لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السادس Empty كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السادس {السبت 9 يوليو - 17:02}


قولهم إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده غير مسلم كما يأتي وإن سلم
ولكن إنما يمكن القول بأن النهي عن أضداد المأمور به مما يمنع من فعلها إن
لو كان الأمر للوجوب وإلا فبتقدير أن يكون للندب فالنهي عن أضداده يكون نهي
تنزيه فلا يمنع من فعلها وعند ذلك فيلزم منه توقف الوجوب على كون النهي عن
أضداده مانعاً من فعلها وذلك متوقف على كون الأمر للوجوب وهو دور ممتنع.
قولهم
إن حمل الطلب على الوجوب أحوط للمكلف على ما ذكروه فهو معارض بما يلزم من
حمله على الوجوب من الإضرار اللازم من الفعل الشاق بتقدير فعله والعقاب
بتقدير تركه ولما فيه من مخالفة النفي الأصلي بما اختص به الوجوب من زيادة
الذم والوصف بالعصيان بخلاف المندوب كيف وإن المكلف إذا نظر وظهر له أن
الأمر للندب فقد أمن من الضرر وحصل مقصود الأمر.
قولهم إن المندوب داخل في الواجب ليس كذلك على ما سبق تقريره.
قولهم
إن الأمر موضوع لمعنى فكان مانعاً من نقيضه دعوى محل النزاع والقياس على
الخبر من باب القياس في اللغات وهو باطل بما سبق ثم إنه منقوض بالأمر
بالمندوب فإنه مأمور به على ما سبق.
فإن قيل: لا يلزم من مخالفة الدليل
في المندوب المخالفة مطلقاً قلنا يجب أن نعتقد أن ما ذكروه ليس بدليل حتى
لا يلزم منه المخالفة في المندوب.
وما ذكروه من الشبهة الأخيرة فهي منتقضة بالمندوب وأما شبه القائلين بالندب فمنها نقلية وعقلية.
أما
النقلية فقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما
استطعتم وإذ نهيتكم عن شيء فانتهوا " فوض الأمر إلى استطاعتنا ومشيئتنا وهو
دليل الندبية.
وأما العقلية فهو أن المندوب ما فعله خير من تركه وهو
داخل في الواجب فكل واجب مندوب وليس كل مندوب واجباً لأن الواجب ما يلام
على تركه والمندوب ليس كذلك فوجب جعل الأمر حقيقة فيه لكونه متيقناً.
وجوابهما
من جهة الإجمال فما سبق في جواب شبه القائلين بالوجوب ومن جهة التفصيل: عن
الأولى أنه لا يلزم من قوله: ما استطعتم تفويض الأمر إلى مشيئتنا فإنه لم
يقل فافعلوا ما شئتم بل قال: ما استطعتم وليس ذلك خاصية للندب فإن كل واجب
كذلك.
وعن الثانية ما سبق من امتناع وجود المندوب في الواجب ثم لو كان
تنزيل لفظ الأمر على المتيقن لازماً لكان جعله حقيقة في رفع الحرج عن الفعل
أولى لكونه متيقناً بخلاف المندوب فإنه متميز بكون الفعل مترجحاً على
الترك وهو غير متيقن.
المسألة الثالثة اختلف الأصوليون في الأمر العري
عن القرائن: فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وجماعة من الفقهاء
والمتكلمين إلى أنه مقتض للتكرار المستوعب لزمان العمر مع الإمكان وذهب
آخرون إلى أنه للمرة الواحدة ومحتمل للتكرار ومنهم من نفى احتمال التكرار
وهو اختيار أبي الحسين البصري وكثير من الأصوليين ومنهم من توقف في الزيادة
ولم يقض فيها بنفي ولا إثبات وإليه ميل إمام الحرمين والواقفية.
والمختار
أن المرة الواحدة لا بد منها في الامتثال وهو معلوم قطعاً والتكرار محتمل
فإن اقترن به قرينة أشعرت بإرادة المتكلم التكرار حمل عليه وإلا كان
الاقتصار على المرة الواحدة كافياً والدليل على ذلك أنه إذا قال له: صل أو
صم فقد أمره بإيقاع فعل الصلاة والصوم وهو مصدر افعل والمصدر محتمل
للاستغراق والعدد ولهذا يصح تفسيره به فإنه لو قال لزوجته أنت طالق ثلاثاً
وقع به لما كان تفسيراً للمصدر وهو الطلاق ولو اقتصر على قوله أنت طالق لم
يقع سوى طلقة واحدة مع احتمال اللفظ للثلاث فإذا قال: صل فقد أمره بإيقاع
المصدر وهو الصلاة والمصدر محتمل للعدد فإن اقترن به قرينة مشعرة بإرادة
العدد حمل عليه وإلا فالمرة الواحدة تكون كافية ولهذا فإنه لو أمر عبده أن
يتصدق صدقة أو يشتري خبزاً أو لحماً فإنه يكتفي منه بصدقة واحدة وشراء واحد
ولو زاد على ذلك فإنه يستحق اللوم والتوبيخ لعدم القرينة الصارفة إليه وإن
كان اللفظ محتملاً له وإنما كان كذلك لأن حال الآمر متردد بين إرادة العدد
وعدم إرادته وإنما يجب العدد مع ظهور الإرادة ولا ظهور إذ الفرض فيما إذا
عدمت القرائن المشعرة به فقد بطل القول بعدم إشعار اللفظ بالعدد مطلقاً
وبطل القول بظهوره فيه وبالوقف أيضاً والاعتراض هاهنا يختلف باختلاف مذاهب
الخصوم فمن اعتقد ظهوره في التكرار اعترض بشبه.

الأولى: منها أن أوامر الشارع في الصوم والصلاة محمولة على التكرار فدل على إشعار الأمر به.
الثانية:
أن قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " يعم كل مشرك فقوله: صم وصل ينبغي أن
يعم جميع الأزمان لأن نسبة اللفظ إلى الأزمان كنسبته إلى الأشخاص.
الثالثة: أن قوله صم كقوله لا تصم ومقتضى النهي الترك أبداً فوجب أن يكون الأمر مقتضياً للفعل أبداً لاشتراكهما في الاقتضاء والطلب.
الرابعة: أن الأمر اقتضى فعل الصوم واقتضى اعتقاد وجوبه والعزم عليه أبدا فكذلك الموجب الآخر.
الخامسة: أن الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان فليس حمله على البعض أولى من البعض فوجب التعميم.
السادسة:
أنه لو لم يكن الأمر للتكرار لما صح الاستثناء منه لاستحالة الاستثناء من
المرة الواحدة ولا تطرق النسخ إليه لأن ذلك يدل على البدا وهو محال على
الله تعالى ولا حسن الاستفهام من الآمر أنك أردت المرة الواحدة أو التكرار
ولكان قول الآمر لغيره صل مرة واحدة غير مفيد وكان قوله صل مراراً تناقضاً
ولكان إذا لم يفعل المأمور ما أمر به في أول الوقت محتاجاً في فعله ثانياً
إلى دليل وهو ممتنع.
السابعة: أن الحمل على التكرار أحوط للمكلف لأنه إن كان للتكرار فقد حصل المقصود ولا ضرر وإن لم يكن للتكرار لم يكن فعله مضراً.
الثامنة: إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداده يقتضي استغراق الزمان وذلك يستلزم استدامة فعل المأمور به.
التاسعة:
قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " أي
فأتوا بما أمرتكم به ما استطعتم وذلك يقتضي وجوب التكرار.
العاشرة: أن
عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه قد جمع بطهارة واحدة
بين صلوات عام الفتح وقال: أعمداً فعلت هذا يا رسول الله؟ فقال: " نعم "
ولولا أنه فهم تكرار الطهارة من قوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم " " المائدة 6 " لما كان للسؤال معنى.
الحادية عشرة: أنه إذا قال الرجل لغيره: أحسن عشرة فلان فإنه يفهم منه التكرار والدوام.
وأما
شبه القائلين بامتناع احتمال التكرار فأولها أن من قال لغيره ادخل الدار
يعد ممتثلاً بالدخول مرة واحدة كما أنه يصير ممتثلاً لقوله اضرب رجلاً بضرب
رجل واحد ولذلك فإنه لا يلام بترك التكرار بل يلام من لامه عليه.
وثانيها: أنه لو قال القائل صام زيد صدق على المرة الواحدة من غير إدامة فليكن مثله في الأمر.
وثالثها: أنه لو حلف أنه ليصلين أو ليصومن برت يمينه بصلاة واحدة وصوم يوم واحد وعد آتياً بما التزمه فكذلك في الالتزام بالأمر.
ورابعها: أنه لو قال الرجل لوكيله طلق زوجتي لم يملك أكثر من تطليقة واحدة.
وخامسها: أنه لو كان الأمر للتكرار لكان قوله صل مراراً غير مفيد وكان قوله صل مرة واحدة نقصاً وليس كذلك.
وسادسها:
أنه لو كان مطلق الأمر للتكرار لكان الأمر بعبادتين مختلفتين لا يمكن
الجمع بينهما إما تكليفاً بما لا يطاق أو أن يكون الأمر بكل واحدة مناقضاً
للأمر بالأخرى وهو ممتنع.
وأما شبه القائلين بالوقف فأولها أن الأمر
بمطلقه غير ظاهر في المرة الواحدة ولا في التكرار ولهذا فإنه يحسن أن
يستفهم من الآمر عند قوله اضرب ويقال له مرة واحدة أو مراراً ولو كان
ظاهراً في أحد الأمرين لما حسن الاستفهام.
وثانيها: أنه لو كان ظاهراً
في المرة الواحدة لكان قول الآمر اضرب مرة واحدة تكراراً أو مراراً تناقضاً
وكذلك لو كان ظاهراً في التكرار.
والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين
بالتكرار هو أن حمل بعض الأوامر وإن كانت متكررة على التكرار لا يدل على
استفادة ذلك من ظاهرها وإلا كان ما حمل من الأوامر على المرة الواحدة كالحج
ونحوه مستفاداً من ظاهر الأمر ويلزم من ذلك إما التناقض أو اعتقاد الظهور
في أحد الأمرين دون الآخر من غير أولوية وهو محال.
فإن قيل: اعتقاد
الظهور في التكرار أولى لأن ما حمل من الأوامر على التكرار أكثر من المحمول
على المرة الواحدة وعند ذلك فلو جعلناه ظاهراً في المرة الواحدة لكان
المحذور اللازم من مخالفته في الحمل على التكرار أقل من المحذور اللازم من
جعله ظاهراً في التكرار عند حمله على المرة الواحدة.

قلنا: هذا إنما
يلزم أن لو قلنا إن الأمر ظاهر في أحد الأمرين وليس كذلك بل الأمر عندنا
إنما يقتضي إيقاع مصدر الفعل والمرة الواحدة من ضروراته لا أن الأمر ظاهر
فيها وكذلك في التكرار فحمل الأمر على أحدهما بالقرينة لا يوجب مخالفة
الظاهر في الآخر لعدم تحققه فيه.
وعن الثانية: وإن سلمنا أن العموم في
قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " " التوبة 5 " أنه يتناول كل مشرك فليس ذلك
إلا لعموم اللفظ ولا يلزم مثله فيما نحن فيه لعدم العموم في قوله صم
بالنسبة إلى جميع الأزمان بل لو قال صم في جميع الأزمان كان نظيراً لقوله
اقتلوا المشركين.
وعن الثالثة: لا نسلم أن النهي المطلق للدوام وإنما
يقتضيه عند التصريح بالدوام أو ظهور قرينة تدل عليه كما في الأمر وإن سلمنا
اقتضاءه للدوام لكن ما ذكروه من إلحاق الأمر بالنهي بواسطة الاشتراك
بينهما في الاقتضاء فرع صحة القياس في اللغات وقد أبطلناه وإن سلمنا صحة
ذلك غير أنا نفرق وبيانه من وجهين: الأول أن من أمر غيره أن يضرب فقد أمره
بإيقاع مصدره وهو الضرب فإذا ضرب مرة واحدة يصح أن يقال: وجد الضرب وإذا
قال له لا تضرب فمقتضاه عدم إيقام الضرب فإذا انتهى في بعض الأوقات دون
البعض يصح أن يقال: لم يعدم الضرب.
الثاني: إن حمل الأمر على التكرار
مما يفضي إلى تعطيل الحوائج المهمة وامتناع الإتيان بالمأمورات التي لا
يمكن اجتماعها بخلاف الانتهاء عن المنهي مطلقاً.
وعن الرابعة: أنها غير
متجهة وذلك لأن دوام اعتقاد الوجوب عند قيام دليل الوجوب ليس مستفاداً من
نفس الأمر وإنما هو من أحكام الإيمان فتركه يكون كفراً والكفر منهي عنه
دائماً ولهذا كان اعتقاد الوجوب دائماً في الأوامر المقيدة.
وأما العزم
فلا نسلم وجوبه ولهذا فإن من دخل عليه الوقت وهو نائم لا يجب على من حضره
إنباهه ولو كان العزم واجباً في ذلك الوقت لوجب عليه كما لو ضاق وقت
العبادة وهو نائم وإن سلمنا وجوب العزم لكن لا نسلم وجوبه دائماً بل هو تبع
لوجوب المأمور به وإن سلمنا وجوبه دائماً فلا نسلم كونه مستفاداً من نفس
الأمر ليلزم ما قيل بل إنما هو مستفاد من دليل اقتضى دوامه غير الأمر
الوارد بالعبادة ولهذا وجب في الأوامر بالفعل مرة واحدة.
وعن الخامسة:
أنها باطلة من جهة أن الأمر غير مشعر بالزمان وإنما الزمان من ضرورات وقوع
الفعل المأمور به ولا يلزم من عدم اختصاصه ببعض الأزمنة دون البعض التعميم
كالمكان.
وعن السادسة: وهي قولهم لو كان الأمر للمرة الواحدة لما دخله
النسخ ليس كذلك عندنا فإنه لو أمر بالحج في السنة المستقبلة جاز نسخه عندنا
قبل التمكن من الامتثال على ما يأتي وإنما ذلك لازم على المعتزلة وأما
دخول الاستثناء فمن أوجب الفعل على الفور يمنع منه ومن أوجبه على التراخي
فلا يمنع من استثناء بعض الأوقات التي المكلف مخير في إيقاع الواجب فيها
وأما حسن الاستفهام فإنما كان لتحصيل اليقين فيما اللفظ محتمل له تأكيداً
فإنه محتمل لإرادة التكرار وإرادة المرة الواحدة وبه يخرج الجواب عن قوله
صل مرة وحدة وقوله صل مراراً غير متناقض بل غايته دلالة الدليل على إرادة
التكرار المحتمل وإذا لم يفعل ما أمر به في أول الوقت فمن قال بالتراخي لا
يحتاج إلى دليل آخر لأن مقتضى الأمر المطلق عنده تخيير المأمور في إيقاع
الفعل في أي وقت شاء من ذلك الوقت ومن قال بالفور فلا بد له من دليل في
ثاني الحال.
وعن السابعة: ما سبق في الواجب والمندوب.
وعن الثامنة:
لا نسلم أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده وإن سلم ذلك ولكن اقتضاء النهي
للأضداد بصفة الدوام فرع كون الأمر مقتضياً للفعل على الدوام وهو محل
النزاع.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر " الحديث إنما يلزم أن لو كان ما زاد على المرة الواحدة مأموراً به وليس كذلك.
وأما
حديث عمر فلا يدل على أنه فهم أن الأمر بالطهارة يقتضي تكرارها بتكرر
الصلاة بل لعله أشكل عليه أنه للتكرار فسأل النبي عن عمده وسهوه في ذلك
لإزاحة الإشكال بمعرفة كونه للتكرار إن كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم
سهواً أو لا للتكرار إن كان فعله عمداً كيف وإن فهم عمر لذلك مقابل بإعراض
النبي صلى الله عليه وسلم عن التكرار ولو كان للتكرار لما أعرض عنه وله
الترجيح.

وأما الشبهة الأخيرة فإنما عم الأمر فيها بالإكرام وحسن
العشرة للأزمان لأن ذلك إنما يقصد به التعظيم وذلك يستدعي استحقاق المأمور
بإكرامه للإكرام وهو سبب الأمر فمهما لم يعلم زوال ذلك السبب وجب دوام
المسبب فكان الدوام مستفاداً من هذه القرينة لا من مطلق الأمر.
والجواب
عن الشبهة الأولى للقائلين بامتناع احتمال الأمر المطلق للتكرار أن ذلك يدل
على أن الأمر غير ظاهر في التكرار ولا يلزم منه امتناع احتماله له ولهذا
فإنه لو قال ادخل الدار مراراً بطريق التفسير فإنه يصح ويلزم ولو عدم
الاحتمال لما صح التفسير.
وعن الثانية: أن ذلك قياس في اللغات فلا يصح
وبه دفع الشبهة الثالثة وإذا قال لوكيله طلق زوجتي إنما لم يملك ما زاد على
الطلقة الواحدة لعدم ظهور الأمر فيها لا لعدم الاحتمال لغة ولهذا لو قال
طلقها ثلاثاً على التفسير صح.
وعن الخامسة: ما سبق.
وعن السادسة:
أنها باطلة وذلك لأن زيادة المشقة من حمل الأمر على التكرار إما أن لا يكون
منافياً له أو يكون منافياً: فإن كان الأول فلا اتجاه لما ذكروه وإن كان
الثاني فغايته تعذر العمل بالأمر في التكرار عند لزوم الحرج فيلون ذلك
قرينة مانعة من صرف الأمر إليه ولا يلزم من ذلك امتناع احتماله له لغة
وجواب شبهة القائلين بالوقف ما سبق في جواب من تقدم والله أعلم.
المسألة
الرابعة الأمر المعلق بشرط كقوله: " إذا زالت الشمس فصلوا " أو صفة كقوله:
" الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " " النور 2 " هل
يقتضي تكرار المأمور به بتكرر الشرط والصفة أم لا؟ فمن قال إن الأمر المطلق
يقتضي التكرار فهو هاهنا أولى ومن قال إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار
اختلفوا هاهنا فمنهم من أوجبه ومنهم من نفاه.
وقبل الخوض في الحجاج لا
بد من تلخيص محل النزاع فنقول ما علق به المأمور من الشرط أو الصفة إما أن
يكون قد ثبت كونه علة في نفس الأمر لوجوب الفعل المأمور به كالزنا أو لا
يكون كذلك بل الحكم متوقف عليه من غير تأثير له فيه كالإحصان الذي يتوقف
عليه الرجم في الزنا فإن كان الأول فالاتفاق واقع على تكرر الفعل بتكرره
نظراً إلى تكرر العلة ووقوع الاتفاق على التعبد باتباع العلة مهم وجدت
فالتكرار مستند إلى تكرار العلة لا إلى الأمر وإن كان الثاني فهو محل
الخلاف والمختار أنه لا تكرار.
وقد احتج القائلون بهذا المذهب بحجج واهية لا بد من التنبيه عليها وعلى ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة
الأولى أنهم قالوا: أجمعنا على أن الخبر المعلق بالشرط أو الصفة لا يقتضي
تكرار المخبر عنه كما لو قال: إن جاء زيد جاء عمرو فإنه لا يلزم تكرر مجيء
عمرو في تكرر مجيء زيد فكذلك في الأمر وهي باطلة فإن حاصلها يرجع إلى
القياس في اللغة وقد أبطلناه.
الثانية أنه لو قال لزوجته: إذا دخلت
الدار فأنت طالق فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول فكذلك في قوله إذا "
زالت الشمس فصلوا " وهو أيضاً من جنس ما تقدم لما فيه من قياس الأمر على
إنشاء الطلاق الذي ليس بأمر.

الثالثة أن اللفظ لا دلالة فيه إلا على
تعليق شيء بشيء وهو أعم من تعليقه عليه في كل صورة أو في صورة واحدة
والمشعر بالأعم لا يلزم أن يكون مشعراً بالأخص وحاصل هذه الحجة أيضاً يرجع
إلى محض الدعوى بأن الأمر المضاف إلى الشرط أو الصفة لا يفهم منه اقتضاء
التكرار بتكرر الشرط أو الصفة وهو عين محل النزاع وإنما الواجب أن يقال إنه
مشعر بالأعم والأصل عدم إشعاره بالأخص والمعتمد في ذلك أن يقال: لو وجب
التكرار لم يخل إما أن يكون المقتضي له نفس الأمر أو الشرط أو مجموع
الأمرين: لا جائز أن يقال بالأول لما سبق في المسألة المتقدمة ولا بالثاني
لأن الشرط غير مؤثر في المشروط بحيث يلزم من وجوده وجوده بل إنما تأثيره في
انتفاء المشروط عند انتفائه وحيث قيل بملازمة المشروط لوجود الشرط في قوله
لزوجته إن دخلت الدار فأنت طالق إنما كان لضرورة وجود الموجب وهو قوله:
أنت طالق لا لنفس دخول الدار وإلا كان دخول الدار موجباً للطلاق مطلقاً وهو
محال ولا جائز أن يقال بالثالث لأنا أجمعنا على أنه لو قال لعبده: إذا
دخلت السوق فاشتر لحماً أنه لا يقتضي التكرار وذلك إما أن يكون مع تحقق
الموجب للتكرار أو لا مع تحققه لا جائز أن يقال بالأول وإلا فانتفاء
التكرار إما لمعارض أو لا لمعارض: والأول ممتنع لما فيه من المعارضة وتعطيل
الدليل عن أعماله وهو خلاف الأصل والثاني أيضاً باطل لما فيه من مخالفة
الدليل من غير معارض فلم يبق سوى الثاني وهو المطلوب فإن قيل: ما ذكرتموه
معارض من وجوه: الأول: أنه قد وجد في كتاب الله تعالى أوامر متعلقة بشروط
وصفات وهي متكررة بتكررها كقوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " "
المائدة 6 " الآية وقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " "
المائدة 38 " " والزانية والزاني " " النور 2 " الآية ولو لم يكن ذلك
مقتضياً للتكرار لما كان متكرراً.
الثاني: أن العلة يتكرر الحكم بتكررها إجماعاً والشرط أقوى من العلة لانتفاء الحكم بانتفائه بخلاف العلة فكان اقتضاؤه للتكرار أولى.
الثالث:
أن نسبة الحكم إلى إعداد الشرط المعلق عليه نسبة واحدة ولا اختصاص له
بالموجود الأول منها دون ما بعده وعند ذلك فإما أن يلزم من انتفاء الحكم مع
وجود الشرط ثانياً وثالثاً انتفاؤه مع وجود الشرط الأول أو من وجوده مع
الأول الوجود مع الثاني وما بعده ضرورة التسوية: والأول خلاف الإجماع
والثاني هو المطلوب.
الرابع: أنه لو لم يكن الأمر مقتضياً لتعليق الحكم
بجميع الشروط بل بالأول منها فليزم أن يكون فعل العبادة مع الشرط الثاني
دون الأول قضاء وكانت مفتقرة إلى دليل آخر وهو ممتنع.
الخامس: أن النهي
المعلق بالشرط مفيد للتكرار كما إذا قال: إن دخل زيد الدار فلا تعطه درهماً
والأمر ضد النهي فكان مشاركاً له في حكمه ضرورة اشتراكهما في الطلب
والاقتضاء.
السادس: أن تعليق الأمر على الشرط الدائم موجب لدوام المأمور
به بدوامه كما لو قال: إذا وجد شهر رمضان فصمه فإن الصوم يكون دائماً
بدوام الشهر وتعليق الأمر على الشرط المتكرر في معناه فكان دائماً.
والجواب
عن الأول أنه إذا ثبت بما ذكرناه أن الأمر المعلق بالشرط والصفة غير مقتض
للتكرار فحيث قضي بالتكرار إما أن يكون الشرط والصفة علة للحكم المكرر في
نفس الأمر كما في الزنا والسرقة أو لا يكون علة له: فإن كان الأول فالتكرار
إنما كان لتكرر العلة الموجبة للحكم ولا كلام فيه وإن كان الثاني فيجب
اعتقاد كونه متكرراً لدليل اقتضاه غير الأمر المعلق بالشرط والصفة لما
ذكرناه من عدم اقتضائه كيف وإنه كما قد يتكرر الفعل المأمور به بتكرر الشرط
فقد لا يتكرر كالأمر بالحج فإنه مشروط بالاستطاعة وهو غير متكرر بتكررها.
وعن الثاني: أنه لا يلزم من تكرر الحكم بتكرر العلة لكونها موجبة للحكم تكرره بتكرر الشرط مع أنه غير موجب للحكم كما تقرر.

وعن
الثالث: أنه إنما يلزم القائلين بالوجوب على الفور وليس كذلك عندنا بل
الأمر مقتض للامتثال مع استواء التقديم والتأخير فيه إذا علم تجدد الشرط
وغلب على الظن بقاء المأمور ويكون الأمر قد اقتضى تعلق المأمور به على
الشروط كلها على طريق البدل من غير اختصاص له ببعضها دون بعض وأما إن لم
يغلب على الظن تجدد الشرط ولا بقاء المأمور إلى حالة وجود الشرط الثاني فقد
تعين اختصاص المأمور بالشرط الأول لعدم تحقق ما سواه.
وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الرابع أيضاً.
وعن
الخامس: أن حاصله يرجع إلى قياس الأمر على النهي في اللغة وهو باطل بما
سبق كيف وإنا لا نسلم أن النهي المضاف إلى الشرط يتكرر بتكرر الشرط بل ما
اقتضاه النهي إنما هو دوام المنع عند تحقق الشرط الأول سواء تجدد الشرط
ثانياً أو لم يتجدد.
وعن السادس: أن الشرط المستشهد به وإن كان له دوام
في زمان معين والحكم موجود معه فهو واحد والمشروط به غير متكرر بتكرره وعند
ذلك فلا يلزم من لزوم وجود المشروط عند تحقق شرطه من غير تكرر لزوم التكرر
بتكرر الشرط في محل النزاع.
المسألة الخامسة اختلفوا في الأمر المطلق
هل يقتضي تعجيل فعل المأمور به؟ فذهبت الحنفية والحنابلة وكل من قال بحمل
الأمر على التكرار إلى وجوب التعجيل وذهبت الشافعية والقاضي أبو بكر وجماعة
من الأشاعرة والجبائي وابنه وأبو الحسين البصري إلى التراخي وجواز التأخير
عن أول وقت الإمكان وأما الواقفية فقد توقفوا: لكن منهم من قال: التوقف
إنما هو في المؤخر هل هو ممتثل أو لا؟ وأما المبادر فإنه ممتثل قطعاً لكن
هل يأثم بالتأخير؟ اختلفوا فيه: فمنهم من قال بالتأثيم وهو اختيار إمام
الحرمين ومنهم من لم يؤثمه ومنهم من توقف في المبادر أيضاً وخالف في ذلك
إجماع السلف.
والمختار أنه مهما فعل كان مقدماً أو مؤخراً كان ممتثلاً
للأمر ولا إثم عليه بالتأخير والدليل على ذلك أن الأمر حقيقة في طلب الفعل
لا غير فمهما أتى بالفعل في أي زمان كان مقدماً أو مؤخراً كان آتياً بمدلول
الأمر فيكون ممتثلاً للأمر ولا إثم عليه بالتأخير لكونه آتياً بما أمر به
على الوجه الذي أمر به وبيان أن مدلول الأمر طلب الفعل لا غير وجهان:
الأول: أنه دليل على طلب الفعل بالإجماع والأصل عدم دلالته على أمر خارج
والزمان وإن كان لا بد منه من ضرورة وقوع الفعل المأمور به ولا يلزم أن
يكون داخلاً في مدلول الأمر فإن اللازم من الشيء أعم من الداخل في معناه
ولا أن يكون متعيناً كما لا تتعين الآلة في الضرب ولا الشخص المضروب وإن
كان ذلك من ضرورات امتثال الأمر بالضرب.
الوجه الثاني: أنه يجوز ورود
الأمر بالفعل على الفور وعلى التراخي ويصح مع ذلك أن يقال بوجود الأمر في
الصورتين والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا مشترك بين الصورتين سوى طلب الفعل
لأن الأصل عدم ما سواه فيجب أن يكون هو مدلول الأمر في الصورتين دون ما به
الاقتران من الزمان وغيره نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ.
فإن قيل: ما
ذكرتموه في بيان امتناع خروج الوقت عن الدخول في مقتضى الأمر معارض بما
يدل على نقيضه وبيانه من خمسة وجوه: الأول: أنه إذا قال السيد لعبده: اسقني
ماء فإنه يفهم منه تعجيل السقي حتى أنه يحسن لوم العبد وذمه في نظر
العقلاء بتقدير التأخير ولولا أنه من مقتضيات الأمر لما كان كذلك إذ الأصل
عدم القرينة.
الثاني: هو أن مدلول الأمر وهو الفعل المأمور به لا يقع
إلا في وقت وزمان فوجب أن يكون الأمر مقتضياً للفعل في أقرب زمان كالمكان
وكما لو قال لزوجته أنت طالق ولعبده أنت حر فإن مدلول لفظه يقع على الفور
في أقرب زمان.
الثالث: أن الأمر مشارك للنهي في مطلق الطلب والنهي مقتض للامتثال على الفور فوجب أن يكون الأمر كذلك.
الرابع:
أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداد المأمور به مقتض
للانتهاء عنها على الفور وذلك متوقف على فعل المأمور به على الفور فكان
الأمر مقتضياً له على الفور.
الخامس: أنه تعالى عاتب إبليس ووبخه على
مخالفة الأمر بالسجود لآدم في الحال بقوله: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك "
" الأعراف 12 " ولو لم يكن الأمر بالسجود مقتضياً له في الحال لما حسن
توبيخه عليه ولكان تلك عذراً لإبليس في تأخيره.

سلمنا عدم دلالة
الأمر على وجوب الفعل على الفور لفظاً لكن لم قلتم إنه لا يكون مستلزماً له
بواسطة دلالته على أصل الوجوب؟ وبيان ذلك من وجوه أربعة: الأول: أن الأمر
إذا دل على وجوب الفعل فقد أجمعنا على وجوب اعتقاده على الفور مع أن ذلك لم
يكن مقتضى للأمر بل هو من لوازم مقتضاه فكان مقتضاه على الفور أولى
لإصالته.
الثاني: أن إجماع السلف منعقد على أن المبادر يخرج عن عهدة الأمر ولا إجماع في المؤخر فكان القول بالتعجيل أحوط وأولى.
الثالث: أن الفعل واجب بالاتفاق فلو جاز تأخيره إما أن يجوز إلى غاية معينة أو لا إلى غاية.
فإن
جاز تأخيره إلى غاية معينة فإما أن تكون معلومة للمأمور أو لا تكون معلومة
له فإن كانت معلومة له فإما أن تكون مذكورة بأن يقال له: إلى عشرة أيام
مثلاً أو موصوفة الأول خلاف الفرض إذ الفرض فيما إذا كان أمراً مطلقاً غير
مقيد بوقت في الذكر وإن كان الثاني فالوقت الموصوف لا يخرج بالإجماع عن
الوقت الذي إذا انتهى إليه غلب على ظنه أنه لو أخر المأمور به عنه لفات
وذلك لا يكون إلا بأمارة تدل عليه وهي الإجماع غير خارجة عن المرض المرجو
وعلو السن وكل واحد من الأمرين مضطرب مختلف فإنه قد يموت قبل ذلك أو يعيش
بعده فلا يعتمد عليه وإن كانت الغاية غير معلومة له مع أنه لا يجوز له
التأخير عنها كان ذلك تكليفاً بما لا يطاق وهو ممتنع وهذا كله فيما إذا جاز
التأخير إلى غاية.
وإن كان التأخير لا إلى غاية فإما أن يجوز ذلك ببدل
أو لا ببدل: فإن كان ببدل فذلك البدل إما أن يكون واجباً أو غير واجب: لا
جائز أن لا يكون واجباً وإلا لما كان بدلاً عن الواجب بالإجماع وإن كان
واجباً فهو ممتنع لوجوه أربعة: الأول أنه لو كان واجباً لوجب أنباه المأمور
حالة ورود الأمر نحوه على من حضره حذراً من فوات الواجب الذي هو البدل كما
لو ضاق عليه الوقت وكان نائماً الثاني هو أن الأمر لا تعرض فيه لوجوب
البدل والأصل عدم دليل آخر ويمتنع القول بوجوب ما لا دليل عليه الثالث أن
البدل لو كان واجباً لكان قائماً مقام المبدل ومحصلاً لمقصوده وإلا لما كان
بدلاً لما فيه من فوات مقصود الأصل ويلزم من ذلك سقوط المأمور به بالكلية
بتقدير الإتيان بالبدل ضرورة حصول مقصوده وهو محال الرابع أنه لو كان البدل
واجباً لم يخل إما أن يجوز تأخيره عن الوقت الثاني من ورود الأمر أو لا
يجوز: فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في أصل المأمور به وهو تسلسل
ممتنع وإن كان الثاني فهو أيضاً ممتنع لأن البدل لا يزيد على نفس المبدل
ووقت المبدل غير معين فكذلك البدل وإن جاز التأخير أبداً لا ببدل ففيه
إخراج الواجب عن حقيقته وهو محال.
الرابع: من الوجوه الأول أن امتثال
المأمور به من الخيرات وهو سبب الثواب فوجب تعجيله لقوله تعالى: " فاستبقوا
الخيرات " " البقرة 148 " وقوله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة
عرضها السماوات والأرض " " آل عمران 133 " أمر بالمسارعة والمسابقة وهي
التعجيل والأمر للوجوب.
والجواب عن الوجه الأول أنه إنما فهم التعجيل من
أمر السيد بسقي الماء من الظن الحاصل بحاجة السيد إليه في الحال إذ الظاهر
أنه لا يطلب سقي الماء من غير حاجة إليه حتى أنه لو لم يعلم أو يظن أن
حاجته إليه داعية في الحال لما فهم من أمره التعجيل ولا حسن ذم العبد
بالتأخير.
فإن قيل: أهل العرف إنما يذمون العبد بمخالفة مطلق الأمر
ويقولون في معرض الذم خالف أمر سيده وذلك يدل على أن مطلق الأمر هو المقتضي
للتعجيل دون غيره.
قلنا: إنما نسلم صحة ذلك في الأمر المقيد بالقرينة
دون المطلق والأمر فيما نحن فيه مقيد ثم هو معارض عند مطلق الأمر بصحة عذر
العبد بقوله إنما أخرت لعدم علمي وظني بدعو حاجته إليه في الحال وليس أحد
الأمرين أولى من الآخر وعن الثاني من وجهين: الأول: لا نسلم تعين أقرب
الأماكن ولا نسلم أن قوله: أنت طالق وأنت حر يفيد صحة الطلاق والعتق بوضعه
له لغة بل ذلك لسبب جعل الشرع له علامة على ذلك الحكم الخالي ولا يلزم من
ذلك أن يكون الأمر موضوعاً للفور.
الثاني: أن حاصله يرجع إلى القياس في اللغة وهو ممتنع كما سبق.
وعن الثالث والرابع: ما سبق في المسألة المتقدمة.

وعن
الخامس: أن توبيخه لإبليس إنما كان ذلك لإبائه واستكباره ويدل عليه قوله
تعالى: " إلا إبليس أبى واستكبر " " البقرة 34 " ولتخيره على آدم بقوله: "
أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " " ص 76 " ولا يمكن إضافة
التوبيخ إلى مطلق الأمر من حيث هو أمر لأنه منقسم إلى أمر إيجاب واستحباب
كما سبق تقريره ولا توبيخ على مخالفة أمر الاستحباب إجماعاً ولو كان
التوبيخ على مطلق الأمر لكان أمر الاستحباب موبخاً على مخالفته فلم يبق إلا
أن يكون التوبيخ على أمر الإيجاب وهو منقسم إلى أمر إيجاب على الفور وأمر
إيجاب على التراخي كما إذا قال: أوجبت عليك متراخياً ولا يلزم منه أن يكون
مطلق الأمر للإيجاب حالاً وإن سلمنا أنه وبخه على مخالفة الأمر في الحال
ولكن لا نسلم أن الأمر بالسجود كان مطلقاً بل هو مقترن بقرينة لفظية موجبة
لحمله على الفور وهي قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له
ساجدين " رتب السجود على هذه الأوصاف بفاء التعقيب وهي مقتضية للسجود عقبها
على الفور من غير مهلة.
قولهم: لم قلتم بأنه لا يكون مستلزماً للفور بواسطة دلالته على وجوب الفعل؟ قلنا: الأصل عدم ذلك.
قولهم إنه يجب تعجيل اعتقاد وجوب الفعل قلنا ولم يلزم منه تعجيل وجوب الفعل.
قولهم
إنه من لوازم وجوب الفعل قلنا من لوازم وجوب تقديم الفعل أو من لوازم وجوب
الفعل الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لا يلزم منه وجوب تقديم الفعل بدليل
ما لو أوجب الفعل مصرحاً بتأخيره فإنه يجب تعجيل اعتقاد وجوبه وإن لم يكن
وجوب الفعل على الفور.
قولهم القول بالتعجيل أحوط للمكلف قلنا الاحتياط
إنما هو باتباع المكلف ما أوجبه ظنه: فإن ظن الفور وجب عليه اتباعه وإن ظن
التراخي وجب عليه اتباعه وإلا فبتقدير أن يكون قد غلب على ظنه التراخي
فالقول بوجوب التعجيل على خلاف ظنه يكون حراماً وارتكاب المحرم يكون
إضراراً فلا يكون احتياطاً.
قولهم: لو جاز التأخير إما أن يكون إلى غاية
أو لا إلى غاية إلى آخره فهو منقوض بما لو صرح الآمر بجواز التأخير فإن كل
ما ذكروه من الأقسام متحقق فيه مع جواز تأخيره وما ذكروه من الآيتين
الأخيرتين فهو غير دال على وجوب تعجيل الفعل المأمور به فإنهما بمنطوقهما
يدلان على المسارعة إلى الخيرات والمغفرة والمراد به إنما هو المسارعة إلى
سبب ذلك ودلالتهما على السبب إنما هي بجهة الاقتضاء والاقتضاء لا عموم له
على ما يأتي تقريره فلا دلالة لهما على المسارعة إلى كل سبب للخيرات
والمغفرة فيختص ذلك بما اتفق على وجوب تعجيله من الأفعال المأمور بها ولا
يعم كل فعل مأمور به.
المسألة السادسة الأمر بالشيء على التعيين هل هو
نهي عن أضداده؟ اختلفوا فيه وتفصيل المذاهب: أما أصحابنا فالأمر عندهم هو
الطلب القائم بالنفس وقد اختلفوا: فمنهم من قال الأمر بالشيء بعينه نهي عن
أضداده وإن طلب الفعل بعينه طلب ترك أضداده وهو قول القاضي أبي بكر في أول
أقواله ومنهم من قال: هو نهي عن أضداده بمعنى أنه يستلزم النهي عن الأضداد
لا أن الأمر هو عين المنهي وهو آخر ما اختاره القاضي في أخر أقواله ومنهم
من منع من ذلك مطلقاً وإليه ذهب إمام الحرمين والغزالي.
وأما المعتزلة
فالأمر عندهم نفس صيغة افعل وقد اتفقوا على أن عين صيغة افعل لا تكون نهياً
لأن صيغة النهي لا تفعل وليس إحداهما عين الأخرى وإنما اختلفوا في أن
الآمر بالشيء هل يكون نهياً عن أضداده من جهة المعنى: فذهب القدماء من
مشايخ المعتزلة إلى منعه ومن المعتزلة من صار إليه كالعارضي وأبي الحسين
البصري وغيرهما من المعتبرين منهم ومعنى كونه نهياً عن الأضداد من جهة
المعنى عندهم أن صيغة الأمر تقتضي إيجاد الفعل والمنع من كل ما يمنع منه
ومنهم من فصل بين أمر الإيجاب والندب وحكم بأن أمر الإيجاب يكون نهياً عن
أضداده ومقبحاً لها لكونها مانعة من فعل الواجب بخلاف المندوب ولهذا فإن
أضداد المندوب من الأفعال المباحة غير منهي عنها لا نهي تحريم ولا نهي
تنزيه.
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السادس Empty رد: كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السادس {السبت 9 يوليو - 17:02}


والمختار إنما هو التفصيل وهو إما أن نقول بجواز التكليف بما لا يطاق أو
لا يقول به: فإن قلنا بجوازه على ما هو مذهب الشيخ أبي الحسن رحمة الله
عليه كما سبق تقريره فالأمر بالفعل لا يكون بعينه نهياً عن أضداده ولا
مستلزماً للنهي عنها بل جائز أن نؤمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة فضلاً
عن كونه لا يكون منهياً عنه وإن منعنا ذلك فالمختار أن الأمر بالشيء يكون
مستلزماً للنهي عن أضداده لا أن يكون عين الأمر هو عين النهي عن الضد وسواء
كان الأمر أمر إيجاب أو ندب أما أنه مستلزم للنهي عن الأضداد فلأن فعل
المأمور به لا يتصور إلا بترك أضداده وما لا يتم فعل المأمور به دون تركه
فهو واجب الترك إن كان الأمر للإيجاب ومندوب إلى تركه إن كان الأمر للندب
على ما سبق تقريره وهو معنى كونه منهياً عنه غير أن النهي عن أضداد الواجب
يكون نهي تحريم وعن أضداد المندوب نهي كراهة وتنزيه وأما أنه لا يكون عين
الأمر هو عين النهي.
فإذا قلنا إن الأمر هو صيغة افعل فظاهر على ما سبق
وأما على قولنا إن الأمر هو الطلب القائم بالنفس فلأنا إذا فرضنا الكلام في
الطلب النفساني القديم فهو وإن اتحد على أصلنا فإنما يكون أمراً بسبب
تعلقه بإيجاد الفعل وهو من هذه الجهة لا يكون نهياً لأنه إنما يكون نهياً
بسبب تعلقه بترك الفعل وهما بسبب التغاير في التعلق والمتعلق متغايران وإن
فرضنا الكلام في الطلب القائم بالمخلوق فهو وإن تعدد فالأمر منه أيضاً إنما
هو الطلب المتعلق بإيجاد الفعل والنهي منه هو الطلب المتعلق بتركه وهما
غيران.
فإن قيل: لو كان الأمر بالفعل مستلزماً للنهي عن أضداده لكان
الأمر بالعبادة مستلزماً للنهي عن جميع المباحات المضادة لها ويلزم من ذلك
أن تكون حراماً إن كان النهي نهي تحريم أو مكروهة إن كان النهي نهي تنزيه
وخرج المباح عن كونه مباحاً كما ذهب إليه الكعبي من المعتزلة بل ويلزم منه
أن يكون ما عدا العبادة المأمور بها من العبادات المضادة لها منهياً عنها
ومحرمة أو مكروهة وهو محال كيف وإن الآمر بالفعل قد يكون غافلاً عن أضداده
والغافل عن الشيء لا يكون ناهياً عنه لأن النهي عن الشيء يستدعي العلم به
والعلم بالشيء مع الذهول عنه محال سلمنا أنه مستلزم للنهي عن أضداده لكن
يمتنع أن يكون النهي عن الأضداد غير الأمر بل يجب أن يكون هو هو بعينه كما
قاله القاضي أبو بكر في أحد قوليه ومأخذه أنه إذا وقع الاتفاق على أنه يلزم
من الأمر بالفعل النهي عن أضداده فذلك النهي إن كان هو غير الأمر فإما أن
يكون ضداً له أو مثلاً أو خلافاً: لا جائز أن يقال بالمضادة وإلا لما
اجتمعا وقد اجتمعا ولا جائز أن يكون مثلاً لأن المتماثلات أضداد على ما عرف
في الكلاميات ولا جائز أن يكون خلافاً وإلا جاز وجود أحدهما دون الآخر كما
في العلم والإرادة ونحوهما ولجاز أن يوجد أحدهما مع ضد الآخر كما يوجد
العلم بالشيء مع الكراهة المضادة لإرادته ويلزم من ذلك أنه إذا أمر بالحركة
المضادة للسكون إذا كان النهي عن السكون مخالفاً للأمر بالحركة أن يجتمع
الأمر بالحركة والأمر بالسكون المضاد المنهي عنه وفيه الأمر بالضدين معاً
وهو ممتنع على ما وقع به الفرض وإذا بطلت المغايرة تعين الاتحاد وعلى هذا
فالحركة عين ترك السكون وشغل الجوهر بحيز هو عين تفريغه لغيره وعين القرب
من المشرق بالفعل الواحد هو عين البعد من المغرب فطلب أحدهما بعينه طلب
الآخر لاتحاد المطلوب.
والجواب: عن السؤال الأول أنا لا نمنع من كون
المباحات بل الواجبات المضادة المأمور بها منهياً عنها من جهة كونها مانعة
من فعل المأمور به لا في ذاتها كما نقول في فعل الصلاة في الدار المغصوبة
فإنه في ذاته غير منهي عنه وإن كان منهياً عنه من جهة ما يتعلق به من شغل
ملك الغير كما سبق ذكره ولا التفات إلى ما يهول به من خروج المباحات عن
كونها مباحة فإن ذلك إنما يلزم إن لو قيل بكونها منهياً عنها في ذواتها
وأما إذا قيل بكونها منهياً عنها من جهة كونها مانعة من فعل المأمور به
فلا.

قولهم إنه قد يأمر بالفعل من هو غافل عن أضداده قلنا لا نسلم أن
الآمر بالشيء عند كونه آمراً به يتصور أن يكون غافلاً عن طلب ترك ما يمنع
من فعل المأمور به من جهة الجملة وإن كان غافلاً عن تفصيله ونحن إنما نريد
بقولنا إن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن الأضداد من جهة الجملة لا من جهة
التفصيل.
قولهم إنه يمتنع أن يكون النهي عن الأضداد غير الأمر قلنا: دليله ما سبق.
وما
ذكره القاضي أبو بكر من الدليل فالمختار منه إنما هو قسم التخالف ولا يلزم
من ذلك جواز انفكاك أحدهما عن الآخر لجواز أن يكونا من قبيل المختلفات
المتلازمة كما في المتضايفات وكل متلازمين من الطرفين وبه يمتنع الجمع بين
وجود أحدهما وضد الآخر ولا يلزم من جواز ذلك في بعض المختلفات جوازه في
الباقي وإذا بطل ما ذكره من دليل الاتحاد بطل ما هو مبني عليه.
المسألة
السابعة مذهب أصحابنا والفقهاء وأكثر المعتزلة أن الإتيان بالمأمور به يدل
على الإجزاء خلافاً للقاضي عبد الجبار من المعتزلة ومتبعيه فإنه قال لا يدل
على الإجزاء.
وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تحقيق معنى الإجزاء ليكون
التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد فنقول: كون الفعل مجزئاً قد يطلق
بمعنى أنه امتثل به الأمر عندما إذا أتي به على الوجه الذي أمر به وقد يطلق
بمعنى أنه مسقط للقضاء وإذا علم معنى كون الفعل مجزئاً فقد اتفق الكل على
أن الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر به يكون مجزئاً بمعنى كونه
امتثالاً للأمر وذلك مما لا خلاف فيه وإنما خالف القاضي عبد الجبار في كونه
مجزئاً بالاعتبار الآخر وهو أنه لا يسقط القضاء ولا يمتنع مع فعله من
الأمر بالقضاء وهو مصرح به في عمده.
وعلى هذا فكل من استدل من أصحابنا
كإمام الحرمين وغيره من القائلين بالإجزاء على كون الفعل امتثالاً وخروجاً
عن عهدة الأمر الأول فقد استدل على محل الوفاق وحاد عن موضع النزاع لكن قد
أورد أبو الحسين البصري إشكالاً على تفسير أجزاء الفعل بكونه مسقطاً للقضاء
وقال لو أمر بالصلاة مع الطهارة فأتى بها من غير طهارة ومات عقيب الصلاة
فإنه لا يكون فعله مجزئاً وإن كان القضاء ساقطاً وربما زاد عليه بعض
الأصحاب وقال يمتنع تفسير الإجزاء بسقوط القضاء لأنا نعلل وجوب القضاء بكون
الفعل الأول لم يكن مجزئاً والعلة لا بد وأن تكون مغايرة للمعلول.
والوجه
في إبطالهما أن يقال: أما الأول فلأن الإجزاء ليس هو نفس سقوط القضاء
مطلقاً ليلزم ما قيل بل سقوط القضاء بالفعل في حق من يتصور في حقه وجوب
القضاء وذلك غير متصور في حق الميت.
وأما الثاني: فلأن علة صحة وجوب
القضاء إنما هو استدراك ما فات من مصلحة أصل العبادة أو صفتها أو مصلحة ما
انعقد سبب وجوبه ولم يجب لمانع لا ما قيل.
وإذا تنقح محل النزاع فنعود
إلى المقصود فنقول: الفعل المأمور به لا يخلو إما أن يكون قد أتى به
المأمور على نحو ما أمر به من غير خلل ولا نقص في صفته وشرطه أو أتى به على
نوع من الخلل.
والقسم الثاني: أنه لا نزاع في كونه غير مجزئ ولا مسقط
للقضاء وإنما النزاع في القسم الأول وليس النزاع فيه أيضاً من جهة أنه
يمتنع ورود أمر مجدد بعد خروج الوقت بفعل مثل ما أمر به أولاً وإنما النزاع
في ورود الأمر بالفعل متصفاً بصفة القضاء والحق نفيه لأن القضاء عبارة عن
استدراك ما فات من مصلحة الأداء أو مصلحة صفته أو شرطه وإذا كان المأمور به
قد فعل على جهة الكمال والتمام من غير نقص ولا خلل فوجوب القضاء استدراكاً
لما قد حصل تحصيل للحاصل وهو محال ومن ينفي القضاء إنما ينفيه بهذا
التفسير وهذا مما يتعذر مع تحقيقه المنازعة فيه وإن كان لا ينكر إمكان ورود
الأمر خارج الوقت بمثل ما فعل أولاً غير أنه لا يسميه قضاء ومن سماه قضاء
فحاصل النزاع معه آيل إلى اللفظ دون المعنى.
شبه الخصوم: الأولى أن من
صلى وهو يظن أنه متطهر ولم يكن متطهراً مأمور بالصلاة فإن كان مأموراً بها
مع الطهارة حقيقة فهو عاص آثم بصلاته حيث لم يكن متطهراً وإن كان مأموراً
بالصلاة على حسب حاله فقد أتى بما أمر به على الوجه الذي أمر به ومع ذلك
يجب عليه القضاء إذ لم يكن متطهراً وكذلك المفسد للحج مأمور بمضيه في حجة
الفاسد ويجب عليه القضاء.

الثانية: أن الأمر لا يدل على غير طلب الفعل ولا دلالة له على امتناع التكليف بمثل فعل ما أمر به فلا يكون مقتضياً له.
الثالثة: أن الأمر مثل النهي في الطلب والنهي لا دلالة فيه على فساد المنهي عنه فالأمر لا يدل على كون المأمور به مجزئاً.
وجواب
الأولى: أنا لا نسلم وجوب القضاء فيما إذا صلى على ظن الطهارة ثم علم أنه
لم يكن متطهراً على قول لنا وإن سلمنا وجوب القضاء لكنه ليس واجباً عما أمر
به من الصلاة المظنون طهارتها ولا عما أمر به من المضي في الحج الفاسد
لأنه قد أتى بما أمر به على النحو الذي أمر به وإنما القضاء استدراك لمصلحة
ما أمر به أولاً من الصلاة مع الطهارة والحج العري عن الفساد.
وعن
الثانية: أنا لا نمنع من ورود أمر يدل على مثل ما فعل أولاً وإنما المدعي
أنه إذا أتى المأمور بفعل المأمور به على نحو ما أمر به امتنع وجوب القضاء
بما ذكرناه من التفسير.
وعن الثالثة: أنه قياس في اللغة وقد أبطلناه وإن
سلم صحته غير أنا لا نقول بأن الأمر يدل على الإجزاء بمعنى امتناع وجوب
القضاء بل امتثال الأمر هو المانع من وجوب القضاء على ما تقرر وفرق بين
الأمرين.
المسألة الثامنة إذا وردت صيغة افعل بعد الحظر فمن قال إنها
للوجوب قبل الحظر اختلفوا فمنهم من أجراها على الوجوب ولم يجعل لسبق الحظر
تأثيراً كالمعتزلة ومنهم من قال بأنها للإباحة ورفع الحجر لا غير وهم أكثر
الفقهاء ومنهم من توقف كإمام الحرمين وغيره.
والمختار أنها وإن كانت
ظاهرة في الطلب والاقتضاء وموقوفة بالنسبة إلى الوجوب والندب على ما سبق
تقرير كل واحد من الأمرين إلا أنها محتملة للإباحة والإذن في الفعل كما
تقدم فإذا وردت بعد الحظر احتمل أن تكون مصروفة إلى الإباحة ورفع الحجر كما
في قوله تعالى: " وإذا حللتم فاصطادوا " " المائدة 2 " " وإذا طعمتم
فانتشروا " " الأحزاب 53 " " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا " " الجمعة 10 "
وقوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروا "
واحتمل أن تكون مصروفة إلى الوجوب كما لو قيل للحائض والنفساء: إذا زال عنك
الحيض فصلي وصومي.
وعند هذا فإما أن يقال بتساوي الاحتمالين أو بترجيح أحدهما على الآخر.
فإن
قيل بالتساوي امتنع الجزم بأحدهما ووجب التوقف وإن قيل بوجوب الترجيح
وامتناع التعارض من كل وجه فليس اختصاص الوجوب به أولى من الإباحة إلا أن
يقوم الدليل على التخصيص والأصل عدمه وعلى هذا أيضاً فيجب التوقف كيف وأن
احتمال الحمل على الإباحة أرجح نظراً إلى غلبة ورود مثل ذلك للإباحة دون
الوجوب وعلى كل تقدير فيمتنع الصرف إلى الوجوب.
وبالجملة فهذه المسألة
مستمدة من مسألة أن صيغة افعل إذا وردت مطلقة هل هي ظاهرة في الوجوب أو
الندب أو موقوفة وقد تقرر مأخذ كل فريق وما هو المختار فيه والله أعلم.
المسألة
التاسعة إذا ورد الأمر بعبادة في وقت مقدر فلم تفعل فيه لعذر أو لغير عذر
أو فعلت فيه على نوع من الخلل اختلفوا في وجوب قضائها بعد ذلك الوقت هل هو
بالأمر الأول أو بأمر مجدد: الأول هو مذهب الحنابلة وكثير من الفقهاء
والثاني هو مذهب المحققين من أصحابنا والمعتزلة.
ونقل عن أبي زيد الدبوسي أنه قال بوجوب القضاء بقياس الشرع.
وإن
ورد مطلقاً غير مقيد بوقت فمن قال بحمله على الفور اختلفوا فيما إذا وقع
الإخلال به في أول وقت الإمكان هل يجب قضاؤه بنفس ذلك الأمر أو بأمر مجدد.
والمختار أنه مهما قيد الأمر بوقت فالقضاء بعده لا يكون إلا بأمر مجدد وبيانه من وجوه.
الأول
أنه لو كان الأمر الأول مقتضياً للقضاء لكان مشعراً به وهو غير مشعر به
فإنه إذا قال صم في يوم الخميس أو صل في وقت الزوال فإنه لا إشعار له
بإيقاع الفعل في غير ذلك الوقت لغة.
الثاني: أنه إذا علق الفعل بوقت معين فلا بد وأن يكون ذلك لحكمة ترجع إلى المكلف إذ هو الأصل في شرع الأحكام.
وسواء
ظهرت الحكمة أم لم تظهر وتلك الحكمة إما أن تكون حاصلة من الفعل في غير
ذلك الوقت أو غير حاصلة وليست حاصلة لثلاثة أوجه: الأول أنه يحتمل أن يكون
ويحتمل أن لا يكون والأصل العدم.

الثاني: أنها لو كانت حاصلة فإما أن
تكون مثلاً لها في الوقت الأول أو أزيد لا جائز أن تكون أزيد وإلا كان
الحث على إيجاد الفعل بعد فوات وقته أولى من فعله في الوقت وهو محال وإن
كانت مثلاً فهو ممتنع وإلا لما كان تخصيص أحد الوقتين بالذكر أولى من
الآخر.
الثالث: أن الفعل في الوقت موصوف بكونه أداء وقد قال عليه السلام: " لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم " .
وإذا
لم تكن حاصلة في الوقت الثاني حسب حصولها في الوقت الأول فلا يلزم من
اقتضاء الأمر للفعل في الوقت الأول أن يكون مقتضياً له فيما بعده وصار هذا
كما لو أمر الطبيب بشرب الدواء في وقت فإنه لا يكون متناولاً لغير ذلك
الوقت.
وكذلك إذا علق الأمر بشرط معين كاستقبال جهة معينة أو بمكان معين كالأمر بالوقوف بعرفة فإنه لا يكون متناولاً لغيره.
الوجه
الثالث من الوجوه الأول أن العبادات المأمور بها منقسمة إلى ما يجب قضاؤه
كالصوم والصلاة وإلى ما لا يجب كالجمعة والجهاد فلو كان الأمر الأول
مقتضياً للقضاء لكان القول بعدم القضاء فيما فرض من الصور على خلاف الدليل
وهو ممتنع.
الرابع قوله صلى الله عليه وسلم: " من نام عن صلاة أو نسيها
فليصلها إذا ذكرها " أمر بالقضاء ولو كان مأموراً به بالأمر الأول لكانت
فائدة الخبر التأكيد ولو لم يكن مأموراً به لكانت فائدته التأسيس وهو أولى
لعظم فائدته.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض من خمسة أوجه: الأول قوله: صلى
الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ومن فاته الوقت
الأول فهو مستطيع للفعل في الوقت الثاني.
الثاني: أن الأمر إنما يدل على
طلب الفعل وهو مقتضاه لا غير وأما الزمان فلا يكون مطلوباً بالأمر إذ ليس
هو من فعل المكلف وإنما وقع ذلك ضرورة كونه ظرفاً للفعل فاختلاله لا يؤثر
في مقتضى الأمر وهو الفعل.
الثالث: أن الغالب من المأمورات في الشرع
إنما هو القضاء بتقدير فوات أوقاتها المعينة ولا بد لذلك من مقتض والأصل
عدم كل ما سوى الأمر السابق فكان هو المقتضي.
الرابع: أنه لو وجب القضاء بأمر مجدد لكان أداء كما في الأمر الأول ولما كان لتسميته قضاء معنى.
الخامس:
أن العبادة حق لله تعالى والوقت المفروض كالأجل لها ففوات أجلها لا يوجب
سقوطها كما في الدين للآدمي ولأنه لو سقط وجوب الفعل بفوات الوقت لسقط
المأثم لأنه من أحكام وجوب الفعل ولأن الأصل بقاء الوجوب فالقول بالسقوط
بفوات الأجل على خلاف مقتضى الأصل.
والجواب: عن المعارضة الأولى أن
الخبر دليل وجوب الإتيان بما أستطيع من المأمور به وإنما يفيد أن لو كان
الفعل في الوقت الثاني داخلاً تحت الأمر الأول وهو محل النزاع.
وعن الثاني: أن الأمر اقتضى مطلق الفعل أو فعلاً مخصوصاً بصفة وقوعه في وقت معين؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
وعن الثالث: أن القضاء فيما قيل بقضائه إنما كان بناء على أدلة أخرى لا بالأمر الأول.
قولهم الأصل عدم ما سوى الأمر الأول قلنا: والأصل عدم دلالة الأمر الأول عليه كيف وقد بينا عدم دلالته.
وعن الرابع أنه إنما سمي قضاء لكونه مستدركاً لما فات من مصلحة الفعل المأمور به أولاً أو مصلحة وصفه كما تقدم تحقيقه.
وعن
الخامس: بمنع كون الوقت أجلاً للفعل المأمور به إذ الأجل عبارة عن وقت
مهلة وتأخير المطالبة بالواجب من أوله إلى آخره كما في الحول بالنسبة إلى
وجوب الزكاة ولذلك لا يأثم بإخراج وقت الأجل عن قضاء الدين وإخراج الحول عن
أداء الزكاة فيه ولا كذلك الوقت المقدر للصلاة بل هو صفة الفعل الواجب ومن
وجب عليه فعل بصفة لا يكون مؤدياً له دون تلك الصفة.
وعلى هذا فلا يخفى الكلام في الأمر المطلق إذا كان محمولاً على الفور ولم يؤت بالمأمور به في أول وقت الإمكان.
المسألة العاشرة الأمر المتعلق بأمر المكلف لغيره بفعل من الأفعال لا يكون أمراً لذلك الغير بذلك الفعل وبيانه من وجهين:

الأول
أنه لو كان أمراً لذلك الغير لكان ذلك مقتضاه لغة ولو كان كذلك لكان أمره
صلى الله عليه وسلم لأولياء الصبيان بقوله: " مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع "
أمراً للصبيان بالصلاة من الشارع وليس كذلك لوجهين: الأول أن الأمر الموجه
نحو الأولياء أمر تكليف ولذلك يذم الولي بتركه شرعاً فلو كان ذلك أيضاً
أمراً للصبيان لكانوا مكلفين بأمر الشارع وخاصة ذلك لحوق الذم بالمخالفة
شرعاً وهو غير متصور في حق الصبيان لعدم فهمهم لخطاب الشارع ويدل عليه قوله
صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ " الخبر
ويمكن أن يقال فيه: الأمر للولي والصبي وإن كان واحداً غير أن نسبته إليهما
مختلفة فلا يمتنع اختلافهما في الذم بسبب ذلك.
الثاني: أنه لو كان
أمراً للصبي لم يخل إما أن يكون أهلاً لفهم خطاب الشارع أو لا يكون أهلاً
له فإن كان الأول فلا حاجة إلى أمر الولي له أو أن يكون أحد الأمرين
تأكيداً والأصل في إفادة الألفاظ لمعانيها إنما هو التأسيس وإن لم يكن
أهلاً له فأمره وخطابه ممتنع بالإجماع وإذا لم يكن أمر الولي بأمر الصبيان
أمراً للصبيان فإما أن يكون ذلك لعدم اقتضائه لذلك لغة أو لمعارض والمعارضة
يلزم منها تعطيل أحد الدليلين عن إعماله وهو خلاف الأصل فلم يبق إلا أن
يكون ذلك لعدم اقتضائه له لغة وهو المطلوب.
الثاني: من الوجهين الأولين
أنه يحسن أن يقول السيد لعبده سالم مر غانماً بكذا ويقول لغانم: لا تطعه
ولا يعد ذلك مناقضة في كلامه ولو كان ذلك أمراً لغانم لكان كأنه قال: أوجبت
عليك طاعتي ولا تطعني وهو تناقض.
وعلى هذا لو أوجب الآمر على المأمور
أن يأخذ من غيره مالاً لا يكون ذلك إيجاباً للإعطاء على ذلك الغير كما في
قوله تعالى لنبيه: " خذ من أموالهم صدقة " " التوبة 103 " فإن ذلك لا يدل
على إيجاب إعطاء الصدقة على الأمة بنفس ذلك الإيجاب بل إن وجب فإنما يجب
بدليل آخر موجب لطاعة الرسول فيما يحكم به تعظيماً له ونفياً لما يلزم من
مخالفته من تحقيره وهضمه في أعين الناس المبعوث إليهم المفضي إلى الإخلال
بمقصود البعثة وإلا فلا يبعد أن يقول السيد لأحد عبديه أوجبت عليك أن تأخذ
من العبد الآخر كذا ويقول للآخر: حرمت عليك موافقته من غير مناقضة فيما
أوجبه ولو كان إيجاب ذلك على أحد العبدين إيجاباً على العبد الآخر لكان
تناقضاً فإن قيل: وجوب الأخذ إنما يتم بالإعطاء وما لا يتم الواجب إلا به
فهو واجب.
قلنا: إن كان الوجوب متعلقاً بنفس الطلب فهو غير متوقف على
الإعطاء وإن كان متعلقاً بنفس الأخذ وإن كان لا يتم ذلك دون الإعطاء فليس
كل ما يتوقف عليه الواجب يكون واجباً إلا أن يكون ذلك مقدوراً لمن وجب عليه
الأخذ وإعطاء الغير غير مقدور لمن وجب عليه الأخذ فلا يكون واجباً.
المسألة
الحادية عشرة إذا أمر بفعل من الأفعال مطلقاً غير مقيد في اللفظ بقيد خاص
قال بعض أصحابنا: الأمر إنما تعلق بالماهية الكلية المشتركة ولا تعلق له
بشيء من جزئياتها وذلك كالأمر بالبيع فإنه لا يكون أمراً بالبيع بالغبن
الفاحش ولا بثمن المثل إذ هما متفقان في مسمى البيع ومختلفان بصفتهما
والأمر إنما تعلق بالقدر المشترك وهو غير مستلزم لما تخصص به كل واحد من
الأمرين فلا يكون الأمر المتعلق بالأعم متعلقاً بالأخص اللهم إلا أن تدل
القرينة على إرادة أحد الأمرين.
قال: ولذلك قلنا إن الوكيل في البيع
المطلق لا يملك البيع بالغبن الفاحش وهو غير صحيح وذلك لأن ما به الاشتراك
بين الجزئيات معنى كلي لا تصور لوجوده في الأعيان وإلا كان موجوداً في
جزئياته ويلزم من ذلك انحصار ما يصلح اشتراك كثيرين فيه فيما لا يصلح لذلك
وهو محال.

وعلى هذا فليس معنى اشتراك الجزئيات في المعنى الكلي هو أن
الحد المطابق للطبيعة الموصوفة بالكلية مطابق للطبيعة الجزئية بل إن تصور
وجوده فليس في غير الأذهان وإذا كان كذلك فالأمر: طلب إيقاع الفعل على ما
تقدم وطلب الشيء يستدعي كونه متصوراً في نفس الطالب على ما تقدم تقريره
وإيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه فلا يكون متصوراً في نفس
الطالب فلا يكون أمراً به ولأنه يلزم منه التكليف بما لا يطاق ومن أمر
بالفعل مطلقاً لا يقال إنه مكلف بما لا يطاق فإذا الأمر لا يكون بغير
الجزئيات الواقعة في الأعيان لا بالمعنى الكلي وبطل ما ذكره.
ثم وإن سلم
أن الأمر متعلق بالمعنى الكلي المشترك وهو المسمى بالبيع فإذا أتى المأمور
ببعض الجزئيات كالبيع بالغبن الفاحش فقد أتى بما هو مسمى البيع المأمور به
الموكل فيه فوجب أن يصح نظراً إلى مقتضى صيغة الأمر المطلق بالبيع وإن قيل
بالبطلان فلا يكون ذلك لعدم دلالة الأمر به بل لدليل معارض.
المسألة
الثانية عشرة الأمران المتعاقبان إما أن لا يكون الثاني معطوفاً على الأول
أو يكون معطوفاً: فإن كان الأول فإما أن يختلف المأمور به أو يتماثل: فإن
اختلف فلا خلاف في اقتضاء المأمورين على اختلاف المذاهب في الوجوب والندب
والوقف وسواء أمكن الجمع بينهما كالصلاة مع الصوم أم لا يمكن الجمع كالصلاة
في مكانين أو الصلاة مع أداء الزكاة وإن تماثل فإما أن يكون المأمور به
قابلاً للتكرار أو لا يكون قابلاً له: فإن لم يكن قابلاً له كقوله: صم يوم
الجمعة صم يوم الجمعة فإنه للتأكيد المحض وإن كان قابلاً للتكرار فإن كانت
العادة مما تمنع من تكرره كقول السيد لعبده: اسقني ماء اسقني ماء أو كان
الثاني منهما معرفاً كقوله: أعط زيداً درهماً أعط زيداً الدرهم فلا خلاف
أيضاً في كون الثاني مؤكداً للأول.
وإنما الخلاف فيما لم تكن العادة
مانعة من التكرار والثاني غير معرف كقوله: صل ركعتين صل ركعتين فقال القاضي
عبد الجبار: إن الثاني يفيد غير ما أفاده الأول ويلزم الإتيان بأربع ركعات
مصيراً منه إلى أن الأمر الثاني لو انفرد أفاد اقتضاء الركعتين فكذلك إذا
تقدمه أمر آخر لأن الاقتضاء لا يختلف وخالفه أبو الحسين البصري بالذهاب إلى
الوقف والتردد بين حمل الأمر الثاني على الوجوب أو التأكيد للأول والأظهر
أنه إذا لم تكون العادة مانعة من التكرار ولا الثاني معرف أن مقتضى الثاني
غير مقتضى الأول.
وسواء قلنا إن مقتضى الأمر الوجوب أم الندب أم هو
موقوف بين الوجوب والندب كما سبق لأنه لو كان مقتضياً عين ما اقتضاه الأول
لكانت فائدته التأكيد ولو كان مقتضياً غير ما اقتضاه الأول لكانت فائدته
التأسيس والتأسيس أصل والتأكيد فرع وحمل اللفظ على الفائدة الأصلية أولى.
فإن
قيل إلا أنه يلزم منه تكثير مخالفة النفي الأصلي ودليل براءة الذمة من
القدر الزائد وليس أحد الأمرين أولى من الآخر فهو معارض بما يلزم من
التأكيد من مخالفة ظاهر الأمر فإنه إما أن يكون ظاهراً في الوجوب أو الندب
أو هو متردد بينهما على وجه لا خروج له عنهما على اختلاف المذاهب وحمله على
التأكيد خلاف ما هو الظاهر من الأمر وإذا تعارض الترجيحان سلم لنا ما
ذكرناه أولاً كيف وإنه يحتمل أن يكون للوجوب في نفس الأمر وفي تركه محذور
فوات المقصود من الواجب وتحصيل مقصود التأكيد ولا يخفى أن تفويت مقصود
التأكيد وتحصيل مقصود الواجب أولى.
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السادس Empty رد: كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السادس {السبت 9 يوليو - 17:03}


وأما إن كان الأمر الثاني معطوفاً على الأول فإن كان المأمور به مختلفاً
فلا نزاع أيضاً في اقتضائهما للمأمورين أمكن الجمع بينهما أو لم يمكن وإن
تماثلاً فالمأمور به إن لم يقبل التكرار فالأمر الثاني للتأكيد من غير خلاف
كقوله: صم يوم الجمعة وصم يوم الجمعة وإن كان قابلاً للتكرار فإن لم تكن
العادة مانعة من التكرار ولا الثاني معرف فالحكم على ما تقدم فيما إذا لم
يكن حرف عطف ويزيد ترجيح آخر وهو موافقة الظاهر من حروف العطف وذلك كقوله:
صل ركعتين وصل ركعتين وأما إن كانت العادة تمنع من التكرار أو كان الثاني
معرفاً كقوله: اسقني ماء واسقني ماء وكقوله: صل ركعتين وصل ركعتين فقد
تعارض الظاهر من حروف العطف مع اللام المعرف أو مع منع العادة من التكرار
ويبقى الأمر على ما ذكرنا فيما إذا لم يكن حرف عطف ولا ثم تعريف ولا عادة
مانعة من التكرار وقد عرف ما فيه.
وأما إن اجتمع التعريف والعادة
المانعة من التكرار في معارضة حرف العطف كقوله: اسقني ماء واسقني الماء
فالظاهر الوقف لأن حرف العطف مع ما ذكرناه من الترجيح السابق الموجب لحمل
الأمر الثاني على التأسيس واقع في مقابلة العادة المانعة من التكرار ولام
التعريف ولا يبعد ترجيح أحد الأمرين بما يقترن به من ترجيحات أخر.
الصنف
الثاني في النهي: أعلم أنه لما كان النهي مقابلاً للأمر فكل ما قيل في حد
الأمر على أصولنا وأصول المعتزلة من المزيف والمختار فقد قيل مقابله في حد
النهي ولا يخفى وجه الكلام فيه.
والكلام في أن النهي على أصول أصحابنا
هل له صيغة تخصه وتدل عليه؟ فعلى ما سبق في الأمر أيضاً وأن صيغة لا تفعل
وإن ترددت بين سبعة محامل وهي التحريم والكراهة والتحقير كقوله تعالى: "
ولا تمدن عينيك " " طه 131 " وبيان العاقبة كقوله: " ولا تحسبن الله غافلاً
" " إبراهيم 42 " والدعاء كقوله: " لا تكلنا إلى أنفسنا " واليأس كقوله: "
لا تعتذروا اليوم " " التحريم 7 " والإرشاد كقوله: " لا تسألوا عن أشياء "
فهي حقيقة في طلب الترك واقتضائه ومجاز فيما عداه وأنها هل هي حقية في
التحريم أو الكراهة أو مشتركة بينهما أو موقوفة؟ فعلى ما سبق في الأمر من
الزيف والمختار والخلاف في أكثر مسائله فعلى وزان الخلاف في مقابلاتها من
مسائل الأمر ومأخذها كمأخذها فعلى الناظر بالنقل والاعتبار.
غير أنه لا
بد من الإشارة إلى ما تدعو الحاجة إلى معرفته من المسائل الخاصة بالنهي
لاختصاصها بمأخذ لا تحقق له في مقابلاتها من مسائل الأمر وهي ثلاث مسائل.
المسألة
الأولى اختلفوا في أن النهي عن التصرفات والعقود المفيدة لأحكامها كالبيع
والنكاح ونحوهما هل يقتضي فسادها أو لا؟ فذهب جماهير الفقهاء من أصحاب
الشافعي ومالك وأبي حنيفة والحنابلة وجميع أهل الظاهر وجماعة من المتكلمين
إلى فسادها لكن اختلفوا في جهة الفساد: فمنهم من قال إن ذلك من جهة اللغة
ومنهم من قال إنه من جهة الشرع دون اللغة ومنهم من لم يقل بالفساد وهو
اختيار المحققين من أصحابنا كالقفال وإمام الحرمين والغزالي وكثير من
الحنفية وبه قال جماعة من المعتزلة كأبي عبد الله البصري وأبي الحسين
الكرخي والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وكثير من مشايخهم ولا نعرف
خلافاً في أن ما نهى عنه لغيره أنه لا يفسد كالنهي عن البيع في وقت النداء
يوم الجمعة إلا ما نقل عن مذهب مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
والمختار أن ما نهي عنه لعينه فالنهي لا يدل على فساده من جهة اللغة بل من جهة المعنى.
أما
أنه لا يدل على الفساد من جهة اللغة فلأنه لا معنى لكون التصرف فاسداً سوى
انتفاء أحكامه وثمراته المقصودة منه وخروجه عن كونه سبباً مفيداً لها
والنهي هو طلب ترك الفعل ولا إشعار له بسلب أحكامه وثمراته وإخراجه عن كونه
سبباً مفيداً لها.
ولهذا فإنه لو قال: نهيتك عن ذبح شاة الغير بغير
إذنه لعينه ولكن إن فعلت حلت الذبيحة وكان ذلك سبباً للحل ونهيتك عن
استيلاد جارية الابن لعينه وإن فعلت ملكتها ونهيتك عن بيع مال الربا بجنسه
متفاضلاً لعينه وإن فعلت ثبت الملك وكان البيع سببا له فإنه لا يكون
متناقضاً ولو كان النهي عن التصرف لعينه مقتضياً لفساده لكان ذلك متناقضاً.

وأما
أنه يدل على الفساد من جهة المعنى فذلك لأن النهي طلب ترك الفعل وهو إما
أن يكون لمقصود دعا الشارع إلى طلب ترك الفعل أو لا لمقصود: لا جائز أن
يقال إنه لا لمقصود.
أما على أصول المعتزلة فلأنه عبث والعبث قبيح والقبيح لا يصدر من الشارع.
وأما
على أصولنا فإنا وإن جوزنا خلو أفعال الله تعالى عن الحكم والمقاصد غير
أنا نعتقد أن الأحكام المشروعة لا تخلو عن حكمة ومقصود راجع إلى العبد لكن
لا بطريق الوجوب بل بحكم الوقوع فالإجماع إذاً منعقد على امتناع خلو
الأحكام الشرعية عن الحكم وسواء ظهرت لنا أم لم تظهر وبتقدير تسليم خلو بعض
الأحكام عن الحكمة إلا أنه نادر والغالب عدم الخلو وعند ذلك فإدراج ما وقع
فيه النزاع تحت الغالب يكون أغلب.
وإذا بطل أن يكون ذلك لا لمقصود تعين
أن يكون لمقصود وإذا كان لمقصود فلو صح التصرف وكان سبباً لحكمه المطلوب
منه فإما أن يكون مقصود النهي راجحاً على مقصود الصحة أو مساوياً أو
مرجوحاً لا جائز أن يكون مرجوحاً إذ المرجوح لا يكون مقصوداً مطلوباً في
نظر العقلاء والغالب من الشارع إنما هو التقرير لا التغيير.
وما لا يكون مقصوداً فلا يرد طلب الترك لأجله وإلا كان الطلب خلياً عن الحكمة وهو ممتنع لما سبق.
وبمثل
ذلك يتبين أنه لا يكون مساوياً فلم يبق إلا أن يكون راجحاً على مقصود
الصحة ويلزم من ذلك امتناع الصحة وامتناع انعقاد التصرف لإفادة أحكامه وإلا
كان الحكم بالصحة خلياً عن حكمة ومقصود ضرورة كون مقصودها مرجوحاً على ما
تقدم تقريره وإثبات الحكم خلياً عن الحكمة في نفس الأمر ممتنع لما فيه من
مخالفة الإجماع وهو المطلوب.
فإن قيل: ما ذكرتموه من كون النهي لا يدل على الفساد لغة معارض بما يدل عليه وبيانه من جهة النص والإجماع والمعنى.
أما
من جهة النص فقوله صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو
رد " وفي رواية " أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد " والمردود ما ليس
بصحيح ولا مقبول ولا يخفى أن المنهي ليس بمأمور ولا هو من الدين فكان
مردوداً.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة استدلوا على فساد العقود بالنهي
فمن ذلك احتجاج ابن عمر على فساد نكاح المشركات بقوله تعالى: " ولا تنكحوا
المشركات " " البقرة 221 " ولم ينكر عليه منكر فكان إجماعاً ومنها احتجاج
الصحابة على فساد عقود الربا بقوله تعالى: " وذروا ما بقي من الربا " "
البقرة 278 " وبقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا
الورق بالورق " الحديث إلى آخره.
وأما المعنى فمن وجهين: الأول أنا
أجمعنا على حمل بعض المناهي على الفساد كالنهي عن بيع الجزء المجهول ولو لم
يكن ذلك مقتضى النهي ويلزم منه الفساد حيث وجد وإلا كان فيه نفي المدلول
مع تحقق دليله وهو ممتنع مخالف للأصل.
الثاني النهي مشارك للأمر في
الطلب والاقتضاء ومخالف له في طلب الترك والأمر دليل الصحة فليكن النهي
دليل الفساد المقابل للصحة ضرورة كون النهي مقابلاً للأمر وأنه يجب أن يكون
حكم أحد المتقابلين مقابلاً لحكم الآخر.
ثم ما ذكرتموه منقوض بالنهي عن
العبادة لعينها فإنا أجمعنا على أنها لا تصح ولو صرح الناهي بالصحة لكان
متناقضاً وإن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد لغة ولكن لا نسلم دلالته
على الفساد من جهة المعنى وما ذكرتموه من وجوب ترجيح مقصود النهي على مقصود
الصحة فغايته أنه يناسب نفي الصحة وليس يلزم من ذلك نفي الصحة إلا أن
يتبين له شاهد بالاعتبار ولو بينتم له شاهداً بالاعتبار كان الفساد لازماً
من القياس لا من نفس النهي ولا من معناه.
والجواب عن قوله صلى الله عليه
وسلم: " من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد " من ثلاثة أوجه: الأول: لا
نسلم أن الفعل المأتي به من حيث إنه سبب لترتب أحكامه عليه ليس من الدين
حتى يكون مروداً.
الثاني: أنه أراد به الفاعل وتقديره: من أدخل في ديننا
ما ليس منه فالفاعل رد أي مردود ومعنى كونه مردوداً أنه غير مثاب عليه
ونحن نقول به فإن قيل: عود الضمير إلى الفعل أولى إذ هو أقرب مذكور قلنا
إلا أنه يلزم منه المعارضة بينه وبين ما ذكرناه من الدليل ولا كذلك فيما
إذا عاد إلى نفس الفاعل فكان عوده إلى الفاعل أولى.

الثالث: أنه وإن
عاد إلى نفس الفعل المنهي عنه إلا أن معنى كونه رداً أنه مردود بمعنى أنه
غير مقبول وما لا يكون مقبولاً هو الذي لا يكون مثاباً عليه ولا يلزم من
كونه غير مثاب عليه أن لا يكون سبباً لترتب أحكامه الخاصة به عليه وهو عين
محل النزاع.
وعن الحديث الآخر ما ذكرناه من الوجه الثاني والثالث ثم وإن
سلمنا دلالتهما على الفساد فليس في ذلك ما يدل على أن الفساد من مقتضيات
النهي بل من دليل آخر وهو قوله فهو رد ونحن لا ننكر ذلك.
وعن الإجماع لا
نسلم صحة احتجاجهم بدلالة النهي لغة على الفساد بل إن صح ذلك فإنما يصح
بالنظر إلى دلالة الالتزام على ما قررنا ويجب الحمل عليه جمعاً بينه وبين
ما ذكرناه من الدليل وبه يخرج الجواب عن الوجه الأول من المعنى.
وعن
الثاني: من المعنى أن النهي وإن كان مقابلاً للأمر فلا نسلم أن الأمر مقتض
للصحة حتى يكون النهي مقتضياً للفساد وإن سلمنا اقتضاء الأمر للصحة وأن
النهي مقابل له فلا نسلم لزوم اختلاف حكميها لجواز اشتراك المتقابلات في
لازم واحد وإن سلم أنه يلزم من ذلك تقابل حكميهما فيلزم أن لا يكون النهي
مقتضياً للصحة أما أن يكون مقتضياً للفساد فلا وأما النقض بالنهي عن
العبادة فمندفع لأنه مهما كان النهي عن الفعل لعينه فلا يتصور أن يكون
عبادة مأموراً بها وما لم يكن عبادة فلا يتصور صحته عبادة وإن قيل بفساده
من جهة خروجه عن كونه سبباً لترتيب الأحكام الخاصة به عليه فهو محل النزاع.
وعن
الاعتراض الأخير أنا لا نقضي بالفساد لوجود مناسب الفساد ليفتقر إلى شاهد
بالاعتبار وإنما قضينا بالفساد لعدم المناسب المعتبر بما بيناه من استلزام
النهي لذلك.
المسألة الثانية اتفق أصحابنا على أن النهي عن الفعل لا يدل
على صحته ونقل أبو زيد عن محمد بن الحسن وأبي حنيفة أنهما قالا: يدل على
صحته والمختار مذهب أصحابنا لوجهين: الأول: أن النهي لو دل على الصحة فإما
أن يدل عليها بلفظه أو بمعناه إذ الأصل عدم ما سوى ذلك واللازم ممتنع.
وبيان
امتناع دلالته على الصحة بلفظه أن صحة الفعل لا معنى لها سوى ترتب أحكامه
الخاصة به عليه والنهي لغة لا يزيد على طلب ترك الفعل ولا إشعار له بغير
ذلك نفياً ولا إثباتاً.
وبيان امتناع دلالته على الصحة بمعناه ما بيناه
من أن النهي بمعناه يدل على الفساد في المسألة المتقدمة فلا يكون ذلك
مفيداً لنقيضه وهو الصحة.
الوجه الثاني: أنا أجمعنا على وجود النهي حيث
لا صحة كالنهي عن بيع الملاقيح والمضامين وبيع حبل الحبلة وكالنهي عن
الصلاة في أيام الحيض بقوله صلى الله عليه وسلم: " دعي الصلاة أيام إقرائك "
والنهي عن نكاح ما نكح الأباء بقوله تعالى: " ولا تنحكوا ما نكح آباؤكم من
النساء " " النساء 22 " ولو كان النهي مقتضياً للصحة لكان تخلف الصحة مع
وجود النهي على خلاف الدليل وهو خلاف الأصل وسواء كان لمعارض أو لا لمعارض.
فإن
قيل: إذا نهى الشرع عن صوم يوم النحر وعن الصلاة في الأوقات والأماكن
المكروهة وعن بيع الربا فالأصل تنزيل لفظ الصلاة والصوم والبيع على عرف
الشارع وعرف الشارع في ذلك إنما هو الفعل المعتبر في حكمه شرعاً فلو لم يكن
التصرف المنهي عنه كذلك لما كان هو التصرف الشرعي وهو ممتنع.
قلنا:
أولاً لا نسلم وجود عرف الشرع في هذه الأسماء لما سبق وإن سلمنا أن له
عرفاً لكن في طرف الأوامر أو النواهي؟ الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا
فالنهي إنما هو عن التصرف اللغوي دون الشرعي وإن سلمنا عرف الشارع في هذه
الأسماء ولكن لا نسلم أن عرفه فيها ما ذكروه بل ما هو بحال يصح ويمكن صحته
ويجب الحمل على ذلك جمعاً بين الأدلة ولا يلزم من كون التصرف ممكن الصحة
وقوع الصحة كيف وإن ما ذكروه منتقض بما ذكرناه من المناهي مع انتفاء الصحة
عن منهياتها.
المسألة الثالثة اتفق العقلاء على أن النهي عن الفعل يقتضي
الانتهاء عنه دائماً خلافاً لبعض الشاذين ودليل ذلك أنه لو قال السيد
لعبده: لا تفعل كذا وقدرنا نهيه مجرداً عن جميع القرائن فإن العبد لو فعل
ذلك في أي وقت قدر يعد مخالفاً لنهي سيده ومستحقاً للذم في عرف العقلاء
وأهل اللغة ولو لم يكن النهي مقتضياً للتكرار والدوام لما كان كذلك.

فإن
قيل: لا خفاء بأن النهي قد يرد ويراد به الدوام كما في النهي عن الربا
وشرب الخمر ونحوه وقد يرد ولا يراد به الدوام كما في نهي الحائض عن الصوم
والصلاة ونحوه والصورتان مشتركتان في طلب ترك الفعل لا غير ومفترقتان في
دوامه في إحدى الصورتين وعدم دوامه في الأخرى والأصل أن يكون اللفظ حقيقة
فيهما من غير اشتراك ولا تجوز والدال على القدر المشترك لا يكون دالاً على
ما اختص بكل واحد من الطرفين المختلفين وأيضاً فإنه لو كان النهي مقتضياً
للدوام لكان عدم الدوام في بعض صور النهي على خلاف الدليل وهو ممتنع.
قلنا:
النهي حيث ورد غير مراد به الدوام يجب أن يكون ذلك لقرينة نظراً إلى ما
ذكرناه من الدليل وما قيل: إن ذلك يلزم منه الاشتراك أو التجوز قلنا: وإن
لزم منه التجوز وهو على خلاف الدليل لافتقاره إلى القرينة الصارفة غير أن
جعله حقيقة في المرة الواحدة مما يوجب جعله مجازاً في الدوام والتكرار
لاختلاف حقيقيتهما وليس القول بجعله مجازاً في التكرار وحقيقة في المرة
الواحدة أولى من العكس بل جعله حقيقة في التكرار أولى لإمكان التجوز به عن
البعض لكونه مستلزماً له ولو جعلناه حقيقة في البعض لما أمكن التجوز به عن
التكرار لعدم استلزامه له وبه يندفع ما ذكروه من الوجه الثاني أيضاً.
الصنف
الثالث في معنى العام والخاص ويشتمل على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي
بيان معنى العام والخاص وصيغ العموم أما العام فقد قال أبو الحسين البصري:
العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له ووافقه على ذلك بعض أصحابنا وهو
فاسد من وجهين: الأول أنه عرف العام بالمستغرق وهما لفظان مترادفان وليس
المقصود هاهنا من التحديد شرح اسم العام حتى يكون الحد لفظياً بل شرح
المسمى إما بالحد الحقيقي أو الرسمي وما ذكره خارج عن القسمين.
الثاني: أنه غير مانع لأنه يدخل فيه قول القائل ضرب زيد عمراً فإنه لفظ مستغرق لجميع ما هو صالح له وليس بعام.
وقال
الغزالي إنه اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعداً وهو غير
جامع فإن لفظ المعدوم والمستحيل من الألفاظ العامة ولا دلالة له على شيئين
فصاعداً إذ المعدوم ليس بشيء عنده وعند أهل الحق من أصحابنا والمستحيل
بالإجماع وإن كان جامعاً إلا أنه غير مانع فإن قولنا عشرة ومائة ليس من
الألفاظ العامة وإن كان مع اتحاده دالاً على شيئين فصاعداً وهي الآحاد
الداخلة فيها والحق في ذلك أن يقال العام: هو اللفظ الواحد الدال على
مسميين فصاعداً مطلقاً معاً.
فقولنا اللفظ وإن كان كالجنس للعام والخاص
ففيه فائدة تقييد العموم بالألفاظ لكونه من العوارض الحقيقية لها دون غيرها
عند أصحابنا وجمهور الأئمة كما يأتي تعريفه وقولنا الواحد احتراز عن قولنا
ضرب زيد عمراً وقولنا الدال على مسميين ليندرج فيه الموجود والمعدوم وفيه
أيضاً احتراز عن الألفاظ المطلقة كقولنا رجل ودرهم وإن كانت صالحة لكل واحد
من آحاد الرجال وآحاد الدراهم فلا يتناولها مقابل على سبيل البدل وقولنا
فصاعداً احتراز عن لفظ اثنين وقولنا مطلقاً احتراز عن قولنا عشرة ومائة
ونحوه من الأعداد المقيدة ولا حاجة بنا إلى قولنا من جهة واحدة احتراز عن
الألفاظ المشتركة والمجازية.
أما عند من يعتقد كونها من الألفاظ العامة
كما يأتي تحقيقه فالحد لا يكون مع أخذ هذا القيد جامعاً وأما عند من لا
يقول بالتعميم فلا حاجة به إلى هذا القيد أيضاً إذ اللفظ المشترك غير دال
على مسمياته معاً بل على طريق البدل وكذلك الحكم في اللفظ الدال على جهة
الحقيقة والمجاز وفي الحد المذكور ما يدرأ النقض بذلك وهو قولنا الدال على
مسميين معاً.
وأما الخاص فقد قيل فيه: هو كل ما ليس بعام وهو غير مانع
لدخول الألفاظ المهملة فيه فإنها لعدم دلالتها لا توصف بعموم ولا بخصوص ثم
فيه تعريف الخاص بسلب العام عنه ولا يخلو إما أن يكون بينهما واسطة أو لا
فإن كان الأول فلا يلزم من سلب العام تعين الخاص وإن كان الثاني فليس تعريف
أحدهما بسلب حقيقة الآخر عنه أولى من العكس وأيضاً فإن اللفظ قد يكون
خاصاً كلفظ الإنسان فإنه خاص بالنسبة إلى لفظ الحيوان وما خرج عن كونه
عاماً بالنسبة إلى ما تحته.
وإن قيل إنه ليس بعام من جهة ما هو خاص ففيه تعريف الخاص بالخاص وهو ممتنع.
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السادس Empty رد: كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السادس {السبت 9 يوليو - 17:04}


والحق في ذلك أن يقال: الخاص قد يطلق باعتبارين: الأول وهو اللفظ الواحد
الذي لا يصلح مدلوله لاشتراك كثيرين فيه كأسماء الأعلام من زيد وعمرو
ونحوه الثاني ما خصوصيته بالنسبة إلى ما هو أعم منه وحده أنه اللفظ الذي
يقال على مدلوله وعلى غير مدلوله لفظ آخر من جهة واحدة كلفظ الإنسان فإنه
خاص ويقال على مدلوله وعلى غيره كالفرس والحمار لفظ الحيوان من جهة واحدة.
وإذا
تحقق معنى العام والخاص فاعلم أن اللفظ الدال ينقسم إلى عام لا أعم منه
كالمذكور فإنه يتناول الموجود والمعدوم والمعلوم والمجهول وإلى خاص لا أخص
منه كأسماء الأعلام وإلى ما هو عام بالنسبة وخاص بالنسبة كلفظ الحيوان فإنه
عام بالنسبة إلى ما تحته من الإنسان والفرس وخاص بالنسبة إلى ما فوقه كلفظ
الجوهر والجسم وأما صيغ العموم عند القائلين بها فهي: إما أن تكون عامة
فيمن يعقل وما لا يعقل جمعاً وأفراداً مثل أي في الجزاء والاستفهام وأسماء
الجموع المعرفة إذا لم يكن عهد سواء كان جمع سلامة أو جمع تكسير كالمسلمين
والرجال والمنكرة كرجال ومسلمين والأسماء المؤكدة لها مثل كل وجميع واسم
الجنس إذا دخله الألف واللام من غير عهد كالرجل والدرهم والنكرة المنفية
كقولك لا رجل في الدار وما في الدار من رجل والإضافة كقولك ضربت عبيدي
وأنفقت دراهمي.
وإما عامة فيمن يعقل دون غيره كمن في الجزاء والاستفهام تقول من عندك ومن جاءني أكرمته.
وإما
عامة فيما لا يعقل إما مطلقاً من غير اختصاص بجنس مثل ما في الجزاء كقوله:
على اليد ما أخذت حتى ترد والاستفهام تقول ماذا صنعت؟ وإما لا مطلقاً بل
مختصة ببعض أجناس ما لا يعقل مثل متى في الزمان جزاء واستفهاماً وأين وحيث
في المكان جزاء واستفهاماً تقول: متى جاء القوم ومتى جئتني أكرمتك وأين كنت
وأينما كنت أكرمتك.
وإذ أتينا على ما أردناه من بيان المقدمة فلنشرع الآن في المسائل وهي خمس وعشرون مسألة.
المسألة الأولى اتفق العلماء على أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة واختلفوا في عروضه حقيقة للمعاني: فنفاه الجمهور وأثبته الأقلون.
وقد
احتج المثبتون بقولهم: الإطلاق شائع ذائع في لسان أهل اللغة بقولهم: عم
الملك الناس بالعطاء والإنعام وعمهم المطر والخصب والخير وعمهم القحط وهذه
الأمور من المعاني لا من الألفاظ والأصل في الإطلاق الحقيقة.
أجاب
النافون بأن الإطلاق في مثل هذه المعاني مجاز لوجهين: الأول: أنه لو كان
حقيقة في المعاني لاطرد في كل معنى إذ هو لازم الحقيقة وهو غير مطرد ولهذا
فإنه لا يوصف شيء من الخاصة الواقعة في امتداد الإشارة إليها كزيد وعمرو
بكونه عاماً لا حقيقة ولا مجازاً.
الثاني: أن من لوازم العام أن يكون
متحداً ومع اتحاده متناولاً لأمور متعددة من جهة واحدة والعطاء والإنعام
الخاص بكل واحد من الناس غير الخاص بالآخر وكذلك المطر فإن كل جزء اختص منه
بجزء من الأرض لا وجود له بالنسبة إلى الجزء الآخر منها وكذلك الكلام في
الخصب والقحط فلم يوجد من ذلك ما هو مع اتحاده يتناول أشياء من جهة واحدة
فلم يكن عاماً حقيقة بخلاف اللفظ الواحد كلفظ الإنسان والفرس.
أجاب
المثبتون عن الأول بأن العموم وإن لم يكن مطرداً في كل معنى فهو غير مطرد
في كل لفظ فإن أسماء الأعلام كزيد وعمرو ونحوه لا يتصور عروض العموم لها لا
حقيقة ولا مجازاً فإن كان عدم اطراده في المعاني مما يبطل عروضه للمعاني
حقيقة فكذلك في الألفاظ وإن كان ذلك لا يمنع في الألفاظ فكذلك في المعاني
ضرورة عدم الفرق.
وعن الوجه الثاني أنه: وإن تعذر عروض العموم للمعاني
الجزئية الواقعة في امتداد الإشارة إليها حقيقة فليس في ذلك ما يدل على
امتناع عروضه للمعاني الكلية المتصورة في الأذهان كالمتصور من معنى الإنسان
المجرد عن الأمور الموجبة لتشخيصه وتعيينه فإنه مع اتحاده فمطابق لمعناه
وطبيعته لمعاني الجزئيات الداخلة تحته من زيد وعمرو من جهة واحدة كمطابقة
اللفظ الواحد العام لمدلولاته وإذا كان عروض العموم للفظ حقيقة إنما كان
لمطابقته مع اتحاده للمعاني الداخلة تحته من جهة واحدة فهذا المعنى بعينه
متحقق في المعاني الكلية بالنسبة إلى جزئياتها فكان العموم من عوارضها
حقيقة.
المسألة الثانية

اختلف العلماء في معنى العموم: هل له في
اللغة صيغة موضوعة له خاصة به تدل عليه أم لا؟ فذهبت المرجئة إلى أن العموم
لا صيغة له في لغة العرب وذهب الشافعي وجماهير المعتزلة وكثير من الفقهاء
إلى أن ما سبق ذكره من الصيغ حقيقة في العموم مجاز فيما عداه ومنهم من خالف
في الجميع المنكر والمعروف واسم الجنس إذا دخله الألف واللام كما يأتي
تعريفه وهو مذهب أبي هاشم وذهب أرباب الخصوص إلى أن هذه الصيغ حقيقة في
الخصوص ومجاز فيما عداه وقد نقل عن الأشعري قولان: أحدهما القول بالاشتراك
بين العموم والخصوص والآخر الوقف وهو عدم الحكم بشيء مما قيل في الحقيقة في
العموم أو الخصوص أو الاشتراك ووافقه على الوقف القاضي أبو بكر وعلى كل
واحد من القولين جماعة من الأصوليين ومن الواقفية من فصل بين الإخبار
والوعد والوعيد والأمر والنهي فقال بالوقف في الإخبار والوعد والوعيد دون
الأمر والنهي.
والمختار إنما هو صحة الاحتجاج بهذه الألفاظ في الخصوص
لكونه مراداً من اللفظ يقيناً سواء أريد به الكل أو البعض والوقف فيما زاد
على ذلك ومنهاج الكلام فعلى ما عرف في التوقف في الأمر بين الوجوب والندب
فعليك بنقله إلى هاهنا وإنما يتحقق هذا المقصود بذكر شبه المخالفين
والانفصال عنها.
ولنبدأ من ذلك بشبه أرباب العموم وهي نصية وإجماعية ومعنوية.
أما
النصية فمنها قول الله تعالى: " ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي
وإن وعدك الحق " " هود 45 " تمسكاً منه بقوله تعالى: " إنا منجوك وأهلك " "
العنكبوت 33 " وأقره الباري تعالى على ذلك وأجابه بما دل على أنه ليس من
أهله ولولا أن إضافة الأهل إلى نوح للعموم لما صح ذلك ومنها أنه لما نزل
قوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " " الأنبياء 98 " قال
ابن الزبعري: لأخصمن محمداً ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:
" وقد عبدت الملائكة والمسيح أفتراهم يدخلون النار " واستدل بعموم ما ولم
ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بل نزل قوله تعالى غير منكر لقوله
بل مخصصاً له بقوله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها
مبعدون " " الأنبياء 101 " ومنها قوله تعالى: " ولما جاءت رسلنا إبراهيم
بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال: إن
فيها لوطاً قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من
الغابرين " " العنكبوت 31 - 32 " ووجه الاحتجاج بذلك أن إبراهيم فهم من أهل
هذه القرية العموم حيث ذكر لوطاً والملائكة أقروه على ذلك وأجابوه بتخصيص
لوط وأهله بالاستثناء واستثناء امرأته من الناجين وذلك كله يدل على العموم.
وأما
الإجماعية فمنها احتجاج عمر على أبي بكر في قتال مانعي الزكاة بقوله: كيف
تقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم " ولم ينكر
عليه أحد من الصحابة احتجاجه بذلك بل عدل أبو بكر إلى التعليق بالاستثناء
وهو قوله صلى الله عليه وسلم " إلا بحقها " فدل على أن لفظ الجمع المعرف
للعموم ومنها احتجاج فاطمة على أبي بكر في توريثها من أبيها فدك والعوالي
بقوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " " النساء
11 " ولم ينكر عليها أحد من الصحابة بل عدل أبو بكر رضي الله عنه إلى ما
رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى دليل التخصيص وهو قوله عليه السلام: "
نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " ومنها احتجاج عثمان على علي
رضي الله عنه في جواز الجمع بين الأختين بقوله تعالى: " إلا على أزواجهم " "
المعارج 30 " واحتجاج علي بقوله تعالى: " وأن تجمعوا بين الأختين " "
النساء 23 " ولم ينكر على أحد منهما صحة ما احتج به وإنما يصح ذلك أن لو
كانت الأزواج المضافة والأختان على العموم ومنها أن عثمان لما سمع قول
الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل

قال
له: كذبت فإن نعيم أهل الجنة لا يزول ولم ينكر عليه منكر ولولا أن كل
للعموم لما كان كذلك ومنها احتجاج أبي بكر على الأنصار بقوله صلى الله عليه
وسلم " الأئمة من قريش " ووافقه الكل على صحة هذا الاحتجاج من غير نكير
ولو لم يكن لفظ الأئمة عاماً لما صح الاحتجاج ومنها إجماع الصحابة على
إجراء قوله تعالى " " الزانية والزاني " " النور 2 " " والسارق والسارقة " "
المائدة 38 " " ومن قتل مظلوماً " " الإسراء 33 " " وذروا ما بقي من الربا
" " البقرة 278 " " ولا تقتلوا أنفسكم " " النساء 29 " " ولا تقتلوا الصيد
وأنتم حرم " " المائدة 95 " وقوله صلى الله عليه وسلم " لا وصية لوارث " "
ولا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها ومن ألقى سلاحه فهو آمن " إلى غير
ذلك على العموم.
وأما الشبه المعنوية فمنها أن العموم من الأمور الظاهرة
الجلية والحاجة مشتدة إلى معرفته في التخاطب وذلك مما تحيل العادة مع
توالي الأعصار على أهل اللغة إهماله وعدم تواضعهم على لفظ يدل عليه مع أنه
لا يتقاصر في دعو الحاجة إلى معرفته عن معرفة الواحد والاثنين وسائر
الأعداد والخبر والاستخبار والترجي والتمني والنداء وغير ذلك من المعاني
التي وضعت لها الأسماء وربما وضعوا لكثير من المسميات ألفاظاً مترادفة مع
الاستغناء عنها ومنها ما يخص كل واحد واحد من الألفاظ المذكورة من قبل.
أما
من الاستفهامية كقول القائل: من جاءك؟ فلا يخلو إما أن تكون حقيقة في
الخصوص أو العموم أو مشتركة بينهما أو موقوفة أو ليست موضوعة لأحد الأمرين
لا حقيقة ولا تجوزاً والأول محال وإلا لما حسن أن يجاب بجملة العقلاء لكونه
جواباً عن غير ما سأل عنه ولا جائز أن تكون مشتركة أو موقوفة وإلا لما حسن
الجواب بشيء إلا بعد الاستفهام عن مراد المسائل وليس كذلك ولا جائز أن
يقال بالأخير للاتفاق على إبطاله فلم يبق إلا أن تكون حقيقة في العموم.
وأما
الشرطية وهي عندما إذا قال السيد لعبده من دخل داري فأكرمه فإنه إذا أكرم
كل داخل لا يحسن من السيد الاعتراض عليه ولو أخل بإكرام بعض الداخلين فإنه
يحسن لومه وتوبيخه في العرف وأيضاً فإنه يحسن الاستثناء من ذلك بقوله إلا
أن يكون فاسقاً والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لكان داخلاً فيه ولولا
أن من للعموم لما صح ذلك.
وعلى هذا يكون الكلام في جميع الحروف
المستعملة للشرط والاستفهام مثل: ما وأي ومتى وأين وكم وكيف ونحوه
ومؤكداتها مثل: كل وجميع فإنها للعموم وبيانه من وجوه: الأول: أنه إذا قال
القائل لعبده أكرم كل من رأيته فإنه يسقط عنه اللوم بإكرام كل واحد ولا
يسقط بتقدير إخلاله بإكرام البعض وأنه يحسن الاستثناء بقوله إلا الفساق
وذلك دليل العموم كما سبق.
الثاني: أنه لو قال رأيت كل من في البلد فإنه يعد كاذباً بتقدير عدم رؤيته لبعضهم.
الثالث:
أنه إذا قال القائل كل الناس علماء كذبه قول القائل كل الناس ليسوا علماء
ولو لم يكن اسم كل للعموم لما كان كل واحد مكذباً للآخر لجواز أن يتناول كل
واحد غير ما تناوله الآخر.
الرابع: أنا ندرك التفرقة بين كل وبعض ولو كان كل غير مفيد للعموم لما تحقق الفرق لكونه مساوياً في الإفادة للبعض.
الخامس:
أنه لو كان قول القائل كل الناس يفيد العموم ولكنه يعبر عنه تارة عن البعض
وتارة عن العموم حقيقة لكان قول القائل كلهم بياناً لأحد الأمرين فيما دخل
عليه لا تأكيداً له كما لو قال رأيت عيناً باصرة.
وأما الجمع المعرف
فهو للعموم لوجهين: الأول: أن كثرة الجمع المعرف تزيد على كثرة الجمع
المنكر ولهذا يقال: رجال من الرجال ولا عكس وعند ذلك فالجمع المعرف إما أن
يكون مفيداً للاستغراق أو للعدد غير مستغرق لا جائز أن يقال بالثاني لأن ما
من عدد يفرض من ذلك إلا ويصح نسبته إلى المعرفة بأنه منه والأول هو
المطلوب.
الثاني: أنه يصح تأكيده بما هو مفيد للاستغراق والتأكيد إنما
يفيد تقوية المؤكد لا أمراً جديداً فلو لم يكن المؤكد يفيد الاستغراق لما
كان المؤكد مفيداً له أو كان مفيداً لأمر جديد وهو ممتنع.

وأما
النكرة المنفية كقوله لا رجل في الدار أو في سياق النفي كقوله ما في الدار
من رجل فإن القائل لذلك يعد كاذباً بتقدير رؤيته لرجل ما وأنه يحسن
الاستثناء بقوله إلا زيد وأنه يصح تكذيبه بأنك رأيت رجلاً كما ورد قوله
تعالى: " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى " " الأنعام 91 " تكذيباً لمن
قال: " ما أنزل الله على بشر من شيء " " الأنعام 91 " وكل ذلك يدل على
كونها للعموم ولأنها لو لم تكن للعموم لما كان قولنا لا إله إلا الله
توحيداً لعدم دلالته على نفي كل إله سوى الله تعالى.
وأما الإضافة
كقوله: أعتقت عبيدي وإمائي فإنه يدل على العموم بدليل لزوم العتق في الكل
وأنه يجوز لمن سمعه أن يزوج من أي العبيد شاء وأن يتزوج من الإماء من شاء
دون رضى الورثة وكذلك لو قال العبيد الذين هم في يدي لفلان صح الإقرار
بالنسبة إلى الجميع ولولا أن ذلك للعموم لما كان كذلك.
وأما الجنس إذا
دخله الألف واللام ولا عهد فإنه للعموم لأربعة أوجه: الأول: أنه إذا قال
القائل رأيت إنساناً أفاد رؤية واحد معين فإذا دخلت عليه الألف واللام فلو
لم تكن الألف واللام مفيدة للاستغراق لكانت معطلة لتعذر حملها على تعريف
الجنس لكونه معلوماً دونها وهو ممتنع.
الثاني: أنه يصح نعته بالجمع
المعرف وقد ثبت أن الجمع المعرف للعموم فكذلك المنعوت به وذلك في قولهم
أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض وأنه يصح الاستثناء منه كما في
قوله تعالى: " إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا " " العصر 2 - 3 " وهو
دليل العموم.
الثالث: أن القائل قائلان: قائل يقول إن الألف واللام
الداخلة على الاسم المفرد والجمع تفيد العموم وقائل بالنفي مطلقاً وقد ثبت
أنها مفيدة للعموم في الجمع فالتفرقة تكون قولاً بتفصيل لم يقل به قائل.
الرابع:
أنه إذا كانت الألف واللام لتعريف المعهود عائدة إلى جميعه لعدم أولوية
عودها إلى البعض منه دون البعض فكذلك إذا كانت لتعريف الجنس.
وأما الجمع
المنكر فيدل على أنه للعموم ثلاثة أوجه: الأول: أن قول القائل: رجال يطلق
على كل جمع على الحقيقة حتى الجمع المستغرق فإذا حمل الاستغراق كان حملاً
له على جميع حقائقه فكان أولى.
الثاني: أنه لو أراد المتكلم بلفظ الجمع المنكر البعض لعينه وإلا كان مراده مبهماً فحيث لم يعينه دل على أنه للاستغراق.
الثالث: أنه يصح دخول الاستثناء عليه بكل واحد من آحاد الجنس فكان للعموم.
ومن
شبههم أن العرب فرقت بين تأكيد العموم والخصوص في أصل الوضع فقالوا في
الخصوص رأيت زيداً عينه نفسه ولا يقولون رأيت زيداً كلهم أجمعين وقالوا في
العموم رأيت الرجال كلهم أجمعين ولا يقولون رأيت الرجال عينه نفسه واختلاف
التأكيد يدل على اختلاف المؤكد لأن التأكيد مطابق للمؤكد.
ومنها أنهم
قالوا: وقع الإجماع على أن الباري تعالى قد كلفنا أحكاماً تعم جميع
المكلفين فلو لم يكن للعموم صيغة تفيده لما وقع التكليف به لعدم ما يدل
عليه أو كان التكليف به تكليفاً بما لا يطاق وهو محال.
وأما شبه أرباب الخصوص فأولها: أن تناول اللفظ للخصوص متيقن وتناوله للعموم محتمل فجعله حقيقة في المتيقن أولى.
وثانيها:
أن أكثر استعمال هذه الصيغ في الخصوص دون العموم ومنه يقال: جمع السلطان
التجار والصناع وكل صاحب حرفة وأنفقت دراهمي وصرمت نخيلي ونحوه فكان جعلها
حقيقة فيما استعمالها فيه أغلب أولى.
وثالثها: أنه إذا قال السيد لعبده
أكرم الرجال ومن دخل داري فأعطه درهماً ومتى جاءك فقير فتصدق عليه ومتى جاء
زيد فأكرمه وأين كان وحيث حل فإنه لا يحسن الاستفسار عن إرادة البعض ويحسن
الاستفسار عما وراء ذلك فكان جعل هذه الصيغ حقيقة فيما لا يحسن الاستفسار
عنه دون ما يحسن.
ورابعها: أنه لو كان قول القائل رأيت الرجال للعموم
لكان إذا أريد به الخصوص كان المخبر كاذباً كما لو قال رأيت عشرين ولم ير
غير عشرة بخلاف ما إذا كانت للخصوص وأريد به العموم.
وخامسها: لو كانت للعموم لكان تأكيدها غير مفيد لغير ما أفادته فكان عبثاً وكان الاستثناء منها نقضاً.

وسادسها:
ويخص من أنها لو كانت للعموم لما جمعت لأن الجمع لا بد وأن يفيد ما لا
يفيده المجموع وليس بعد العموم والاستغراق كثرة فلا يجمع وقد جمعت في باب
حكاية النكرات عند الاستفهام فإنه إذا قال القائل جاءني رجال قلت: منون؟ في
حالة الوقف دون الوصل ومنه قول الشاعر:
أتوا ناري فقلت: منون أنتم؟ ... فقالوا: الجن قلت: عموا ظلاماً
فقد قال سيبويه: أنه شاذ غير معمول به.
وأما
شبه أرباب الاشتراك فأولها أن هذه الألفاظ والصيغ قد تطلق للعموم تارة
وللخصوص تارة والأصل في الإطلاق الحقيقة وحقيقة الخصوص غير حقيقة العموم
فكان اللفظ المتحد الدال عليهما حقيقة مشتركا كلفظ العين والقرء ونحوه.
وثانيها:
أنه يحسن عند إطلاق هذه الصيغ الاستفهام من مطلقها أنك أردت البعض أو الكل
وحسن الاستفهام عن كل واحد منهما دليل الاشتراك فإنه لو كان حقيقة في أحد
الأمرين دون الآخر لما حسن الاستفهام عن جهة الحقيقة.
وأما شبه من قال
بالتعميم في الأوامر والنواهي دون الأخبار فهو أن الإجماع منعقد على
التكاليف بأوامر عامة لجميع المكلفين وبنواه عامة لهم فلو لم يكن الأمر
والنهي للعموم لما كان التكليف عاماً أو كان تكليفاً بما لا يطاق وهو محال
وهذا بخلاف الإخبار فإنه ليس بتكليف ولأن الخبر يجوز وروده بالمجهول ولا
بيان له أصلاً كقوله تعالى: " وكم أهلكنا قبلهم من قرن " " مريم 74 " "
وقروناً بين ذلك كثير " " الفرقان 38 " بخلاف الأمر فإنه وإن ورد بالمجمل
كقوله: " وآتوا حقه يوم حصاده " " الأنعام 141 " وقوله " أقيموا الصلاة
وآتوا الزكاة " " النور 56 " فإنه لا يخلو عن بيان متقدم أو متأخر أو
مقارن.
والجواب من جهة الإجمال عن جملة هذه الشبه ما أسلفناه في مسألة أن الأمر للوجوب أو الندب فعليك بنقله إلى هاهنا.
وأما
من جهة التفصيل أما ما ذكره أرباب العموم من الآيات أما قصة نوح فلا حجة
فيها وذلك لأن إضافة الأهل قد تطلق تارة للعموم وتارة للخصوص كما في قولهم
جمع السلطان أهل البلد وإن كان لم يجمع النساء والصبيان والمرضى وعند ذلك
فليس القول بحمل ذلك على الخصوص بقرينة أولى من القول بحمله على العموم
بقرينة ونحن لا ننكر صحة الحمل على العموم بالقرينة وإنما الخلاف في كونه
حقيقة أم لا.
وأما قصة ابن الزبعري فلا حجة فيها أيضاً لأن سؤاله وقع
فاسداً حيث ظن أن ما عامة فيمن يعقل وليس كذلك ولهذا قال له النبي صلى الله
عليه وسلم منكراً عليه ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ما لما لا يعقل وهي
وإن أطلقت على من يعقل كما في قوله تعالى " والسماء وما بناها والأرض وما
طحاها ونفس وما سواها " " الشمس 5 - 6 - 7 - 8 " فليس حقيقة بل مجازاً ويجب
القول بذلك جمعاً بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم " أما علمت أن ما لما
لا يعقل " ولما فيه من موافقة المنقول عن أهل اللغة في ذلك وأما قصة
إبراهيم فجوابها بما سبق في قصة نوح.
وأما الاحتجاج بقصة عمر مع أبي بكر
فلا حجة فيها أيضاً لأنه إنما فهم العصمة من العلة الموجبة لها في الأموال
والدماء وهي قول لا إله إلا الله فإنها مناسبة لذلك والحكم مرتب عليها في
كلام النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك إيماء إليها بالتعليل أما أن يكون
ذلك مأخوذاً من عموم دمائهم وأموالهم فلا ومعارضة أبي بكر إنما كانت لما
فهمه عمر من التعليل المقتضي للتعميم لا لغيره.
وأما قصة فاطمة مع أبي
بكر فالكلام في اعتقاد العموم في قوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم " "
النساء 11 " ما سبق في قصة نوح وهو الجواب أيضاً عن احتجاج عثمان على جواز
الجمع بين الأختين ثم قد أمكن أن يضاف ذلك إلى ما فهم من العلة الموجبة
لرفع الحرج وهي الزوجية لا إلى عموم اللفظ وكذلك احتجاج علي بقوله: " وأن
تجمعوا بين الأختين " " النساء 23 " لم يكن لعموم اللفظ بل بما أومى إليه
اللفظ من العلة المانعة من الجمع وهي الأخوة فإنها مناسبة لذلك دفعاً
للإضرار الواقع بين الأختين من المزاحمة على الزوج الواحد وإنما يصح
الاحتجاج باللفظ بمجرده إن لو كان للعموم وهو محل النزاع وإن صح الاحتجاج
في هذه الصور بنفس اللفظ فلا يمتنع أن يكون ذلك بما اقترن به من قرينة
العلة الرافعة للحرج في احتجاج عثمان والعلة المانعة من الجمع في احتجاج
علي رضي الله عنه.

وأما تكذيب عثمان للشاعر في قوله " وكل نعيم لا
محالة زائل " فإنما كان لما فهمه من قرينة حال الشاعر الدالة على قصد تعظيم
الرب ببقائه وبطلان كل ما سواه أما أن يكون ذلك مستفاداً من ذلك مستفاداً
من مجرد قوله كل فلا.
وأما استدلال أبي بكر بقوله صلى الله عليه وسلم: "
الأئمة من قريش " إنما فهم منه التعميم لما ظهر له من قصد النبي صلى الله
عليه وسلم لتعظيم قريش وميزتهم على غيرهم من القبائل فلو لم يكن ذلك يدل
على الخصوص فيهم والاستغراق لما حصلت هذه الفائدة.
وأما إجماع الصحابة
على إجراء ما ذكروه من الآيات والأخبار على التعميم في كل سارق وزان وغير
ذلك فإنما كان ذلك بناء على ما اقترن بها من العلل المومى إليها الموجبة
للتعميم وهي السرقة والزنا وقتل الظالم إلى غير ذلك أما أن يكون اعتقاد
تعميم تلك الأحكام مستنداً إلى عموم تلك الألفاظ فلا.
وأما ما ذكر من
الشبهة الأولى المعنوية فالجواب عنها: أنا وإن سلمنا أن العموم ظاهر وأن
الحاجة داعية إلى وضع لفظ يدل عليه ولكن لا نسلم إحالة الإخلال به على
الواضعين ولهذا قد أخلوا بالألفاظ الدالة على كثير من المعاني الظاهرة التي
تدعو الحاجة إلى تعريفها بوضع اللفظ عليها وذلك كالفعل الحالي ورائحة
المسك والعود وغير ذلك من أنواع الروائح والطعوم الخاصة بمحالها.
فإن
قيل: لا نسلم أنهم أخلوا بشيء من ذلك فإنهم يقولون: رائحة المسك ورائحة
العود وطعم العسل وطعم السكر إلى غير ذلك والإضافة من جملة الأوضاع المعرفة
ولهذا فإن الباري تعالى قد عرف نفسه بالإضافة في قوله " ذو العرش ذو الطول
" إلى غير ذلك.
قلنا: وعلى هذا لا نسلم أن العرب أخلت بما يعرف العموم
فإن الأسماء المجازية والمشتركة أيضاً من الأسماء المعرفة كما سيأتي بيانه
وما وقع فيه الخلاف من ألفاظ العموم فهي غير خارجة في نفس الأمر عن كونها
حقيقة في العموم دون غيره أو مجازاً فيه وحقيقة فيه وفي غيره فتكون مشتركة
وعلى كل تقدير فما خلا العموم في وضعهم عن معرف ولا خلاف في ذلك وإنما
الخلاف في جهة دلالته عليه هل هي حقيقة أو مجاز وخفاء جهة الدلالة والوقوف
في تعيينها لا يبطل أصل الوضع والتعريف.
وأما الشبهة الثانية وقولهم إن
من إذا كانت استفهامية لا تخلو عن الأقسام المذكورة في نفس الأمر مسلم ولكن
لم قالوا بوجوب تعيين بعضها مع عدم الدليل القاطع على ذلك قولهم: لو كانت
للخصوص لما حسن الجواب بكل العقلاء.
قلنا: ولو كانت للعموم لما حسن
الجواب بالبعض الخاص لما قرروه وليس أحد الأمرين أولى من الآخر كيف وإن
الجواب بالكل بتقدير أن يكون للخصوص يكون جواباً عن المسؤول عنه وزيادة
والجواب بالخصوص بتقدير أن يكون للعموم لا يكون جواباً عن المسؤول عنه
ولذلك كان الجواب بالكل مستحسناً ثم ما المانع أن تكون مشتركة.
قولهم:
لأنه لا يحسن الجواب إلا بعد الاستفهام قلنا: إذا كانت مشتركة وهي
استفهامية فالاستفهام إنما هو عن مدلولها ومدلولها عند الاستفهام إنما هو
أحد المدلولين لا بعينه فإذا أجاب بأحد الأمرين فقد أجاب عما سئل عنه فلا
حاجة بالمسؤول إلى الاستفهام.
قولهم في الشرطية إن المفهوم من قول السيد لعبده من دخل داري فأكرمه العموم لما قرروه.
قلنا:
ليس ذلك مفهوماً من نفس اللفظ بل من قرينة إكرام الزائر حتى أنا لو قدرنا
أنه لا قرينة أصلاً ولا تحقق لما سوى اللفظ المذكور فإنا لا نسلم فهم
العموم منه ولا جواز التعميم دون الاستفهام أو ظهور دليل يدل عليه بناء على
قولنا بالوقف ويدل على ذلك أنه يحسن الاستفهام من العبد ولو كان على أي
صفة قدر وحسن ذلك يدل على الترديد ولولا الترديد لما حسن الاستفهام.
قولهم
إنه يحسن الاستثناء منه مسلم ولكن لا نسلم أنه لا بد من دخول ما استثني
تحت المستثنى منه فإن الاستثناء من غير الجنس صحيح وإن لم يكن المستثنى
داخلاً تحت المستثنى منه ولا له عليه دلالة ويدل على صحة ذلك قوله تعالى: "
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن " " النساء 157 " والظن هاهنا غير داخل
تحت لفظ العلم وقول الشاعر:
وقفت فيها أصيلالا أسائلها ... عيت جواباً وما بالربع من أحد
إلا أواري لأياً ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
فإن قيل: نحن إنما ندعي ذلك فيما كان من الجنس لا في غيره.

قلنا:
وإذا كان من الجنس فالاستثناء يدل على وجوب دخول ما استثني تحت المستثنى
منه أو على صلاحيته للدخول تحته: الأول ممنوع والثاني مسلم ويدل على ذلك
صحة استثناء كل واحد من آحاد الجنس من جموع القلة وهي ما يتناول العشرة فما
دونها وهي: أفعل نحو أفلس وأفعال نحو أصنام وأفعلة نحو أرغفة وفعلة نحو
صبية مع أن آحاد الجنس غير واجبة الدخول تحت المستثنى منه والاستثناء من
جمع السلامة إذا لم تدخله الألف واللام فإنه من جموع القلة بنص سيبويه.
فإن
قيل: نحن إنما ندعي ذلك فيما يصح استثناء العدد الكثير والقليل منه
واستثناء العدد الكثير وهو ما زاد على العشرة لا يصح من جمع القلة.
قلنا:
فيلزم عليه استثناء ما لا يصح من جمع القلة قلنا فيلزم عليه استثناء ما
زاد على العشرة من الجمع المنكر فإنه يصح وإن كان كل واحد من المستثنيات
غير واجب الدخول تحت الجمع المنكر بل ممكن الدخول.
فإن قيل: لو صح
الاستثناء لإخراج ما يصح دخوله لا ما يجب دخوله لصح أن يقول القائل رأيت
رجلاً إلا زيداً لصلاحية دخوله تحت لفظ رجل وهو غير صحيح وأيضاً فإن
الاستثناء يدخل في الأعداد كقول القائل له علي عشرة دراهم إلا درهماً وهو
واجب الدخول وأيضاً فإن أهل اللغة قالوا بأن الاستثناء إخراج جزء من كل
والجزء واجب الدخول في كله.
قلنا: أما الأول فلأن قوله رأيت رجلاً لا
يكون إلا معيناً في نفس الأمر ضرورة وقوع الرؤية عليه وإن لم يكن معيناً
عند المستمع والمعين لا يصح الاستثناء منه إجماعاً.
وأما الثاني فبعيد
عن التحقيق من حيث إن وجوب دخول الواحد في العشرة لا يمنع من صحة دخوله
فيها بمعنى أنه لا يمتنع دخوله فيها وما ليس بممتنع أعم من الواجب وعند ذلك
فلا يلزم أن يكون الاستثناء لوجوب الدخول بل لصحة الدخول وهو الجواب عن
الوجه الثالث أيضاً كيف وإن استثناء واجب الدخول لا يمنع من استثناء ممكن
الدخول وعلى ما قررناه في إبطال الاستدلال على عموم من استفهامية وجزائية
يكون بعينه جواباً عما ذكروه من الوجه الأول في عموم كل وجميع.
قولهم في
الوجه الثاني إنه لو قال: رأيت كل من في البلد يعد كاذباً بتقدير عدم رؤية
بعضهم لا نسلم لزوم ذلك مطلقاً فإنه لو قال القائل جمع السلطان كل التجار
وكل الصناع وجاء كل العسكر فإنه لا يعد في العرف كاذباً بتقدير تخلف آحاد
الناس والعرف بذلك شائع ذائع وليس حوالة ذلك على القرينة أولى من حوالة
صورة التكذيب على القرينة.
قولهم في الوجه الثالث إن قول القائل: كل
الناس علماء يكذبه قول الآخر كل الناس ليس علماء ليس كذلك مطلقاً فإنه لو
فسر كلامه بالغالب عنده كان تفسيره صحيحاً مقبولاً ومهما أمكن حمل كلامه
على ذلك فلا تكاذب نعم إنما يصح التكاذب بتقدير ظهور الدليل الدال على
إرادة الكل بحيث لا يشذ منهم واحد وذلك مما لا ينكر وإنما النزاع في اقتضاء
اللفظ لذلك بمطلقه.
قولهم في الوجه الرابع: إنا ندرك التفرقة بين بعض
وكل مسلم لكن من جهة أن بعضاً لا يصلح للاستغراق وكلا صالح له ولما دونه
ولا يلزم من ذلك ظهور كل في العموم.
قولهم في الوجه الخامس: إنه يلزم أن
يكون قوله كلهم بياناً لا تأكيداً قلنا: وإن بين به مراده من لفظه لا
يخرجه ذلك عن كونه تأكيداً لما أراده من العموم فإن لفظه صالح له.
قولهم
في الجمع المعرف إن كثرة الجمع المعرف تزيد على كثرة المنكر قلنا: متى إذا
أريد به الاستغراق أو إذا لم يرد به ذلك الأول مسلم والثاني ممنوع ولا
يلزم من كونه صالحاً للاستغراق أن يكون متعيناً له بل غايته أنه إذا قال
رأيت رجالاً من الرجال كان ذلك قرينة صارفة للجمع المعرف إلى الاستغراق.
قولهم
إنه يصح تأكيده بما يفيد الاستغراق قلنا: ذلك يستدعي كون المؤكد صالحاً
للعموم والدلالة على العموم عند التأكيد ولا يدل على كونه بوضعه للعموم.
قولهم
في تعميم النكرة المنفية: لو قال لا رجل في الدار فإنه يعد كاذباً بتقدير
رؤيته لرجل ما قلنا إنما عد كاذباً بذلك لأن قوله لا رجل في الدار إنما
ينفي حقيقة رجل في الدار فإذا وجد رجل في الدار كان كاذباً ولا يلزم من ذلك
العموم في طرف النفي إذ هو نفي ما ليس بعام.
قولهم إنه يحسن الاستثناء سبق جوابه قولهم: إنه يصح تكذيبه بأنك رأيت رجلاً قلنا: سبق جوابه أيضاً.
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السادس Empty رد: كتاب الاحكام فى اصول القراءن الجزء السادس {السبت 9 يوليو - 17:05}


قولهم: لو لم يكن للعموم لما كان قول القائل: لا إله إلا الله توحيداً
قلنا: وإن لم يكن حقيقة في العموم فلا يمتنع إرادة العموم بها وعلى هذا
فمهما لم يرد المتكلم بها العموم فلا يكون قوله توحيداً وإن أراد ذلك كان
توحيداً لكن لا يكون العموم من مقتضيات اللفظ بل من قرينة حال المتكلم
الدالة على إرادة التوحيد وعلى هذا يكون الحكم أيضاً فيما إذا قال: ما في
الدار من رجل وقول أهل الأدب إنها للعموم يمكن حمله على عموم الصلاحية دون
الوجوب.
قولهم في الإضافة إذا قال: أعتقت عبيدي وإمائي ثم مات جاز لمن
سمعه أن يزوج من شاء من العبيد دون رضى الورثة قلنا: ولو قال أنفقت دراهمي
وصرمت نخيلي وضرب عبيدي فإنه لا يعد كاذباً بتقدير عدم إنفاق بعض دراهمه
وعدم صرم بعض نخيله وعدم ضرب بعض عبيده ولو كان ذلك للعموم لكان كاذباً
وليس صرف ذلك إلى القرينة أولى من صرف ما ذكروه إلى القرينة وهو الجواب عن
قوله العبيد الذين في يدي لفلان وما ذكروه في الدلالة على تعميم اسم الجنس
إذا دخله الألف واللام.
أما الوجه الأول منه قولهم إنه لا بد للألف
واللام من فائدة قلنا: يمكن أن تكون فائدتها تعريف المعهود وإن لم يكن ثم
معهود فالتردد بين العموم والخصوص على السوية بخلاف ما قبل دخولها.
وأما
الوجه الثاني: فقد قيل إنه من النقل الشاذ الذي لا اعتماد عليه وهو مع ذلك
مجاز ولهذا فإنه لم يطرد في كل اسم فرد فإنه لا يقال جاءني الرجل العلماء
والرجل المسلمون ثم وإن أمكن نعته بالجمع فإنما كان كذلك لأن المراد من
قولهم إنما هو جنس الدينار وجنس الدرهم لا جملة الدنانير وجملة الدراهم
وحيث كان الهلاك بجنس الدينار والدرهم لأمر متحقق في كل واحد من ذلك الجنس
جاز نعته بالجمع نظراً إلى اقتضاء المعنى للجمع لا نظراً إلى اقتضاء لفظ
الدينار.
وأما الاستثناء في الآية فهو مجاز ولهذا لم يطرد فإنه لا يحسن
أن يقال: رأيت الرجل إلا العلماء وعلى هذا النحو ثم لو كان ذلك صالحاً
للاستغراق لأمكن مع اتحاده أن يؤكد بكل وجميع كما في من في قولك من دخل
داري أكرمته وهو غير جائز فإنه لا يحسن أن يقال: جاءني الرجل كلهم أجمعون
ويمكن أن يقال: إن مثل هذا قياس في اللغة وهو غير جائز.
وأما الوجه الثالث: فدفعه بمنع الحصر فيما قيل بل القائل ثلاثة والثالث هو القائل بالتفصيل.
وأما
الوجه الرابع: فحاصله يرجع إلى القياس في اللغة وقد أبطلناه وأما ما ذكروه
في تعميم الجمع المنكر أما الوجه الأول منه فعنه جوابان: الأول: أن قول
القائل رجال حقيقة في كل عدد على خصوصه ممنوع وإن أراد به أنه حقيقة في
الجمع المشترك بين جميع الأعداد فمسلم ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون دالاً
على ما هو الأخص لا حقيقة ولا مجازاً وعلى هذا فقد بطل القول بإنا إذا
حملناه على الاستغراق كان حملاً له على جميع حقائقه ضرورة اتحاد مدلوله.
الثاني
وإن سلمنا أنه حقيقة في كل عدد بخصوصه غير أنه ليس حمله على الاستغراق مع
احتمال عدم الإرادة أولى من حمله على الأقل مع كونه مستيقناً.
وأما
الوجه الثاني فإنما يلزم المتكلم به بيان إرادة البعض عيناً أن لو كان
اللفظ موضوعا له وأما إذا كان موضوعاً لبعض مطلق فلا وأما الاستثناء فقد
عرف جوابه كيف وإن أهل اللغة اتفقوا على تسميته نكرة ولو كان للاستغراق
لكان معروفاً كله فلا يكون منكراً مختلطاً بغيره.
قولهم: إن العرب فرقت
بين تأكيد الواحد والعموم بما ذكروه إنما يصح إن لو كان كلهم أجمعون
تأكيداً للعموم وليس كذلك بل هو تأكيد للفظ الذي يجوز أن يراد به العموم
وغير العموم.
قولهم: لو لم يكن للعموم صيغة تدل عليه لكان التكليف
بالأمور العامة تكليفاً بما لا يطاق قلنا: إنما يكون كذلك إن لو لم يكن ثم
ما يدل على التعميم وليس كذلك ولا يلزم من عدم صيغة تدل عليه بوضعها دون
قرينة التكليف بالمحال مع وجود صيغة تدل عليه مع القرينة.
وأما شبه
أرباب الخصوص: قولهم في الشبهة الأولى أن الخصوص متيقن قلنا: ذلك لا يدل
على كونه مجازاً في الزيادة فإن الثلاثة مستيقنة في العشرة ولا يدل على
كونه لفظ العشرة

حقيقة في الثلاثة مجازاً في الزيادة فإن قيل إلا أن
الزيادة في العشرة على الثلاثة أيضاً مستيقنة قيل ليس كذلك وإلا لما صح
استثناؤها بقوله علي عشرة إلا ثلاثة كيف وإن ما ذكروه من الترجيح معارض بما
يدل على كونه حقيقة في العموم وذلك لأنه من المحتمل أن يكون مراد المتكلم
العموم فلو حمل لفظه على الخصوص لم يحصل مراده وبتقدير أن يكون مراده
الخصوص لا يمتنع حصول مقصوده منه بتقدير الحمل على العموم بل المقصود حاصل
وزيادة وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.
قولهم في الشبهة الثانية: إن
أكثر استعمال هذه الصيغ في الخصوص لا نسلم ذلك وإن سلم إلا أن ذلك لا يدل
على كون هذه الصيغ حقيقة في الخصوص ومجازاً في العموم ويدل عليه أن استعمال
لفظ الغائط والعذرة غالب في الخارج المستقذر من الإنسان وإن كان مجازاً
فيه وحقيقة في الموضع المطمئن من الأرض وفناء الدار وكذلك لفظ الشجاع حقيقة
في الحية المخصوصة وإن كان غالب الاستعمال في الرجل المقدام.
قولهم في
الثالثة إنه لا يحسن الاستفهام عن إرادة البعض بخلاف العموم قلنا: حسن
الاستفهام عن إرادة العموم لا يخرج الصيغة عن كونها حقيقة في العموم ودليل
ذلك أنه لو قال القائل: دخل السلطان البلد ولقيت بحراً وناطحت جبلاً ورأيت
حماراً فإنه يحسن استفهامه هل أردت بالسلطان نفسه أو عسكره؟ وهل أردت
بالجبل الجبل الحقيقي أو الرجل العظيم وهل أردت بالحمار الحمار الحقيقي أو
البليد؟ وأردت بالبحر البحر الحقيقي أو رجلاً كريماً؟ وعدم حسن الاستفهام
عن البعض لتيقنه لا يوجب كون الصيغة حقيقية فيه بدليل الثلاثة من العشرة.
قولهم
في الرابعة: لو كان قوله رأيت الرجال للعموم لكان كاذباً بتقدير إرادة
الخصوص قلنا: إنما يكون كاذباً مع كون لفظه حقيقة في العموم إن لو لم يكن
لفظه صالحاً لإرادة البعض تجوزا ولهذا فإنه لو قال: رأيت أسداً وحماراً أو
بحراً وكان قد رأى إنساناً شجاعاً وإنساناً بليداً وإنساناً كريماً لم يكن
كاذباً وإن كان لفظه حقيقة في غيره وهذا بخلاف ما إذا قال: رأيت عشرة رجال
ولم يكن رأى غير خمسة فإن لفظ العشرة مما لا يصلح للخمسة لا حقيقة ولا
تجوزاً.
قولهم في الخامسة: إنه لو كانت هذه الصيغ للعموم لكان تأكيدها
عبثاً ليس كذلك فإنه يكون أبعد عن مجازفة المتكلم وأبعد عن قبول التخصيص
وأغلب على الظن كيف وإنه يلزم على ما ذكروه صحة تأكيد الخاص بقولهم جاء زيد
عينه نفسه وتأكيد عقود الأعداد كقوله تعالى: " تلك عشرة كاملة " " البقرة
196 " وما هو الجواب هاهنا عن التأكيد يكون جواباً في العموم.
قولهم:
وكان الاستثناء منها نقضاً يلزم عليه الاستثناء من الأعداد المقيدة كقوله
له: علي عشرة إلا خمسة فإنه صحيح بالاتفاق مع أن لفظ العشرة صريح فيها
وجوابه في الأعداد جوابه في العموم.
قولهم في السادسة: إن من لو كانت
للعموم لما جمعت قلنا: قد قيل إن ذلك ليس بجمع وإنما هو إلحاق زيادة الواو
وإشباع الحركة وبتقدير أن يكون جمعاً فقد قال سيبويه: إنه لا عمل عليه لما
فيه من جمع من حالة الوصل وإنما تجمع عندما إذا حكى بها الجمع المنكر حالة
الوقف وإذا ذاك فلا تكون العموم.
وأما شبه أرباب الاشتراك: قولهم في
الشبهة الأولى إن هذه الصيغ قد تطلق تارة للعموم وتارة للخصوص والأصل في
الإطلاق الحقيقة قلنا: الأصل في الإطلاق الحقيقة بصفة الاشتراك أو لا بصفة
الاشتراك الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأنه إذا كان مشتركاً افتقر في فهم
كل واحد من مدلولاته إلى قرينة تعينه ضرورة تساوي نسبة اللفظ فيه إلى الكل
والقرينة قد تظهر وقد تخفى وذلك يفضي إلى الإخلال بمقصود الوضع وهو
التفاهم وهذا بخلاف ما إذا كان اللفظ حقيقة في مدلول واحد فإنه يحمل عليه
عند إطلاقه من غير افتقار إلى قرينة مخلة بالفهم.

قولهم في الثانية:
إنه يحسن الاستفهام قلنا: ذلك لا يدل على كون اللفظ مشتركاً فإنه يحسن مع
كون اللفظ متحد المدلول كما لو قال القائل: خاصمت السلطان فيقال أخاصمته؟
مع كون اللفظ حقيقة في شيء ومجازاً في غيره كما سبق تمثيله من قول القائل
صدمت جبلاً ورأيت بحراً ولقيت حماراً فإنه يحسن استفهامه أنك أردت بذلك
المدلولات الحقيقية أو المجازية من الرجل العظيم والكريم والبليد وذلك
لفائدة زيادة الأمن من المجازفة في الكلام وزيادة غلبة الظن وتأكده بما
اللفظ ظاهر فيه وللمبالغة في دفع المعارض كما سبق في التأكيد.
وأما طريق
الرد على من فرق من الواقفية بين الأوامر والأخبار فهو أن كل ما يذكرونه
في الدلالة على وجوب التوقف في الأخبار فهو بعينه مطرد في الأوامر.
قولهم
أولا إن الأمر تكليف قلنا: ومن الأخبار العامة ما كلفنا بمعرفتها كقوله
تعالى: " الله خالق كل شيء " " الزمر 62 " " وهو بكل شيء عليم " " الحديد 3
" وكذلك عمومات الوعد والوعيد فإنا مكلفون بمعرفتها لأن بذلك يتحقق
الانزجار عن المعاصي والانقياد إلى الطاعات ومع التساوي في التكليف فلا
معنى للفرق وإن سلمنا أن ذلك يفضي إلى التكليف بما لا يطاق فهو غير ممتنع
عندنا على ما سبق تقريره.
قولهم ثانياً: إن من الأخبار ما يرد بالمجهول
من غير بيان بخلاف الأمر قلنا: لا نسلم امتناع ورود الأمر بالمجهول كيف وإن
هذا الفرق وإن دل على عدم الحاجة فيما كان من الأخبار لم نكلف بمعرفتها
إلى وضع اللفظ العام بازائه فغير مطرد فيما كلفنا بمعرفته كما سبق وهم غير
قائلين بالتفصيل بين خبر وخبر.
المسألة الثالثة اختلف العلماء في أقل
الجمع: هل هو اثنان أو ثلاثة؟ وليس محل الخلاف ما هو المفهوم من لفظ الجمع
لغة وهو ضم شيء إلى شيء فإن ذلك في الاثنين والثلاثة وما زاد من غير خلاف
وإنما محل النزاع في اللفظ المسمى بالجمع في اللغة فنقول مذهب عمر وزيد بن
ثابت ومالك وداود والقاضي أبي بكر والأستاذ أبي إسحاق وجماعة من أصحاب
الشافعي رضي الله عنه كالغزالي وغيره أنه اثنان ومذهب ابن عباس والشافعي
وأبي حنيفة ومشايخ المعتزلة وجماعة من أصحاب الشافعي أنه ثلاثة وذهب إمام
الحرمين إلى أنه لا يمتنع رد لفظ الجمع إلى الواحد.
احتج الأولون بحجج من جهة الكتاب والسنة وإشعار اللغة والإطلاق.
أما
من جهة الكتاب فقوله تعالى: " إنا معكم مستمعون " " الشعراء 15 " وأراد به
موسى وهارون وقوله تعالى: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " " الحجرات 9
" وقوله تعالى: " وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على
داود ففزع منهم قالوا: لا تخف خصمان بغي بعضنا على بعض " " ص 21 " وقوله
تعالى: " فإن كان له أخوة فلأمه السدس " " النساء 11 " وأراد به الأخوين
وقوله تعالى: " عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً " " يوسف 83 " وأراد به يوسف
وأخاه وقوله تعالى: " وكنا لحكمهم شاهدين " " الأنبياء 78 " وأراد به داود
وسليمان وقوله تعالى: " هذان خصمان اختصموا " " الحج 19 " وقوله تعالى: "
إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " " التحريم 4 " .
وأما من جهة السنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الاثنان فما فوقهما جماعة " .
وأما
من جهة الإشعار اللغوي فهو أن اسم الجماعة مشتق من الاجتماع وهو ضم شيء
إلى شيء وهو متحقق في الاثنين حسب تحققه في الثلاثة وما زاد عليها ولذلك
تتصرف العرب وتقول: جمعت بين زيد وعمرو فاجتمعا وهما مجتمعان كما يقال ذلك
في الثلاثة فكان إطلاق اسم الجماعة على الاثنين حقيقة.
وأما من جهة
الإطلاق فمن وجهين: الأول: أن الاثنين يخبران عن أنفسهما بلفظ الجمع
فيقولان: قمنا وقعدنا وأكلنا وشربنا كما تقول الثلاثة.
الثاني: أنه يصح
أن يقول القائل إذا أقبل عليه رجلان في مخافة: أقبل الرجال وذلك كله يدل
على أن لفظ الجمع حقيقة في الاثنين إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة قال
النافون لذلك:

أما قوله تعالى: " إنا معكم مستمعون " " الشعراء 15 "
فالمراد به موسى وهارون وفرعون وقومه وهم جمع: وقوله تعالى: " وإن طائفتان
من المؤمنين اقتتلوا " " الحجرات 9 " فكل طائفة جمع وأما قصة داود فلا حجة
فيها فإن الخصم قد يطلق على الواحد وعلى الجماعة فيقال هذا خصمي وهؤلاء
خصمي وليس في الآية ما يدل على أن كل واحد من الخصمين كان واحداً وقوله
تعالى: " فإن كان له أخوة فلأمه السدس " " النساء 11 " فالمراد به الثلاثة
وحيث ورثناها السدس مع الأخوين لم يكن ذلك مخالفاً لمنطوق اللفظ بل لمفهومه
بدليل آخر وهو انعقاد الإجماع على ذلك والمراد من قوله تعالى: " عسى الله
أن يأتيني بهم جميعاً " " يوسف 83 " يوسف وأخوه وشمعون الذي قال: لن أبرح
الأرض حتى يأذن لي أبي والمراد من قوله تعالى: وكنا لحكمهم شاهدين " "
الأنبياء 78 " داود وسليمان والمحكوم له وهم جماعة وقوله تعالى: " هذان
خصمان اختصموا " " الحج 19 " فالجواب عنه ما تقدم في قصة داود وقوله تعالى:
" إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " " التحريم 4 " فهو أشبه مما يحتج
به هاهنا ويمكن أن يجاب عنه بأن الخطاب وإن كان مع اثنين وأنه ليس لكل واحد
منهما في الحقيقة سوى قلب واحد غير أنه قد يطلق اسم القلوب على ما يوجد
للقلب الواحد من الترددات المختلفة إلى الجهات المختلفة مجازاً ومن ذلك
قولهم لمن مال قلبه إلى جهتين أو تردد بينهما: إنه ذو قلبين وعند ذلك فيجب
حمل قوله قلوبكما على جهة لفظ الجمع على الاثنين حقيقة ويمكن أن يقال إنما
قال قلوبكما تجوزاً حذراً من استثقال الجمع بين تثنيتين وقوله صلى الله
عليه وسلم الاثنان فما فوقهما جماعة إنما أراد به أن حكمهما حكم الجماعة في
انعقاد صلاة الجماعة بهما وإدراك فضيلة الجماعة ويجب الحمل عليه لأن
الغالب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفنا الأحكام الشرعية لا الأمور
اللغوية لكونها معلومة للمخاطب ولما سيأتي من الأدلة.
وأما ما ذكروه من
الإشعار اللغوي فجوابه أن يقال: وإن كان ما منه اشتقاق لفظ الجماعة في
الثلاثة موجوداً في الاثنين فلا يلزم إطلاق اسم الجماعة عليهما إذ هو من
باب القياس في اللغة وقد أبطلناه ولهذا فإن المعنى الذي صح منه اشتقاق اسم
القارورة للزجاجة المخصوصة وهو قرار المائع فيها متحقق في الجرة والكوز ولا
يصح تسميتهما قارورة كيف وإن ذلك لا يطرد في اسم الرجال والمؤمنين وغيرهما
من أسماء الجموع إذ هو غير مشتق من الجمع والخلاف واقع في إطلاقه على
الاثنين حقيقة.
وجواب الإطلاق الأول أن ذلك لا يدل على أن الاثنين جمع
بدليل صحة قول الواحد لذلك مع أنه ليس بجماعة ولهذا فإنه لا يصح إخبار
غيرهما عنهما بذلك فلا يقال عن الاثنين قاموا وقعدوا بل قاما وقعدا.
وجواب
الإطلاق الثاني أن ذلك أيضاً لا يدل على أن الاثنين جماعة بدليل صحة قوله:
جاء الرجال عند ما إذا أقبل عليه الواحد في حال المخافة والواحد ليس بجمع
بالاتفاق وأما حجج القائلين بأن أقل الجمع ثلاثة فست.
الأولى: ما روي عن
ابن عباس أنه قال لعثمان حين رد الأم من الثلث إلى السدس بأخوين قال الله
تعالى: " فإن كان له أخوة فلأمه السدس " " النساء 11 " وليس الأخوان أخوة
في لسان قومك فقال عثمان: لا أستطيع أن أنقض أمراً كان قبلي وتوارثه الناس
ولولا أن ذلك مقتضى اللغة لما احتج به ابن عباس على عثمان وأقره عليه عثمان
وهما من أهل اللغة وفصحاء العرب.
الثانية: أن أهل اللغة فرقوا بين رجلين ورجال فإطلاق اسم الرجال على الرجلين رفع لهذا الفرق.
الثالثة:
أنه لو صح إطلاق الرجال على الرجلين لصح نعتهما بما ينعت به الرجال ولا
يصح أن يقال: جاءني رجلان ثلاثة كما يقال: جاءني رجال ثلاثة ولصح أن يقال:
رأيت اثنين رجالاً كما يقال رأيت ثلاثة رجال.
الرابعة: أن أهل اللغة فرقوا بين ضمير التثنية والجمع فقالوا في الاثنين: فعلاً وفي الجميع فعلوا.
الخامسة: أنه يصح أن يقال: ما رأيت رجالاً بل رجلين ولو كان اسم الرجال للرجلين حقيقة لما صح نفيه.
السادسة: أنه لو قال: لفلان علي دراهم فإنه لا يقبل تفسيره بأقل من ثلاثة وكذلك في النذر والوصية.
وهذه
الحجج ضعيفة: أما الحجة الأولى فهي معارضة بما روي عن زيد بن ثابت أنه
قال: الأخوان أخوة وروي عنه أنه قال: أقل الجمع اثنان وليس العمل بأحدهما
أولى من الآخر.

وأما الثانية: فهو أن التفرقة بين الرجلين والرجال أن اسم الرجلين جمع خاص بالاثنين والرجال جمع عام للاثنين وما زاد عليهما.
وأما
الثالثة: فهو أن الثلاثة نعت للجمع العام وهو الرجال ولا يلزم أن يكون
نعتاً للجمع الخاص وهو رجلان وبه يعرف الجواب عن امتناع قولهم: رأيت اثنين
رجالاً من حيث إن رجالاً اسم للجمع العام وهو الثلاثة وما زاد عليها فلا
يلزم أن يكون اسماً لما دون ذلك وبه يخرج الجواب عن الفرق بين ضمير التثنية
وضمير الجمع: فإن ضمير فعلا لجمع خاص وهو الاثنان وفعلوا ضمير ما زاد على
ذلك.
وأما الخامسة: فإنه إذا رأى رجلين لا نسلم أنه يصح قوله: ما رأيت
رجالاً إلا أن يريد به ما زاد على الاثنين وأما الأحكام فممنوعة على أصل من
يرى أن أقل الجمع اثنين.
وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فعلى الناظر بالاجتهاد في الترجيح وإلا فالوقف لازم.
المسألة الرابعة اختلف القائلون بالعموم في العام بعد التخصيص هل هو حقيقة في الباقي أو مجاز على ثمانية مذاهب.
فمنهم من قال إنه يبقى حقيقة مطلقاً على أي وجه كان المخصص وهو مذهب الحنابلة وكثير من أصحابنا.
ومنهم
من قال إنه يبقى مجازاً كيف ما كان المخصص وهو مذهب كثير من أصحابنا وإليه
ميل الغزالي وكثير من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة كعيسى بن أبان وغيره.
ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: إن كان الباقي جمعاً فهو حقيقة وإلا فلا وهو اختيار أبي بكر الرازي.
ومنهم من قال إن خص بدليل لفظي فهو حقيقة كيف ما كان المخصص متصلاً أو منفصلاً وإلا فهو مجاز.
ومنهم
من قال إن خص بدليل متصل من شرط كقوله: من دخل داري وأكرمني أكرمته أو
استثناء كقوله: من دخل داري أكرمته سوى بني تميم فحقيقة وإلا فمجاز وهو
اختيار القاضي أبي بكر.
وقال القاضي عبد الجبار من المعتزلة إن كان
مخصصه شرطاً كما سبق تمثيله أو تقييداً بصفة كقوله: من دخل داري عالماً
أكرمته فهو حقيقة وإلا فهو مجاز حتى في الاستثناء.
وقال أبو الحسين
البصري: إن كانت القرينة المخصصة مستقلة بنفسها وسواء كانت عقلية كالدلالة
الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب في العبادات أو لفظية كقول
المتكلم بالعموم: أردت به البعض الفلاني فهو مجاز وإلا فهو حقيقة وسواء
كانت القرينة شرطاً أو صفة مقيدة أو استثناء ومن الناس من قال إنه حقيقة في
تناول اللفظ له مجاز في الاقتصار عليه.
والمختار تفريعاً على القول
بالعموم أنه يكون مجازاً في المستبقى واحداً كان أو جماعة وسواء كان المخصص
متصلاً أو منفصلاً عقلياً أو لفظياً باستثناء أو شرط أو تقييد بصفة.
ودليل ذلك أنه إذا كان اللفظ حقيقة في الاستغرق والهيئة الاجتماعية من كل الجنس فصرفه إلى البعض بالقرينة كيف ما كانت القرينة.
إما
أن يكون لدلالة اللفظ عليه حقيقة أو مجازاً لا جائز أن يقال بكونه حقيقة
فيه وإلا كان اللفظ مشتركاً بينه وبين الاستغراق ضرورة اختلاف معنييهما
بالبعضية والكلية وعدم اشتراكهما في معنى جامع يكون مدلولاً للفظ والمشترك
لا يكون ظاهراً بلفظه في بعض مدلولاته دون البعض وهو خلاف مذهب القائلين
بالعموم فلم يبق إلا أن يكون مجازاً.

فإن قيل: ما المانع أن يكون
حقيقة فيهما باعتبار اشتراكهما في الجنسية على وجه لا يكون مشتركاً ولا
مجازاً في أحدهما والذي يدل على كونه حقيقة في البعض المستبقي أن اللفظ كان
متناولاً له حقيقة قبل التخصيص فخروج غيره عن عموم اللفظ لا يكون مؤثراً
فيه سلمنا أنه ليس حقيقة في الجنس المشترك ولكن ما المانع من كون اللفظ
بمطلقه حقيقة في الاستغراق ومع القرينة يكون حقيقة في البعض سلمنا امتناع
بقائه حقيقة فيه ولكن متى إذا كان دليل التخصيص لفظياً متصلاً أو منفصلاً
الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأنه إذا كان الدليل المخصص لفظياً متصلاً
وسواء كان شرطاً أو تقييداً بصفة أو استثناء فإن الكلام يصير بسبب الزيادة
المتصلة به كلاماً آخر مستقلاً موضوعاً للبعض فإنه إذا قال من دخل داري
أكرمته كان له معنى فإذا زاد شرطاً أو صفة أو استثناء كقوله من دخل داري
وأكرمني أكرمته ومن دخل داري عالماً أكرمته أو من دخل داري أكرمته إلا بني
تميم تغير ذلك المعنى الأول وصار معنى الشرط الداخل المكرم ومعنى الصفة
الداخل العالم ومعنى الاستثناء الداخل ممن ليس من بني تميم فكان اللفظ
والمعنى مختلفاً وكل واحد من اللفظين حقيقة في معناه وصار هذا بمنزلة قول
القائل: مسلم فإنه له معنى فإذا زاد فيه الألف واللام فقال: المسلم أو زاد
فيه الواو والنون فقال: مسلمون فإن اللفظ بإلحاق الزيادة فيه صار دالاً على
معنى زائد بجهة الحقيقة لا بجهة التجوز فكذلك فيما نحن فيه.
وعلى هذا
نقول: إن قوله تعالى: " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً " " العنكبوت 14
" إن مجموع هذا القول دل على المستبقي بجهة الحقيقة وهو قائم مقام قوله:
فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً.
هذا كله فيما إذا كان الاستثناء
والمستثنى في كلام متكلم واحد وأما لو قال الله تعالى: " اقتلوا المشركين "
" التوبة 5 " فقال الرسول عقيبه: إلا زيداً فهذا مما اختلف فيه أنه
كالمتصل الذي لا يجعل لفظ المشركين مجازاً أم لا فمن قال بكونه متصلاً نظر
إلى أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون في تشريع الأحكام يغير الوحي
فكان في البيان كما لو كان ذلك بكلام الله تعالى ومنهم من أجراه مجرى
الدليل المنفصل دون المتصل ولهذا فإنه لو قال الباري تعالى: زيد فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: " قام " لا يكون خبراً صادراً من الله تعالى لأن نظم
الكلام إنما يكون من متكلم واحد ولعل هذا هو الأظهر.
سلمنا أنه يكون
مجازاً في جميع الصور إلا في الشرط وذلك لأنه إذا قال أكرم بني تميم إن
دخلوا داري فإن الشرط لم يخرج شيئاً مما تناوله اللفظ من أعيان الأشخاص بل
هو باق بحاله وإنما أخرج حالاً من الأحوال وهي حالة عدم دخول الدار بخلاف
الاستثناء وغيره فلا يكون مجازاً.
سلمنا التجوز مطلقاً لكن متى إذا كان المستبقي جمعاً غير منحصر أو إذا لم يكن؟ الأول ممنوع والثاني مسلم.
والجواب
عن السؤال الأول أن البعض وإن كان من جنس الكل إلا أن اللفظ العام حقيقة
في استغراق الجنس من حيث هو كذلك لا في الجنس مطلقاً ولهذا تعذر حمله على
البعض وإن كان من الجنس إلا بقرينة باتفاق القائلين بالعموم ومعنى
الاستغراق غير متحقق في المستبقى فلا يكون حقيقة فيه.
قولهم إن اللفظ
كان متناولاً له حقيقة قبل التخصيص قلنا بانفراده أو مع المخصص الخارج؟
الأول ممنوع والثاني مسلم وعلى هذا فلا يلزم مع التخصيص أن يبقى حقيقة فيه
كيف ويلزم عليه الواحد فإن اللفظ كان متناولاً له حقيقة قبل التخصيص وبعد
التخصيص فهو مجاز فيه بالاتفاق.
وعن السؤال الثاني جوابان: الأول أن ذلك
مما يرفع جميع المجازات عن الكلام فإنه ما من مجاز إلا ويمكن أن يقال أنه
مع القرينة حقيقة في مدلوله وبدون القرينة حقيقة في غيره.
الثاني: أنه
لو كان كما ذكروه لكان استعمال ذلك اللفظ في الاستغراق مع اقترانه بالقرينة
المخصصة له بالبعض استعمالاً له في غير الحقيقة وصارفاً له عن الحقيقة وهو
خلاف إجماع القائلين بالعموم.

وعن السؤال الثالث: أن دلالة اللفظ
عند اقترانه بالدليل اللفظي المتصل لا يخرج عن حقيقته وصورته بما اقترن به
وإلا كان كل مقترن بشيء خارجاً عن حقيقته ويلزم من ذلك خروج الجسم عن
حقيقته من حيث هو جسم عند اتصافه بالسواد والبياض وكذلك في كل موصوف بصفة
وهو محال وإذا كان باقياً على حقيقته فمعناه لا يكون مختلفاً بل غايته أن
يصير مصروفاً عن معناه بالقرينة المقترنة به وهو التجوز بعينه وعلى هذا
فألفاظ الآية المذكورة في قصة نوح الألف للألف والخمسون للخمسين وإلا للرفع
ومعرفة ما بقي حاصلة بالحساب وخرج عن هذا زيادة الألف واللام في المسلم
والواو والنون في المسلمين فإنها لا معنى لها في نفسها دون المزيد عليه ولا
سبيل إلى إهمالها فلذلك كانت موجبة للتعيين في الوضع.
فإن قيل: لو قال:
لا إله فإنه بمطلقه يكون كفراً ولو اقترن به الاستثناء وهو قوله: إلا الله
كان إيماناً وكذلك لو قال لزوجته: أنت طالق كان بمطلقه تنجيزاً للطلاق ولو
اقترن به الشرط وهو قوله: إن دخلت الدار كان تعليقاً مع أن الاستثناء
والشرط له معنى ولولا تغير الدلالة والوضع لما كان كذلك.
قلنا: لا نسلم
التغير في الوضع بل غايته صرف اللفظ عما اقتضاه في جهة إطلاقه إلى غيره
بالقرينة كيف وإنه لو صح ما ذكروه لم يكن ذلك من باب تخصيص العموم الذي نحن
فيه. وعن السؤال الرابع من وجهين: الأول: أنه مهما أخرج الشرط بعض الأحوال
فيلزم منه إخراج بعض الأعيان وذلك أنه إذا قال: أكرم بني تميم إن دخلوا
داري فقد أخرج من لم يدخل الدار الثاني أنه: وإن لم يخرج شيئاً من الأعيان
ولكن لا نسلم انحصار التجوز في إخراج الأعيان وما المانع من القول بالتجوز
في إخراج بعض الأحوال مع عموم اللفظ بالنسبة إليها؟ وعن السؤال الخامس: لا
نسلم أن المستبقي وإن كان جمعاً غير منحصر أنه يكون عاماً إذا لم يكن
مستغرقاً للجنس وإن سلمنا عمومه غير أنه بعض مدلول اللفظ العام المخصص وإذا
كان بعضاً منه لزم أن يكون صرف اللفظ إليه مجازاً لما ذكرناه من الدليل.
المسألة
الخامسة اختلف القائلون بالعموم في صحة الاحتجاج به بعد التخصيص في ما بقي
فأثبته الفقهاء مطلقاً وأنكره عيسى بن أبان وأبو ثور مطلقاً ومنهم من فصل:
ثم اختلف القائلون بالتفصيل: فقال البلخي إن خص بدليل متصل كالشرط والصفة
والاستثناء فهو حجة وإن خص بدليل منفصل فليس بحجة.
وقال أبو عبد الله
البصري: إن كان المخصص قد منع من تعلق الحكم بالاسم العام وأوجب تعلقه بشرط
لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به كما في قوله تعالى: " والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما " " المائدة 38 " فإن قيام الدلالة على اعتبار
الحرز ومقدار المسروق مانع من تعلق الحكم بعموم اسم السارق وموجب لتعلقه
بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ وإن كان المخصص لم يمنع من تعلق الحكم الاسم
العام فهو حجة كقوله تعالى: " فاقتلوا المشركين " " التوبة 5 " فإن قيام
الدلالة على المنع من قتل الذمي غير مانع من تعلق الحكم باسم المشركين.
وقال
القاضي عبد الجبار: إن كان العام المخصوص لو تركنا وظاهره من دون التخصيص
كنا نمتثل ما أريد منا ونضم إليه ما لم يرد منا صح الاحتجاج به وذلك كقوله
تعالى: " فاقتلوا المشركين " " التوبة 5 " المخصص بأهل الذمة وإن كان العام
بحيث لو تركنا وظاهره من غير تخصيص لم يمكنا امتثال ما أريد منا دون بيان
فلا يكون حجة وذلك كقوله تعالى: " أقيموا الصلاة " " البقرة 110 " فإنا لو
تركنا والآية لم يمكنا امتثال ما أريد منا من الصلاة الشرعية قبل تخصيصه
بالحائض فكذلك بعد التخصيص.
ومن الناس من قال إنه يكون حجة في أقل الجمع
ولا يكون حجة فيما زاد على ذلك واتفق الكل على أن العام لو خص تخصيصاً
مجملاً فإنه لا يبقى حجة كما لو قال: اقتلوا المشركين إلا بعضهم والمختار
صحة الاحتجاج به فيما وراء صور التخصيص.
وقد احتج بعض الأصحاب على ذلك
بأن قال: اللفظ العام كان متناولاً للكل بالإجماع فكونه حجة في كل قسم من
أقسام ذلك الكل إما أن يكون موقوفاً على كونه حجة في القسم الآخر أو على
كونه حجة في الكل أو لا يتوقف على واحد منهما:

فإن كان الأول فهو
باطل لأنه إن كان كونه حجة في كل واحد من الأقسام مشروطاً بكونه حجة في
القسم الآخر فهو دور ممتنع وإن كان كونه حجة في بعض الأقسام مشروطاً بكونه
حجة في قسم آخر ولا عكس فكونه حجة في ذلك القسم الآخر يبقى بدون كونه حجة
في القسم المشروط وليس بعض الأقسام بذلك أولى من البعض مع تساوي نسبة اللفظ
العام إلى كل أقسامه.
وإن كان الثاني فهو أيضاً باطل لأن كونه حجة في
الكل يتوقف على كونه حجة في كل واحد من تلك الأقسام لأن الكل لا يتحقق إلا
عند تحقق جميع الأفراد وذلك أيضاً دور ممتنع وإذا بطل القسمان ثبت كونه حجة
في كل واحد من الأقسام من غير توقف على كونه حجة في القسم الآخر ولا على
الكل ثبت كونه حجة في البعض المستبقى وإن لم يبق حجة في غيره وهذه الحجة مع
طولها ضعيفة جداً إذ لقائل أن يقول ما المانع من صحة توقف الاحتجاج به في
كل واحد من الأقسام على الآخر أو على الكل مع التعاكس.
قوله إنه دور
ممتنع متى يكون ذلك ممتنعاً إذا كان التوقف توقف معية أو توقف تقدم؟ الأول
ممنوع والثاني مسلم ولكن لم قلت بأن التوقف هاهنا بجهة التقدم ولا يخفى أن
بيان ذلك مما لا سبيل إليه والمعتمد في ذلك الإجماع والمعقول.
أما
الإجماع فهو أن فاطمة رضي الله عنها احتجت على أبي بكر في ميراثها من أبيها
بعموم قوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم " " النساء 11 " الآية مع أنه
مخصص بالكافر والقاتل ولم ينكر أحد من الصحابة صحة احتجاجها مع ظهوره
وشهرته بل عدل أبو بكر في حرمانها إلى الاحتجاج بقوله صلى الله عليه وسلم: "
نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " وأيضاً فإن علياً عليه
السلام احتج على جواز الجمع بين الأختين في الملك بقوله تعالى: " أو ما
ملكت أيمانكم " " النساء 3 " مع كونه مخصصاً بالأخوات والبنات وكان ذلك
مشهوراً فيما بين الصحابة ولم يوجد له نكير فكان إجماعاً وأيضاً فإن ابن
عباس احتج على تحريم نكاح المرضعة بعموم قوله تعالى: " وأمهاتكم اللاتي
أرضعنكم " " النساء 23 " وقال قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير مع أنه
مخصوص لكون الرضاع المحرم متوقفاً على شروط وقيود فليس كل مرضعة محرمة ولم
ينكر عليه منكر صحة احتجاجه به فكان إجماعاً.
وأما المعقول فهو أن العام
قبل التخصيص حجة في كل واحد من أقسامه إجماعاً والأصل بقاء ما كان قبل
التخصيص بعده إلا أن يوجد له معارض والأصل عدمه فإن قيل: لو كان حجة في
الباقي بعد التخصيص لم يخل إما أن يدل عليه حقيقة أو تجوزاً لا جائز أن
يقال بالأول إذ يلزم منه أن يكون اللفظ مشتركاً بينه وبين الاستغراق ضرورة
اتفاق القائلين بالعموم على كونه حقيقة في الاستغراق والاشتراك على خلاف
الأصل وإن كان مجازاً فيمتنع الاحتجاج به لثلاثة أوجه.
الأول: أن المجاز
فيما وراء صورة التخصيص ويمتنع الحمل على الكل لما فيه من تكثير جهات
التجوز وليس حمله على أحد المجازين أولى من الآخر لعدم دلالة اللفظ عليه
فكان مجملاً.
الثاني: أن المجاز ليس بظاهر وما لا يكون ظاهراً لا يكون حجة.
الثالث:
أن العام بعد التخصيص ينزل منزلة قوله: اقتلوا المشركين إلا بعضهم والمشبه
به ليس بحجة فكذلك المشبه سلمنا أنه حجة لكن في أقل الجمع أو فيما عدا
صورة التخصيص؟ الأول مسلم والثاني ممنوع وذلك لأن الحمل على أقل الجمع
متيقن بخلاف الحمل على ما زاد عليه فإنه مشكوك فيه فكان حجة في المتيقن
والجواب عن السؤال الأول من جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن
اللفظ العام حجة في كل واحد من أقسامه قبل التخصيص إجماعاً وهو إما أن يكون
دالاً عليه حقيقة أو مجازاً ضرورة وكل ما ذكروه من الإشكالات تكون لازمة
ومع ذلك فهو حجة والعذر يكون متحداً.
وأما التفصيل فنقول: ما المانع أن
يكون مشتركاً؟ قولهم: الاشتراك على خلاف الأصل قلنا إنما يكون خلاف الأصل
أن لو لم يكن من قبيل الأسماء العامة وليس كذلك على ما يأتي عن قرب إن شاء
الله تعالى وإن سلمنا أنه ليس مشتركاً فما المانع من التجوز؟

قولهم:
إنه مجمل لتردده بين جهات التجوز قلنا: يجب اعتقاد ظهوره في بعضها نفياً
للإجمال عن الكلام إذ هو خلاف الأصل ثم متى يكون كذلك إذا كان حمله على ما
عدا صورة التخصيص مشهوراً أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم وبيان
اشتهاره ما نقل عن الصحابة من علمهم بالعمومات المخصصة فيما وراء صورة
التخصيص نقلاً شائعاً ذائعاً سلمنا أنه غير مشهور فيه ولكن يجب حمل اللفظ
بعد التخصيص عليه لأنه أولى من حمله على أقل الجمع لثلاثة أوجه الأول:
لكونه معيناً وكون أقل الجمع مبهماً في الجنس.
والثاني: إن حمله عليه
بتقدير أن يكون المراد من اللفظ أقل الجمع غير مخل بمراد المتكلم وحمله على
أقل الجميع بتقدير أن يكون المراد من اللفظ ما عدا صورة التخصيص مخل بمراد
المتكلم فكان الحمل عليه أولى.
والثالث: إنه أقرب إلى الحقيقة فكان أولى.
قولهم:
المجاز ليس بظاهر إن أرادوا به أنه ليس حقيقة فمسلم ولكن لا يدل ذلك على
أنه لا يكون حجة إلا أن تكون الحجة منحصرة في الحقيقة وهو محل النزاع وإن
أرادوا به أنه لا يكون حجة فهو محل النزاع.
قولهم: إنه ينزل منزلة قوله
اقتلوا المشركين إلا بعضهم ليس كذلك فإن الخارج عن العموم إذا كان مجهولاً
تعذر العمل بالعموم مطلقاً لأن العمل به في أي واحد قدر لا يؤمن معه أن
يكون هو المستثنى بخلاف ما إذا كان الخارج معيناً وعن السؤال الثاني بما
ذكرناه من الترجيحات السابقة.
المسألة السادسة إذا ورد خطاب جواباً
لسؤال سائل داع إلى الجواب فالجواب إما أن يكون غير مستقل بنفسه دون السؤال
أو هو مستقل: فإن كان الأول فهو تابع للسؤال في عمومه وخصوصه: أما في
عمومه فمن غير خلاف وذلك كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن
بيع الرطب التمر فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم قال: فلا إذا.
وأما
في خصوصه فكما لو سأله سائل وقال: توضأت بماء البحر فقال له: يجزئك فهذا
وأمثاله وإن ترك فيه الاستفصال مع تعارض الأحوال لا يدل على التعميم في حق
الغير كما قاله الشافعي رضي الله عنه إذ اللفظ لا عموم له ولعل الحكم على
ذلك الشخص كان لمعنى يختص به كتخصيص أبي بردة في الأضحية بجذعة من المعز
وقوله له تجزئك ولا تجزئ أحداً بعدك وتخصيصه خزيمة بقبول شهادته وحده
وبتقدير تعميم المعنى الجالب للحكم فالحكم في حق غيره إن ثبت فبالعلة
المتعدية لا بالنص.
وأما إن كان الجواب مستقلاً بنفسه دون السؤال فإما أن يكون مساوياً للسؤال أو أعم منه أو أخص.
فإن
كان مساوياً له فالحكم في عمومه وخصوصه عند كون السؤال عاماً أو خاصاً
فكما لو لم يكن مستقلاً ومثاله عند كون السؤال خاصاً سؤال الأعرابي عن وطئه
في نهار رمضان وقوله صلى الله عليه وسلم: " اعتق رقبة " ومثاله عند كون
السؤال عاماً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل فقيل له: إنا
نركب البحر على أرماث لنا وليس معنا من الماء العذب ما يكفينا أفنتوضأ بما
البحر فقال صلى الله عليه وسلم: " البحر هو الطهور ماؤه " .
وأما إن كان
الجواب أخص من السؤال فالجواب يكون خاصاً ولا يجوز تعديه الحكم من محل
التنصيص إلى غيره إلا بدليل خارج عن اللفظ إذ اللفظ لا عموم له كما سبق
تقريره بل وفي هذه الصورة الحكم بالخصوص أولى من القول به فيما إذا كان
السؤال خاصاً والجواب مساوياً له حيث إنه هاهنا عدل عن مطابقة سؤال السائل
بالجواب مع دعو الحاجة إليه بخلاف تلك الصورة فإنه طابق بجوابه سؤال
السائل.
وأما إن كان الجواب أعم من السؤال فإما أن يكون أعم من السؤال
في ذلك الحكم لا غير كسؤاله صلى الله عليه وسلم عن ماء بئر بضاعة فقال: "
خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه " أو أنه أعم
من السؤال في غير ذلك الحكم كسؤاله صلى الله عليه وسلم عن التوضؤ بماء
البحر فقال: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " فإن كان من القسم الثاني فلا
خلاف في عمومه في حل ميتته لأنه عام مبتدأ به لا في معرض الجواب إذ هو غير
مسؤول عنه وكل عام ورد مبتدأ بطريق الاستقلال فلا خلاف في عمومه عند
القائلين بالعموم وأما إن كان من القسم الأول فمذهب أبي حنيفة والجم الغفير
أنه عام وأنه لا يسقط عمومه بالسبب الذي ورد عليه والمنقول عن الشافعي رضي
الله عنه ومالك والمزني وأبي ثور خلافه.

وعلى هذا يكون الحكم فيما
إذا ورد العام على سبب خاص لا تعلق له بالسؤال كما روي عنه صلى الله عليه
وسلم أنه مر بشاة ميمونة وهي ميتة فقال صلى الله عليه وسلم: " أيما إهاب
دبغ فقد طهر " .
والمختار إنما هو القول بالتعميم إلى أن يدل الدليل على
التخصيص ودليله أنه لو عري اللفظ الوارد عن السبب كان عاماً وليس ذلك إلا
لاقتضائه للعموم بلفظه لا لعدم السبب فإن عدم السبب لا مدخل له في الدلالات
اللفظية ودلالة العموم لفظية وإذا كانت دلالته على العموم مستفادة من لفظه
فاللفظ وارد مع وجوب السبب حسب وروده مع عدم السبب فكان مقتضياً للعموم
ووجود السبب لو كان لكان مانعاً من اقتضائه للعموم وهو ممتنع لثلاثة أوجه:
الأول: أن الأصل عدم المانعية فمدعيها يحتاج إلى البيان.
الثاني: أنه لو
كان مانعاً من الاقتضاء للعموم لكان تصريح الشارع بوجوب العمل بعمومه مع
وجود السبب إما إثبات حكم العموم مع انتفاء العموم أو إبطال الدليل المخصص
وهو خلاف الأصل.
الثالث: أن أكثر العمومات وردت على أسباب خاصة فآية
السرقة نزلت في سرقة المجن أو رداء صفوان وآية الظهار نزلت في حق سلمة بن
صخر وآية اللعان نزلت في حق هلال بن أمية إلى غير ذلك والصحابة عمموا أحكام
هذه الآيات من غير نكير فدل على أن السبب غير مسقط للعموم ولو كان مسقطاً
للعموم لكان إجماع الأمة على التعميم خلاف الدليل ولم يقل أحد بذلك.
فإن
قيل: ما ذكرتموه معارض بما يدل على اختصاص العموم بالسبب وبيانه من ستة
أوجه: الأول: أنه لو لم يكن المراد بيان حكم السبب لا غير بل بيان القاعدة
العامة لما أخر البيان إلى حالة وقوع تلك الواقعة واللازم ممتنع وإذا كان
المقصود إنما هو بيان حكم السبب الخاص وجب الاقتصار عليه.
الثاني: أنه لو كان الخطاب عاماً لكان جواباً وابتداء وقصد الجواب والابتداء متنافيان.
الثالث:
أنه لو كان الخطاب مع السبب عاماً لجاز إخراج السبب عن العموم بالاجتهاد
كما في غيره من الصور الداخلة تحت العموم ضرورة تساوي نسبة العموم إلى الكل
وهو خلاف الإجماع.
الرابع: أنه لو لم يكن للسبب مدخل في التأثير لما نقله الراوي لعدم فائدته.
الخامس:
أنه لو قال القائل لغيره: تغدى عندي فقال: لا والله لا تغديت فإنه وإن كان
جواباً عاماً فمقصور على سببه حتى إنه لا يحنث بغدائه عند غيره ولولا أن
السبب يقتضي التخصيص لما كان كذلك.
السادس: أنه إذا كان السؤال خاصاً
فلو كان الجواب عاما لم يكن مطابقاً للسؤال والأصل المطابقة لكون الزيادة
عديمة التأثير فيما تعلق به غرض السائل.
والجواب عن المعارضة الأولى
أنها مبنية على وجوب رعاية الغرض والحكمة في أفعال الله وهو غير مسلم وإن
كان ذلك مسلماً لكن لا مانع من اختصاص إظهار الحكم عند وجود السبب لحكمة
استأثر الرب تعالى بالعلم بها دون غيره ثم يلزم مما ذكروه أن تكون العمومات
الواردة على الأسباب الخاصة مما ذكرناه مختصة بأسبابها وهو خلاف الإجماع.
وعن
الثانية: أنه إن أريد بالتنافي بين الجواب والابتداء امتناع ذكره لحكم
السبب مع غيره فهو محل النزاع وإن أرادوا غير ذلك فلا بد من تصويره.
وعن
الثالثة: أنه لا خلاف في كون الخطاب ورد بياناً لحكم السبب فكان مقطوعاً
به فيه فلذلك امتنع تخصيصه بالاجتهاد بخلاف غيره فإن تناوله له ظني وهو
ظاهر فيه فلذلك جاز إخراجه عن عموم اللفظ بالاجتهاد وما نقل عن أبي حنيفة
من أنه كان يجوز إخراج السبب عن عموم اللفظ بالاجتهاد حتى أنه أخرج الأمة
المستفرشة عن عموم قوله عليه السلام: " الولد للفراش " ولم يلحق ولدها
بمولاها مع وروده في وليد زمعة وقد قال عبد الله بن زمعة: هو أخي وابن
وليدة أبي ولد على فراشه فلعله فعل ذلك لعدم اطلاعه على ورود الخبر على ذلك
السبب.
وعن الرابعة: أن فائدة نقل السبب امتناع إخراجه عن العموم بطريق الاجتهاد ومعرفة أسباب التنزيل.
وعن
الخامسة: أن الموجب للتخصيص بالسبب في الصورة المستشهد بها عادة أهل العرف
بعضهم مع بعض ولا كذلك في الأسباب الخاصة بالنسبة إلى خطاب الشارع
بالأحكام الشرعية.

وعن السادسة: إن أرادوا بمطابقة الجواب للسؤال
الكشف عنه وبيان حكمه فقد وجد وإن أرادوا بذلك أن لا يكون بياناً لغير ما
سئل عنه فلا نسلم أنه الأصل ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
سئل عن التوضؤ بماء البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته تعرض لحل الميتة
ولم يكن مسؤولاً عنها ولو كان الاقتصار على نفس المسؤول عنه هو الأصل لكان
بيان النبي صلى الله عليه وسلم لحل الميتة على خلاف الأصل وهو بعيد.
المسألة
السابعة اختلف العلماء في اللفظ الواحد من متكلم واحد في وقت واحد إذا كان
مشتركاً بين معنيين كالقرء للطهر والحيض أو حقيقة في أحدهما مجازاً في
الآخر كالنكاح المطلق على العقد والوطيء ولم تكن الفائدة فيهما واحدة هل
يجوز أن يراد به كلا المعنيين معاً أو لا؟ فذهب الشافعي والقاضي أبو بكر
وجماعة من أصحابنا وجماعة من مشايخ المعتزلة كالجبائي والقاضي عبد الجبار
وغيرهم إلى جوازه بشرط أن لا يمتنع الجمع بينهما وذلك كاستعمال صيغة افعل
في الأمر بالشيء والتهديد عليه غير أن مذهب الشافعي أنه مهما تجرد ذلك
اللفظ عن القرينة الصارفة له إلى أحد معنييه وجب حمله على المعنيين ولا
كذلك عند من جوز ذلك من مشايخ المعتزلة.
وذهب جماعة من أصحابنا وجماعة من المعتزلة كأبي هاشم وأبي عبد الله البصري وغيرهما إلى المنع من جواز ذلك مطلقاً.
وفصل أبو الحسين البصري والغزالي فقالا: يجوز ذلك بالنظر إلى الإرادة دون اللغة.
وعلى
هذا النحو من الخلاف في اللفظ المفرد اختلفوا في جمعه كالأقراء التي هي
جمع قرء هل يجوز حمله على الحيض والإطهار معاً وسواء كان إثباتاً كما لو
قيل للمرأة: اعتدي بالأقراء أو نفياً كما لو قيل لها: لا تعتدي بالأقراء
وذلك لأن جمع الاسم يفيد جمع ما اقتضاه الاسم فإن كان الاسم متناولاً
لمعنييه كان الجمع كذلك وإن كان لا يفيد سوى أحد المعنيين فكذلك أيضاً جمعه
والحجاج فيه متفرع على الحجاج في المفرد وربما قال بالتعميم في طرف النفي
كان فرداً أو جمعاً بعض من قال بنفيه في طرف الإثبات ولهذا قال أبو الحسين
البصري وفيه بعض الاشتباه إذ يجوز أن يقال بنفي الاعتداد بالحيض والطهر
معاً والحق أن النفي لما اقتضاه الإثبات فإن كان مقتضى الإثبات الجمع فكذلك
النفي وإن كان مقتضاه أحد الأمرين فكذلك النفي.
وإذ أتينا على بيان اختلاف المذاهب بالتفصيل فلنعد إلى طرف الحجاج وقد احتج القائلون بجواز التعميم.
أما
في إمكان إرادة الأمرين باللفظ الواحد فهو أنا لو قدرنا عدم التكلم بلفظ
القرء لم يمنع الجمع بين إرادة الاعتداد بالحيض وإرادة الاعتداد بالطهر
فوجود اللفظ لا يحيل ما كان جائزاً وكذلك الكلام في إرادة الجمع بين
الحقيقة والمجاز.
وأما بالنظر عند الوقوع لغة فقوله تعالى: " إن الله
وملائكته يصلون على النبي " " الأحزاب 56 " والصلاة من الله الرحمة ومن
الملائكة الدعاء والاستغفار وهما معنيان مختلفان وقد أريدا بلفظ واحد
وأيضاً قوله تعالى: " ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض
والشمس والقمر " " الحج 18 " إلى آخر الآية وسجود الناس غير سجود غير الناس
وقد أريدا بلفظ واحد.
واحتجوا أيضاً بأن سيبويه قال: قول القائل لغيره الويل لك خبر ودعاء فقد جعله مع اتحاده مفيداً لكلا الأمرين.
اعترض
النافون أما على إرادة إنكار الجمع بين المسميين فهو أن المتكلم إذا
استعمل الكلمة الواحدة في حقيقتها ومجازها معاً كان مريداً لاستعمالها فيما
وضعت له ومريداً للعدول بها عما وضعت له وهو محال وأيضاً فإن المستعمل
للكلمة فيما هي مجاز فيه لا بد وأن يضمر فيها كاف التشبيه والمستعمل لها في
حقيقتها لا بد وأن لا يضمر فيها ذلك والجمع بين الإضمار وعدمه في الكلمة
الواحدة محال.
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى