رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
منهم من قال بأن ذلك دليل العلم بصدقه فيما أخبر به فإنه لو كان كاذباً
لأنكر النبي عليه السلام عليه وإلا كان مقراً له على الكذب مع كونه محرماً
وذلك محال في حق النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير صحيح فإنه من الجائز أن
يكون النبي صلى الله عليه وسلم غير سامع له بل هو ذاهل عنه وإن غلب على
الظن السماع وعدم الغفلة وبتقدير أن يعلم سماعه له وعدم غفلته عنه فمن
الجائز أن لا يكون فاهماً لما يقول وإن غلب على الظن فهمه له وبتقدير أن
يكون فاهماً له فلا يخلو إما أن يكون ما أخبر به متعلقاً بالدين أو الدنيا
فإن كان متعلقاً بالدين وقدر كونه كاذباً فيه فيحتمل أن يكون قد بينه له
وعلم أن إنكاره عليه ثانياً غير منجع فيه فلم ير في الإنكار عليه فائدة
ورأى المصلحة في إهماله إلى وقت آخر وبتقدير عدم ذلك كله احتمل أن يكون
كذبه في ذلك صغيرة وعدم الإنكار عليه في ذلك غايته أن يكون صغيرة في حق
النبي صلى الله عليه وسلم وانتفاء الصغائر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير
مقطوع به على ما بيناه في كتبنا الكلامية.
هذا إن كان إخباره بأمر ديني
وأما إن كان إخباره بأمر دنيوي فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يعلم بكونه كاذباً فيما أخبر به وإن ظن علمه به وبتقدير أن يكون عالماً
بكذبه فيحتمل أنه امتنع من الإنكار لمانع أو لعلمه بأنه لا فائدة في إنكاره
وبتقدير عدم ذلك كله فيحتمل أن يكون ذلك من الصغائر والصغائر غير ممتنعة
على الأنبياء كما علم وعلى هذا فعدم الإنكار لا يدل على صدقه قطعاً وإن دل
عليه ظناً.
المسألة الثالثة إذا أخبر واحد بخبر عن أمر محس بين يدي
جماعة عظيمة وسكتوا عن تكذيبه قال قوم: علم من ذلك صدقه لأنه يمتنع عادة أن
لا يطلع واحد منهم على كذبه وبتقدير الاطلاع يمتنع عادة سكوت الجمع العظيم
عن التكذيب مع اختلاف أمزجتهم وطباعهم واختلاف دواعيهم فحيث سكتوا عن
التكذيب دل على صدقه وليس بحق لأنه من الجائز أن لا يكون لهم اطلاع على ما
أخبر به ولا يعلمون كونه صادقاً ولا كاذباً ولا واحد منهم ولا العادة مما
تحيل اطلاع بعض الناس على أمر لم يطلع عليه غيره وبتقدير أن يعلم واحد منهم
أو اثنان كذبه فالعادة لا تحيل سكوت الواحد والاثنين عن تكذيبه وبتقدير أن
يعلم الكل بكذبه فيحتمل أن مانعاً منعهم من تكذيبه ومع هذه الاحتمالات
يمتنع القطع بتصديقه وإن كان صدقه مظنوناً.
المسألة الرابعة إذا روى
واحد خبراً ورأينا الأمة مجمعة على العمل بمقتضاه قال جماعة من المعتزلة
كأبي هاشم وأبي عبد الله البصري وغيرهما إن ذلك يدل على صدقه قطعاً وإلا
كان عملهم بمقتضاه خطأ والأمة لا تجتمع على الخطأ وهو باطل وذلك لأنه من
المحتمل أنهم لم يعملوا به بل بغيره من الأدلة أو بعضهم به وبعضهم بغيره
وبتقدير عمل الكل به فلا يدل ذلك على صدقه قطعاً لأنه إذا كان مظنون الصدق
فالأمة مكلفة بالعمل بموجبه وعملهم بموجبه مع تكليفهم بذلك لا يكون خطأ لأن
خطأهم إنما يكون بتركهم لما كلفوا به أو العمل بما نهوا عنه ومع هذه
الاحتمالات فصدقه لا يكون مقطوعاً وإن كان مظنوناً وعلى هذا لو روى واحد
خبراً واتفق أهل الإجماع فيه على قولين فطائفة عملت بمقتضاه وطائفة اشتغلت
بتأويله فلا يدل ذلك على صدقه قطعاً وذلك لأن الطائفة التي عملت بمقتضاه
لعلها لم تعمل به بل بغيره كما سبق وبتقدير أن تكون عاملة به فاتفاقهم على
قبوله لا يوجب كونه صادقاً قطعاً لما ذكرناه من تكليفهم باتباع الظني.
المسألة الخامسة
اختلفوا
فيما لو وجد شيء بمشهد من الخلق الكثير لتوفرت الدواعي على نقله إذا انفرد
الواحد بروايته عن باقي الخلق كما إذا أخبر بأن الخليفة ببغداد قتل في وسط
الجامع يوم الجمعة بمشهد من الخلق ولم يخبر بذلك أحد سواه فذهب الكل إلى
أن ذلك يدل على كذبه خلافاً للشيعة وهو الحق وذلك لأن الله تعالى قد ركز في
طباع الخلق من توفير الدواعي على نقل ما علموه والتحدث بما عرفوه حتى إن
العادة لتحيل كتمان ما لا يؤبه له مما جرى من صغار الأمور على الجمع القليل
فكيف على الجمع الكثير فيما هو من عظائم الأمور ومهماتها والنفوس مشرئبة
إلى معرفته وفي نقله صلاح للخلق بل السكوت عن نقل ذلك وإشاعته في إحالة
العادة له أشد من إحالة العادة لسكوتهم وتواطيهم على عدم نقل وجود مكة
وبغداد فلو جاز كتمان ذلك لجاز أن يوجد مثل مصر وبغداد ولم يخبر أحد عنهما
وذلك محال عادة وبمثل هذا عرفنا كذب من ادعى معارضة القرآن والتنصيص على
إمام بعينه من حيث إنه لو وجد ذلك لشاع وتوفرت الدواعي على نقله.
فإن
قيل: العادة إنما تحيل اتفاق الجمع الكثير على كتمان ما جرى بمشهد منهم من
الأمور العظيمة إذا لم يتحقق الداعي إلى الكتمان معارضا لداعي الإظهار ولا
بعد في ذلك إما لغرض واحد يعم الكل نظراً إلى مصلحة تتعلق بالكل في أمر
الولاية وإصلاح المعيشة أو خوف ورهبة من عدو غالب وملك قاهر أو لأغراض
متعددة كل غرض لواحد ويدل على ذلك الوقوع وهو أن النصارى مع كثرتهم كثرة
تخرج عن الحصر لم ينقلوا كلام المسيح في المهد مع أنه من أعجب حادث حدث في
الأرض ومن أعظم ما تتوفر الدواعي على نقله وإشاعته ونقلوا ما دون ذلك من
معجزاته وأيضاً فإن الناس نقلوا أعلام الرسل ولم ينقلوا أعلام شعيب وغيره
من الرسل وأيضاً فإن آحاد المسلمين قد انفردوا بنقل ما تتوفر الدواعي على
نقله مع شيوعه فيما بين الصحابة والجمع الكثير كنقل ما عدا القرآن من
معجزاته كانشقاق القمر وتسبيح الحصا في يده ونبع الماء من بين أصابعه وحنين
الجذع إليه وتسليم الغزالة عليه وكدخول مكة عنوة أو صلحاً وتثنية الإقامة
وإفرادها وإفراده في الحج وقرانه ونكاحه لميمونة وهو حرام وقبوله لشهادة
الأعرابي وحده في هلال رمضان ورفع اليدين في الصلاة والجهر بالتسمية إلى
غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى.
قلنا: قد بينا أن العادة تحيل اتفاق الجمع الكثير على كتمان ما يجري بينهم من الوقائع العظيمة.
قولهم
ذلك إنما يصح أن لو لم يوجد الداعي إلى الكتمان قلنا: والكلام فيه وذلك أن
العادة أيضاً تحيل اشتراك الخلق الكثير في الداعي إلى الكتمان كما يستحيل
اشتراكهم في الداعي إلى الكذب وإلى أكل طعام واحد في يوم واحد وما ذكروه من
صور الاستشهاد.
أما كلام عيسى في المهد فإنما تولى نقله الآحاد لأنه لم
يتكلم إلا بحضرة نفر يسير حيث لم يكن أمره قد ظهر ولا شأنه قد اشتهر ولا
عرف برسالة ولا نبوة وذلك بخلاف إحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص فإنه
كان وقت اشتهاره ودعواه الرسالة مستدلاً بذلك على صدقه وتطلع الناس إليه
وامتداد الأعين إلى ما يدعيه فلذلك لم يقع اتفاقهم على كتمانه.
وأما
أعلام شعيب وغيره من الأنبياء فإنما لم ينقل لأنهم لم يدعوا الرسالة حتى
يستدلوا عليها بالمعجزات ولا كان لهم شريعة انفردوا بها بل كانوا يدعون إلى
شريعة من قبلهم من الرسل كدعوى غيرهم من الأئمة وآحاد العلماء.
وأما
نقل باقي معجزات الرسول غير القرآن فإنما تولاه الآحاد لأنه لم يوجد شيء من
ذلك بمشهد من الخلق العظيم بل إنما جرى ما جرى منهم بحضور طائفة يسيرة ولا
سيما انشقاق القمر فإنه كان من الآيات الليلية وقعت والناس بين نائم وغافل
في لمح البصر ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعاهم إلى رؤيته ولا
نبههم على ذلك سوى من رآه من النفر اليسير ولهذا فإنه كم من أمر مهول يقع
في الليل من زلزلة أو صاعقة أو ريح عاصف أو انقضاض شهاب عظيم ولا يشعر به
سوى الآحاد وهذا بخلاف القرآن فإنه كان صلى الله عليه وسلم يردده بين الخلق
في جميع عمره فلم يبق أحد من الجمع العظيم في زمانه إلا وقد علمه وشاهده
فلذلك استحال تواطؤهم على عدم نقله.
وأما دخول مكة فقد نقله الجمع
الكثير وهو مستفيض مشهور أنه دخلها عنوة متسلحاً بالألوية والأعلام على
سبيل القهر والغلبة مع بذل الأمان لمن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة ودار أبي
سفيان وإنما خالف بعض الفقهاء لما اشتبه عليه ذلك بأداء دية من قتله خالد
بن الوليد ولا يبعد ظن ذلك من الآحاد.
وأما تثنية الإقامة وإفرادها
فإنما اختلفوا فيه لاحتمال أن المؤذن كان يفرد تارة ويثني أخرى فنقل كل بعض
ما سمعه وأهمل الباقي لعلمه بأنه من الفروع المتسامح فيها وهو الجواب عن
الجهر بالتسمية ورفع اليدين في الصلاة.
وأما إفراد النبي وقرانه في الحج
فإنما نقله الآحاد لأن ذلك مما يتعلق بالنية وليس ذلك مما يجب ظهوره
ومناداة النبي صلى الله عليه وسلم به.
وأما نكاحه ميمونة وهو حرام فليس
ذلك أيضاً مما يجب إظهاره بل جاز أن يكون قد وقع ذلك بمحضر جماعة يسيرة
فلذلك انفرد به الآحاد وهو الجواب عن قبول شهادة الأعرابي وحده.
المسألة
السادسة مذهب الأكثرين جواز التعبد بخبر الواحد العدل عقلاً خلافاً
للجبائي وجماعة من المتكلمين ودليل جوازه عقلاً أنا لو فرضنا ورود الشارع
بالتعبد بالعمل بخبر الواحد إذا غلب على الظن صدقه لم يلزم عنه لذاته محال
في العقل ولا معنى للجائز العقلي سوى ذلك وغاية ما يقدر في اتباعه احتمال
كونه كاذباً أو مخطئاً وذلك لا يمنع من التعبد به بدليل اتفاقنا على التعبد
بالعمل بقول المفتي والعمل بقول الشاهدين مع احتمال الكذب والخطأ على
المفتي والشاهد فيما أخبرا به.
فإن قيل: وإن سلمنا أنه لو ورد الشرع
بذلك لم يلزم عنه لذاته محال وأنه ليس محالاً لذاته عقلاً لكنه محال عقلاً
باعتبار أمر خارج عن ذاته وذلك لأن التكاليف مبنية على المصالح ودفع
المفاسد فلو تعبدنا باتباع خبر الواحد والعمل به فإذا أخبر بخبر عن رسول
الله بسفك دم واستحلال بضع محرم مع احتمال كونه كاذباً فلا يكون في العمل
بمقتضى قوله مصلحة بل محض مفسدة وهو خلاف وضع الشرع ولهذا امتنع ورود
التعبد بالعمل بخبر الفاسق والصبي فيما يتعلق بالأحكام الشرعية إجماعاً
وأما ما ذكرتموه من التعبد بالعمل بقول الشاهدين فالفرق بين الشهادة والخبر
من ثلاثة أوجه: الأول أن الشهادة إنما تقبل فيما يجوز فيه الصلح ولا كذلك
الخبر عن الله تعالى والرسول فكانت المفسدة في الشهادة أبعد.
الثاني أن الخبر يقتضي إثبات شرع بخلاف الشهادة.
الثالث
هو أن الحكم عند الشهادة إنما يثبت بدليل قاطع وهو الإجماع والشهادة شرط
لا مثبت بخلاف خبر الواحد فإنه عندكم دليل مثبت للحكم الشرعي.
ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على جواز التعبد بخبر الواحد إلا أنه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من جهة المنقول والمعقول.
أما
المنقول فقوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " " الإسراء 36 " وقوله
تعالى: " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " " البقرة 169 " وقوله تعالى: "
وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس 36 " وأما المعقول فمن أربعة
أوجه: الأول أنه لو جاز ورود التعبد بقبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية
عن الرسول عند ظننا بصدقه لاحتمال كونه مصلحة لجاز ورود التعبد بقبول خبر
الواحد عن الله تعالى بالأحكام الشرعية وذلك دون اقتران المعجزة بقوله
محال.
الثاني أنه لو جاز ورود التعبد بخبر الواحد في الفروع لجاز ورود التعبد به في الأصول وليس كذلك.
الثالث أنه لو جاز التعبد بقبول خبر الواحد لجاز التعبد به في نقل القرآن وهو محال.
الرابع
أن أخبار الآحاد قد تتعارض فلو ورد التعبد بالعمل بها لكان وارداً بالعمل
بما لا يكن العمل به ضرورة التعارض وهو ممتنع على الشارع.
والجواب عن
السؤال الأول من وجهين: الأول أنه مبني على وجوب رعاية المصالح في أحكام
الشرع وأفعاله وهو غير مسلم على ما عرفناه في الكلاميات الثاني أن ما ذكروه
منتقض بورود التعبد بقبول شهادة الشهود وقول المفتي وما ذكروه من الفروق
فباطلة.
أما الفرق الأول فمن وجهين: الأول أنه لا يطرد في الأخبار
المتعلقة بأنواع المعاملات الثاني أنه ينتقض بالشهادة فيما لا يجري فيه
الصلح كالدماء والفروج.
وأما الفرق الثاني فمن جهة أن الخبر كما يستلزم
إثبات أمر شرعي كالشهادة على القتل والسرقة وغير ذلك يستلزم إثبات أمر شرعي
وهو وجوب القتل والقطع.
وأما الثالث فمن جهة أنه لا فرق بين الخبر والشهادة من حيث إنه لا بد عند الشهادة من دليل يوجب العمل بها كما في العمل بالخبر.
وأما
المعارضة بالآيات فجوابها من وجهين: الأول أنا نقول بموجبها وذلك أن العمل
بخبر الواحد ووجوب اتباعه إنما هو بدليل مقطوع به مفيد للعلم بذلك وهو
الإجماع الثاني أنه لازم على الخصوم في اعتقادهم امتناع التعبد بخبر الواحد
إذ هو غير معلوم بدليل قاطع بل غايته أن يكون مظنوناً لهم فالآيات مشتركة
الدلالة فكما تدل على امتناع اتباع خبر الواحد تدل على امتناع القول بعدم
اتباعه وإذا تعارضت جهات الدلالة فيها امتنع العمل بها وسلم لنا ما ذكرناه
وعلى هذا نقول بجواز ورود التعبد بقبول خبر الفاسق والصبي عقلاً إذا غلب
على الظن صدقه وإن كان ذلك غير واقع.
وما ذكروه من المعارضات العقلية فجوابها من وجهين: أحدهما عام للكل والثاني خاص بكل واحد منها.
أما
العام فهو أن ما ذكروه إلزاماً علينا في خبر الواحد فهو لازم عليهم في
ورود التعبد بقبول قول الشاهدين والمفتي فما هو جوابهم عنه يكون جواباً لنا
في خبر الواحد.
وأما ما يخص كل معارضة: أما الأولى فالجواب عنها من
وجهين: الأول هو أن دعوى الواحد للرسالة ونزول الوحي إليه من أندر الأشياء
فإذا لم يقترن بدعواه ما يوجب القطع بصدقه فلا يتصور حصول الظن بصدقه بل
الذي يجزم به إنما هو كذبه ونحن وإن قلنا بجواز ورود التعبد بخبر من يغلب
على الظن صدقه فقد لا نسلم جواز ورود التعبد بقول من غلب على الظن كذبه
الثاني هو أنا إذا جوزنا ورود التعبد بخبر الواحد فوجوب العمل به لا بد وأن
يستند إلى دليل قاطع من كتاب أو سنة أو إجماع ولا كذلك المدعي للرسالة إذا
لم تقترن بقوله معجزة تدل على وجوب العمل بقوله.
فإن قيل فلو بعث رسول
وظهرت المعجزة القاطعة الدالة على صدقه ثم قال مهما أخبركم إنسان بأن الله
تعالى أرسله بشريعة وظننتم صدقه فاعملوا بقوله فقد استند وجوب العمل بقوله
إلى دليل قاطع وهو قول النبي الصادق ومع ذلك فإنه لا يجوز.
قلنا: لا
نسلم مع فرض هذا التقدير أنه لا يجوز الأخذ بقوله ثم الفرق بين الأمرين هو
أن المفسدة اللازمة من قبول قول المدعي للرسالة من غير معجزة أعظم من مفسدة
قبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية وذلك لأن رئاسة النبوة أعظم من كل
رئاسة ورتبتها أعلى من كل رتبة فلو ورد التعبد باتباع كل مدع للرسالة إذا
غلب على الظن صدقه من غير معجزة دالة على صدقه فما من أحد من الناس إلا وقد
يسلك المسالك المغلبة على الظن صدقه ويتوخى من الأفعال والأقوال ما تظهر
به عدالته طمعا في نيل مثل هذه الرئاسة العظمى بمجرد دعواه وذلك يفضي إلى
أن كل واحد يدعي نسخ شريعة الآخر ورفعها على قرب من الزمان ولا يخفى ما في
ذلك من المفسدة التي لا تحقق لمثلها في خبر الواحد.
وأما المعارضة الثانية فجوابها أن المعتبر في الأصول القطع واليقين ولا قطع في خبر الواحد بخلاف الفروع فإنها مبنية على الظنون.
وأما
المعارضة الثالثة فجوابها أن القرآن معجزة الرسول الدالة على صدقه ولا بد
وأن يكون طريق إثباته قاطعاً وخبر الواحد ليس بقاطع بخلاف أحكام الشرع فإن
ما يثبت منها بخبر الواحد ظنية غير قطعية.
وأما المعارضة الرابعة
فجوابها أن التعارض بين الخبرين لا يمنع من العمل بما يرجح منها وبتقدير
عدم الترجيح مطلقاً فقد يمكن أن يقال التخيير بينهما على ما هو مذهب
الشافعي وبتقدير امتناع التخيير فغايته امتناع ورود التعبد بمثل الأخبار
التي لا يمكن العمل بها ولا يلزم منه امتناع ورود التعبد بما أمكن العمل
بمقتضاه.
المسألة السابعة الذين قالوا بجواز التعبد بخبر الواحد عقلاً
اختلفوا في وجوب العمل به: فمنهم من نفاه كالقاساني والرافضة وابن داود
ومنهم من أثبته.
والقائلون بثبوته اتفقوا على أن أدلة السمع دلت عليه
واختلفوا في وجوب وقوعه بدليل العقل: فأثبته أحمد بن حنبل والقفال وابن
سريج من أصحاب الشافعي وأبو الحسين البصري من المعتزلة وجماعة كثيرة ونفاه
الباقون وفصل أبو عبد الله البصري بين الخبر الدال على ما يسقط بالشبهة وما
لا يسقط بها فمنع منه في الأول وجوزه في الثاني.
فأما من قال بكونه حجة فقد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والتنبيه على ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة
الأولى: من جهة المعقول وهي ما اعتمد عليها أبو الحسين البصري وجماعة من
المعتزلة وهي أنهم قالوا: العقلاء يعلمون وجوب العلم بخبر الواحد في
العقليات ولا يجوز أن يعلموا وجوب ذلك إلا وقد علموا علة وجوبه ولا علة
لذلك سوى أنهم ظنوا بخبر الواحد تفصيل جملة معلومة بالعقل وبيان ذلك أنه قد
علم بالعقل وجوب التحرز من المضار وحسن اجتلاب المنافع فإذا ظننا صدق من
أخبرنا بمضرة يلزمنا أن لا نشرب الدواء الفلاني وأن لا نفصد وأن لا نقوم من
تحت حائط مستهدم فقد ظننا تفصيلا لما علمناه جملة من وجوب التحرز عن
المضار.
وبيان أن العلة للوجوب ما ذكره دورانها معها وجوداً وعدماً وذلك
بعينه موجود في خبر الواحد في الشرعيات فوجب العمل به وذلك لأنا قد علمنا
في الجملة وجوب الانقياد للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يخبرنا به من
مصالحنا ودفع المضار عنا فإذا ظننا بخبر الواحد أن النبي صلى الله عليه
وسلم قد دعانا إلى الانقياد له في فعل أخبر أنه مصلحة وخلافه مضرة فقد ظننا
تفصيل ما علمناه في الجملة فوجب العمل به.
ولقائل أن يقول: أما أولاً:
فلا نسلم وجوب العمل بخبر الواحد في العقليات بل غايته إذا ظننا صدقه أن
يكون العمل بخبره أولى من تركه وكون الفعل أولى من الترك أمر أعم من الواجب
لشموله للمندوب فلا يلزم منه الوجوب سلمنا أن العمل بخبره واجب في
العقليات ولكن لا نسلم أن علة الوجوب ما ذكرتموه وما ذكرتموه من الدوران
فلا يدل على أن المدار علة للدائر لجواز أن تكون علة الوجوب غير ما ذكرتموه
من ظن تفصيل جملة معلومة بالعقل وذلك بأن تكون العلة معنى ملازماً لما
ذكرتموه لا نفس ما ذكرتموه ولا يلزم من التلازم بينهما في العقليات التلازم
بينهما في الشرعيات بجواز أن يكون ذلك التلازم في العقليات اتفاقياً وإن
سلمنا أن علة الوجوب ما ذكرتموه لكن لا يلزم أن يكون ذلك علة في الشرعيات
لجواز أن يكون خصوص ما ظن تفصيل جملته في العقليات داخلاً في التعليل وتلك
الخصوصية غير محققة في الشرعيات سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أنه علة بجهة
عمومه لكن قطعاً أو ظناً الأول ممنوع والثاني مسلم غير أنه منقوض بخبر
الفاسق والصبي إذا غلب على الظن صدقه فإن ما ذكرتموه من الوصف الجامع متحقق
فيه وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجب العمل به في الشرعيات سلمنا عدم
الانتقاض لكن غاية ما ذكرتموه أنه استعمال لقياس ظني في إفادة كون خبر
الواحد حجة في الشرعيات مع كونه أصلاً من أصول الفقه وإنما يصح ذلك أن لو
لم يكن التعبد في إثبات مثل ذلك بالطرق اليقينية وهو غير مسلم.
الحجة
الثانية أنهم قالوا: صدق الواحد في خبره ممكن فلو لم يعمل به لكنا تاركين
لأمر الله تعالى وأمر رسوله وهو خلاف ما يقتضيه الاحتياط.
ولقائل أن
يقول: صدق الراوي وإن كان ممكناً وراجحاً فلم قلتم بوجوب العمل به
والاحتياط بالأخذ بقوله وإن كان مناسباً ولكن لا بد له من شاهد بالاعتبار
ولا شاهد له سوى خبر التواتر وقول الواحد في الفتوى والشهادة ولا يمكن
القياس على الأول لأن ذلك مفيد للعلم ولا يلزم من إفادته للوجوب إفادة
الخبر الظني له ولا يمكن قياسه على الثاني وذلك لأن براءة الذمة معلومة وهي
الأصل وغاية قول الشاهد والمفتي إذا غلب على الظن صدقه مخالفة البراءة
الأصلية بالنظر إلى شخص واحد ولا يلزم من العمل بخبر الشاهد والمفتي مع
مخالفته للبراءة الأصلية بالنظر إلى شخص واحد العمل بخبر الواحد المخالف
لبراءة الذمة بالنظر إلى جميع الناس وإن سلمنا صحة القياس فغايته أنه مفيد
لظن الإلحاق وهو غير معتبر في إثبات الأصول كما تقدم في الحجة التي قبلها
كيف وأنه منقوض بخبر الفاسق والصبي إذا غلب على الظن صدقه.
الحجة الثالثة: أنهم قالوا إذا وقعت واقعة ولم يجد المفتي سوى خبر الواحد فلو لم يحكم به لتعطلت الواقعة عن حكم الشارع وذلك ممتنع.
ولقائل
أن يقول: خلو الواقعة عن الحكم الشرعي إنما يمتنع مع وجود دليله وأما مع
عدم الدليل فلا ولهذا فإنه لو لم يظفر المفتي في الواقعة بدليل ولا خبر
الواحد فإنه لا يمتنع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي والمصير إلى البراءة
الأصلية وعلى هذا فامتناع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي عند الظفر بخبر
الواحد يتوقف على كون خبر الواحد حجة ودليلاً وكونه حجة يتوقف على امتناع
خلو الواقعة مع وجوده عن الحكم وهو دور ممتنع كيف وإنا لا نسلم خلو الواقعة
عن الحكم الشرعي فإن حكم الله تعالى في حق المكلف عند عدم الأدلة المقتضية
لإثبات الحكم الشرعي نفى ذلك الحكم ومدركه شرعي فإن انتفاء مدارك الشرع
بعد ورود الشرع مدرك شرعي لنفي الحكم.
الحجة الرابعة: أنه لو لم يكن خبر
الواحد واجب القبول لتعذر تحقيق بعثة الرسول إلى كل أهل عصره وذلك ممتنع
وبيان ذلك أنه لا طريق إلى تعريف أهل عصره إلا بالمشافهة أو الرسل ولا سبيل
له إلى المشافهة للكل لتعذره والرسالة منحصرة في عدد التواتر والآحاد
والتواتر إلى كل أحد متعذر فلو لم يكن خبر الواحد مقبولاً لما تحقق معنى
التبليغ والرسالة إلى جميع الخلق فيما أرسل به وهو محال مخالف لقوله تعالى:
" لتبين للناس ما نزل إليهم " " النحل 44 " .
ولقائل أن يقول: إنما
يمتنع ذلك أن لو كان التبليغ إلى كل من في عصره واجباً وأن كل من في عصره
مكلف بما بعث به وليس كذلك بل إنما هو مكلف بالتبليغ إلى من يقدر على
إبلاغه إما بالمشافهة أو بخبر التواتر وكذلك كل واحد من الأمة إنما كلف بما
أرسل به الرسول إذا علمه وإما مع عدم علمه به فلا ولهذا فإن من كان في زمن
الرسول في البلاد النائية والجزائر المنقطعة ولا سبيل إلى إعلامه فإن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مكلفاً بتبليغه ولا ذلك الشخص كان مكلفاً
بما أرسل به.
الحجة الخامسة: قالوا قد ثبت أن مخالفة أمر الرسول سبب
لاستحقاق العقاب فإذا أخبر الواحد بذلك عن الرسول وغلب على الظن صدقه فإما
أن يجب العمل بالاحتمال الراجح والمرجوح معاً أو تركهما معاً أو العمل
بالمرجوح دون الراجح أو بالعكس: لا سبيل إلى الأول والثاني والثالث لأنه
محال فلم يبق سوى الرابع وهو المطلوب.
ولقائل أن يقول: ما المانع من
القول بأنه لا يجب العمل بقوله ولا يجب تركه بل هو جائز الترك؟ والقول بأن
مخالفة أمر الرسول موجبة لاستحقاق العقاب مسلم فيما علم فيه أمر الرسول
وأما مع عدم العلم به فهو محل النزاع هذا ما قيل من الحجج العقلية.
وأما
ما قيل من الحجج النقلية الواهية فمنها قوله تعالى: " فلولا نفر من كل
فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يحذرون " " التوبة 122 " ووجه الاحتجاج بها أن الله تعالى أوجب الإنذار على
كل طائفة من فرقة خرجت للتفقه في الدين عند رجوعهم إلى قومهم بقوله تعالى:
" ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " " التوبة 122 " أمر بالإنذار والإنذار
هو الإخبار والأمر للوجوب وإنما أمر بالإنذار طلباً للحذر بدليل قوله
تعالى: " لعلهم يحذرون " " التوبة 122 " ولعل ظاهرة في الترجي وهو مستحيل
في حق الله تعالى فتعين حمل ذلك على ما هو ملازم للترجي وهو الطلب فكان
الأمر بالإنذار طلباً للتحذير فكان أمراً بالتحذير فكان الحذر واجباً وإذا
ثبت أن إخبار كل طائفة موجب للحذر فالمراد من لفظ الطائفة إنما هو العدد
الذي لا ينتهي إلى حد التواتر وبيانه من ثلاثة أوجه: الأول أن لفظ الطائفة
قد يطلق على عدد لا ينتهي إلى حد التواتر كالاثنين والثلاثة وعلى العدد
المنتهي إلى حد التواتر والأصل في الإطلاق الحقيقة ويجب اعتقاد اتحاد
المسمى نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ والقدر المشترك لا يخرج عن العدد
القليل وما لازمه فكان هو المسمى.
الثاني أن الثلاثة فرقة فالطائفة الخارجة منها إما واحد أو اثنان.
الثالث
أنه لا يخلو إما أن يكون المراد من لفظ الطائفة التي وجب عليها الخروج
للتفقه والإنذار العدد الذي ينتهي إلى حد التواتر أو ما دونه لا جائز أن
يقال بالأول وإلا لوجب على كل طائفة وأهل بلدة إذا كان ما دونهم لا ينتهون
إلى حد التواتر أن يخرجوا بأجمعهم للتفقه والإنذار وذلك لا قائل به في عصر
النبي ولا في عصر من بعده فلم يبق غير الثاني وإذا ثبت أن إخبار العدد الذي
لا ينتهي إلى حد التواتر حجة موجبة في هذه الصورة لزم أن يكون حجة في
غيرها ضرورة أن لا قائل بالفرق وذلك هو المطلوب ولقائل أن يقول: لا نسلم
أنه أوجب الإنذار على كل طائفة كما ذكرتموه وصيغة قوله لينذروا لا نسلم
أنها للأمر وإن كانت للأمر فلا نسلم للوجوب على ما يأتي سلمنا أنها للوجوب
ولكن لا نسلم أن الإنذار هو الإخبار بل أمكن أن يكون المراد به التخويف من
فعل شيء أو تركه بناء على العلم بما فيه من المصلحة أو المفسدة والتخويف
خارج عن الإخبار سلمنا أن المراد به الإخبار ولكن أمكن أن يكون ذلك بطريق
الفتوى في الفروع والأصول ونحن نقول به سلمنا أن المراد به الإخبار عن
الرسول بما سمع عنه ومنه ولكن لا نسلم أنه يلزم من إيجاب الإخبار بذلك
إيجاب الحذر على من أخبر.
قولكم يجب حمل قوله تعالى " لعل " على طلب
الحذر لكونه ملازماً للترجي قلنا: الطلب الملازم للترجي الطلب الذي هو
بمعنى ميل النفس أو بمعنى الأمر الأول مسلم ولكنه مستحيل في حق الله تعالى
والثاني ممنوع وإذا لم يكن الحذر مأموراً به لا يكون واجباً ومع تطرق هذه
الاحتمالات فالاستدلال بالآية على كون خبر الواحد حجة في الشرعيات غير خارج
عن باب الظنون فيما هو من جملة الأصول والخصم مانع لصحته.
ومنها قوله
تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " " الحجرات 6 "
ووجه الاحتجاج بهذه الآية من وجهين: الأول أنه علق وجوب التثبت على خبر
الفاسق فدل على أن خبر غير الفاسق بخلافه وذلك إما أن يكون بالجزم برده أو
بقبوله لا جائز أن يقال الأول وإلا كان خبر العدل أنزل درجة من خبر الفاسق
وهو محال فلم يبق غير الثاني وهو المطلوب الثاني أن سبب نزول هذه الآية أن
النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ساعياً إلى قوم
فعاد وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذين بعثه إليهم قد ارتدوا
وأرادوا قتله فأجمع النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم وقتلهم وذلك حكم
شرعي وكان النبي قد أراد العمل فيه بخبر الواحد ولو لم يكن جائزاً لما
أراده ولا نكره الله تعالى عليه.
وهذه الحجة أيضاً ضعيفة: أما الوجه
الأول فلأن الاستدلال بهذه الآية غير خارج عن مفهوم المخالفة وسنبين أنه
ليس بحجة وإن كان حجة لكنه حجة ظنية فلا يصح الاستدلال به في باب الأصول.
وأما
الوجه الثاني فمن وجهين الأول لا نسلم أن النبي أجمع على قتلهم وقتالهم
بخبر الوليد بن عقبة فإنه قد روي أنه بعث خالد بن الوليد وأمره بالتثبت في
أمرهم فانطلق حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه فعادوا إليه وأخبروه بأنهم على
الإسلام وأنهم سمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا أتاهم خالد بن الوليد ورأى
ما يعجبه منهم فرجع إلى النبي وأخبره بذلك.
الثاني أن ما ذكروه من سبب
النزول من أخبار الآحاد فلا يكون حجة في الأصول ومنها قوله تعالى: " وكذلك
جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس " " البقرة 143 " ووجه الحجة من
ذلك أن المخبر بخبر لنا عن الرسول شاهد على الناس ولا يجوز أن يجعله الله
شاهداً على الناس وهو غير مقبول القول.
ولقائل أن يقول: الآية خطاب مع
الأمة لا مع الآحاد فلا تكون حجة في محل النزاع ومنها قوله تعالى: " إن
الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى " " البقرة 159 " الآية ووجه
الحجة بها أن الله تعالى توعد على كتمان الهدى وذلك يدل على إيجاب إظهار
الهدى وما يسمعه الواحد من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الهدى فيجب
عليه إظهاره فلو لم يجب علينا قبوله لكان الإظهار كعدمه فلا يجب.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ولقائل أن يقول: يحتمل أن يكون المراد من قوله: " إن الذين يكتمون ما
أنزلنا من البينات والهدى " " البقرة 159 " العدد الذي تقوم به الحجة
ويحتمل أنه أراد به ما دون ذلك وبتقدير إرادة ما دون ذلك فيحتمل أن يكون
المراد بما أنزل من البينات والهدى الكتاب العزيز وهو الظاهر المتبادر إلى
الفهم منه عند الإطلاق وبتقدير أن يكون المراد به كل ما أنزل على الرسول
حتى السنة فغاية التهديد على كتمان ذلك الدلالة على وجوب إظهار ما سمع من
الرسول على من سمعه وليس في ذلك ما يدل على وجوب قبوله على من بلغه على
لسان الآحاد ولهذا فإنه بمقتضى الآية يجب على الفاسق إظهار ما سمعه وإن كان
لا يجب على سامعه قبوله وذلك لأنه من المحتمل أن يكون وجوب الإظهار على كل
واحد واحد حتى يتألف من خبر المجموع التواتر المفيد للعلم ومع ذلك كله
فدلالة الآية على وجوب قبول خبر الواحد ظنية فلا تكون حجة في الأصول لما
سبق.
ومنها قوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " "
النحل 43 " أمر بسؤال أهل الذكر والأمر للوجوب ولم يفرق بين المجتهد وغيره
وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الأخبار بما سمعه دون الفتوى ولو لم يكن
القبول واجباً لما كان السؤال واجباً.
ولقائل أن يقول: لا نسلم أن قوله "
فاسألوا " صيغة أمر وإن كانت أمرا فلا نسلم أنها للوجوب كما يأتي وإن كانت
للوجوب فيحتمل أن يكون المراد من أهل الذكر أهل العلم وأن يكون المراد من
المسؤول عنه الفتوى وبتقدير أن يكون المراد السؤال عن الخبر فيحتمل أن يكون
المراد من السؤال العلم بالمخبر عنه وهو الظاهر وذلك لأنه أوجب السؤال عند
عدم العلم فلو لم يكن المطلوب حصول العلم بالسؤال لكان السؤال واجباً بعد
حصول خبر الواحد لعدم حصول العلم بخبره فإنه لا يفيد غير الظن وذلك يدل على
أن العمل بخبر الواحد غير واجب لأنه لا قائل بوجوب العمل بخبره مع وجوب
السؤال عن غيره وإذا كان المطلوب إنما هو حصول العلم من السؤال فذلك إنما
يتم بخبر التواتر لا بما دونه وإن سلمنا أن السؤال واجب على الإطلاق فلا
يلزم أن يكون العمل بخبر الواحد واجباً بدليل ما ذكرناه في الحجة المتقدمة
وبتقدير دلالة ذلك على وجوب القبول لكنها دلالة ظنية فلا يحتج بها في
الأصول.
ومنها قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط
شهداء لله " " النساء 135 " أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله والأمر للوجوب
ومن أخبر عن الرسول بما سمعه منه فقد قام بالقسط وشهد لله فكان ذلك واجباً
عليه وإنما يكون ذلك واجباً إن لو كان القبول واجباً وإلا كان وجود
الشهادة كعدمها وهو ممتنع.
ولقائل أن يقول: لا أسلم دلالة الآية على
وجوب القيام بالقسط والشهادة لله على ما يأتي وإن سلمنا دلالتها على وجوب
ذلك غير أنا نقول بموجب الآية فإن الشهادة لله والقيام بالقسط إنما يكون
فيما يجوز العمل به وأما ما لا يجوز العمل به فلا يكون قياماً بالقسط ولا
شهادة لله وعند ذلك فيتوقف العمل بالآية في وجوب قبول خبر الواحد على أنه
قام بالقسط وأنه شاهد لله وقيامه بالقسط وشهادته لله متوقف عل قبول خبره
وجواز العمل به وهو دور ممتنع وإن سلمنا أنه شهد لله وقام بالقسط ولكن لا
نسلم أنه واجب القبول ودليله ما سبق وبتقدير دلالة الآية على وجوب القبول
ولكن لجهة الظن فلا يصح.
ومنها ما اشتهر واستفاض بالنقل المتواتر عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينفذ آحاد الصحابة إلى النواحي والقبائل
والبلاد بالدعاء إلى الإسلام وتبليغ الأخبار والأحكام وفصل الخصومات وقبض
الزكوات ونحو ذلك مع علمنا بتكليف المبعوث إليه بالطاعة والانقياد لقبول
قول المبعوث إليهم والعمل بمقتضى ما يقول مع كون المنفذ من الآحاد ولو لم
يكن خبر الواحد حجة لما كان كذلك.
ولقائل أن يقول: وإن سلمنا تنفيذ
الآحاد بطريق الرسالة والقضاء وأخذ الزكوات والفتوى وتعليم الأحكام فلا
نسلم وقوع تنفيذ الآحاد بالأخبار التي هي مدارك الأحكام الشرعية ليجتهدوا
فيها وذلك محل النزاع سلمنا صحة التنفيذ بالأخبار الدالة على الأحكام
الشرعية وتعريفهم إياها ولكن لا نسلم أن ذلك يدل على كون خبر الواحد في ذلك
حجة بل جاز أن يكون ذلك لفائدة حصول العلم للمبعوث إليهم بما تواتر بضم
خبر غير ذلك الواحد إليه ومع هذه الاحتمالات فلا يثبت كون خبر الواحد حجة
فيما نحن فيه.
وقد أورد على هذه الحجة سؤالان آخران لا وجه لهما الأول
أن النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه كان ينفذ الآحاد لتبليغ الأخبار كان
ينفذهم لتعريف وحدانية الله تعالى وتعريف الرسالة فلو كان خبر الواحد حجة
في الإخبار بالأحكام الشرعية لكان حجة في تعريف التوحيد والرسالة وهو خلاف
الإجماع.
الثاني أن من الجائز أن يكون تنفيذ الآحاد بالإخبار عن أحكام
شرعية كانت معلومة للمبعوث لهم قبل إرسال ذلك الواحد بها كما أنهم علموا
وجوب العمل بخبر الواحد قبل إرسال ذلك الواحد إليهم على أصلكم.
والجواب:
عن الأول أن إنفاذ الآحاد لتعريف التوحيد والرسالة لم يكن واجب القبول
لكونه خبر واحد بل إنما كان واجب القبول من جهة ما يخبرهم به من الأدلة
العقلية ويعرفهم من الدلائل اليقينية التي تشهد بصحتها عقولهم ولا كذلك
فيما يخبر به من الأخبار الدالة على الأحكام الشرعية.
وعن الثاني أنهم
لو كانوا عالمين بالأحكام الشرعية التي دل عليها خبر الواحد لما احتيج إلى
إرساله لتعريفهم لما قد عرفوه لما فيه من تحصيل الحاصل كيف وإن تعريف
المعلوم بالخبر المظنون محال وهذا بخلاف ما إذا علم كون خبر الواحد مما يجب
العمل به في الجملة فإن تنفيذ الواحد لا يعرف وجوب العمل بقوله بل إنما
يعرف المخبر به على ما هو عليه وذلك لم يكن معروفاً قبل خبره فكان تنفيذه
لتعريف ذلك مفيداً.
والأقرب في هذه المسألة إنما هو التمسك بإجماع
الصحابة ويدل على ذلك ما نقل عن الصحابة من الوقائع المختلفة الخارجة عن
العد والحصر المتفقة على العمل بخبر الواحد ووجوب العمل به فمن ذلك ما روي
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه عمل بخبر المغيرة ومحمد بن مسلمة في
ميراث الجدة أن النبي أطعمها السدس فجعل لها السدس ومن ذلك عمل عمر بن
الخطاب رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس وهو
قوله صلى الله عليه وسلم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " وعمل أيضاً بخبر حمل
ابن مالك في الجنين وهو قوله كنت بين جاريتين لي يعني ضرتين فضربت إحداهما
الأخرى بمسطح فألقت جنيناً ميتاً فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
بغرة فقال عمر: لو لم نسمع بهذا لقضينا فيه بغير هذا وروي عنه أنه قال:
كدنا نقضي فيه برأينا وأيضاً فإنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها
فأخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث
امرأة أشيم الضبابي من ديته فرجع إليه وأيضاً فإنه كان يرى في الأصابع نصف
الدية ويفاضل بينها فيجعل في الخنصر ستة وفي البنصر تسعة وفي الوسطى
والسبابة عشرة عشرة وفي الأبهام خمسة عشرة ثم رجع إلى خبر عمرو بن جزم أن
في كل إصبع عشرة.
ومن ذلك عمل عثمان وعلي رضي الله عنهما بخبر فريعة بنت
مالك في اعتداد المتوفي عنها زوجها في منزل زوجها وهو أنها قالت: جئت إلى
النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجي أستأذنه في موضع العدة فقال صلى
الله عليه وسلم: امكثي حتى تنقضي عدتك.
ومن ذلك ما اشتهر من عمل علي
عليه السلام بخبر الواحد وقوله: كنت إذا سمعت من رسول الله حديثاً نفعني
الله بما شاء منه وإذا حدثني غيره حلفته فإذا حلف صدقته.
ومن ذلك عمل ابن عباس بخبر أبي سعيد الخدري في الربا في النقد بعد أن كان لا يحكم بالربا في غير النسيئة.
ومن
ذلك عمل زيد بن ثابت بخبر امرأة من الأنصار أن الحائض تنفر بلا وداع ومن
ذلك ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة وأبي بن
كعب شراباً من فضيخ التمر إذ أتانا آت فقال: إن الخمر قد حرمت فقال أبو
طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها قال فقمت إلى مهراس لنا فضربتها
بأسفله حتى تكسرت.
ومن ذلك عمل أهل قبا في التحول من القبلة بخبر
الواحد أن القبلة قد نسخت فالتفتوا إلى الكعبة بخبره ومن ذلك ما روي عن ابن
عباس أنه بلغه عن رجل أنه قال إن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل
فقال ابن عباس: كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثم ذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى بني إسرائيل صاحب
الخضر فعمل بخبر أبي حتى كذب الرجل وسماه عدواً لله ومن ذلك ما روي أنه لما
باع معاوية شيئاً من أواني ذهب وورق بأكثر من وزنه أنه قال له أبو الدرداء
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك فقال له معاوية: لا أرى
بذلك بأساً فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبداً ومن ذلك عمل جميع
الصحابة بما رواه أبو بكر الصديق من قوله: الأئمة من قريش ومن قوله
الأنبياء يدفنون حيث يموتون ومن قوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه
صدقة وعملهم بأجمعهم في الرجوع عن سقوط فرض الغسل بالتقاء الختانين بقول
عائشة فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا وعمل جميعهم بخبر
رافع بن خديج في المخابرة وذلك ما روي عن ابن عمر أنه قال: كنا نخابر
أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن ذلك فانتهينا وإلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى عدداً
وكان ذلك شائعاً ذائعاً فيما بينهم من غير نكير وعلى هذا جرت سنة التابعين
كعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجبير بن مطعم ونافع ابن جبير وخارجة بن زيد
وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وطاوس وعطاء بن
مجاهد وسعيد بن المسيب وفقهاء الحرمين والمصرين يعني الكوفة والبصرة إلى
حين ظهور المخالفين.
فإن قيل: ما ذكرتموه من الأخبار في إثبات كون خبر
الواحد حجة أخبار آحاد وذلك يتوقف على كونها حجة وهو دور ممتنع سلمنا عدم
الدور ولكن لا نسلم أن الصحابة عملوا بها بل من الجائز أنهم عملوا بنصوص
متواترة أو بها مع ما اقترن بها من المقاييس أو قرائن الأحوال أو غير ذلك
من الأسباب سلمنا أنهم عملوا بها لا غير لكن كل الصحابة أو بعضهم الأول
ممنوع ولا سبيل إلى الدلالة عليه والثاني مسلم لكن لا حجة فيه.
قولكم لم
يوجد له نكير لا نسلم ذلك وبيانه من وجوه منها رد أبي بكر خبر المغيرة في
ميراث الجدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة ومنها رد أبي بكر وعمر خبر
عثمان في إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد الحكم بن أبي العاص ومنها
رد عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستيذان وهو قوله سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: " إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثاً فلم يؤذن له
فلينصرف " حتى روى معه أبو سعيد الخدري ومنها رد علي رضي الله عنه خبر أبي
سنان الأشجعي في المفوضة وأنه كان لا يقبل خبر أحد حتى يحلفه سوى أبي بكر
ومنها رد عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه.
سلمنا عدم
الرد والإنكار ظاهراً غير أن سكوت الباقين عن الإنكار لا يدل على الموافقة
لما سبق في مسائل الإجماع سلمنا دلالة ذلك على الموافقة فيما تلقوه بالقبول
وعملوا بموجبه أو مطلقاً في كل خبر الأول مسلم وذلك لأن اتفاقهم عليه يدل
على صحته قطعاً نفياً للخطأ عن الإجماع والثاني ممنوع وعلى هذا فيمتنع
الاستدلال بكل خبر لم يقبلوه سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون خبر الواحد
حجة لكنه معارض بما يدل على أنه ليس بحجة وبيانه من جهة المعقول والمنقول:
أما المنقول فمن جهة الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: " ولا تقف ما
ليس لك به علم " " الإسراء 36 " وقوله تعالى: " وأن تقولوا على الله ما لا
تعلمون " " البقرة 169 " وقوله تعالى: " إن يتبعون إلا الظن " " النجم 28 "
ذكر ذلك في معرض الذم والعمل بخبر الواحد عمل بغير علم وبالظن فكان
ممتنعاً.
وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توقف في
خبر ذي اليدين حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم عن اثنتين وهو قوله: "
أقصرت الصلاة أم نسيت " حتى أخبر أبو بكر وعمر ومن كان في الصف بصدقه فأتم
وسجد للسهو وأما المعقول فمن وجوه.
الأول أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد إذا ظن صدقه في الفروع لجاز ذلك في الرسالة والأصول وهو ممتنع.
الثاني أن الأصل براءة الذمة من الحقوق والعبادات وتحمل المشاق وهو مقطوع به فلا تجوز مخالفته بخبر الواحد مع كونه مظنوناً.
الثالث أن العمل بخبر الواحد يفضي إلى ترك العمل بخبر الواحد لأنه ما من خبر إلا ويجوز أن يكون معه خبر آخر مقابل له.
الرابع أن قبول خبر الواحد تقليد لذلك الواحد فلا يجوز للمجتهد ذلك كما لا يجوز تقليده لمجتهد آخر.
والجواب
عن السؤال الأول أن ما ذكرناه من الأخبار وإن كانت آحادها آحاداً فهي
متواترة من جهة الجملة كالأخبار الواردة بسخاء حاتم وشجاعة عنترة.
وعن
الثاني أنهم لو عملوا بغير الأخبار المروية لكانت العادة تحيل تواطؤهم على
عدم نقله ولا سيما في موضع الإشكال وظهور استنادهم في العمل إلى ما ظهر من
الأخبار كيف والمنقول عنهم خلاف ذلك حيث قال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه
بغير هذا وقول ابن عمر حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن ذلك فانتهينا وكذلك ما ظهر منهم من رجوعهم إلى خبر عائشة في
التقاء الختانين إلى غير ذلك وجدهم في طلب الأخبار والسؤال عنها عند وقوع
الوقائع دليل العمل بها.
وعن الثالث أن عمل بعض الصحابة بل الأكثر من
المجتهدين منهم بأخبار الآحاد مع سكوت الباقين عن النكير دليل الإجماع على
ذلك كما سبق تقريره في مسائل الإجماع وما رووه من الأخبار أو توقفوا فيه
إنما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض أو فوات شرط لا لعدم الاحتجاج بها
في جنسها مع كونهم متفقين على العمل بها ولهذا أجمعنا على أن ظواهر الكتاب
والسنة حجة وإن جاز تركها والتوقف فيها لأمور خارجة عنها.
وعن الرابع أن
اتفاقهم على العمل بخبر الواحد إنما يوجب العلم بصدقه أن لو لم يكونوا
متعبدين باتباع الظن وليس كذلك بدليل تعبدهم باتباع ظواهر الكتاب والسنة
المتواترة والعمل بالقياس على ما يأتي وإذا كان اتباعهم لخبر الواحد لكونه
ظنياً مضبوطاً بالعدالة كان خبر الواحد من تلك الجهة حجة معمولاً بها ضرورة
بالاتفاق عليه من تلك الجهة وذلك يعم خبر كل عدل.
وأما المعارضة بالآيات فجوابها ما سبق في بيان جواز التعبد بخبر الواحد عقلاً.
وعن
السنة أنه عليه السلام إنما توقف في خبر ذي اليدين لتوهمه غلطه لبعد
انفراده بمعرفة ذلك دون من حضره من الجمع الكثير ومع ظهور أمارة الوهم في
خبر الواحد يجب التوقف فيه فحيث وافقه الباقون على ذلك ارتفع حكم الأمارة
الدالة على وهم ذي اليدين وعمل بموجب خبره كيف وإن عمل النبي صلى الله عليه
وسلم بخبر أبي بكر وعمر وغيرهما مع خبر ذي اليدين عمل بخبر لم ينته إلى حد
التواتر وهو موضع النزاع وفي تسليمه تسليم المطلوب.
وعن المعارضة
الأولى من المعقول أنها منتقضة بخبر الواحد في الفتوى والشهادة كيف والفرق
حاصل وذلك أن المشترط في إثبات الرسالة والأصول الدليل القطعي فلم يكن
الدليل الظني معتبراً فيها بخلاف الفروع وعن الثانية من وجهين: الأول أن
براءة الذمة غير مقطوع بها بعد الوجود والتكليف في نفس الأمر بل الشغل
محتمل وإن لم يظهر لنا سبب الشغل فمخالفة براءة الذمة بخبر الواحد لا يكون
رفع مقطوع بمظنون الثاني أنه منتقض بالشهادة والفتوى.
وعن الثالث أن
تجويز وجود خبر معارض للخبر الذي ظهر لا يمنع من الاحتجاج به وإلا لما ساغ
التمسك بدليل من ظواهر الكتاب والسنة المتواترة لأنه ما من واحد منها إلا
ويجوز ورود ناسخ له أو مخصص له بل ولما جاز التمسك بدليل مستنبط معارض له
ولما ساغ أيضاً للقاضي الحكم بشهادة الشاهدين ولا للعامي الأخذ بفتوى
المجتهد له لجواز وجود ما يعارضه وذلك خلاف الإجماع.
وعن الرابع أنه
إنما لم يجز تقليد العالم للعالم لاستوائهما في درجة الاجتهاد وليس تقليد
أحدهما للآخر أولى من العكس ولا كذلك المجتهد مع الراوي فإنهما لم يستويا
في معرفة ما استبد بمعرفته الراوي من الخبر فلذلك وجب عليه تقليده فيما
رواه.
وبالجملة فالاحتجاج بمسلك الإجماع في هذه المسألة غير خارج عن مسالك الظنون وإن كان التمسك به أقرب مما سبق من المسالك.
وعلى
هذا فمن اعتقد كون المسألة قطعية فقد تعذر عليه النفي والإثبات لعدم
مساعدة الدليل القاطع على ذلك ومن اعتقد كونها ظنية فليتمسك بما شاء من
المسالك المتقدمة والله أعلم بالصواب.القسم الثاني
في شرائط وجوب العمل بخبر الواحد
وما يتشعب عنها من المسائل
أما الشروط فمنها ما لا بد منها ومنها ما ظن أنها شروط وليست كذلك أما الشروط المعتبرة فهي أربعة.
الشرط الأول أن يكون الراوي مكلفاً.
وذلك
لأن من لا يكون مكلفاً إما أن يكون بحيث لا يقدر على الضبط والاحتراز فيما
يتحمله ويؤديه كالمجنون والصبي غير المميز فلا تقبل روايته لتمكن الخلل
فيها وإما أن يكون بحيث يقدر على الضبط والمعرفة كالصبي المميز والمراهق
الذي لم يبق بينه وبين البلوغ سوى الزمان اليسير فلا تقبل روايته لا لعدم
ضبطه فإنه قادر عليه متمكن منه ولا لما قيل من أنه لا يقبل إقراره على نفسه
فلا يقبل قوله على غيره بطريق الأولى لأنه منتقض بالعبد وبالمحجور عليه
فإنه لا يقبل إقراره على نفسه وروايته مقبولة بالإجماع بل لأنا أجمعنا على
عدم قبول رواية الفاسق لاحتمال كذبه مع أنه يخاف الله تعالى لكونه مكلفاً
فاحتمال الكذب من الصبي مع أنه لا يخاف الله تعالى لعدم تكليفه يكون أظهر
من احتمال الكذب في حق الفاسق فكان أولى بالرد ولا يلزم من قبول قوله في
إخباره أنه متطهر حتى إنه يصح الاقتداء به في الصلاة مع أن الظن بكونه
متطهراً شرط في صحة الاقتداء به وقبول روايته لأن الاحتياط والتحفظ في
الرواية أشد منه في الاقتداء به في الصلاة ولهذا صح الاقتداء بالفاسق عند
ظن طهارته ولا تقبل روايته وإن ظن صدقه ومن قال بقبول شهادة الصبيان فيما
يجري بينهم من الجنايات.
فإنما كان اعتماده في ذلك على أن الجنايات فيما
بينهم مما تكثر وأن الحاجة ماسة إلى معرفة ذلك بالقرائن وهي شهادتهم مع
كثرتهم قبل تفرقهم وليس ذلك جارياً على منهاج الشهادة ولا الرواية وهذا
بخلاف ما إذا تحمل الرواية قبل البلوغ وكان ضابطاً لها وأداها بعد البلوغ
وظهور رشده في دينه فإنها تكون مقبولة لأنه لا خلل في تحمله ولا في أدائه
ويدل على قبول روايته الإجماع والمعقول أما الإجماع فمن وجهين: الأول أن
الصحابة أجمعت على قبول رواية ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير
وغيرهم من أحداث الصحابة مطلقاً من غير فرق بين ما تحملوه في حالة الصغر
وبعد البلوغ.
الثاني إجماع السلف والخلف على إحضار الصبيان مجالس الحديث وقبول روايتهم لما تحملوه في حالة الصبا بعد البلوغ.
وأما
المعقول فهو أن التحرز في أمر الشهادة أكثر منه في الرواية ولهذا اختلف في
قبول شهادة العبد والأكثر على ردها ولم يختلف في قبول رواية العبد واعتبر
العدد في الشهادة بالإجماع واختلف في اعتباره في الرواية وقد أجمعنا على أن
ما تحمله الصبي من الشهادة قبل البلوغ إذا شهد به بعد البلوغ قبلت شهادته
فالرواية أولى بالقبول.
الشرط الثاني: أن يكون مسلماً.
وذلك لأن الكافر إما أن لا يكون منتمياً إلى الملة الإسلامية كاليهودي والنصراني ونحوه أو هو منتم إليها كالمجسم.
فإن
كان الأول فلا خلاف في امتناع قبول روايته لا لما قيل من أن الكفر أعظم
أنواع الفسق والفاسق غير مقبول الرواية فالكافر أولى وذلك لأن الفاسق إنما
لم تقبل روايته لما علم من جرأته على فعل المحرمات مع اعتقاد تحريمها وهذا
المعنى غير متحقق في حق الكافر إذا كان مترهباً عدلاً في دينه معتقداً
لتحريم الكذب ممتنعاً منه حسب امتناع العدل المسلم وإنما الاعتماد في
امتناع قبول روايته على إجماع الأمة الإسلامية على ردها سلباً لأهلية هذا
المنصب الشريف عنه لخسته.
وإن كان الثاني فقد اختلفوا فيه فمذهب أكثر
أصحابنا كالقاضي أبي بكر والغزالي والقاضي عبد الجبار من المعتزلة أنه
مردود الرواية وقال أبو الحسين البصري: إن كان ذلك فيمن اشتهر بالكذب
والتدين به لنصرة مذهبه فلا تقبل روايته لعدم الوثوق بصدقه وإن كان متحرجاً
في مذهبه متحرزاً عن الكذب حسب احتراز العدل عنه فهو مقبول الرواية لأن
صدقه ظاهر مظنون والمختار رده لا لما قيل من إجماع الأمة على رده ولا
لقياسه على الكافر الخارج عن الملة بواسطة اشتراكهما في الكفر المناسب لسلب
أهلية هذا المنصب عنه إذلالاً له.
الشرط الأول أن يكون الراوي مكلفاً.
وذلك
لأن من لا يكون مكلفاً إما أن يكون بحيث لا يقدر على الضبط والاحتراز فيما
يتحمله ويؤديه كالمجنون والصبي غير المميز فلا تقبل روايته لتمكن الخلل
فيها وإما أن يكون بحيث يقدر على الضبط والمعرفة كالصبي المميز والمراهق
الذي لم يبق بينه وبين البلوغ سوى الزمان اليسير فلا تقبل روايته لا لعدم
ضبطه فإنه قادر عليه متمكن منه ولا لما قيل من أنه لا يقبل إقراره على نفسه
فلا يقبل قوله على غيره بطريق الأولى لأنه منتقض بالعبد وبالمحجور عليه
فإنه لا يقبل إقراره على نفسه وروايته مقبولة بالإجماع بل لأنا أجمعنا على
عدم قبول رواية الفاسق لاحتمال كذبه مع أنه يخاف الله تعالى لكونه مكلفاً
فاحتمال الكذب من الصبي مع أنه لا يخاف الله تعالى لعدم تكليفه يكون أظهر
من احتمال الكذب في حق الفاسق فكان أولى بالرد ولا يلزم من قبول قوله في
إخباره أنه متطهر حتى إنه يصح الاقتداء به في الصلاة مع أن الظن بكونه
متطهراً شرط في صحة الاقتداء به وقبول روايته لأن الاحتياط والتحفظ في
الرواية أشد منه في الاقتداء به في الصلاة ولهذا صح الاقتداء بالفاسق عند
ظن طهارته ولا تقبل روايته وإن ظن صدقه ومن قال بقبول شهادة الصبيان فيما
يجري بينهم من الجنايات.
فإنما كان اعتماده في ذلك على أن الجنايات فيما
بينهم مما تكثر وأن الحاجة ماسة إلى معرفة ذلك بالقرائن وهي شهادتهم مع
كثرتهم قبل تفرقهم وليس ذلك جارياً على منهاج الشهادة ولا الرواية وهذا
بخلاف ما إذا تحمل الرواية قبل البلوغ وكان ضابطاً لها وأداها بعد البلوغ
وظهور رشده في دينه فإنها تكون مقبولة لأنه لا خلل في تحمله ولا في أدائه
ويدل على قبول روايته الإجماع والمعقول أما الإجماع فمن وجهين: الأول أن
الصحابة أجمعت على قبول رواية ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير
وغيرهم من أحداث الصحابة مطلقاً من غير فرق بين ما تحملوه في حالة الصغر
وبعد البلوغ.
الثاني إجماع السلف والخلف على إحضار الصبيان مجالس الحديث وقبول روايتهم لما تحملوه في حالة الصبا بعد البلوغ.
وأما
المعقول فهو أن التحرز في أمر الشهادة أكثر منه في الرواية ولهذا اختلف في
قبول شهادة العبد والأكثر على ردها ولم يختلف في قبول رواية العبد واعتبر
العدد في الشهادة بالإجماع واختلف في اعتباره في الرواية وقد أجمعنا على أن
ما تحمله الصبي من الشهادة قبل البلوغ إذا شهد به بعد البلوغ قبلت شهادته
فالرواية أولى بالقبول.
الشرط الثاني: أن يكون مسلماً.
وذلك لأن الكافر إما أن لا يكون منتمياً إلى الملة الإسلامية كاليهودي والنصراني ونحوه أو هو منتم إليها كالمجسم.
فإن
كان الأول فلا خلاف في امتناع قبول روايته لا لما قيل من أن الكفر أعظم
أنواع الفسق والفاسق غير مقبول الرواية فالكافر أولى وذلك لأن الفاسق إنما
لم تقبل روايته لما علم من جرأته على فعل المحرمات مع اعتقاد تحريمها وهذا
المعنى غير متحقق في حق الكافر إذا كان مترهباً عدلاً في دينه معتقداً
لتحريم الكذب ممتنعاً منه حسب امتناع العدل المسلم وإنما الاعتماد في
امتناع قبول روايته على إجماع الأمة الإسلامية على ردها سلباً لأهلية هذا
المنصب الشريف عنه لخسته.
وإن كان الثاني فقد اختلفوا فيه فمذهب أكثر
أصحابنا كالقاضي أبي بكر والغزالي والقاضي عبد الجبار من المعتزلة أنه
مردود الرواية وقال أبو الحسين البصري: إن كان ذلك فيمن اشتهر بالكذب
والتدين به لنصرة مذهبه فلا تقبل روايته لعدم الوثوق بصدقه وإن كان متحرجاً
في مذهبه متحرزاً عن الكذب حسب احتراز العدل عنه فهو مقبول الرواية لأن
صدقه ظاهر مظنون والمختار رده لا لما قيل من إجماع الأمة على رده ولا
لقياسه على الكافر الخارج عن الملة بواسطة اشتراكهما في الكفر المناسب لسلب
أهلية هذا المنصب عنه إذلالاً له.
أما الأول فلأن للخصم منع اتفاق الأمة
على رد قول الكافر مطلقاً ولا سبيل إلى الدلالة عليه والقياس على الكافر
الخارج عن الملة متعذر من جهة أن كفره أشد وأغلظ وأظهر من كفر من هو من أهل
القبلة لكثرة مخالفته للقاعدة الإسلامية أصولاً وفروعاً بالنسبة إلى
مخالفة المتأول لها.
فكان إذلاله بسلب هذا المنصب عنه أولى ومع هذه
الأولوية فلا قياس بل الواجب الاعتماد في ذلك على قوله تعالى: " إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة " " الحجرات 6 " أمر بالتثبت عند
إخبار الفاسق والكافر فاسق لأن الكفر أعلى درجات الفسق وإذا كان فاسقاً
فالآية إن كانت عامة بلفظها في كل فاسق فالكافر داخل تحتها وإن لم تكن عامة
بلفظها في كل فاسق فهي عامة بالنظر إلى المعنى المومي إليه وهو الفسق من
حيث إنه رتب رد الخبر على كون الآتي به فاسقاً مطلقاً في كلام الشارع مع
مناسبته له فكان ذلك علة للرد وهو متحقق فيما نحن فيه.
فإن قيل المرتب
عليه رد الأخبار إنما هو مسمى الفاسق وهو في عرف الشرع خاص بمن هو مسلم
صدرت منه كبيرة أو واظب على صغيرة فلا يكون متناولاً للكافر وإن سلمنا
تناوله للكافر غير أنه معارض بقوله صلى الله عليه وسلم " نحن نحكم بالظاهر
والله يتولى السرائر " والكافر المتأول إذا كان متحرزاً عن الكذب فقد ظهر
صدقه فوجب العمل به للخبر.
والجواب عن السؤال الأول بمنع اختصاص اسم
الفاسق في الشرع بالمسلم وإن كان ذلك عرفاً للمتأخرين من الفقهاء وكلام
الشارع إنما ينزل على عرفه لا على ما صار عرفاً للفقهاء كيف وإن حمل الآية
على الفاسق المسلم مما يوهم قبول خبر الفاسق الكافر على الإطلاق نظراً إلى
قضية المفهوم وهو خلاف الإجماع ولا يخفى أن حمل اللفظ على ما يلزم منه
مخالفة دليل أو ما اختلف في كونه دليلاً على خلاف الأصل.
وعن السؤال
الثاني أن العمل بما ذكرناه أولى لتواتره وخصوصه بالفاسق وأنه غير متفق على
تخصيصه ومخالفته وما ذكروه آحاد وهو متناول للكافر بعموم كون خبره ظاهراً
أو هو مخالف لخبر الكافر الخارج عن الملة والفاسق إذا ظن صدقه فإن خبره لا
يكون مقبولاً بالإجماع.
الشرط الثالث: أن يكون ضبطه لما يسمعه أرجح من عدم ضبطه وذكره له أرجح من سهوه لحصول غلبة الظن بصدقه فيما يرويه.
وإلا
فبتقدير رجحان مقابل كل واحد من الأمرين عليه أو معادلته له فروايته لا
تكون مقبولة لعدم حصول الظن بصدقه أما على أحد التقديرين فلكون صدقه
مرجوحاً وأما على التقدير الآخر فلضرورة التساوي وإن جهل حال الراوي في ذلك
كان الاعتماد على ما هو الأغلب من حال الرواة وإن لم يعلم الأغلب من ذلك
فلا بد من الاختبار والامتحان.
فإن قيل إنه وإن غلب السهو على الذكر أو
تعادلاً فالراوي عدل والظاهر منه أنه لا يروي إلا ما يثق من نفسه بذكره له
وضبطه ولهذا فإن الصحابة أنكرت على أبي هريرة كثرة روايته حتى قالت عائشة
رضي الله عنها رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلاً مهزاراً في حديث المهراس
ومع ذلك قبلوا أخباره لما كان الظاهر من حاله أنه لا يروي إلا ما يثق من
نفسه بضبطه وذكره وأيضا فإن الخبر دليل والأصل فيه الصحة فتساوي الضبط
والاختلال والذكر والنسيان غايته أنه موجب للشك في الصحة والشك في ذلك لا
يقدح في الأصل كما إذا كان متطهراً ثم شك بعد ذلك أنه محدث أو طاهر فإن
الأصل هاهنا لا يترك بهذا الشك.
قلنا: إذا كان الغرض إنما هو غلبة السهو
أو التعادل فالراوي وإن كان الغالب من حاله أنه لا يروي إلا ما يظن أنه
ذاكر له فذلك لا يوجب حصول الظن بصحة روايته لأن من شأنه النسيان يظن أنه
ما نسي وإن كان ناسياً وأما إنكار الصحابة على أبي هريرة كثرة الرواية فلم
يكن ذلك لاختلال ضبطه وغلبة النسيان عليه بل لأن الإكثار مما لا يؤمن معه
اختلال الضبط الذي لا يعرض لمن قلت روايته وإن كان ذلك بعيداً.
وما
قيل من أن الخبر دليل والأصل فيه الصحة فلا يترك بالشك قلنا إنما يكون
دليلاً والأصل فيه الصحة إذا كان مغلباً على الظن ومع عدم ترجيح ذكر الراوي
على نسيانه لا يكون مغلباً على الظن فلا يكون دليلاً لوقوع التردد في كونه
دليلاً لا في أمر خارج عنه ولا كذلك فيما إذا شك في الحديث ثم تيقن سابقة
الطهارة فإن تيقن الطهارة السابقة لا يقدح فيه الشك الطارئ وبالنظر إليه
يترجح إليه أحد الاحتمالين فلا يبقى معه الشك في الدوام حتى إنه لو بقي
الشك مع النظر إلى الأصل لما حكم بالطهارة.
الشرط الرابع: أن يكون الراوي متصفاً بصفة العدالة وذلك يتوقف على معرفة العدل لغة وشرعاً.
أما
العدل في اللغة فهو عبارة عن المتوسط في الأمور من غير إفراط في طرفي
الزيادة والنقصان ومنه قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " " البقرة
143 " أي عدلاً فالوسط والعدل بمعنى واحد وقد يطلق في اللغة ويراد به
المصدر المقابل للجور وهو اتصاف الغير بفعل ما يجب له وترك ما لا يجب
والجور في مقابلته وقد يطلق ويراد به ما كان من الأفعال الحسنة يتعدى
الفاعل إلى غيره ومنه يقال للملك المحسن إلى رعيته: عادل.
وأما في لسان
المتشرعة فقد يطلق ويراد به أهلية قبول الشهادة والرواية عن النبي صلى الله
عليه وسلم وقد قال الغزالي في معنى هذه الأهلية إنها عبارة عن استقامة
السيرة والدين وحاصلها يرجع إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة
التقوى والمروءة جميعاً حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه.
وذلك إنما يتحقق
باجتناب الكبائر وبعض الصغائر وبعض المباحات أما الكبائر فقد روى ابن عمر
عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الكبائر تسع: الشرك بالله
تعالى وقتل النفس المؤمنة وقذف المحصنة والزنا والفرار من الزحف والسحر
وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد بالبيت الحرام " .
وروى أبو هريرة مع ذلك: أكل الربا والانقلاب إلى الأعراب بعد هجرة وروي عن علي عليه السلام أنه أضاف إلى ذلك السرقة وشرب الخمر.
وأما
بعض الصغائر فما يدل فعله على نقض الدين وعدم الترفع عن الكذب وذلك كسرقة
لقمة والتطفيف بحبة واشتراط أخذ الأجرة على إسماع الحديث ونحوه.
وأما
بعض المباحات فما يدل على نقص المروءة ودناءة الهمة كالأكل في السوق والبول
في الشوارع وصحبة الأراذل والإفراط في المزح ونحو ذلك مما يدل على سرعة
الإقدام على الكذب وعدم الاكتراث به.
ولا خلاف في اعتبار اجتناب هذه
الأمور في العدالة المعتبرة في قبول الشهادة والرواية عن النبي صلى الله
عليه وسلم لأن من لا يجتنب هذه الأمور أحرى أن لا يجتنب الكذب فلا يكون
موثوقاً بقوله ولا خلاف أيضاً في اشتراط هذه الأمور الأربعة في الشهادة.
وتختص الشهادة بشروط أخر: كالحرية والذكورة والعدد والبصر وعدم القرابة والعداوة.
وإذ
أتينا على تحقيق شروط الرواية فلا بد من الإشارة إلى ذكر مسائل متشعبة عن
شروط العدالة جرت العادة بذكرها وهي ثمان مسائل: المسألة الأولى مذهب
الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم أن مجهول الحال غير مقبول الرواية
بل لا بد من خبرة باطنة بحاله ومعرفة سيرته وكشف سريرته أو تزكية من عرفت
عدالته وتعديله له.
وقال أبو حنيفة وأتباعه: يكتفى في قبول الرواية
بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهراً. وقد احتج النافون بحجج الأولى: أن
الدليل بنفي قبول خبر الفاسق وهو قوله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ
فتبينوا " " الحجرات 6 " غير أنا خالفناه فيمن ظهرت عدالته بالاختبار بمعنى
لا وجود له في محل النزاع وهو ما اختص به من زيادة ظهور الثقة بقوله فوجب
أن لا يقبل ولقائل أن يقول: الآية إنما دلت على امتناع قبول خبر الفاسق ومن
ظهر إسلامه وسلم من الفسق ظاهراً لا نسلم أنه فاسق حتى يندرج تحت عموم
الآية واحتمال وجود الفسق فيه لا يوجب كونه فاسقاً بدليل العدل المتفق على
عدالته.
الحجة الثانية: أنه مجهول الحال فلا يقبل إخباره في الرواية
دفعاً لاحتمال مفسدة الكذب كالشهادة في العقوبات ولقائل أن يقول: وإن كان
احتمال الكذب قائماً ظاهراً غير أن احتمال الصدق مع ظهور الإسلام والسلامة
من الفسق ظاهراً أظهر من احتمال الكذب ومع ذلك فاحتمال القبول يكون أولى من
احتمال الرد ولا يمكن القياس على الشهادة لأن الاحتياط في باب الشهادة أتم
منه في باب الرواية ولهذا كان العدد والحرية مشترطاً في الشهادة دون
الرواية ومتعبداً فيها بألفاظ خاصة غير معتبرة في الرواية حتى إنه لو قال
أعلم بدل قوله أشهد لم يكن مقبولاً وعلى هذا فلا يلزم من اشتراط ظهور
العدالة في الشهادة بالخبرة الباطنة اشتراط ذلك في الرواية.
الحجة
الثالثة قالوا: أجمعنا على أن العدالة شرط في قبول الرواية عن النبي صلى
الله عليه وسلم وعلى أن بلوغ رتبة الاجتهاد في الفقه شرط في قبول الفتوى
فإذا لم يظهر حال الراوي بالاختبار فلا تقبل أخباره دفعاً للمفسدة اللازمة
من فوات الشرط كما إذا لم يظهر بالاختبار بلوغ المفتي رتبة الاجتهاد فإنه
لا يجب على المقلد اتباعه إجماعاً.
ولقائل أن يقول: المجمع على اشتراطه
في الرواية العدالة بمعنى ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهراً أو بمعنى
آخر والأول مسلم غير أن ما هو الشرط متحقق فيما نحن فيه والثاني ممنوع كيف
وإن ما ذكرتموه من الوصف الجامع غير مناسب لما سبق في الحجة المتقدمة
وبتقدير ظهور مناسبة الوصف الجامع فالاعتبار بالمفتي غير ممكن وذلك لأن
بلوغ رتبة الاجتهاد أبعد في الحصول من حصول صفة العدالة ولهذا كانت العدالة
أغلب وقوعاً من رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية وعند ذلك فاحتمال عدم
صفة الاجتهاد يكون أغلب من عدم صفة العدالة فلا يلزم من عدم قبول قول
المفتي مع الجهل بحاله القول بعدم قبول الراوي مع الجهل بحاله.
الحجة
الرابعة أن عدم الفسق شرط في قبول الرواية فاعتبر فيه الخبرة الباطنية
مبالغة في دفع الضرر كما في عدم الصبي والرق والكفر في قبول الشهادة.
ولقائل
أن يقول ما ذكرتموه من الوصف الجامع غير مناسب لما سبق تقريره في الحجة
الثانية وبتقدير مناسبته فالقياس على الشهادة غير ممكن لما تقدم.
الحجة
الخامسة قالوا: رد عمر رواية فاطمة بنت قيس لما كانت مجهولة الحال وعلي
عليه السلام رد قول الأشجعي في المفوضة واشتهر ذلك فيما بين الصحابة ولم
ينكره منكر فكان إجماعاً.
ولقائل أن يقول: أما رد عمر لخبر فاطمة إنما
كان لأنه لم يظهر صدقها ولهذا قال: كيف نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم
كذبت وما نحن فيه ليس كذلك فإن من ظهر إسلامه وسلامته من الفسق ظاهراً
فاحتمال صدقه لا محالة أظهر من احتمال كذبه وأما رد علي عليه السلام لخبر
الأشجعي فإنما كان أيضاً لعدم ظهور صدقه عنده ولهذا وصفه بكونه بوالاً على
عقبيه أي غير محترز في أمور دينه ويجب أن يكون كذلك وإلا كان مخالفاً لقوله
صلى الله عليه وسلم " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " .
والمعتمد
في المسألة أنا نقول: القول بوجوب قبول رواية مجهول الحال يستدعي دليلاً
والأصل عدم ذلك الدليل والمسألة اجتهادية ظنية فكان ذلك كافياً فيها فإن
قيل بيان وجود الدليل من جهة النص والإجماع والمعقول: أما النص فمن جهة
الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: " إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبتوا " "
الحجرات 6 " أمر بالتثبت مشروطاً بالفسق فما لم يظهر الفسق لا يجب التثبت
فيه.
وأما السنة فمن وجهين: الأول قوله عليه السلام: " إنما أحكم
بالظاهر والله يتولى السرائر " وما نحن فيه فالظاهر من حاله الصدق فكان
داخلاً تحت عموم الخبر الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه
الأعرابي وقال أشهد أن لا إله إلا الله وشهد برؤية الهلال عنده قبل شهادته
وأمر بالنداء بالصوم لما ثبت عنده إسلامه ولم يعلم منه ما يوجب فسقاً
فالرواية أولى.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة كانوا متفقين على قبول
أقوال العبيد والنسوان والأعراب المجاهيل لما ظهر إسلامهم وسلامتهم من
الفسق ظاهراً.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الراوي مسلم لم يظهر منه فسق فكان
خبره مقبولاً كإخباره بكون اللحم لحم مذكي وكون الماء طاهراً أو نجساً وكون
الجارية المبيعة رقيقة وكونه متطهراً عن الحدثين حتى يصح الاقتداء به
ونحوه والثاني أنه لو أسلم كافر وروى عقيب إسلامه خبراً من غير مهلة فمع
ظهور إسلامه وعدم وجود ما يوجب فسقه بعد إسلامه يمتنع رد روايته وإذا قبلت
روايته حال إسلامه فطول مدته في الإسلام أولى أن لا توجب رده.
والجواب
عن الآية أن العمل بموجبها نفياً وإثباتاً متوقف على معرفة كونه فاسقاً أو
ليس فاسقاً لا على عدم علمنا بفسقه وذلك لا يتم دون البحث والكشف عن حاله
وعن الخبر الأول من ثلاثة أوجه: الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف
الحكم بالظاهر إلى نفسه ولا يلزم مثله في حق غيره إلا بطريق القياس عليه لا
بنفس النص المذكور والقياس عليه ممتنع لأن ما للنبي صلى الله عليه وسلم من
الاطلاع والمعرفة بأحوال المخبر لصفاء جوهر نفسه واختصاصه عن الخلق بمعرفة
ما لا يعرفه أحد منهم من الأمور الغيبية غير متحقق في حق غيره.
الثاني
أنه رتب الحكم على الظاهر وذلك وإن كان يدل على كونه علة لقبوله والعمل به
فتخلف الحكم عنه في الشهادة على العقوبات والفتوى يدل على أنه ليس بعلة.
الثالث
المعارضة بقوله تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس " وليس
العمل بعموم أحد النصين وتأويل الآخر أولى من الآخر بل العمل بالآية أولى
لأنها متواترة وما ذكروه آحاد.
وعن الخبر الثاني: لا نسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم من حال الأعرابي سوى الإسلام.
وعن
الإجماع لا نسلم أن الصحابة قبلوا رواية أحد من المجاهيل فيما يتعلق
بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا ردوا رواية من جهلوه كرد عمر شهادة
فاطمة بنت قيس ورد علي شهادة الأعرابي.
وعن الوجه الأول من المعقول
بالفرق بين صور الاستشهاد ومحل النزاع وذلك من وجهين: الأول أن الرواية عن
النبي صلى الله عليه وسلم أعلى رتبة وأشرف منصباً من الإخبار فيما ذكروه من
الصور فلا يلزم من القبول مع الجهل بحال الراوي فيما هو أدنى الرتبتين
قبوله في أعلاهما الثاني أن الإخبار فيما ذكروه من الصور مقبول مع ظهور
الفسق ولا كذلك فيما نحن فيه.
وعن الوجه الثاني من المعقول بمنع قبول
روايته دون الخبرة بحاله لاحتمال أن يكون كذوباً وهو باق على طبعه وإن
قلنا: روايته في مبدأ إسلامه فلا يلزم ذلك في حالة دوامه لما بين ابتداء
الإسلام ودوامه من رقة القلب وشدة الأخذ بموجباته والحرص على امتثال
مأموراته واجتناب منهياته على ما يشهد به العرف والعادة في حق كل من دخل في
أمر محبوب والتزمه فإن غرامه به في الابتداء يكون أشد منه في دوامه.
المسألة الثانية الفاسق المتأول الذي لا يعلم فسق نفسه لا يخلو إما أن يكون فسقه مظنوناً أو مقطوعاً به.
فإن
كان مظنوناً كفسق الحنفي إذا شرب النبيذ فالأظهر قبول روايته وشهادته وقد
قال الشافعي رضي الله عنه: إذا شرب الحنفي النبيذ أحده وأقبل شهادته.
وإن
كان فسقه مقطوعاً به فإما أن يكون ممن يرى الكذب ويتدين به أو لا يكون
كذلك: فإن كان الأول فلا نعرف خلافاً في امتناع قبول شهادته كالخطائية من
الرافضة لأنهم يرون شهادة الزور لموافقهم في المذهب وإن كان الثاني كفسق
الخوارج الذين استباحوا الدار وقتلوا الأطفال والنسوان فهو موضع الخلاف:
فمذهب الشافعي وأتباعه وأكثر الفقهاء أن روايته وشهادته مقبولة وهو اختيار
الغزالي وأبي الحسين البصري وكثير من الأصوليين وذهب القاضي أبو بكر
والجبائي وأبو هاشم وجماعة من الأصوليين إلى امتناع قبول شهادته وروايته
وهو المختار.
وقد احتج النافون بحجة ضعيفة وذلك أنهم قالوا: أجمعنا على
أن الفاسق المفروض لو كان عالماً بفسقه لم يقبل خبره فإذا كان جاهلاً بفسقه
معتقداً أنه ليس بفاسق فقد انضم إلى فسقه فسق آخر وخطيئة أخرى وهو اعتقاده
في الفسق أنه ليس بفسق فكان أولى أن لا يقبل خبره.
ولقائل أن يقول:
إذا لم يعتقد أنه فاسق وكان متحرجاً محترزاً في دينه عن الكذب وارتكاب
المعصية فكان إخباره مغلباً على الظن صدقه بخلاف ما إذا علم أن ما يأتي به
فسقاً فذلك يدل على قلة مبالاته بالمعصية وعدم تحرزه عن الكذب فافترقا
والمعتمد في ذلك النص والمعقول: أما النص فقوله تعالى: " إن جاءكم فاسق
بنبأ فتثبتوا " " الحجرات 6 " أمر برد نبأ الفاسق والخلاف إنما هو فيمن قطع
بفسقه فكان مندرجاً تحت عموم الآية غير أنا خالفناه فيمن كان فسقه مظنوناً
وما نحن فيه مقطوع بفسقه فلا يكون في معنى صورة المخالفة وأيضا قوله
تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس 36 " غير أنا خالفناه في
خبر من ظهرت عدالته وفيمن كان فسقه مظنوناً فيبقى فيما عداه على مقتضى
الدليل.
وأما المعقول فهو أن القول بقبول خبره يستدعي دليلاً والأصل
عدمه فإن قيل: بيان وجود الدليل النص والإجماع والقياس: أما النص فقوله صلى
الله عليه وسلم " إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " والفاسق فيما
نحن فيه محترز عن الكذب متدين بتحريمه فكان صدقه في خبره ظاهراً فكان
مندرجاً تحت عموم الخبر.
وأما الإجماع فهو أن علياً عليه السلام والصحابة قبلوا أقوال قتلة عثمان والخوارج مع فسقهم ولم ينكر ذلك منكر فكان ذلك إجماعاً.
وأما
القياس فهو أن الظن بصدقه موجود فكان واجب القبول مبالغة في تحصيل مقصوده
قياساً على العدل والمظنون فسقه والجواب: عن الخبر ما سبق في المسألة التي
قبلها.
وعن الإجماع: أنا لا نسلم أن كل من قبل شهادة الخوارج وقتلة
عثمان كانوا يعتقدون فسقهم فإن الخوارج من جملة المسلمين والصحابة ولم
يكونوا معتقدين فسق أنفسهم ومع عدم اعتقاد الجميع لفسقهم وإن قبلوا شهادتهم
فلا يتحقق انعقاد الإجماع على قبول خبر الفاسق.
وعن القياس بالفرق في
الأصول المستشهد بها أما في العدل فلظهور عدالته واستحقاقه لمنصب الشهادة
والرواية وذلك يناسب قبوله إعظاماً له وإجلالاً بخلاف الفاسق وأما في مظنون
الفسق فلأن حاله في استحقاق منصب الشهادة والرواية أقرب من حال من كان
فسقه مقطوعاً به فلا يلزم من القبول ثم القبول هاهنا.
المسألة الثالثة
اختلفوا في الجرح والتعديل: هل يثبت بقول الواحد أو لا؟ فذهب قوم إلى أنه
لا بد في التعديل والجرح من اعتبار العدد في الرواية والشهادة وذهب آخرون
إلى الاكتفاء بالواحد فيهما وهو اختيار القاضي أبي بكر.
والذي عليه
الأكثر إنما هو الاكتفاء بالواحد في باب الرواية دون الشهادة وهو الأشبه
وذلك لأنه لا نص ولا إجماع في هذه المسألة يدل على تعيين أحد هذه المذاهب
فلم يبق غير التشبيه والقياس.
ولا يخفى أن العدالة شرط في قبول الشهادة
والرواية والشرط لا يزيد في إثباته على مشروطه فكان إلحاق الشرط بالمشروط
في طريق إثباته أولى من إلحاقه بغيره وقد اعتبر العدد في قبول الشهادة دون
قبول الرواية فكان الحكم في شرط كل واحد منهما ما هو الحكم في مشروطه.
فإن
قيل: التزكية والتعديل شهادة فكان العدد معتبراً فيهما كالشهادة على
الحقوق قلنا: ليس ذلك أولى من قول القائل بأنها إخبار فلا يعتبر العدد في
قبولها كنفس الرواية فإن قيل: إلا أن ما ذكرناه أولى لما فيه من زيادة
الاحتياط.
قلنا: بل ما يقوله الخصم أولى حذراً من تضييع أوامر الله
تعالى ونواهيه كيف وأن اعتبار قول الواحد في الجرح والتعديل أصل متفق عليه
واعتبار ضم قول غيره إليه يستدعي دليلاً والأصل عدمه ولا يخفى أن ما يلزم
منه موافقة النفي الأصلي أولى مما يلزم منه مخالفته.
المسألة الرابعة
اختلفوا في قبول الجرح والتعديل دون ذكر سببهما: فقال قوم: لا بد من ذكر
السبب فيهما أما في الجرح فلاختلاف الناس فيما يجرح به فلعله اعتقده جارحاً
وغيره لا يراه جارحاً وأما في العدالة فلأن مطلق التعديل لا يكون محصلاً
للثقة بالعدالة لجري العادة بتسارع الناس إلى ذلك بناء على الظاهر.
وقال قوم: لا حاجة إلى ذلك فيهما اكتفاء ببصيرة المزكي والجارح وهو اختيار القاضي أبي بكر.
وقال
الشافعي رضي الله عنه لا بد من ذكر سبب الجرح لاختلاف الناس فيما يجرح به
بخلاف العدالة فإن سببها واحد لا اختلاف فيه ومنهم من عكس الحال واعتبر ذكر
سبب العدالة دون الجرح.
والمختار إنما هو مذهب القاضي أبي بكر وذلك
لأنه إما أن يكون المزكي والجارح عدلاً بصيراً بما يجرح به ويعدل أو لا
يكون كذلك فإن لم يكن عدلاً أو كان عدلاً وليس بصيراً فلا اعتبار بقوله وإن
كان عدلاً بصيراً وجب الاكتفاء بمطلق جرحه وتعديله إذا الغالب مع كونه
عدلاً بصيراً أنه ما أخبر بالعدالة والجرح إلا وهو صادق في مقاله فلا معنى
لاشتراط إظهار السبب مع ذلك.
والقول بأن الناس قد اختلفوا فيما يجرح به
وإن كان حقاً إلا أن الظاهر من حال العدل البصير بجهات الجرح والتعديل أنه
أيضاً يكون عارفاً بمواقع الخلاف في ذلك والظاهر أنه لا يطلق الجرح إلا في
صورة علم الوفاق عليها وإلا كان مدلساً ملبساً بما يوهم الجرح على من لا
يعتقده وهو خلاف مقتضى العدالة والدين وبمثل هذا يظهر أنه ما أطلق التعديل
إلا بعد الخبرة الباطنة والإحاطة بسريرة المخبر عنه ومعرفة اشتماله على سبب
العدالة دون البناء على ظاهر الحال.
المسألة الخامسة إذا تعارض الجرح
والتعديل فلا يخلو إما أن يكون الجارح قد عين السبب أو لم يعينه: فإن لم
يعينه فقول الجارح يكون مقدماً لاطلاعه على ما لم يعرفه العدل ولا نفاه
لامتناع الشهادة على النفي وإن عين السبب بأن يقول تقديراً: رأيته وقد قتل
فلاناً فلا يخلو إما أن لا يتعرض المعدل لنفي ذلك أو يتعرض لنفيه.
فإن
كان الأول فقول الجارح يكون مقدماً لما سبق وإن تعرض لنفيه بأن قال: رأيت
فلاناً المدعي قتله حياً بعد ذلك فهاهنا يتعارضان ويصح ترجيح أحدهما على
الآخر بكثرة العدد وشدة الورع والتحفظ وزيادة البصيرة إلى غير ذلك مما ترجح
به إحدى الروايتين على الأخرى كما سيأتي تحقيقه.
المسألة السادسة في
طرق الجرح والتعديل. أما طرق التعديل فمتفاوتة في القوة والضعف وذلك لأنه
لا يخلو إما أن يصرح المزكي بالتعديل قولاً أو لا يصرح به فإن صرح به بأن
يقول هو عدل رضاً فإما أن يذكر مع ذلك السبب بأن يقول لأني عرفت منه كذا
وكذا أو لا يذكر السبب فإن كان الأول فهو تعديل متفق عليه وإن كان الثاني
فمختلف فيه والأظهر منه التعديل كما سبق في المسألة المتقدمة فهذا الطريق
مرجوح بالنسبة إلى الأول للاختلاف فيه ولنقصان البيان فيه بخلاف الأول.
وأما إن لم يصرح بالتعديل قولاً لكن حكم بشهادته أو عمل بروايته أو روى عنه خبراً.
فإن
حكم بشهادته فهو أيضاً تعديل متفق عليه وإلا كان الحاكم فاسقاً بشهادة من
ليس بعدل عنده وهذه الطريق أعلى من التزكية بالقول من غير ذكر سبب
لتفاوتهما في الاتفاق والاختلاف اللهم إلا أن يكون الحاكم ممن يرى الحكم
بشهادة الفاسق وأما بالنسبة إلى التزكية بالقول مع ذكر السبب فالأشبه
التعادل بينهما لاستوائهما في الاتفاق عليهما والأول وإن اختص بذكر السبب
فهذا مختص بإلزام الغير بقبول الشاهد بخلاف الأول.
وأما إن عمل بروايته
على وجه علم أنه لا مستند له في العمل سواها ولا يكون ذلك من باب الاحتياط
فهو أيضاً تعديل متفق عليه وإلا كان عمله برواية من ليس بعدل فسقاً وهذا
الطريق وإن احتمل أن يكون العمل فيه مستنداً إلى ظهور الإسلام والسلامة من
الفسق ظاهراً كما في التعديل بالقول من غير ذكر السبب فهو راجح على التعديل
بالقول من غير ذكر السبب للاتفاق عليه والاختلاف في ذلك ومرجوح بالنسبة
إلى التزكية بالقول مع ذكر السبب وبالنسبة إلى الحكم بالشهادة لأن باب
الشهادة أعلى من باب الرواية ولذلك اشترط فيه ما لم يشترط في باب الرواية
كما سيأتي تعريفه فكان الاحتياط والاحتراز فيها أتم وأوفى وأما إن روى عنه
فهذا مما اختلف فيه هل هو تعديل أو لا.
ومنهم من فصل وقال: إن عرف من
قول المزكي أو عادته أنه لا يروي إلا عن العدل فهو تعديل وإلا فلا وهو
المختار وذلك لأن العادة جارية بالرواية عمن لو سئل عن عدالته لتوقف فيها
ولا يلزم من روايته عنه مع عدم معرفته بعدالته أن يكون ملبساً مدلساً في
الدين كما قيل لأنه إنما يكون كذلك إن لو أوجبت روايته عنه على الغير العمل
بها وليس كذلك بل غايته أنه قال سمعته يقول كذا فعلى السامع بالكشف عن حال
المروي عنه إن رام العمل بمقتضى روايته وإلا كان مقصراً وهذا الطريق يشبه
أن يكون مرجوحاً بالنسبة إلى باقي الطرق.
أما بالنسبة إلى التصريح
بالتعديل فظاهر ولا سيما إن اقترن بذكر السبب للاتفاق عليه والاختلاف في
هذا الطريق ولهذا يكون مرجوحاً بالنسبة إلى الحكم بالشهادة للاتفاق عليه
ولاختصاص الشهادة بما ذكرناه قبل.
وأما بالنسبة إلى العمل بالرواية فلاشتراكهما في أصل الرواية واختصاص أحدهما بالعمل بها.
وأما
طرق الجرح فهو أن يصرح بكونه مجروحاً ويذكر مع ذلك سبب الجرح وإن لم يذكر
معه سبب الجرح فهو جرح كما سبق في المسألة المتقدمة لكنه دون الأول
للاختلاف فيه وللاتفاق على الأول وليس من الجرح ترك العمل بروايته والحكم
بشهادته لجواز أن يكون ذلك بسبب غير الجرح وذلك إما لمعارض وإما لأنه غير
ضابط أو لغلبة النسيان والغفلة عليه ونحوه ولا الشهادة بالزنا وكل ما يوجب
الحد على المشهود عليه إذا لم يكمل نصاب الشهادة لأنه لم يأت بصريح القذف
وإنما جاء ذلك محيي الشهادة ولا بما يسوغ فيه الاجتهاد وقد قال به بعض
الأئمة المجتهدين كاللعب بالشطرنج وشرب النبيذ ونحوه ولا بالتدليس وذلك
كقول من لم يعاصر الزهري مثلاً ولكنه روى عمن لقيه قولاً يوهم أنه لقيه
ولقوله: حدثنا فلان وراء النهر موهماً أنه يريد جيحان وإنما يشير به إلى
نهر عيسى مثلاً لأنه ليس بكذب وإنما هو من المعاريض المغنية عن الكذب.
المسألة
السابعة اتفق الجمهور من الأئمة على عدالة الصحابة وقال قوم إن حكمهم في
العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية ومنهم من قال
إنهم لم يزالوا عدولاً إلى حين ما وقع من الاختلاف والفتن فيما بينهم وبعد
ذلك فلا بد من البحث في العدالة عن الراوي أو الشاهد منهم إذا لم يكن ظاهر
العدالة ومنهم من قال بأن كل من قاتل علياً عالماً منهم فهو فاسق مردود
الرواية والشهادة لخروجهم عن الإمام الحق ومنهم من قال برد رواية الكل
وشهادتهم لأن أحد الفريقين فاسق وهو غير معلوم ولا معين ومنهم من قال بقبول
رواية كل واحد منهم وشهادته إذا انفرد لأن الأصل فيه العدالة وقد شككنا في
فسقه ولا يقبل ذلك منه مع مخالفة التحقق فسق أحدهما من غير تعيين.
والمختار
إنما هو مذهب الجمهور من الأئمة وذلك بما تحقق من الأدلة الدالة على
عدالتهم ونزاهتهم وتخييرهم على من بعدهم فمن ذلك قوله تعالى: " وكذلك
جعلناكم أمة وسطاً " " البقرة 143 " أي عدولاً وقوله تعالى: " كنتم خير أمة
أخرجت للناس " " آل عمران 110 " وهو خطاب مع الصحابة الموجودين في زمن
النبي صلى الله عليه وسلم ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " أصحابي كالنجوم
بأيهم اقتديتم اهتديتم " والاهتداء بغير عدل محال وقوله صلى الله عليه
وسلم: " إن الله اختار لي أصحاباً وأصهاراً وأنصاراً " واختيار الله تعالى
لا يكون لمن ليس بعدل ومنها ما ظهر واشتهر بالنقل المتواتر الذي لا مراء
فيه من مناصرتهم للرسول والهجرة إليه والجهاد بين يديه والمحافظة على أمور
الدين وإقامة القوانين والتشدد في امتثال أوامر الشرع ونواهيه والقيام
بحدوده ومراسيمه حتى إنهم قتلوا الأهل والأولاد حتى قام الدين واستقام ولا
أدل على العدالة أكثر من ذلك.
وعند ذلك فالواجب أن يحمل كل ما جرى بينهم
من الفتن على أحسن حال وإن كان ذلك إنما لما أدى إليه اجتهاد كل فريق من
اعتقاده أن الواجب ما صار إليه وأنه أوفق للدين وأصلح للمسلمين وعلى هذا
فإما أن يكون كل مجتهد مصيباً أو أن المصيب واحد والآخر مخطئ في اجتهاده
وعلى كلا التقديرين فالشهادة والرواية من الفريقين لا تكون مردودة أما
بتقدير الإصابة فظاهر وأما بتقدير الخطأ مع الاجتهاد فبالإجماع وإذ أتينا
على ما أردناه من بيان عدالة الصحابة فلا بد من الإشارة إلى بيان من يقع
عليه اسم الصحابي.
المسألة الثامنة اختلفوا في مسمى الصحابي: فذهب أكثر
أصحابنا وأحمد بن حنبل إلى أن الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وإن
لم يختص به اختصاص المصحوب ولا روى عنه ولا طالت مدة صحبته وذهب آخرون إلى
أن الصحابي إنما يطلق على من رأى النبي صلى الله عليه وسلم واختص به
اختصاص المصحوب وطالت مدة صحبته وإن لم يرو عنه وذهب عمر بن يحيى إلى أن
هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه
العلم.
والخلاف في هذه المسألة وإن كان آيلاً إلى النزاع في الإطلاق اللفظي فالأشبه إنما هو الأول
ويدل على ذلك ثلاثة أمور.
الأول
أن الصاحب اسم مشتق من الصحبة والصحبة تعم القليل والكثير ومنه يقال صحبته
ساعة وصحبته يوماً وشهراً وأكثر من ذلك كما يقال: فلان كلمني وحدثني
وزارني وإن كان لم يكلمه ولم يحدثه ولم يزره سوى مرة واحدة.
الثاني أنه لو حلف أنه لا يصحب فلاناً في السفر أو ليصحبنه فإنه يبر ويحنث بصحبته ساعة.
الثالث
أنه لو قال قائل: صحبت فلاناً فيصح أن يقال: صحبته ساعة أو يوماً أو أكثر
من ذلك وهل أخذت عنه العلم ورويت عنه أو لا ولولا أن الصحبة شاملة لجميع
هذه الصور ولم تكن مختصة بحالة منها لما احتيج إلى الاستفهام.
فإن قيل:
إن الصاحب في العرف إنما يطلق على المكاثر الملازم ومنه يقال: أصحاب القرية
وأصحاب الكهف والرقيم وأصحاب الرسول وأصحاب الجنة للملازمين لذلك وأصحاب
الحديث للملازمين لدراسته وملازمته دون غيرهم ويدل على ذلك أيضاً أنه يصح
أن يقال فلان لم يصحب فلاناً لكنه وفد عليه أو رآه أو عامله.
والأصل في
النفي أن يكون محمولاً على حقيقته بل ولا يكفي ذلك بل لا بد مع طول المدة
من أخذ العلم والرواية عنه ولهذا يصح أن يقال المزني صاحب الشافعي وأبو
يوسف ومحمد بن الحسن صاحباً أبي حنيفة ولا يصح أن يقال لمن رآهما وعاشرهما
طويلاً ولم يأخذ عنهما أنه صاحب لهما.
والجواب عن الشبهة الأولى أنا لا
نسلم أن اسم الصاحب لا يطلق إلا على المكاثر الملازم ولا يلزم من صحة إطلاق
اسم الصاحب على الملازم المكاثر كما في الصور المستشهد بها امتناع إطلاقه
على غيره بل يجب أن يقال بصحة إطلاق ذلك على المكاثر وغيره حقيقة نظراً إلى
ما وقع به الاشتراك نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ وصحة النفي إنما كان
لأن الصاحب في أصل الوضع وإن كان لمن قلت صحبته أو كثرت غير أنه في عرف
الاستعمال لمن طالت صحبته فإن أريد نفي الصحبة بالمعنى العرفي فحق وإن أريد
نفيها بالمعنى الأصلي فلا يصح.
وهذا هو الجواب عما قيل من اشتراط أخذ العلم والرواية عنه أيضاً.
وإذا
عرف ذلك فلو قال من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم أنا صحابي مع إسلامه
وعدالته فالظاهر صدقه ويحتمل أن لا يصدق في ذلك لكونه متهما بدعوى رتبة
يثبتها لنفسه كما لو قال: أنا عدل أو شهد لنفسه بحق.
هذا ما أردناه من
الشروط المعتبرة وأما الشروط التي ظن أنها شروط وليست كذلك فشروط منها أنه
ليس من شرط قبول الخبر العدد بل يكفي في القبول خبر العدل الواحد خلافاً
للجبائي فإنه قال: لا يقبل إلا أن يضاف إليه خبر عدل آخر أو موافقة ظاهراً
وإن يكون منتشراً فيما بين الصحابة أو عمل به بعض الصحابة ونقل عنه أيضاً
أنه لا يقبل الخبر في الزنا إلا من أربعة والوجه في الاحتجاج والانفصال ما
سبق في مسألة وجوب التعبد بخبر الواحد وأيضاً فليس من شرطه الذكورة لما
اشتهر من أخذ الصحابة بأخبار النساء كما سبق بيانه ولا البصر بل يجوز قبول
رواية الضرير إذا كان حافظاً لما يسمعه وله آلة إدائه ولهذا كانت الصحابة
تروي عن عائشة ما تسمعه من صوتها مع أنهم لا يرون شخصها ولا عدم القرابة بل
تجوز رواية الولد عن الوالد وبالعكس لاتفاق الصحابة على ذلك ولا عدم
العداوة لأن حكم الرواية عام فلا يختص بواحد معين حتى تكون العداوة مؤثرة
فيه ولا الحرية بل هذه الأمور إنما تشترط في الشهادة ولا يشترط أيضاً في
الراوي أن يكون مكثراً من سماع الأحاديث مشهور النسب لاتفاق الصحابة على
قبول رواية من لم يرو سوى خبر واحد وعلى قبول رواية من لا يعرف نسبه إذا
كان مشتملاً على الشرائط المعتبرة ولا يشترط أيضاً أن يكون فقيهاً عالماً
بالعربية وبمعنى الخبر وسواء كانت روايته موافقة للقياس أو مخالفة خلافاً
لأبي حنيفة فيما يخالف القياس لقوله صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأ
سمع مقالتي فوعاها " إلى قوله " فرب حامل فقه ليس بفقيه " دعا له وأقره على
الرواية ولو لم يكن مقبول القول لما كان كذلك ولأن الصحابة سمعوا أخبار
آحاد لم يكونوا فقهاء كما ذكرناه فيما تقدم ولأن الاعتماد على خبر النبي
صلى الله عليه وسلم والظاهر من الراوي إذا كان عدلاً متديناً أنه لا يروي
إلا ما يتحققه على الوجه الذي سمعه.القسم الثالث
في مستندات الراوي وكيفية روايته
الراوي
لا يخلو إما أن يكون صحابياً أو غير صحابي فإن كان صحابياً فقد اتفقوا على
أنه إذا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا أو أخبرني أو
حدثني أو شافهني رسول الله بكذا فهو خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب
القبول واختلفوا في مسائل.
المسألة الأولى إذا قال الصحابي: قال رسول
الله كذا اختلفوا فيه فذهب الأكثرون إلى أنه سمعه من النبي صلى الله عليه
وسلم فيكون حجة من غير خلاف وقال القاضي أبو بكر: لا يحكم بذلك بل هو متردد
بين أن يكون قد سمعه من النبي عليه السلام وبين أن يكون قد سمعه من غيره
وبتقدير أن يكون قد سمعه من غير النبي صلى الله عليه وسلم فمن قال بعدالة
جميع الصحابة فحكمه حكم ما لو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن قال
بأن حكم الراوي من الصحابة حكم غيرهم في وجوب الكشف عن حال الراوي منهم
فحكمه حكم مراسيل تابع التابعين وسيأتي تفصيل القول فيه.
والظاهر أن ذلك
محمول على سماعه من غير واسطة مع إمكان سماعه من الواسطة لأن قوله قال
يوهم السماع من النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة إيهاماً ظاهراً
والظاهر من حال الصحابي العدل العارف بأوضاع اللغة أنه لا يأتي بلفظ يوهم
معنى ويريد غيره.
المسألة الثانية إذا قال الصحابي سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يأمر بكذا أو ينهى عن كذا اختلفوا في كونه حجة فذهب قوم إلى
أنه ليس بحجة لأن الاحتجاج إنما هو بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم وقول
الصحابي سمعته يأمر وينهي لا يدل على وجود الأمر والنهي من النبي صلى الله
عليه وسلم لاختلاف الناس في صيغ الأمر والنهي فلعله سمع صيغة اعتقد أنها
أمر أو نهي وليست كذلك عند غيره ويحتمل أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم
يأمر بشيء أو ينهى عن شيء وهو ممن يعتقد أن الأمر بالشيء نهي عن جميع
أضداده وأن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده فنقل الأمر والنهي وليس بأمر
ولا نهي عند غيره.
والذي عليه اعتماد الأكثرين أنه حجة وهو الأظهر وذلك
لأن الظاهر من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة أن يكون عارفاً
بمواقع الخلاف والوفاق وعند ذلك فالظاهر من حاله أنه لا ينقل إلا ما تحقق
أنه أمر أو نهي من غير خلاف نفياً للتدليس والتلبيس عنه بنقل ما يوجب على
سامعه اعتقاد الأمر والنهي فيما لا يعتقده أمراً ولا نهياً.
المسألة
الثالثة إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا وأوجب علينا كذا وحرم
علينا كذا أو أبيح لنا كذا فمذهب الشافعي وأكثر الأئمة أنه يجب إضافة ذلك
إلى النبي عليه السلام وذهب جماعة من الأصوليين والكرخي من أصحاب أبي حنيفة
إلى المنع من ذلك مصيراً منهم إلى أن ذلك متردد بين كونه مضافاً إلى النبي
عليه السلام وبين كونه مضافاً إلى أمر الكتاب أو الأمة أو بعض الأئمة وبين
أن يكون قد قال ذلك عن الاستنباط والقياس وأضافه إلى صاحب الشرع بناء على
أن موجب القياس مأمور باتباعه من الشارع.
وإذا احتمل واحتمل لا يكون
مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا يكون حجة والظاهر مذهب الشافعي
وذلك لأن من كان مقدماً على جماعة وهم بصدد امتثال أوامره ونواهيه فإذا
قال الواحد منهم: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا فالظاهر أنه يريد أمر ذلك
المقدم ونهيه والصحابة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النحو
فإذا قال الصحابي منهم: أمرنا أو نهينا: كان الظاهر منه أمر النبي صلى
الله عليه وسلم ونهيه ولا يمكن حمله على أمر الكتاب ونهيه لأنه لو كان كذلك
لكان ظاهراً للكل فلا يختص بمعرفته الواحد منهم ولا على أمر الأمة ونهيها
لأن قول الصحابي: أمرنا ونهينا قول الأمة وهم لا يأمرون وينهون أنفسهم ولا
على أمر الواحد من الصحابة إذ ليس أمر البعض للبعض أولى من العكس كيف وإن
الظاهر من الصحابي أنه إنما يقصد بذلك تعريف الشرع وذلك لا يكون ثابتاً
بأمر الواحد من الصحابة ونهيه ولا أن يكون ذلك بناء على ما قيل من القياس
والاستنباط لوجهين: الأول أن قول الصحابي: أمرنا ونهينا خطاب مع الجماعة
وما ظهر لبعض المجتهدين من القياس وإن كان مأموراً باتباع حكمه فذلك غير
موجب للأمر باتباع من لم يظهر له ذلك القياس.
الثاني أن قوله: أمرنا ونهينا بكذا عن كذا إنما يفهم منه مطلق الأمر والنهي لا الأمر باتباع حكم القياس.
المسألة
الرابعة اختلفوا في قول الصحابي: من السنة كذا فذهب الأكثرون إلى أن ذلك
محمول على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافاً لأبي الحسن الكرخي من
أصحاب أبي حنيفة والمختار مذهب الأكثرين وذلك لما ذكرناه في المسألة
المتقدمة.
فإن قيل: اسم السنة متردد بين سنة النبي وسنة الخلفاء
الراشدين على ما قال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وإذا كان اللفظ متردداً بين
احتمالين فلا يكون صرفه إلى أحدهما دون الآخر أولى من العكس.
قلنا: وإن
سلمنا صحة إطلاق السنة على ما ذكروه غير أن احتمال إرادة سنة النبي صلى
الله عليه وسلم أولى لوجهين: الأول أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أصل
وسنة الخلفاء الراشدين تبع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومقصود الصحابي
إنما هو بيان الشرعية ولا يخفى أن إسناد ما قصد بيانه إلى الأصل أولى من
إسناده إلى التابع.
الثاني أن ذلك هو المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ السنة في كلام الصحابي لما ذكرناه في المسألة المتقدمة فكان الحمل عليه أولى.
المسألة
الخامسة إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا وكانوا يفعلون كذا وذلك كقول عائشة
كانوا لا يقطعون في الشيء التافه وكقول إبراهيم النخعي: كانوا يحذفون
التكبير حذفاً فهو عند الأكثرين محمول على فعل الجماعة دون بعضهم خلافاً
لبعض الأصوليين ويدل على مذهب الأكثرين أن الظاهر من الصحابي أنه إنما أورد
ذلك في معرض الاحتجاج وإنما يكون ذلك حجة إن لو كان ما نقله مستنداً إلى
فعل الجميع لأن فعل البعض لا يكون حجة على البعض الآخر ولا على غيرهم.
فإن
قيل لو كان ذلك مستنداً إلى فعل الجميع لكان إجماعاً ولما ساغ مخالفته
بطريق الاجتهاد فيه وحيث سوغتم ذلك دل على عوده إلى البعض دون الكل.
قلنا:
تسويغ الاجتهاد فيه إنما كان لأن إضافة ذلك إلى الجميع وقع ظناً لا قطعاً
وذلك كما يسوغ الاجتهاد فيما يرويه الواحد من الألفاظ القاطعة في الدلالة
عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان طريق اتباعه ظنياً وإن كان لا يسوغ
فيه الاجتهاد عندما إذا ثبت بطريق قاطع.
وأما إن كان الراوي غير صحابي
فمستنده في الرواية إما قراءة الشيخ لما يرويه عنه أو القراءة على الشيخ أو
إجازة الشيخ له أو أن يكتب له كتاباً بما يرويه عنه أو يناوله الكتاب الذي
يرويه عنه أو أن يرى خطاً يظنه خط الشيخ بأني سمعت عن فلان كذا.
فإن
كان مستنده في الرواية قراءة الشيخ فإما أن يكون الشيخ قد قصد إسماعه
بالقراءة أو لم يقصد إسماعه بطريق من الطرق فإن قصد إسماعه بالقراءة أو مع
غيره فهذا هو أعلى الرتب في الرواية وللراوي عنه أن يقول: حدثنا وأخبرنا
وقال فلان وسمعته يقول كذا وإن لم يقصد إسماعه فليس له أن يقول: حدثنا
وأخبرنا لأنه يكون كاذباً في ذلك بل له أن يقول: قال فلان كذا وسمعته يقول
كذا ويحدث بكذا ويخبر بكذا.
وأما القراءة على الشيخ مع سكوت الشيخ من
غير ما يوجب السكوت عن الإنكار من إكراه أو غفلة أو غير ذلك فقد اتفقوا على
وجوب العمل به خلافاً لبعض أهل الظاهر لأنه لو لم تكن روايته صحيحة لكان
سكوته عن الإنكار مع القدرة عليه فسقاً لما فيه من إيهام صحة ما ليس بصحيح
وذلك بعيد عن العدل المتدين ثم اتفق القائلون بالصحة على تسليط الراوي على
قوله: أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه واختلفوا في جواز قوله حدثنا وأخبرنا
مطلقاً والأظهر امتناعه لأن ذلك يشعر بنطق الشيخ وذلك من غير نطق منه كذب.
وأما
إجازة الشيخ وذلك بأن يقول: أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح
عندك من مسموعاتي فقد اختلفوا في جواز الرواية بالإجازة: فجوزه أصحاب
الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر المحدثين واتفق هؤلاء على تسليط الراوي على
قوله: أجازني فلان كذا وحدثني وأخبرني إجازة واختلفوا في قوله: حدثني
وأخبرني مطلقاً والذي عليه الأكثر وهو الأظهر أنه لا يجوز لأن ذلك يشعر
بنطق الشيخ بذلك وهو كذب وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا تجوز الرواية
بالإجازة مطلقاً وقال أبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة إنه إن كان المجيز
والمجاز له قد علماً ما في الكتاب الذي أجاز روايته جازت روايته بقوله:
أخبرني وحدثني وذلك كما لو كتب إنسان صكاً والشهود يرونه ثم قال لهم اشهدوا
علي بجميع ما في هذا الصك فإنه يجوز لهم إقامة الشهادة عليه بما في ذلك
الكتاب وإلا فلا والمختار إنما هو جواز الرواية بالإجازة وذلك لأن المجيز
عدل ثقة والظاهر أنه لم يجز إلا ما علم صحته وإلا كان بإجازته رواية ما لم
يروه فاسقاً وهو بعيد عن العدل وإذا علمت الرواية أو ظنت بإجازته جازت
الرواية عنه كما لو كان هو القارئ أو قرئ عليه وهو ساكت.
فإن قيل إنه لم
يوجد من المحدث فعل الحديث ولا ما يجري مجرى فعله فلم يجز أن يقول الراوي
عنه: أخبرني ولا حدثني لأنه يكون كذباً ولأنه قادر على أن يحدث به فحيث لم
يحدث به دل على أنه غير صحيح عنده.
قلنا: هذا باطل بما إذا كان الراوي
عن الشيخ هو القارئ فإنه لم يوجد من الشيخ فعل الحديث ولا ما يجري مجراه
وهو قادر على القراءة بنفسه ومع ذلك فإنه يجوز للراوي أن يقول: أخبرني
وحدثني حيث كانت قراءته عليه مع السكوت دليل صحة الحديث وعلى ما ذكرناه من
الخلاف في الإجازة والخريف والمختار يكون الكلام فيما إذا ناوله كتاباً فيه
حديث هو سماعه وقال له قد أجزت لك أن تروي عني ما فيه وله أن يقول: ناولني
فلان كذا وأخبرني وحدثني مناولة وكذلك الحكم أيضاً إذا كتب إليه بحديث
وقال: أجزت لك روايته عني فإنه يدل على صحته ويسلط الراوي على أن يقول
كاتبني بكذا وحدثني أو أخبرني بكذا كتابة ولو اقتصر على المناولة أو
الكتابة دون لفظ الإجازة لم تجز له الرواية إذ ليس في الكتابة والمناولة ما
يدل على تسويغ الرواية عنه ولا على صحة الحديث في نفسه.
وأما رؤية خط
الشيخ بأني سمعت من فلان كذا فلا يجوز مع ذلك الرواية عنه وسواء قال: هذا
خطي أو لم يقل لأنه قد يكتب ما سمعه ثم يشكك فيه فلا بد من التسليط من قبل
الشيخ على الرواية عنه بطريقة إذ ليس لأحد رواية ما شك في روايته إجماعاً
وعلى هذا فلو روى كتاباً عن بعض المحدثين وشك في حديث واحد منه غير معين لم
تجز له رواية شيء منه لأنه ما من واحد ومن تلك الأحاديث إلا ويجوز أن يكون
هو المشكوك فيه وكذلك لو روى عن جماعة حديثاً وشك في روايته عن بعضهم من
غير تعيين فليس له الرواية عن واحد منهم لأنه ما من واحد إلا ويجوز أن يكون
هو المشكوك في الرواية عنه والرواية مع الشك ممتنعة نعم لو غلب على ظنه
رواية الحديث عن بعض المشايخ وسماعه منه فهذا مما اختلف فيه فقال أبو
حنيفة: لا تجوز روايته ولا العمل به لأنه حكم على المروي عنه بأنه حدثه به
فلا يجوز مع عدم العلم كما في الشهادة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن
الحسن: تجوز له الرواية والعمل به لأن ذلك مما يغلب على الظن صحته ولهذا
فإن آحاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون كتب الرسول إلى
أطراف البلاد في أمور الصدقات وغيرها وكان يجب على كل أحد الأخذ بها بإخبار
حاملها أنها من كتب الرسول وإن لم يكن ما فيها مما سمعه الحامل ولا
المحمول إليه لكونها مغلبة على الظن ولا كذلك في الشهادة لأنه قد اعتبر
فيها من الاحتياط ما لم يعتبر مثله في الرواية كما ذكرناه فيما تقدم وعلى
هذا فلو قال عدل من عدول المحدثين عن كتاب من كتب الحديث إنه صحيح فالحكم
في جواز الأخذ به والخلاف فيه كما سبق فيما إذا ظن أنه يرويه مع الاتفاق
على أنه لا تجوز روايته عنه بخلاف ما إذا ظن الرواية عنه.القسم الرابع
فيما اختلف في رد خبر الواحد به
وفيه عشر مسائل: المسألة الأولى
اختلفوا
في نقل حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى دون اللفظ والذي عليه اتفاق
الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والحسن البصري وأكثر الأئمة أنه
يحرم ذلك على الناقل إذا كان غير عارف بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها وإن
كان عالماً بذلك فالأولى له النقل بنفس اللفظ إذ هو أبعد عن التغيير
والتبديل وسوء التأويل وإن نقله بالمعنى من غير زيادة في المعنى ولا نقصان
منه فهو جائز.
ونقل عن ابن سيرين وجماعة من السلف وجوب نقل اللفظ على صورته وهو اختيار أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة.
ومنهم
من فصل وقال بجواز إبدال اللفظ بما يرادفه ولا يشتبه الحال فيه ولا يجوز
بما عدا ذلك والمختار مذهب الجمهور ويدل عليه النص والإجماع والأثر
والمعقول.
أما النص فما روي ابن مسعود أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه
وسلم وقال له: يا رسول الله تحدثنا بحديث لا نقدر أن نسوقه كما سمعناه فقال
صلى الله عليه وسلم " إذا أصاب أحدكم المعنى فليحدث " وأيضاً فإن النبي
صلى الله عليه وسلم كان مقرراً لآحاد رسله إلى البلاد في إبلاغ أوامره
ونواهيه بلغة المبعوث إليهم دون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وهو دليل
الجواز.
وأما الإجماع فما روي عن ابن مسعود أنه كان إذا حدث قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أو نحوه ولم ينكر عليه منكر فكان
إجماعاً.
وأما الأثر فما روي عن مكحول أنه قال: دخلنا على واثلة بن
الأسقع فقلنا حدثنا حديثاً ليس فيه تقديم ولا تأخير فغضب وقال لا بأس إذا
قدمت وأخرت إذا أصبت المعنى.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الإجماع
منعقد على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم وإذا جاز الإبدال بغير العربية في
تفهيم المعنى فالعربية أولى الثاني هو أنا نعلم أن اللفظ غير مقصود لذاته
ونفسه ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر المعنى في الكرات
المتعددة بألفاظ مختلفة بل المقصود إنما هو المعنى ومع حصول المعنى فلا أثر
لاختلاف اللفظ.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول: أما النص
فقوله صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما
سمعها فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " .
وأما
المعقول فمن وجهين: الأول أن العلماء بالعربية وأهل الاجتهاد قد يختلفون
في معنى اللفظ الوارد مع اتحاده حتى إن كل واحد منهم قد يتنبه منه على ما
لا يتنبه عليه الآخر وعند ذلك فالراوي وإن كان عالماً بالعربية واختلاف
دلالات الألفاظ فقد يحمل اللفظ على معنى فهمه من الحديث مع الغفلة عن غير
ذلك فإذا أتى بلفظ يؤدي المعنى الذي فهمه من اللفظ النبوي دون غيره مع
احتمال أن يكون ما أخل به هو المقصود أو بعض المقصود فلا يكون وافياً
بالغرض من اللفظ وربما اختل المقصود من اللفظ بالكلية بتقدير تعدد النقلة
بأن ينقل كل واحد ما سمعه من الراوي الذي قبله بألفاظ غير ألفاظه على حسب
ما يعقله من لفظه مع التفاوت اليسير في المعنى حتى ينتهي المعنى الأخير إلى
مخالفة المعنى المقصود باللفظ النبوي بالكلية وهو ممتنع.
الثاني أن خبر
النبي صلى الله عليه وسلم قول تعبدنا باتباعه فلا يجوز تبديله بغيره
كالقرآن وكلمات الأذان والتشهد والتكبير والجواب عن النص من وجهين: الأول
القول بموجبه وذلك لأن من نقل معنى اللفظ من غير زيادة ولا نقصان يصح أن
يقال أدى ما سمع كما سمع ولهذا يقال لمن ترجم لغة إلى لغة ولم يغير المعنى
أدى ما سمع كما سمع ويدل على أن المراد من الخبر إنما هو نقل المعنى دون
اللفظ ما ذكره من التعليل وهو اختلاف الناس في الفقه إذ هو المؤثر في
اختلاف المعنى وأما الألفاظ التي لا يختلف اجتهاد الناس في قيام بعضها مقام
بعض فذلك مما يستوي فيه الفقيه والأفقه ومن ليس بفقيه ولا يكون مؤثراً في
تغيير المعنى.
الثاني أن هذا الخبر بعينه يدل على جواز نقل الخبر
بالمعنى دون اللفظ وذلك لأن الظاهر أن الخبر المروي حديث واحد والأصل عدم
تكرره من النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فقد روي بألفاظ مختلفة فإنه قد
روي نضر الله امرأ ورحم الله امرأ ورب حامل فقه غير فقيه وروي لا فقه له.
وعن
المعنى الأول من المعقول أن الكلام إنما هو مفروض في نقل المعنى من غير
زيادة ولا نقصان حتى إنه لو ظهرت فيه الزيادة والنقصان لم يكن جائزاً وعن
الثاني بالفرق بين ما نحن فيه وما ذكروه من الأصول المقيس عليها.
أما
القرآن فلأن المقصود من ألفاظه الإعجاز فتغييره مما يخرجه عن الإعجاز فلا
يجوز ولا كذلك الخبر فإن المقصود منه المعنى دون اللفظ ولهذا فإنه لا يجوز
التقديم والتأخير في القرآن وإن لم يختلف المعنى كما لو قال بدل اسجدي
واركعي اركعي واسجدي ولا كذلك في الخبر.
وأما كلمات الآذان والتشهد
والتكبير فالمقصود منها إنما هو التعبد بها وذلك لا يحصل بمعناها والمقصود
من الخبر هو المعنى دون اللفظ كيف وأنه ليس قياس الخبر على ما ذكروه أولى
من قياسه على الشهادة حيث تجوز الشهادة على شهادة الغير مع اتحاد المعنى
وإن كان اللفظ مختلفاً.
المسألة الثانية إذا أنكر الشيخ رواية الفرع عنه فلا يخلو إما أن يكون إنكاره لذلك إنكار جحود وتكذيب للفرع أو إنكار نسيان وتوقف.
فإن
كان الأول فلا خلاف في امتناع العمل بالخبر لأن كل واحد منهما مكذب للآخر
فيما يدعيه ولا بد من كذب أحدهما وهو موجب للقدح في الحديث غير أن ذلك لا
يوجب جرح واحد منهما على التعيين لأن كل واحد منهما عدل وقد وقع الشك في
كذبه والأصل العدالة فلا تترك بالشك وتظهر فائدة ذلك في قبول رواية كل واحد
منهما في غير ذلك الخبر.
وأما إن كان الثاني فقد اختلفوا في قبول ذلك
الخبر والعمل به: فذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل في أصح الروايتين عنه
وأكثر المتكلمين إلى وجوب العمل به خلافاً للكرخي وجماعة من أصحاب أبي
حنيفة ولأحمد بن حنبل في الرواية الأخرى عنه ودليله الإجماع والمعقول.
أما
الإجماع فما روي أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن روى عن سهيل بن أبي صالح عن
أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين مع الشاهد
ثم نسيه سهيل فكان يقول حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم ويرويه هكذا ولم ينكر عليه أحد من التابعين ذلك فكان
إجماعاً منهم على جوازه.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الفرع عدل
وهو جازم بروايته عن الأصل والأصل غير مكذب له وهما عدلان فوجب قبول
الرواية والعمل بها الثاني أن نسيان الأصل للرواية لا تزيد على موته وجنونه
ولو مات أو جن كانت رواية الفرع عنه مقبولة ويجب العمل بها إجماعاً فكذلك
إذا نسي.
فإن قيل: أما الاستدلال بقضية ربيعة فلا حجة فيه لاحتمال أن
سهيلاً ذكر الرواية برواية ربيعة عنه ومع الذكر فالرواية تكون مقبولة ثم هو
معارض بما روي أن عمار بن ياسر قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أما تذكر
يا أمير المؤمنين لما كنا في الأبل فأجنبت فتمعكت في التراب ثم سألت النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: " إنما يكفيك أن تضرب بيديك " فلم يقبل عمر من
عمار ما رواه مع كونه عدلاً عنده لما كان ناسياً له.
وأما ما ذكرتموه من
المعقول فالأصل وإن لم يكن مكذباً للفرع غير أن نسيانه لما نسب إليه يجب
أن يكون مانعاً من العمل به كما لو ادعى مدع أن الحاكم حكم له بشيء فقال
الحاكم: لا أذكر ذلك فأقام المدعي شاهدين شهداً بذلك فإنه لا يقبل وكذلك
إذا أنكر شاهد الأصل شهادة الفرع عليه على سبيل النسيان فإن الشهادة لا
تقبل.
والجواب عن قولهم إن سهيلاً ذكر الرواية قلنا: لو كان كذلك لانطوى
ذكر ربيعة وكان يروي عن شيخه كما لو نسي ثم تذكر بنفسه وأما رد عمر لرواية
عمار عند نسيانه فليس نظيراً لما نحن فيه فإن عماراً لم يكن راوياً عن عمر
بل عن النبي صلى الله عليه وسلم وحيث لم يعمل عمر بروايته فلعله كان شاكاً
في روايته أو كأن ذلك كان مذهباً له فلا يكون حجة على غيره من المجتهدين
على ما سيأتي تقريره.
وأما الحاكم إذا نسي ما حكم به وشهد شاهدان بحكمه
فقد قال مالك وأبو يوسف: يلزمه الحكم بشهادتهما وعندنا وإن لم يجب عليه ذلك
فهو واجب على غيره من القضاة.
وأما القياس على الشهادة فلا يصح لأن
باب الشهادة أضيق من باب الرواية وقد اعتبر فيها من الشروط والقيود ما لم
يعتبر في الرواية وذلك كاعتبار العدد والحرية والذكورة ولا يقبل فيها
العنعنة ولا تصح الشهادة على الشهادة من وراء حجاب ولو قال أعلم بدل قوله
أشهد لا يصح ولا كذلك في الرواية فامتنع القياس.
المسألة الثالثة إذا
روى جماعة من الثقات حديثاً وانفرد واحد منهم بزيادة في الحديث لا تخالف
المزيد عليه كما لو روى جماعة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت
وانفرد واحد منهم بزيادة فقال: دخل البيت وصلى فلا يخلو إما أن يكون مجلس
الرواية مختلفاً بأن يكون المنفرد بالزيادة روايته عن مجلس غير مجلس
الباقين أو أن مجلس الرواية متحد أو يجهل الأمران.
فإن كان المجلس
مختلفاً فلا نعرف خلافاً في قبول الزيادة لاحتمال أن يكون النبي صلى الله
عليه وسلم قد فعل الزيادة في أحد المجلسين دون الآخر والراوي عدل ثقة ولم
يوجد ما يقدح في روايته فكانت روايته مقبولة ولهذا فإنه لو روى حديثاً لم
ينقله غيره مع عدم حضوره لم يقدح ذلك في روايته وكذلك لو شهد اثنان على شخص
بألفي درهم لزيد في مجلس وشهدت بينة أخرى عليه في مجلس آخر بألف لا يكون
ذلك قادحاً في الألف الزائدة مع أن باب الشهادة أضيق من باب الرواية كما
قررنا.
وأما إن اتحد المجلس فإن كان من لم يرو الزيادة قد انتهوا إلى
عدد لا يتصور في العادة غفلة مثلهم عن سماع تلك الزيادة وفهمها فلا يخفى أن
تطرق الغلط والسهو إلى الواحد فيما نقله من الزيادة يكون أولى من تطرق ذلك
إلى العدد المفروض فيجب ردها وإن لم ينتهوا إلى هذا الحد فقد اتفق جماعة
الفقهاء والمتكلمين على وجوب قبول الزيادة خلافاً لجماعة من المحدثين
ولأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ودليل ذلك أن الراوي عدل ثقة وقد جزم
بالرواية وعدم نقل الغير لها فلاحتمال أن يكون من لم ينقل الزيادة قد دخل
في أثناء المجلس وسمع بعض الحديث أو خرج في أثناء المجلس لطارئ أوجب له
الخروج قبل سماع الزيادة وبتقدير أن يكون حاضراً من أول المجلس إلى آخره
فلاحتمال أن يكون قد طرأ ما شغله عن سماع الزيادة وفهمها من سهو أو ألم أو
جوع أو عطش مفرط أو فكرة في أمر مهم أو اشتغال بحديث مع غيره والتفات إليه
أو أنه نسيها بعد ما سمعها ومع تطرق هذه الاحتمالات وجزم العدل بالرواية لا
يكون عدم نقل غيره للزيادة قادحاً في روايته.
فإن قيل: هذه الاحتمالات
وإن كانت منقدحة في حق من لم يرو الزيادة فاحتمال الغلط والسهو على الناقل
للزيادة أيضاً منقدح وذلك بأن يتوهم أنه سمع تلك الزيادة ولم يكن قد سمعها
أو أنه سمعها من غير الرسول وتوهم سماعها من الرسول أو أنه ذكرها على سبيل
التفسير والتأويل فظن السامع أنها زيادة في الحديث المروي وذلك كما روى ابن
عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى
قال ابن عباس: ولا أحسب غير الطعام إلا كالطعام فأدرجه بعض الرواة في
الحديث وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " فإذا زادت
الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة " فظن الراوي أن الاستئناف إعادة
للفرض الأول في المائة الأولى فقال: في كل خ
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الراوي مسلم لم يظهر منه فسق فكان
خبره مقبولاً كإخباره بكون اللحم لحم مذكي وكون الماء طاهراً أو نجساً وكون
الجارية المبيعة رقيقة وكونه متطهراً عن الحدثين حتى يصح الاقتداء به
ونحوه والثاني أنه لو أسلم كافر وروى عقيب إسلامه خبراً من غير مهلة فمع
ظهور إسلامه وعدم وجود ما يوجب فسقه بعد إسلامه يمتنع رد روايته وإذا قبلت
روايته حال إسلامه فطول مدته في الإسلام أولى أن لا توجب رده.
والجواب
عن الآية أن العمل بموجبها نفياً وإثباتاً متوقف على معرفة كونه فاسقاً أو
ليس فاسقاً لا على عدم علمنا بفسقه وذلك لا يتم دون البحث والكشف عن حاله
وعن الخبر الأول من ثلاثة أوجه: الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف
الحكم بالظاهر إلى نفسه ولا يلزم مثله في حق غيره إلا بطريق القياس عليه لا
بنفس النص المذكور والقياس عليه ممتنع لأن ما للنبي صلى الله عليه وسلم من
الاطلاع والمعرفة بأحوال المخبر لصفاء جوهر نفسه واختصاصه عن الخلق بمعرفة
ما لا يعرفه أحد منهم من الأمور الغيبية غير متحقق في حق غيره.
الثاني
أنه رتب الحكم على الظاهر وذلك وإن كان يدل على كونه علة لقبوله والعمل به
فتخلف الحكم عنه في الشهادة على العقوبات والفتوى يدل على أنه ليس بعلة.
الثالث
المعارضة بقوله تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس " وليس
العمل بعموم أحد النصين وتأويل الآخر أولى من الآخر بل العمل بالآية أولى
لأنها متواترة وما ذكروه آحاد.
وعن الخبر الثاني: لا نسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم من حال الأعرابي سوى الإسلام.
وعن
الإجماع لا نسلم أن الصحابة قبلوا رواية أحد من المجاهيل فيما يتعلق
بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا ردوا رواية من جهلوه كرد عمر شهادة
فاطمة بنت قيس ورد علي شهادة الأعرابي.
وعن الوجه الأول من المعقول
بالفرق بين صور الاستشهاد ومحل النزاع وذلك من وجهين: الأول أن الرواية عن
النبي صلى الله عليه وسلم أعلى رتبة وأشرف منصباً من الإخبار فيما ذكروه من
الصور فلا يلزم من القبول مع الجهل بحال الراوي فيما هو أدنى الرتبتين
قبوله في أعلاهما الثاني أن الإخبار فيما ذكروه من الصور مقبول مع ظهور
الفسق ولا كذلك فيما نحن فيه.
وعن الوجه الثاني من المعقول بمنع قبول
روايته دون الخبرة بحاله لاحتمال أن يكون كذوباً وهو باق على طبعه وإن
قلنا: روايته في مبدأ إسلامه فلا يلزم ذلك في حالة دوامه لما بين ابتداء
الإسلام ودوامه من رقة القلب وشدة الأخذ بموجباته والحرص على امتثال
مأموراته واجتناب منهياته على ما يشهد به العرف والعادة في حق كل من دخل في
أمر محبوب والتزمه فإن غرامه به في الابتداء يكون أشد منه في دوامه.
المسألة الثانية الفاسق المتأول الذي لا يعلم فسق نفسه لا يخلو إما أن يكون فسقه مظنوناً أو مقطوعاً به.
فإن
كان مظنوناً كفسق الحنفي إذا شرب النبيذ فالأظهر قبول روايته وشهادته وقد
قال الشافعي رضي الله عنه: إذا شرب الحنفي النبيذ أحده وأقبل شهادته.
وإن
كان فسقه مقطوعاً به فإما أن يكون ممن يرى الكذب ويتدين به أو لا يكون
كذلك: فإن كان الأول فلا نعرف خلافاً في امتناع قبول شهادته كالخطائية من
الرافضة لأنهم يرون شهادة الزور لموافقهم في المذهب وإن كان الثاني كفسق
الخوارج الذين استباحوا الدار وقتلوا الأطفال والنسوان فهو موضع الخلاف:
فمذهب الشافعي وأتباعه وأكثر الفقهاء أن روايته وشهادته مقبولة وهو اختيار
الغزالي وأبي الحسين البصري وكثير من الأصوليين وذهب القاضي أبو بكر
والجبائي وأبو هاشم وجماعة من الأصوليين إلى امتناع قبول شهادته وروايته
وهو المختار.
وقد احتج النافون بحجة ضعيفة وذلك أنهم قالوا: أجمعنا على
أن الفاسق المفروض لو كان عالماً بفسقه لم يقبل خبره فإذا كان جاهلاً بفسقه
معتقداً أنه ليس بفاسق فقد انضم إلى فسقه فسق آخر وخطيئة أخرى وهو اعتقاده
في الفسق أنه ليس بفسق فكان أولى أن لا يقبل خبره.
ولقائل أن يقول:
إذا لم يعتقد أنه فاسق وكان متحرجاً محترزاً في دينه عن الكذب وارتكاب
المعصية فكان إخباره مغلباً على الظن صدقه بخلاف ما إذا علم أن ما يأتي به
فسقاً فذلك يدل على قلة مبالاته بالمعصية وعدم تحرزه عن الكذب فافترقا
والمعتمد في ذلك النص والمعقول: أما النص فقوله تعالى: " إن جاءكم فاسق
بنبأ فتثبتوا " " الحجرات 6 " أمر برد نبأ الفاسق والخلاف إنما هو فيمن قطع
بفسقه فكان مندرجاً تحت عموم الآية غير أنا خالفناه فيمن كان فسقه مظنوناً
وما نحن فيه مقطوع بفسقه فلا يكون في معنى صورة المخالفة وأيضا قوله
تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " " يونس 36 " غير أنا خالفناه في
خبر من ظهرت عدالته وفيمن كان فسقه مظنوناً فيبقى فيما عداه على مقتضى
الدليل.
وأما المعقول فهو أن القول بقبول خبره يستدعي دليلاً والأصل
عدمه فإن قيل: بيان وجود الدليل النص والإجماع والقياس: أما النص فقوله صلى
الله عليه وسلم " إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " والفاسق فيما
نحن فيه محترز عن الكذب متدين بتحريمه فكان صدقه في خبره ظاهراً فكان
مندرجاً تحت عموم الخبر.
وأما الإجماع فهو أن علياً عليه السلام والصحابة قبلوا أقوال قتلة عثمان والخوارج مع فسقهم ولم ينكر ذلك منكر فكان ذلك إجماعاً.
وأما
القياس فهو أن الظن بصدقه موجود فكان واجب القبول مبالغة في تحصيل مقصوده
قياساً على العدل والمظنون فسقه والجواب: عن الخبر ما سبق في المسألة التي
قبلها.
وعن الإجماع: أنا لا نسلم أن كل من قبل شهادة الخوارج وقتلة
عثمان كانوا يعتقدون فسقهم فإن الخوارج من جملة المسلمين والصحابة ولم
يكونوا معتقدين فسق أنفسهم ومع عدم اعتقاد الجميع لفسقهم وإن قبلوا شهادتهم
فلا يتحقق انعقاد الإجماع على قبول خبر الفاسق.
وعن القياس بالفرق في
الأصول المستشهد بها أما في العدل فلظهور عدالته واستحقاقه لمنصب الشهادة
والرواية وذلك يناسب قبوله إعظاماً له وإجلالاً بخلاف الفاسق وأما في مظنون
الفسق فلأن حاله في استحقاق منصب الشهادة والرواية أقرب من حال من كان
فسقه مقطوعاً به فلا يلزم من القبول ثم القبول هاهنا.
المسألة الثالثة
اختلفوا في الجرح والتعديل: هل يثبت بقول الواحد أو لا؟ فذهب قوم إلى أنه
لا بد في التعديل والجرح من اعتبار العدد في الرواية والشهادة وذهب آخرون
إلى الاكتفاء بالواحد فيهما وهو اختيار القاضي أبي بكر.
والذي عليه
الأكثر إنما هو الاكتفاء بالواحد في باب الرواية دون الشهادة وهو الأشبه
وذلك لأنه لا نص ولا إجماع في هذه المسألة يدل على تعيين أحد هذه المذاهب
فلم يبق غير التشبيه والقياس.
ولا يخفى أن العدالة شرط في قبول الشهادة
والرواية والشرط لا يزيد في إثباته على مشروطه فكان إلحاق الشرط بالمشروط
في طريق إثباته أولى من إلحاقه بغيره وقد اعتبر العدد في قبول الشهادة دون
قبول الرواية فكان الحكم في شرط كل واحد منهما ما هو الحكم في مشروطه.
فإن
قيل: التزكية والتعديل شهادة فكان العدد معتبراً فيهما كالشهادة على
الحقوق قلنا: ليس ذلك أولى من قول القائل بأنها إخبار فلا يعتبر العدد في
قبولها كنفس الرواية فإن قيل: إلا أن ما ذكرناه أولى لما فيه من زيادة
الاحتياط.
قلنا: بل ما يقوله الخصم أولى حذراً من تضييع أوامر الله
تعالى ونواهيه كيف وأن اعتبار قول الواحد في الجرح والتعديل أصل متفق عليه
واعتبار ضم قول غيره إليه يستدعي دليلاً والأصل عدمه ولا يخفى أن ما يلزم
منه موافقة النفي الأصلي أولى مما يلزم منه مخالفته.
المسألة الرابعة
اختلفوا في قبول الجرح والتعديل دون ذكر سببهما: فقال قوم: لا بد من ذكر
السبب فيهما أما في الجرح فلاختلاف الناس فيما يجرح به فلعله اعتقده جارحاً
وغيره لا يراه جارحاً وأما في العدالة فلأن مطلق التعديل لا يكون محصلاً
للثقة بالعدالة لجري العادة بتسارع الناس إلى ذلك بناء على الظاهر.
وقال قوم: لا حاجة إلى ذلك فيهما اكتفاء ببصيرة المزكي والجارح وهو اختيار القاضي أبي بكر.
وقال
الشافعي رضي الله عنه لا بد من ذكر سبب الجرح لاختلاف الناس فيما يجرح به
بخلاف العدالة فإن سببها واحد لا اختلاف فيه ومنهم من عكس الحال واعتبر ذكر
سبب العدالة دون الجرح.
والمختار إنما هو مذهب القاضي أبي بكر وذلك
لأنه إما أن يكون المزكي والجارح عدلاً بصيراً بما يجرح به ويعدل أو لا
يكون كذلك فإن لم يكن عدلاً أو كان عدلاً وليس بصيراً فلا اعتبار بقوله وإن
كان عدلاً بصيراً وجب الاكتفاء بمطلق جرحه وتعديله إذا الغالب مع كونه
عدلاً بصيراً أنه ما أخبر بالعدالة والجرح إلا وهو صادق في مقاله فلا معنى
لاشتراط إظهار السبب مع ذلك.
والقول بأن الناس قد اختلفوا فيما يجرح به
وإن كان حقاً إلا أن الظاهر من حال العدل البصير بجهات الجرح والتعديل أنه
أيضاً يكون عارفاً بمواقع الخلاف في ذلك والظاهر أنه لا يطلق الجرح إلا في
صورة علم الوفاق عليها وإلا كان مدلساً ملبساً بما يوهم الجرح على من لا
يعتقده وهو خلاف مقتضى العدالة والدين وبمثل هذا يظهر أنه ما أطلق التعديل
إلا بعد الخبرة الباطنة والإحاطة بسريرة المخبر عنه ومعرفة اشتماله على سبب
العدالة دون البناء على ظاهر الحال.
المسألة الخامسة إذا تعارض الجرح
والتعديل فلا يخلو إما أن يكون الجارح قد عين السبب أو لم يعينه: فإن لم
يعينه فقول الجارح يكون مقدماً لاطلاعه على ما لم يعرفه العدل ولا نفاه
لامتناع الشهادة على النفي وإن عين السبب بأن يقول تقديراً: رأيته وقد قتل
فلاناً فلا يخلو إما أن لا يتعرض المعدل لنفي ذلك أو يتعرض لنفيه.
فإن
كان الأول فقول الجارح يكون مقدماً لما سبق وإن تعرض لنفيه بأن قال: رأيت
فلاناً المدعي قتله حياً بعد ذلك فهاهنا يتعارضان ويصح ترجيح أحدهما على
الآخر بكثرة العدد وشدة الورع والتحفظ وزيادة البصيرة إلى غير ذلك مما ترجح
به إحدى الروايتين على الأخرى كما سيأتي تحقيقه.
المسألة السادسة في
طرق الجرح والتعديل. أما طرق التعديل فمتفاوتة في القوة والضعف وذلك لأنه
لا يخلو إما أن يصرح المزكي بالتعديل قولاً أو لا يصرح به فإن صرح به بأن
يقول هو عدل رضاً فإما أن يذكر مع ذلك السبب بأن يقول لأني عرفت منه كذا
وكذا أو لا يذكر السبب فإن كان الأول فهو تعديل متفق عليه وإن كان الثاني
فمختلف فيه والأظهر منه التعديل كما سبق في المسألة المتقدمة فهذا الطريق
مرجوح بالنسبة إلى الأول للاختلاف فيه ولنقصان البيان فيه بخلاف الأول.
وأما إن لم يصرح بالتعديل قولاً لكن حكم بشهادته أو عمل بروايته أو روى عنه خبراً.
فإن
حكم بشهادته فهو أيضاً تعديل متفق عليه وإلا كان الحاكم فاسقاً بشهادة من
ليس بعدل عنده وهذه الطريق أعلى من التزكية بالقول من غير ذكر سبب
لتفاوتهما في الاتفاق والاختلاف اللهم إلا أن يكون الحاكم ممن يرى الحكم
بشهادة الفاسق وأما بالنسبة إلى التزكية بالقول مع ذكر السبب فالأشبه
التعادل بينهما لاستوائهما في الاتفاق عليهما والأول وإن اختص بذكر السبب
فهذا مختص بإلزام الغير بقبول الشاهد بخلاف الأول.
وأما إن عمل بروايته
على وجه علم أنه لا مستند له في العمل سواها ولا يكون ذلك من باب الاحتياط
فهو أيضاً تعديل متفق عليه وإلا كان عمله برواية من ليس بعدل فسقاً وهذا
الطريق وإن احتمل أن يكون العمل فيه مستنداً إلى ظهور الإسلام والسلامة من
الفسق ظاهراً كما في التعديل بالقول من غير ذكر السبب فهو راجح على التعديل
بالقول من غير ذكر السبب للاتفاق عليه والاختلاف في ذلك ومرجوح بالنسبة
إلى التزكية بالقول مع ذكر السبب وبالنسبة إلى الحكم بالشهادة لأن باب
الشهادة أعلى من باب الرواية ولذلك اشترط فيه ما لم يشترط في باب الرواية
كما سيأتي تعريفه فكان الاحتياط والاحتراز فيها أتم وأوفى وأما إن روى عنه
فهذا مما اختلف فيه هل هو تعديل أو لا.
ومنهم من فصل وقال: إن عرف من
قول المزكي أو عادته أنه لا يروي إلا عن العدل فهو تعديل وإلا فلا وهو
المختار وذلك لأن العادة جارية بالرواية عمن لو سئل عن عدالته لتوقف فيها
ولا يلزم من روايته عنه مع عدم معرفته بعدالته أن يكون ملبساً مدلساً في
الدين كما قيل لأنه إنما يكون كذلك إن لو أوجبت روايته عنه على الغير العمل
بها وليس كذلك بل غايته أنه قال سمعته يقول كذا فعلى السامع بالكشف عن حال
المروي عنه إن رام العمل بمقتضى روايته وإلا كان مقصراً وهذا الطريق يشبه
أن يكون مرجوحاً بالنسبة إلى باقي الطرق.
أما بالنسبة إلى التصريح
بالتعديل فظاهر ولا سيما إن اقترن بذكر السبب للاتفاق عليه والاختلاف في
هذا الطريق ولهذا يكون مرجوحاً بالنسبة إلى الحكم بالشهادة للاتفاق عليه
ولاختصاص الشهادة بما ذكرناه قبل.
وأما بالنسبة إلى العمل بالرواية فلاشتراكهما في أصل الرواية واختصاص أحدهما بالعمل بها.
وأما
طرق الجرح فهو أن يصرح بكونه مجروحاً ويذكر مع ذلك سبب الجرح وإن لم يذكر
معه سبب الجرح فهو جرح كما سبق في المسألة المتقدمة لكنه دون الأول
للاختلاف فيه وللاتفاق على الأول وليس من الجرح ترك العمل بروايته والحكم
بشهادته لجواز أن يكون ذلك بسبب غير الجرح وذلك إما لمعارض وإما لأنه غير
ضابط أو لغلبة النسيان والغفلة عليه ونحوه ولا الشهادة بالزنا وكل ما يوجب
الحد على المشهود عليه إذا لم يكمل نصاب الشهادة لأنه لم يأت بصريح القذف
وإنما جاء ذلك محيي الشهادة ولا بما يسوغ فيه الاجتهاد وقد قال به بعض
الأئمة المجتهدين كاللعب بالشطرنج وشرب النبيذ ونحوه ولا بالتدليس وذلك
كقول من لم يعاصر الزهري مثلاً ولكنه روى عمن لقيه قولاً يوهم أنه لقيه
ولقوله: حدثنا فلان وراء النهر موهماً أنه يريد جيحان وإنما يشير به إلى
نهر عيسى مثلاً لأنه ليس بكذب وإنما هو من المعاريض المغنية عن الكذب.
المسألة
السابعة اتفق الجمهور من الأئمة على عدالة الصحابة وقال قوم إن حكمهم في
العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية ومنهم من قال
إنهم لم يزالوا عدولاً إلى حين ما وقع من الاختلاف والفتن فيما بينهم وبعد
ذلك فلا بد من البحث في العدالة عن الراوي أو الشاهد منهم إذا لم يكن ظاهر
العدالة ومنهم من قال بأن كل من قاتل علياً عالماً منهم فهو فاسق مردود
الرواية والشهادة لخروجهم عن الإمام الحق ومنهم من قال برد رواية الكل
وشهادتهم لأن أحد الفريقين فاسق وهو غير معلوم ولا معين ومنهم من قال بقبول
رواية كل واحد منهم وشهادته إذا انفرد لأن الأصل فيه العدالة وقد شككنا في
فسقه ولا يقبل ذلك منه مع مخالفة التحقق فسق أحدهما من غير تعيين.
والمختار
إنما هو مذهب الجمهور من الأئمة وذلك بما تحقق من الأدلة الدالة على
عدالتهم ونزاهتهم وتخييرهم على من بعدهم فمن ذلك قوله تعالى: " وكذلك
جعلناكم أمة وسطاً " " البقرة 143 " أي عدولاً وقوله تعالى: " كنتم خير أمة
أخرجت للناس " " آل عمران 110 " وهو خطاب مع الصحابة الموجودين في زمن
النبي صلى الله عليه وسلم ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " أصحابي كالنجوم
بأيهم اقتديتم اهتديتم " والاهتداء بغير عدل محال وقوله صلى الله عليه
وسلم: " إن الله اختار لي أصحاباً وأصهاراً وأنصاراً " واختيار الله تعالى
لا يكون لمن ليس بعدل ومنها ما ظهر واشتهر بالنقل المتواتر الذي لا مراء
فيه من مناصرتهم للرسول والهجرة إليه والجهاد بين يديه والمحافظة على أمور
الدين وإقامة القوانين والتشدد في امتثال أوامر الشرع ونواهيه والقيام
بحدوده ومراسيمه حتى إنهم قتلوا الأهل والأولاد حتى قام الدين واستقام ولا
أدل على العدالة أكثر من ذلك.
وعند ذلك فالواجب أن يحمل كل ما جرى بينهم
من الفتن على أحسن حال وإن كان ذلك إنما لما أدى إليه اجتهاد كل فريق من
اعتقاده أن الواجب ما صار إليه وأنه أوفق للدين وأصلح للمسلمين وعلى هذا
فإما أن يكون كل مجتهد مصيباً أو أن المصيب واحد والآخر مخطئ في اجتهاده
وعلى كلا التقديرين فالشهادة والرواية من الفريقين لا تكون مردودة أما
بتقدير الإصابة فظاهر وأما بتقدير الخطأ مع الاجتهاد فبالإجماع وإذ أتينا
على ما أردناه من بيان عدالة الصحابة فلا بد من الإشارة إلى بيان من يقع
عليه اسم الصحابي.
المسألة الثامنة اختلفوا في مسمى الصحابي: فذهب أكثر
أصحابنا وأحمد بن حنبل إلى أن الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وإن
لم يختص به اختصاص المصحوب ولا روى عنه ولا طالت مدة صحبته وذهب آخرون إلى
أن الصحابي إنما يطلق على من رأى النبي صلى الله عليه وسلم واختص به
اختصاص المصحوب وطالت مدة صحبته وإن لم يرو عنه وذهب عمر بن يحيى إلى أن
هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه
العلم.
والخلاف في هذه المسألة وإن كان آيلاً إلى النزاع في الإطلاق اللفظي فالأشبه إنما هو الأول
ويدل على ذلك ثلاثة أمور.
الأول
أن الصاحب اسم مشتق من الصحبة والصحبة تعم القليل والكثير ومنه يقال صحبته
ساعة وصحبته يوماً وشهراً وأكثر من ذلك كما يقال: فلان كلمني وحدثني
وزارني وإن كان لم يكلمه ولم يحدثه ولم يزره سوى مرة واحدة.
الثاني أنه لو حلف أنه لا يصحب فلاناً في السفر أو ليصحبنه فإنه يبر ويحنث بصحبته ساعة.
الثالث
أنه لو قال قائل: صحبت فلاناً فيصح أن يقال: صحبته ساعة أو يوماً أو أكثر
من ذلك وهل أخذت عنه العلم ورويت عنه أو لا ولولا أن الصحبة شاملة لجميع
هذه الصور ولم تكن مختصة بحالة منها لما احتيج إلى الاستفهام.
فإن قيل:
إن الصاحب في العرف إنما يطلق على المكاثر الملازم ومنه يقال: أصحاب القرية
وأصحاب الكهف والرقيم وأصحاب الرسول وأصحاب الجنة للملازمين لذلك وأصحاب
الحديث للملازمين لدراسته وملازمته دون غيرهم ويدل على ذلك أيضاً أنه يصح
أن يقال فلان لم يصحب فلاناً لكنه وفد عليه أو رآه أو عامله.
والأصل في
النفي أن يكون محمولاً على حقيقته بل ولا يكفي ذلك بل لا بد مع طول المدة
من أخذ العلم والرواية عنه ولهذا يصح أن يقال المزني صاحب الشافعي وأبو
يوسف ومحمد بن الحسن صاحباً أبي حنيفة ولا يصح أن يقال لمن رآهما وعاشرهما
طويلاً ولم يأخذ عنهما أنه صاحب لهما.
والجواب عن الشبهة الأولى أنا لا
نسلم أن اسم الصاحب لا يطلق إلا على المكاثر الملازم ولا يلزم من صحة إطلاق
اسم الصاحب على الملازم المكاثر كما في الصور المستشهد بها امتناع إطلاقه
على غيره بل يجب أن يقال بصحة إطلاق ذلك على المكاثر وغيره حقيقة نظراً إلى
ما وقع به الاشتراك نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ وصحة النفي إنما كان
لأن الصاحب في أصل الوضع وإن كان لمن قلت صحبته أو كثرت غير أنه في عرف
الاستعمال لمن طالت صحبته فإن أريد نفي الصحبة بالمعنى العرفي فحق وإن أريد
نفيها بالمعنى الأصلي فلا يصح.
وهذا هو الجواب عما قيل من اشتراط أخذ العلم والرواية عنه أيضاً.
وإذا
عرف ذلك فلو قال من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم أنا صحابي مع إسلامه
وعدالته فالظاهر صدقه ويحتمل أن لا يصدق في ذلك لكونه متهما بدعوى رتبة
يثبتها لنفسه كما لو قال: أنا عدل أو شهد لنفسه بحق.
هذا ما أردناه من
الشروط المعتبرة وأما الشروط التي ظن أنها شروط وليست كذلك فشروط منها أنه
ليس من شرط قبول الخبر العدد بل يكفي في القبول خبر العدل الواحد خلافاً
للجبائي فإنه قال: لا يقبل إلا أن يضاف إليه خبر عدل آخر أو موافقة ظاهراً
وإن يكون منتشراً فيما بين الصحابة أو عمل به بعض الصحابة ونقل عنه أيضاً
أنه لا يقبل الخبر في الزنا إلا من أربعة والوجه في الاحتجاج والانفصال ما
سبق في مسألة وجوب التعبد بخبر الواحد وأيضاً فليس من شرطه الذكورة لما
اشتهر من أخذ الصحابة بأخبار النساء كما سبق بيانه ولا البصر بل يجوز قبول
رواية الضرير إذا كان حافظاً لما يسمعه وله آلة إدائه ولهذا كانت الصحابة
تروي عن عائشة ما تسمعه من صوتها مع أنهم لا يرون شخصها ولا عدم القرابة بل
تجوز رواية الولد عن الوالد وبالعكس لاتفاق الصحابة على ذلك ولا عدم
العداوة لأن حكم الرواية عام فلا يختص بواحد معين حتى تكون العداوة مؤثرة
فيه ولا الحرية بل هذه الأمور إنما تشترط في الشهادة ولا يشترط أيضاً في
الراوي أن يكون مكثراً من سماع الأحاديث مشهور النسب لاتفاق الصحابة على
قبول رواية من لم يرو سوى خبر واحد وعلى قبول رواية من لا يعرف نسبه إذا
كان مشتملاً على الشرائط المعتبرة ولا يشترط أيضاً أن يكون فقيهاً عالماً
بالعربية وبمعنى الخبر وسواء كانت روايته موافقة للقياس أو مخالفة خلافاً
لأبي حنيفة فيما يخالف القياس لقوله صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأ
سمع مقالتي فوعاها " إلى قوله " فرب حامل فقه ليس بفقيه " دعا له وأقره على
الرواية ولو لم يكن مقبول القول لما كان كذلك ولأن الصحابة سمعوا أخبار
آحاد لم يكونوا فقهاء كما ذكرناه فيما تقدم ولأن الاعتماد على خبر النبي
صلى الله عليه وسلم والظاهر من الراوي إذا كان عدلاً متديناً أنه لا يروي
إلا ما يتحققه على الوجه الذي سمعه.القسم الثالث
في مستندات الراوي وكيفية روايته
الراوي
لا يخلو إما أن يكون صحابياً أو غير صحابي فإن كان صحابياً فقد اتفقوا على
أنه إذا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا أو أخبرني أو
حدثني أو شافهني رسول الله بكذا فهو خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب
القبول واختلفوا في مسائل.
المسألة الأولى إذا قال الصحابي: قال رسول
الله كذا اختلفوا فيه فذهب الأكثرون إلى أنه سمعه من النبي صلى الله عليه
وسلم فيكون حجة من غير خلاف وقال القاضي أبو بكر: لا يحكم بذلك بل هو متردد
بين أن يكون قد سمعه من النبي عليه السلام وبين أن يكون قد سمعه من غيره
وبتقدير أن يكون قد سمعه من غير النبي صلى الله عليه وسلم فمن قال بعدالة
جميع الصحابة فحكمه حكم ما لو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن قال
بأن حكم الراوي من الصحابة حكم غيرهم في وجوب الكشف عن حال الراوي منهم
فحكمه حكم مراسيل تابع التابعين وسيأتي تفصيل القول فيه.
والظاهر أن ذلك
محمول على سماعه من غير واسطة مع إمكان سماعه من الواسطة لأن قوله قال
يوهم السماع من النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة إيهاماً ظاهراً
والظاهر من حال الصحابي العدل العارف بأوضاع اللغة أنه لا يأتي بلفظ يوهم
معنى ويريد غيره.
المسألة الثانية إذا قال الصحابي سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يأمر بكذا أو ينهى عن كذا اختلفوا في كونه حجة فذهب قوم إلى
أنه ليس بحجة لأن الاحتجاج إنما هو بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم وقول
الصحابي سمعته يأمر وينهي لا يدل على وجود الأمر والنهي من النبي صلى الله
عليه وسلم لاختلاف الناس في صيغ الأمر والنهي فلعله سمع صيغة اعتقد أنها
أمر أو نهي وليست كذلك عند غيره ويحتمل أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم
يأمر بشيء أو ينهى عن شيء وهو ممن يعتقد أن الأمر بالشيء نهي عن جميع
أضداده وأن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده فنقل الأمر والنهي وليس بأمر
ولا نهي عند غيره.
والذي عليه اعتماد الأكثرين أنه حجة وهو الأظهر وذلك
لأن الظاهر من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة أن يكون عارفاً
بمواقع الخلاف والوفاق وعند ذلك فالظاهر من حاله أنه لا ينقل إلا ما تحقق
أنه أمر أو نهي من غير خلاف نفياً للتدليس والتلبيس عنه بنقل ما يوجب على
سامعه اعتقاد الأمر والنهي فيما لا يعتقده أمراً ولا نهياً.
المسألة
الثالثة إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا وأوجب علينا كذا وحرم
علينا كذا أو أبيح لنا كذا فمذهب الشافعي وأكثر الأئمة أنه يجب إضافة ذلك
إلى النبي عليه السلام وذهب جماعة من الأصوليين والكرخي من أصحاب أبي حنيفة
إلى المنع من ذلك مصيراً منهم إلى أن ذلك متردد بين كونه مضافاً إلى النبي
عليه السلام وبين كونه مضافاً إلى أمر الكتاب أو الأمة أو بعض الأئمة وبين
أن يكون قد قال ذلك عن الاستنباط والقياس وأضافه إلى صاحب الشرع بناء على
أن موجب القياس مأمور باتباعه من الشارع.
وإذا احتمل واحتمل لا يكون
مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا يكون حجة والظاهر مذهب الشافعي
وذلك لأن من كان مقدماً على جماعة وهم بصدد امتثال أوامره ونواهيه فإذا
قال الواحد منهم: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا فالظاهر أنه يريد أمر ذلك
المقدم ونهيه والصحابة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النحو
فإذا قال الصحابي منهم: أمرنا أو نهينا: كان الظاهر منه أمر النبي صلى
الله عليه وسلم ونهيه ولا يمكن حمله على أمر الكتاب ونهيه لأنه لو كان كذلك
لكان ظاهراً للكل فلا يختص بمعرفته الواحد منهم ولا على أمر الأمة ونهيها
لأن قول الصحابي: أمرنا ونهينا قول الأمة وهم لا يأمرون وينهون أنفسهم ولا
على أمر الواحد من الصحابة إذ ليس أمر البعض للبعض أولى من العكس كيف وإن
الظاهر من الصحابي أنه إنما يقصد بذلك تعريف الشرع وذلك لا يكون ثابتاً
بأمر الواحد من الصحابة ونهيه ولا أن يكون ذلك بناء على ما قيل من القياس
والاستنباط لوجهين: الأول أن قول الصحابي: أمرنا ونهينا خطاب مع الجماعة
وما ظهر لبعض المجتهدين من القياس وإن كان مأموراً باتباع حكمه فذلك غير
موجب للأمر باتباع من لم يظهر له ذلك القياس.
الثاني أن قوله: أمرنا ونهينا بكذا عن كذا إنما يفهم منه مطلق الأمر والنهي لا الأمر باتباع حكم القياس.
المسألة
الرابعة اختلفوا في قول الصحابي: من السنة كذا فذهب الأكثرون إلى أن ذلك
محمول على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافاً لأبي الحسن الكرخي من
أصحاب أبي حنيفة والمختار مذهب الأكثرين وذلك لما ذكرناه في المسألة
المتقدمة.
فإن قيل: اسم السنة متردد بين سنة النبي وسنة الخلفاء
الراشدين على ما قال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وإذا كان اللفظ متردداً بين
احتمالين فلا يكون صرفه إلى أحدهما دون الآخر أولى من العكس.
قلنا: وإن
سلمنا صحة إطلاق السنة على ما ذكروه غير أن احتمال إرادة سنة النبي صلى
الله عليه وسلم أولى لوجهين: الأول أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أصل
وسنة الخلفاء الراشدين تبع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومقصود الصحابي
إنما هو بيان الشرعية ولا يخفى أن إسناد ما قصد بيانه إلى الأصل أولى من
إسناده إلى التابع.
الثاني أن ذلك هو المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ السنة في كلام الصحابي لما ذكرناه في المسألة المتقدمة فكان الحمل عليه أولى.
المسألة
الخامسة إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا وكانوا يفعلون كذا وذلك كقول عائشة
كانوا لا يقطعون في الشيء التافه وكقول إبراهيم النخعي: كانوا يحذفون
التكبير حذفاً فهو عند الأكثرين محمول على فعل الجماعة دون بعضهم خلافاً
لبعض الأصوليين ويدل على مذهب الأكثرين أن الظاهر من الصحابي أنه إنما أورد
ذلك في معرض الاحتجاج وإنما يكون ذلك حجة إن لو كان ما نقله مستنداً إلى
فعل الجميع لأن فعل البعض لا يكون حجة على البعض الآخر ولا على غيرهم.
فإن
قيل لو كان ذلك مستنداً إلى فعل الجميع لكان إجماعاً ولما ساغ مخالفته
بطريق الاجتهاد فيه وحيث سوغتم ذلك دل على عوده إلى البعض دون الكل.
قلنا:
تسويغ الاجتهاد فيه إنما كان لأن إضافة ذلك إلى الجميع وقع ظناً لا قطعاً
وذلك كما يسوغ الاجتهاد فيما يرويه الواحد من الألفاظ القاطعة في الدلالة
عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان طريق اتباعه ظنياً وإن كان لا يسوغ
فيه الاجتهاد عندما إذا ثبت بطريق قاطع.
وأما إن كان الراوي غير صحابي
فمستنده في الرواية إما قراءة الشيخ لما يرويه عنه أو القراءة على الشيخ أو
إجازة الشيخ له أو أن يكتب له كتاباً بما يرويه عنه أو يناوله الكتاب الذي
يرويه عنه أو أن يرى خطاً يظنه خط الشيخ بأني سمعت عن فلان كذا.
فإن
كان مستنده في الرواية قراءة الشيخ فإما أن يكون الشيخ قد قصد إسماعه
بالقراءة أو لم يقصد إسماعه بطريق من الطرق فإن قصد إسماعه بالقراءة أو مع
غيره فهذا هو أعلى الرتب في الرواية وللراوي عنه أن يقول: حدثنا وأخبرنا
وقال فلان وسمعته يقول كذا وإن لم يقصد إسماعه فليس له أن يقول: حدثنا
وأخبرنا لأنه يكون كاذباً في ذلك بل له أن يقول: قال فلان كذا وسمعته يقول
كذا ويحدث بكذا ويخبر بكذا.
وأما القراءة على الشيخ مع سكوت الشيخ من
غير ما يوجب السكوت عن الإنكار من إكراه أو غفلة أو غير ذلك فقد اتفقوا على
وجوب العمل به خلافاً لبعض أهل الظاهر لأنه لو لم تكن روايته صحيحة لكان
سكوته عن الإنكار مع القدرة عليه فسقاً لما فيه من إيهام صحة ما ليس بصحيح
وذلك بعيد عن العدل المتدين ثم اتفق القائلون بالصحة على تسليط الراوي على
قوله: أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه واختلفوا في جواز قوله حدثنا وأخبرنا
مطلقاً والأظهر امتناعه لأن ذلك يشعر بنطق الشيخ وذلك من غير نطق منه كذب.
وأما
إجازة الشيخ وذلك بأن يقول: أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح
عندك من مسموعاتي فقد اختلفوا في جواز الرواية بالإجازة: فجوزه أصحاب
الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر المحدثين واتفق هؤلاء على تسليط الراوي على
قوله: أجازني فلان كذا وحدثني وأخبرني إجازة واختلفوا في قوله: حدثني
وأخبرني مطلقاً والذي عليه الأكثر وهو الأظهر أنه لا يجوز لأن ذلك يشعر
بنطق الشيخ بذلك وهو كذب وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا تجوز الرواية
بالإجازة مطلقاً وقال أبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة إنه إن كان المجيز
والمجاز له قد علماً ما في الكتاب الذي أجاز روايته جازت روايته بقوله:
أخبرني وحدثني وذلك كما لو كتب إنسان صكاً والشهود يرونه ثم قال لهم اشهدوا
علي بجميع ما في هذا الصك فإنه يجوز لهم إقامة الشهادة عليه بما في ذلك
الكتاب وإلا فلا والمختار إنما هو جواز الرواية بالإجازة وذلك لأن المجيز
عدل ثقة والظاهر أنه لم يجز إلا ما علم صحته وإلا كان بإجازته رواية ما لم
يروه فاسقاً وهو بعيد عن العدل وإذا علمت الرواية أو ظنت بإجازته جازت
الرواية عنه كما لو كان هو القارئ أو قرئ عليه وهو ساكت.
فإن قيل إنه لم
يوجد من المحدث فعل الحديث ولا ما يجري مجرى فعله فلم يجز أن يقول الراوي
عنه: أخبرني ولا حدثني لأنه يكون كذباً ولأنه قادر على أن يحدث به فحيث لم
يحدث به دل على أنه غير صحيح عنده.
قلنا: هذا باطل بما إذا كان الراوي
عن الشيخ هو القارئ فإنه لم يوجد من الشيخ فعل الحديث ولا ما يجري مجراه
وهو قادر على القراءة بنفسه ومع ذلك فإنه يجوز للراوي أن يقول: أخبرني
وحدثني حيث كانت قراءته عليه مع السكوت دليل صحة الحديث وعلى ما ذكرناه من
الخلاف في الإجازة والخريف والمختار يكون الكلام فيما إذا ناوله كتاباً فيه
حديث هو سماعه وقال له قد أجزت لك أن تروي عني ما فيه وله أن يقول: ناولني
فلان كذا وأخبرني وحدثني مناولة وكذلك الحكم أيضاً إذا كتب إليه بحديث
وقال: أجزت لك روايته عني فإنه يدل على صحته ويسلط الراوي على أن يقول
كاتبني بكذا وحدثني أو أخبرني بكذا كتابة ولو اقتصر على المناولة أو
الكتابة دون لفظ الإجازة لم تجز له الرواية إذ ليس في الكتابة والمناولة ما
يدل على تسويغ الرواية عنه ولا على صحة الحديث في نفسه.
وأما رؤية خط
الشيخ بأني سمعت من فلان كذا فلا يجوز مع ذلك الرواية عنه وسواء قال: هذا
خطي أو لم يقل لأنه قد يكتب ما سمعه ثم يشكك فيه فلا بد من التسليط من قبل
الشيخ على الرواية عنه بطريقة إذ ليس لأحد رواية ما شك في روايته إجماعاً
وعلى هذا فلو روى كتاباً عن بعض المحدثين وشك في حديث واحد منه غير معين لم
تجز له رواية شيء منه لأنه ما من واحد ومن تلك الأحاديث إلا ويجوز أن يكون
هو المشكوك فيه وكذلك لو روى عن جماعة حديثاً وشك في روايته عن بعضهم من
غير تعيين فليس له الرواية عن واحد منهم لأنه ما من واحد إلا ويجوز أن يكون
هو المشكوك في الرواية عنه والرواية مع الشك ممتنعة نعم لو غلب على ظنه
رواية الحديث عن بعض المشايخ وسماعه منه فهذا مما اختلف فيه فقال أبو
حنيفة: لا تجوز روايته ولا العمل به لأنه حكم على المروي عنه بأنه حدثه به
فلا يجوز مع عدم العلم كما في الشهادة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن
الحسن: تجوز له الرواية والعمل به لأن ذلك مما يغلب على الظن صحته ولهذا
فإن آحاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون كتب الرسول إلى
أطراف البلاد في أمور الصدقات وغيرها وكان يجب على كل أحد الأخذ بها بإخبار
حاملها أنها من كتب الرسول وإن لم يكن ما فيها مما سمعه الحامل ولا
المحمول إليه لكونها مغلبة على الظن ولا كذلك في الشهادة لأنه قد اعتبر
فيها من الاحتياط ما لم يعتبر مثله في الرواية كما ذكرناه فيما تقدم وعلى
هذا فلو قال عدل من عدول المحدثين عن كتاب من كتب الحديث إنه صحيح فالحكم
في جواز الأخذ به والخلاف فيه كما سبق فيما إذا ظن أنه يرويه مع الاتفاق
على أنه لا تجوز روايته عنه بخلاف ما إذا ظن الرواية عنه.القسم الرابع
فيما اختلف في رد خبر الواحد به
وفيه عشر مسائل: المسألة الأولى
اختلفوا
في نقل حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى دون اللفظ والذي عليه اتفاق
الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والحسن البصري وأكثر الأئمة أنه
يحرم ذلك على الناقل إذا كان غير عارف بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها وإن
كان عالماً بذلك فالأولى له النقل بنفس اللفظ إذ هو أبعد عن التغيير
والتبديل وسوء التأويل وإن نقله بالمعنى من غير زيادة في المعنى ولا نقصان
منه فهو جائز.
ونقل عن ابن سيرين وجماعة من السلف وجوب نقل اللفظ على صورته وهو اختيار أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة.
ومنهم
من فصل وقال بجواز إبدال اللفظ بما يرادفه ولا يشتبه الحال فيه ولا يجوز
بما عدا ذلك والمختار مذهب الجمهور ويدل عليه النص والإجماع والأثر
والمعقول.
أما النص فما روي ابن مسعود أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه
وسلم وقال له: يا رسول الله تحدثنا بحديث لا نقدر أن نسوقه كما سمعناه فقال
صلى الله عليه وسلم " إذا أصاب أحدكم المعنى فليحدث " وأيضاً فإن النبي
صلى الله عليه وسلم كان مقرراً لآحاد رسله إلى البلاد في إبلاغ أوامره
ونواهيه بلغة المبعوث إليهم دون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وهو دليل
الجواز.
وأما الإجماع فما روي عن ابن مسعود أنه كان إذا حدث قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أو نحوه ولم ينكر عليه منكر فكان
إجماعاً.
وأما الأثر فما روي عن مكحول أنه قال: دخلنا على واثلة بن
الأسقع فقلنا حدثنا حديثاً ليس فيه تقديم ولا تأخير فغضب وقال لا بأس إذا
قدمت وأخرت إذا أصبت المعنى.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الإجماع
منعقد على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم وإذا جاز الإبدال بغير العربية في
تفهيم المعنى فالعربية أولى الثاني هو أنا نعلم أن اللفظ غير مقصود لذاته
ونفسه ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر المعنى في الكرات
المتعددة بألفاظ مختلفة بل المقصود إنما هو المعنى ومع حصول المعنى فلا أثر
لاختلاف اللفظ.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول: أما النص
فقوله صلى الله عليه وسلم: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما
سمعها فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " .
وأما
المعقول فمن وجهين: الأول أن العلماء بالعربية وأهل الاجتهاد قد يختلفون
في معنى اللفظ الوارد مع اتحاده حتى إن كل واحد منهم قد يتنبه منه على ما
لا يتنبه عليه الآخر وعند ذلك فالراوي وإن كان عالماً بالعربية واختلاف
دلالات الألفاظ فقد يحمل اللفظ على معنى فهمه من الحديث مع الغفلة عن غير
ذلك فإذا أتى بلفظ يؤدي المعنى الذي فهمه من اللفظ النبوي دون غيره مع
احتمال أن يكون ما أخل به هو المقصود أو بعض المقصود فلا يكون وافياً
بالغرض من اللفظ وربما اختل المقصود من اللفظ بالكلية بتقدير تعدد النقلة
بأن ينقل كل واحد ما سمعه من الراوي الذي قبله بألفاظ غير ألفاظه على حسب
ما يعقله من لفظه مع التفاوت اليسير في المعنى حتى ينتهي المعنى الأخير إلى
مخالفة المعنى المقصود باللفظ النبوي بالكلية وهو ممتنع.
الثاني أن خبر
النبي صلى الله عليه وسلم قول تعبدنا باتباعه فلا يجوز تبديله بغيره
كالقرآن وكلمات الأذان والتشهد والتكبير والجواب عن النص من وجهين: الأول
القول بموجبه وذلك لأن من نقل معنى اللفظ من غير زيادة ولا نقصان يصح أن
يقال أدى ما سمع كما سمع ولهذا يقال لمن ترجم لغة إلى لغة ولم يغير المعنى
أدى ما سمع كما سمع ويدل على أن المراد من الخبر إنما هو نقل المعنى دون
اللفظ ما ذكره من التعليل وهو اختلاف الناس في الفقه إذ هو المؤثر في
اختلاف المعنى وأما الألفاظ التي لا يختلف اجتهاد الناس في قيام بعضها مقام
بعض فذلك مما يستوي فيه الفقيه والأفقه ومن ليس بفقيه ولا يكون مؤثراً في
تغيير المعنى.
الثاني أن هذا الخبر بعينه يدل على جواز نقل الخبر
بالمعنى دون اللفظ وذلك لأن الظاهر أن الخبر المروي حديث واحد والأصل عدم
تكرره من النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فقد روي بألفاظ مختلفة فإنه قد
روي نضر الله امرأ ورحم الله امرأ ورب حامل فقه غير فقيه وروي لا فقه له.
وعن
المعنى الأول من المعقول أن الكلام إنما هو مفروض في نقل المعنى من غير
زيادة ولا نقصان حتى إنه لو ظهرت فيه الزيادة والنقصان لم يكن جائزاً وعن
الثاني بالفرق بين ما نحن فيه وما ذكروه من الأصول المقيس عليها.
أما
القرآن فلأن المقصود من ألفاظه الإعجاز فتغييره مما يخرجه عن الإعجاز فلا
يجوز ولا كذلك الخبر فإن المقصود منه المعنى دون اللفظ ولهذا فإنه لا يجوز
التقديم والتأخير في القرآن وإن لم يختلف المعنى كما لو قال بدل اسجدي
واركعي اركعي واسجدي ولا كذلك في الخبر.
وأما كلمات الآذان والتشهد
والتكبير فالمقصود منها إنما هو التعبد بها وذلك لا يحصل بمعناها والمقصود
من الخبر هو المعنى دون اللفظ كيف وأنه ليس قياس الخبر على ما ذكروه أولى
من قياسه على الشهادة حيث تجوز الشهادة على شهادة الغير مع اتحاد المعنى
وإن كان اللفظ مختلفاً.
المسألة الثانية إذا أنكر الشيخ رواية الفرع عنه فلا يخلو إما أن يكون إنكاره لذلك إنكار جحود وتكذيب للفرع أو إنكار نسيان وتوقف.
فإن
كان الأول فلا خلاف في امتناع العمل بالخبر لأن كل واحد منهما مكذب للآخر
فيما يدعيه ولا بد من كذب أحدهما وهو موجب للقدح في الحديث غير أن ذلك لا
يوجب جرح واحد منهما على التعيين لأن كل واحد منهما عدل وقد وقع الشك في
كذبه والأصل العدالة فلا تترك بالشك وتظهر فائدة ذلك في قبول رواية كل واحد
منهما في غير ذلك الخبر.
وأما إن كان الثاني فقد اختلفوا في قبول ذلك
الخبر والعمل به: فذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل في أصح الروايتين عنه
وأكثر المتكلمين إلى وجوب العمل به خلافاً للكرخي وجماعة من أصحاب أبي
حنيفة ولأحمد بن حنبل في الرواية الأخرى عنه ودليله الإجماع والمعقول.
أما
الإجماع فما روي أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن روى عن سهيل بن أبي صالح عن
أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين مع الشاهد
ثم نسيه سهيل فكان يقول حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم ويرويه هكذا ولم ينكر عليه أحد من التابعين ذلك فكان
إجماعاً منهم على جوازه.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الفرع عدل
وهو جازم بروايته عن الأصل والأصل غير مكذب له وهما عدلان فوجب قبول
الرواية والعمل بها الثاني أن نسيان الأصل للرواية لا تزيد على موته وجنونه
ولو مات أو جن كانت رواية الفرع عنه مقبولة ويجب العمل بها إجماعاً فكذلك
إذا نسي.
فإن قيل: أما الاستدلال بقضية ربيعة فلا حجة فيه لاحتمال أن
سهيلاً ذكر الرواية برواية ربيعة عنه ومع الذكر فالرواية تكون مقبولة ثم هو
معارض بما روي أن عمار بن ياسر قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أما تذكر
يا أمير المؤمنين لما كنا في الأبل فأجنبت فتمعكت في التراب ثم سألت النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: " إنما يكفيك أن تضرب بيديك " فلم يقبل عمر من
عمار ما رواه مع كونه عدلاً عنده لما كان ناسياً له.
وأما ما ذكرتموه من
المعقول فالأصل وإن لم يكن مكذباً للفرع غير أن نسيانه لما نسب إليه يجب
أن يكون مانعاً من العمل به كما لو ادعى مدع أن الحاكم حكم له بشيء فقال
الحاكم: لا أذكر ذلك فأقام المدعي شاهدين شهداً بذلك فإنه لا يقبل وكذلك
إذا أنكر شاهد الأصل شهادة الفرع عليه على سبيل النسيان فإن الشهادة لا
تقبل.
والجواب عن قولهم إن سهيلاً ذكر الرواية قلنا: لو كان كذلك لانطوى
ذكر ربيعة وكان يروي عن شيخه كما لو نسي ثم تذكر بنفسه وأما رد عمر لرواية
عمار عند نسيانه فليس نظيراً لما نحن فيه فإن عماراً لم يكن راوياً عن عمر
بل عن النبي صلى الله عليه وسلم وحيث لم يعمل عمر بروايته فلعله كان شاكاً
في روايته أو كأن ذلك كان مذهباً له فلا يكون حجة على غيره من المجتهدين
على ما سيأتي تقريره.
وأما الحاكم إذا نسي ما حكم به وشهد شاهدان بحكمه
فقد قال مالك وأبو يوسف: يلزمه الحكم بشهادتهما وعندنا وإن لم يجب عليه ذلك
فهو واجب على غيره من القضاة.
وأما القياس على الشهادة فلا يصح لأن
باب الشهادة أضيق من باب الرواية وقد اعتبر فيها من الشروط والقيود ما لم
يعتبر في الرواية وذلك كاعتبار العدد والحرية والذكورة ولا يقبل فيها
العنعنة ولا تصح الشهادة على الشهادة من وراء حجاب ولو قال أعلم بدل قوله
أشهد لا يصح ولا كذلك في الرواية فامتنع القياس.
المسألة الثالثة إذا
روى جماعة من الثقات حديثاً وانفرد واحد منهم بزيادة في الحديث لا تخالف
المزيد عليه كما لو روى جماعة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت
وانفرد واحد منهم بزيادة فقال: دخل البيت وصلى فلا يخلو إما أن يكون مجلس
الرواية مختلفاً بأن يكون المنفرد بالزيادة روايته عن مجلس غير مجلس
الباقين أو أن مجلس الرواية متحد أو يجهل الأمران.
فإن كان المجلس
مختلفاً فلا نعرف خلافاً في قبول الزيادة لاحتمال أن يكون النبي صلى الله
عليه وسلم قد فعل الزيادة في أحد المجلسين دون الآخر والراوي عدل ثقة ولم
يوجد ما يقدح في روايته فكانت روايته مقبولة ولهذا فإنه لو روى حديثاً لم
ينقله غيره مع عدم حضوره لم يقدح ذلك في روايته وكذلك لو شهد اثنان على شخص
بألفي درهم لزيد في مجلس وشهدت بينة أخرى عليه في مجلس آخر بألف لا يكون
ذلك قادحاً في الألف الزائدة مع أن باب الشهادة أضيق من باب الرواية كما
قررنا.
وأما إن اتحد المجلس فإن كان من لم يرو الزيادة قد انتهوا إلى
عدد لا يتصور في العادة غفلة مثلهم عن سماع تلك الزيادة وفهمها فلا يخفى أن
تطرق الغلط والسهو إلى الواحد فيما نقله من الزيادة يكون أولى من تطرق ذلك
إلى العدد المفروض فيجب ردها وإن لم ينتهوا إلى هذا الحد فقد اتفق جماعة
الفقهاء والمتكلمين على وجوب قبول الزيادة خلافاً لجماعة من المحدثين
ولأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ودليل ذلك أن الراوي عدل ثقة وقد جزم
بالرواية وعدم نقل الغير لها فلاحتمال أن يكون من لم ينقل الزيادة قد دخل
في أثناء المجلس وسمع بعض الحديث أو خرج في أثناء المجلس لطارئ أوجب له
الخروج قبل سماع الزيادة وبتقدير أن يكون حاضراً من أول المجلس إلى آخره
فلاحتمال أن يكون قد طرأ ما شغله عن سماع الزيادة وفهمها من سهو أو ألم أو
جوع أو عطش مفرط أو فكرة في أمر مهم أو اشتغال بحديث مع غيره والتفات إليه
أو أنه نسيها بعد ما سمعها ومع تطرق هذه الاحتمالات وجزم العدل بالرواية لا
يكون عدم نقل غيره للزيادة قادحاً في روايته.
فإن قيل: هذه الاحتمالات
وإن كانت منقدحة في حق من لم يرو الزيادة فاحتمال الغلط والسهو على الناقل
للزيادة أيضاً منقدح وذلك بأن يتوهم أنه سمع تلك الزيادة ولم يكن قد سمعها
أو أنه سمعها من غير الرسول وتوهم سماعها من الرسول أو أنه ذكرها على سبيل
التفسير والتأويل فظن السامع أنها زيادة في الحديث المروي وذلك كما روى ابن
عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى
قال ابن عباس: ولا أحسب غير الطعام إلا كالطعام فأدرجه بعض الرواة في
الحديث وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " فإذا زادت
الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة " فظن الراوي أن الاستئناف إعادة
للفرض الأول في المائة الأولى فقال: في كل خ
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى