رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وإن كان الثاني فلا خلاف في أنه غير داخل في الإجماع لعدم دخوله في مسمى
الأمة المشهود لهم بالعصمة وإن لم يعلم هو كفر نفسه وعلى هذا فلو خالف في
مسألة فرعية وبقي مصراً على المخالفة حتى تاب عن بدعته فلا أثر لمخالفته
لانعقاد إجماع جميع الأمة الإسلامية قبل إسلامه كما لو أسلم ثم خالف إلا
على رأي من يشترط في الإجماع انقراض عصر المجمعين ولو ترك بعض الفقهاء
العمل بالإجماع بخلاف هذا المبتدع المكفر فهو معذور إن لم يعلم ببدعته ولا
يؤاخذ بالمخالفة كما إذا عمل الحاكم بشهادة شاهد الزور من غير علم بتزويره
وإن علم ببدعته وخالف الإجماع لجهله بأن تلك البدعة مكفرة فهو غير معذور
لتقصيره عن البحث والسؤال عن ذلك لعلماء الأصول العارفين بأدلة الإيمان
والتكفير حتى يحصل له العلم بذلك بدليله إن كانت له أهلية فهمه وإلا قلدهم
فيما يخبرون به من التكفير وأما ماذا يكفر به من البدع فقد استقصينا الكلام
فيه في حكايات مذاهب أهل الملل والنحل في أبكار الأفكار فعليك بمراجعته.
المسألة
السابعة ذهب الأكثرون من القائلين بالإجماع إلى أن الإجماع المحتج به غير
مختص بإجماع الصحابة بل إجماع أهل كل عصر حجة خلافاً لداود وشيعته من أهل
الظاهر ولأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
والأول هو المختار ويدل
عليه أن حجة كون الإجماع حجة غير خارجة كما ذكرناه من الكتاب والسنة
والمعقول وكل واحد منها لا يفرق بين أهل عصر وعصر بل هو متناول لأهل كل عصر
حسب تناوله لأهل عصر الصحابة فكان إجماع أهل كل عصر حجة.
فإن قيل: حجة
كون الإجماع حجة غير خارجة عن الآيات والأخبار السابق ذكرها وقوله تعالى: "
كنتم خير أمة أخرجت للناس " " آل عمران 110 " وقوله: " وكذلك جعلناكم أمة
وسطاً " " البقرة 143 " خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام فلا
يكون متناولاً لغيرهم وقوله تعالى: " ويتبع غير سبيل المؤمنين " " النساء
115 " والأخبار الدالة على عصمة الأمة خاصة بالصحابة الموجودين في زمن
النبي عليه السلام إذا هم كل المؤمنين وكل الأمة فإن من لم يوجد بعد لا
يكون موصوفاً بالإيمان وبكونه من الأمة وأما التابعون وكذلك من بعدهم إذا
أجمعوا على حكم فليس هم كل المؤمنين ولا كل الأمة فلا يكون الخطاب متناولاً
لهم وحدهم بل مع من تقدم من المؤمنين قبلهم ضرورة اتصافهم بذلك حالة
وجودهم وبموتهم لم يخرجوا عن كونهم من المؤمنين ومن الأمة وكذلك فإنه لو
ذهب واحد من الصحابة إلى حكم واتفق التابعون على خلافه لم يكن إجماعهم
منعقداً ولو خرج بموته عن الأمة والمؤمنين لما كان كذلك وإذا لم يكن
التابعون كل الأمة ولا كل المؤمنين فما اتفقوا عليه لا يكون هو قول كل
الأمة ولا كل المؤمنين فلا يكون حجة وسواء وجد لمن تقدم قول أو لم يوجد
فمخالفهم لا يكون مخالفاً لكل الأمة ولا لكل المؤمنين فلا يكون بذلك
مستحقاً للذم والتوعد سلمنا دلالة الآيات والأخبار على انعقاد إجماع من بعد
الصحابة حجة لكنه معارض بما بدل على عدمه وبيانه من ستة أوجه: الأول: أن
إجماع التابعين لا بد له من دليل وذلك الدليل إما أن يكون نصاً أو إجماعاً
أو قياساً.
فإن كان إجماع من تقدم فالحكم ثابت بإجماع الصحابة لا بإجماع
التابعين وإن كان قياساً فيستدعي أن يكون متفقاً عليه بين جميع التابعين
ليكون مناط إجماعهم وليس كذلك لوقوع الخلاف فيه فيما بينهم.
وإن كان
نصاً فلا بد وأن تكون الصحابة عالمة به ضرورة أنه لا طريق إلى معرفة
التابعين به إلا من جهة الصحابة ولو كان ذلك دليلاً يمكن التمسك به في
إثبات الحكم لما تصور تواطئ الصحابة على تركه وإهماله.
الثاني: هو أن
الأصل أن لا يرجع إلى قول أحد سوى الصادق المؤيد بالمعجزة لتطرق الخطأ
والكذب إلى من عداه غير أنه لما ورد الثناء من النبي عليه السلام على
الصحابة بقوله: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقوله: " عليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " والذم لأهل الأعصار المتأخرة بقوله
عليه السلام: " ثم يفشو الكذب وأن الرجل يصبح مؤمناً ويمسي كافراً " وأن
الواحد منهم يحلف على ما لا يعلم ويشهد قبل أن يستشهد وأن الناس يكونون
كالذئاب إلى غير ذلك من أنواع الذم التي سبق ذكرها أوجب قصر الاحتجاج على
إجماع الصحابة دون غيرهم.
الثالث: أن الاحتجاج بالإجماع إنما يمكن
بعد الاطلاع على قول كل واحد من أهل الحل والعقد ومعرفته في نفسه وذلك إنما
يتصور في حق الصحابة لأن أهل الحل والعقد منهم كانوا معروفين مشهورين
محصورين لقلتهم وانحصارهم في قطر واحد بخلاف التابعين ومن بعدهم لكثرتهم
وتشتتهم في البلاد المتباعدة.
الرابع: أن الإجماع من الصحابة واقع على
أن كل مسألة لا تكون مجمعاً عليها ولا فيها نص قاطع أنه يجوز الاجتهاد فيها
فإذا لم يكن إجماع من الصحابة ولا ثم نص قاطع وإلا لما ساغ من الصحابة
تركه وإهماله فتكون المسألة مجمعاً على جواز الاجتهاد فيها منهم فلو أجمع
التابعون على حكم تلك المسألة فإن منعنا من اجتهاد غيرهم فيها فقد خرقنا
إجماع الصحابة وإن جوزنا فإجماع التابعين لا يكون حجة وهو المطلوب.
الخامس:
أنه لو كان في الأمة من هو غائب فإنه وإن لم يكن له في المسألة قول بنفي
ولا إثبات لا ينعقد الإجماع دونه في تلك المسألة لكونه لو كان حاضراً لكان
له فيها قول فكذلك الميت من الصحابة قبل التابعين.
السادس: أنه لو كان
قد خالف واحد من الصحابة فإن إجماع التابعين بعده لا ينعقد وإذا لم ينقل
خلاف من تقدم لا ينعقد الإجماع لاحتمال أن أحداً ممن تقدم خالف ولم ينقل
خلافه وإذا احتمل واحتمل فالإجماع لا يكون متيقناً.
والجواب عن السؤال
الأول: قولهم في الآيات إنها خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام
يلزمهم عليه أن لا ينعقد إجماع الصحابة بعد موت من كان موجوداً عند نزول
هذه الآيات لأن إجماعهم ليس إجماع جميع المخاطبين وقت نزولها وأن لا يعتد
بخلاف من أسلم بعد نزولها لكونه خارجاً عن المخاطبين وقد أجمعنا على أن
إجماع من بقي من الصحابة بعد رسول الله يكون حجة قولهم: التابعون ليس هم كل
الأمة ولا كل المؤمنين يلزم عليه أن لا ينعقد إجماع من بقي من الصحابة بعد
موت رسول الله لأن من مات من الصحابة أو استشهد في حياة رسول الله داخل في
مسمى المؤمنين والأمة وهو خلاف المجمع عليه بين القائلين بالإجماع وليس
ذلك إلا لأن الماضي إذا لم يكن له قول غير معتبر كما أن المستقبل غير منتظر
وعلى هذا فنقول: إنه إذا ذهب واحد من الصحابة إلى حكم في مسألة ثم مات
وأجمع التابعون على خلافه في تلك المسألة فقد قال بعض الأصوليين إنه ينعقد
إجماع التابعين ولا اعتبار بقول الماضي وليس بحق لأنه يلزم منه أنه إذا
أجمعت الصحابة على حكم ثم ماتوا وأجمع التابعون على خلاف إجماع الماضين أنه
ينعقد وهو محال مخالف لإجماع القائلين بالإجماع وإنما الحق في ذلك أن
يقال: إذا حكم الواحد من الصحابة بحكم ثم حكم التابعون بخلافه فحكم
التابعين ليس هو حكم جميع الأمة المعتبرين في تلك المسألة التي وقع الخوض
فيها وإن كان حكمهم في مسألة لم يتقدم فيها خلاف بعض الصحابة فهو حكم كل
الأمة المعتبرين وهذا كما لو أفتى الصحابي بحكم ثم مات وأجمع باقي الصحابة
على خلافه فإنه لا ينعقد إجماعهم وإن انعقد إجماعهم إذا مات من غير مخالفة
لأن حكمهم في الأول ليس هو حكم كل الأمة المعتبرين بخلاف حكمهم في الثاني.
والجواب
عن المعارضة الأولى أنه وإن كان دليل التابعين معلوماً للصحابة غير أنه لا
يمتنع أن تكون واقعة الحكم لم تقع في زمن الصحابة فلم يتعرضوا لحكمها
وإنما وقعت في زمن التابعين فتعرضوا لإثبات حكمها بناء على ما وجدوه من
الدليل الذي كان معلوماً للصحابة.
وعن الثانية أن الأدلة الدالة على كون
الإجماع حجة لا تفرق بين أهل عصر وعصر وقوله عليه السلام: " أصحابي
كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " لا يدل على عدم الاهتداء بغيرهم إلا بطريق
مفهوم اللقب والمفهوم ليس بحجة فضلاً عن مفهوم اللقب على ما سيأتي في
مسائل المفهوم.
وكذلك الكلام في قوله: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر
وعمر " كيف وأن ذلك مما يوجب كون إجماع أبي بكر وعمر مع مخالفة باقي
الصحابة لهم حجة قاطعة وهو خلاف الإجماع من الصحابة.
قولهم إنه ذم أهل
الأعصار المتأخرة قلنا غاية ما في ذلك غلبة ظهور الفساد والكذب وليس فيه ما
يدل على خلو كل عصر ممن تقوم الحجة بقوله وأنه إذا اتفق أهل ذلك العصر على
حكم لا يكونون معصومين عن الخطأ فيه.
وعن الثالثة ما سبق في مسألة تصور الاطلاع على إجماعهم ومعرفتهم.
وعن
الرابعة أنه إن أجمع الصحابة على تجوير الخلاف مطلقاً فلا يتصور انعقاد
إجماع التابعين على الحكم في تلك المسألة لما فيه من التعارض بين الإجماعين
القاطعين وإن أجمعوا على تسويغ الاجتهاد مشروطاً بعدم الإجماع فلا تناقض.
وعن
الخامسة أنها منتقضة بالواحد من الصحابة فإنه لو مات انعقد الإجماع من
باقي الصحابة دونه ولو كان غائباً لم ينعقد وإنما كان كذلك لأن الغائب في
الحال له أهلية القول والحكم والموافقة والمخالفة بخلاف الميت.
وعن
السادسة أنها باطلة بالميت الأول من الصحابة فإنه يحتمل أنه خالف ولم ينقل
خلافه ومع ذلك فإن إجماع باقي الصحابة بعده يكون منعقداً كيف وأن النظر إلى
مثل هذه الاحتمالات البعيدة مما لا التفات إليه وإلا لما انعقد إجماع
الصحابة لاحتمال أن يكون واحد منهم قد أظهر الموافقة وأبطن المخالفة لأمر
من الأمور كما نقل عن ابن عباس في موافقته لعمر في مسألة العول وإظهار
النكير بعده.
المسألة الثامنة اختلفوا في انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة
الأقل فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينعقد وذهب محمد بن جرير الطبري وأبو بكر
الرازي وأبو الحسين الخياط من المعتزلة وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين
عنه إلى انعقاده وذهب قوم إلى أن عدد الأقل إن بلغ التواتر لم يعتد
بالإجماع دونه وإلا كان معتداً به وقال أبو عبد الله الجرجاني: إن سوغت
الجماعة الاجتهاد في مذهب المخالف كان خلافه معتداً به كخلاف ابن عباس في
مسألة العول وإن أنكرت الجماعة عليه ذلك كخلاف ابن عباس في المتعة والمنع
من تحريم ربا الفضل لم يكن خلافه معتداً به ومنهم من قال أن قول الأكثر
يكون حجة وليس بإجماع ومنهم من قال أن اتباع الأكثر أولى وإن جاز خلافه.
والمختار
مذهب الأكثرين ويدل عليه أمران: الأول أن التمسك في إثبات الإجماع حجة
إنما هو بالأخبار الواردة في السنة الدالة على عصمة الأمة على ما سبق
تقريره وعند ذلك فلفظ الأمة في الأخبار يحتمل أنه أراد به كل الموجودين من
المسلمين في أي عصر كان ويحتمل أنه أراد به الأكثر كما يقال بنو تميم يحمون
الجار ويكرمون الضيف والمراد به الأكثر منهم: غير أن حمله على الجميع مما
يوجب العمل بالإجماع قطعاً لدخول العدد الأكثر في الكل ولا كذلك إذا حمل
على الأكثر فإنه لا يكون الإجماع مقطوعاً به لاحتمال إرادة الكل والأكثر
ليس هو الكل.
الثاني أنه قد جرى مثل ذلك في زمن الصحابة ولم ينكر أحد
منهم على خلاف الواحد بل سوغوا له الاجتهاد فيما ذهب إليه مع مخالفة الأكثر
ولو كان إجماع الأكثر حجة ملزمة للغير الأخذ به لما كان كذلك فمن ذلك
اتفاق أكثر الصحابة على امتناع قتال ما نعي الزكاة مع خلاف أبي بكر لهم
وكذلك خلاف أكثر الصحابة لما انفرد به ابن عباس في مسألة العول وتحليل
المتعة وأنه لا ربا إلا في النسيئة وكذلك خلافهم لابن مسعود فيما انفرد به
في مسائل الفرائض ولزيد بن أرقم في مسألة العينة ولأبي موسى في قوله: النوم
لا ينقض الوضوء ولأبي طلحة في قوله بأن أكل البرد لا يفطر إلى غير ذلك.
ولو
كان إجماع الأكثر حجة لبادروا بالإنكار والتخطئة وما وجد منهم من الإنكار
في هذه الصور لم يكن إنكار تخطئة بل إنكار مناظرة في المأخذ كما جرت عادة
المجتهدين بعضهم مع بعض ولذلك بقي الخلاف الذي ذهب إليه الأقلون جائزاً إلى
وقتنا هذا وربما كان ما ذهب إليه الأقل هو المعول عليه الآن كقتال مانعي
الزكاة ولو كان ذلك مخالفاً للإجماع المقطوع به لما كان ذلك سائغاً وقد
تمسك بعضهم هاهنا بطريقة أخرى فقال إنه لو انعقد إجماع الأكثر مع مخالفة
الأقل فإما أن ينعقد الإجماع عليه فيلزم منه ترك ما علمه بالدليل والرجوع
إلى التقليد وذلك في حق المجتهد ممتنع وإن لم ينعقد الإجماع عليه فلا يكون
الإجماع حجة مقطوعاً بها فإنه لو كان مقطوعاً به لما ساغت مخالفته
بالاجتهاد.
ولقائل أن يقول: إذا فرضنا أن انعقاد الإجماع من الأكثر
دون الأقل حجة قاطعة فالقول برجوع المجتهد الواحد إليه وإن كان على خلاف ما
أوجبه اجتهاده لا يكون منكراً لما فيه من ترك الاجتهاد بالرجوع إلى
الإجماع القاطع ولهذا فإنه لو أجمعت الأمة على حكم ثم جاء من بعدهم مجتهد
يرى في اجتهاده ما يخالف إجماع الأمة السابقة لم يجز له الحكم به بل وجب
عليه الرجوع إلى الأمة احتج المخالفون بالنصوص والإجماع والمعقول: أما من
جهة النصوص فمنها ما ورد من الأخبار الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ ولفظ
الأمة يصح إطلاقه على أهل العصر وإن شذ منهم الواحد والاثنان كما يقال بنو
تميم يحمون الجار ويكرمون الضيف والمراد به الأكثر فكان إجماعهم حجة لدلالة
النصوص عليه ومنها قوله عليه السلام: " عليكم بالسواد الأعظم عليكم
بالجماعة " " يد الله مع الجماعة " " إياكم والشذوذ " والواحد والاثنان
بالنسبة إلى الخلق الكثير شذوذ " الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد "
ونحو ذلك من الأخبار.
وأما الإجماع فهو أن الأمة اعتمدت في خلافة أبي
بكر على انعقاد الإجماع عليه لما اتفق عليه الأكثرون وإن خالف في ذلك جماعة
كعلي وسعد بن عبادة ولولا أن إجماع الأكثر حجة مع مخالفة الأقل لما كانت
إمامة أبي بكر ثابتة بالإجماع.
وأما من جهة المعقول فمن خمسة أوجه:
الأول: أن خبر الواحد بأمر لا يفيد العلم وخبر الجماعة إذا بلغ عددهم عدد
التواتر يفيد العلم فليكن مثله في باب الاجتهاد والإجماع.
الثاني: أن الكثرة يحصل بها الترجيح في رواية الخبر فليكن مثله في الاجتهاد.
الثالث:
أنه لو اعتبرت مخالفة الواحد والاثنين لما انعقد الإجماع أصلاً لأنه ما من
إجماع إلا ويمكن مخالفة الواحد والاثنين فيه إما سراً وإما علانية.
الرابع: أن الإجماع حجة في العصر الذي هم فيه وفيما بعد وذلك يقتضي أن يكون فيهم مخالف حتى يكون حجة عليه.
الخامس:
أن الصحابة أنكرت على ابن عباس خلافه في ربا الفضل في النقود وتحليل
المتعة والعول ولولا أن اتفاق الأكثر حجة لما أنكروا عليه فإنه ليس للمجتهد
الإنكار على المجتهد.
والجواب: قولهم: لفظ الأمة يصح إطلاقه على الأكثر.
قلنا
بطريق المجاز ولهذا يصح أن يقال: إذا شذ عن الجماعة واحد ليس هم كل الأمة
ولا كل المؤمنين بخلاف ما إذا لم يشذ منهم أحد وعلى هذا فيجب حمل لفظ الأمة
على الكل لكون الحجة فيه قطعية لما بيناه في حجتنا وعلى هذا فيجب حمل قوله
عليه السلام: " عليكم بالسواد الأعظم " على جميع أهل العصر لأنه لا أعظم
منه.
فإن قيل: فظاهر هذا الخبر يقتضي أن يكون السواد الأعظم حجة على من
ليس من السواد الأعظم وذلك لا يتم إلا بأن يكون في عصرهم مخالف لهم.
قلنا:
هو حجة على من يأتي بعدهم أقل عدداً منهم وعلى هذا يكون الجواب عن قوله: "
عليكم بالجماعة يد الله على الجماعة " وحيث قال عليه السلام: " الاثنان
فما فوقهما جماعة " إنما أراد به انعقاد جماعة الصلاة بهما وقوله: " إياكم
والشذوذ " قلنا: الشاذ هو المخالف بعد الموافقة لا من خالف قبل الموافقة
وقوله: " الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد " أراد به الحث على طلب
الرفيق في الطريق ولهذا قال: " والثلاثة ركب " .
وما ذكروه في عقد
الإمامة لأبي بكر فلا نسلم أن الإجماع معتبر في انعقاد الإمامة بل البيعة
بمحضر من عدلين كافية كيف وإنا لا نسلم عدم انعقاد إجماع الكل على بيعة أبي
بكر فإن كل من تأخر عن البيعة إنما تأخر لعذر وطرؤ أمر مع ظهور الموافقة
منه بعد ذلك وقد استقصينا الكلام في هذا المعنى في الإمامة من علم الكلام.
والجواب:
عن الحجة الأولى من المعقول أنه إن كان صدق الأكثر فيما يخبرون به عن أمر
محسوس مفيد للعلم فلا يلزم مثله في الإجماع الصادر عن الاجتهاد مع أن
الاحتجاج فيه إنما هو بقول الأمة والأكثر ليس هم كل الأمة على ما سبق ثم لو
كان كل من أفاد خبره اليقين يكون قوله إجماعاً محتجاً به لوجب أن يكون
إجماع كل أهل بلد محتجاً به مع مخالفة أهل البلد الآخر لهم لأن خبر أهل كل
بلد يفيد العلم.
وعن الثانية أنه لا يلزم من الترجيح بالكثرة في
الرواية التي يطلب منها غلبة الظن دون اليقين مثله في الإجماع مع كونه
يقينياً كيف وإنه لو اعتبر في الإجماع ما يعتبر في الرواية لكان مصير
الواحد إلى الحكم وحده إجماعاً كما أن روايته وحده مقبولة وليس كذلك.
وعن
الثالثة أن الاحتجاج بالإجماع إنما يكون حيث علم الاتفاق من الكل إما
بصريح المقال أو قرائن الأحوال وذلك ممكن حسب إمكان العلم باتفاق الأكثر
وأما حيث لا يعلم فلا وإن قيل إن ذلك غير ممكن فمثله أيضاً جار في الأكثر
ويلزم من ذلك أن لا ينعقد الإجماع أصلاً وهو خلاف الأصلين.
وعن الرابعة
أنه يكون حجة على من خالف منهم بعد الوفاق في زمنهم وعلى من يوجد بعدهم ثم
إن كان الإجماع لا يكون حجة إلا مع الخلاف فليزم منه أنه إذا لم يكن خلاف
لا يكون إجماع وهو ظاهر الإحالة.
وعن الخامسة أن إنكار الصحابة على ابن
عباس فيما ذهب إليه لم يكن بناء على إجماعهم واجتهادهم بل بناء على مخالفة
ما رووه له من الأخبار الدالة على تحريم ربا الفضل ونسخ المتعة على ما جرت
به عادة المجتهدين في مناظراتهم والإنكار على مخالفة ما ظهر لهم من الدليل
حتى يبين لهم المأخذ من جانب الخصم وذلك كما قال ابن عباس: من شاء باهلني
باهلته والذي أحصى رمل عالج عدداً ما جعل الله في الفريضة نصفاً ونصفاً
وثلثاً هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث وقال آخر: ألا يتقي الله
زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا وليس ذلك لأن العود إلى قوله
واجب على من خالفه بل بمعنى طلب الكشف عن مأخذ المخالفة وإذا عرف أنه لا
يكون اتفاق الأكثر إجماعاً فيمتنع أن يكون حجة لخروجه عن الأدلة المتفق
عليها وهي النص من الكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس وعدم دليل يدل على
صحة الاحتجاج به ولذلك لا يكون أولى بالاتباع لأن الترجيح بالكثرة وإن كان
حقاً في باب رواية الأخبار لما فيه من ظهور أحد الظنين على الآخر فلا يلزم
مثله في باب الاجتهاد لما فيه من ترك ما ظهر له من الدليل لما لم يظهر له
فيه دليل أو ظهر غير أنه مرجوح في نظره.
المسألة التاسعة اختلفوا في
التابعي إذا كان من أهل الاجتهاد في عصر الصحابة هل ينعقد إجماع الصحابة مع
مخالفته أم لا فمنهم من قال: لا ينعقد بإجماعهم مع مخالفته ثم اختلف
هؤلاء.
فمن لم يشترط انقراض العصر قال إن كان من أهل الاجتهاد قبل
انعقاد إجماع الصحابة فلا يعتد بإجماعهم مع مخالفته وإن بلغ رتبة الاجتهاد
بعد انعقاد إجماع الصحابة لا يعتد بخلافه وهذا هو مذهب أصحاب الشافعي وأكثر
المتكلمين وأصحاب أبي حنيفة ومذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
ومن
شرط انقراض العصر قال لا ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته سواء كان من أهل
الاجتهاد حالة إجماعهم أو صار مجتهداً بعد إجماعهم لكن في عصرهم.
وذهب قوم إلى أنه لا عبرة بمخالفته أصلاً وهو مذهب بعض المتكلمين وأحمد بن حنبل في رواية.
والمختار
أنه إن كان من أهل الاجتهاد حالة إجماع الصحابة لا ينعقد إجماعهم دون
موافقته وقد استدل كثير من أصحابنا بقولهم إن الصحابة سوغت للتابعين
المعاصرين لهم الاجتهاد معهم في الوقائع الحادثة في عصرهم كسعيد بن المسيب
وشريح القاضي والحسن البصري ومسروق وأبي وائل والشعبي وسعيد بن جبير وغيرهم
حتى إن عمر وعلياً وليا شريحاً القضاء ولم يعترضا عليه فيما خالفهما فيه
وحكم على علي في خصومة عرضت له عنده على خلاف رأي علي ولم ينكر عليه.
وروي
عن ابن عمر أنه سئل عن فريضة فقال: اسألوا سعيد بن جبير فإنه أعلم بها مني
وسئل الحسين بن علي كرم الله وجهه عن مسألة فقال: اسألوا الحسن البصري
وسئل ابن عباس عن نذر ذبح الولد فقال: اسألوا مسروقاً فلما أتاه السائل
بجوابه اتبعه.
وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: تذاكرت
أنا وابن عباس وأبو هريرة في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فقال ابن عباس:
عدتها أبعد الأجلين وقلت أنا: عدتها أن تضع حملها وقال أبو هريرة: أنا مع
ابن أخي فسوغ ابن عباس لأبي سلمة أن يخالفه مع أبي هريرة إلى غير ذلك من
الوقائع.
ولو كان قول التابعي باطلاً لما ساغ للصحابة تجويزه والرجوع
إليه وفي هذه الحجة نظر فإن لقائل أن يقول: إنما كان الاجتهاد مسوغاً
للتابعي عند اختلاف الصحابة ولا يلزم من الاعتداد بقوله مع الاختلاف
الاعتداد بقوله مع الاتفاق وهو محل النزاع ولهذا فإن قول التابعي معتبر بعد
انقراض عصر الصحابة إذا لم يكن منهم اتفاق وغير معتبر إذا كان على خلاف
اتفاقهم.
والمعتمد في ذلك أن يقال: الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة
إنما هي الأخبار الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ على ما سبق وهذا الاسم لا
يصدق عليهم مع خروج التابعين المجتهدين عنهم فإنه لا يقال إجماع جميع الأمة
بل إجماع بعضهم فلا يكون حجة احتج الخصوم بالنص والمعقول والآثار: أما
النص فقوله عليه السلام: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا
عليها بالنواجذ " وقوله: " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " وقوله: "
أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " .
وأما المعقول فهو أن الصحابة
لهم مزية الصحبة وشهادة التنزيل وسماع التأويل وأنهم مرضي عنهم على ما قال
تعالى: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " وقد قال
النبي في حقهم: " لو أنفق غيرهم ملء الأرض ذهباً لما بلغ مد أحدهم " وذلك
يدل على أن الحق معهم لا مع مخالفهم.
وأما الآثار فمنها أن علياً عليه
السلام نقض على شريح حكمه في ابني عم أحدهما أخ لأم لما جعل المال كله للأخ
ومنها ما روي عن عائشة أنها أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف
مجاراته للصحابة وكلامه فيما بينهم وزجرته عن ذلك وقالت: فروج يصيح مع
الديكة.
والجواب عن النصوص ما سبق في مسألة انعقاد إجماع غير الصحابة.
وعن
المعقول: قولهم إن الصحابة لهم مزية الصحبة والفضيلة والدرجة الرفيعة
قلنا: لو كان ذلك مما يوجب اختصاص الإجماع بهم لما اعتبر قول الأنصار مع
المهاجرين ولا قول المهاجرين مع قول العشرة ولا قول باقي العشرة مع قول
الخلفاء الأربعة ولا قول عثمان وعلي مع قول أبي بكر وعمر ولا قول غير الأهل
مع الأهل ولا قول غير الزوجات مع الزوجات لوقوع التفاوت والتفاضل ولم يقل
به قائل.
وعن الآثار أما نقض علي على شريح حكمه فليس لأن قوله غير معتبر
ولهذا فإنه لما حكم عليه في مخاصمته بخلاف رأيه لم ينكر عليه وإنما نقض
حكمه بمعنى أنه رد عليه بطريق الاستدلال والاعتراض كما يقال نقض فلان كتاب
فلان وكلامه إذا اعترض عليه ويحتمل أنه نقضه بنص اطلع عليه أوجب نقض حكمه.
وأما
إنكار عائشة على أبي سلمة فيحتمل أنه كان ذلك بخلافه فيما سبق فيه إجماع
الصحابة أو لأنه لم يكن قد بلغ رتبة الاجتهاد أو بطريق التأديب مع الصحابة
أو لأنها رأت ذلك مذهباً لها فلا حجة فيه.
المسألة العاشرة اتفق
الأكثرون على أن إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجة على من خالفهم في
حالة انعقاد إجماعهم خلافاً لمالك فإنه قال: يكون حجة ومن أصحابه من قال:
إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيرهم ومنهم من قال أراد به أن
يكون إجماعهم أولى ولا تمتنع مخالفته ومنهم من قال: أراد بذلك أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
والمختار مذهب الأكثرين وذلك أن الأدلة الدالة
على كون الإجماع حجة متناولة لأهل المدينة والخارج عن أهلها وبدونه لا
يكونون كل الأمة ولا كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم حجة على ما عرف في
المسائل المتقدمة احتج من نصر مذهب مالك بالنص والمعقول: أما النص فقوله
عليه السلام " إن المدينة طيبة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد "
والخطأ من الخبث فكان منفياً عنها وقال عليه السلام: " إن الإسلام ليأرز
إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " وقال عليه السلام: " لا يكايد أحد
أهل المدينة إلا انماع كما ينماع الملح في الماء " .
وأما المعقول فمن
ثلاثة أوجه: الأول: هو أن المدينة دار هجرة النبي عليه السلام وموضع قبره
ومهبط الوحي ومستقر الإسلام ومجمع الصحابة فلا يجوز أن يخرج الحق عن قول
أهلها.
الثاني أن أهل المدينة شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل وكانوا أعرف بأحوال الرسول من غيرهم فوجب أن لا يخرج الحق عنهم.
الثالث: أن رواية أهل المدينة مقدمة على رواية غيرهم فكان إجماعهم حجة على غيرهم.
والجواب
عن النص الأول أنه وإن دل على خلوص المدينة عن الخبث فليس فيه ما يدل على
أن من كان خارجاً عنها لا يكون خالصاً عن الخبث ولا على كون إجماع أهل
المدينة دونه حجة وتخصيصه للمدينة بالذكر إنما كان إظهاراً لشرفها وإبانة
لخطرها وتمييزاً لها عن غيرها لما اشتملت عليه من الصفات المذكورة في الوجه
الأول من المعقول وهو الجواب عن باقي النصوص.
وعن الوجه الأول من
المعقول أن غايته اشتمال المدينة على صفات موجبة لفضلها وليس في ذلك ما يدل
على انتفاء الفضيلة عن غيرها ولا على الاحتجاج بإجماع أهلها ولهذا فإن مكة
أيضاً مشتملة على أمور موجبة لفضلها كالبيت المحترم والمقام وزمزم والحجر
المستلم والصفا والمروة ومواضع المناسك وهي مولد النبي عليه السلام ومبعثه
ومولد إسماعيل ومنزل إبراهيم ولم يدل ذلك على الاحتجاج بإجماع أهلها على
مخالفيهم إذ لا قائل به وإنما الاعتبار بعلم العلماء واجتهاد المجتهدين ولا
أثر للبقاع في ذلك.
وعن الوجه الثاني أن ذلك لا يدل على انحصار أهل
العلم فيها والمعتبرين من أهل الحل والعقد ومن تقوم الحجة بقولهم فإنهم
كانوا منتشرين في البلاد متفرقين في الأمصار وكلهم فيما يرجع إلى النظر
والاعتبار سواء ولهذا قال عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم
اهتديتم " ولم يخصص ذلك بموضع دون موضع لعدم تأثير المواضع في ذلك.
وعن
الوجه الثالث أنه تمثيل من غير دليل موجب للجمع بين الرواية والدراية كيف
وإن الفرق حاصل وذلك من جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن الرواية
يرجح فيها بكثرة الرواة حتى إنه يجب على كل مجتهد الأخذ بقول الأكثر بعد
التساوي في جميع الصفات المعتبرة في قبول الرواية ولا كذلك في الاجتهاد
فإنه لا يجب على أحد من المجتهدين الأخذ بقول الأكثر من المجتهدين ولا بقول
الواحد أيضاً.
وأما من جهة التفصيل فهو أن الرواية مستندها السماع
ووقوع الحوادث المروية في زمن النبي عليه السلام وبحضرته ولما كان أهل
المدينة أعرف بذلك وأقرب إلى معرفة المروي كانت روايتهم أرجح.
وأما
الاجتهاد فإن طريقه النظر والبحث بالقلب والاستدلال على الحكم وذلك مما لا
يختلف بالقرب والبعد ولا يختلف باختلاف الأماكن وعلى ما ذكرناه فلا يكون
إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة والمصرين الكوفة والبصرة حجة على مخالفيهم
وإن خالف فيه قوم لما ذكرناه من الدليل.
المسألة الحادية عشرة لا يكفي
في انعقاد الإجماع اتفاق أهل البيت مع مخالفة غيرهم لهم خلافاً للشيعة
للدليل السابق في المسائل المتقدمة احتج المثبتون بالكتاب والسنة والمعقول:
أما الكتاب فقوله تعالى: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيراً " " الأحزاب 33 " أخبر بذهاب الرجس عن أهل البيت بإنما وهي
للحصر فيهم وأهل البيت علي وفاطمة والحسن والحسين ويدل على هذا أنه لما
نزلت هذه الآية أدار النبي عليه السلام الكساء على هؤلاء وقال: " هؤلاء أهل
بيتي " والخطأ والضلال من الرجس فكان منتفياً عنهم.
وأما السنة فقوله
عليه السلام: " إني تارك فيكم الثقلين فإن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله
وعترتي " حصر التمسك بهما فلا تقف الحجة على غيرهما.
وأما المعقول فهو
أن أهل البيت اختصوا بالشرف والنسب وأنهم أهل بيت الرسالة ومعدن النبوة
والوقوف على أسباب التنزيل ومعرفة التأويل وأفعال الرسول وأقواله لكثرة
مخالطتهم له عليه السلام وأنهم معصومون عن الخطأ على ما عرف في موضعه من
الإمامة والآية المذكورة أولاً فكانت أقوالهم وأفعالهم حجة على غيرهم بل
قول الواحد منهم ضرورة عصمته عن الخطأ كما في أقوال النبي عليه السلام
وأفعاله.
والجواب عن التمسك بالآية أنها إنما نزلت في زوجات النبي
عليه السلام لقصد دفع التهمة عنهن وامتداد الأعين بالنظر إليهن ويدل على
ذلك أول الآية وآخرها وهو قوله تعالى: " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء
إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً " "
الأحزاب 32 " إلى قوله " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى
وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت " " الأحزاب 33 " وقوله عليه السلام: " هؤلاء أهل بيتي "
لا ينافي كون الزوجات من أهل البيت ويدل عليه الآية المخاطبة لهم بأهل
البيت.
والخبر وهو ما روي عن أم سلمة أنها قالت للنبي عليه السلام: " ألست من أهل البيت " قال: " بلى إن شاء الله " .
فإن قيل: لو كان المراد بقوله: " ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " الزوجات لقال عنكن.
قلنا:
إنما قال عنكم لأن أول الآية وإن كان خطاباً مع الزوجات غير أنه لما
خاطبهن بأهل البيت أدخل معهن غيرهن من الذكور كعلي والحسن والحسين فجاء
بخطاب التذكير لأن الجمع إذا اشتمل على مذكر ومؤنث غلب جمع التذكير وصار
كما في قوله تعالى في حق زوجه إبراهيم: " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق
يعقوب قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب
قالوا: أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت " " هود 71 -
72 " فكان ذلك عائداً إليها وإلى من حواه بيت إبراهيم من ذكر وأنثى.
وعن
الخبر أنه من باب الآحاد وعندهم أنه ليس بحجة وإن كان حجة ولكن لا نسلم أن
المراد بالثقلين الكتاب والعترة بل الكتاب والسنة على ما روي أنه قال: "
كتاب الله وسنتي " وإن كان كما ذكروه غير أنه أمكن حمله على الرواية عنه
عليه السلام وروايتهم حجة ويجب الحمل على ذلك جمعاً بين الأدلة وإنما خصهم
بذلك لأنهم أخبر بحاله من أقواله وأفعاله.
ثم ما ذكروه معارض بقوله عليه
السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وبقوله: " اقتدوا باللذين من بعدي
أبي بكر وعمر " وبقوله: " خذوا شطر دينكم عن الحميراء " وليس العمل بما
ذكرتموه أولى مما ذكرناه.
وعن المعقول أما اختصاصهم بالشرف والنسب فلا
أثر له في الاجتهاد واستنباط الأحكام من مداركها بل المعول في ذلك إنما هو
على الأهلية للنظر والاستدلال ومعرفة المدارك الشرعية وكيفية استثمار
الأحكام منها وذلك مما لا يؤثر فيه الشرف ولا قرب القرابة.
وأما كثرة
المخالطة للنبي عليه السلام فذلك مما يشارك العترة فيه الزوجات ومن كان
يصحبه من الصحابة في السفر والحضر من خدمه وغيرهم وأما العصمة فلا يمكن
التمسك بها لما بيناه في الكتب الكلامية.
وأما الآية فقد بينا أن المراد
بنفي الرجس إنما هو نفي الظنة والتهمة عن زوجات النبي عليه السلام وذلك
بمعزل عن الخطأ والضلال في الاجتهاد والنظر في الأحكام الشرعية وعلى هذا
فقد بطل أن يكون قول الواحد منهم أيضاً حجة ويؤيد ذلك أن عليا عليه السلام
لم ينكر على أحد ممن خالفه فيما ذهب إليه من الأحكام ولم يقل له إن الحجة
فيما أقول مع كثرة مخالفيه ولو كان ذلك منكراً فقد كان متمكناً من الإنكار
فيما خولف فيه في زمن ولايته وظهور شوكته فتركه لذلك يكون خطأ منه ويخرج
بذلك عن العصمة وعن وجوب اتباعه فيما ذهب إليه.
المسألة الثانية عشرة لا
ينعقد إجماع الأئمة الأربعة مع وجود المخالف لهم من الصحابة عند الأكثرين
خلافاً لأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وللقاضي أبي حازم من أصحاب أبي
حنيفة وكذلك لا ينعقد إجماع الشيخين أبي بكر وعمر مع مخالفة غيرهما لهما
خلافاً لبعض الناس ودليل ذلك ما سبق في المسائل المتقدمة.
حجة من قال
بانعقاد إجماع الأئمة الأربعة قوله عليه السلام: " عليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " أوجب اتباع سنتهم كما أوجب
اتباع سنته والمخالف لسنته لا يعتد بقوله فكذلك المخالف لسنتهم.
وحجة من قال بانعقاد إجماع الشيخين قوله عليه السلام: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " .
والجواب
عن الخبر الأول أنه عام في كل الخلفاء الراشدين ولا دلالة فيه على الحصر
في الأئمة الأربعة وإن دل على الحصر فهو معارض بقوله عليه السلام: " أصابي
كالنجوم " الحديث وليس العمل بأحد الخبرين أولى من الآخر وإذا تعارض
الخبران سلم لنا ما ذكرناه وبهذا يبطل الاستدلال بالخبر الآخر أيضاً.
المسألة
الثالثة عشرة اختلفوا في اشتراط عدد التواتر في الإجماع فمن استدل على كون
الإجماع حجة بدلالة العقل وهو أن الجمع الكثير لا يتصور تواطئهم على الخطأ
كإمام الحرمين وغيره فلا بد من اشتراط ذلك عنده لتصور الخطأ على من دون
عدد التواتر وأما من احتج على ذلك بالأدلة السمعية فقد اختلفوا: فمنهم من
شرطه ومنهم من لم يشترطه والحق أنه غير مشترط لما بيناه من أن إثبات
الإجماع بطريق العقل غير متصور وأنه لا طريق إليه سوى الأدلة السمعية من
الكتاب والسنة وعلى هذا فمهما كان عدد الإجماع أنقص من عدد التواتر صدق
عليهم لفظ الأمة والمؤمنين وكانت الأدلة السمعية موجبة لعصمتهم عن الخطأ
عليهم ووجب اتباعهم.
فإن قيل: ما ذكرتموه إنما يصح بتقدير عود عدد
المسلمين إلى ما دون عدد التواتر وذلك غير متصور مهما دام التكليف من الله
تعالى بدين الإسلام وذلك لأن التكليف به إنما يكون مع قيام الحجة على ذلك
والحجة على ذلك إنما تكون بالنقل المفيد لوجود محمد وتحديه بالرسالة وما
ورد على لسانه من معجز الكتاب والسنة وأدلة الأحكام يقيناً ولا يفيد ذلك
غير التواتر من أخبار المسلمين لعدم نقل غيرهم لذلك ومبالغتهم في محو ذلك
وإعدامه.
سلمنا إمكان انتفاء التكليف مع عود عدد المجمعين إلى ما دون
عدد التواتر ولكن ما دون عدد التواتر مما لا يعلم إسلامهم وإيمانهم
بأقوالهم ومن لا يعلم إيمانه لا يعلم صدقه في الخبر عن الدين.
سلمنا
إمكان حصول العلم بأقوال من عددهم دون عدد التواتر فلو لم يبق من الأمة سوى
واحد هل تقوم الحجة بقوله أم لا؟ والجواب عن الأول أنا إن قلنا إن أهل
الإجماع هم أهل الحل والعقد فلا يلزم من نقصان عددهم عن عدد التواتر انقطاع
الحجة بالتكليف لإمكان حصول المعرفة بذلك من أخبار المجتهدين والعامة
جميعاً فإنه ليس من شرط التواتر أن يكون ناقله مجتهداً وإن قلنا إن العوام
داخلة في الإجماع ومع ذلك فعدد الجميع دون عدد التواتر فلا يلزم أيضاً
انقطاع ذلك لإمكان إدامة الله ذلك بأخبار المسلمين وأخبار الكفار معهم وإن
كانوا لا يعترفون بنبوة محمد عليه السلام وبخبر العدد القليل لاحتفاف
القرائن المفيدة للعلم بأخبارهم ويدل على ذلك قوله عليه السلام: " لا تزال
طائفة من أمتي تقوم بالحق حتى يأتي أمر الله " وبتقدير عدم ذلك كله فانقطاع
التكليف وانتهاء الإسلام غير ممتنع عقلاً ولا شرعاً ولذلك قال عليه
السلام: " أول ما يفقد من دينكم الأمانة وآخر ما يفقد الصلاة " وقال عليه
السلام: " إن الله لا ينزع العلم من صدور الرجال ولكن ينزع العلم بقبض
العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فإذا سئلوا أفتوا بغير
علم فضلوا وأضلوا " .
وعن السؤال الثاني أنه لا بعد في حصول العلم
بخبرهم بما يحتف به من القرائن بل ولا بعد في ذلك وأن كان المخبر واحداً
وأن يخلق الله لنا العلم الضروري بذلك.
وعن السؤال الثالث أن ذلك مما
اختلف فيه جواب الأصحاب فمنهم من قال إن قوله يكون حجة متبعة لأنه إذا لم
يوجد من الأمة سواه صدق عليه إطلاق لفظ الأمة ودليله قوله تعالى: " إن
إبراهيم كان أمة قانتاً " " النحل 120 " أطلق لفظ الأمة عليه وهو واحد
والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذا كان أمة كانت النصوص السابق ذكرها متناولة
له حسب تناولها للجمع الكثير ومنهم من أنكر ذلك مصيراً منه إلى أن لفظ
الإجماع مشعر بالاجتماع وأقل ما يكون ذلك من اثنين فصاعداً.
المسألة
الرابعة عشرة اختلفوا فيما إذا ذهب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم وعرف
به أهل عصره ولم ينكر عليه منكر: هل يكون ذلك إجماعاً؟
فذهب أحمد بن
حنبل وأكثر أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي والجبائي إلى أنه إجماع
وحجة لكن من هؤلاء من شرط في ذلك انقراض العصر كالجبائي وذهب الشافعي إلى
نفي الأمرين وهو منقول عن داود وبعض أصحاب أبي حنيفة وذهب أبو هاشم إلى أنه
حجة وليس بإجماع وذهب أبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أنه إن
كان ذلك حكماً من حاكم لم يكن إجماعاً وإن كان فتياً كان إجماعاً وقد احتج
النافون لكونه إجماعاً بأن سكوت من سكت يحتمل أن يكون لأنه موافق ويحتمل
أنه لم يجتهد بعد في حكم الواقعة ويحتمل أنه اجتهد لكن لم يؤده اجتهاده إلى
شيء وإن أدى اجتهاده إلى شيء فيحتمل أن يكون ذلك الشيء مخالفاً للقول الذي
ظهر لكنه لم يظهره: إما للتروي والتفكر في ارتياد وقت يتمكن من إظهاره
وإما لاعتقاده أن القائل بذلك مجتهد ولم ير الإنكار على المجتهد لاعتقاده
أن كل مجتهد مصيب أو لأنه سكت خشية ومهابة وخوف ثوران فتنة كما نقل عن ابن
عباس أنه وافق عمر في مسألة العول وأظهر النكير بعده وقال هبته وكان رجلاً
مهيباً وإما لظنه أن غيره قد كفاه مؤنة الإنكار وهو مخطئ فيه ومع هذه
الاحتمالات فلا يكون سكوتهم مع انتشار قول المجتهد فيما بينهم إجماعاً ولا
حجة.
وأما حجة ابن أبي هريرة أن العادة جارية بأن الحاضر مجالس الحكام
يحضر على بصيرة من خلافهم له فيما ذهب إليه من غير إنكار لما في الإنكار من
الافتيات عليهم ولأن حكم الحاكم يقطع الخلاف ويسقط الاعتراض بخلاف قول
المفتي فإن فتواه غير لازمة ولا مانعة من الاجتهاد وفي هاتين الحجتين نظر:
أما الأولى فما ذكر فيها من الاحتمالات وإن كانت منقدحة عقلاً فهي خلاف
الظاهر من أحوال أرباب الدين وأهل الحل والعقد أما احتمال عدم الاجتهاد في
الواقعة فبعيد من الخلق الكثير والجم الغفير لما فيه من إهمال حكم الله
تعالى فيما حدث مع وجوبه عليهم وإلزامهم به وامتناع تقليدهم لغيرهم مع
كونهم من المجتهدين فإنه معصية والظاهر عدم ارتكابها من المتدين المسلم
وأما احتمال عدم تأدية الاجتهاد إلى شيء من الأحكام فبعيد أيضاً لأن الظاهر
أنه ما من حكم إلا ولله تعالى عليه دلائل وإمارات تدل عليه والظاهر ممن له
أهلية الاجتهاد إنما هو الاطلاع عليها والظفر بها.
وأما احتمال تأخير
الإنكار للتروي والتفكر وإن كان جائزاً غير أن العادة تحيل ذلك في حق
الجميع ولا سيما إذا مضت عليهم أزمنة كثيرة حتى انقرض العمر من غير نكير.
وأما
احتمال السكوت عنه لكونه مجتهداً فذلك مما لا يمنع من مباحثته ومناظرته
وطلب الكشف عن مأخذه لا بطريق كالعادة الجارية من زمن الصحابة إلى زمننا
هذا بمناظرة المجتهدين وأئمة الدين فيما بينهم لتحقيق الحق وإبطال الباطل
كمناظرتهم في مسائل الجد والأخوة وقوله: أنت علي حرام والعول ودية الجنين
ونحو ذلك من المسائل.
وأما احتمال التقية فبعيد أيضاً وذلك لأن التقية
إنما يكون فيما يحتمل المخافة ظاهراً وليس كذلك لوجهين: الأول أن مباحث
المجتهدين غير مستلزمة لذلك وذلك لأن الغالب من حال المجتهد وهو من سادات
أرباب الدين أن مباحثته فيما ذهب إليه لا توجب خيفة على نفسه ولا حقداً في
صدره تخاف عاقبته إذ هو خلاف مقتضى الدين.
الثاني أنه إما أن يكون
خاملاً غير مخوف فلا تقية بالنسبة إليه وإن كان ذا شوكة وقوة كالإمام
الأعظم فمحاباته في ذلك تكون غشاً في الدين والكلام معه فيه يعد نصحاً
والغالب إنما هو سلوك طريق النصح وترك الغش من أرباب الدين كما نقل عن علي
في رده على عمر في عزمه على إعادة الجلد على أحد الشهود على المغيرة بقوله:
إن جلدته فأرجم صاحبك ورد معاذ عليه في عزمه على جلد الحامل بقوله: إن جعل
الله لك على ظهرها سبيلاً فما جعل لك على ما في بطنها سبيلاً حتى قال عمر:
لولا معاذ لهلك عمر ومن ذلك رد المرأة على عمر لما نهى عن المغالاة في
مهور النساء بقولها أيعطينا الله تعالى بقوله: " وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا
تأخذوا منه شيئاً " " النساء 20 " ويمنعنا عمر حتى قال عمر: امرأة خاصمت
عمر فخصمته ومن ذلك قول عبيدة السلماني لعلي عليه السلام لما ذكر أنه قد
تجدد له رأي في بيع أمهات الأولاد: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك
إلى غير ذلك من الوقائع.
وأما حجة ابن أبي هريرة فإنما تصح بعد استقرار المذاهب وأما قبل ذلك فلا نسلم أن السكوت لا يكون إلا عن رضى.
وعلى هذا فالإجماع السكوتي ظني والاحتجاج به ظاهر لا قطعي.
المسألة
الخامسة عشرة إذا ذهب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم في مسألة ولم ينتشر
بين أهل عصره لكنه يعرف له مخالف هل يكون إجماعاً؟ اختلفوا فيه والأكثر
على أنه ليس بإجماع وهو المختار وذلك لأنه إنما يتخيل كونه إجماعاً من أهل
العصر إذا علموا بقوله وسكتوا عن الإنكار على ما تقدم في المسألة التي
قبلها وأما إذا لم يعلموا به فيمتنع رضاهم به أو سخطهم ومع ذلك فيحتمل أن
لا يكون لهم في تلك المسألة قول لعدم خطورها ببالهم وإن كان لهم فيها قول
احتمل أن يكون موافقاً للمنقول إلينا واحتمل أن يكون مخالفاً له احتمالاً
على السواء ومن لا قول له في نفس الأمر في المسألة أو له قول لكنه متردد
بين الموافقة والمخالفة فلا تتحقق منه الموافقة والإجماع وإذا لم يكن ذلك
إجماعاً فهل يكون ما نقل إلينا من قول الصحابي حجة متبعة أو لا فسيأتي
الكلام فيه فيما بعد.
المسألة السادسة عشرة اختلفوا في انقراض العصر: هل
هو شرط في انعقاد الإجماع أو لا؟ فذهب أكثر أصحاب الشافعي وأبي حنيفة
والأشاعرة والمعتزلة إلى أنه ليس بشرط.
وذهب أحمد بن حنبل والأستاذ أبو
بكر بن فورك إلى اعتباره شرطاً ومن الناس من فصل وقال: إن كان قد اتفقوا
بأقوالهم أو أفعالهم أو بهما لا يكون انقراض العصر شرطاً وإن كان الإجماع
بذهاب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم وسكت الباقون عن الإنكار مع اشتهاره
فيما بينهم فهو شرط وهذا هو المختار.
لكن قد احتج القائلون بعدم الاشتراط بمسلكين ضعيفين لا بد من الإشارة إليهما ووجه ضعفهما ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
المسلك
الأول: أنهم قالوا: وقع الإجماع على كون الإجماع حجة بعد انقراض العصر إذا
لم يوجد لهم مخالف فالحجة إما أن تكون في نفس الاتفاق أو نفس انقراض العصر
أو مجموع الأمرين لا جائز أن يقال بالثاني وإلا كان انقراض العصر دون
الاتفاق حجة وهو محال ولا جائز أن يقال بالثالث وإلا كان موتهم مؤثراً في
جعل أقوالهم حجة وهو محال كما في موت النبي عليه السلام فلم يبق سوى الأول
وهو ثابت قبل انقراض العصر وذلك هو المطلوب.
ولقائل أن يقول: ما المانع
أن تكون الحجة في اتفاقهم مشروطاً بعدم المخالف لهم في عصرهم ولا يخفى أن
دعوى إحالة ذلك غير محل النزاع ولا يلزم من عدم اشتراط عدم مخالفة النبي
عليه السلام في صحة الاحتجاج بقوله عدم اشتراط ذلك فيما نحن فيه إذ هو
تمثيل من غير جامع صحيح كيف والفرق حاصل من جهة أن قول النبي مستند إلى
الوحي على ما قال تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " " النجم
3 " وقول غيره ليس عن وحي حتى يقع في مقابلة قوله وأما قول غيره فمستند
إلى الاجتهاد وقول المخالف له أيضاً مستند إلى الاجتهاد وليس أحدهما أولى
من الآخر فافترقا.
المسك الثاني: هو أن القول باشتراط انقراض العصر يفضي
إلى عدم تحقق الإجماع مطلقاً مع كونه حجة متبعة وكل شرط أفضى إلى إبطال
المشروط المتفق على تحقيقه كان باطلاً.
وبيان ذلك أن من اشترط انقراض
العصر جوز لمن حدث من التابعين لأهل ذلك العصر إذا كان من أهل الاجتهاد
مخالفتهم وشرط في صحة إجماعهم موافقته لهم وإذا صار التابعي من أهل الإجماع
فقد لا ينقرض عصرهم حتى يحدث تابع ا
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وأما قضية التسوية فلا نسلم أن عمر خالف فيها بعد الوفاق فإنه روي أنه
خالف أبا بكر في ذلك في زمانه وقال له: أتجعل من جاهد في سبيل الله بنفسه
وماله كمن دخل في الإسلام كرهاً؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله وإنما أجرهم
على الله وإنما الدنيا بلاغ ولم يرو أن عمر رجع إلى قول أبي بكر وإنما فضل
في زمانه وعود الأمر إليه لأنه كان مصراً على المخالفة.
وأما حده
للشارب ثمانين فغايته أنه خالف الإجماع السكوتي ونحن نقول بجواز ذلك لكونه
كان من جملة الساكتين على ما بيناه في المسألة المتقدمة.
وعن الحجة
الأولى من المعقول أنه وإن كان مصير كل واحد من المجتهدين إلى الحكم عن
اجتهاد وظن ولكن بعد اتفاقهم على الحكم إنما يجوز الرجوع عنه بالاجتهاد أن
لو لم يصر الحكم بإجماعهم قطعياً وأما إذا صار قطعياً فيمتنع العود عنه
وتركه بالاجتهاد الظني وهذا بخلاف العود عن الاجتهاد الظني بالاجتهاد
الظني.
وعن الثانية أنه قد ذهب بعض من نص هذا المذهب إلى إبطال مذهب
المخالف بموته وقال بانعقاد إجماع من بقي ومنهم من قال إنما لم يبطل مذهبه
ولا ينعقد الإجماع بعده لأن من بعده ليس هم كل الأمة بالنسبة إلى هذه
المسألة التي خالف فيها الميت فإن فتواه لا تبطل بموته وهو الحق.
وعن
الثالثة بالفرق بين النبي عليه السلام والأمة أن قوله إنما لم يستقر قبل
موته لإمكان نسخه من الله تعالى وهو مرتقب وذلك إنما هو بالوحي القاطع ورفع
القاطع بالقاطع على طريق النسخ غير ممتنع بخلاف رفع حكم الإجماع القاطع
بطريق الاجتهاد.
وعن الرابعة أن ما فرضوه من تذكر الخبر المخالف
لإجماعهم فهو فرض محال بل الله تعالى يعصم الأمة عن الإجماع على خلاف الخبر
وذلك يوجب إما عدم الخبر المخالف أو أن يعصم الراوي له عن النسيان إلى
تمام انعقاد الإجماع وعلى هذا يكون الحكم فيما يقال من اطلاع التابعين على
خبر مخالف للإجماع السابق.
المسألة السابعة عشرة اتفق الكل على أن الأمة
لا تجتمع على الحكم إلا عن مأخذ ومستند يوجب اجتماعها خلافاً لطائفة شاذة
فإنهم قالوا بجواز انعقاد الإجماع عن توفيق لا توقيف بأن يوفقهم الله تعالى
لاختيار الصواب من غير مستند وقد احتج النافون لذلك بمسالك: المسلك الأول
إنهم قالوا مع فقد الدليل والمستند لا يجب الوصول إلى الحق أي لا يلزم
ولقائل أن يقول: متى لا يلزم ذلك إذا لم تجمع الأمة على الحكم أو إذا
أجمعت؟ الأول مسلم والثاني دعوى محل النزاع فإنه ما المانع أنهم إذا اتفق
إجماعهم أن يوفقهم الله تعالى للصواب ضرورة استحالة إجماعهم على الخطأ لما
سبق في المسالك السمعية والكلام إنما هو في جواز ذلك لا في وقوعه.
المسلك
الثاني إن الصحابة ليسوا بآكد حالاً من النبي عليه السلام ومعلوم أنه لا
يقول ولا يحكم إلا عن وحي على ما نطق به النص فالأمة أولى أن لا تقول إلا
عن دليل ولقائل أن يقول: إذا دل الدليل على امتناع الخطأ على الرسول فيما
يقول وكذلك الأمة فلو قال الرسول قولاً وحكم بحكم عن غير دليل لما كان إلا
حقاً ضرورة استحالة الخطأ عليه غير أنه امتنع منه الحكم والقول من غير دليل
لقوله تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " " النجم 3 " وأما
الأمة فقد دل الدليل على استحالة الخطأ عليهم فيما أجمعوا عليه ولم يدل على
أنهم لا يحكمون إلا عن دليل فافترقا.
المسلك الثالث إنه لو جاز أن
يحكموا من غير مستند لجاز ذلك لكل واحد منهم فإنهم إنما يجمعون على الحكم
بأن يقول كل واحد به ولو جاز ذلك لآحادهم لم يكن للجمع في ذلك مزية على
الآحاد.
ولقائل أن يقول: المزية للجمع على الآحاد من وجهين: الأول أن
إجماعهم يكون حجة بخلاف قول كل واحد من الآحاد الثاني أن جواز ذلك للآحاد
مشروط بضم قول الباقي إليه لا أنه جائز من غير ضم ولا كذلك قول الجميع فإنه
جائز على الإطلاق.
المسلك الرابع إن القول في الدين من غير دلالة ولا
أمارة خطأ فلو اتفقوا عليه كانوا مجمعين على الخطأ وذلك محال قادح في
الإجماع ولقائل أن يقول: متى يكون ذلك خطأ إذا لم تجمع الأمة عليه أو إذا
أجمعت؟ الأول مسلم والثاني دعوى محل النزاع.
المسلك الخامس إن
المقالة إذا لم تستند إلى دليل لا يعلم انتسابها إلى وضع الشارع وما يكون
كذلك لا يجوز الأخذ به ولقائل أن يقول: إما أن يراد بأنه لا يعرف انتسابها
إلى وضع الشارع أنه لا يعرف ذلك عن دليل شرعي أو أنه لا يعلم كونها مصيبة
لحكم الشارع أو معنى آخر: الأول مسلم وهذا هو عين صورة الواقع المختلف فيه
والثاني دعوى محل النزاع والثالث فلا بد من تصويره والدلالة عليه.
المسلك
السادس أنه لو جاز انعقاد الإجماع من غير دليل لم يكن لاشتراط الاجتهاد في
قول المجمعين معنى وهو محال لأن اشتراط الاجتهاد مجمع عليه ولقائل أن
يقول: الاجتهاد مشترط لا حالة الإجماع أو حالة الإجماع الأول مسلم والثاني
دعوى محل النزاع فإن الخصم إذا قال بجواز الإصابة وامتناع الخطأ على
الإجماع من غير دليل كيف يسلم اشتراط الاجتهاد في مثل هذه الصورة فهذه جملة
ما ظفرت به من مسالك النافين وليس شيء منها موجباً لاستبعاد مقالة المخالف
والحكم ببعده عن الصواب وأما المثبتون فقد احتجوا بمسلكين: الأول أن
الإجماع حجة فلو افتقر في جعله حجة إلى دليل لكان ذلك الدليل هو الحجة في
إثبات الحكم المجمع عليه ولم يكن في إثبات كون الإجماع حجة فائدة وهو باطل
من ثلاثة أوجه.
الأول أنه أمكن أن يقال فائدة كون الإجماع حجة جواز الأخذ به وإسقاط البحث عن ذلك الدليل وحرمة المخالفة الجائزة قبل الاتفاق.
الثاني أن ما ذكروه يوجب عدم انعقاد الإجماع عن الدليل ولم يقولوا به.
الثالث أنه ينتقض بقول الرسول فإنه حجة بالاتفاق مع أنه لا يقول ما يقوله إلا عن دليل وهو ما يوحى به إليه على ما نطق به النص.
المسلك
الثاني استدلالهم بالواقع وهو أنهم قالوا: قد انعقد الإجماع من غير دليل
كإجماعهم على أجرة الحمام وناصب الحباب على الطريق وأجرة الحلاق وأخذ
الخراج ونحوه.
ولقائل أن يقول: لا نسلم وقوع شيء من الإجماعات إلا عن
دليل غايته أنه لم ينقل الاكتفاء بالإجماع عنه وإذا عرف ضعف المأخذ من
الجانبين فالواجب أن يقال: إنهم إن أجمعوا عن غير دليل فلا يكون إجماعهم
إلا حقاً ضرورة استحالة الخطأ عليهم وأما أن يقال إنه لا يتصور إجماعهم إلا
عن دليل أو يتصور فذلك مما قد ظهر ضعف المأخذ فيه من الجانبين.
المسألة
الثامنة عشرة القائلون بأنه لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند اختلفوا في
جواز انعقاده عن الاجتهاد والقياس فجوزه الأكثرون لكن اختلفوا في الوقوع
نفياً وإثباتاً والقائلون بثبوته اختلفوا فمنهم من قال إن الإجماع مع ذلك
يكون حجة تحرم مخالفته وهم الأكثرون ومنهم من قال لا تحرم مخالفته لأن
القول بالاجتهاد في ذلك يفتح باب الاجتهاد ولا يحرمه وذهبت الشيعة وداود
الظاهري وابن جرير الطبري إلى المنع من ذلك ومن الناس من قال بجواز ذلك
بالقياس الجلي دون الخفي.
والمختار جوازه ووقوعه وأنه حجة تمتنع مخالفته.
أما
دليل الجواز العقلي فهو أنا قد وجدنا الخلق الكثير الزائد على عدد التواتر
مجمعين على أحكام باطلة لا تستند إلى دليل قطعي ولا دليل ظني كما ذكرناه
في مسألة تصور انعقاد الإجماع فجواز انعقاد الإجماع عن الدليل الظني الظاهر
أولى كيف وأنا لو قدرنا وقوع ذلك لما لزم عنه لذاته محال عقلاً ولا معنى
للجائز سوى هذا.
وأما دليل الوقوع فهو أن الصحابة أجمعت على إمامة أبي
بكر من طريق الاجتهاد والرأي حتى قال جماعة منهم رضيه رسول الله لديننا
أفلا نرضاه لدنيانا؟ وقال بعضهم إن تولوها أبا بكر تجدوه قوياً في أمر الله
ضعيفاً في بدنه وأيضاً فإنهم اتفقوا على قتال مانعي الزكاة بطريق الاجتهاد
حتى قال أبو بكر: والله لا فرقت بين ما جمع الله قال الله " أقيموا الصلاة
وآتو الزكاة "
وأجمعوا على تحريم شحم الخنزير قياساً على تحريم لحمه
وأجمعوا على إراقة الشيرج والدبس السيال إذا وقعت فيه فأرة وماتت قياساً
على فأرة السمن وعلى تأمير خالد بن الوليد في موضع كانوا فيه باجتهادهم
وأجمعوا في زمن عمر على حد شارب الخمر ثمانين بالاجتهاد حتى قال علي عليه
السلام إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى أن يقام عليه حد
المفترين وقال عبد الرحمن بن عوف: هذا حد وأقل الحدود ثمانون وأجمعوا أيضاً
بطريق الاجتهاد على جزاء الصيد ومقدار أرش الجناية ومقدار نفقة القريب
وعدالة الأئمة والقضاة ونحو ذلك.
وإذا ثبت الجواز والوقوع وجب أن يكون حجة متبعة لما ثبت في مسألة كون الإجماع حجة.
فإن
قيل: ما ذكرتموه من دليل الجواز معارض بما يدل على عدمه وبيانه من خمسة
أوجه: الأول أنه ما من عصر إلا وفيه جماعة من نفاة القياس وذلك مما يمنع من
انعقاد الإجماع مستنداً إلى القياس.
الثاني أن القياس أمر ظني وقوى
الناس وأفهامهم مختلفة في إدراك الوقوف عليه وذلك مما يحيل اتفاقهم على
إثبات الحكم به عادة كما يستحيل اتفاقهم على أكل طعام واحد في وقت واحد
لاختلاف أمزجتهم.
الثالث أن الإجماع دليل مقطوع به حتى إن مخالفه يبدع
ويفسق والدليل المظنون الثابت بالاجتهاد على ضده وذلك مما يمنع إسناد
الإجماع إليه.
الرابع أن الإجماع أصل من أصول الأدلة وهو معصوم عن الخطأ
والقياس فرع وعرضة للخطأ واستناد الأصل وما هو معصوم عن الخطأ إلى الفرع
وما هو عرضة للخطأ ممتنع.
الخامس أن الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد فلو انعقد الإجماع عن اجتهاد أو قياس لحرمت المخالفة الجائزة بالإجماع وذلك تناقض.
وأما
ما ذكرتموه من دليل الوقوع فلا نسلم أن إجماعهم في جميع صور الإجماع كان
عن القياس والاجتهاد بل إنما كان ذلك عن نصوص ظهرت للمجمعين منها ما ظهر
لنا وذلك كتمسك أبي بكر في قتال مانعي الزكاة بقوله تعالى: " أقيموا الصلاة
" " البقرة 43 " " وآتوا الزكاة " " آل عمران 5 " وباستثناء النبي عليه
السلام وهو قوله إلا بحقها من قوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا
إله إلا الله " وكاستدلال الصحابة على تقديم أبي بكر بفعل النبي عليه
السلام حيث قالوا: أيكم يطيب نفساً أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ومنها
ما لم يظهر لنا للاكتفاء بالإجماع عن نقله.
والجواب: عن الوجه الأول أنا
لا نسلم وقوع الخلاف في القياس في العصر الأول ليصح ما ذكروه ووجدوه
الخلاف بعده في القياس غايته المنع من وقوع انعقاد الإجماع على القياس بعد
ظهور الخلاف فيه ولا يمنع من ذلك مطلقاً كيف وهو منقوض بخبر الواحد فإنه
مختلف فيه وفي أسباب تزكيته ومع ذلك فقد وافقوا على انعقاد الإجماع بناء
عليه.
وعن الثاني أن القياس إذا ظهر وعدم الميل والهوى فلا يبعد اتفاق
العقلاء عليه ويكون داعياً إلى الحكم به وإن تعذر ذلك في وقت معين لتفاوت
أفهامهم وجدهم في النظر والاجتهاد فلا يتعذر ذلك في أزمنة متطاولة كما لا
يتعذر اتفاقهم على العمل بخبر الواحد مع أن عدالته مظنونة بما يظهر من
الإمارات الدالة عليها والأسباب الموجبة لتزكيته وهذا بخلاف اتفاق الكافة
على أكل طعام واحد فإن اختلاف أمزجتهم موجب لاختلاف أغراضهم وشهواتهم ولا
داعي لهم إلى الاجتماع عليه كما وجد الداعي لهم عند ظهور القياس إلى الحكم
بمقتضاه.
وعن الثالث من وجهين: الأول أن الأمة إذا اتفقت على ثبوت حكم
القياس فإجماعهم على ذلك يسبقه إجماعهم على صحة ذلك القياس وبذلك يخرج عن
كونه ظنياً فإذا استناد الإجماع القطعي إنما هو إلى قطعي لا إلى ظني الثاني
أن ما ذكروه ينتقض بما وافقوا عليه من انعقاد الإجماع بناء على خبر الواحد
مع كونه ظنياً والإجماع المستند إليه قطعي فما هو الجواب في صورة الإلزام
يكون جواباً في محل النزاع.
وعن الرابع أن القياس الذي هو مستند الإجماع
ليس هو فرعاً للإجماع بل لغيره من الكتاب والسنة وذلك لا يتحقق معه بناء
الإجماع على فرعه قولهم إن القياس عرضة للخطأ بخلاف بالإجماع فجوابه ما سبق
في جواب الوجه الذي قبله.
وعن الخامس أن الإجماع إنما انعقد على جواز مخالفة المجتهد المنفرد باجتهاده كالواحد والاثنين دون اجتهاد الأمة.
قولهم
الأمة في الصورة المذكورة إنما أجمعت على نصوص قلنا وإن أمكن التشبث بما
أوردوه من النصوص في بعض الصور فما العذر فيما لا يظهر فيه نص مع تصريحهم
بالقياس وإلحاق صورة بصورة فيما ذكرناه ولو كان لهم فيها نص لما عدلوا عنه
إلى التصريح بالقياس وإذا ثبت جواز انعقاد الإجماع عن القياس وعن غيره من
الأدلة الظنية فلو ظهر دليل من الأدلة الظنية ورأينا الأمة قد حكمت بمقتضاه
وإن غلب على الظن كونه هو المستند فلا يجب تعينه لجواز أن المستند غيره
لتكثر الأدلة في نفس الأمر خلافاً لأبي عبد الله البصري.
المسألة
التاسعة عشرة إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين هل يجوز لمن بعدهم
إحداث قول ثالث؟ اختلفوا فيه: فذهب الجمهور إلى المنع من ذلك خلافاً لبعض
الشيعة وبعض الحنفية وبعض أهل الظاهر وذلك كما لو قال بعض أهل العصر إن
الجارية الثيب إذا وطئها المشتري ثم وجد بها عيباً يمنع الرد وقال بعضهم
بالرد مع العقر فالقول بالرد مجانا قول ثالث وكذلك لو قال بعضهم: الجد يرث
جميع المال مع الأخ وقال بعضهم بالمقاسمة فالقول بأنه لا يرث شيئاً قول
ثالث وكذلك إذا قال بعضهم: النية معتبرة في جميع الطهارات وقال البعض النية
معتبرة في البعض دون البعض فالقول بأنها لا تعتبر في شيء من الطهارات قول
ثالث.
وفي معنى هذا ما لو قال بعضهم: بجواز فسخ النكاح بالعيوب الخمسة
وقال البعض لا يجوز الفسخ بشيء منها فالقول بالفسخ بالبعض دون البعض قول
ثالث وكذلك إذا قال بعضهم في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين للأم ثلث الأصل في
المسألتين وقال بعضهم لها ثلث ما يبقي بعد نصيب الزوج والزوجة فالقول بأن
لها ثلث الأصل في إحدى المسألتين وثلث ما يبقى في المسألة الأخرى قول ثالث.
احتج الغزالي على امتناع القول الثالث بأنه لو جاز القول الثالث فإما أن لا يكون له دليل أو له دليل.
فإن
كان الأول فالقول به ممتنع وإن كان الثاني يلزم منه نسبته الخطأ إلى الأمة
بنسبتهم إلى تضييعه والغفلة عنه وهو محال وهو ضعيف فإنه إنما يلزم من ذلك
نسبة الأمة إلى الخطأ أن لو كان الحق في المسألة معيناً وهو ليس كذلك على
ما سيأتي وإذا كان كل مجتهد مصيباً فالتخطئة تكون ممتنعة.
واحتج القاضي
عبد الجبار على ذلك بأن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد أجمعت من جهة
المعنى على المنع من إحداث قول ثالث لأن كل طائفة توجب الأخذ بقولها أو
بقول مخالفها ويحرم الأخذ بغير ذلك وهو ضعيف أيضاً وذلك لأن الخصم إنما
يسلم إيجاب كل واحدة من الطائفتين الأخذ بقولها أو قول مخالفها بتقدير أن
لا يكون اجتهاد الغير قد يفضي إلى القول الثالث.
والمختار في ذلك إنما
هو التفصيل وهو أنه إن كان القول الثالث مما يرفع ما اتفق عليه القولان فهو
ممتنع لما فيه من مخالفة الإجماع وذلك كما في مسألة الجارية المشتراة فإنه
إذا اتفقت الأمة فيها على قولين وهما امتناع الرد والرد مع العقر فالقولان
متفقان على امتناع الرد مجاناً فالقول به يكون خرقاً للإجماع السابق وكذلك
في مسألة الجد فإنه إذا اتفقت الأمة على قولين وهما استقلاله بالميراث
ومقاسمته للأخ فقد اتفق الفريقان على أن للجد قسطاً من المال فالقول الحادث
أنه لا يرث شيئاً يكون خرقاً للإجماع وكذلك في مسألة النية في الطهارة إذا
اتفقت الأمة فيها على قولين وهما اعتبار النية في جميع الطهارات وعلى
اعتبارها في البعض دون البعض فقد اتفق القولان على اعتبارها في البعض
فالقول المحدث النافي لاعتبارها مطلقاً يكون خرقاً للإجماع السابق.
وأما
إن كان القول الثالث لا يرفع ما اتفق عليه القولان بل وافق كل واحد من
القولين من وجه وخالفه من وجه فهو جائز إذ ليس فيه خرق الإجماع وذلك كما لو
قال بعضهم باعتبار النية في جميع الطهارات وقال البعض بنفي اعتبارها في
جميع الطهارات فالقول الثالث وهو اعتبارها في البعض دون البعض لا يكون
خرقاً للإجماع لأن خرق الإجماع إنما هو القول بما يخالف ما اتفق عليه أهل
الإجماع وهاهنا ليس كذلك فإن القائل بالنفي في البعض والإثبات في البعض قد
وافق في كل صورة مذهب ذي مذهب فلم يكن مخالفاً للإجماع لا في صورة اعتبار
النية لكونه موافقاً لقول من قال باعتبارها في الكل ولا في صورة النفي
لكونه موافقاً لمن قال بنفي الاعتبار في الكل وكذلك لو قال بعضهم بأنه لا
يقتل المسلم بالذمي ولا يصح بيع الغائب وقال بعضهم بجواز قتل المسلم بالذمي
وبصحة بيع الغائب فمن قال بجواز قتل المسلم بالذمي وبنفي صحة بيع الغائب
أو بالعكس لم يكن خارقاً للإجماع من غير خلاف وكان ذلك جائزاً له وعلى هذا
يكون الحكم في مسألة فسخ النكاح بالعيوب الخمسة.
فإن قيل: فمن قال بالإثبات مطلقاً لم يقل بالتفصيل وكذلك من قال بالنفي مطلقاً فالقول بالتفصيل قول لم يقل به قائل.
قلنا:
وعدم القائل به مما لا يمنع من القول به وإلا لما جاز أن يحكم واقعة
متجددة بحكم إذا لم يكن قد سبق فيها لأحد قول وهو خلاف الإجماع.
فإن قيل: فكل من القائلين بالنفي والإثبات مطلقاً قائل بنفي التفصيل فالقول بالتفصيل يكون خرقاً للإجماع.
قلنا:
لا نسلم ذلك فإن قول كل واحد منهما بنفي التفصيل إما أن يعرف من صريح
مقاله أو من قوله بالنفي أو الإثبات مطلقاً: الأول ممنوع حتى أن كل واحد من
الفريقين لو صرح بنفي التفصيل لما ساغ القول بالتفصيل والثاني غير مستلزم
للقول بنفي التفصيل وإلا لامتنع القول بالتفصيل فيما ذكرناه من مسألة
المسلم بالذمي وبيع الغائب وهو ممتنع.
فإن قيل: القول بالتفصيل فيه تخطئة كل واحد من الفريقين في بعض ما ذهب إليه وتخطئة الفريقين تخطئة للأمة وذلك محال.
قلنا:
المحال إنما هو تخطئة الأمة فيما اتفقوا عليه وأما تخطئة كل بعض فيما لم
يتفق عليه لا يكون محالاً وعلى هذا يجوز انقسام الأمة إلى قسمين وكل قسم
مخطئ في مسألة لما ذكرناه وإن خالف فيه الأكثرون.
شبه المخالفين الأولى أن اختلاف الأمة على قولين دليل تسويغ الاجتهاد والقول الثالث حادث عن الاجتهاد فكان جائزاً.
الثانية
أنهم قالوا: أجمعنا على أن الصحابة لو انقرض عصرهم وكانوا قد استدلوا في
مسألة من المسائل بدليلين فإنه يجوز للتابعي الاستدلال بدليل ثالث فكذلك
القول الثالث.
الثالثة أنهم قالوا: دليل جواز إحداث قول ثالث الوقوع من
غير إنكار من الأمة فمن ذلك أن الصحابة اختلفوا في مسألة زوج وأبوين وزوجة
وأبوين فقال ابن عباس للأم ثلث الأصل بعد فرض الزوج والزوجة وقال الباقون
للأم ثلث الباقي بعد فرض الزوج والزوجة وقد أحدث التابعون قولاً ثالثاً
فقال ابن سيرين بقول ابن عباس في زوج وأبوين دون الزوجة والأبوين وقال
تابعي آخر بالعكس ومن ذلك أن الصحابة اختلفوا في قوله " أنت علي حرام " على
ستة أوجه فأحدث مسروق وهو من التابعين مذهباً سابعاً وهو أنه لا يتعلق
بقوله حكم.
والجواب عن الشبهة الأولى أن ذلك يدل على تسويغ الاجتهاد منهم أو من غيرهم؟ الأول مسلم والثاني ممنوع.
وعن
الثانية بالفرق وبيانه من وجهين: الأول أن الاستدلال بدليل ثالث يؤكد ما
صارت إليه الأمة من الحكم ولا يبطله بخلاف القول الثالث على ما حققناه
الثاني أن اتفاقهم على دليل واحد لا يمنع من دليل آخر ومع ذلك فإن اتفاقهم
على حكم واحد مانع من إبداع حكم آخر مخالف له فافترقا.
وعن الثالثة:
أما مسألة الزوج والزوجة مع الأبوين فهي من قبيل ما لا يرفع ما اتفق عليه
الفريقان بل قول ابن سيرين وغيره من التابعين فيما ذهبا إليه غير مخالف
للإجماع بل هو قائل في كل صورة بمذهب ذي مذهب كما قررناه وبتقدير أن يكون
رافعاً لما اتفق عليه الفريقان فلا يخلو إما أن يكون لم يستقر قول جميع
الصحابة على القولين بل قول البعض أو قد استقر عليهما قول جميع الصحابة فإن
كان الأول فليس فيه مخالفة الإجماع بل مخالفة البعض وإن كان الثاني فإما
أن يكون قد خالفهم في وقت اتفاقهم على القولين أو بعد ذلك فإن كان الأول
فهو من أهل الإجماع وقد خالفهم حالة اتفاقهم على القولين فلا يكون بذلك
خارقاً للإجماع وإن قدر إحداث قوله بعد ذلك فهو مردود غير مقبول وعدم نقل
الإنكار لا يدل على عدمه في نفسه وعلى هذا يكون الجواب في مسألة " أنت علي
حرام " .
المسألة العشرون إذا استدل أهل العصر في مسألة بدليل أو تأولوا
تأويلاً فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر؟ لا يخلو إما أن يكون
أهل ذلك العصر قد نصوا على إبطال ذلك الدليل وذلك التأويل أو على صحته أو
سكتوا عن الأمرين.
فإن كان الأول لم يجز إحداثه لما فيه من تخطئة الأمة
فيما أجمعوا عليه وإن كان الثاني جاز إحداثه إذ لا تخطئة فيه وإن كان
الثالث فقد ذهب الجمهور إلى جوازه ومنع منه الأقلون.
والمختار جوازه إلا
إذا لزم من ذلك القدح فيما أجمع عليه أهل العصر ودليل ذلك أنه إذا لم يلزم
منه القدح فيما أجمعوا عليه كان ذلك جائزاً كما لو لم يسبقه تأويل أو دليل
آخر ولهذا فإن الناس في كل عصر لم يزالوا يستخرجون الأدلة والتأويلات
المغايرة لأدلة من تقدم وتأويلاته ولم ينكر عليهم أحد فكان ذلك إجماعاً.
فإن
قيل: ما ذكرتموه معارض بالكتاب والسنة والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى: "
ويتبع غير سبيل المؤمنين " " النساء 115 " والدليل والتأويل الثاني ليس هو
سبيل المؤمنين وأيضاً قوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون
بالمعروف " " آل عمران 110 " دل على أنهم يأمرون بكل معروف لأنه ذكر
المعروف بالألف واللام المستغرقة للجنس ولو كان الدليل والتأويل الثاني
معروفاً لأمروا به وحيث لم يأمروا به لم يكن معروفاً فكان منكراً.
وأما
السنة فقوله عليه السلام: " أمتي لا تجتمع على الخطأ " وقد ذهبوا عن الدليل
والتأويل الثاني فلا يكون ذهابهم عنه خطأ ولو كان دليلاً صحيحاً أو
تأويلاً صحيحاً لكان الذهاب عنه خطأ وهو محال.
وأما المعقول فهو أنه لو
جاز أن يذهب على أهل العصر الأول الدليل الثاني لجاز أن يوحي الله تعالى
إلى النبي عليه السلام بدليلين على حكم واحد والنبي عليه السلام يشرع الحكم
لأحد الدليلين ويذهب عن الآخر وهو ممتنع.
والجواب عن الآية الأولى أن
الذم فيها إما أن يكون على ترك العمل بما اتفقوا عليه من إثبات أو نفي وإما
بسلوك ما لم يتعرضوا له بنفي ولا إثبات الأول مسلم غير أنه لا تحقق له
فيما نحن فيه فإن المحدث للدليل والتأويل الثاني غير تارك لدليل أهل العصر
الأول ولا لتأويلهم بل غايته ضم دليل إلى دليل وتأويل إلى تأويل ولا هو
تارك لما نهوا عنه من الدليل والتأويل الثاني إذ الكلام فيما إذا لم يكن قد
نهوا عنه والثاني مما لا سبيل إلى حمل الآية عليه لما فيه من إلحاق الذم
بما لا تعرض فيه لإبطال الإجماع لا بنفي ولا إثبات.
وعن الآية الثانية
أنها مشتركة الدلالة وذلك لأن قوله " وتنهون عن المنكر " يقتضي كونهم ناهين
عن كل منكر لما ذكروه من لام الاستغراق ولو كان الدليل والتأويل الثاني
منكراً لنهوا عنه: ولم ينهوا عنه فلا يكون منكراً.
وعن السنة أن ذهابهم عن الدليل والتأويل الثاني مع صحته إنما يكون خطأ أن لو لم يستغنوا عنه بدليلهم وتأويلهم.
وعن
المعقول أنه قياس من غير جامع صحيح فلا يقبل كيف وإنه لا يخلو إما أن يكون
مع تعريفه الحكم الواحد بدليلين قد كلف إثبات الحكم بهما أو بأحدهما فإن
كان الثاني فلا مانع من إثباته للحكم بأحدهما دون الآخر وإن كان الأول فلا
يلزم من امتناع إثباته للحكم بأحد الدليلين مع تكليفه إثبات الحكم بهما
امتناع إثبات الأمة للحكم بأحد الدليلين دون الآخر إلا أن يكونوا قد كلفوا
بذلك وهو غير مسلم.
المسألة الحادية والعشرون
إذا اختلف أهل عصر
من الأعصار في مسألة من المسائل على قولين واستقر خلافهم في ذلك ولم يوجد
له نكير: فهل يتصور انعقاد إجماع من بعدهم على أحد القولين بحيث يمتنع على
المجتهد المصير إلى القول الآخر أم لا؟ ذهب أبو بكر الصيرفي من أصحاب
الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري وإمام الحرمين والغزالي وجماعة
من الأصوليين إلى امتناعه وذهب المعتزلة وكثير من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة
إلى جوازه.
والأول هو المختار وذلك لأن الأمة إذا اختلفت على القولين
واستقر خلافهم في ذلك بعد تمام النظر والاجتهاد فقد انعقد إجماعهم على
تسويغ الأخذ بكل واحد من القولين باجتهاد أو تقليد وهم معصومون من الخطأ
فيما أجمعوا عليه على ما سبق من الأدلة السمعية فلو أجمع من بعدهم على أحد
القولين على وجه يمتنع على المجتهد المصير إلى القول الآخر مع أن الأمة في
العصر الأول مجمعة على جواز الأخذ به ففيه تخطئة أهل العصر الأول فيما
ذهبوا إليه ويستحيل أن يكون الحق في جواز الأخذ بذلك القول والمنع من الأخذ
به معاً فلا بد وأن يكون أحد الأمرين خطأ أو يلزمه تخطئة أحد الإجماعين
القاطعين وهو محال فثبت أن إجماع التابعين على أحد قولي أهل العصر الأول
يفضي إلى أمر ممتنع فكان ممتنعاً لكن ليس هذا الامتناع عقلياً بل سمعياً.
فإن
قيل: اتفاق أهل العصر على قولين لا يلزم منه اتفاقهم على تجويز الأخذ بكل
واحد منهما لأن أحد القولين لا بد وأن يكون خطأ لقوله عليه السلام: " إذا
اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران " وإجماع الأمة على تجويز
الأخذ بالخطأ خطأ وإن سلمنا إجماعهم على ذلك ولكن ما المانع أن يقال بأن
أهل العصر الأول إنما اتفقوا على تسويغ الاجتهاد والأخذ بكل واحد من
القولين بشرط أن لا يظهر إجماع كاتفاقهم على أن فرض العادم للماء هو التيمم
مشروطاً بعدم الماء فإذا وجد الماء زال حكم ذلك الإجماع.
سلمنا أن
إجماعهم على ذلك غير مشروط ولكن إجماعهم على ذلك يدل على جواز الأخذ بأحد
القولين فإذا أجمع أهل العصر الثاني على أحد القولين فإجماعهم عليه موافق
لإجماع أهل العصر الأول على جواز الأخذ به إلا أنه مخالف لإجماعهم وما يكون
موافقاً للإجماع لا يكون ممتنعاً سمعاً.
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على
الامتناع لكنه معارض بما يدل على جوازه وبيانه بالوقوع وذلك أن الصحابة
اتفقوا على دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعد اختلافهم في
موضع دفنه واتفقوا على إمامة أبي بكر بعد اختلافهم في من يكون إماماً
واتفقوا على قتال مانعي الزكاة بعد اختلافهم في ذلك واتفق التابعون على منع
بيع أمهات الأولاد بعد اختلاف الصحابة في ذلك ولو كان الاتفاق بعد الخلاف
ممتنعا لما كان ذلك واقعاً.
والجواب عن السؤال الأول: لا نسلم أن أحد
القولين لا بد وأن يكون خطأ بل كل مجتهد في مسائل الاجتهاد مصيب على ما
يأتي تحقيقه وما ذكروه من الخبر فسيأتي تأويله كيف وإنه يجب اعتقاد الإصابة
نظراً إلى إجماع الأمة على جواز الأخذ بكل واحد من أقوال المجتهدين ولو لم
يكن صواباً وإلا كان إجماعهم على تجويز الأخذ بالخطأ وهو محال.
وعن
السؤال الثاني: أنه لو جوز مثل هذا الاشتراط في إجماعهم على مثل هذا الحكم
مع أن الأمة أطلقوا ولم يشترطوا لساغ مثل ذلك في كل إجماع ولساغ أن تتفق
الأمة على قول واحد ومن بعدهم على خلافه لجواز أن يكون إجماعهم مشروطاً بأن
لا يظهر إجماع مخالف له بل ولجاز للواحد من المجتهدين من بعدهم المخالفة
لما قيل من الشرط وهو محال لأن الإجماع منعقد على أن كل من خالف الإجماع
المطلق الذي لم يظهر فيه ما ذكروه من الشرط فهو مخطئ آثم وبه إبطال ما صار
إليه أبو عبد الله البصري من جواز انعقاد الإجماع على خلاف الإجماع السابق.
وعن
السؤال الثالث أن إجماع أهل العصر الثاني لم يكن محالاً لنفس إجماعهم على
أحد القولين بل لما يستلزمه من امتناع الأخذ بالقول الآخر.
وعن
السؤال الرابع أن الاتفاق فيما ذكروه من مسألة الدفن والإمامة وقتال مانعي
الزكاة لم يكن بعد استقرار الخلاف فيما بينهم واستمرار كل واحد من
المجتهدين على الجزم بما ذهب إليه بل إنما كان ذلك الخلاف على طريق المشورة
كما جرت به العادة في حالة البحث عما ينبغي أن يعمل بين العقلاء بخلاف ما
وقع النزاع فيه سلمنا أنه كان ذلك الاتفاق بعد استقرار الخلاف غير أنه
اتفاق من المختلفين بأعيانهم ومن شرط في الإجماع انقراض عصر المجتهدين لم
يمنع من رجوعهم أو رجوع بعضهم عما أجمعوا عليه والخلاف معه إنما يتصور في
المجمعين على خلافهم بعد انقراض عصر الأولين غير أن الجواب الأول هو
المختار.
وأما مسألة أمهات الأولاد وإن كان خلاف الصحابة قد استقر
واستمر إلى انقراض عصرهم فلا نسلم إجماع التابعين قاطبة على امتناع بيعهن
فإن مذهب علي في جواز بيعهن لم يزل بل جميع الشيعة وكل من هو من أهل الحل
والعقد على مذهبه قائل به وإلى الآن وهو مذهب الشافعي في أحد قوليه.
المسألة
الثانية والعشرون إذا اختلف الصحابة أو أهل أي عصر كان في المسألة على
قولين فهل يجوز اتفاقهم بعد استقرار خلافهم على أحد القولين والمنع من جواز
المصير إلى القول الآخر.
اختلفوا فيه: فمن اعتبر انقراض العصر في
الإجماع قطع بجوازه ومن لم يعتبر انقراض العصر اختلفوا: فمنهم من جوزه بشرط
أن يكون مستند اتفاقهم على الخلاف القياس والاجتهاد لا دليلاً قاطعاً
ومنهم من منع ذلك مطلقاً ولم يجوز انعقاد إجماعهم على أحد أقوالهم وهو
المختار وذلك لأنا بينا أن اتفاق الأمة على الحكم ولو في لحظة واحدة كان
ذلك مستند إلى دليل ظني أو قطعي أنه يكون حجة قاطعة مانعة من مخالفته وقد
بينا في المسألة المتقدمة أن الأمة إذا استقر خلافهم في المسألة على قولين
فهو إجماع منهم على تجويز الأخذ بكل واحد من القولين فلو تصور إجماعهم على
أحد القولين بعد ذلك لزم منه المحال الذي بيناه في تقرير المسألة التي
قبلها.
وكل ما ورد في المسألة المتقدمة من الاعتراض والانفصال فهو بعينه متوجه هاهنا فعليك باعتباره ونقله إلى هاهنا.
غير
أن هذه المسألة تختص بسؤال آخر وهو أن يقال إذا اتفق جميع الصحابة أو أهل
أي عصر كان على حكم وخالفهم واحد منهم فإنه لا يمتنع أن يظهر لذلك الواحد
ما ظهر لباقي الأمة ومع ظهور ذلك له إن منعناه من المصير إلى مقتضاه فقد
منعناه من الحكم بالدليل الذي ظهر له ولباقي الأمة معه وأوجبنا عليه الحكم
بما يخالف ذلك ويقطع ببطلانه وهو محال وإن لم نمنعه من العمل به فقد حصل
الوفاق منهم بعد الخلاف وهو المطلوب.
قلنا: لو ظهر له ما ظهر للأمة فنحن
لا نحيل عليه الرجوع إليه ولكنا نقول باستحالة ظهوره عليه لا من جهة العقل
بل من جهة السمع وهو ما يفضي إليه من تعارض الإجماعين ولزوم الخطأ في
أحدهما كما بيناه في المسألة المتقدمة ولا فارق بينهما إلا من جهة أن أهل
الإجماع في هذه المسألة هم الراجعون بأعيانهم عما أجمعوا عليه والمخالفون
لأنفسهم بخلاف المسألة الأولى وأن المخالف في المسألة الأولى قد يتوهم أن
بعض الأمة الخائضين في تلك المسألة التي اتفقوا عليها وفي هذه المسألة
المجمعون هم كل الأمة ولذلك كان الإشكال في هذه المسألة أعظم منه في
الأولى.
وعلى هذا نقول إنه إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين ثم
مات أحد القسمين وبقي القسم الآخر فإنه لا يكون قولهم إجماعاً مانعاً من
الأخذ بالقول الآخر والوجه في تقريره ما سبق وإن خالف فيه قوم.
المسألة
الثالثة والعشرون هل يمكن وجود خبر أو دليل ولا معارض له وتشترك الأمة في
عدم العلم به؟ اختلفوا فيه: فمنهم من جوزه مصيراً منه إلى أنهم غير مكلفين
بالعمل بما لم يظهر لهم ولم يبلغهم فاشتراكهم في عدم العلم به لا يكون خطأ
فإن عدم العلم ليس من فعلهم وخطأ المكلف من أوصاف فعله ومنهم من أحاله
مصيراً منه إلى أنهم لو اشتركوا في عدم العلم به لكان ذلك سبيلاً لهم ولوجب
على غيرهم اتباعه وامتنع تحصيل العلم به لقوله تعالى: " ويتبع غير سبيل
المؤمنين " " النساء 115 " الآية.
والمختار أنه لا مانع من اشتراكهم
في عدم العلم به وإن كان عملهم موافقاً لمقتضاه لعدم تكليفهم بمعرفة ما لم
يبلغهم ولم يظهر لهم وأما الآية فلا حجة فيها هاهنا لأن سبيل كل طائفة ما
كان من الأفعال المقصودة لهم المتداولة فيما بينهم باتفاق منهم على ما هو
المتبادر إلى الفهم من قول القائل سبيل فلان كذا وسبيل فلان كذا وعدم العلم
ليس من فعل الأمة فلا يكون سبيلاً لهم كيف وإنا نعلم أن المقصود من الآية
إنما هو الحث على متابعة سبيل المؤمنين ولو كان عدم العلم بالدليل سبيلاً
لهم لكانت الآية حاثة على متابعته والشارع لا يحث على الجهل بأدلته الشرعية
إجماعاً وأما إن كان عملهم على خلافه فهو محال لما فيه من إجماع الأمة على
الخطأ المنفي بالأدلة السمعية.
المسألة الرابعة والعشرون اختلفوا في
تصور ارتداد أمة محمد عليه السلام في عصر من الأعصار نفياً وإثباتاً ولا شك
في تصور ذلك عقلاً وإنما الخلاف في امتناعه سمعاً.
والمختار امتناعه
لقوله عليه السلام: " أمتي لا تجتمع على ضلالة أمتي لا تجتمع على الخطأ "
إلى غير ذلك من الأحاديث السابقة الدالة على عصمة الأمة عن فعل الخطأ
والضلال.
فإن قيل: حال ارتدادهم ليس هم من أمته عليه السلام فلا تكون الأخبار متناولة لهم.
قلنا:
الأخبار دالة على أن أمة محمد لا يصدق عليهم الاتفاق على الخطأ وإذا ارتدت
الأمة صدق قول القائل إن أمة محمد قد اتفقت على الردة والردة عين الخطأ
وذلك ممتنع.
المسألة الخامسة والعشرون اختلف العلماء في دية اليهودي:
فمنهم من قال إنها مثل دية المسلم ومنهم من قال إنها على النصف منها ومنهم
من قال إنها على الثلث.
فمن حصرها في الثلث كالشافعي رحمة الله عليه
اختلفوا فيه فظن بعض الفقهاء أنه متمسك في ذلك بالإجماع وليس كذلك بل الحصر
في الثلث مشتمل على وجوب الثلث ونفي الزيادة فوجوب الثلث مجمع عليه ولا
خلاف فيه وأما نفي الزيادة فغير مجمع عليه لوقوع الخلاف فيه بل نفيه عند من
نفى إنما هو مستند إما إلى ظهور دليل في نظره بنفيه من وجود مانع أو فوات
شرط أو عدم المدارك والاعتماد على استصحاب النفي الأصلي وليس ذلك من
الإجماع في شيء.
المسألة السادسة والعشرون اختلفوا في ثبوت الإجماع بخبر
الواحد فأجازه جماعة من أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله والحنابلة
وأنكره جماعة من أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحابنا كالغزالي مع اتفاق الكل على
أن ما ثبت بخبر الواحد لا يكون إلا ظنياً في سنده وإن كان قطعياً في متنه
وحجة من قال بجوازه النص والقياس: أما النص فقوله عليه السلام: " نحن نحكم
بالظاهر والله يتولى السرائر " ذكر الظاهر بالألف واللام المستغرقة فدخل
فيه الإجماع الثابت بخبر الواحد لكونه ظاهراً ظنياً.
وأما القياس فهو أن خبر الواحد عن الإجماع مفيد للظن فكان حجة كخبره عن نص الرسول.
وحجة
المانعين من ذلك أن كون الإجماع المنقول على لسان الآحاد أصل من أصول
الفقه كالقياس وخبر الواحد عن الرسول وذلك مما لم يرد من الأمة فيه إجماع
قاطع يدل على جواز الاحتجاج به ولا نص قاطع من كتاب أو سنة وما عدا ذلك من
الظواهر فغير محتج بها في الأصول وإن احتج بها في الفروع وبالجملة فالمسألة
دائرة على اشتراط كون دليل الأصل مقطوعاً به وعلى عدم اشتراطه فمن اشترط
القطع منع أن يكون خبر الواحد مفيداً في نقل الإجماع ومن لم يشترط ذلك كان
الإجماع المنقول على لسان الآحاد عنده حجة والظهور في هذه المسألة للمعترض
من الجانبين دون المستدل فيها.
المسألة السابعة والعشرون اختلفوا في
تكفير جاحد الحكم المجمع عليه فأثبته بعض الفقهاء وأنكره الباقون مع
اتفاقهم على أن إنكار حكم الإجماع الظني غير موجب للتكفير.
والمختار
إنما هو التفصيل وهو أن حكم الإجماع إما أن يكون داخلاً في مفهوم اسم
الإسلام كالعبادات الخمس ووجوب اعتقاد التوحيد والرسالة أو لا يكون كذلك
كالحكم بحل البيع وصحة الإجازة ونحوه فإن كان الأول فجاحده كافر لمزايلة
حقيقة الإسلام له وإن كان الثاني فلا.
خاتمة فيما يكون الإجماع حجة فيه وما لا يكون وأن الإجماع في الأديان السالفة كان حجة أم لا.
أما
الأول فهو أن المجمع عليه لا يخلو إما أن تكون صحة الإجماع متوقفة عليه أو
لا يكون كذلك فإن كان الأول فالاحتجاج بالإجماع على ذلك الشيء يكون
ممتنعاً لتوقف صحة كل واحد منهما على الآخر وهو دور وذلك كالاستدلال على
وجود الرب تعالى وصحة رسالة النبي عليه السلام من حيث إن صحة الإجماع
متوقفة على النصوص الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ كما سبق تقريره وصحة
النصوص متوقفة على وجود الرب المرسل وكون محمد رسولاً فإذا توقفت معرفة
وجود الرب ورسالة رسوله محمد على صحة الإجماع كان دوراً.
وإن كان من
القسم الثاني فالمجمع عليه إما أن يكون من أمور الدين أو الدنيا فإن كان من
أمور الدين فهو حجة مانعة من المخالفة إن كان قطعياً من غير خلاف عند
القائلين بالإجماع وسواء كان ذلك المتفق عليه عقلياً كرؤية الرب لا في جهة
ونفي الشريك لله تعالى أو شرعياً كوجوب الصلاة والزكاة ونحوه.
وأما إن
كان المجمع عليه من أمور الدنيا كالإجماع على ما يتفق من الآراء في الحروب
وترتيب الجيوش وتدبير أمور الرعية فقد اختلف فيه قول القاضي عبد الجبار
بالنفي والإثبات: فقال تارة بامتناع مخالفته وتارة بالجواز وتابعه على كل
واحد من القولين جماعة.
والمختار إنما هو المنع من المخالفة وإنه حجة
لازمة لأن العمومات الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ ووجوب اتباعهم فيما
أجمعوا عليه عامة في كل ما أجمعوا عليه.
وأما أن الإجماع في الأديان
السالفة كان حجة أم لا فقد اختلف فيه الأصوليون والحق في ذلك أن إثبات ذلك
أو نفيه مع الاستغناء عنه لم يدل عليه عقل ولا نقل فالحكم بنفيه أو إثباته
متعذر وهذا آخر في الكلام الإجماع.بسم الله الرحمن الرحيم
الأصل الرابع
فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع
وهو
نوعان يتعلق أحدهما بالنظر في السند والآخر بالنظر في المتن النوع الأول
النظر في السند وهو الإخبار عن المتن ويشتمل على ثلاثة أبواب:
الباب الأولنوعان يتعلق أحدهما بالنظر في السند والآخر بالنظر في المتن النوع الأول
النظر في السند وهو الإخبار عن المتن ويشتمل على ثلاثة أبواب:
في حقيقة الخبر وأقسامه
أما
حقيقة الخبر فاعلم أولاً أن اسم الخبر قد يطلق على الإشارات الحالية
والدلائل المعنوية كما في قولهم عيناك تخبرني بكذا والغراب يخبر بكذا ومنه
قول الشاعر:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
وقد يطلق على قول مخصوص لكنه مجاز في الأول وحقيقة في الثاني بدليل تبادره إلى الفهم من إطلاق لفظ الخبر.
والغالب
إنما هو اشتهار استعمال اللفظ في حقيقته دون مجازه ثم القول المخصوص قد
يطلق على الصيغة كقول القائل قام زيد وقعد عمرو وقد يطلق على المعنى القائم
بالنفس المعبر عنه بالصيغة كما قررناه في الكلاميات.
والأشبه أنه في
اللغة حقيقة في الصيغة لتبادرها إلى الفهم من إطلاق لفظ الخبر وإذا عرف
مسمى الخبر حقيقة فما حده؟ اختلفوا فيه: فمن أصحابنا من قال: لا سبيل إلى
تحديده بل معناه معلوم بضرورة العقل ودل على ذلك بأمرين.
الأول أن كل
أحد يعلم بالضرورة أنه موجود وأنه ليس بمعدوم وأن الشيء الواحد لا يكون
موجوداً معدوماً ومطلق الخبر جزء من معنى الخبر الخاص والعلم بالكل موقوف
على العلم بالجزء فلو كان تصور ماهية مطلق الخبر موقوفاً على الاكتساب لكان
تصور الخبر الخاص أولى أن يكون كذلك.
الثاني أن كل أحد يعلم بالضرورة
الموضع الذي يحسن فيه الخبر عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر ولولا أن هذه
الحقائق متصورة لما كان كذلك وهو ضعيف.
أما قوله إنه معلوم بالضرورة
فدعوى مجردة وهي مقابلة بنقيضها وما ذكره من الدلالة على ذلك فهو دليل على
أن العلم به غير ضروري لأن الضروري هو الذي لا يفتقر في العلم به إلى نظر
ودليل يوصل إليه وما يفتقر إلى ذلك فهو نظري لا ضروري.
فإن قيل: ما
ذكرناه إنما هو بطريق التنبيه لا بطريق الدلالة لأن من الضروريات ما يفتقر
إلى نوع تذكير وتنبيه على ما علم في مواضعه فهو باطل من وجهين: الأول أنه
لو قيل ذلك لأمكن دعوى الضرورة في كل علم نظري وأن ما ذكروه من الدليل إنما
هو بطريق التنبيه دون الدلالة وهو محال.
الثاني أن ما ذكره في معرض التنبيه غير مفيد أما الوجه الأول فهو باطل من وجهين:
حقيقة الخبر فاعلم أولاً أن اسم الخبر قد يطلق على الإشارات الحالية
والدلائل المعنوية كما في قولهم عيناك تخبرني بكذا والغراب يخبر بكذا ومنه
قول الشاعر:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
وقد يطلق على قول مخصوص لكنه مجاز في الأول وحقيقة في الثاني بدليل تبادره إلى الفهم من إطلاق لفظ الخبر.
والغالب
إنما هو اشتهار استعمال اللفظ في حقيقته دون مجازه ثم القول المخصوص قد
يطلق على الصيغة كقول القائل قام زيد وقعد عمرو وقد يطلق على المعنى القائم
بالنفس المعبر عنه بالصيغة كما قررناه في الكلاميات.
والأشبه أنه في
اللغة حقيقة في الصيغة لتبادرها إلى الفهم من إطلاق لفظ الخبر وإذا عرف
مسمى الخبر حقيقة فما حده؟ اختلفوا فيه: فمن أصحابنا من قال: لا سبيل إلى
تحديده بل معناه معلوم بضرورة العقل ودل على ذلك بأمرين.
الأول أن كل
أحد يعلم بالضرورة أنه موجود وأنه ليس بمعدوم وأن الشيء الواحد لا يكون
موجوداً معدوماً ومطلق الخبر جزء من معنى الخبر الخاص والعلم بالكل موقوف
على العلم بالجزء فلو كان تصور ماهية مطلق الخبر موقوفاً على الاكتساب لكان
تصور الخبر الخاص أولى أن يكون كذلك.
الثاني أن كل أحد يعلم بالضرورة
الموضع الذي يحسن فيه الخبر عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر ولولا أن هذه
الحقائق متصورة لما كان كذلك وهو ضعيف.
أما قوله إنه معلوم بالضرورة
فدعوى مجردة وهي مقابلة بنقيضها وما ذكره من الدلالة على ذلك فهو دليل على
أن العلم به غير ضروري لأن الضروري هو الذي لا يفتقر في العلم به إلى نظر
ودليل يوصل إليه وما يفتقر إلى ذلك فهو نظري لا ضروري.
فإن قيل: ما
ذكرناه إنما هو بطريق التنبيه لا بطريق الدلالة لأن من الضروريات ما يفتقر
إلى نوع تذكير وتنبيه على ما علم في مواضعه فهو باطل من وجهين: الأول أنه
لو قيل ذلك لأمكن دعوى الضرورة في كل علم نظري وأن ما ذكروه من الدليل إنما
هو بطريق التنبيه دون الدلالة وهو محال.
الثاني أن ما ذكره في معرض التنبيه غير مفيد أما الوجه الأول فهو باطل من وجهين:
الأول
أن علم الإنسان بوجود نفسه وإن كان ضرورياً وكذلك العلم باستحالة كون
الشيء الواحد موجوداً معدوماً معاً فغايته أنه علم ضروري بنسبة خاصة أو
بسلب نسبة خاصة ولا يلزم منه أن يكون ذلك علماً بحقيقة الخبر من حيث هو خبر
وهو محل النزاع.
فإن قيل: إذا كانت تلك النسبة الخاصة معلومة بالضرورة
فلا معنى لكون ذلك المعلوم خبراً سوى تلك النسبة الخاصة فهو عود إلى
التحديد وترك لما قيل.
الثاني إنا وإن سلمنا أن مثل هذه الأخبار الخاصة
معلومة بالضرورة فلا يلزم أن يكون الخبر المطلق من حيث هو خبر كذلك قوله
لأن الخبر المطلق جزء من الخبر الخاص ليس كذلك لأن الخبر المطلق أعم من
الخبر الخاص فلو كان جزءاً من معنى الخبر الخاص لكان الأعم منحصراً في
الأخص وهو محال.
فإن قيل: الأعم لا بد وأن يكون مشتركاً فيه بين الأمور الخاصة التي تحته ولا معنى لاشتراكها فيه سوى كونه جزءاً من معناها.
قلنا:
أما أولاً فإنه لا معنى لكون الأعم مشتركاً فيه أنه موجود في الأنواع أو
الأشخاص التي هي أخص منه بل بمعنى لحد أن حد الطبيعة التي عرض لها إن كانت
كلية مطلقة مطابق طبائع الأمور الخاصة تحتها وأما ثانياً فلأنه ليس كل عام
يكون جزءاً من معنى الخاص ومقوماً له بجواز أن يكون من الأعراض العامة
الخارجة عن مفهوم المعنى الخاص كالأسود والأبيض بالنسبة إلى ما تحتهما من
معنى الإنسان والفرس ونحوه.
وأما الوجه الثاني فباطل أيضاً من جهة أن
العلم الضروري إنما هو واقع بالتفرقة بين ما يحسن فيه بيان الأمر وبيان ما
يحسن فيه الخبر بعد معرفة الأمر والخبر أما قبل ذلك فهو غير مسلم نعم غاية
ما في ذلك أنه يعلم التفرقة بين ما يجده في نفسه من طلب الفعل والنسبة بين
أمرين على وجه خاص وليس هو العلم بحقيقة الأمر والخبر فإن قيل إنه لا معنى
للأمر والخبر سوى ذلك المعلوم الخاص فهو أيضاً عود إلى التحديد كيف وإن ما
ذكره يوجب أن يكون الأمر أيضاً مستغنياً عن التحديد كاستغناء الخبر وهذا
القائل بعينه قد عرف الأمر بالتحديد حيث قال: الأمر هو طلب الفعل بالقول
على سبيل الاستعلاء وأيضاً فإن الكلام إنما هو واقع في مفهوم الخبر اللفظي
وحقائق أنواع الألفاظ وانقسامها إلى أمر ونهى وخبر وغير ذلك مما لا سبيل
إلى القول بكونه معلوماً بالضرورة لكونه مبنياً على الوضع والاصطلاح.
ولهذا
فإن العرب لو أطلقوا اسم الأمر على المفهوم من الخبر الآن واسم الخبر على
مفهوم الأمر لما كان ممتنعاً وما يتبدل ويختلف باختلاف الاصطلاحات فالعلم
بمعناه لا يكون ضرورياً وإذا عرف ذلك فقد أجمع الباقون على أن العلم بمفهوم
الخبر إنما يعرف بالحد والنظر لكن اختلفوا في حده فقالت المعتزلة كالجبائي
وابنه وأبي عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وغيرهم: إن الخبر هو
الكلام الذي يدخله الصدق والكذب وقد أورد عليه إشكالات أربعة: الأول أنه
منتقض بقول القائل: محمد ومسيلمة صادقان في دعوى النبوة ولا يدخله الصدق
وإلا كان مسيلمة صادقاً ولا الكذب وإلا كان محمد كاذباً وهو خبر وكذلك فإن
من كذب في جميع أخباره فقال: جميع أخباري كذب فإن قوله هذا خبر ولا يدخله
الصدق وإلا كانت جميع أخباره كذباً وهو من جملة أخباره ولا يدخله الكذب
وإلا كانت جميع أخباره مع هذا الخبر كذباً وصدق في قوله جميع أخباري كذب.
الثاني
أن تعريف الخبر بما يدخله الصدق والكذب يقضي إلى الدور لأن تعريف الصدق
والكذب متوقف على معرفة الخبر من حيث إن الصدق هو الخبر الموافق للمخبر
والكذب بضده وهو ممتنع.
الثالث إن الصدق والكذب متقابلان ولا يتصور
اجتماعهما في خبر واحد ويلزم من ذلك إما امتناع وجود الخبر مطلقاً وهو محال
وإما وجود الخبر مع امتناع اجتماع دخول الصدق والكذب فيه فيكون المحدود
متحققاً دون ما قيل بكونه حداً له وهو أيضاً محال.
الرابع أن الباري تعالى له خبر ولا يتصور دخول الكذب فيه.
وقد
أجاب الجبائي عن قول القائل محمد ومسيلمة صادقان بأن هذا الكلام يفيد صدق
أحدهما في حال صدق الآخر فكأنه قال أحدهما صادق حال صدق الآخر ولو قال ذلك
كان قوله كاذباً فكذلك إذا قال هما صادقان وهو إنما يصح أن لو كان معنى هذا
الكلام ما قيل وليس كذلك بل قوله هما صادقان أعم من كون أحدهما صادقاً حال
صدق الآخر وقبله وبعده والأعم غير مشعر بالأخص ول
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وعن الوجه الأول من المعقول: أنا لا نسلم أن من أخبر عن كون زيد في
الدار على اعتقاد أنه ليس فيها وهو فيها أن خبره لا يكون صادقاً وإن كان لا
يستحق المدح على الصدق وكذلك لا نسلم أن من أخبر بأن زيداً في الدار على
اعتقاد كونه فيها ولم يكن فيها أنه ليس كاذباً وإن كان لا يستحق الذم على
كذبه لأن المدح والذم ليس على نفس الصدق والكذب لا غير بل على الصدق مع
قصده والكذب مع قصده ولهذا فإن الأمة حاكمة بأن الكافر الذي علم منه اعتقاد
بطلان رسالة محمد عليه السلام صادق بإخباره بنبوة محمد لما كان خبره
مطابقاً للمخبر وإن لم يكن معتقداً لذلك ولا قاصداً للصدق وحاكمة بكذبه في
إخباره أنه ليس برسول وإن كان معتقداً لما أخبر به لما كان خبره غير مطابق
للمخبر وأما تخصيص عموم خبر القرآن وتقييد مطلقه فإنما لم يكن كذباً وإن لم
يكن الخبر محمولاً على ظاهره من العموم والإطلاق لأنه مصروف عن حقيقته إلى
مجازه وصرف اللفظ عن أحد مدلوليه إلى الآخر لا يكون كذباً وسواء كان ذلك
اللفظ من قبيل الألفاظ المشتركة أو المجازية ولهذا فإن من أخبر بلفظ مشترك
وأراد به بعض مدلولاته دون البعض كما لو قال رأيت عيناً وأراد به العين
الجارية دون الباصرة وبالعكس فإنه لا يعد كاذباً وكذلك من أخبر بلفظ هو
حقيقة في شيء ومجاز في شيء وأراد جهة المجاز دون الحقيقة فإنه لا يعد
كاذباً وذلك كما لو قال رأيت أسداً وأراد به المحمل المجازي دون الحقيقي
وهو الإنسان.
وعن الوجه الثاني أنه لا يلزم من انقسام الاعتقاد إلى علم
وجهل مركب وحالة متوسطة ليست علماً ولا جهلاً مركباً انقسام الخبر إلى صدق
وكذب وما ليس بصدق ولا كذب إذ هو قياس تمثيلي من غير جامع ولو كان ذلك
كافياً لوجب أن يقال إنه أيضاً يلزم من ذلك أن يكون بين النفي والإثبات
واسطة وهو محال.
وبالجملة فالنزاع في هذه المسألة لفظي حيث إن أحد الخصمين يطلق اسم الصدق والكذب على ما لا يطلقه الآخر إلا بشرط زائد.
القسمة الثانية إن الخبر ينقسم إلى ما يعلم صدقه وإلى ما يعلم كذبه وإلى ما لا يعلم صدقه ولا كذبه.
فأما
ما يعلم صدقه فمنه ما يعلم صدقه بمجرد الخبر كخبر التواتر وما يعلم صدقه
لا بنفس الخبر بل بدليل يدل على كونه صادقاً كخبر الله وخبر الرسول فيما
يخبر به عن الله تعالى وخبر أهل الإجماع وخبر من أخبر الله تعالى عنه أو
رسوله أو أهل الإجماع أنه صادق وخبر من وافق خبره خبر الصادق أو دليل العقل
وأما ما وراء ذلك مما ادعي أنه معلوم الصدق ففيه اختلاف وتفصيل يأتي ذكره
في أخبار الآحاد.
وأما ما يعلم كذبه فما كان مخالفاً لضرورة العقل أو
النظر أو الحس أو أخبار التواتر أو النص القاطع أو الإجماع القاطع أو ما
صرح الجمع الذين لا يتصور تواطؤهم على الكذب بتكذيبه ومن ذلك قول من لم
يكذب قط فيما أخبر به أنا كاذب فخبره ذلك كاذب لأن المخبر عنه ليس هو نفس
هذا الخبر لأن الخبر يجب أن يكون غير المخبر عنه ولا ما لم يوجد من أخباره
فإنها لا توصف بصدق ولا كذب فلم يبق غير الأخبار السالفة وقد كان صادقاً
فيها فخبره عنها بأنه كاذب فيها يكون كذباً وقد اختلف في أخبار قيل إنها
معلومة الكذب وسيأتي الكلام فيها بعد هذا في أخبار الآحاد.
وأما ما لا
يعلم صدقه ولا كذبه فمنه ما يظن صدقه ككثير من الأخبار الواردة في أحكام
الشرائع والعادات ممن هو مشهور بالعدالة والصدق ومنه ما يظن كذبه كخبر من
اشتهر بالكذب ومنه ما هو غير مظنون الصدق ولا الكذب بل مشكوك فيه كخبر من
لم يعلم حاله ولم يشتهر أمره بصدق ولا كذب.
فإن قيل كل خبر لم يقم
الدليل على صدقه قطعاً فهو كاذب لأنه لو كان صادقاً لما أخلانا الله تعالى
عن نصب دليل يدل عليه ولهذا فإن المتحدي بالنبوة إذا لم تظهر على يده معجزة
تدل على صدقه فإنا نقطع بكذبه قلنا: جوابه من ثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم
امتناع الخلو من نصب دليل يدل على صدقه بتقدير أن يكون صادقاً في نفس الأمر
ومن أوجب ذلك فإنما بناه على وجوب رعاية الصلاح أو الأصلح وقد أبطلناه في
علم الكلام.
الثاني أنه مقابل بمثله وهو أن يقال: ولو كان كاذباً لما أخلانا الله تعالى عن نصب دليل يدل على كذبه.
الثالث
أنه يلزم مما ذكروه أن يقطع بكذب كل شاهد لم يقم الدليل القاطع على صدقه
وكفر كل مسلم وفسقه إذا لم يقم دليل قاطع على إيمانه وعدالته وهو محال.
وأما
المتحدي بالرسالة إذا لم تظهر المعجزة الدالة على صدقه إنما قطعنا بكذبه
بالنظر إلى العادة لا بالنظر إلى العقل وذلك لأن الرسالة عن الله تعالى على
خلاف العادة والعادة تقضي بكذب من يدعي ما يخالف العادة من غير دليل ولا
كذلك الصدق في الأخبار عن الأمور المحسوسة لأنه غير مخالف للعادة.
القسمة
الثالثة إن الخبر ينقسم إلى متواتر وآحاد ولما كان النظر في كل واحد من
هذين القسمين هو المقصود الأعظم من هذا النوع وجب رسم الباب الثاني في
المتواتر والباب الثالث في الآحاد.الباب الثاني
في المتواتر
ويشتمل على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي بيان معنى التواتر والمتواتر.
أما
التواتر في اللغة فعبارة عن تتابع أشياء واحداً بعد واحد بينهما مهلة ومنه
قوله تعالى: " ثم أرسلنا رسلنا تترى " " المؤمنون 44 " أي واحداً بعد واحد
بمهلة.
وأما في اصطلاح الأصوليين فقد قال بعض أصحابنا إنه عبارة عن خبر
جماعة بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم وهو غلط فإن ما ذكره إنما
هو حد الخبر المتواتر لا حد نفس التواتر وفرق بين التواتر والمتواتر وإنما
التواتر في اصطلاح المتشرعة عبارة عن تتابع الخبر عن جماعة مفيد للعلم
بمخبره.
وأما المتواتر فقد قال بعض أصحابنا أيضاً إنه الخبر المفيد
للعلم اليقيني بمخبره وهو غير مانع لدخول خبر الواحد الصادق فيه كيف وفيه
زيادة لا حاجة إليها وهي قوله العلم اليقيني فإن أحدهما كاف عن الآخر.
والحق
أن المتواتر في اصطلاح المتشرعة عبارة عن خبر جماعة مفيد بنفسه للعلم
بمخبره فقولنا خبر كالجنس للمتواتر والآحاد وقولنا جماعة احتراز عن خبر
الواحد وقولنا مفيد للعلم احتراز عن خبر جماعة لا يفيد العلم فإنه لا يكون
متواتراً وقولنا بنفسه احتراز عن خبر جماعة وافق دليل العقل أو دل قول
الصادق على صدقهم كما سبق وقولنا بمخبره احتراز عن خبر جماعة أفاد العلم
بخبرهم لا بمخبره فإنه لا يسمى متواتراً.
وإذ أتينا على بيان المقدمة فلا بد من ذكر المسائل المتعلقة بخبر التواتر وهي ست مسائل.
المسألة
الأولى اتفق الكل على أن خبر التواتر مفيد للعلم بمخبره خلافاً للسمنية
والبراهمة في قولهم: لا علم في غير الضروريات إلا بالحواس دون الأخبار
وغيرها ودليل ذلك ما يجده كل عاقل من نفسه من العلم الضروري بالبلاد
النائية والأمم السالفة والقرون الخالية والملوك والأنبياء والأئمة
والفضلاء المشهورين والوقائع الجارية بين السلف الماضين بما يرد علينا من
الأخبار حسب وجداننا كالعلم بالمحسوسات عند إدراكنا لها بالحواس ومن أنكر
ذلك فقد سقطت مكالمته وظهر جنونه أو مجاحدته.
فإن قيل ما ذكرتموه فرع
تصور اجتماع الخلق الكثير والجم الغفير على الإخبار بخبر واحد وذلك غير
مسلم مع اختلافهم في الأمزجة والآراء والأغراض وقصد الصدق والكذب كما لا
يتصور اتفاق أهل بلد من البلاد على حب طعام واحد معين وحب الخير أو الشر
وإن سلمنا تصور اتفاق الخلق الكثير على الإخبار بشيء واحد إلا أن كل واحد
منهم يجوز أن يكون كاذباً في خبره بتقدير انفراده كما يجوز عليه الصدق فلو
امتنع ذلك عليه حالة الاجتماع لانقلب الجائز ممتنعاً وهو محال وإذا جاز ذلك
على كل واحد واحد والجملة لا تخرج عن الآحاد كان خبر الجملة جائز الكذب
وما يجوز أن يكون كاذباً لا يكون العلم بما يخبر به واقعاً وإن سلمنا أنه
لا يلزم أن ما ثبت للآحاد يكون ثابتاً للجملة غير أن القول بحصول العلم
بخبر التواتر يلزم منه أمر ممتنع فيمتنع وبيانه من ستة أوجه: الأول أنه لو
جاز أن تخبر جماعة بما يفيد العلم لجاز على مثلهم الخبر بنقيض خبرهم كما لو
أخبر الأولون بأن زيداً كان في وقت كذا ميتاً ونقل الآخرون حياته في ذلك
الوقت بعينه فإن حصل العلم بالخبرين لزم اجتماع العلم الضروري بموته وحياته
في وقت واحد معين وهو محال وإن حصل العلم بأحد الخبرين دون الآخر فلا
أولوية مع فرض تساوي المخبرين في الكمية والكيفية.
أما
التواتر في اللغة فعبارة عن تتابع أشياء واحداً بعد واحد بينهما مهلة ومنه
قوله تعالى: " ثم أرسلنا رسلنا تترى " " المؤمنون 44 " أي واحداً بعد واحد
بمهلة.
وأما في اصطلاح الأصوليين فقد قال بعض أصحابنا إنه عبارة عن خبر
جماعة بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم وهو غلط فإن ما ذكره إنما
هو حد الخبر المتواتر لا حد نفس التواتر وفرق بين التواتر والمتواتر وإنما
التواتر في اصطلاح المتشرعة عبارة عن تتابع الخبر عن جماعة مفيد للعلم
بمخبره.
وأما المتواتر فقد قال بعض أصحابنا أيضاً إنه الخبر المفيد
للعلم اليقيني بمخبره وهو غير مانع لدخول خبر الواحد الصادق فيه كيف وفيه
زيادة لا حاجة إليها وهي قوله العلم اليقيني فإن أحدهما كاف عن الآخر.
والحق
أن المتواتر في اصطلاح المتشرعة عبارة عن خبر جماعة مفيد بنفسه للعلم
بمخبره فقولنا خبر كالجنس للمتواتر والآحاد وقولنا جماعة احتراز عن خبر
الواحد وقولنا مفيد للعلم احتراز عن خبر جماعة لا يفيد العلم فإنه لا يكون
متواتراً وقولنا بنفسه احتراز عن خبر جماعة وافق دليل العقل أو دل قول
الصادق على صدقهم كما سبق وقولنا بمخبره احتراز عن خبر جماعة أفاد العلم
بخبرهم لا بمخبره فإنه لا يسمى متواتراً.
وإذ أتينا على بيان المقدمة فلا بد من ذكر المسائل المتعلقة بخبر التواتر وهي ست مسائل.
المسألة
الأولى اتفق الكل على أن خبر التواتر مفيد للعلم بمخبره خلافاً للسمنية
والبراهمة في قولهم: لا علم في غير الضروريات إلا بالحواس دون الأخبار
وغيرها ودليل ذلك ما يجده كل عاقل من نفسه من العلم الضروري بالبلاد
النائية والأمم السالفة والقرون الخالية والملوك والأنبياء والأئمة
والفضلاء المشهورين والوقائع الجارية بين السلف الماضين بما يرد علينا من
الأخبار حسب وجداننا كالعلم بالمحسوسات عند إدراكنا لها بالحواس ومن أنكر
ذلك فقد سقطت مكالمته وظهر جنونه أو مجاحدته.
فإن قيل ما ذكرتموه فرع
تصور اجتماع الخلق الكثير والجم الغفير على الإخبار بخبر واحد وذلك غير
مسلم مع اختلافهم في الأمزجة والآراء والأغراض وقصد الصدق والكذب كما لا
يتصور اتفاق أهل بلد من البلاد على حب طعام واحد معين وحب الخير أو الشر
وإن سلمنا تصور اتفاق الخلق الكثير على الإخبار بشيء واحد إلا أن كل واحد
منهم يجوز أن يكون كاذباً في خبره بتقدير انفراده كما يجوز عليه الصدق فلو
امتنع ذلك عليه حالة الاجتماع لانقلب الجائز ممتنعاً وهو محال وإذا جاز ذلك
على كل واحد واحد والجملة لا تخرج عن الآحاد كان خبر الجملة جائز الكذب
وما يجوز أن يكون كاذباً لا يكون العلم بما يخبر به واقعاً وإن سلمنا أنه
لا يلزم أن ما ثبت للآحاد يكون ثابتاً للجملة غير أن القول بحصول العلم
بخبر التواتر يلزم منه أمر ممتنع فيمتنع وبيانه من ستة أوجه: الأول أنه لو
جاز أن تخبر جماعة بما يفيد العلم لجاز على مثلهم الخبر بنقيض خبرهم كما لو
أخبر الأولون بأن زيداً كان في وقت كذا ميتاً ونقل الآخرون حياته في ذلك
الوقت بعينه فإن حصل العلم بالخبرين لزم اجتماع العلم الضروري بموته وحياته
في وقت واحد معين وهو محال وإن حصل العلم بأحد الخبرين دون الآخر فلا
أولوية مع فرض تساوي المخبرين في الكمية والكيفية.
الثاني أنه لو حصل
العلم بخبر الجماعة الكثيرة لحصل العلم بما ينقله اليهود عن موسى والنصارى
عن عيسى من الأمور المكذبة لرسالة نبينا التي دلت المعجزة القاطعة على صدقه
فيها ووجوب علمنا بها واجتماع علمين متناقضين محال.
الثالث أنه لو حصل
العلم الضروري بخبر التواتر لما خالف في نبوة نبينا أحد لأن ما علم
بالضرورة لا يخالف وحيث وقع الخلاف في ذلك من الخلق الكثير علمنا أن خبر
التواتر لا يفيد العلم.
الرابع أنه لو كان العلم الضروري حاصلاً بخبر
التواتر لما وقع التفاوت بين علمنا بما أخبر به أهل التواتر من وجود بعض
الملوك وعلمنا بأنه لا واسطة بين النفي والإثبات واستحالة اجتماع الضدين
وأن الجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين لأن الضروريات لا تختلف ولا
يخفى وجه الاختلاف في سكون النفس إليهما.
الخامس هو أن ما يحصل من
الاعتقاد الجازم بما يخبر به أهل التواتر لا يزيد على الاعتقاد الجازم بأن
ما شاهدناه بالأمس من وجود الأفلاك الدائرة والكواكب السيارة والجبال
الشامخة أنه الذي نشاهده اليوم مع جواز أن يكون الله تعالى قد أعدم ذلك وما
نشاهده الآن قد خلقه الله تعالى على مثاله فإذا لم يكن هذا يقينياً فما لا
يزيد عليه في الجزم والاعتقاد أيضاً لا يكون يقينياً.
السادس أنه لو كان العلم الضروري حاصلاً من خبر التواتر لما خالفناكم فيه لأن الضروري لا يخالف والجواب من جهة الإجمال والتفصيل.
أما الإجمال فهو أن ما ذكروه تشكيك على ما علم بالضرورة فلا يكون مقبولاً وأما التفصيل.
فأما السؤال الأول فجوابه بما سبق في بيان تصور الإجماع فيما تقدم.
وأما
السؤال الثاني فلأنه لا يلزم أن ما كان ثابتاً لآحاد الجملة وجائزاً عليها
أن يكون ثابتاً للجملة وجائزاً عليها ولهذا فإنه ما من واحد من معلومات
الله إلا وهو متناه وجملة معلوماته غير متناهية وكذلك كل واحد من آحاد
الجملة فإنه جزء من الجملة والجملة ليست جزءاً من الجملة وكذلك كل لبنة أو
خشبة داخلة في مسمى الدار وهي جزء منها وليست داراً والمجتمع من الكل دار
وكذلك العشرة مركبة من خمسة وخمسة وكل واحدة من الخمستين ليست عشرة
والمجموع منهما عشرة ونحوه.
وأما ما ذكروه في السؤال الثالث من الإلزام
الأول فهو فرض محال فإنه مهما أخبر جمع بما يحصل منه العلم بالمخبر فيمتنع
إخبار مثلهم في الكمية والكيفية وقرائن الأحوال بما يناقض ذلك.
وأما
الإلزام الثاني فإنما يصح أن لو قلنا إن العلم يحصل من خبر كل جماعة وإن
خبر كل جماعة تواتر وليس كذلك وإنما دعوانا أن العلم قد يحصل من خبر
الجماعة ولا يلزم أن يكون خبر كل جماعة محصلاً للعلم.
وأما الإلزام
الثالث فغير صحيح لأن التواتر إنما يفيد العلم في الإخبار عن المحسوسات
والمشاهدات والنبوة حكم فلذلك لم يثبت بخبر التواتر كيف وإنا لا ندعي أن كل
تواتر يجب حصول العلم بمخبره مطلقاً لكل أحد لتفاوت الناس في السماع وقوة
الفهم والاطلاع على القرائن المقترنة بالأخبار المفيدة للعلم فمخالفة من
يخالف غير قادحة فيما ندعيه من حصول العلم به لبعض الناس.
وأما الإلزام
الرابع والخامس فإنما يصح أن لو ادعينا أن ما يحصل من العلم بخبر التواتر
من الأمور البديهية وليس كذلك بل إنما ندعي العلم العادي وعلى هذا فلا يخرج
عن كونه علماً بتقاصره عن العلوم البديهية ولا بمساواته لما قيل من العلوم
العادية.
وأما الإلزام السادس فحاصله يرجع إلى المكابرة والمجاحدة وذلك
غير متصور في العادة في خلق لا يتصور عليهم التواطؤ على الخطأ ثم لو كان
الخلاف مما يمنع من كونه علماً ضرورياً لكان خلاف السوفسطائية في حصول
العلم بالمحسوسات مما يخرجه عن كونه علماً ضرورياً وهو خلاف مذهب السمنية
وما هو اعتذارهم في خلاف السوفسطائية في العلم بالمحسوسات يكون عذراً لنا
في خلافهم لنا في المتواترات.
المسألة الثانية
اتفق الجمهور من
الفقهاء والمتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة على أن العلم الحاصل عن خبر
التواتر ضروري وقال الكعبي وأبو الحسين البصري من المعتزلة والدقاق من
أصحاب الشافعي أنه نظري وقال الغزالي إنه ضروري بمعنى أنه لا يحتاج في
حصوله إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن
وليس ضرورياً بمعنى أنه حاصل من غير واسطة كقولنا: القديم لا يكون محدثاً
والموجود لا يكون معدوماً فإنه لا بد فيه من حصول مقدمتين في النفس إحداهما
أن هؤلاء مع كثرتهم واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع الثانية
أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة ولكنه لا يفتقر إلى ترتيب المقدمتين
بلفظ منظوم ولا إلى الشعور بتوسطهما وإفضائهما إليه ومنهم من توقف في ذلك
كالشريف المرتضى من الشيعة.
وإذ أتينا على تفصيل المذاهب فلا بد من ذكر حججها والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
أما
حجج القائلين بالضرورة فأولها وهي الأقوى أنه لو كان حصول العلم بخبر
التواتر بطريق الاستدلال والنظر لما وقع ذلك لمن ليس له أهلية النظر
والاستدلال كالصبيان والعوام وهو واقع لهم لا محالة ولقائل أن يقول: لا
نسلم أن الصبيان والعوام الذين يحصل لهم العلم بخبر التواتر ليس لهم أهلية
النظر في مثل هذا العلم وإن لم يكونوا من أهل النظر فيما عداه من المسائل
الغامضة كحدوث العالم ووجود الصانع ونحوه وذلك لأن العلم النظري منقسم إلى
ما مقدماته المفضية إليه نظرية فيكون خفياً وإلى ما مقدماته المفضية إليه
نظرية فيكون خفياً وإلى ما مقدماته المفضية إليه ضرورية غير نظرية وعند ذلك
فلا يمتنع أن يكون العلم بخبر التواتر من القبيل الثاني دون الأول وعلى
هذا فلا يمتنع أن يكون العلم بأحوال المخبرين التي يتوقف عليها العلم
بمخبرهم حاصلة بالضرورة للصبيان والعوام ويكون العلم بالنتيجة اللازمة عنها
ضرورياً وإنما تتم الحجة المذكورة أن لو بين أن العلم بمخبرهم من قبيل ما
مقدماته نظرية لا ضرورية وذلك مما لا سبيل إلى بيانه.
الحجة الثانية أن
كل عاقل يجد من نفسه العلم بوجود مكة وبغداد والبلاد النائية عند خبر
التواتر بها مع أنه لا يجد من نفسه سابقة فكر ولا نظر فيما يناسبه من
العلوم المتقدمة عليه ولا في ترتيبها المفضي إليه ولو كان نظرياً لما كان
كذلك ولقائل أن يقول إنما يحتاج ذلك إلى الفكر والنظر في المقدمات وترتيبها
إن لو لم يكن العلم بتلك الأمور حاصلاً بالضرورة على ما بيناه في إبطال
الحجة الأولى وأما إذا كان حاصلاً بالضرورة فلا.
الحجة الثالثة أن العلم
بخبر التواتر لا ينتفي بالشبهة وهذه هي أمارة الضرورة ولقائل أن يقول:
المنفي بالشبهة العلم النظري الذي مقدماته نظرية أو الذي مقدماته ضرورية
الأول مسلم والثاني ممنوع.
الحجة الرابعة أنه لو كان نظرياً لأمكن
الإضراب عنه كما في سائر النظريات وحيث لم يمكن ذلك دل على كونه ضرورياً
ولقائل أن يقول: الذي يمكن الإضراب عنه من العلوم النظرية إنما هو العلم
المفتقر إلى المقدمات النظرية وأما ما لزمه من مقدمات حاصلة بالضرورة فلا.
الحجة الخامسة أنه لو كان نظرياً لوقع الخلاف فيه بين العقلاء وحيث لم يقع إلا من معاند كما سبق كان ضرورياً كالعلم بالمحسات ونحوه.
ولقائل أن يقول: تسويغ الخلاف عقلاً إنما يكون في العلوم النظرية التي مقدماتها نظرية وأما مقدماتها ضرورية فلا كما في المحسات.
وأما
حجج القائلين بالنظر فأولها وهي ما استدل بها أبو الحسين البصري أن قال
الاستدلال ترتيب علوم يتوصل بها إلى علم آخر فكلما وقف وجوده عل ترتيب فهو
نظري والعلم الواقع بخبر التواتر كذلك فكان نظرياً وذلك لأنا إنما نعلم ذلك
إذا علمنا أن المخبر لم يخبر عن رواية بل عن أمر محسوس لا لبس فيه وأنه لا
داعي له إلى الكذب فيعلم أنه لا يكون كذباً وإذا لم يكن كذباً تعين كونه
صدقاً ومهما اختل شيء من هذه الأمور لم نعلم صحة الخبر ولا معنى لكونه
نظرياً سوى ذلك.
ولقائل أن يقول: سلمنا أن النظر عبارة عما ذكر لكن لا
نسلم تحققه فيما نحن فيه وما المانع أن يكون اتفاقهم على الكذب لا لغرض مع
كونه مقدوراً لهم فإن قال بأن العادة تحيل اتفاق الجمع الكثير على الكذب لا
لغرض ومقصود.
قلنا: والعادة أيضاً تحيل اتفاقهم على الصدق لا لغرض
ومقصود فلم قلت بعدم الغرض في الصدق دون الكذب وإذا لم يكن غرض فليس الصدق
أولى من الكذب فإن قلنا: الغرض في الصدق كونه صدقاً لكونه حسناً ولا كذلك
الكذب لكونه قبيحاً فهو مبني على التحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه.
فإن
قال: المراد إنما هو التحسين والتقبيح العرفي دون العقلي ولا شك أن أهل
العرف يعدون الكذب قبيحاً والصدق حسناً قلنا: التحسين والتقبيح العرفي راجع
إلى موافقة الغرض ومخالفته وعلى هذا فلعل الكذب من حيث هو كذب فيما أخبروا
به موافق لأغراضهم دون الصدق فكان حسناً كما في اتفاقهم على الصدق في بعض
ما أخبروا به سلمنا أنهم لا يجمعون على الكذب إلا لغرض ولكن ما المانع منه؟
فإنا قد نجد الجمع الكثير متفقين على وضع الأحاديث والأخبار لحكمة عائدة
إليهم وذلك كأهل مدينة أو جيش عظيم اتفقوا على وضع خبر لا أصل له إما لدفع
مفسدة عنهم لا سبيل إلى دفعها إلا به وإما لجلب مصلحة لا تحصل إلا به وهذا
مما يغلب مثله في كل عصر وزمان حتى إن أكثر الأخبار العامة الشائعة الواقعة
في المعتاد كذلك.
فإن قال بأن ذلك وإن كان واقعاً إلا أن العادة تحيل
دوامه وتوجب انكشافه عن قرب من الزمان قلنا: فإذا آل الأمر إلى التمسك
بالعادة في استحالة اتفاقهم على الكذب دائماً فما المانع أن يقال بأن
العادة موجبة لصدق المخبرين إذا كانوا جمعاً كثيراً وحصول العلم بخبرهم
وليس القول بأن العادة تحيل اتفاقهم على الكذب ويلزم من ذلك الصدق أولى من
أن يقال العادة توجب اتفاقهم على الصدق ويلزم من ذلك امتناع اتفاقهم على
الكذب وعند ذلك فيخرج العلم بخبر التواتر عن كونه نظرياً سلمنا أنه لا بد
في حصول العلم بخبر التواتر من حصول العلم بامتناع الكذب على المخبرين ولكن
لا نسلم أن ذلك يكون كافياً في كون العلم الحاصل من التواتر نظرياً إلا أن
يكون العلم بالمقدمات قد علم معه أنها مرتبطة بالعلم الحاصل بخبر التواتر
وأنها الواسطة المفضية إليه وذلك غير مسلم الوجود فيما نحن فيه كما ذهب
إليه الغزالي.
الحجة الثانية أنه لو كان العلم بخبر التواتر ضرورياً لنا
لكنا عالمين بذلك العلم على ما هو عليه كما في سائر العلوم الضرورية وذلك
لأن حصول علم للإنسان وهو لا يشعر به محال فإذا كان ذلك العلم ضرورياً وجب
أن يعلم كونه ضرورياً وليس كذلك.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أنه إذا كان
ضرورياً لا بد وأن يعلم أنه ضروري بل جاز أن يكون أصل العلم بالمخبر
بالضرورة والعلم بصفته وهي الضرورة غير ضروري كيف وأنه معارض بأنه لو كان
نظرياً لعلمناه على صفته نظرياً على ما قرروه وليس كذلك وليس أحد الأمرين
أولى من الآخر.
الحجة الثالثة أنه لو كان العلم بخبر التواتر ضرورياً لما اختلف العقلاء فيه كما في غيره من الضروريات.
ولقائل
أن يقول: الاختلاف فيه لا يدل على أنه غير ضروري وإلا كان خلاف
السوفسطانية في حصول العلم بالضروريات مانعاً من كونها ضرورية وليس كذلك
بالاتفاق من الخصمين هاهنا بل ولكان خلاف السمنية في حصول أصل العلم بخبر
التواتر مانعاً منه وليس كذلك.
الحجة الرابعة أن خبر التواتر لا يزيد في
القوة على خبر الله تعالى وخبر رسوله بل هو مماثل أو أدنى والعلم بخبر
الله ورسوله غير حاصل بالضرورة بل بالاستدلال فما هو مثله كذلك والأدنى
أولى.
ولقائل أن يقول: حاصل ما ذكر راجع إلى التمثيل وهو غير مفيد
لليقين كما عرفناه في مواضعه كيف وإن العلم بخبر التواتر من حيث هو علم وإن
كان لا يقع التفاوت بينه وبين العلم الحاصل من خبر الله والرسول فكذلك لا
تفاوت بين العلوم الضرورية المتفق على ضروريتها كالعلم بأن لا واسطة بين
النفي والإثبات والعلم بأن الواحد أقل من الاثنين ونحوه وبين العلم الحاصل
بخبر الله وخبر رسوله من حيث إن كل واحد منهما علم ومع ذلك ما لزم من كون
العلوم الضرورية ضرورية أن يكون العلم الحاصل من خبر الله وخبر رسوله
ضرورياً ولا من كون خبر الله ورسوله غير ضروري أن تكون العلوم الضرورية غير
ضرورية وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين وتفاوت الكلام بين الطرفين فقد
ظهر أن الواجب إنما هو الوقف عن الجزم بأحد الأمرين.
المسألة الثالثة
اتفقت
الأشاعرة والمعتزلة وجميع الفقهاء على أن خبر التواتر لا يولد العلم
خلافاً لبعض الناس وقد اعتمد القائلون بامتناع ذلك على مسلكين ضعيفين:
الأول أنهم قالوا: لو كان خبر التواتر مولداً للعلم فالعلم إما أن يكون
متولداً من الخبر الأخير أو منه ومن جملة الأخبار المتقضية: فإن كان الأول
فهو محال وإلا لتولد منه بتقدير انفراده وإن كان الثاني فهو ممتنع لأن
الأخبار متعددة والمسبب الواحد لا يصدر عن سببين كما لا يكون مخلوق بين
خالقين.
ولقائل أن يقول: ما المانع أن يكون متولداً عن الخبر الأخير
مشروطاً بتقدم ما وجد من الأخبار قبله وعدمت وإن كان متولداً عن الجميع فما
المانع أن يكون متولداً عن الهيئة الاجتماعية وهي شيء واحد لا أنه متولد
عن كل واحد واحد من تلك الأخبار وهذا مما مدفع له.
نعم لو قيل إن تولده من جميع الأخبار ممتنع ضرورة أن ما تقضي من الأخبار معدوم ولا تولد عن المعدوم كان متجهاً.
المسلك
الثاني أنهم قالوا قد استقر من مذهب القائلين بالتولد أن كل ما هو طالب
لجهة من الجهات فإنه يجوز أن يتولد عنه شيء في غير محله كالاعتمادات
والحركات وما ليس كذلك لا يتولد عنه شيء في غير محله والقول والخبر ليس له
جهة فلا يتولد عنه العلم لأنه لو تولد عنه العلم لتولد في غير محله وهو
ممتنع وذلك مما لا اتجاه له مهما عرف من مذاهب الخصوم أن إرعاب الإنسان
لغيره مما يولد فيه الوجل المولد للاصفرار بعد الاحمرار وأن تهجينه له مما
يولد فيه الخجل المولد للاحمرار بعد الاصفرار وإن كان ما تولد عن القول
المرهب والمهجن في غير محله.
والمعتمد في إبطال ذلك ليس إلا ما حققناه
في أبكار الأفكار من الدليل الدال على امتناع موجود غير الله تعالى وأن كل
موجود ممكن فوجوده ليس إلا بالله تعالى فعليك باعتباره ونقله إلى هاهنا.
فإن
قيل: اختياركم في المسألة المتقدمة إنما هو الوقف عن الجزم بكون الحاصل عن
خبر التواتر ضرورياً أو نظرياً وما ذكرتموه هاهنا من كونه مخلوقاً لله
تعالى يوجب كونه اضطرارياً للعبد وهو تناقض كيف وإنه لو كان مخلوقاً لله
تعالى لأمكن حصوله عن خبر الجماعة المفروضين بسبب خلق الله تعالى له وأمكن
أن لا يحصل بسبب عدم خلقه فلما كان ذلك واجب الحصول بخبر التواتر علم أنه
غير موجود بالاختيار مباشرة بل بالتولد عما هو مباشر بالقدرة.
قلنا: أما
التناقض فمندفع فإنا سواء قلنا إن العلم مكتسب للعبد أو هو حاصل له
ضرورياً فلا يخرج بذلك عن كونه مخلوقاً لله تعالى على ما عرف من أصلنا.
قولهم:
لو كان مخلوقاً لله تعالى لأمكن أن يحصل وأن لا يحصل قلنا: ذلك ممكن عقلاً
غير أن الله تعالى قد أجرى العادة بخلقه للعلم عند خبر التواتر كما أجرى
العادة بالشبع عند أكل الخبز والري عند شرب الماء ونحوه.
المسألة
الرابعة اتفق القائلون بحصول العلم عن الخبر المتواتر على شروط واختلفوا في
شروط فأما المتفق عليه فمنها ما يرجع إلى المخبر ومنها ما يرجع إلى
المستمعين فأما ما يرجع إلى المخبرين فأربعة شروط: الأول أن يكونوا قد
انتهوا في الكثرة إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب.
الثاني أن يكونوا عالمين بما أخبروا به لا ظانين.
الثالث أن يكون علمهم مستنداً إلى الحس لا إلى دليل العقل.
الرابع أن يستوي طرفا الخبر ووسطه في هذه الشروط لأن خبر أهل كل عصر مستقل بنفسه فكانت هذه الشروط معتبرة فيه.
وأما
ما يرجع إلى المستمعين فأن يكون المستمع متأهلاً لقبول العلم بما أخبر به
غير عالم به قبل ذلك وإلا كان فيه تحصيل الحاصل غير أن من زعم أن حصول
العلم بخبر التواتر نظري شرط تقدم العلم بهذه الأمور على حصول العلم بخبر
التواتر ومن زعم أنه ضروري لم يشترط سبق العلم بهذه الأمور لأن العلم عنده
حاصل عند خبر التواتر بخلق الله تعالى فإن خلق العلم له علم أن الخبر مشتمل
على هذه الشروط وإن لم يخلق له العلم علم اختلال هذه الشروط أو بعضها
فضابط العلم بتكامل هذه الشروط حصول العلم بخبر التواتر عنده لا أن ضابط
حصول العلم بخبر التواتر سابقة حصول العلم بهذه الشروط.
ثم اختلف
هؤلاء في أقل عدد يحصل معه العلم: فقال بعضهم هو خمسة لأن ما دون ذلك
كالأربعة بينة شرعية يجوز للقاضي عرضها على المزكين بالإجماع لتحصيل غلبة
الظن ولو كان العلم حاصلاً بقول الأربعة لما كان كذلك وقد قطع القاضي أبو
بكر بأن الأربعة عدد ناقص وتشكك في الخمسة ومنهم من قال: أقل ذلك اثنا عشر
بعدد النقباء من بني إسرائيل على ما قال تعالى: " وبعثنا منهم اثني عشر
نقيباً " " المائدة 12 " وإنما خصهم بذلك العدد لحصول العلم بخبرهم ومنهم
من قال أقله عشرون تمسكاً بقوله تعالى " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا
مائتين " " الأنفال 65 " وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به.
ومنهم
من قال: أقل ذلك أربعون أخذاً من عدد أهل الجمعة ومنهم من قال: أقلهم
سبعون تمسكاً بقوله تعالى: " واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا " "
الأعراف 155 " وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به ومنهم من قال:
أقله ثلاثمائة وثلاثة عشر نظراً إلى عدد أهل بدر إنما خصوا بذلك ليعلم ما
يخبرون به للمشركين ومنهم من قال: أقل عدد يحصل به العلم معلوم لله تعالى
غير معلوم لنا وهذا هو المختار وذلك لأنا لا نجد من أنفسنا معرفة العدد
الذي حصل علمنا بوجود مكة وبغداد وغير ذلك من المتواترات عنده ولو كلفنا
أنفسنا معرفة ذلك عند توارد المخبرين بأمر من الأمور بترقب الحالة التي
يكمل علمنا فيها بعد تزايد ظننا بخبر واحد بعد واحد لم نجد إليه سبيلاً
عادة كما لم نجد من أنفسنا العلم بالحالة التي يحصل فيها كمال عقولنا بعد
نقصها بالتدريج الخفي لقصور القوة البشرية عن الوقوف على ذلك بل يحصل لنا
العلم بخبر التواتر وإن كنا لا نقف على أقل عدد أفاده كما نعلم حصول الشبع
بأكل الخبز والري بشرب الماء وإن كنا لا نقف على المقدار الذي حصل به الشبع
والري وما قيل من الأقاويل في ضبط عدد التواتر فهي مع اختلافها وتعارضها
وعدم مناسبتها وملائمتها للمطلوب مضطربة فإنه ما من عدد يفرض حصول العلم به
لقوم إلا وقد يمكن فرض خبرهم بعينه غير مفيد للعلم بالنظر إلى آخرين بل
ولو أخبروا بأعيانهم بواقعة أخرى لم يحصل بها العلم لمن حصل له العلم
بخبرهم الأول ولو كان ذلك العدد هو الضابط لحصول العلم لما اختلف وإنما وقع
الاختلاف بسبب الاختلاف في القرائن المقترنة بالخبر وقوة سماع المستمع
وفهمه وإدراكه للقرائن.
وبالجملة فضابط التواتر ما حصل العلم عنده من
أقوال المخبرين لا أن العلم مضبوط بعدد مخصوص وعلى هذا فما من عدد يفرض كان
أربعة أو ما زاد إلا ويمكن أن يحصل به العلم ويمكن أن لا يحصل ويختلف ذلك
باختلاف القرائن وما ذكر في كل صورة من أن تعيين ذلك العدد فيها إنما كان
لحصول العلم بخبرهم تحكم لا دليل عليه بل أمكن أن يكون لأغراض أخر غير ذلك
أو أن ذلك واقع بحكم الاتفاق وعلى قولنا بأن ضابط التواتر حصول العلم عنده
يمتنع الاستدلال بالتواتر على من لم يحصل له العلم منه وإنما المرجع فيه
إلى الوجدان هذا ما يرجع إلى الشرائط المعتبرة المتفق عليها وأما الشروط
المختلف فيها فستة: الأول: ذهب قوم إلى أن شرط عدد التواتر أن لا يحويهم
بلد ولا يحصرهم عدد ومذهب الباقين خلافه وهو الحق وذلك لأنه قد يحصل العلم
بخبر أهل بلد من البلاد بل بخبر الحجيج أو أهل الجامع بواقعة وقعت وحادثة
حدثت مع أنهم محصورون.
الثاني: ذهب قوم إلى اشتراط اختلاف أنساب
المخبرين وأوطانهم وأديانهم وهو فاسد لأنا لو قدرنا أهل بلد اتفقت أديانهم
وأنسابهم وأخبروا بقضية شاهدوها لم يمتنع حصول العلم بخبرهم.
الثالث:
ذهب بعضهم إلى أن شرط المخبرين أن يكونوا مسلمين عدولاً لأن الكفر عرضة
للكذب والتحريف والإسلام والعدالة ضابط الصدق والتحقيق في القول ولهذه
العلة اختص المسلمون بدلالة إجماعهم على القطع ولأنه لو وقع العلم بتواتر
خبر الكفار لوقع العلم بما أخبر به النصارى مع كثرة عددهم عن قتل المسيح
وصلبه وما نقلوه عنه من كلمة التثليث وهو باطل فإنا نجد من أنفسنا العلم
بأخبار العدد الكثير وإن كانوا كفاراً كما لو أخبر أهل قسطنطينية بقتل
ملكهم وليس ذلك إلا لأن الكثرة مانعة من التواطيء على الكذب وإن لم يكن ذلك
ممتنعاً فيما كان دون تلك الكثرة وأما الإجماع فإنما اختص علماء الإسلام
بالاحتجاج به للأدلة السمعية دون الأدلة العقلية كما سبق بخلاف التواتر
وأما أنه لم يحصل لنا العلم بما أخبر به النصارى من قتل المسيح وصلبه وكلمة
التثليث فيجب أن يكون ذلك محالاً على عدم شرط من شروط التواتر وهو إما
اختلال استواء طرفي الخبر ووسطه فيما ذكرناه من الشروط قبل أو لأنهم ما
سمعوا كلمة التثليث صريحاً بل سمعوا كلمة موهمة لذلك فنقلوا التثليث ويجب
اعتقاد ذلك نفياً للكفر عن المسيح على ما قال تعالى " لقد كفر الذين قالوا
إن الله ثالث ثلاثة " " المائدة 73 " أو لأن المسيح شبه لهم فنقلوا قتله
وصلبه ولا بعد في ذلك وإن كان الغلط فيه غير معتاد إذا وقع في زمان خرق
العوائد وهو زمان النبوة وإن كان بعيداً في غير زمانه ويجب اعتقاد ذلك
عملاً بقوله تعالى: " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " " النساء 157 " .
فإن قيل: فخرق العوائد جائز في غير زمان النبوة بكرامات الأولياء فليجز في كل ما أخبر به أهل ذلك العصر عن المحسات ووقوع الغلط فيه.
قلنا:
إن حصل لنا العلم بخبرهم علمنا استحالة الغلط عليهم وإن لم يحصل لنا العلم
به علمنا أنه قد اختل شرط من شرائط التواتر وإن لم يكن ذلك الشرط معيناً
عندنا.
الرابع: ذهب قوم إلى أن شرطه أن لا يكونوا محمولين على أخبارهم
بالسيف وهو باطل فإنهم إن حملوا على الصدق لم يمتنع حصول العلم بقولهم كما
لو لم يحملوا عليه ولهذا فإنه لو حمل الملك أهل مدينة عظيمة على الإخبار عن
أمر محس وجدنا أنفسنا عالمة بخبرهم حسب علمنا بخبرهم من غير حمل وإن حملوا
على الكذب فيمتنع حصول العلم بخبرهم لفوات شرط وهو إخبارهم عن معلوم محس.
الخامس:
شرطت الشيعة وابن الراوندي وجود المعصوم في خبر التواتر حتى لا يتفقوا على
الكذب وهو باطل أيضاً لما بيناه من أنه لو اتفق أهل بلد من بلاد الكفار
على الأخبار عن قتل ملكهم أو أخذ مدينة فإن العلم يحصل بخبرهم مع كونهم
كفاراً فضلاً عن كون الإمام المعصوم ليس فيهم ثم لو كان كذلك فالعلم يكون
حاصلاً بقول الإمام المعصوم بالنسبة إلى من سمعه لا بخبر التواتر.
السادس:
شرطت اليهود في خبر التواتر أن يكون مشتملاً على أخبار أهل الذلة والمسكنة
لأنه إذا لم يكن فيهم مثل هؤلاء فلا يؤمن تواطيهم على الكذب لغرض من
الأغراض بخلاف ما إذا كانوا أهل ذلة ومسكنة فإن خوف مؤاخذتهم بالكذب يمنعهم
من الكذب ولو صح لهم هذا الشرط لثبت غرضهم من إبطال العلم بخبر التواتر
بمعجزات عيسى ونبينا عليه السلام حيث أنهم لم يدخلوا في الأخبار بها وهم
أهل الذلة والمسكنة لكنه باطل بما نجده من أنفسنا من العلم بأخبار الأكابر
والشرفاء العظماء إذا أخبروا بأمر محس وكانوا خلقاً كثيراً بل ربما كان
حصول العلم من خبرهم أسرع من حصول العلم بخبر أهل المسكنة والذلة لترفع
هؤلاء عن رذيلة الكذب لشرفهم وقلة مبالاة هؤلاء به لخستهم.
وبالجملة لا
يمتنع أن يكون شيء من هذه الشروط إذا تحقق كان حصول العلم بخبر التواتر معه
أسرع من غيره أما أن يكون ذلك شرطاً ينتفي العلم بخبر التواتر عند انتفائه
فلا.
المسألة الخامسة
ذهب القاضي أبو بكر وأبو الحسين البصري إلى
أن كل عدد وقع العلم بخبره في واقعة لشخص لا بد وأن يكون مفيداً للعلم
بغير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص إذا سمعه وهذا إنما يصح على إطلاقه إذا
كان العلم قد حصل من نفس خبر ذلك العدد مجرداً عما احتف به من القرائن
العائدة إلى أخبار المخبرين وأحوالهم واستواء السامعين في قوة السماع للخبر
والفهم لمدلوله مع فرض التساوي في القرائن مع أن القرائن قد تفيد آحادها
الظن وبتضافرها واجتماعها العلم كما سنبينه فلا يمتنع أن يحصل العلم بمثل
ذلك العدد في بعض الوقائع للمستمع دون البعض لما اختص به من القرائن التي
لا وجود لها في غيره وبتقدير اتحاد الواقعة وقرانها لا يلزم من حصول العلم
بذلك العدد لبعض الأشخاص حصوله لشخص آخر لتفاوتهما في قوة الإدراك والفهم
للقرائن إذ التفاوت فيما بين الناس في ذلك ظاهر جداً حتى أن منهم من له قوة
فهم أدق المعاني وأغمضها في أدنى دقيقة من غير كد ولا تعب ومنهم من انتهى
في البلادة إلى حد لا قدرة له على فهم أظهر ما يكون من المعاني مع الجد
والاجتهاد في ذلك ومنهم من حاله متوسطة بين الدرجتين وهذا أمر واضح لا مراء
فيه ومع التفاوت في هذه الأمور يظهر أن ما ذكره القاضي وأبو الحسين البصري
مما لا سبيل إلى تصحيحه على إطلاقه.
المسألة السادسة إذا عرف أن
التواتر يفيد العلم بالخبر الواحد كالإخبار عن قتل ملك أو هجوم بلد كما
ذكرناه فلو بلغ عدد المخبرين إلى حد التواتر لكن اختلفت أخبارهم والوقائع
التي أخبروا عنها مع اشتراك جميع أخبارهم في معنى كلي مشترك بين مخبراتهم
فالكل مخبرون عن ذلك المعنى المشترك ضرورة إخبارهم عن جريانه إما بجهة
التضمن أو الالتزام فكان معلوماً من أخبارهم وذلك كالأخبار التي وردت خارجة
عن الحصر عن وقائع عنتر في حروبه ووقائع حاتم في هباته وضيافاته وإن
اختلفت وقائع هذه الأخبار فكلها دالة على القدر المشترك من شجاعة هذا وكرم
هذا غير أنه ربما كان حصول العلم بها مثل التواتر الأول لاتحاد لفظه ومعناه
أسرع حصولاً من الثاني لاختلاف ألفاظه وما طابقها من المعاني وإن اتحد
مدلولها من جهة التضمن أو الالتزام وهذا آخر باب التواتر.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الباب الثالث
في أخبار الآحاد
في حقيقة خبر الواحد
ومنهم من قال إنه يفيد العلم اليقيني من غير
قرينة لكن من هؤلاء من قال: ذلك مطرد في خبر كل واحد كبعض أهل الظاهر وهو
مذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ومنهم من قال إنما يوجد ذلك في
بعض أخبار الآحاد لا في الكل وإليه ذهب بعض أصحاب الحديث ومنهم من قال إنه
يفيد العلم إذا اقترنت به قرينة كالنظام ومن تابعه في مقالته.
وذهب
الباقون إلى أنه لا يفيد العلم اليقيني مطلقاً لا بقرينة ولا بغير قرينة
والمختار حصول العلم بخبره إذا احتفت به القرائن ويمتنع ذلك عادة دون
القرائن وإن كان لا يمتنع خرق العادة بأن يخلق الله تعالى لنا العلم بخبره
من غير قرينة.
أما أنه لا يفيد العلم بمجرده فقد احتج القائلون بذلك بحجج واهية لا بد من التنبيه عليها والإشارة بعد ذلك إلى ما هو المعتمد في ذلك.
الحجة
الأولى: من الحجج الواهية قولهم: لو كان خبر الواحد مفيداً للعلم لأفاد كل
خبر واحد كما أن خبر التواتر لما كان موجباً كان كل خبر متواتر كذلك.
ولقائل
أن يقول: هذا قياس تمثيلي وهو غير مفيد للعلم كيف وإن خبر التواتر قبل
العلم به ضروري غير مكتسب فلا يمتنع أن يخلقه الله تعالى عند كل تواتر
لعلمه بما يشتمل عليه من مصلحة مختصة به أو لا لمصلحة كما يشاء ويختار ومثل
ذلك غير لازم في أخبار الآحاد.
وإن قيل إنه نظري مكتسب فلا مانع من
استواء جميع أخبار التواتر فيما لا بد منه في حصول العلم ولا يلزم من ذلك
استواء جميع أخبار الآحاد في ذلك.
الحجة الثانية: أن تأثيرات الأدلة في
النفوس بحسب المؤثر ولا نجد من أنفسنا من خبر الواحد وإن بلغ الغاية في
العدالة سوى ترجح صدقه على كذبه من غير قطع وذلك غير موجب للعلم.
وهذه
الحجة في غاية الضعف لأن حاصلها يرجع إلى محض الدعوى في موضع الخلاف من غير
دلالة ومع ذلك فهي مقابلة بمثلها وهو أن يقول الخصم: وأنا أجد في نفسي
العلم بذلك وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
الحجة الثالثة: أنه لو كان خبر الواحد يوجب العلم لما روعي فيه شرط الإسلام والعدالة كما في خبر التواتر.
وحاصل
هذه الحجة أيضاً يرجع إلى التمثيل وهو غير مفيد لليقين ثم ما المانع أن
يكون حصول العلم بخبر التواتر لأن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم عنده.
إن
قيل إن العلم بخبر التواتر ضروري وذلك غير لازم في خلقه عند خبر من ليس
بمسلم ولا عدل أو أن يكون التواتر من حيث هو تواتر مشتمل على ما يوجب العلم
إن قيل بأن العلم بخبر التواتر كسبي وخبر من ليس بمسلم ولا عدل غير مشتمل
على ذلك والمعتمد في ذلك أربع حجج: الحجة الأولى: أنه لو كان خبر الواحد
الثقة مفيداً للعلم بمجرده فلو أخبر ثقة آخر بضد خبره فإن قلنا خبر كل واحد
يكون مفيداً للعلم لزم اجتماع العلم بالشيء وبنقيضه وهو محال وإن قلنا خبر
أحدهما يفيد العلم دون الآخر فإما أن يكون معيناً أو غير معين فإن كان
الأول فليس أحدهما أولى من الآخر ضرورة تساويهما في العدالة والخبر وإن لم
يكن معيناً فلم يحصل العلم بخبر واحد منهما على التعيين بل كل واحد منهما
إذا جردنا النظر إليه كان خبره غير مفيد للعلم لجواز أن يكون المفيد للعلم
هو خبر الآخر كيف وأنه لا مزية لأحدهما على الآخر حتى يقال بحصول العلم
بخبره دون خبر الآخر.
الحجة الثانية: إن كل عاقل يجد من نفسه عند ما إذا
أخبره واحد بعد واحد بمخبر واحد يزيد اعتقاده بذلك المخبر ولو كان الخبر
الأول والثاني مفيداً للعلم فالعلم غير قابل للتزيد والنقصان.
فإن قيل:
كيف يقال بأن العلم غير قابل للزيادة والنقصان مع أن بعض العلوم قد يكون
أجلى من بعض وأظهر كالعلم الضروري فإنه أقوى من العلم المكتسب والعلم
بالعيان أقوى من العلم بالخبر.
قلنا: لا نسلم تصور التفاوت بين العلوم
من حيث هي علوم بزيادة ولا نقصان لانتفاء احتمال النقيض عنها قطعاً ولو لم
يكن كذلك لما كانت علوماً بل ظنوناً والتفاوت الواقع بين العلم النظري
والعلم الضروري ليس في نفس العلم بالمعلوم بل من جهة أن أحدهما مفتقر في
حصوله إلى النظر دون الآخر أو أن أحدهما أسرع حصولاً من الآخر لتوقفه على
النظر والتفاوت الواقع بين العلم بالخبر والعلم بالنظر غير متصور فيما
تعلقاً به وإنما التفاوت بينهما من جهة أن ما لا يدرك بالخبر يكون مدركاً
بالعيان والنظر.
الحجة الثالثة: أنه لو كان الخبر الواحد بمجرده
موجباً للعلم لكان العلم حاصلاً بنبوة من أخبر بكونه نبياً من غير حاجة إلى
معجزة دالة على صدقه ولوجب أن يحصل للحاكم العلم بشهادة الشاهد الواحد وأن
لا يفتقر معه إلى شاهد آخر ولا إلى تزكيته لما فيه من طلب تحصيل الحاصل إذ
العلم غير قابل للزيادة والنقصان كما سبق تقريره.
الحجة الرابعة: أنه
لو حصل العلم بخبر الواحد بمجرده لوجب تخطئة مخالفه بالاجتهاد وتفسيقه
وتبديعه إن كان ذلك فيما يبدع بمخالفته ويفسق ولكان مما يصح معارضته بخبر
التواتر وأن يمتنع التشكيك بما يعارضه كما في خبر التواتر وكل ذلك خلاف
الإجماع.
فإن قيل ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول والأثر: أما النص
فقوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " " الإسراء 36 " نهى عن اتباع
غير العلم وقد أجمعنا على جواز اتباع خبر الواحد في أحكام الشرع ولزوم
العلم به فلو لم يكن خبر الواحد مفيداً للعلم لكان الإجماع منعقداً على
مخالفة النص وهو ممتنع وأيضاً فإن الله تعالى قد ذم على اتباع الظن بقوله
تعالى: " إن يتبعون إلا الظن " " النجم 28 " وقوله تعالى " وما يتبع أكثرهم
إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس 36 " فلو لم يكن خبر
الواحد مفيداً للعلم بل للظن لكنا مذمومين على اتباعه وهو خلاف الإجماع.
وأما
من جهة المعقول فمن وجهين: الأول أنه لو لم يكن خبر الواحد مفيداً للعلم
لما أوجبه وإن كثر العدد إلى حد التواتر لأن ما جاز على الأول جاز على من
بعده الثاني أنه لو لم يكن خبره موجباً للعلم لما أبيح قتل المقر بالقتل
على نفسه ولا بشهادة اثنين عليه ولا وجبت الحدود بأخبار الآحاد لكون ذلك
قاضياً على دليل العقل وبراءة الذمة.
وأما من جهة الأثر ونخص مذهب من
فرق بين خبر وخبر كبعض المحدثين فهو أن علياً كرم الله وجه قال ما حدثني
أحد بحديث إلا استحلفته سوى أبي بكر صدق أبا بكر وقطع بصدقه وهو واحد.
قلنا:
أما الآيات فالجواب عنها من وجهين: الأول أن وجوب العمل بخبر الواحد
واتباعه في الشرعيات إنما كان بناء على انعقاد الإجماع على ذلك والإجماع
قاطع فاتباعه لا يكون اتباعاً لما ليس بعلم ولا اتباعاً للظن الثاني أنه
يحتمل أن يكون المراد من الآيات إنما هو المنع من اتباع غير العلم فيما
المطلوب منه العلم كالاعتقادات في أصول الدين من اعتقاد وجود الله تعالى
وما يجوز عليه وما لا يجوز ويجب الحمل على ذلك عملاً بما ذكرناه من الأدلة.
وأما
ما ذكروه من الوجه الأول من جهة المعقول فغير لازم لأن حكم الجملة قد
يغاير حكم الآحاد على ما سبق مراراً وأما الوجه الثاني فمبني على أن أحكام
الشرع لا تبنى على غير العلم وهو غير مسلم وعلى خلاف إجماع السلف قبل وجود
المخالفين.
وما ذكروه من الأثر فغايته أن يدل على أن علياً صدق أبا بكر
رضي الله عنهما من غير يمين لحصول ظنه بخبره من غير يمين دون خبر غيره لكون
ما اختص به من زيادة الرتبة وعلو الشأن في العدالة والثقة في مقابلة يمين
غيره والتصديق بناء على غلبة الظن جائز في باب الظنون وإن لم يكن الصدق
معلوماً.
وأما جواز وقوع العلم بخبر الواحد إذا احتفت به القرائن فيدل
عليه أن القرينة قد تفيد الظن مجردة عن الخبر وذلك كما إذا رأينا إنساناً
يكثر من النظر إلى شخص مستحسن فإنا نظن حبه له فإذا اقترن بذلك ملازمته له
زاد ذلك الظن ولا يزال في التزايد بزيادة خدمته له وبذل ما له وتغير حاله
إلى غير ذلك من القرائن حتى يحصل العلم بحبه له كما في تزايد الظن بأخبار
الآحاد حتى يصير تواتراً وكذلك علمنا بخجل من هجن ووجل من خوف باحمرار هذا
واصفرار هذا وبهذا الطريق نعلم عند ارتضاع الطفل وصول اللبن إلى جوفه بكثرة
امتصاصه وازدراده وحركة حلقه مع كون المرأة شابة نفساء وبسكون الصبي بعد
بكائه إلى غير ذلك من القرائن.
وإذا كانت القرائن المتضافرة بمجردها
مفيدة للعلم فلا يبعد أن تقترن بالخبر المفيد للظن قرينة مفيدة للظن قائمة
مقام اقتران خبر آخر به ثم لا يزال التزايد في الظن بزيادة اقتران القرائن
إلى أن يحصل العلم كما في خبر التواتر.
وإذا ثبت الجواز فبيان الوقوع
أنه لو أخبر واحد أن ولد الملك قد مات واقترن بذلك علمنا بمرضه وأنه لا
مريض في دار الملك سواه وما شاهدناه من الصراخ العالي في داره والنحيب
الخارج عن العادة وخروج الجنازة محتفة بالخدم والجواري حاسرات مبرحات يلطمن
خدودهن وينقضن شعورهن والملك ممزق الثوب حاسر الرأس يلطم وجهه وهو مضطرب
البال مشوش الحال على خلاف ما كان من عادته من التزام الوقار والهيبة
والمحافظة على أسباب المروءة فإن كل عاقل سمع ذلك الخبر وشاهد هذه القرائن
يعلم صدق ذلك المخبر ويحصل له العلم بمخبره كما يعلم صدق خبر التواتر ووقوع
مخبره.
وكذلك إذا أخبر واحد مع كمال عقله وحسه بحياة نفسه وكراهته
للألم وهو في أرغد عيشة نافذ الأمر قائم الجاه أنه قتل من يكافئه عمداً
عدواناً بآلة يقتل مثلها غالباً من غير شبهة له في قتله ولا مانع له من
القصاص كان خبره مع هذه القرائن موجباً للعلم بصدقه عادة.
وكذلك إذا كان
في جوار إنسان امرأة حامل وقد انتهت مدة حملها فسمع الطلق من وراء الجدار
وضجة النسوان حول تلك الحامل ثم سمع صراخ الطفل وخرج نسوة يقلن إنها قد
ولدت فإنه لا يستريب في ذلك ويحصل له العلم به قطعاً وإنكار ذلك مما يخرج
المناظرة إلى المكابرة.
فإن قيل العلم الحاصل بموت ولد الملك في الصورة
المفروضة إما أن يكون حاصلاً من نفس الخبر أو من نفس القرائن أو من الخبر
مشروطاً بالقرائن أو بالقرائن مشروطاً بالخبر الأول أو من الأمرين معاً لا
جائز أن يكون من مجرد الخبر لما ذكرتموه أولاً ولا جائز أن يكون من الخبر
مشروطاً بالقرائن ولا من القرائن بشرط الخبر ولا من الخبر والقرائن معاً
لاستقلال تلك القرائن المذكورة بإفادة العلم بالموت سواء وجد الخبر أو لم
يوجد فلم يبق إلا أن يكون حاصلاً من نفس القرائن ولا أثر للخبر.
ثم ما ذكرتموه معارض بما ذكرتموه من الحجج الدالة على امتناع وقوع العلم بخبر الواحد مجرداً عن القرائن فإنها متجهة بعينها هاهنا.
والجواب
عن السؤال الأول أنه لا يمتنع أن يكون سبب ما وجد من القرائن موت غير ولد
الملك فجأة فإذا انضم إليها الخبر بموت ذلك المريض بعينه كان اعتقاد موته
آكد من اعتقاد موته مع القرائن دون الخبر وعن المعارضات أنها غير لازمة
فيما نحن فيه.
أما الحجة الأولى فلأنا إذا فرضنا حصول العلم بخبر من
احتفت بخبره القرائن فيمتنع تصور اقتران مثل تلك القرائن أو ما يقوم مقامها
بالخبر المناقض له وإن كان نفس الخبر مناقضاً بخلاف ما إذا كان الخبر
بمجرده مفيداً للعلم فإن ذلك غير مانع من خبر آخر مناقض له على ما هو معلوم
في الشاهد.
وأما الحجة الثانية فلأن ما نجده من التزيد عند أخبار
الآحاد إنما يكون فيما لم يحصل العلم فيه بخبر الأول والثاني وأما متى كان
العلم قد حصل بخبر الأول فالتزيد من ذلك يكون ممتنعاً ولا كذلك فيما إذا
أخبر واحد بخبر فإنا إذا جردنا النظر إلى خبره من غير قرينة وجدنا أنفسنا
مما يزيد فيها الظن بما أخبر به باقتران خبر غيره بخبره.
وأما الحجة
الثالثة فلأنا إذا قلنا إن خبر الواحد يفيد العلم بمخبره لزم تصديق مدعي
النبوة في خبره ولا كذلك إذا قلنا إن الخبر لا يفيد العلم إلا بالقرائن
فخبر الواحد بنبوته لا يكون مفيداً للعلم بصدقه دون اقتران القرائن بقوله
والمعجزة من القرائن.
وأما الحجة الرابعة فغايتها أنها تدل على أنه لم
يوجد خبر من أخبار الآحاد في الشرعيات موجباً للعلم بمجرده ولا يلزم منه
انتفاء ذلك مطلقاً.
المسألة الثانية إذا أخبر واحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر ولم ينكر عليه هل يعلم كونه صادقاً فيه؟
في أخبار الآحاد
ويشتمل على أربعة أقسام: أولها: النظر في حقيقة خبر الواحد وما يتعلق به من المسائل.
وثانيها: النظر في شرائط وجوب العمل بخبر الواحد وما يتعلق به من المسائل.
وثالثها: النظر في مستند الراوي وكيفية روايته وما يتعلق به من المسائل.
ورابعها: النظر فيما اختلف في رد خبر الواحد به ومسائله.
القسم الأولوثانيها: النظر في شرائط وجوب العمل بخبر الواحد وما يتعلق به من المسائل.
وثالثها: النظر في مستند الراوي وكيفية روايته وما يتعلق به من المسائل.
ورابعها: النظر فيما اختلف في رد خبر الواحد به ومسائله.
في حقيقة خبر الواحد
ويشتمل
على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي حقيقة خبر الواحد وشرح معناه قال بعض
أصحابنا: خبر الواحد ما أفاد الظن وهو غير مطرد ولا منعكس.
أما أنه غير مطرد فلأن القياس مفيد للظن وليس هو خبر واحد فقد وجد الحد ولا محدود.
وأما
أنه غير منعكس فهو أن الواحد إذا أخبر بخبر ولم يفد الظن فإنه خبر واحد
وإن لم يفد الظن فقد وجد المحدود ولا حد كيف وإن التعريف بما أفاد الظن
تعريف بلفظ متردد بين العلم كما في قول الله تعالى: " الذين يظنون أنهم
ملاقو ربهم " " البقرة 46 " أي يعلمون وبين ترجح أحد الاحتمالين على الآخر
في النفس من غير قطع والحدود مما يجب صيانتها عن الألفاظ المشتركة لإخلالها
بالتفاهم وافتقارها إلى القرينة.
والأقرب في ذلك أن يقال: خبر الآحاد
ما كان من الأخبار غير منته إلى حد التواتر وهو منقسم إلى ما لا يفيد الظن
أصلاً وهو ما تقابلت فيه الاحتمالات على السواء وإلى ما يفيد الظن وهو:
ترجح أحد الاحتمالين الممكنين على الآخر في النفس من غير قطع فإن نقله
جماعة تزيد على الثلاثة والأربعة سمي مستفيضاً مشهوراً وإذا عرف ذلك فلنذكر
ما يتعلق به من المسائل وهي سبع: المسألة الأولى اختلفوا في الواحد العدل
إذا أخبر بخبر هل يفيد خبره العلم؟ فذهب قوم إلى أنه يفيد العلم ثم اختلف
هؤلاء: فمنهم من قال إنه يفيد العلم بمعنى الظن لا بمعنى اليقين فإن العلم
قد يطلق ويراد به الظن كما في قوله تعالى " فإن علمتموهن مؤمنات " "
الممتحنة 10 " أي ظننتموهن.
على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي حقيقة خبر الواحد وشرح معناه قال بعض
أصحابنا: خبر الواحد ما أفاد الظن وهو غير مطرد ولا منعكس.
أما أنه غير مطرد فلأن القياس مفيد للظن وليس هو خبر واحد فقد وجد الحد ولا محدود.
وأما
أنه غير منعكس فهو أن الواحد إذا أخبر بخبر ولم يفد الظن فإنه خبر واحد
وإن لم يفد الظن فقد وجد المحدود ولا حد كيف وإن التعريف بما أفاد الظن
تعريف بلفظ متردد بين العلم كما في قول الله تعالى: " الذين يظنون أنهم
ملاقو ربهم " " البقرة 46 " أي يعلمون وبين ترجح أحد الاحتمالين على الآخر
في النفس من غير قطع والحدود مما يجب صيانتها عن الألفاظ المشتركة لإخلالها
بالتفاهم وافتقارها إلى القرينة.
والأقرب في ذلك أن يقال: خبر الآحاد
ما كان من الأخبار غير منته إلى حد التواتر وهو منقسم إلى ما لا يفيد الظن
أصلاً وهو ما تقابلت فيه الاحتمالات على السواء وإلى ما يفيد الظن وهو:
ترجح أحد الاحتمالين الممكنين على الآخر في النفس من غير قطع فإن نقله
جماعة تزيد على الثلاثة والأربعة سمي مستفيضاً مشهوراً وإذا عرف ذلك فلنذكر
ما يتعلق به من المسائل وهي سبع: المسألة الأولى اختلفوا في الواحد العدل
إذا أخبر بخبر هل يفيد خبره العلم؟ فذهب قوم إلى أنه يفيد العلم ثم اختلف
هؤلاء: فمنهم من قال إنه يفيد العلم بمعنى الظن لا بمعنى اليقين فإن العلم
قد يطلق ويراد به الظن كما في قوله تعالى " فإن علمتموهن مؤمنات " "
الممتحنة 10 " أي ظننتموهن.
ومنهم من قال إنه يفيد العلم اليقيني من غير
قرينة لكن من هؤلاء من قال: ذلك مطرد في خبر كل واحد كبعض أهل الظاهر وهو
مذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ومنهم من قال إنما يوجد ذلك في
بعض أخبار الآحاد لا في الكل وإليه ذهب بعض أصحاب الحديث ومنهم من قال إنه
يفيد العلم إذا اقترنت به قرينة كالنظام ومن تابعه في مقالته.
وذهب
الباقون إلى أنه لا يفيد العلم اليقيني مطلقاً لا بقرينة ولا بغير قرينة
والمختار حصول العلم بخبره إذا احتفت به القرائن ويمتنع ذلك عادة دون
القرائن وإن كان لا يمتنع خرق العادة بأن يخلق الله تعالى لنا العلم بخبره
من غير قرينة.
أما أنه لا يفيد العلم بمجرده فقد احتج القائلون بذلك بحجج واهية لا بد من التنبيه عليها والإشارة بعد ذلك إلى ما هو المعتمد في ذلك.
الحجة
الأولى: من الحجج الواهية قولهم: لو كان خبر الواحد مفيداً للعلم لأفاد كل
خبر واحد كما أن خبر التواتر لما كان موجباً كان كل خبر متواتر كذلك.
ولقائل
أن يقول: هذا قياس تمثيلي وهو غير مفيد للعلم كيف وإن خبر التواتر قبل
العلم به ضروري غير مكتسب فلا يمتنع أن يخلقه الله تعالى عند كل تواتر
لعلمه بما يشتمل عليه من مصلحة مختصة به أو لا لمصلحة كما يشاء ويختار ومثل
ذلك غير لازم في أخبار الآحاد.
وإن قيل إنه نظري مكتسب فلا مانع من
استواء جميع أخبار التواتر فيما لا بد منه في حصول العلم ولا يلزم من ذلك
استواء جميع أخبار الآحاد في ذلك.
الحجة الثانية: أن تأثيرات الأدلة في
النفوس بحسب المؤثر ولا نجد من أنفسنا من خبر الواحد وإن بلغ الغاية في
العدالة سوى ترجح صدقه على كذبه من غير قطع وذلك غير موجب للعلم.
وهذه
الحجة في غاية الضعف لأن حاصلها يرجع إلى محض الدعوى في موضع الخلاف من غير
دلالة ومع ذلك فهي مقابلة بمثلها وهو أن يقول الخصم: وأنا أجد في نفسي
العلم بذلك وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
الحجة الثالثة: أنه لو كان خبر الواحد يوجب العلم لما روعي فيه شرط الإسلام والعدالة كما في خبر التواتر.
وحاصل
هذه الحجة أيضاً يرجع إلى التمثيل وهو غير مفيد لليقين ثم ما المانع أن
يكون حصول العلم بخبر التواتر لأن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم عنده.
إن
قيل إن العلم بخبر التواتر ضروري وذلك غير لازم في خلقه عند خبر من ليس
بمسلم ولا عدل أو أن يكون التواتر من حيث هو تواتر مشتمل على ما يوجب العلم
إن قيل بأن العلم بخبر التواتر كسبي وخبر من ليس بمسلم ولا عدل غير مشتمل
على ذلك والمعتمد في ذلك أربع حجج: الحجة الأولى: أنه لو كان خبر الواحد
الثقة مفيداً للعلم بمجرده فلو أخبر ثقة آخر بضد خبره فإن قلنا خبر كل واحد
يكون مفيداً للعلم لزم اجتماع العلم بالشيء وبنقيضه وهو محال وإن قلنا خبر
أحدهما يفيد العلم دون الآخر فإما أن يكون معيناً أو غير معين فإن كان
الأول فليس أحدهما أولى من الآخر ضرورة تساويهما في العدالة والخبر وإن لم
يكن معيناً فلم يحصل العلم بخبر واحد منهما على التعيين بل كل واحد منهما
إذا جردنا النظر إليه كان خبره غير مفيد للعلم لجواز أن يكون المفيد للعلم
هو خبر الآخر كيف وأنه لا مزية لأحدهما على الآخر حتى يقال بحصول العلم
بخبره دون خبر الآخر.
الحجة الثانية: إن كل عاقل يجد من نفسه عند ما إذا
أخبره واحد بعد واحد بمخبر واحد يزيد اعتقاده بذلك المخبر ولو كان الخبر
الأول والثاني مفيداً للعلم فالعلم غير قابل للتزيد والنقصان.
فإن قيل:
كيف يقال بأن العلم غير قابل للزيادة والنقصان مع أن بعض العلوم قد يكون
أجلى من بعض وأظهر كالعلم الضروري فإنه أقوى من العلم المكتسب والعلم
بالعيان أقوى من العلم بالخبر.
قلنا: لا نسلم تصور التفاوت بين العلوم
من حيث هي علوم بزيادة ولا نقصان لانتفاء احتمال النقيض عنها قطعاً ولو لم
يكن كذلك لما كانت علوماً بل ظنوناً والتفاوت الواقع بين العلم النظري
والعلم الضروري ليس في نفس العلم بالمعلوم بل من جهة أن أحدهما مفتقر في
حصوله إلى النظر دون الآخر أو أن أحدهما أسرع حصولاً من الآخر لتوقفه على
النظر والتفاوت الواقع بين العلم بالخبر والعلم بالنظر غير متصور فيما
تعلقاً به وإنما التفاوت بينهما من جهة أن ما لا يدرك بالخبر يكون مدركاً
بالعيان والنظر.
الحجة الثالثة: أنه لو كان الخبر الواحد بمجرده
موجباً للعلم لكان العلم حاصلاً بنبوة من أخبر بكونه نبياً من غير حاجة إلى
معجزة دالة على صدقه ولوجب أن يحصل للحاكم العلم بشهادة الشاهد الواحد وأن
لا يفتقر معه إلى شاهد آخر ولا إلى تزكيته لما فيه من طلب تحصيل الحاصل إذ
العلم غير قابل للزيادة والنقصان كما سبق تقريره.
الحجة الرابعة: أنه
لو حصل العلم بخبر الواحد بمجرده لوجب تخطئة مخالفه بالاجتهاد وتفسيقه
وتبديعه إن كان ذلك فيما يبدع بمخالفته ويفسق ولكان مما يصح معارضته بخبر
التواتر وأن يمتنع التشكيك بما يعارضه كما في خبر التواتر وكل ذلك خلاف
الإجماع.
فإن قيل ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول والأثر: أما النص
فقوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " " الإسراء 36 " نهى عن اتباع
غير العلم وقد أجمعنا على جواز اتباع خبر الواحد في أحكام الشرع ولزوم
العلم به فلو لم يكن خبر الواحد مفيداً للعلم لكان الإجماع منعقداً على
مخالفة النص وهو ممتنع وأيضاً فإن الله تعالى قد ذم على اتباع الظن بقوله
تعالى: " إن يتبعون إلا الظن " " النجم 28 " وقوله تعالى " وما يتبع أكثرهم
إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس 36 " فلو لم يكن خبر
الواحد مفيداً للعلم بل للظن لكنا مذمومين على اتباعه وهو خلاف الإجماع.
وأما
من جهة المعقول فمن وجهين: الأول أنه لو لم يكن خبر الواحد مفيداً للعلم
لما أوجبه وإن كثر العدد إلى حد التواتر لأن ما جاز على الأول جاز على من
بعده الثاني أنه لو لم يكن خبره موجباً للعلم لما أبيح قتل المقر بالقتل
على نفسه ولا بشهادة اثنين عليه ولا وجبت الحدود بأخبار الآحاد لكون ذلك
قاضياً على دليل العقل وبراءة الذمة.
وأما من جهة الأثر ونخص مذهب من
فرق بين خبر وخبر كبعض المحدثين فهو أن علياً كرم الله وجه قال ما حدثني
أحد بحديث إلا استحلفته سوى أبي بكر صدق أبا بكر وقطع بصدقه وهو واحد.
قلنا:
أما الآيات فالجواب عنها من وجهين: الأول أن وجوب العمل بخبر الواحد
واتباعه في الشرعيات إنما كان بناء على انعقاد الإجماع على ذلك والإجماع
قاطع فاتباعه لا يكون اتباعاً لما ليس بعلم ولا اتباعاً للظن الثاني أنه
يحتمل أن يكون المراد من الآيات إنما هو المنع من اتباع غير العلم فيما
المطلوب منه العلم كالاعتقادات في أصول الدين من اعتقاد وجود الله تعالى
وما يجوز عليه وما لا يجوز ويجب الحمل على ذلك عملاً بما ذكرناه من الأدلة.
وأما
ما ذكروه من الوجه الأول من جهة المعقول فغير لازم لأن حكم الجملة قد
يغاير حكم الآحاد على ما سبق مراراً وأما الوجه الثاني فمبني على أن أحكام
الشرع لا تبنى على غير العلم وهو غير مسلم وعلى خلاف إجماع السلف قبل وجود
المخالفين.
وما ذكروه من الأثر فغايته أن يدل على أن علياً صدق أبا بكر
رضي الله عنهما من غير يمين لحصول ظنه بخبره من غير يمين دون خبر غيره لكون
ما اختص به من زيادة الرتبة وعلو الشأن في العدالة والثقة في مقابلة يمين
غيره والتصديق بناء على غلبة الظن جائز في باب الظنون وإن لم يكن الصدق
معلوماً.
وأما جواز وقوع العلم بخبر الواحد إذا احتفت به القرائن فيدل
عليه أن القرينة قد تفيد الظن مجردة عن الخبر وذلك كما إذا رأينا إنساناً
يكثر من النظر إلى شخص مستحسن فإنا نظن حبه له فإذا اقترن بذلك ملازمته له
زاد ذلك الظن ولا يزال في التزايد بزيادة خدمته له وبذل ما له وتغير حاله
إلى غير ذلك من القرائن حتى يحصل العلم بحبه له كما في تزايد الظن بأخبار
الآحاد حتى يصير تواتراً وكذلك علمنا بخجل من هجن ووجل من خوف باحمرار هذا
واصفرار هذا وبهذا الطريق نعلم عند ارتضاع الطفل وصول اللبن إلى جوفه بكثرة
امتصاصه وازدراده وحركة حلقه مع كون المرأة شابة نفساء وبسكون الصبي بعد
بكائه إلى غير ذلك من القرائن.
وإذا كانت القرائن المتضافرة بمجردها
مفيدة للعلم فلا يبعد أن تقترن بالخبر المفيد للظن قرينة مفيدة للظن قائمة
مقام اقتران خبر آخر به ثم لا يزال التزايد في الظن بزيادة اقتران القرائن
إلى أن يحصل العلم كما في خبر التواتر.
وإذا ثبت الجواز فبيان الوقوع
أنه لو أخبر واحد أن ولد الملك قد مات واقترن بذلك علمنا بمرضه وأنه لا
مريض في دار الملك سواه وما شاهدناه من الصراخ العالي في داره والنحيب
الخارج عن العادة وخروج الجنازة محتفة بالخدم والجواري حاسرات مبرحات يلطمن
خدودهن وينقضن شعورهن والملك ممزق الثوب حاسر الرأس يلطم وجهه وهو مضطرب
البال مشوش الحال على خلاف ما كان من عادته من التزام الوقار والهيبة
والمحافظة على أسباب المروءة فإن كل عاقل سمع ذلك الخبر وشاهد هذه القرائن
يعلم صدق ذلك المخبر ويحصل له العلم بمخبره كما يعلم صدق خبر التواتر ووقوع
مخبره.
وكذلك إذا أخبر واحد مع كمال عقله وحسه بحياة نفسه وكراهته
للألم وهو في أرغد عيشة نافذ الأمر قائم الجاه أنه قتل من يكافئه عمداً
عدواناً بآلة يقتل مثلها غالباً من غير شبهة له في قتله ولا مانع له من
القصاص كان خبره مع هذه القرائن موجباً للعلم بصدقه عادة.
وكذلك إذا كان
في جوار إنسان امرأة حامل وقد انتهت مدة حملها فسمع الطلق من وراء الجدار
وضجة النسوان حول تلك الحامل ثم سمع صراخ الطفل وخرج نسوة يقلن إنها قد
ولدت فإنه لا يستريب في ذلك ويحصل له العلم به قطعاً وإنكار ذلك مما يخرج
المناظرة إلى المكابرة.
فإن قيل العلم الحاصل بموت ولد الملك في الصورة
المفروضة إما أن يكون حاصلاً من نفس الخبر أو من نفس القرائن أو من الخبر
مشروطاً بالقرائن أو بالقرائن مشروطاً بالخبر الأول أو من الأمرين معاً لا
جائز أن يكون من مجرد الخبر لما ذكرتموه أولاً ولا جائز أن يكون من الخبر
مشروطاً بالقرائن ولا من القرائن بشرط الخبر ولا من الخبر والقرائن معاً
لاستقلال تلك القرائن المذكورة بإفادة العلم بالموت سواء وجد الخبر أو لم
يوجد فلم يبق إلا أن يكون حاصلاً من نفس القرائن ولا أثر للخبر.
ثم ما ذكرتموه معارض بما ذكرتموه من الحجج الدالة على امتناع وقوع العلم بخبر الواحد مجرداً عن القرائن فإنها متجهة بعينها هاهنا.
والجواب
عن السؤال الأول أنه لا يمتنع أن يكون سبب ما وجد من القرائن موت غير ولد
الملك فجأة فإذا انضم إليها الخبر بموت ذلك المريض بعينه كان اعتقاد موته
آكد من اعتقاد موته مع القرائن دون الخبر وعن المعارضات أنها غير لازمة
فيما نحن فيه.
أما الحجة الأولى فلأنا إذا فرضنا حصول العلم بخبر من
احتفت بخبره القرائن فيمتنع تصور اقتران مثل تلك القرائن أو ما يقوم مقامها
بالخبر المناقض له وإن كان نفس الخبر مناقضاً بخلاف ما إذا كان الخبر
بمجرده مفيداً للعلم فإن ذلك غير مانع من خبر آخر مناقض له على ما هو معلوم
في الشاهد.
وأما الحجة الثانية فلأن ما نجده من التزيد عند أخبار
الآحاد إنما يكون فيما لم يحصل العلم فيه بخبر الأول والثاني وأما متى كان
العلم قد حصل بخبر الأول فالتزيد من ذلك يكون ممتنعاً ولا كذلك فيما إذا
أخبر واحد بخبر فإنا إذا جردنا النظر إلى خبره من غير قرينة وجدنا أنفسنا
مما يزيد فيها الظن بما أخبر به باقتران خبر غيره بخبره.
وأما الحجة
الثالثة فلأنا إذا قلنا إن خبر الواحد يفيد العلم بمخبره لزم تصديق مدعي
النبوة في خبره ولا كذلك إذا قلنا إن الخبر لا يفيد العلم إلا بالقرائن
فخبر الواحد بنبوته لا يكون مفيداً للعلم بصدقه دون اقتران القرائن بقوله
والمعجزة من القرائن.
وأما الحجة الرابعة فغايتها أنها تدل على أنه لم
يوجد خبر من أخبار الآحاد في الشرعيات موجباً للعلم بمجرده ولا يلزم منه
انتفاء ذلك مطلقاً.
المسألة الثانية إذا أخبر واحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر ولم ينكر عليه هل يعلم كونه صادقاً فيه؟
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى