسان على هذه الصفات فإن العقلاء يقضون بكونه قد أذن له فيه.
الثاني
أن خلقه للطعوم في الأجسام مع إمكان ألا يخلقها لا بد له من فائدة نفياً
للعبث عنه وليست تلك الفائدة عائدة إلى الله تعالى لتعاليه عنها فلا بد من
عودها إلى العبد وليست هي الإضرار ولا ما هو خارج عن الإضرار والانتفاع إذ
هو خلاف الإجماع فكانت فائدتها الانتفاع بها وهو دليل الإذن في إدراكها
وسواء كان الانتفاع بها بجهة الالتذاذ بها وتقوم البنية أو بجهة تجنبها
لنيل الثواب أو الاستدلال بها على معرفة الله تعالى لتوقف ذلك كله على
إدراكها واحتمال وجود مفسدة فيه مع عدم الاطلاع عليها لا يكون مانعاً من
الإذن والحكم بالإباحة بدليل الاستضاءة بسراج الغير والاستظلال بحائطه.
قلنا:
أما الوجه الأول فحاصله يرجع إلى قياس الغائب على الشاهد وقد أبطلناه وأما
الثاني فمبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعاله تعالى وهو ممنوع على ما عرف
من أصلنا ثم إذا كان مأذوناً فيه من جهة الشارع فإباحته شرعية لا عقلية.
وأما
القائلون بالوقف إن عنوا به توقف الحكم بهذه الأشياء على ورود السمع فحق
وإن عنوا به الإحجام عن الحكم بالوجوب أو الحظر أو الإباحة لتعارض أدلتها
ففاسد لما سبق.الأصل الثاني
في حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه
وما يتعلق به من المسائل.
ويشتمل
على مقدمة وستة فصول أما المقدمة ففي بيان حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه أما
حقيقته فقد قال بعض الأصوليين: إنه عبارة عن خطاب الشارع المتعلق بأفعال
المكلفين وقيل إنه عبارة عن خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد وهما فاسدان
لأن قوله تعالى: " والله خلقكم وما تعملون " " الصافات 96 " وقوله تعالى: "
خالق كل شيء " " الأنعام 62 " خطاب من الشارع وله تعلق بأفعال المكلفين
والعباد وليس حكماً شرعياً بالاتفاق وقال آخرون: إنه عبارة عن خطاب الشارع
المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير وهو غير جامع: فإن العلم
بكون أنواع الأدلة حججاً وكذلك الحكم بالملك والعصمة ونحوه أحكام شرعية
وليست على ما قيل.
والواجب أن نعرف معنى الخطاب أولاً ضرورة توقف معرفة
الحكم الشرعي عليه فنقول: قد قيل فيه: هو الكلام الذي يفهم المستمع منه
شيئاً وهو غير مانع فإنه يدخل فيه الكلام الذي لم يقصد التكلم به إفهام
المستمع فإنه على ما ذكر من الحد وليس خطاباً والحق إنه اللفظ المتواضع
عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه.
فاللفظ احتراز عما وقعت
المواضعة عليه من الحركات والإشارات المفهمة والمتواضع عليه احتراز عن
الألفاظ المهملة والمقصود بها الإفهام احتراز عما ورد على الحد الأول
وقولنا لمن هو متهيئ لفهمه احتراز عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم والمغمى
عليه ونحوه.
وإذا عرف معنى الخطاب فالأقرب أن يقال في حد الحكم الشرعي أنه خطاب الشارع المفيد فائدة شرعية.
فقولنا
خطاب الشارع احتراز عن خطاب غيره والقيد الثاني احتراز عن خطابه بما لا
يفيد فائدة شرعية كالإخبار عن المعقولات والمحسوسات ونحوها وهو مطرد منعكس
لا غبار عليه.
وإذا عرف معنى الحكم الشرعي فهو إما أن يكون متعلقاً
بخطاب الطلب والاقتضاء أو لا يكون: فإن كان الأول فالطلب إما للفعل أو
للترك وكل واحد منهما إما جازم أو غير جازم فما تعلق بالطلب الجازم للفعل
فهو الوجوب وما تعلق بغير الجازم منه فهو الندب وما تعلق بالطلب الجازم
للترك فهو الحرمة وما تعلق بغير الجازم منه فهو الكراهة وإن لم يكن متعلقاً
بخطاب الاقتضاء فإما أن يكون متعلقاً بخطاب التخيير أو غيره فإن كان الأول
فهو الإباحة وإن كان الثاني فهو الحكم الوضعي كالصحة والبطلان ونصب الشيء
سبباً أو مانعاً أو شرطاً وكون الفعل عبادة وقضاء وأداء وعزيمة ورخصة إلى
غير ذلك فلنرسم في كل قسم منها فصلاً وهي ستة فصول: الفصل الأول في حقيقة
الوجوب وما يتعلق به من المسائل
على مقدمة وستة فصول أما المقدمة ففي بيان حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه أما
حقيقته فقد قال بعض الأصوليين: إنه عبارة عن خطاب الشارع المتعلق بأفعال
المكلفين وقيل إنه عبارة عن خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد وهما فاسدان
لأن قوله تعالى: " والله خلقكم وما تعملون " " الصافات 96 " وقوله تعالى: "
خالق كل شيء " " الأنعام 62 " خطاب من الشارع وله تعلق بأفعال المكلفين
والعباد وليس حكماً شرعياً بالاتفاق وقال آخرون: إنه عبارة عن خطاب الشارع
المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير وهو غير جامع: فإن العلم
بكون أنواع الأدلة حججاً وكذلك الحكم بالملك والعصمة ونحوه أحكام شرعية
وليست على ما قيل.
والواجب أن نعرف معنى الخطاب أولاً ضرورة توقف معرفة
الحكم الشرعي عليه فنقول: قد قيل فيه: هو الكلام الذي يفهم المستمع منه
شيئاً وهو غير مانع فإنه يدخل فيه الكلام الذي لم يقصد التكلم به إفهام
المستمع فإنه على ما ذكر من الحد وليس خطاباً والحق إنه اللفظ المتواضع
عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه.
فاللفظ احتراز عما وقعت
المواضعة عليه من الحركات والإشارات المفهمة والمتواضع عليه احتراز عن
الألفاظ المهملة والمقصود بها الإفهام احتراز عما ورد على الحد الأول
وقولنا لمن هو متهيئ لفهمه احتراز عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم والمغمى
عليه ونحوه.
وإذا عرف معنى الخطاب فالأقرب أن يقال في حد الحكم الشرعي أنه خطاب الشارع المفيد فائدة شرعية.
فقولنا
خطاب الشارع احتراز عن خطاب غيره والقيد الثاني احتراز عن خطابه بما لا
يفيد فائدة شرعية كالإخبار عن المعقولات والمحسوسات ونحوها وهو مطرد منعكس
لا غبار عليه.
وإذا عرف معنى الحكم الشرعي فهو إما أن يكون متعلقاً
بخطاب الطلب والاقتضاء أو لا يكون: فإن كان الأول فالطلب إما للفعل أو
للترك وكل واحد منهما إما جازم أو غير جازم فما تعلق بالطلب الجازم للفعل
فهو الوجوب وما تعلق بغير الجازم منه فهو الندب وما تعلق بالطلب الجازم
للترك فهو الحرمة وما تعلق بغير الجازم منه فهو الكراهة وإن لم يكن متعلقاً
بخطاب الاقتضاء فإما أن يكون متعلقاً بخطاب التخيير أو غيره فإن كان الأول
فهو الإباحة وإن كان الثاني فهو الحكم الوضعي كالصحة والبطلان ونصب الشيء
سبباً أو مانعاً أو شرطاً وكون الفعل عبادة وقضاء وأداء وعزيمة ورخصة إلى
غير ذلك فلنرسم في كل قسم منها فصلاً وهي ستة فصول: الفصل الأول في حقيقة
الوجوب وما يتعلق به من المسائل
أما حقيقة الوجوب فاعلم أن الوجوب في
اللغة قد يطلق بمعنى السقوط ومنه يقال: وجبت الشمس إذا سقطت ووجب الحائط
إذا سقط وقد يطلق بمعنى الثبوت والاستقرار ومنه قوله عليه السلام " إذا وجب
المريض فلا تبكين باكية " أي استقر وزال عنه التزلزل والاضطراب.
وأما
في العرف الشرعي فقد قيل: هو ما يستحق تاركه العقاب على تركه وهو إن أريد
بالاستحقاق ما يستدعي مستحقاً عليه فباطل لعدم تحقق ذلك بالنسبة إلى الله
تعالى على ما بيناه في علم الكلام وبالنسبة إلى أحد من المخلوقين بالإجماع
وإن أريد به أنه لو عوقب لكان ذلك ملائماً لنظر الشارع فلا بأس به.
وقيل:
هو ما توعد بالعقاب على تركه وهو باطل لأن التوعد بالعقاب على الترك خبر
ولو ورد لتحقق العقاب بتقدير الترك لاستحالة الخلف في خبر الصادق وإن كان
ذلك في حق غيره يعد كرماً وفضيلة لما يلزمه من المصلحة الراجحة وليس كذلك
لجواز العفو عنه.
وقيل: هو الذي يخاف العقاب على تركه ويبطل بالمشكوك في
وجوبه كيف وإن هذه الحدود ليست حداً للحكم الشرعي وهو الوجوب بل للفعل
الذي هو متعلق الوجوب.
والحق في ذلك أن يقال: الوجوب الشرعي عبارة عن
خطاب الشارع بما ينتهض تركه سبباً للذم شرعاً في حالة ما فالقيد الأول
احتراز عن خطاب غير الشارع والثاني احتراز عن بقية الأحكام والثالث احتراز
عن ترك الواجب الموسع أول الوقت فإنه سبب للذم بتقدير إخلاء جميع الوقت عنه
وإخلاء أول الوقت من غير عزم على الفعل بعده وعن ترك الواجب المخير فإنه
سبب للذم بتقدير ترك البدل وليس سبباً له بتقدير فعل البدل وعلى هذا إن
قلنا إن الأذان وصلاة العيد فرض كفاية واتفق أهل بلدة على تركه قوتلوا وإن
قلنا إنه سنة فلا.
وبالجملة فلا بد في الوجوب من ترجيح الفعل على الترك
بما يتعلق به من الذم أو الثواب الخاص به فإنه لا تحقق للوجوب مع تساوي
طرفي الفعل والترك في الغرض وربما أشار القاضي أبو بكر إلى خلافه وإذا عرف
معنى الوجوب الشرعي فلا بد من الإشارة إلى ما يتعلق به من المسائل وهي سبع.
المسألة
الأولى هل الفرض غير الواجب أو هو هو أما في اللغة فالواجب هو الساقط
والثابت كما سبق تعريفه وأما الفرض فقد يطلق في اللغة بمعنى التقدير ومنه
قولهم: فرضتا القوس للحزتين اللتين في سيتيه موضع الوتر وفرضة النهر وهو
موضع اجتماع السفن ومنه قولهم: فرض الحاكم النفقة أي قدرها وقد يطلق بمعنى
الإنزال ومنه قوله تعالى " إن الذي فرض عليك القرآن " " القصص 85 " أي أنزل
وقد يطلق بمعنى الحل ومنه قوله تعالى: " ما كان على النبي من حرج فيما فرض
الله له " " الأحزاب 38 " أي أحل له.
وأما في الشرع فلا فرق بين الفرض
والواجب عند أصحابنا إذ الواجب في الشرع على ما ذكرناه عبارة عن خطاب
الشارع بما ينتهض تركه سبباً للذم شرعاً في حالة ما وهذا المعنى بعينه
متحقق في الفرض الشرعي وخص أصحاب أبي حنيفة اسم الفرض بما كان من ذلك
مقطوعاً به واسم الواجب بما كان مظنوناً مصيراً منهم إلى أن الفرض هو
التقدير والمظنون لم يعلم كونه مقدراً علينا بخلاف المقطوع فلذلك خص
المقطوع باسم الفرض دون المظنون والأشبه ما ذكره أصحابنا من حيث إن
الاختلاف في طريق إثبات الحكم حتى يكون هذا معلوماً وهذا مظنوناً غير موجب
لاختلاف ما ثبت به.
ولهذا فإن اختلاف طرق الواجبات في الظهور والخفاء
والقوة والضعف بحيث إن المكلف يقتل بترك البعض منها دون البعض لا يوجب
اختلاف الواجب في حقيقته من حيث هو واجب وكذا اختلاف طرق النوافل غير موجب
لاختلاف حقائقها وكذلك اختلاف طرق الحرام بالقطع والظن غير موجب لاختلافه
في نفسه من حيث هو حرام كيف وإن الشارع قد أطلق اسم الفرض على الواجب في
قوله تعالى " فمن فرض فيهن الحج " " البقرة 197 " أي أوجب والأصل أن يكون
مشعراً به حقيقة وأن لا يكون له مدلول سواه نفياً للتجوز والاشتراك عن
اللفظ والذي يؤيد إخراج قيد القطع عن مفهوم الفرض إجماع الأمة على إطلاق
اسم الفرض على ما أدى من الصلوات المختلف في صحتها بين الأئمة بقولهم: أد
فرض الله تعالى والأصل في الإطلاق الحقيقة وما ذكره الخصوم في تخصيص اسم
الفرض المقطوع به فمن باب التحكم حيث إن الفرض في اللغة هو التقدير مطلقاً
كان مقطوعاً به أو مظنوناً فتخصيص ذلك بأحد القسمين دون الآخر بغير دليل لا
يكون مقبولاً وبالجملة فالمسألة لفظية.
المسألة الثانية لا فرق عند
أصحابنا بين واجب العين والواجب على الكفاية من جهة الوجوب لشمول حد الواجب
لهما خلافاً لبعض الناس مصيراً منه إلى أن واجب العين لا يسقط بفعل الغير
بخلاف واجب الكفاية وغايته الاختلاف في طريق الإسقاط وذلك لا يوجب الاختلاف
في الحقيقة كالاختلاف في طريق الثبوت كما سبق ولهذا فإن من ارتد وقتل
فقتله بالردة وبالقتل واجب ومع ذلك فأحد الواجبين يسقط بالتوبة دون الواجب
الآخر ولم يلزم من ذلك اختلافهما.
المسألة الثالثة اختلفوا في الواجب
المخير كما في خصال الكفارة: فمذهب الأشاعرة والفقهاء أن الواجب منها واحد
لا بعينه ويتعين بفعل المكلف وأطلق الجبائي وابنه القول بوجوب الجميع على
التخيير.
حجة أصحابنا أنه لا يخلو إما أن يقال بوجوب الجميع أو بوجوب
واحد والواحد إما معين وإما غير معين لا جائز أن يقال بالأول لخمسة أوجه:
الأول أنه لو كان التخيير موجباً للجميع لكان الأمر بإيجاب عتق عبد من
العبيد على طريق التخيير موجباً للجميع وهو محال.
الثاني أن ذلك مما
يمنع من التخيير ولهذا فإنه لا يحسن أن يقول القائل لغيره أوجبت عليك
صلاتين فصل أيهما شئت واترك أيهما شئت كما لا يحسن أن يقول: أوجبت عليك
الصلاة وخيرتك في فعلها وتركها لما فيه من رفع الواجب وليس ذلك من لغة
العرب في شيء.
الثالث أن الواجب ما لا يجوز تركه مع القدرة عليه والأمر فيما نحن فيه بخلافه.
الرابع أن الخصوم قد وافقوا على أنه لو أتى بالجميع أو ترك الجميع فإنه لا يثاب ولا يعاقب على الجميع.
الخامس
أنه لو كان الجميع واجباً لنوي نية أداء الواجب في كل واحدة من الخصال
عندما إذا فعل الجميع وهو خلاف الإجماع ولا جائز أن يقال بأن الواجب واحد
معين إذ هو خلاف مقتضى التخيير ولأنه كان يلزم أن لا يحصل الإجزاء بتقدير
أداء غيره مع القدرة عليه وهو خلاف الإجماع فلم يبق غير الإبهام.
غير أن
أبا الحسين البصري قد تكلف رد الخلاف في هذه المسألة إلى اللفظ دون المعنى
وذلك أنه قال: معنى إيجاب الجميع أن الله تعالى حرم ترك الجميع لا كل واحد
واحد منها بتقدير فعل المكلف لواحد منها مع تفويض فعل أي واحد منها كان
إلى المكلف وهذا هو بعينه مذهب الفقهاء غير أن ما ذكره في تفسير وجوب
الجميع وإن كان رافعاً للخلاف غير أنه خلاف ما نقله الأئمة عن الجبائي
وابنه من إطلاق القول بوجوب الجميع والدلائل المشعرة بذلك فلننسج في الحجاج
على منوالهم.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الدليل إنما يلزم أن لو كانت
آية التكفير وهي قوله تعالى: " فكفارته إطعام عشرة مساكين " " المائدة 89 "
الآية دالة على تخيير كل واحد واحد من الأمة بين خصال الكفارة بجهة
الإيجاب وما المانع أن يكون ذلك إخباراً عما يوجد من الكفارة وتقديره فما
يوجد من الكفارة هو إطعام من حانث أو كسوة من حانث آخر أو عتق من حانث آخر
سلمنا دلالتها على الإيجاب لكن لا أنها خطاب بالتخيير لكل واحد واحد من
الأمة بل المراد بها إيجاب الإطعام على البعض والكسوة على البعض والعتق على
البعض فكأنه قال: فكفارته إطعام عشرة مساكين لبعضهم أو الكسوة لبعض آخر أو
العتق لبعض آخر سلمنا دلالة ما ذكرتموه لكنه معارض بما يدل على إبطال
مدلوله وبيانه من أحد عشر وجهاً.
الأول أن الخصال المذكورة إما أن تكون
مستوية فيما يرجع إلى الصفات المقتضية للوجوب أو أنها مختصة بالبعض دون
البعض فإن كان الأول فيلزم التسوية في الوجوب بين الكل وإن كان الثاني كان
ذلك البعض هو الواجب بعينه دون غيره.
الثاني أن الواجب ما تعلق به خطاب
الشرع بالإيجاب وخطاب الشرع إنما يتعلق بالمعين دون المبهم ولهذا فإنه
يمتنع تعلق الإيجاب بأحد شخصين لا بعينه فكذلك بفعل أحد أمرين لا يعينه
وعند ذلك فيلزم تعلقه بالكل أو ببعض منه معين.
الثالث أن الإيجاب طلب والطلب يستدعي م
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الأصل الثالث
في الإجماع
أما
المقدمة ففي تعريف الإجماع وهو في اللغة باعتبارين: أحدهما العزم على الشيء
والتصميم عليه ومنه يقال: أجمع فلان على كذا إذا عزم عليه وإليه الإشارة
بقوله تعالى " فأجمعوا أمركم " " يونس 71 " أي اعزموا وبقوله عليه السلام: "
لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل " أي يعزم وعلى هذا فيصح إطلاق اسم
الإجماع على عزم الواحد.
الثاني الاتفاق ومنه يقال: أجمع القوم على كذا
إذا اتفقوا عليه وعلى هذا فاتفاق كل طائفة على أمر من الأمور دينياً كان أو
دنيوياً يسمى إجماعاً حتى اتفاق اليهود والنصارى.
وأما في اصطلاح
الأصوليين فقد قال النظام: هو كل قول قامت حجته حتى قول الواحد وقصد بذلك
الجمع بين إنكاره كون إجماع أهل الحل والعقد حجة وبين موافقته لما اشتهر
بين العلماء من تحريم مخالفة الإجماع والنزاع معه في إطلاق اسم الإجماع على
ذلك مع كونه مخالفاً للوضع اللغوي والعرف الأصولي آيل إلى اللفظ.
وقال
الغزالي: الإجماع عبارة عن اتفاق أمة محمد خاصة على أمر من الأمور الدينية
وهو مدخول من ثلاثة أوجه: الأول أن ما ذكره يشعر بعدم انعقاد الإجماع إلى
يوم القيامة فإن أمة محمد جملة من اتبعه إلى يوم القيامة ومن وجد في بعض
الأعصار منهم إنما يعم بعض الأمة لا كلها وليس ذلك مذهباً له ولا لمن اعترف
بوجود الإجماع.
الثاني أنه وإن صدق على الموجودين منهم في بعض الأعصار
أنهم أمة محمد غير أنه يلزم مما ذكره أنه لو خلا عصر من الأعصار عن أهل
الحل والعقد وكان كل من فيه عامياً واتفقوا على أمر ديني أن يكون إجماعاً
شرعياً وليس كذلك.
الثالث أنه يلزم من تقييده للإجماع بالاتفاق على أمر
من الأمور الدينية أن لا يكون إجماع الأمة على قضية عقلية أو عرفية حجة
شرعية وليس كذلك لما يأتي بيانه.
والحق في ذلك أن يقال: الإجماع عبارة
عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد في عصر من الأعصار على حكم
واقعة من الوقائع هذا إن قلنا إن العامي لا يعتبر في الإجماع وإلا فالواجب
أن يقال الإجماع عبارة عن اتفاق المكلفين من أمة محمد إلى آخر الحد
المذكور.
فقولنا اتفاق يعم الأقوال والأفعال والسكوت والتقرير وقولنا
جملة أهل الحل والعقد احتراز عن اتفاق بعضهم وعن اتفاق العامة وقولنا من
أمة محمد احتراز عن اتفاق أهل الحل والعقد من أرباب الشرائع السالفة وقولنا
في عصر من الأعصار حتى يندرج فيه إجماع أهل كل عصر وإلا أوهم ذلك أن
الإجماع لا يتم إلا باتفاق أهل الحل والعقد في جميع الأعصار إلى يوم
القيامة وقولنا على حكم واقعة ليعم الإثبات والنفي والأحكام العقلية
والشرعية وإذا عرف معنى الإجماع فلنرجع إلى المسائل المتعلقة به.
المسألة
الأولى اختلفوا في تصور اتفاق أهل الحل والعقد على حكم واحد غير معلوم
بالضرورة: فأثبته الأكثرون ونفاه الأقلون مصيراً منهم إلى أن اتفاقهم على
ذلك الحكم إما أن يكون عن دليل قاطع لا يحتمل التأويل أو عن دليل ظني لا
جائز أن يقال بالأول وإلا لكانت العادة محيلة لعدم نقله وتواطي الجمع
الكثير على إخفائه فحيث لم ينقل دل على عدمه كيف وأنه لو نقل لكان كافياً
في الدلالة عن إجماعهم ولا جائز أن يقال بالثاني لأنهم مع كثرتهم واختلاف
أذهانهم ودواعيهم في الاعتراف بالحق والعناد فالعادة أيضاً تحيل اتفاقهم
على الحكم الواحد كما أنها تحيل اتفاقهم على أكل طعام واحد معين في يوم
واحد وهو باطل فأنه إن كان إجماعهم عن دليل قاطع فإنما يمتنع عدم نقله أن
لو دعت الحاجة إليه وإنما تدعو الحاجة إليه أن لو لم يكن الإجماع على ذلك
الحكم كافياً عنه وهو محل النزاع.
وإن كان ذلك عن دليل ظني فلا يمتنع
معه اتفاق الجمع الكبير على حكمه بدليل اتفاق أهل الشبه على أحكامها مع
الأدلة القاطعة على مناقضتها كاتفاق اليهود والنصارى على إنكار بعثة محمد
صلى الله عليه وسلم واتفاق الفلاسفة على قدم العالم والمجوس على التثنية مع
كثرة عددهم كثرة لا تحصى فالاتفاق على الدليل الظني الخالي عن معارضة
القاطع له أولى أن لا يمتنع عادة وخرج عليه امتناع اتفاق الجمع الكثير على
أكل طعام معين في وقت واحد في العادة لعدم الصارف إليه كيف وأن جميع ما
ذكروه منتقض بما وجد من اتفاق جميع المسلمين فضلاً عن اتفاق أهل الحل
والعقد مع خروج عددهم عن الحصر على وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان ووجوب
الزكاة والحج وغير ذلك من الأحكام التي لم يكن طريق العلم بها الضرورة
والوقوع دليل التصور وزيادة.
المسألة الثانية المتفقون على تصور انعقاد
الإجماع اختلفوا في إمكان معرفته والاطلاع عليه: فأثبته الأكثرون أيضاً
ونفاه الأقلون ومنهم أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ولهذا نقل عنه أنه
قال: من ادعى وجود الإجماع فهو كاذب اعتماداً منهم على أن معرفة اتفاقهم
على اعتقاد الحكم الواحد متوقف على سماع الإخبار بذلك من كل واحد من أهل
الحل والعقد أو مشاهدة فعل أو ترك منه يدل عليه وذلك كله يتوقف على معرفة
كل واحد منهم وذلك مع كثرتهم وتفرقهم في البلاد النائية والأماكن البعيدة
متعذر عادة وبتقدير المعرفة بكل واحد منهم فمعرفة معتقده إنما تكون بالوصول
إليه والاجتماع به وهو أيضاً متعذر وبتقدير الاجتماع به وسماع قوله ورؤية
فعله أو تركه قد لا يفيد ذلك اليقين بأنه معتقده لجواز أن يكون إخباره وما
يشاهد من فعله أو تركه على خلاف معتقده لغرض من الأغراض وبتقدير حصول العلم
بمعتقده فلعله يرجع عنه قبل الوصول إلى الباقين وحصول العلم بمعتقدهم ومع
الاختلاف فلا إجماع.
وطريق الرد عليهم أن يقال: جميع ما ذكرتموه باطل
بالواقع ودليل الوقوع ما علمناه علماً لا مراء فيه من أن مذهب جميع
الشافعية امتناع قتل المسلم بالذمي وبطلان النكاح بلا ولي وأن مذهب جميع
الحنفية نقيض ذلك مع وجود جميع ما ذكروه من التشكيكات والوقوع في هذه الصور
دليل الجواز العادي وزيادة.
فإن قيل إنما علمنا أن مذهب أصحاب الشافعي
وأبي حنيفة ذلك لأنا علمنا قول الشافعي وقول أبي حنيفة في ذلك وهو قول واحد
يمكن الاطلاع عليه فعلمنا أن مذهب كل من يتبعه وهو مقلد له ذلك ولا كذلك
في الإجماع لأنه لم يظهر لنا نص عن الله والرسول يكون مستند إجماعهم ولو
عرف ذلك لكان هو الحجة.
قلنا: هذا وإن استمر لكم هاهنا فلا يستمر فيما
نقله قطعاً من اعتقاد النصارى واليهود من إنكار بعثة النبي عليه السلام فإن
ذلك لم يظهر لنا فيه أنه قول موسى ولا عيسى ولا قول واحد معين حتى يكون
اعتقادهم ذلك لاتباعهم له فما هو الجواب هاهنا فهو الجواب في محل النزاع.
المسألة
الثالثة اتفق أكثر المسلمين على أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل به على كل
مسلم خلافاً للشيعة والخوارج والنظام من المعتزلة وقد احتج أهل الحق في
ذلك بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب فخمس آيات: الآية الأولى وهي
أقواها وبها تمسك الشافعي رضي الله عنه وهي قوله تعالى " ومن يشاقق الرسول
من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم
وساءت مصيراً " " النساء 115 " ووجه الاحتجاج بالآية أنه تعالى توعد على
متابعة غير سبيل المؤمنين ولو لم يكن ذلك محرماً لما توعد عليه ولما حسن
الجمع بينه وبين المحرم من مشاقة الرسول عليه السلام في التوعد كما لا يحسن
التوعد على الجمع بين الكفر وأكل الخبز المباح.
فإن قيل لا نسلم أن
من للعموم على ما سيأتي في مسائل العموم حتى يتناول كل من اتبع غير سبيل
المؤمنين سلمنا أنها للعموم غير أن التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين
إنما وقع مشروطاً بمشاقة الرسول والمشروط على العدم عند عدم الشرط سلمنا
لحوق الذم باتباع غير سبيل المؤمنين على انفراده لكنه متردد بين أن يراد به
عدم متابعة سبيل المؤمنين وتكون غير بمعنى إلا وبين أن يراد به متابعة
سبيل غير المؤمنين وتكون غير هاهنا صفة لسبيل غير المؤمنين وليس أحد
الأمرين أولى من الآخر وبتقدير أن تكون غير صفة لسبيل غير المؤمنين فسبيل
غير المؤمنين هو الكفر ونحن نسلم أن من شاقق الرسول وكفر فإنه يكون متوعداً
بالعقاب وذلك لا يدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين سلمنا أن سبيل غير
المؤمنين ليس هو الكفر ولكن ذلك لا يدل على التوعد على عدم اتباع سبيل
المؤمنين بل غاية ما يلزم من تخصيص اتباع سبيل غير المؤمنين بالتوعد عدم
التوعد على اتباع سبيل المؤمنين بمفهومه ولا نسلم أن المفهوم حجة وإن سلمنا
أنه حجة لكن في عدم التوعد على متابعة سبيل المؤمنين ونحن نقول به ولا
يلزم من ذلك وجوب اتباعهم سلمنا أن المراد به عدم اتباع سبيل المؤمنين لكنه
يتناول سبيل جميع المؤمنين وجميع المؤمنين كل من آمن بالله ورسوله إلى يوم
القيامة وذلك لا يدل على أن ما وجد من الإجماع في بعض الأعصار حجة سلمنا
أن المراد منه سبيل المؤمنين في كل عصر لكنه عام في كل مؤمن عالم وجاهل
والجهال غير داخلين في الإجماع المتبع وما دون ذلك فالآية غير دالة عليه
سلمنا أن المراد بالمؤمنين أهل الحل والعقد في أي عصر اتفق لكن لفظ السبيل
مفرد لا عموم فيه فلا يقتضي اتباع كل سبيل سلمنا عمومه لكنه مما يمتنع حمله
على متابعة كل سبيل وإلا لوجب متابعة أهل الإجماع فيما فعلوه من المباحات
لأنهم فعلوه ولا يجب لحكمهم عليه بالإباحة ولوجب اتباعهم في إجماعهم قبل
الاتفاق على حكم من الأحكام على جواز الاجتهاد فيه لكل أحد واتباعهم في
امتناع الاجتهاد فيه بعد اتفاقهم عليه وذلك تناقض محض وعند ذلك فيحتمل أنه
أراد به متابعة سبيلهم في متابعتهم للنبي عليه السلام وترك مشاقته ويحتمل
أنه أراد به اتباع سبيلهم في الإيمان واعتقاد دين الإسلام ويحتمل أنه أراد
اتباع سبيلهم في الاجتهاد دون التقليد ونحن نقول بذلك كله كيف ويجب الحمل
على ذلك لما فيه من العمل باللفظ في زمن النبي وفيما بعده ولو كان محمولاً
على متابعتهم فيما اتفقوا عليه من الأحكام الشرعية لكان ذلك خاصاً بما بعد
وفاة النبي عليه السلام لاستحالة الاحتجاج بالإجماع في زمانه سلمنا أن
المراد به متابعتهم فيما أجمعوا عليه من الأحكام الشرعية لكنه مشروط بسابقة
تبين الهدى بدليل قوله تعالى " من بعد ما تبين له الهدى " " النساء 115 "
والهدى مذكور بالألف واللام المستغرقة فيدخل فيه كل هدى حتى إجماعهم على
الحكم الشرعي وإنما يتبين الهدى بدليله وإذا كان الإجماع من جملة الهدى فلا
بد من تقدم بيانه بدليله ودليل كون الإجماع هدى لا يكون هو نفس الإجماع بل
هو غيره وعند ذلك فظهور ذلك الدليل كاف في اتباعه عن اتباع الإجماع سلمنا
وجوب اتباع سبيل المؤمنين مطلقاً لكن المراد بالمؤمنين الأئمة المعصومون
لأن سبيلهم لا يكون إلا حقاً أو المؤمنين إذا كان فيهم الإمام المعصوم لأن
سبيلهم سبيله وسبيل المعصوم لا يكون إلا حقاً فكان واجب الاتباع والثاني
ممنوع سلمنا وجوب إتباع سبيل المؤمنين وإن لم يكن فيهم الإمام المعصوم ولكن
إذا علم كونهم مؤمنين والإيمان هو التصديق وهو باطن لا سبيل إلى معرفته
وإذا لم يعلم كونهم مؤمنين فالاتباع لا يكون واجباً لفوات شرطه سلمنا دلالة
ما ذكرتموه على كون الإجماع حجة ولكنه معارض بالكتاب والسنة والمعقول.
أما
الكتاب فقوله تعالى: " ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء " " النحل 89 "
وذلك يدل على عدم الحاجة إلى الإجماع وقوله تعالى " فإن تنازعتم في شيء
فردوه إلى الله والرسول " " النساء 59 " اقتصر على الكتاب والسنة وذلك يدل
على عدم الحاجة إلى الإجماع وقوله تعالى " ولا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل " " البقرة 188 " وقوله " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " "
البقرة 161 " نهى كل الأمة عن هاتين المعصيتين وذلك يدل على تصورهما منهم
ومن تتصور منه المعصية لا يكون قوله ولا فعله موجباً للقطع.
وأما السنة
فهو أن النبي عليه السلام أقر معاذاً لما سأله عن الأدلة المعمول بها على
إهماله لذكر الإجماع ولو كان الإجماع دليلاً لما ساغ ذلك مع الحاجة إليه
وأيضاً فإنه قد ورد عن النبي عليه السلام ما يدل على جواز خلو العصر عمن
تقوم الحجة بقوله فمن ذلك قوله عليه السلام: " بدئ الإسلام غريباً وسيعود
كما بدأ " وأيضاً قوله: " لا ترجعوا بعدي كفاراً " نهى الكل عن الكفر وهو
دليل جواز وقوعه منهم وقوله: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ولكن بقبض
العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير
علم فضلوا وأضلوا " وقوله: " تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما
ينسى " وقوله عليه السلام " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة "
وقوله " خير القرون القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم تبقى
حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم " .
وأما المعقول فما ذكرناه في
المسألتين الأوليين وأيضاً فإن أمة محمد أمة من الأمم فلا يكون إجماعهم حجة
كغيرهم من الأمم وأيضاً فإن الأحكام الشرعية لا يصح إثباتها إلا بدليل فلا
يكون إجماع الأمة دليلاً عليها كالتوحيد وسائر المسائل العقلية.
والجواب:
قولهم لا نسلم أن من للعموم سيأتي بيان ذلك في مسائل العموم قولهم إن
التوعد إنما وقع على الجمع بين المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين فقد أجاب
عنه بعض أصحابنا بأن التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إن لم يكن مشروطاً
بمشاقة الرسول فهو المطلوب وإن كان مشروطاً به فيكون اتباع غير سبيل
المؤمنين غير متوعد عليه عند عدم المشاقة مطلقاً وذلك باطل لأن مخالفة
الإجماع وإن لم تكن خطأ لكن لا يلزم أن تكون صواباً مطلقاً وما لا يكون
صواباً مطلقاً لا يكون جائزاً مطلقاً وليس بحق لأنه إذا سلم أن مخالفة
الإجماع عند عدم المشاقة ليست خطأ فقوله لا يلزم أن تكون صواباً مطلقاً
قلنا إن لم تكن صواباً فإما أن يكون عدم الصواب خطأ أو لا يكون خطأ: فإن
كان الأول فقد ناقض وإن كان الثاني فما لا يكون خطأ لا يلزم التوعد عليه
وقال أبو الحسين البصري: هذا يقتضي أن من شاق الرسول يجب عليه اتباع سبيل
المؤمنين مع مشاقته للرسول ومشاقة الرسول ليست معصية فقط وإنما هي معصية
على سبيل الرد عليه لأن من صدق النبي عليه السلام وفعل بعض المعاصي لا يقال
إنه مشاق للرسول ومن كذب النبي عليه السلام لا يصح أن يعلم صحة الإجماع
بالسمع ومن لا يصح عليه ذلك لا يصح أن يكون مأموراً باتباعه في تلك الحال
وهو غير سديد.
فإن لقائل أن يقول: وإن سلمنا أن المفهوم من المشاقة
للنبي تكذيبه وأن من كذب النبي لا يعلم بالسمع صحة الإجماع ولكن القول بأنه
لا يكون مأموراً باتباع الإجماع مبني على أن الكفار غير مخاطبين بفروع
الإسلام وهو باطل بما سبق تقريره وقيل في جوابه أيضاً إن الوعيد إذا علق
على أمرين اقتضى ذلك التوعد بكل واحد من الأمرين جملة وإفراداً ويدل عليه
قوله تعالى: " والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي
حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً " " الفرقان 68 "
فإنه يقتضي لحوق المأثم بكل واحد من هذه الأمور جملة وبكل واحد على
انفراده.
ولقائل أن يقول: لا نسلم ثبوت الإثم في كل واحد من هذه
الأمور على انفراده بهذه الآية وإنما كان ذلك مستفاداً من الأدلة الخاصة
الدالة على لزوم المأثم بكل واحد من هذه الأمور بخصوصه ولهذا فإنه لما لم
يدل الدليل الخاص على مضاعفة العذاب بكل واحد من هذه الأمور لم تكن الآية
مقتضية لتضاعف العذاب على كل واحد بتقدير الانفراد إجماعاً ولو كانت مقتضية
لذلك لكان نفي المتضاعف بقوله " يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه
مهاناً " " الفرقان 69 " على خلاف الدليل ولهذا فإنه لو قال لزوجته: " إن
كلمت زيداً وعمراً أو إن كلمت زيداً ودخلت الدار فأنت طالق " فإنه لا يقع
الطلاق بوجود أحد الأمرين ولولا أن الحكم المعلق على أمرين على العدم عند
عدم أحدهما لكان انتفاء الحكم في هذه الصورة على خلاف الدليل وهو ممتنع
والأقرب في ذلك أن يقال: لا خلاف في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين
عند المشاقة وعند ذلك إما أن يكون لمفسدة متعلقة أو لا لمفسدة لا جائز أن
يقال بالثاني فإن ما لا مفسدة فيه لا توعد عليه من غير خلاف وإن كان الأول
فالمفسدة في اتباع غير سبيل المؤمنين إما أن تكون من جهة مشاقة الرسول أو
لا من جهة مشاقته فإن كان الأول فذكر المشاقة كاف في التوعد كما قيل ولا
حاجة إلى قوله " ويتبع غير سبيل المؤمنين " وإن كان الثاني لزم التوعد
لتحقق المفسدة سواء وجدت المشاقة أو لم توجد.
قولهم إن غير مترددة بين
أن تكون بمعنى إلا أو بمعنى الصفة قلنا: لا يمكن أن تكون غير هاهنا صفة
لأنه يلزم من ذلك تحريم متابعة سبيل غير المؤمنين ويلزم من ذلك أن الأمة
إذا أجمعت على إباحة فعل من الأفعال أن يحرم على المكلف أن يقول بحظره أو
وجوبه والمخالف لا يقول بذلك وبتقدير أن يكون المراد منه تحريم اتباع سبيل
غير المؤمنين فذلك يعم تحريم كل سبيل هو غير سبيل المؤمنين لأنه سبيل غير
المؤمنين ولهذا فإن من اختار لنفسه حالة وتمسك بها وكان معروفاً بها يقال
إنها سبيله سواء تعددت الأحوال أو اتحدت وإذا قيل: فلان سلك سبيل التجار
فهم منه أنه يفعل أفعالهم ويتزي بزيهم ويتخلق بأخلاقهم ويجر على عاداتهم
وعلى هذا فيمتنع تخصيص السبيل المتوعد على اتباعه إذا كان غير سبيل
المؤمنين بشيء معين من كفر أو غيره بل يعم ذلك ما كان مخالفاً لطريق الأمة
وسبيلهم كيف وإنا لو لم نعتقد ذلك لزم منه أن يكون لفظ السبيل مبهماً وهو
خلاف الأصل على ما سبق.
قولهم إنه إنما يدل على عدم التوعد على متابعة
سبيل المؤمنين بمفهومه قلنا إذا سلم أنه يحرم اتباع كل سبيل سوى سبيل
المؤمنين فلا نريد بكون الإجماع حجة سوى هذا.
قولهم: المراد من سبيل
المؤمنين كل من آمن به إلى يوم القيامة لا يصح لوجهين الأول أن الأصل تنزيل
اللفظ على حقيقته ولفظ المؤمنين حقيقة يكون لمن هو متصف بالإيمان والاتصاف
بالإيمان مشروط بالوجود والحياة ومن لا حياة له ممن مات أو لم يوجد بعد لا
يكون مؤمناً حقيقة فلفظ المؤمنين حقيقة إنما يصدق على أهل كل عصر دون من
تقدم أو تأخر وهذا وإن منع من الاحتجاج بإجماع أهل العصر على من بعدهم فلا
يمنع من الاحتجاج به على من في عصرهم وهو خلاف مذهب الخصوم الثاني أن
المقصود من الآية إنما هو الزجر عن مخالفة المؤمنين والحث على متابعتهم
وذلك غير متصور عند حمل المؤمنين على كل من آمن إلى يوم القيامة إذ لا زجر
ولا حث في يوم القيامة.
قولهم: الآية وإن دلت على وجوب اتباع سبيل
المؤمنين في أي عصر كان غير أنها عامة في العالم والجاهل والجاهل غير مراد
بالاتفاق ولا نسلم ذلك على ما يأتي وإن سلمنا ذلك غير أن الآية حجة في
اتباع جملة المؤمنين إلا ما خصه الدليل فتبقى الآية حجة في الباقي.
قولهم
لفظ السبيل مفرد لا عموم فيه عنه جوابان: الأول أنه يجب اعتقاد عمومه لما
سبق تقريره الثاني أنه إما أن يكون عاماً بلفظه أو لا يكون عاماً بلفظه فإن
كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فهو إن لم يكن عاماً بلفظه فهو عام
بمعناه وإيمائه ذلك لأن اتباع سبيل المؤمنين أي سبيل كان مناسب لكونه
مصلحياً وقد رتب الحكم على وفقه في كلام الشارع فكان علة لوجوب الاتباع
مهما تحقق.
قولهم: يلزم من ذلك وجوب متابعة أهل الإجماع فيما فعلوه وحكموا بكونه مباحاً وهو تناقض
قلنا:
الآية وإن دلت على وجوب اتباع المؤمنين في كل سبيل لهم ففعلهم للمباح سبيل
وحكمهم بجواز الترك سبيل ولا يلزم من مخالفة الآية في إيجاب الفعل اتباعاً
لفعلهم له مخالفتها في اتباعهم في اعتقاد جواز تركه.
قولهم: يلزم من
ذلك وجوب متابعة أهل الإجماع في جواز الاجتهاد وتحريمه قلنا: سنبين أنه
مهما انعقد إجماع الأمة على حكم أنه يستحيل انعقاد إجماعهم على مخالفته.
قولهم:
يحتمل أنه أراد متابعتهم في متابعتهم للنبي عليه السلام وترك مشاقته أو
اتباعهم في الإيمان أو في الاجتهاد قلنا: اللفظ يعم كل سبيل على ما قررناه
وما ذكروه تخصيص لعموم الاتباع من غير دليل فلا يقبل قولهم إنه مشروط
بسابقة تبين الهدى إلى آخره فجوابه من ثلاثة أوجه: الأول أن تبين الهدى
إنما هو مشروط في الوعيد على المشاقة لا في الوعيد على اتباع غير سبيل
المؤمنين وذلك لأن المشاقة لا تكون إلا بعد تبين الهدى ومعرفته بدليله ومن
لم يعرف ذلك لا يوصف بالمشاقة.
الثاني أن تبين الأحكام الفروعية ليس
شرطاً في مشاقة الرسول بدليل أن من تبين صدق النبي وحاد عنه ورد عليه فإنه
يوصف بالمشاقة وإن كان جاهلاً بالفروع غير متبين لها وإذا لم تكن معرفة
أحكام الفروع شرطاً في المشاقة فلا تكون مشترطة في لحوق الوعيد باتباع غير
سبيل المؤمنين فيها.
الثالث هو أن الآية إنما خرجت مخرج التعظيم
والتبجيل للمؤمنين بإلحاق الذم باتباع غير سبيلهم فلو كان ذلك مشروطاً
بتبين كونه هدى ولم يكن اتباعهم في سبيلهم لأجل أنه سبيل لهم بل لمشاركتهم
فيما ذهبوا إليه لتبين كونه هدى لبطلت فائدة تعظيم الأمة الإسلامية وتميزهم
بذلك فإن كل من ظهر الهدى في قوله واعتقاده فالوعيد حاصل بمخالفته وإن لم
يكن من المسلمين وذلك كالوعيد على عدم مشاركة اليهود فيما ظهر كون معتقدهم
فيه هدى كإثبات الصانع واعتقاد كون موسى رسولاً كريماً.
قولهم المراد من
المؤمنين الأئمة المعصومون أو من كان فيهم الإمام المعصوم عنه جوابان:
الأول أنه مبني على وجود الإمام المعصوم وهو باطل بما حققناه في علم الكلام
الثاني أن الآية عامة فتخصيصها بالأئمة وبالمؤمنين الذين فيهم الإمام
المعصوم من غير دليل غير مقبول كيف وأن الآية دالة على الوعيد باتباع غير
سبيل المؤمنين وعندهم التوعد إنما هو بسبب اتباع غير سبيل الإمام وحده دون
غيره وهو خلاف الظاهر.
قولهم سلمنا وجوب اتباع سبيل المؤمنين لكن إذا
علم أنهم مؤمنون قلنا: المقصود من الآية إنما هو الحث على متابعة سبيل
المؤمنين والزجر عن مخالفته فإن كان سبيلهم معلوماً فلا إشكال وإن لم يكن
معلوماً فالتكليف باتباع ما لا يكون معلوماً إما أن لا يكتفي فيه بالظن أو
يكتفي فيه بالظن فإن كان الأول فهو تكليف بما لا يطاق وهو خلاف الأصل وإن
كان الثاني فهو المطلوب وأما ما ذكروه من المعارضة بالآية الأولى فليس في
بيان كون الإجماع حجة متبعة بالآية التي ذكرها ما ينافي كون الكتاب تبياناً
لكل شيء وأصلاً له وأما الآية الثانية فهي دليل عليهم لأنها دليل على وجوب
الرد إلى الله والرسول في كل متنازع فيه وكون الإجماع حجة متبعة مما وقع
النزاع فيه وقد رددناه إلى الله تعالى حيث أثبتناه بالقرآن وهم مخالفون في
ذلك وأما الآية الثالثة والرابعة فلا نسلم أن النهي فيهما راجع إلى اجتماع
الأمة على ما نهوا عنه بل هو راجع إلى كل واحد على انفراده ولا يلزم من
جواز المعصية على كل واحد جوازها على الجملة سلمنا أن النهي لجملة الأمة عن
الاجتماع على المعصية ولكن غاية ذلك جواز وقوعها منهم عقلاً ولا يلزم من
الجواز الوقوع ولهذا فإن النبي عليه السلام قد نهي عن أن يكون من الجاهلين
بقوله تعالى " فلا تكونن من الجاهلين " " الأنعام 35 " وقال تعالى لنبيه: "
لئن أشركت ليحبطن عملك " " الزمر 65 " إذ ورد ذلك في معرض النهي مع العلم
بكونه معصوماً من ذلك وأيضاً فإنا نعلم أن كل أحد منهي عن الزنى وشرب الخمر
وقتل النفس بغير حق إلى غير ذلك من المعاصي ومع ذلك فإن من مات ولم يصدر
عنه بعض المعاصي نعلم أن الله قد علم منه أنه لا يأتي بتلك المعصية فكان
معصوماً عنها ضرورة تعلق علم الله بأنه لا يأتي بها ومع ذلك فهو منهي عنها.
وأما
خبر معاذ فإنما لم يذكر فيه الإجماع لأنه ليس بحجة في زمن النبي عليه
السلام فلم يكن مؤخراً لبيانه مع الحاجة إليه وقوله عليه السلام " بدئ
الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ " لا يدل على أنه لا يبقى من تقوم الحجة
بقوله بل غايته أن أهل الإسلام هم الأقلون وقوله: " لا ترجعوا بعدي كفاراً "
فيحتمل أنه خطاب مع جماعة معينين وإن كان خطاباً مع الكل فجوابه ما سبق في
آيات المناهي للأمة.
وقوله " حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء
جهالاً " الحديث إلى آخره غايته الدلالة على جواز انقراض العلماء ونحن لا
ننكر امتناع وجود الإجماع مع انقراض العلماء وإنما الكلام في اجتماع من كان
من العلماء وعلى هذا يكون الجواب عن باقي الأحاديث الدالة على خلو الزمان
من العلماء كيف وإن ما ذكروه معارض بما يدل على امتناع خلو عصر من الأعصار
عمن تقوم الحجة بقوله وهو قوله عليه السلام: " لا تزال طائفة من أمتي على
الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال " وأيضاً ما روي أنه قال: "
واشوقاه إلى إخواني قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ فقال أنتم أصحابي
إخواني قوم يأتون من بعدي يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق ويصلحون إذا فسد
الناس " .
وما ذكروه من المعقول في المسألتين السابقتين فقد سبق جوابه
قولهم: إنها أمة من الأمم فلا يكون إجماعهم حجة كغيرهم من الأمم فقد ذهب
أبو إسحاق الأسفرايني وغيره من أصحابنا وجماعة من العلماء إلى أن إجماع
علماء من تقدم من الملل أيضاً حجة قبل النسخ وإن سلمنا أنه ليس بحجة فلأنه
لم يرد في حقهم من الدلالة الدالة على الاحتجاج بإجماعهم ما ورد في علماء
هذه الأمة فافترقا وأما الحجة الأخيرة فلا نسلم أنه إذا كان الحكم ثبت
بالدليل لا يجوز إثباته بالإجماع.
وأما التوحيد فلا نسلم أن الإجماع فيه
ليس بحجة وإن سلمنا أنه لا يكون حجة فيه بل في الأحكام الشرعية لا غير غير
أن الفرق بينهما أن التوحيد لا يجوز فيه تقليد العامي للعالم وإنما يرجع
إلى أدلة يشترك فيها الكل وهي أدلة العقل بخلاف الأحكام الشرعية فإنه يجب
على العامي الأخذ بقول العالم فيها وإذا جاز أو وجب الأخذ بقول الواحد كان
الأخذ بقول الجماعة أولى.
الآية الثانية قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم
أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " " البقرة
143 " وصف الأمة بكونهم وسطاً والوسط هو العدل ويدل عليه النص واللغة أما
النص فقوله تعالى: " قال أوسطهم ألم أقل لكم " " القلم 28 " أعدلهم وقال
عليه السلام خير الأمور أوساطها وأما اللغة فقول الشاعر:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
أي
عدول ووجه الاحتجاج بالآية أنه عدلهم وجعلهم حجة على الناس في قبول
أقوالهم كما جعل الرسول حجة علينا في قبول قوله علينا ولا معنى لكون
الإجماع حجة سوى كون أقوالهم حجة على غيرهم فإن قيل إنما وصفهم بالعدالة
ليكونوا شهداء في الآخرة على الناس بتبليغ الأنبياء إليهم الرسالة وذلك
يقتضي عدالتهم وقبول شهادتهم في يوم القيامة حالة ما يشهدون دون حالة
التحمل في الدنيا سلمنا أنه وصفهم بذلك في الدنيا ولكن ليس في قوله: "
لتكونوا شهداء على الناس " " البقرة 143 " لفظ عموم يدل على قبول شهادتهم
في كل شيء بل هو مطلق في المشهود به وهو غير معين فكانت الآية مجملة ولا
حجة في المجمل سلمنا أنها ليست مجملة ولكنا قد عملنا بها في قبول شهادتهم
على من بعدهم بإيجاب النبي عليه السلام العبادات عليهم وتكليفهم بما كلفهم
به فلا يبقى حجة في غيره لتوفية العمل بدلالة الآية سلمنا قبول شهادتهم في
كل شيء غير أن الآية تدل على عدالة كل واحد من الأمة وقبول شهادته وهو مخصص
بالإجماع بالفساق والنساء والصبيان والمجانين والعام بعد التخصيص لا يبقى
حجة على ما سيأتي لكن ليس في ذلك ما يدل سلمنا أنها تبقى حجة بعد التخصيص
على عدالتهم وعصمتهم عن الخطأ باطناً بل ظاهراً فإن ذلك كان في قبول
الشهادة سلمنا أن ذلك يدل على عصمتهم عن الخطأ مطلقاً لكن فيما يشهدون به
لا فيما يحكمون به من الأحكام الشرعية بطريق الاجتهاد فإن ذلك ليس من باب
الشهادة في شيء وهو محل النزاع سلمنا قبول قولهم مطلقاً غير أن الخطاب إما
أن يكون مع جميع أمة محمد إلى يوم القيامة وإما مع الموجودين في وقت الخطاب
فإن كان الأول فلا حجة في إجماع كل عصر إذ ليسوا كل الأمة وإن كان الثاني
فلا يكون إجماع من بعدهم حجة وإجماع الموجودين في زمن الوحي ليس بحجة في
زمن الوحي بالإجماع وإنما يكون حجة بعد النبي عليه السلام وذلك يتوقف على
بقاء كل من كان من المخاطبين بذلك في زمن النبي بعد النبي وأن يعرف مقاله
كل واحد فيما ذهب إليه وهو متعذر جداً.
والجواب عن السؤال الأول أن وصف
أمة محمد بالعدالة إنما كان في معرض الامتنان والإنعام عليهم وتعظيم شأنهم
وذلك إما أن يكون في الدنيا أو في الأخرى أو فيهما لا جائز أن يكون في
الأخرى لا غير لوجهين: الأول أن جميع الأمم عدول يوم القيامة بل معصومون عن
الخطأ لاستحالة ذلك منهم وفيه إبطال فائدة التخصيص الثاني أنه لو كان كذلك
لقال: سنجعلكم عدولاً لا أن يقول جعلناكم وإن كان القسم الثاني والثالث
فهو المطلوب.
وعن الثاني من وجهين: الأول أنه يجب اعتقاد العموم في قبول
الشهادة نفياً للإجمال عن الكلام الثاني إن الاحتجاج ليس في قوله "
لتكونوا شهداء على الناس " " البقرة 143 " بل في وصفهم بالعدالة ومهما
كانوا عدولاً وجب قبول قولهم في كل شيء وبه يخرج الجواب عن السؤال الثالث.
وأما
الرابع فجوابه أن الآية تدل على وصف جملة الأمة بالعدالة ومقتضى ذلك
عدالتهم فيما يقولونه جملة وآحاداً غير أنا خالفناه في بعض الآحاد فتبقى
الآية حجة في عدالتهم فيما يقولونه جملة وهو المطلوب قولهم العام بعد
التخصيص لا يبقى حجة سنبطله فيما يأتي.
وأما السؤال الخامس فجوابه أن
الله تعالى أخبر عنهم بكونهم عدولاً والأصل أن يكون كذلك حقيقة في نفس
الأمر لكونه عالماً بالخفيات فإن الحكيم إذا علم من حال شخص أنه غير عدل في
نفس الأمر لا يخبر عنه بأنه عدل.
وجواب السادس أنه إذا ثبت وصفهم
بالعدالة في نفس الأمر فيما يخبرون به مما يرونه من الأحكام الشرعية يجب
صدقهم فيه وإلا لما كانوا عدولاً في نفس الأمر وإذا كانوا صادقين فيه فهو
صواب لكونه حسناً فهو حسن عند الله لقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون
حسناً فهو حسن عند الله " وإذا كان صواباً كان خلافة خطأ وهو المطلوب.
وجواب
السابع أنه لا سبيل إلى حمل لفظ الأمة على كل من آمن بالرسول إلى يوم
القيامة لما سبق في الآية الأولى ولا على من كان موجوداً في زمن النبي عليه
السلام لا غير لأن أقوالهم غير محتج بها في زمنه ولا وجود لهم بعد وفاته
فإن كثيراً منهم مات بعد الخطاب بهذه الآية قبل وفاة النبي عليه السلام فلا
يبقى لقوله تعالى: " لتكونوا شهداء على الناس " " البقرة 143 " فائدة فيجب
حمله على أهل كل عصر عصر تحقيقاً لفائدة كونهم شهداء.
الآية الثالثة
قوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
" " آل عمران 110 " والألف واللام إذا دخلت على اسم الجنس عمت على ما
سيأتي ومقتضى صدق الخبر بذلك أمرهم بكل معروف ونهيهم عن كل منكر فإذا أمروا
بشيء إما أن يكون معروفاً أو منكراً لا جائز أن يكون منكراً وإلا لكانوا
ناهين عنه ضرورة العمل بالعموم الذي ذكرناه لا أمرين به وإن كان معروفاً
فخلافه يكون منكراً وهو المطلوب وإذا نهوا عن شيء فإما أن يكون منكراً أو
معروفاً لا جائز أن يكون معروفاً وإلا لكانوا أمرين به ضرورة ما ذكرناه من
العموم لا ناهين عنه وإن كان منكراً فخلافه يكون معروفاً وهو المطلوب فإن
قيل: لا نسلم أن الألف واللام الداخلة على اسم الجنس للاستغراق على ما
سيأتي وعلى هذا فلا تكون الآية عامة في الأمر بكل معروف ولا النهي عن كل
منكر سلمنا أنها للعموم لكن قوله كنتم يدل على كونهم متصفين بهذه الصفة في
الماضي ولا يلزم من ذلك اتصافهم بذلك في الحال بل ربما دل على عدم اتصافهم
بذلك في الحال نظراً إلى قاعدة المفهوم وعلى هذا فما وجد من أمرهم ونهيهم
لا نعلم أنه كان قبل نزول الآية فيكون حجة أو بعدها فلا يكون حجة سلمنا
اتصافهم بذلك في الماضي والحال ولكن ليس فيه ما يدل على استدامتهم لذلك في
المستقبل وعلى هذا فما وجد من أمرهم ونهيهم مما لا يعلم أنه كان في حالة
كونه حجة أو في غيرها سلمنا دلالة الآية على ذلك في جميع الأزمان لكنه خطاب
مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام ولا يلزم مثله في حق من بعدهم
سلمنا أنه خطاب مع الكل لكن ذلك يستدعي كون كل واحد منهم على هذه الصفة
ونحن نعلم خلاف ذلك ضرورة وإذا كان المراد بالآية بعض الأمة فذلك البعض غير
معين ولا معلوم فلا يكون قوله حجة.
والجواب عن السؤال الأول ما سيأتي
في العمومات كيف وأن الآية إنما وردت في معرض التعظيم لهذه الأمة وتمييزها
على غيرها من الأمم فلو كانت الآية محمولة على البعض دون البعض لبطلت فائدة
التخصيص فإنه ما من أمة إلا وقد أمرت بالمعروف كاتباع أنبيائهم وشرائعهم
ونهت عن المنكر كنهيهم عن الإلحاد وتكذيب أنبيائهم.
وعن الثاني أنه إما أن تكون كان هاهنا زائدة أو تامة أو زمانية فإن كانت زائدة كما في قول الفرزدق:
فكيف إذا مررت بدار قوم ... وجيران لنا كانوا كراما
فإنه
جعل كراماً نعتاً للجيران وألغى كان فهي دالة على اتصافهم بذلك حالاً لا
في الماضي وإن أفادت نصب خير أمة كما في قوله تعالى: " كيف نكلم من كان في
المهد صبياً " " مريم 19 " .
وإن كانت تامة وهي التي تكون بمعنى الوقوع
والحدوث ويكتفى فيها باسم واحد لا خبر فيه كما في قوله تعالى: " وإن كان ذو
عسرة فنظرة إلى ميسرة " " البقرة 280 " معناه حضر أو وقع ذو عسرة وكقول
الشاعر:
إذا كان الشتاء فأدفئوني ... فإن الشيخ يهدمه الشتاء
فيكون
معنى قوله: " كنتم خير أمة " " آل عمران 110 " أي وجدتم ويكون قوله: " خير
أمة " نصباً على الحال فيكون ذلك دليلاً على اتصافهم بذلك في الحال لا في
الماضي.
وإن كانت زمانية وهي الناقصة التي تحتاج إلى اسم وخبر فكان وإن
دلت على الماضي فقوله: " تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " " آل عمران
110 " يقتضي كونهم كذلك في كل حال لورود ذلك في معرض التعظيم لهذه الأمة
على ما سبق تقريره في جواب السؤال الذي قبله.
وعن الثالث أن قوله: "
تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " " آل عمران 110 " فعل مضارع صالح للحال
والاستقبال ويجب أن يكون حقيقة فيهما على العموم نفياً للتجوز والاشتراك
عن اللفظ.
وعن الرابع أنه إذا سلم كون الآية حجة في إجماع الصحابة فهو كاف إذ هو من جملة صور النزاع.
وعن الخامس إن الخطاب إذا كان مع الأمة كان ذلك حجة في ما وجد من أمرهم ونهيهم جملة وذلك هو المطلوب وإن لم يكن ذلك حجة في الأفراد.
الآية
الرابعة قوله تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " " آل عمران
103 " ووجه الاحتجاج بها أنه تعالى نهى عن التفرق ومخالفة الإجماع تفرق
فكان منهياً عنه ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى النهي عن مخالفته فإن قيل:
لا نسلم وجود صيغة النهي وإن سلمناها ولكن لا نسلم أن النهي يدل على
التحريم كما سيأتي تقريره في النواهي سلمنا دلالة النهي على التحريم ولكن
لا نسلم عموم النهي عن التفرق في كل شيء بل التفرق في الاعتصام بحبل الله
إذ هو المفهوم من الآية ولهذا فإنه لو قال القائل لعبيده: ادخلوا البلد
أجمعين ولا تتفرقوا فإنه يفهم منه النهي عن التفرق في دخول البلد وما لم
يعلم أن ما أجمع عليه أهل العصر اعتصام بحبل الله فلا يكون التفرق منهياً
عنه سلمنا أن النهي عام في كل تفرق ولكنه مخصوص بما قبل الإجماع فإن كل
واحد من المجتهدين مأمور باتباع ما أوجبه ظنه وإذا كانت الظنون والآراء
مختلفة كان التفرق مأمورا به لا منهياً عنه والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة
على ما سيأتي سلمنا صحة الاحتجاج به لكنه خطاب مع الموجودين في زمن النبي
عليه السلام فلا يكون متناولاً لمن بعدهم وإجماع الموجودين في زمن النبي
غير محج به في زمانه إجماعاً ولا تحقق لوجودهم بجملتهم بعد وفاته حتى يكون
إجماعهم حجة على ما سبق تقريره. والجواب عن السؤال الأول والثاني ما سيأتي
في النواهي.
وعن الثالث: أن قوله: " واعتصموا بحبل الله جميعاً " " آل
عمران 103 " أمر بالاعتصام بحبل الله وقوله: " ولا تفرقوا " " آل عمران 103
" نهي عن التفرق في كل شيء ويجب الحمل عليه وإلا كان النهي عن التفرق في
الاعتصام بحبل الله مفيداً لما أفاده الأمر بالاعتصام به فكان تأكيداً
والأصل في الكلام التأسيس دون التأكيد.
وعن الرابع: بيان كون العام حجة
بعد التخصيص كما يأتي في العمومات وعلى هذا فيبقى حجة في امتناع التفرق بعد
الإجماع وفي امتناع مخالفة من وجد بعد أهل الإجماع لهم وهو المطلوب.
وعن الخامس: بأن الأمر والنهي إنما هو مع أهل كل عصر بتقدير وجودهم وفهمهم على ما سيأتي تقريره في الأوامر.
الآية
الخامسة قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " " النساء 59
" ووجه الاحتجاج بالآية أنه شرط التنازع في وجوب الرد إلى الكتاب والسنة
والمشروط على العدم عند عدم الشرط وذلك يدل على أنه إذا لم يوجد التنازع
فالاتفاق على الحكم كاف عن الكتاب والسنة: ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى
هذا.
فإن قيل: سقوط وجوب الرد إلى الكتاب والسنة عند الاتفاق على الحكم
بناء على الكتاب والسنة أو من غير بناء عليهما فإن كان الأول فالكتاب
والسنة كافيان في الحكم ولا حاجة إلى الإجماع وإن كان الثاني ففيه تجويز
وقوع الإجماع من غير دليل وذلك محال مانع من صحة الإجماع كيف وإنا لا نسلم
انتفاء الشرط فإن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا وجد التنازع ممن تأخر من
المجتهدين لإجماع المتقدمين.
قلنا: وإن كان الإجماع لا بد له من دليل
فلا نسلم انحصار دليله في الكتاب والسنة ليصح ما ذكروه لجواز أن يكون
مستندهم في ذلك إنما هو القياس والاستنباط على ما يأتي بيانه وإن سلمنا
انحصار دليل الإجماع في الكتاب والسنة ولكن ليس في ذلك ما يدل على عدم
اكتفاء من وجد بعد أهل الإجماع أو اكتفاء من وجد في عصرهم من المقلدة
بإجماعهم عن معرفة الكتاب والسنة.
وأما السؤال الثاني فمشكل جداً واعلم
أن التمسك بهذه الآيات وإن كانت مفيدة للظن فغير مفيدة للقطع ومن زعم أن
المسألة قطعية فاحتجاجه فيها بأمر ظني غير مفيد للمطلوب وإنما يصح ذلك على
رأي من يزعم أنها اجتهادية ظنية.
هذا ما يتعلق بالكتاب وأما السنة
وهي أقرب الطرق في إثبات كون الإجماع حجة قاطعة فمن ذلك ما روى أجلاء
الصحابة كعمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وابن عمر وأبي
هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهم بروايات مختلفة الألفاظ متفقة المعنى في
الدلالة على عصمة هذه الأمة عن الخطأ والضلالة كقوله عليه السلام: " أمتي
لا تجتمع على الخطأ أمتي لا تجتمع على الضلالة ولم يكن الله بالذي يجمع
أمتي على الضلالة لم يكن الله ليجمع أمتي على الخطأ وسألت الله أن لا يجمع
أمتي على الضلالة فأعطانيه " وقوله " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله
حسن " " يد الله على الجماعة " ولا يبالي بشذود من شذ ومن سره بحبوحة الجنة
فليلزم الجماعة فإن دعوتهم لتحيط من ورائهم " وإن الشيطان مع الفذ وهو من
الاثنين أبعد " " ولا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يظهر أمر الله ولا
تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم خلاف من خالفهم " " ومن خرج
عن الجماعة وفارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " " ومن
فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية عليكم بالسواد الأعظم " وقوله " تفترق
أمتي نيفاً وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة " قيل يا رسول الله
ومن تلك الفرقة قال " هي الجماعة " إلى غير ذلك من الأحاديث التي لا تحصى
كثيرة ولم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة معمولاً بها لم ينكرها منكر ولا
دفعها دفع.
فإن قيل هذه كلها أخبار آحاد تبلغ مبلغ التواتر ولا تفيد
اليقين وإن سلمنا التواتر ولكن يحتمل أنه أراد به الخطأ والضلالة عن الأمة
عصمة جميعهم عن الكفر لا بتأويل ولا شبهة ويحتمل أنه أراد بهم عصمتهم عن
الخطأ في الشهادة في الآخرة أو فيما يوافق النص المتواتر أو دليل العقل دون
ما يكون بالاجتهاد سلمنا دلالة هذه الأخبار على عصمتهم عن كل خطأ وضلال
لكن يحتمل أنه أراد بالأمة كل من آمن به إلى يوم القيامة وأهل كل عصر ليسوا
كل الأمة فلا يلزم امتناع الخطأ والضلال عليهم سلمنا انتفاء الخطأ والضلال
عن الإجماع في كل واحد من الأعصار ولكن لم قلتم إنه يكون حجة على
المجتهدين وأنه لا تجوز مخالفته مع أن كل مجتهد في الفرعيات مصيب على ما
يأتي تحقيقه ولا يجب على أحد المصيبين اتباع المصيب الآخر سلمنا دلالة ما
ذكرتموه على كون الإجماع حجة ولكنه معارض بما يدل على أنه ليس بحجة ودليله
ما سبق من الآيات والأخبار والمعقول في الآية الأولى.
والجواب عن السؤال
الأول من وجهين: الأول أن كل واحد من هذه الأخبار وإن كان خبر واحد يجوز
تطرق الكذب إليه إلا أن كل عاقل يجد من نفسه العلم الضروري من جملتها قصد
رسول الله عليه السلام تعظيم هذه الأمة وعصمتها عن الخطأ كما علم بالضرورة
سخاء حاتم وشجاعة علي وفقه الشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم وميل
رسول الله إلى عائشة دون باقي نسائه بالأخبار التي آحادها آحاد غير أنها
نازلة منزلة التواتر.
الوجه الثاني: أن هذه الأحاديث لم تزل ظاهرة
مشهورة بين الصحابة ومن بعدهم متمسكاً بها فيما بينهم في إثبات الإجماع من
غير خلاف فيها ولا نكير إلى زمان وجود المخالفين والعادة جارية بإحالة
اجتماع الخلق الكثير والجم الغفير مع تكرر الأزمان واختلاف هممهم ودواعيهم
ومذاهبهم على الاحتجاج بما لا أصل له في إثبات أصل من أصول الشريعة وهو
الإجماع المحكوم به على الكتاب والسنة من غير أن ينبه أحد على فساده
وإبطاله وإظهار النكير فيه.
فإن قيل من المحتمل أن أحداً أنكر هذه
الأخبار ولم ينقل إلينا ومع هذا الاحتمال فلا قطع قولكم إن الصحابة
والتابعين استدلوا بها على الإجماع لا نسلم ذلك وما المانع أن يكون
استدلالهم على الإجماع لا بهذه الأحاديث بل بغيرها سلمنا استدلالهم بها على
ذلك لكنه دور لما فيه من الاستدلال بالأحاديث على الإجماع والاستدلال على
صحة الأحاديث بالإجماع ثم ما ذكرتموه في الدلالة على صحتها من عدم النكير
معارض بما يدل على عدم صحتها وذلك أنها لو كانت معلومة الصحة مع أن الحاجة
داعية إلى معرفتها لبناء هذا الأصل العظيم عليها لإحالة العادة أن لا تعرف
الصحابة للتابعين طريق صحتها قطعاً للشك والارتياب.
قلنا جواب الأول:
أن الإجماع من أعظم أصول الدين فلو وجد فيما يستدل به عليه نكير لاشتهر
ذلك فيما بينهم وعظم الخلاف فيه كاشتهار خلافهم فيما هو دونه من مسائل
الفروع كاختلافهم في دية الجنين وقوله أنت علي حرام وحد الشرب ومسائل الجد
والأخوة إلى غير ذلك ولو كان كذلك لكانت العادة تحيل عدم نقله بل كان نقله
أولى من نقل ما خولف فيه من مسائل الفروع بل أولى من نقل خلاف النظام في
ذلك مع خفائه وقلة الاعتبار بقوله.
وجواب الثاني: ما ظهر واشتهر من تمسك
الصحابة والتابعين والاحتجاج بهذه الأخبار في معرض التهديد لمخالف الجماعة
والزجر عن الخروج عنهم ظهوراً لا ريب فيه.
وجواب الثالث: أن الاستدلال
على صحة الأخبار لم يكن بالإجماع بل بالعادة المحيلة لعدم الإنكار على
الاستدلال بما لا صحة له فيما هو من أعظم أصول الأحكام والاستدلال بالعادة
غير الاستدلال بالإجماع وذلك كالاستدلال بالعادة على إحالة دعوى وجود معارض
للقرآن واندراسه ووجود دليل يدل على إيجاب صلاة الضحى وصوم شوال ونحوه.
وجواب
الرابع: أنه يحتمل أن تكون الصحابة قد علمت صحة الأخبار المذكورة وكونها
مفيدة للعلم بعصمة الأمة لا بصريح مقال بل بقرائن أحوال وأمارات دالة على
ذلك لا سبيل إلى نقلها ولو نقلت لتطرق إليها التأويل والاحتمال واكتفوا بما
يعلمه التابعون من أن العادة تحيل الاعتماد على ما لا أصل له فيما هو من
أعظم الأصول قولهم: يحتمل أنه نفى عنهم الضلال والخطأ بمعنى الكفر.
قلنا:
هذه الأخبار نعلم أنها إنما وردت تعظيماً لشأن هذه الأمة في معرض الامتنان
والإنعام عليهم وفي حملها على نفي الكفر عنهم خاصة إبطال فائدة اختصاصهم
بذلك لمشاركة بعض آحاد الناس للأمة في ذلك وإنما يصح ذلك أن لو أراد بها
العصمة عما لا يعصم عن
في الإجماع
ويشتمل على مقدمة ومسائل:
أما
المقدمة ففي تعريف الإجماع وهو في اللغة باعتبارين: أحدهما العزم على الشيء
والتصميم عليه ومنه يقال: أجمع فلان على كذا إذا عزم عليه وإليه الإشارة
بقوله تعالى " فأجمعوا أمركم " " يونس 71 " أي اعزموا وبقوله عليه السلام: "
لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل " أي يعزم وعلى هذا فيصح إطلاق اسم
الإجماع على عزم الواحد.
الثاني الاتفاق ومنه يقال: أجمع القوم على كذا
إذا اتفقوا عليه وعلى هذا فاتفاق كل طائفة على أمر من الأمور دينياً كان أو
دنيوياً يسمى إجماعاً حتى اتفاق اليهود والنصارى.
وأما في اصطلاح
الأصوليين فقد قال النظام: هو كل قول قامت حجته حتى قول الواحد وقصد بذلك
الجمع بين إنكاره كون إجماع أهل الحل والعقد حجة وبين موافقته لما اشتهر
بين العلماء من تحريم مخالفة الإجماع والنزاع معه في إطلاق اسم الإجماع على
ذلك مع كونه مخالفاً للوضع اللغوي والعرف الأصولي آيل إلى اللفظ.
وقال
الغزالي: الإجماع عبارة عن اتفاق أمة محمد خاصة على أمر من الأمور الدينية
وهو مدخول من ثلاثة أوجه: الأول أن ما ذكره يشعر بعدم انعقاد الإجماع إلى
يوم القيامة فإن أمة محمد جملة من اتبعه إلى يوم القيامة ومن وجد في بعض
الأعصار منهم إنما يعم بعض الأمة لا كلها وليس ذلك مذهباً له ولا لمن اعترف
بوجود الإجماع.
الثاني أنه وإن صدق على الموجودين منهم في بعض الأعصار
أنهم أمة محمد غير أنه يلزم مما ذكره أنه لو خلا عصر من الأعصار عن أهل
الحل والعقد وكان كل من فيه عامياً واتفقوا على أمر ديني أن يكون إجماعاً
شرعياً وليس كذلك.
الثالث أنه يلزم من تقييده للإجماع بالاتفاق على أمر
من الأمور الدينية أن لا يكون إجماع الأمة على قضية عقلية أو عرفية حجة
شرعية وليس كذلك لما يأتي بيانه.
والحق في ذلك أن يقال: الإجماع عبارة
عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد في عصر من الأعصار على حكم
واقعة من الوقائع هذا إن قلنا إن العامي لا يعتبر في الإجماع وإلا فالواجب
أن يقال الإجماع عبارة عن اتفاق المكلفين من أمة محمد إلى آخر الحد
المذكور.
فقولنا اتفاق يعم الأقوال والأفعال والسكوت والتقرير وقولنا
جملة أهل الحل والعقد احتراز عن اتفاق بعضهم وعن اتفاق العامة وقولنا من
أمة محمد احتراز عن اتفاق أهل الحل والعقد من أرباب الشرائع السالفة وقولنا
في عصر من الأعصار حتى يندرج فيه إجماع أهل كل عصر وإلا أوهم ذلك أن
الإجماع لا يتم إلا باتفاق أهل الحل والعقد في جميع الأعصار إلى يوم
القيامة وقولنا على حكم واقعة ليعم الإثبات والنفي والأحكام العقلية
والشرعية وإذا عرف معنى الإجماع فلنرجع إلى المسائل المتعلقة به.
المسألة
الأولى اختلفوا في تصور اتفاق أهل الحل والعقد على حكم واحد غير معلوم
بالضرورة: فأثبته الأكثرون ونفاه الأقلون مصيراً منهم إلى أن اتفاقهم على
ذلك الحكم إما أن يكون عن دليل قاطع لا يحتمل التأويل أو عن دليل ظني لا
جائز أن يقال بالأول وإلا لكانت العادة محيلة لعدم نقله وتواطي الجمع
الكثير على إخفائه فحيث لم ينقل دل على عدمه كيف وأنه لو نقل لكان كافياً
في الدلالة عن إجماعهم ولا جائز أن يقال بالثاني لأنهم مع كثرتهم واختلاف
أذهانهم ودواعيهم في الاعتراف بالحق والعناد فالعادة أيضاً تحيل اتفاقهم
على الحكم الواحد كما أنها تحيل اتفاقهم على أكل طعام واحد معين في يوم
واحد وهو باطل فأنه إن كان إجماعهم عن دليل قاطع فإنما يمتنع عدم نقله أن
لو دعت الحاجة إليه وإنما تدعو الحاجة إليه أن لو لم يكن الإجماع على ذلك
الحكم كافياً عنه وهو محل النزاع.
وإن كان ذلك عن دليل ظني فلا يمتنع
معه اتفاق الجمع الكبير على حكمه بدليل اتفاق أهل الشبه على أحكامها مع
الأدلة القاطعة على مناقضتها كاتفاق اليهود والنصارى على إنكار بعثة محمد
صلى الله عليه وسلم واتفاق الفلاسفة على قدم العالم والمجوس على التثنية مع
كثرة عددهم كثرة لا تحصى فالاتفاق على الدليل الظني الخالي عن معارضة
القاطع له أولى أن لا يمتنع عادة وخرج عليه امتناع اتفاق الجمع الكثير على
أكل طعام معين في وقت واحد في العادة لعدم الصارف إليه كيف وأن جميع ما
ذكروه منتقض بما وجد من اتفاق جميع المسلمين فضلاً عن اتفاق أهل الحل
والعقد مع خروج عددهم عن الحصر على وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان ووجوب
الزكاة والحج وغير ذلك من الأحكام التي لم يكن طريق العلم بها الضرورة
والوقوع دليل التصور وزيادة.
المسألة الثانية المتفقون على تصور انعقاد
الإجماع اختلفوا في إمكان معرفته والاطلاع عليه: فأثبته الأكثرون أيضاً
ونفاه الأقلون ومنهم أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ولهذا نقل عنه أنه
قال: من ادعى وجود الإجماع فهو كاذب اعتماداً منهم على أن معرفة اتفاقهم
على اعتقاد الحكم الواحد متوقف على سماع الإخبار بذلك من كل واحد من أهل
الحل والعقد أو مشاهدة فعل أو ترك منه يدل عليه وذلك كله يتوقف على معرفة
كل واحد منهم وذلك مع كثرتهم وتفرقهم في البلاد النائية والأماكن البعيدة
متعذر عادة وبتقدير المعرفة بكل واحد منهم فمعرفة معتقده إنما تكون بالوصول
إليه والاجتماع به وهو أيضاً متعذر وبتقدير الاجتماع به وسماع قوله ورؤية
فعله أو تركه قد لا يفيد ذلك اليقين بأنه معتقده لجواز أن يكون إخباره وما
يشاهد من فعله أو تركه على خلاف معتقده لغرض من الأغراض وبتقدير حصول العلم
بمعتقده فلعله يرجع عنه قبل الوصول إلى الباقين وحصول العلم بمعتقدهم ومع
الاختلاف فلا إجماع.
وطريق الرد عليهم أن يقال: جميع ما ذكرتموه باطل
بالواقع ودليل الوقوع ما علمناه علماً لا مراء فيه من أن مذهب جميع
الشافعية امتناع قتل المسلم بالذمي وبطلان النكاح بلا ولي وأن مذهب جميع
الحنفية نقيض ذلك مع وجود جميع ما ذكروه من التشكيكات والوقوع في هذه الصور
دليل الجواز العادي وزيادة.
فإن قيل إنما علمنا أن مذهب أصحاب الشافعي
وأبي حنيفة ذلك لأنا علمنا قول الشافعي وقول أبي حنيفة في ذلك وهو قول واحد
يمكن الاطلاع عليه فعلمنا أن مذهب كل من يتبعه وهو مقلد له ذلك ولا كذلك
في الإجماع لأنه لم يظهر لنا نص عن الله والرسول يكون مستند إجماعهم ولو
عرف ذلك لكان هو الحجة.
قلنا: هذا وإن استمر لكم هاهنا فلا يستمر فيما
نقله قطعاً من اعتقاد النصارى واليهود من إنكار بعثة النبي عليه السلام فإن
ذلك لم يظهر لنا فيه أنه قول موسى ولا عيسى ولا قول واحد معين حتى يكون
اعتقادهم ذلك لاتباعهم له فما هو الجواب هاهنا فهو الجواب في محل النزاع.
المسألة
الثالثة اتفق أكثر المسلمين على أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل به على كل
مسلم خلافاً للشيعة والخوارج والنظام من المعتزلة وقد احتج أهل الحق في
ذلك بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب فخمس آيات: الآية الأولى وهي
أقواها وبها تمسك الشافعي رضي الله عنه وهي قوله تعالى " ومن يشاقق الرسول
من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم
وساءت مصيراً " " النساء 115 " ووجه الاحتجاج بالآية أنه تعالى توعد على
متابعة غير سبيل المؤمنين ولو لم يكن ذلك محرماً لما توعد عليه ولما حسن
الجمع بينه وبين المحرم من مشاقة الرسول عليه السلام في التوعد كما لا يحسن
التوعد على الجمع بين الكفر وأكل الخبز المباح.
فإن قيل لا نسلم أن
من للعموم على ما سيأتي في مسائل العموم حتى يتناول كل من اتبع غير سبيل
المؤمنين سلمنا أنها للعموم غير أن التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين
إنما وقع مشروطاً بمشاقة الرسول والمشروط على العدم عند عدم الشرط سلمنا
لحوق الذم باتباع غير سبيل المؤمنين على انفراده لكنه متردد بين أن يراد به
عدم متابعة سبيل المؤمنين وتكون غير بمعنى إلا وبين أن يراد به متابعة
سبيل غير المؤمنين وتكون غير هاهنا صفة لسبيل غير المؤمنين وليس أحد
الأمرين أولى من الآخر وبتقدير أن تكون غير صفة لسبيل غير المؤمنين فسبيل
غير المؤمنين هو الكفر ونحن نسلم أن من شاقق الرسول وكفر فإنه يكون متوعداً
بالعقاب وذلك لا يدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين سلمنا أن سبيل غير
المؤمنين ليس هو الكفر ولكن ذلك لا يدل على التوعد على عدم اتباع سبيل
المؤمنين بل غاية ما يلزم من تخصيص اتباع سبيل غير المؤمنين بالتوعد عدم
التوعد على اتباع سبيل المؤمنين بمفهومه ولا نسلم أن المفهوم حجة وإن سلمنا
أنه حجة لكن في عدم التوعد على متابعة سبيل المؤمنين ونحن نقول به ولا
يلزم من ذلك وجوب اتباعهم سلمنا أن المراد به عدم اتباع سبيل المؤمنين لكنه
يتناول سبيل جميع المؤمنين وجميع المؤمنين كل من آمن بالله ورسوله إلى يوم
القيامة وذلك لا يدل على أن ما وجد من الإجماع في بعض الأعصار حجة سلمنا
أن المراد منه سبيل المؤمنين في كل عصر لكنه عام في كل مؤمن عالم وجاهل
والجهال غير داخلين في الإجماع المتبع وما دون ذلك فالآية غير دالة عليه
سلمنا أن المراد بالمؤمنين أهل الحل والعقد في أي عصر اتفق لكن لفظ السبيل
مفرد لا عموم فيه فلا يقتضي اتباع كل سبيل سلمنا عمومه لكنه مما يمتنع حمله
على متابعة كل سبيل وإلا لوجب متابعة أهل الإجماع فيما فعلوه من المباحات
لأنهم فعلوه ولا يجب لحكمهم عليه بالإباحة ولوجب اتباعهم في إجماعهم قبل
الاتفاق على حكم من الأحكام على جواز الاجتهاد فيه لكل أحد واتباعهم في
امتناع الاجتهاد فيه بعد اتفاقهم عليه وذلك تناقض محض وعند ذلك فيحتمل أنه
أراد به متابعة سبيلهم في متابعتهم للنبي عليه السلام وترك مشاقته ويحتمل
أنه أراد به اتباع سبيلهم في الإيمان واعتقاد دين الإسلام ويحتمل أنه أراد
اتباع سبيلهم في الاجتهاد دون التقليد ونحن نقول بذلك كله كيف ويجب الحمل
على ذلك لما فيه من العمل باللفظ في زمن النبي وفيما بعده ولو كان محمولاً
على متابعتهم فيما اتفقوا عليه من الأحكام الشرعية لكان ذلك خاصاً بما بعد
وفاة النبي عليه السلام لاستحالة الاحتجاج بالإجماع في زمانه سلمنا أن
المراد به متابعتهم فيما أجمعوا عليه من الأحكام الشرعية لكنه مشروط بسابقة
تبين الهدى بدليل قوله تعالى " من بعد ما تبين له الهدى " " النساء 115 "
والهدى مذكور بالألف واللام المستغرقة فيدخل فيه كل هدى حتى إجماعهم على
الحكم الشرعي وإنما يتبين الهدى بدليله وإذا كان الإجماع من جملة الهدى فلا
بد من تقدم بيانه بدليله ودليل كون الإجماع هدى لا يكون هو نفس الإجماع بل
هو غيره وعند ذلك فظهور ذلك الدليل كاف في اتباعه عن اتباع الإجماع سلمنا
وجوب اتباع سبيل المؤمنين مطلقاً لكن المراد بالمؤمنين الأئمة المعصومون
لأن سبيلهم لا يكون إلا حقاً أو المؤمنين إذا كان فيهم الإمام المعصوم لأن
سبيلهم سبيله وسبيل المعصوم لا يكون إلا حقاً فكان واجب الاتباع والثاني
ممنوع سلمنا وجوب إتباع سبيل المؤمنين وإن لم يكن فيهم الإمام المعصوم ولكن
إذا علم كونهم مؤمنين والإيمان هو التصديق وهو باطن لا سبيل إلى معرفته
وإذا لم يعلم كونهم مؤمنين فالاتباع لا يكون واجباً لفوات شرطه سلمنا دلالة
ما ذكرتموه على كون الإجماع حجة ولكنه معارض بالكتاب والسنة والمعقول.
أما
الكتاب فقوله تعالى: " ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء " " النحل 89 "
وذلك يدل على عدم الحاجة إلى الإجماع وقوله تعالى " فإن تنازعتم في شيء
فردوه إلى الله والرسول " " النساء 59 " اقتصر على الكتاب والسنة وذلك يدل
على عدم الحاجة إلى الإجماع وقوله تعالى " ولا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل " " البقرة 188 " وقوله " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " "
البقرة 161 " نهى كل الأمة عن هاتين المعصيتين وذلك يدل على تصورهما منهم
ومن تتصور منه المعصية لا يكون قوله ولا فعله موجباً للقطع.
وأما السنة
فهو أن النبي عليه السلام أقر معاذاً لما سأله عن الأدلة المعمول بها على
إهماله لذكر الإجماع ولو كان الإجماع دليلاً لما ساغ ذلك مع الحاجة إليه
وأيضاً فإنه قد ورد عن النبي عليه السلام ما يدل على جواز خلو العصر عمن
تقوم الحجة بقوله فمن ذلك قوله عليه السلام: " بدئ الإسلام غريباً وسيعود
كما بدأ " وأيضاً قوله: " لا ترجعوا بعدي كفاراً " نهى الكل عن الكفر وهو
دليل جواز وقوعه منهم وقوله: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ولكن بقبض
العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير
علم فضلوا وأضلوا " وقوله: " تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما
ينسى " وقوله عليه السلام " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة "
وقوله " خير القرون القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم تبقى
حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم " .
وأما المعقول فما ذكرناه في
المسألتين الأوليين وأيضاً فإن أمة محمد أمة من الأمم فلا يكون إجماعهم حجة
كغيرهم من الأمم وأيضاً فإن الأحكام الشرعية لا يصح إثباتها إلا بدليل فلا
يكون إجماع الأمة دليلاً عليها كالتوحيد وسائر المسائل العقلية.
والجواب:
قولهم لا نسلم أن من للعموم سيأتي بيان ذلك في مسائل العموم قولهم إن
التوعد إنما وقع على الجمع بين المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين فقد أجاب
عنه بعض أصحابنا بأن التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إن لم يكن مشروطاً
بمشاقة الرسول فهو المطلوب وإن كان مشروطاً به فيكون اتباع غير سبيل
المؤمنين غير متوعد عليه عند عدم المشاقة مطلقاً وذلك باطل لأن مخالفة
الإجماع وإن لم تكن خطأ لكن لا يلزم أن تكون صواباً مطلقاً وما لا يكون
صواباً مطلقاً لا يكون جائزاً مطلقاً وليس بحق لأنه إذا سلم أن مخالفة
الإجماع عند عدم المشاقة ليست خطأ فقوله لا يلزم أن تكون صواباً مطلقاً
قلنا إن لم تكن صواباً فإما أن يكون عدم الصواب خطأ أو لا يكون خطأ: فإن
كان الأول فقد ناقض وإن كان الثاني فما لا يكون خطأ لا يلزم التوعد عليه
وقال أبو الحسين البصري: هذا يقتضي أن من شاق الرسول يجب عليه اتباع سبيل
المؤمنين مع مشاقته للرسول ومشاقة الرسول ليست معصية فقط وإنما هي معصية
على سبيل الرد عليه لأن من صدق النبي عليه السلام وفعل بعض المعاصي لا يقال
إنه مشاق للرسول ومن كذب النبي عليه السلام لا يصح أن يعلم صحة الإجماع
بالسمع ومن لا يصح عليه ذلك لا يصح أن يكون مأموراً باتباعه في تلك الحال
وهو غير سديد.
فإن لقائل أن يقول: وإن سلمنا أن المفهوم من المشاقة
للنبي تكذيبه وأن من كذب النبي لا يعلم بالسمع صحة الإجماع ولكن القول بأنه
لا يكون مأموراً باتباع الإجماع مبني على أن الكفار غير مخاطبين بفروع
الإسلام وهو باطل بما سبق تقريره وقيل في جوابه أيضاً إن الوعيد إذا علق
على أمرين اقتضى ذلك التوعد بكل واحد من الأمرين جملة وإفراداً ويدل عليه
قوله تعالى: " والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي
حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً " " الفرقان 68 "
فإنه يقتضي لحوق المأثم بكل واحد من هذه الأمور جملة وبكل واحد على
انفراده.
ولقائل أن يقول: لا نسلم ثبوت الإثم في كل واحد من هذه
الأمور على انفراده بهذه الآية وإنما كان ذلك مستفاداً من الأدلة الخاصة
الدالة على لزوم المأثم بكل واحد من هذه الأمور بخصوصه ولهذا فإنه لما لم
يدل الدليل الخاص على مضاعفة العذاب بكل واحد من هذه الأمور لم تكن الآية
مقتضية لتضاعف العذاب على كل واحد بتقدير الانفراد إجماعاً ولو كانت مقتضية
لذلك لكان نفي المتضاعف بقوله " يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه
مهاناً " " الفرقان 69 " على خلاف الدليل ولهذا فإنه لو قال لزوجته: " إن
كلمت زيداً وعمراً أو إن كلمت زيداً ودخلت الدار فأنت طالق " فإنه لا يقع
الطلاق بوجود أحد الأمرين ولولا أن الحكم المعلق على أمرين على العدم عند
عدم أحدهما لكان انتفاء الحكم في هذه الصورة على خلاف الدليل وهو ممتنع
والأقرب في ذلك أن يقال: لا خلاف في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين
عند المشاقة وعند ذلك إما أن يكون لمفسدة متعلقة أو لا لمفسدة لا جائز أن
يقال بالثاني فإن ما لا مفسدة فيه لا توعد عليه من غير خلاف وإن كان الأول
فالمفسدة في اتباع غير سبيل المؤمنين إما أن تكون من جهة مشاقة الرسول أو
لا من جهة مشاقته فإن كان الأول فذكر المشاقة كاف في التوعد كما قيل ولا
حاجة إلى قوله " ويتبع غير سبيل المؤمنين " وإن كان الثاني لزم التوعد
لتحقق المفسدة سواء وجدت المشاقة أو لم توجد.
قولهم إن غير مترددة بين
أن تكون بمعنى إلا أو بمعنى الصفة قلنا: لا يمكن أن تكون غير هاهنا صفة
لأنه يلزم من ذلك تحريم متابعة سبيل غير المؤمنين ويلزم من ذلك أن الأمة
إذا أجمعت على إباحة فعل من الأفعال أن يحرم على المكلف أن يقول بحظره أو
وجوبه والمخالف لا يقول بذلك وبتقدير أن يكون المراد منه تحريم اتباع سبيل
غير المؤمنين فذلك يعم تحريم كل سبيل هو غير سبيل المؤمنين لأنه سبيل غير
المؤمنين ولهذا فإن من اختار لنفسه حالة وتمسك بها وكان معروفاً بها يقال
إنها سبيله سواء تعددت الأحوال أو اتحدت وإذا قيل: فلان سلك سبيل التجار
فهم منه أنه يفعل أفعالهم ويتزي بزيهم ويتخلق بأخلاقهم ويجر على عاداتهم
وعلى هذا فيمتنع تخصيص السبيل المتوعد على اتباعه إذا كان غير سبيل
المؤمنين بشيء معين من كفر أو غيره بل يعم ذلك ما كان مخالفاً لطريق الأمة
وسبيلهم كيف وإنا لو لم نعتقد ذلك لزم منه أن يكون لفظ السبيل مبهماً وهو
خلاف الأصل على ما سبق.
قولهم إنه إنما يدل على عدم التوعد على متابعة
سبيل المؤمنين بمفهومه قلنا إذا سلم أنه يحرم اتباع كل سبيل سوى سبيل
المؤمنين فلا نريد بكون الإجماع حجة سوى هذا.
قولهم: المراد من سبيل
المؤمنين كل من آمن به إلى يوم القيامة لا يصح لوجهين الأول أن الأصل تنزيل
اللفظ على حقيقته ولفظ المؤمنين حقيقة يكون لمن هو متصف بالإيمان والاتصاف
بالإيمان مشروط بالوجود والحياة ومن لا حياة له ممن مات أو لم يوجد بعد لا
يكون مؤمناً حقيقة فلفظ المؤمنين حقيقة إنما يصدق على أهل كل عصر دون من
تقدم أو تأخر وهذا وإن منع من الاحتجاج بإجماع أهل العصر على من بعدهم فلا
يمنع من الاحتجاج به على من في عصرهم وهو خلاف مذهب الخصوم الثاني أن
المقصود من الآية إنما هو الزجر عن مخالفة المؤمنين والحث على متابعتهم
وذلك غير متصور عند حمل المؤمنين على كل من آمن إلى يوم القيامة إذ لا زجر
ولا حث في يوم القيامة.
قولهم: الآية وإن دلت على وجوب اتباع سبيل
المؤمنين في أي عصر كان غير أنها عامة في العالم والجاهل والجاهل غير مراد
بالاتفاق ولا نسلم ذلك على ما يأتي وإن سلمنا ذلك غير أن الآية حجة في
اتباع جملة المؤمنين إلا ما خصه الدليل فتبقى الآية حجة في الباقي.
قولهم
لفظ السبيل مفرد لا عموم فيه عنه جوابان: الأول أنه يجب اعتقاد عمومه لما
سبق تقريره الثاني أنه إما أن يكون عاماً بلفظه أو لا يكون عاماً بلفظه فإن
كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فهو إن لم يكن عاماً بلفظه فهو عام
بمعناه وإيمائه ذلك لأن اتباع سبيل المؤمنين أي سبيل كان مناسب لكونه
مصلحياً وقد رتب الحكم على وفقه في كلام الشارع فكان علة لوجوب الاتباع
مهما تحقق.
قولهم: يلزم من ذلك وجوب متابعة أهل الإجماع فيما فعلوه وحكموا بكونه مباحاً وهو تناقض
قلنا:
الآية وإن دلت على وجوب اتباع المؤمنين في كل سبيل لهم ففعلهم للمباح سبيل
وحكمهم بجواز الترك سبيل ولا يلزم من مخالفة الآية في إيجاب الفعل اتباعاً
لفعلهم له مخالفتها في اتباعهم في اعتقاد جواز تركه.
قولهم: يلزم من
ذلك وجوب متابعة أهل الإجماع في جواز الاجتهاد وتحريمه قلنا: سنبين أنه
مهما انعقد إجماع الأمة على حكم أنه يستحيل انعقاد إجماعهم على مخالفته.
قولهم:
يحتمل أنه أراد متابعتهم في متابعتهم للنبي عليه السلام وترك مشاقته أو
اتباعهم في الإيمان أو في الاجتهاد قلنا: اللفظ يعم كل سبيل على ما قررناه
وما ذكروه تخصيص لعموم الاتباع من غير دليل فلا يقبل قولهم إنه مشروط
بسابقة تبين الهدى إلى آخره فجوابه من ثلاثة أوجه: الأول أن تبين الهدى
إنما هو مشروط في الوعيد على المشاقة لا في الوعيد على اتباع غير سبيل
المؤمنين وذلك لأن المشاقة لا تكون إلا بعد تبين الهدى ومعرفته بدليله ومن
لم يعرف ذلك لا يوصف بالمشاقة.
الثاني أن تبين الأحكام الفروعية ليس
شرطاً في مشاقة الرسول بدليل أن من تبين صدق النبي وحاد عنه ورد عليه فإنه
يوصف بالمشاقة وإن كان جاهلاً بالفروع غير متبين لها وإذا لم تكن معرفة
أحكام الفروع شرطاً في المشاقة فلا تكون مشترطة في لحوق الوعيد باتباع غير
سبيل المؤمنين فيها.
الثالث هو أن الآية إنما خرجت مخرج التعظيم
والتبجيل للمؤمنين بإلحاق الذم باتباع غير سبيلهم فلو كان ذلك مشروطاً
بتبين كونه هدى ولم يكن اتباعهم في سبيلهم لأجل أنه سبيل لهم بل لمشاركتهم
فيما ذهبوا إليه لتبين كونه هدى لبطلت فائدة تعظيم الأمة الإسلامية وتميزهم
بذلك فإن كل من ظهر الهدى في قوله واعتقاده فالوعيد حاصل بمخالفته وإن لم
يكن من المسلمين وذلك كالوعيد على عدم مشاركة اليهود فيما ظهر كون معتقدهم
فيه هدى كإثبات الصانع واعتقاد كون موسى رسولاً كريماً.
قولهم المراد من
المؤمنين الأئمة المعصومون أو من كان فيهم الإمام المعصوم عنه جوابان:
الأول أنه مبني على وجود الإمام المعصوم وهو باطل بما حققناه في علم الكلام
الثاني أن الآية عامة فتخصيصها بالأئمة وبالمؤمنين الذين فيهم الإمام
المعصوم من غير دليل غير مقبول كيف وأن الآية دالة على الوعيد باتباع غير
سبيل المؤمنين وعندهم التوعد إنما هو بسبب اتباع غير سبيل الإمام وحده دون
غيره وهو خلاف الظاهر.
قولهم سلمنا وجوب اتباع سبيل المؤمنين لكن إذا
علم أنهم مؤمنون قلنا: المقصود من الآية إنما هو الحث على متابعة سبيل
المؤمنين والزجر عن مخالفته فإن كان سبيلهم معلوماً فلا إشكال وإن لم يكن
معلوماً فالتكليف باتباع ما لا يكون معلوماً إما أن لا يكتفي فيه بالظن أو
يكتفي فيه بالظن فإن كان الأول فهو تكليف بما لا يطاق وهو خلاف الأصل وإن
كان الثاني فهو المطلوب وأما ما ذكروه من المعارضة بالآية الأولى فليس في
بيان كون الإجماع حجة متبعة بالآية التي ذكرها ما ينافي كون الكتاب تبياناً
لكل شيء وأصلاً له وأما الآية الثانية فهي دليل عليهم لأنها دليل على وجوب
الرد إلى الله والرسول في كل متنازع فيه وكون الإجماع حجة متبعة مما وقع
النزاع فيه وقد رددناه إلى الله تعالى حيث أثبتناه بالقرآن وهم مخالفون في
ذلك وأما الآية الثالثة والرابعة فلا نسلم أن النهي فيهما راجع إلى اجتماع
الأمة على ما نهوا عنه بل هو راجع إلى كل واحد على انفراده ولا يلزم من
جواز المعصية على كل واحد جوازها على الجملة سلمنا أن النهي لجملة الأمة عن
الاجتماع على المعصية ولكن غاية ذلك جواز وقوعها منهم عقلاً ولا يلزم من
الجواز الوقوع ولهذا فإن النبي عليه السلام قد نهي عن أن يكون من الجاهلين
بقوله تعالى " فلا تكونن من الجاهلين " " الأنعام 35 " وقال تعالى لنبيه: "
لئن أشركت ليحبطن عملك " " الزمر 65 " إذ ورد ذلك في معرض النهي مع العلم
بكونه معصوماً من ذلك وأيضاً فإنا نعلم أن كل أحد منهي عن الزنى وشرب الخمر
وقتل النفس بغير حق إلى غير ذلك من المعاصي ومع ذلك فإن من مات ولم يصدر
عنه بعض المعاصي نعلم أن الله قد علم منه أنه لا يأتي بتلك المعصية فكان
معصوماً عنها ضرورة تعلق علم الله بأنه لا يأتي بها ومع ذلك فهو منهي عنها.
وأما
خبر معاذ فإنما لم يذكر فيه الإجماع لأنه ليس بحجة في زمن النبي عليه
السلام فلم يكن مؤخراً لبيانه مع الحاجة إليه وقوله عليه السلام " بدئ
الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ " لا يدل على أنه لا يبقى من تقوم الحجة
بقوله بل غايته أن أهل الإسلام هم الأقلون وقوله: " لا ترجعوا بعدي كفاراً "
فيحتمل أنه خطاب مع جماعة معينين وإن كان خطاباً مع الكل فجوابه ما سبق في
آيات المناهي للأمة.
وقوله " حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء
جهالاً " الحديث إلى آخره غايته الدلالة على جواز انقراض العلماء ونحن لا
ننكر امتناع وجود الإجماع مع انقراض العلماء وإنما الكلام في اجتماع من كان
من العلماء وعلى هذا يكون الجواب عن باقي الأحاديث الدالة على خلو الزمان
من العلماء كيف وإن ما ذكروه معارض بما يدل على امتناع خلو عصر من الأعصار
عمن تقوم الحجة بقوله وهو قوله عليه السلام: " لا تزال طائفة من أمتي على
الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال " وأيضاً ما روي أنه قال: "
واشوقاه إلى إخواني قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ فقال أنتم أصحابي
إخواني قوم يأتون من بعدي يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق ويصلحون إذا فسد
الناس " .
وما ذكروه من المعقول في المسألتين السابقتين فقد سبق جوابه
قولهم: إنها أمة من الأمم فلا يكون إجماعهم حجة كغيرهم من الأمم فقد ذهب
أبو إسحاق الأسفرايني وغيره من أصحابنا وجماعة من العلماء إلى أن إجماع
علماء من تقدم من الملل أيضاً حجة قبل النسخ وإن سلمنا أنه ليس بحجة فلأنه
لم يرد في حقهم من الدلالة الدالة على الاحتجاج بإجماعهم ما ورد في علماء
هذه الأمة فافترقا وأما الحجة الأخيرة فلا نسلم أنه إذا كان الحكم ثبت
بالدليل لا يجوز إثباته بالإجماع.
وأما التوحيد فلا نسلم أن الإجماع فيه
ليس بحجة وإن سلمنا أنه لا يكون حجة فيه بل في الأحكام الشرعية لا غير غير
أن الفرق بينهما أن التوحيد لا يجوز فيه تقليد العامي للعالم وإنما يرجع
إلى أدلة يشترك فيها الكل وهي أدلة العقل بخلاف الأحكام الشرعية فإنه يجب
على العامي الأخذ بقول العالم فيها وإذا جاز أو وجب الأخذ بقول الواحد كان
الأخذ بقول الجماعة أولى.
الآية الثانية قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم
أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " " البقرة
143 " وصف الأمة بكونهم وسطاً والوسط هو العدل ويدل عليه النص واللغة أما
النص فقوله تعالى: " قال أوسطهم ألم أقل لكم " " القلم 28 " أعدلهم وقال
عليه السلام خير الأمور أوساطها وأما اللغة فقول الشاعر:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
أي
عدول ووجه الاحتجاج بالآية أنه عدلهم وجعلهم حجة على الناس في قبول
أقوالهم كما جعل الرسول حجة علينا في قبول قوله علينا ولا معنى لكون
الإجماع حجة سوى كون أقوالهم حجة على غيرهم فإن قيل إنما وصفهم بالعدالة
ليكونوا شهداء في الآخرة على الناس بتبليغ الأنبياء إليهم الرسالة وذلك
يقتضي عدالتهم وقبول شهادتهم في يوم القيامة حالة ما يشهدون دون حالة
التحمل في الدنيا سلمنا أنه وصفهم بذلك في الدنيا ولكن ليس في قوله: "
لتكونوا شهداء على الناس " " البقرة 143 " لفظ عموم يدل على قبول شهادتهم
في كل شيء بل هو مطلق في المشهود به وهو غير معين فكانت الآية مجملة ولا
حجة في المجمل سلمنا أنها ليست مجملة ولكنا قد عملنا بها في قبول شهادتهم
على من بعدهم بإيجاب النبي عليه السلام العبادات عليهم وتكليفهم بما كلفهم
به فلا يبقى حجة في غيره لتوفية العمل بدلالة الآية سلمنا قبول شهادتهم في
كل شيء غير أن الآية تدل على عدالة كل واحد من الأمة وقبول شهادته وهو مخصص
بالإجماع بالفساق والنساء والصبيان والمجانين والعام بعد التخصيص لا يبقى
حجة على ما سيأتي لكن ليس في ذلك ما يدل سلمنا أنها تبقى حجة بعد التخصيص
على عدالتهم وعصمتهم عن الخطأ باطناً بل ظاهراً فإن ذلك كان في قبول
الشهادة سلمنا أن ذلك يدل على عصمتهم عن الخطأ مطلقاً لكن فيما يشهدون به
لا فيما يحكمون به من الأحكام الشرعية بطريق الاجتهاد فإن ذلك ليس من باب
الشهادة في شيء وهو محل النزاع سلمنا قبول قولهم مطلقاً غير أن الخطاب إما
أن يكون مع جميع أمة محمد إلى يوم القيامة وإما مع الموجودين في وقت الخطاب
فإن كان الأول فلا حجة في إجماع كل عصر إذ ليسوا كل الأمة وإن كان الثاني
فلا يكون إجماع من بعدهم حجة وإجماع الموجودين في زمن الوحي ليس بحجة في
زمن الوحي بالإجماع وإنما يكون حجة بعد النبي عليه السلام وذلك يتوقف على
بقاء كل من كان من المخاطبين بذلك في زمن النبي بعد النبي وأن يعرف مقاله
كل واحد فيما ذهب إليه وهو متعذر جداً.
والجواب عن السؤال الأول أن وصف
أمة محمد بالعدالة إنما كان في معرض الامتنان والإنعام عليهم وتعظيم شأنهم
وذلك إما أن يكون في الدنيا أو في الأخرى أو فيهما لا جائز أن يكون في
الأخرى لا غير لوجهين: الأول أن جميع الأمم عدول يوم القيامة بل معصومون عن
الخطأ لاستحالة ذلك منهم وفيه إبطال فائدة التخصيص الثاني أنه لو كان كذلك
لقال: سنجعلكم عدولاً لا أن يقول جعلناكم وإن كان القسم الثاني والثالث
فهو المطلوب.
وعن الثاني من وجهين: الأول أنه يجب اعتقاد العموم في قبول
الشهادة نفياً للإجمال عن الكلام الثاني إن الاحتجاج ليس في قوله "
لتكونوا شهداء على الناس " " البقرة 143 " بل في وصفهم بالعدالة ومهما
كانوا عدولاً وجب قبول قولهم في كل شيء وبه يخرج الجواب عن السؤال الثالث.
وأما
الرابع فجوابه أن الآية تدل على وصف جملة الأمة بالعدالة ومقتضى ذلك
عدالتهم فيما يقولونه جملة وآحاداً غير أنا خالفناه في بعض الآحاد فتبقى
الآية حجة في عدالتهم فيما يقولونه جملة وهو المطلوب قولهم العام بعد
التخصيص لا يبقى حجة سنبطله فيما يأتي.
وأما السؤال الخامس فجوابه أن
الله تعالى أخبر عنهم بكونهم عدولاً والأصل أن يكون كذلك حقيقة في نفس
الأمر لكونه عالماً بالخفيات فإن الحكيم إذا علم من حال شخص أنه غير عدل في
نفس الأمر لا يخبر عنه بأنه عدل.
وجواب السادس أنه إذا ثبت وصفهم
بالعدالة في نفس الأمر فيما يخبرون به مما يرونه من الأحكام الشرعية يجب
صدقهم فيه وإلا لما كانوا عدولاً في نفس الأمر وإذا كانوا صادقين فيه فهو
صواب لكونه حسناً فهو حسن عند الله لقوله عليه السلام: " ما رآه المسلمون
حسناً فهو حسن عند الله " وإذا كان صواباً كان خلافة خطأ وهو المطلوب.
وجواب
السابع أنه لا سبيل إلى حمل لفظ الأمة على كل من آمن بالرسول إلى يوم
القيامة لما سبق في الآية الأولى ولا على من كان موجوداً في زمن النبي عليه
السلام لا غير لأن أقوالهم غير محتج بها في زمنه ولا وجود لهم بعد وفاته
فإن كثيراً منهم مات بعد الخطاب بهذه الآية قبل وفاة النبي عليه السلام فلا
يبقى لقوله تعالى: " لتكونوا شهداء على الناس " " البقرة 143 " فائدة فيجب
حمله على أهل كل عصر عصر تحقيقاً لفائدة كونهم شهداء.
الآية الثالثة
قوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
" " آل عمران 110 " والألف واللام إذا دخلت على اسم الجنس عمت على ما
سيأتي ومقتضى صدق الخبر بذلك أمرهم بكل معروف ونهيهم عن كل منكر فإذا أمروا
بشيء إما أن يكون معروفاً أو منكراً لا جائز أن يكون منكراً وإلا لكانوا
ناهين عنه ضرورة العمل بالعموم الذي ذكرناه لا أمرين به وإن كان معروفاً
فخلافه يكون منكراً وهو المطلوب وإذا نهوا عن شيء فإما أن يكون منكراً أو
معروفاً لا جائز أن يكون معروفاً وإلا لكانوا أمرين به ضرورة ما ذكرناه من
العموم لا ناهين عنه وإن كان منكراً فخلافه يكون معروفاً وهو المطلوب فإن
قيل: لا نسلم أن الألف واللام الداخلة على اسم الجنس للاستغراق على ما
سيأتي وعلى هذا فلا تكون الآية عامة في الأمر بكل معروف ولا النهي عن كل
منكر سلمنا أنها للعموم لكن قوله كنتم يدل على كونهم متصفين بهذه الصفة في
الماضي ولا يلزم من ذلك اتصافهم بذلك في الحال بل ربما دل على عدم اتصافهم
بذلك في الحال نظراً إلى قاعدة المفهوم وعلى هذا فما وجد من أمرهم ونهيهم
لا نعلم أنه كان قبل نزول الآية فيكون حجة أو بعدها فلا يكون حجة سلمنا
اتصافهم بذلك في الماضي والحال ولكن ليس فيه ما يدل على استدامتهم لذلك في
المستقبل وعلى هذا فما وجد من أمرهم ونهيهم مما لا يعلم أنه كان في حالة
كونه حجة أو في غيرها سلمنا دلالة الآية على ذلك في جميع الأزمان لكنه خطاب
مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام ولا يلزم مثله في حق من بعدهم
سلمنا أنه خطاب مع الكل لكن ذلك يستدعي كون كل واحد منهم على هذه الصفة
ونحن نعلم خلاف ذلك ضرورة وإذا كان المراد بالآية بعض الأمة فذلك البعض غير
معين ولا معلوم فلا يكون قوله حجة.
والجواب عن السؤال الأول ما سيأتي
في العمومات كيف وأن الآية إنما وردت في معرض التعظيم لهذه الأمة وتمييزها
على غيرها من الأمم فلو كانت الآية محمولة على البعض دون البعض لبطلت فائدة
التخصيص فإنه ما من أمة إلا وقد أمرت بالمعروف كاتباع أنبيائهم وشرائعهم
ونهت عن المنكر كنهيهم عن الإلحاد وتكذيب أنبيائهم.
وعن الثاني أنه إما أن تكون كان هاهنا زائدة أو تامة أو زمانية فإن كانت زائدة كما في قول الفرزدق:
فكيف إذا مررت بدار قوم ... وجيران لنا كانوا كراما
فإنه
جعل كراماً نعتاً للجيران وألغى كان فهي دالة على اتصافهم بذلك حالاً لا
في الماضي وإن أفادت نصب خير أمة كما في قوله تعالى: " كيف نكلم من كان في
المهد صبياً " " مريم 19 " .
وإن كانت تامة وهي التي تكون بمعنى الوقوع
والحدوث ويكتفى فيها باسم واحد لا خبر فيه كما في قوله تعالى: " وإن كان ذو
عسرة فنظرة إلى ميسرة " " البقرة 280 " معناه حضر أو وقع ذو عسرة وكقول
الشاعر:
إذا كان الشتاء فأدفئوني ... فإن الشيخ يهدمه الشتاء
فيكون
معنى قوله: " كنتم خير أمة " " آل عمران 110 " أي وجدتم ويكون قوله: " خير
أمة " نصباً على الحال فيكون ذلك دليلاً على اتصافهم بذلك في الحال لا في
الماضي.
وإن كانت زمانية وهي الناقصة التي تحتاج إلى اسم وخبر فكان وإن
دلت على الماضي فقوله: " تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " " آل عمران
110 " يقتضي كونهم كذلك في كل حال لورود ذلك في معرض التعظيم لهذه الأمة
على ما سبق تقريره في جواب السؤال الذي قبله.
وعن الثالث أن قوله: "
تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " " آل عمران 110 " فعل مضارع صالح للحال
والاستقبال ويجب أن يكون حقيقة فيهما على العموم نفياً للتجوز والاشتراك
عن اللفظ.
وعن الرابع أنه إذا سلم كون الآية حجة في إجماع الصحابة فهو كاف إذ هو من جملة صور النزاع.
وعن الخامس إن الخطاب إذا كان مع الأمة كان ذلك حجة في ما وجد من أمرهم ونهيهم جملة وذلك هو المطلوب وإن لم يكن ذلك حجة في الأفراد.
الآية
الرابعة قوله تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " " آل عمران
103 " ووجه الاحتجاج بها أنه تعالى نهى عن التفرق ومخالفة الإجماع تفرق
فكان منهياً عنه ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى النهي عن مخالفته فإن قيل:
لا نسلم وجود صيغة النهي وإن سلمناها ولكن لا نسلم أن النهي يدل على
التحريم كما سيأتي تقريره في النواهي سلمنا دلالة النهي على التحريم ولكن
لا نسلم عموم النهي عن التفرق في كل شيء بل التفرق في الاعتصام بحبل الله
إذ هو المفهوم من الآية ولهذا فإنه لو قال القائل لعبيده: ادخلوا البلد
أجمعين ولا تتفرقوا فإنه يفهم منه النهي عن التفرق في دخول البلد وما لم
يعلم أن ما أجمع عليه أهل العصر اعتصام بحبل الله فلا يكون التفرق منهياً
عنه سلمنا أن النهي عام في كل تفرق ولكنه مخصوص بما قبل الإجماع فإن كل
واحد من المجتهدين مأمور باتباع ما أوجبه ظنه وإذا كانت الظنون والآراء
مختلفة كان التفرق مأمورا به لا منهياً عنه والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة
على ما سيأتي سلمنا صحة الاحتجاج به لكنه خطاب مع الموجودين في زمن النبي
عليه السلام فلا يكون متناولاً لمن بعدهم وإجماع الموجودين في زمن النبي
غير محج به في زمانه إجماعاً ولا تحقق لوجودهم بجملتهم بعد وفاته حتى يكون
إجماعهم حجة على ما سبق تقريره. والجواب عن السؤال الأول والثاني ما سيأتي
في النواهي.
وعن الثالث: أن قوله: " واعتصموا بحبل الله جميعاً " " آل
عمران 103 " أمر بالاعتصام بحبل الله وقوله: " ولا تفرقوا " " آل عمران 103
" نهي عن التفرق في كل شيء ويجب الحمل عليه وإلا كان النهي عن التفرق في
الاعتصام بحبل الله مفيداً لما أفاده الأمر بالاعتصام به فكان تأكيداً
والأصل في الكلام التأسيس دون التأكيد.
وعن الرابع: بيان كون العام حجة
بعد التخصيص كما يأتي في العمومات وعلى هذا فيبقى حجة في امتناع التفرق بعد
الإجماع وفي امتناع مخالفة من وجد بعد أهل الإجماع لهم وهو المطلوب.
وعن الخامس: بأن الأمر والنهي إنما هو مع أهل كل عصر بتقدير وجودهم وفهمهم على ما سيأتي تقريره في الأوامر.
الآية
الخامسة قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " " النساء 59
" ووجه الاحتجاج بالآية أنه شرط التنازع في وجوب الرد إلى الكتاب والسنة
والمشروط على العدم عند عدم الشرط وذلك يدل على أنه إذا لم يوجد التنازع
فالاتفاق على الحكم كاف عن الكتاب والسنة: ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى
هذا.
فإن قيل: سقوط وجوب الرد إلى الكتاب والسنة عند الاتفاق على الحكم
بناء على الكتاب والسنة أو من غير بناء عليهما فإن كان الأول فالكتاب
والسنة كافيان في الحكم ولا حاجة إلى الإجماع وإن كان الثاني ففيه تجويز
وقوع الإجماع من غير دليل وذلك محال مانع من صحة الإجماع كيف وإنا لا نسلم
انتفاء الشرط فإن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا وجد التنازع ممن تأخر من
المجتهدين لإجماع المتقدمين.
قلنا: وإن كان الإجماع لا بد له من دليل
فلا نسلم انحصار دليله في الكتاب والسنة ليصح ما ذكروه لجواز أن يكون
مستندهم في ذلك إنما هو القياس والاستنباط على ما يأتي بيانه وإن سلمنا
انحصار دليل الإجماع في الكتاب والسنة ولكن ليس في ذلك ما يدل على عدم
اكتفاء من وجد بعد أهل الإجماع أو اكتفاء من وجد في عصرهم من المقلدة
بإجماعهم عن معرفة الكتاب والسنة.
وأما السؤال الثاني فمشكل جداً واعلم
أن التمسك بهذه الآيات وإن كانت مفيدة للظن فغير مفيدة للقطع ومن زعم أن
المسألة قطعية فاحتجاجه فيها بأمر ظني غير مفيد للمطلوب وإنما يصح ذلك على
رأي من يزعم أنها اجتهادية ظنية.
هذا ما يتعلق بالكتاب وأما السنة
وهي أقرب الطرق في إثبات كون الإجماع حجة قاطعة فمن ذلك ما روى أجلاء
الصحابة كعمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وابن عمر وأبي
هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهم بروايات مختلفة الألفاظ متفقة المعنى في
الدلالة على عصمة هذه الأمة عن الخطأ والضلالة كقوله عليه السلام: " أمتي
لا تجتمع على الخطأ أمتي لا تجتمع على الضلالة ولم يكن الله بالذي يجمع
أمتي على الضلالة لم يكن الله ليجمع أمتي على الخطأ وسألت الله أن لا يجمع
أمتي على الضلالة فأعطانيه " وقوله " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله
حسن " " يد الله على الجماعة " ولا يبالي بشذود من شذ ومن سره بحبوحة الجنة
فليلزم الجماعة فإن دعوتهم لتحيط من ورائهم " وإن الشيطان مع الفذ وهو من
الاثنين أبعد " " ولا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يظهر أمر الله ولا
تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم خلاف من خالفهم " " ومن خرج
عن الجماعة وفارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " " ومن
فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية عليكم بالسواد الأعظم " وقوله " تفترق
أمتي نيفاً وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة " قيل يا رسول الله
ومن تلك الفرقة قال " هي الجماعة " إلى غير ذلك من الأحاديث التي لا تحصى
كثيرة ولم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة معمولاً بها لم ينكرها منكر ولا
دفعها دفع.
فإن قيل هذه كلها أخبار آحاد تبلغ مبلغ التواتر ولا تفيد
اليقين وإن سلمنا التواتر ولكن يحتمل أنه أراد به الخطأ والضلالة عن الأمة
عصمة جميعهم عن الكفر لا بتأويل ولا شبهة ويحتمل أنه أراد بهم عصمتهم عن
الخطأ في الشهادة في الآخرة أو فيما يوافق النص المتواتر أو دليل العقل دون
ما يكون بالاجتهاد سلمنا دلالة هذه الأخبار على عصمتهم عن كل خطأ وضلال
لكن يحتمل أنه أراد بالأمة كل من آمن به إلى يوم القيامة وأهل كل عصر ليسوا
كل الأمة فلا يلزم امتناع الخطأ والضلال عليهم سلمنا انتفاء الخطأ والضلال
عن الإجماع في كل واحد من الأعصار ولكن لم قلتم إنه يكون حجة على
المجتهدين وأنه لا تجوز مخالفته مع أن كل مجتهد في الفرعيات مصيب على ما
يأتي تحقيقه ولا يجب على أحد المصيبين اتباع المصيب الآخر سلمنا دلالة ما
ذكرتموه على كون الإجماع حجة ولكنه معارض بما يدل على أنه ليس بحجة ودليله
ما سبق من الآيات والأخبار والمعقول في الآية الأولى.
والجواب عن السؤال
الأول من وجهين: الأول أن كل واحد من هذه الأخبار وإن كان خبر واحد يجوز
تطرق الكذب إليه إلا أن كل عاقل يجد من نفسه العلم الضروري من جملتها قصد
رسول الله عليه السلام تعظيم هذه الأمة وعصمتها عن الخطأ كما علم بالضرورة
سخاء حاتم وشجاعة علي وفقه الشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم وميل
رسول الله إلى عائشة دون باقي نسائه بالأخبار التي آحادها آحاد غير أنها
نازلة منزلة التواتر.
الوجه الثاني: أن هذه الأحاديث لم تزل ظاهرة
مشهورة بين الصحابة ومن بعدهم متمسكاً بها فيما بينهم في إثبات الإجماع من
غير خلاف فيها ولا نكير إلى زمان وجود المخالفين والعادة جارية بإحالة
اجتماع الخلق الكثير والجم الغفير مع تكرر الأزمان واختلاف هممهم ودواعيهم
ومذاهبهم على الاحتجاج بما لا أصل له في إثبات أصل من أصول الشريعة وهو
الإجماع المحكوم به على الكتاب والسنة من غير أن ينبه أحد على فساده
وإبطاله وإظهار النكير فيه.
فإن قيل من المحتمل أن أحداً أنكر هذه
الأخبار ولم ينقل إلينا ومع هذا الاحتمال فلا قطع قولكم إن الصحابة
والتابعين استدلوا بها على الإجماع لا نسلم ذلك وما المانع أن يكون
استدلالهم على الإجماع لا بهذه الأحاديث بل بغيرها سلمنا استدلالهم بها على
ذلك لكنه دور لما فيه من الاستدلال بالأحاديث على الإجماع والاستدلال على
صحة الأحاديث بالإجماع ثم ما ذكرتموه في الدلالة على صحتها من عدم النكير
معارض بما يدل على عدم صحتها وذلك أنها لو كانت معلومة الصحة مع أن الحاجة
داعية إلى معرفتها لبناء هذا الأصل العظيم عليها لإحالة العادة أن لا تعرف
الصحابة للتابعين طريق صحتها قطعاً للشك والارتياب.
قلنا جواب الأول:
أن الإجماع من أعظم أصول الدين فلو وجد فيما يستدل به عليه نكير لاشتهر
ذلك فيما بينهم وعظم الخلاف فيه كاشتهار خلافهم فيما هو دونه من مسائل
الفروع كاختلافهم في دية الجنين وقوله أنت علي حرام وحد الشرب ومسائل الجد
والأخوة إلى غير ذلك ولو كان كذلك لكانت العادة تحيل عدم نقله بل كان نقله
أولى من نقل ما خولف فيه من مسائل الفروع بل أولى من نقل خلاف النظام في
ذلك مع خفائه وقلة الاعتبار بقوله.
وجواب الثاني: ما ظهر واشتهر من تمسك
الصحابة والتابعين والاحتجاج بهذه الأخبار في معرض التهديد لمخالف الجماعة
والزجر عن الخروج عنهم ظهوراً لا ريب فيه.
وجواب الثالث: أن الاستدلال
على صحة الأخبار لم يكن بالإجماع بل بالعادة المحيلة لعدم الإنكار على
الاستدلال بما لا صحة له فيما هو من أعظم أصول الأحكام والاستدلال بالعادة
غير الاستدلال بالإجماع وذلك كالاستدلال بالعادة على إحالة دعوى وجود معارض
للقرآن واندراسه ووجود دليل يدل على إيجاب صلاة الضحى وصوم شوال ونحوه.
وجواب
الرابع: أنه يحتمل أن تكون الصحابة قد علمت صحة الأخبار المذكورة وكونها
مفيدة للعلم بعصمة الأمة لا بصريح مقال بل بقرائن أحوال وأمارات دالة على
ذلك لا سبيل إلى نقلها ولو نقلت لتطرق إليها التأويل والاحتمال واكتفوا بما
يعلمه التابعون من أن العادة تحيل الاعتماد على ما لا أصل له فيما هو من
أعظم الأصول قولهم: يحتمل أنه نفى عنهم الضلال والخطأ بمعنى الكفر.
قلنا:
هذه الأخبار نعلم أنها إنما وردت تعظيماً لشأن هذه الأمة في معرض الامتنان
والإنعام عليهم وفي حملها على نفي الكفر عنهم خاصة إبطال فائدة اختصاصهم
بذلك لمشاركة بعض آحاد الناس للأمة في ذلك وإنما يصح ذلك أن لو أراد بها
العصمة عما لا يعصم عن
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى