صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
قولهم إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده غير مسلم كما يأتي وإن سلم
ولكن إنما يمكن القول بأن النهي عن أضداد المأمور به مما يمنع من فعلها إن
لو كان الأمر للوجوب وإلا فبتقدير أن يكون للندب فالنهي عن أضداده يكون نهي
تنزيه فلا يمنع من فعلها وعند ذلك فيلزم منه توقف الوجوب على كون النهي عن
أضداده مانعاً من فعلها وذلك متوقف على كون الأمر للوجوب وهو دور ممتنع.
قولهم
إن حمل الطلب على الوجوب أحوط للمكلف على ما ذكروه فهو معارض بما يلزم من
حمله على الوجوب من الإضرار اللازم من الفعل الشاق بتقدير فعله والعقاب
بتقدير تركه ولما فيه من مخالفة النفي الأصلي بما اختص به الوجوب من زيادة
الذم والوصف بالعصيان بخلاف المندوب كيف وإن المكلف إذا نظر وظهر له أن
الأمر للندب فقد أمن من الضرر وحصل مقصود الأمر.
قولهم إن المندوب داخل في الواجب ليس كذلك على ما سبق تقريره.
قولهم
إن الأمر موضوع لمعنى فكان مانعاً من نقيضه دعوى محل النزاع والقياس على
الخبر من باب القياس في اللغات وهو باطل بما سبق ثم إنه منقوض بالأمر
بالمندوب فإنه مأمور به على ما سبق.
فإن قيل: لا يلزم من مخالفة الدليل
في المندوب المخالفة مطلقاً قلنا يجب أن نعتقد أن ما ذكروه ليس بدليل حتى
لا يلزم منه المخالفة في المندوب.
وما ذكروه من الشبهة الأخيرة فهي منتقضة بالمندوب وأما شبه القائلين بالندب فمنها نقلية وعقلية.
أما
النقلية فقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما
استطعتم وإذ نهيتكم عن شيء فانتهوا " فوض الأمر إلى استطاعتنا ومشيئتنا وهو
دليل الندبية.
وأما العقلية فهو أن المندوب ما فعله خير من تركه وهو
داخل في الواجب فكل واجب مندوب وليس كل مندوب واجباً لأن الواجب ما يلام
على تركه والمندوب ليس كذلك فوجب جعل الأمر حقيقة فيه لكونه متيقناً.
وجوابهما
من جهة الإجمال فما سبق في جواب شبه القائلين بالوجوب ومن جهة التفصيل: عن
الأولى أنه لا يلزم من قوله: ما استطعتم تفويض الأمر إلى مشيئتنا فإنه لم
يقل فافعلوا ما شئتم بل قال: ما استطعتم وليس ذلك خاصية للندب فإن كل واجب
كذلك.
وعن الثانية ما سبق من امتناع وجود المندوب في الواجب ثم لو كان
تنزيل لفظ الأمر على المتيقن لازماً لكان جعله حقيقة في رفع الحرج عن الفعل
أولى لكونه متيقناً بخلاف المندوب فإنه متميز بكون الفعل مترجحاً على
الترك وهو غير متيقن.
المسألة الثالثة اختلف الأصوليون في الأمر العري
عن القرائن: فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وجماعة من الفقهاء
والمتكلمين إلى أنه مقتض للتكرار المستوعب لزمان العمر مع الإمكان وذهب
آخرون إلى أنه للمرة الواحدة ومحتمل للتكرار ومنهم من نفى احتمال التكرار
وهو اختيار أبي الحسين البصري وكثير من الأصوليين ومنهم من توقف في الزيادة
ولم يقض فيها بنفي ولا إثبات وإليه ميل إمام الحرمين والواقفية.
والمختار
أن المرة الواحدة لا بد منها في الامتثال وهو معلوم قطعاً والتكرار محتمل
فإن اقترن به قرينة أشعرت بإرادة المتكلم التكرار حمل عليه وإلا كان
الاقتصار على المرة الواحدة كافياً والدليل على ذلك أنه إذا قال له: صل أو
صم فقد أمره بإيقاع فعل الصلاة والصوم وهو مصدر افعل والمصدر محتمل
للاستغراق والعدد ولهذا يصح تفسيره به فإنه لو قال لزوجته أنت طالق ثلاثاً
وقع به لما كان تفسيراً للمصدر وهو الطلاق ولو اقتصر على قوله أنت طالق لم
يقع سوى طلقة واحدة مع احتمال اللفظ للثلاث فإذا قال: صل فقد أمره بإيقاع
المصدر وهو الصلاة والمصدر محتمل للعدد فإن اقترن به قرينة مشعرة بإرادة
العدد حمل عليه وإلا فالمرة الواحدة تكون كافية ولهذا فإنه لو أمر عبده أن
يتصدق صدقة أو يشتري خبزاً أو لحماً فإنه يكتفي منه بصدقة واحدة وشراء واحد
ولو زاد على ذلك فإنه يستحق اللوم والتوبيخ لعدم القرينة الصارفة إليه وإن
كان اللفظ محتملاً له وإنما كان كذلك لأن حال الآمر متردد بين إرادة العدد
وعدم إرادته وإنما يجب العدد مع ظهور الإرادة ولا ظهور إذ الفرض فيما إذا
عدمت القرائن المشعرة به فقد بطل القول بعدم إشعار اللفظ بالعدد مطلقاً
وبطل القول بظهوره فيه وبالوقف أيضاً والاعتراض هاهنا يختلف باختلاف مذاهب
الخصوم فمن اعتقد ظهوره في التكرار اعترض بشبه.
الأولى: منها أن أوامر الشارع في الصوم والصلاة محمولة على التكرار فدل على إشعار الأمر به.
الثانية:
أن قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " يعم كل مشرك فقوله: صم وصل ينبغي أن
يعم جميع الأزمان لأن نسبة اللفظ إلى الأزمان كنسبته إلى الأشخاص.
الثالثة: أن قوله صم كقوله لا تصم ومقتضى النهي الترك أبداً فوجب أن يكون الأمر مقتضياً للفعل أبداً لاشتراكهما في الاقتضاء والطلب.
الرابعة: أن الأمر اقتضى فعل الصوم واقتضى اعتقاد وجوبه والعزم عليه أبدا فكذلك الموجب الآخر.
الخامسة: أن الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان فليس حمله على البعض أولى من البعض فوجب التعميم.
السادسة:
أنه لو لم يكن الأمر للتكرار لما صح الاستثناء منه لاستحالة الاستثناء من
المرة الواحدة ولا تطرق النسخ إليه لأن ذلك يدل على البدا وهو محال على
الله تعالى ولا حسن الاستفهام من الآمر أنك أردت المرة الواحدة أو التكرار
ولكان قول الآمر لغيره صل مرة واحدة غير مفيد وكان قوله صل مراراً تناقضاً
ولكان إذا لم يفعل المأمور ما أمر به في أول الوقت محتاجاً في فعله ثانياً
إلى دليل وهو ممتنع.
السابعة: أن الحمل على التكرار أحوط للمكلف لأنه إن كان للتكرار فقد حصل المقصود ولا ضرر وإن لم يكن للتكرار لم يكن فعله مضراً.
الثامنة: إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداده يقتضي استغراق الزمان وذلك يستلزم استدامة فعل المأمور به.
التاسعة:
قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " أي
فأتوا بما أمرتكم به ما استطعتم وذلك يقتضي وجوب التكرار.
العاشرة: أن
عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه قد جمع بطهارة واحدة
بين صلوات عام الفتح وقال: أعمداً فعلت هذا يا رسول الله؟ فقال: " نعم "
ولولا أنه فهم تكرار الطهارة من قوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم " " المائدة 6 " لما كان للسؤال معنى.
الحادية عشرة: أنه إذا قال الرجل لغيره: أحسن عشرة فلان فإنه يفهم منه التكرار والدوام.
وأما
شبه القائلين بامتناع احتمال التكرار فأولها أن من قال لغيره ادخل الدار
يعد ممتثلاً بالدخول مرة واحدة كما أنه يصير ممتثلاً لقوله اضرب رجلاً بضرب
رجل واحد ولذلك فإنه لا يلام بترك التكرار بل يلام من لامه عليه.
وثانيها: أنه لو قال القائل صام زيد صدق على المرة الواحدة من غير إدامة فليكن مثله في الأمر.
وثالثها: أنه لو حلف أنه ليصلين أو ليصومن برت يمينه بصلاة واحدة وصوم يوم واحد وعد آتياً بما التزمه فكذلك في الالتزام بالأمر.
ورابعها: أنه لو قال الرجل لوكيله طلق زوجتي لم يملك أكثر من تطليقة واحدة.
وخامسها: أنه لو كان الأمر للتكرار لكان قوله صل مراراً غير مفيد وكان قوله صل مرة واحدة نقصاً وليس كذلك.
وسادسها:
أنه لو كان مطلق الأمر للتكرار لكان الأمر بعبادتين مختلفتين لا يمكن
الجمع بينهما إما تكليفاً بما لا يطاق أو أن يكون الأمر بكل واحدة مناقضاً
للأمر بالأخرى وهو ممتنع.
وأما شبه القائلين بالوقف فأولها أن الأمر
بمطلقه غير ظاهر في المرة الواحدة ولا في التكرار ولهذا فإنه يحسن أن
يستفهم من الآمر عند قوله اضرب ويقال له مرة واحدة أو مراراً ولو كان
ظاهراً في أحد الأمرين لما حسن الاستفهام.
وثانيها: أنه لو كان ظاهراً
في المرة الواحدة لكان قول الآمر اضرب مرة واحدة تكراراً أو مراراً تناقضاً
وكذلك لو كان ظاهراً في التكرار.
والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين
بالتكرار هو أن حمل بعض الأوامر وإن كانت متكررة على التكرار لا يدل على
استفادة ذلك من ظاهرها وإلا كان ما حمل من الأوامر على المرة الواحدة كالحج
ونحوه مستفاداً من ظاهر الأمر ويلزم من ذلك إما التناقض أو اعتقاد الظهور
في أحد الأمرين دون الآخر من غير أولوية وهو محال.
فإن قيل: اعتقاد
الظهور في التكرار أولى لأن ما حمل من الأوامر على التكرار أكثر من المحمول
على المرة الواحدة وعند ذلك فلو جعلناه ظاهراً في المرة الواحدة لكان
المحذور اللازم من مخالفته في الحمل على التكرار أقل من المحذور اللازم من
جعله ظاهراً في التكرار عند حمله على المرة الواحدة.
قلنا: هذا إنما
يلزم أن لو قلنا إن الأمر ظاهر في أحد الأمرين وليس كذلك بل الأمر عندنا
إنما يقتضي إيقاع مصدر الفعل والمرة الواحدة من ضروراته لا أن الأمر ظاهر
فيها وكذلك في التكرار فحمل الأمر على أحدهما بالقرينة لا يوجب مخالفة
الظاهر في الآخر لعدم تحققه فيه.
وعن الثانية: وإن سلمنا أن العموم في
قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " " التوبة 5 " أنه يتناول كل مشرك فليس ذلك
إلا لعموم اللفظ ولا يلزم مثله فيما نحن فيه لعدم العموم في قوله صم
بالنسبة إلى جميع الأزمان بل لو قال صم في جميع الأزمان كان نظيراً لقوله
اقتلوا المشركين.
وعن الثالثة: لا نسلم أن النهي المطلق للدوام وإنما
يقتضيه عند التصريح بالدوام أو ظهور قرينة تدل عليه كما في الأمر وإن سلمنا
اقتضاءه للدوام لكن ما ذكروه من إلحاق الأمر بالنهي بواسطة الاشتراك
بينهما في الاقتضاء فرع صحة القياس في اللغات وقد أبطلناه وإن سلمنا صحة
ذلك غير أنا نفرق وبيانه من وجهين: الأول أن من أمر غيره أن يضرب فقد أمره
بإيقاع مصدره وهو الضرب فإذا ضرب مرة واحدة يصح أن يقال: وجد الضرب وإذا
قال له لا تضرب فمقتضاه عدم إيقام الضرب فإذا انتهى في بعض الأوقات دون
البعض يصح أن يقال: لم يعدم الضرب.
الثاني: إن حمل الأمر على التكرار
مما يفضي إلى تعطيل الحوائج المهمة وامتناع الإتيان بالمأمورات التي لا
يمكن اجتماعها بخلاف الانتهاء عن المنهي مطلقاً.
وعن الرابعة: أنها غير
متجهة وذلك لأن دوام اعتقاد الوجوب عند قيام دليل الوجوب ليس مستفاداً من
نفس الأمر وإنما هو من أحكام الإيمان فتركه يكون كفراً والكفر منهي عنه
دائماً ولهذا كان اعتقاد الوجوب دائماً في الأوامر المقيدة.
وأما العزم
فلا نسلم وجوبه ولهذا فإن من دخل عليه الوقت وهو نائم لا يجب على من حضره
إنباهه ولو كان العزم واجباً في ذلك الوقت لوجب عليه كما لو ضاق وقت
العبادة وهو نائم وإن سلمنا وجوب العزم لكن لا نسلم وجوبه دائماً بل هو تبع
لوجوب المأمور به وإن سلمنا وجوبه دائماً فلا نسلم كونه مستفاداً من نفس
الأمر ليلزم ما قيل بل إنما هو مستفاد من دليل اقتضى دوامه غير الأمر
الوارد بالعبادة ولهذا وجب في الأوامر بالفعل مرة واحدة.
وعن الخامسة:
أنها باطلة من جهة أن الأمر غير مشعر بالزمان وإنما الزمان من ضرورات وقوع
الفعل المأمور به ولا يلزم من عدم اختصاصه ببعض الأزمنة دون البعض التعميم
كالمكان.
وعن السادسة: وهي قولهم لو كان الأمر للمرة الواحدة لما دخله
النسخ ليس كذلك عندنا فإنه لو أمر بالحج في السنة المستقبلة جاز نسخه عندنا
قبل التمكن من الامتثال على ما يأتي وإنما ذلك لازم على المعتزلة وأما
دخول الاستثناء فمن أوجب الفعل على الفور يمنع منه ومن أوجبه على التراخي
فلا يمنع من استثناء بعض الأوقات التي المكلف مخير في إيقاع الواجب فيها
وأما حسن الاستفهام فإنما كان لتحصيل اليقين فيما اللفظ محتمل له تأكيداً
فإنه محتمل لإرادة التكرار وإرادة المرة الواحدة وبه يخرج الجواب عن قوله
صل مرة وحدة وقوله صل مراراً غير متناقض بل غايته دلالة الدليل على إرادة
التكرار المحتمل وإذا لم يفعل ما أمر به في أول الوقت فمن قال بالتراخي لا
يحتاج إلى دليل آخر لأن مقتضى الأمر المطلق عنده تخيير المأمور في إيقاع
الفعل في أي وقت شاء من ذلك الوقت ومن قال بالفور فلا بد له من دليل في
ثاني الحال.
وعن السابعة: ما سبق في الواجب والمندوب.
وعن الثامنة:
لا نسلم أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده وإن سلم ذلك ولكن اقتضاء النهي
للأضداد بصفة الدوام فرع كون الأمر مقتضياً للفعل على الدوام وهو محل
النزاع.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر " الحديث إنما يلزم أن لو كان ما زاد على المرة الواحدة مأموراً به وليس كذلك.
وأما
حديث عمر فلا يدل على أنه فهم أن الأمر بالطهارة يقتضي تكرارها بتكرر
الصلاة بل لعله أشكل عليه أنه للتكرار فسأل النبي عن عمده وسهوه في ذلك
لإزاحة الإشكال بمعرفة كونه للتكرار إن كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم
سهواً أو لا للتكرار إن كان فعله عمداً كيف وإن فهم عمر لذلك مقابل بإعراض
النبي صلى الله عليه وسلم عن التكرار ولو كان للتكرار لما أعرض عنه وله
الترجيح.
وأما الشبهة الأخيرة فإنما عم الأمر فيها بالإكرام وحسن
العشرة للأزمان لأن ذلك إنما يقصد به التعظيم وذلك يستدعي استحقاق المأمور
بإكرامه للإكرام وهو سبب الأمر فمهما لم يعلم زوال ذلك السبب وجب دوام
المسبب فكان الدوام مستفاداً من هذه القرينة لا من مطلق الأمر.
والجواب
عن الشبهة الأولى للقائلين بامتناع احتمال الأمر المطلق للتكرار أن ذلك يدل
على أن الأمر غير ظاهر في التكرار ولا يلزم منه امتناع احتماله له ولهذا
فإنه لو قال ادخل الدار مراراً بطريق التفسير فإنه يصح ويلزم ولو عدم
الاحتمال لما صح التفسير.
وعن الثانية: أن ذلك قياس في اللغات فلا يصح
وبه دفع الشبهة الثالثة وإذا قال لوكيله طلق زوجتي إنما لم يملك ما زاد على
الطلقة الواحدة لعدم ظهور الأمر فيها لا لعدم الاحتمال لغة ولهذا لو قال
طلقها ثلاثاً على التفسير صح.
وعن الخامسة: ما سبق.
وعن السادسة:
أنها باطلة وذلك لأن زيادة المشقة من حمل الأمر على التكرار إما أن لا يكون
منافياً له أو يكون منافياً: فإن كان الأول فلا اتجاه لما ذكروه وإن كان
الثاني فغايته تعذر العمل بالأمر في التكرار عند لزوم الحرج فيلون ذلك
قرينة مانعة من صرف الأمر إليه ولا يلزم من ذلك امتناع احتماله له لغة
وجواب شبهة القائلين بالوقف ما سبق في جواب من تقدم والله أعلم.
المسألة
الرابعة الأمر المعلق بشرط كقوله: " إذا زالت الشمس فصلوا " أو صفة كقوله:
" الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " " النور 2 " هل
يقتضي تكرار المأمور به بتكرر الشرط والصفة أم لا؟ فمن قال إن الأمر المطلق
يقتضي التكرار فهو هاهنا أولى ومن قال إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار
اختلفوا هاهنا فمنهم من أوجبه ومنهم من نفاه.
وقبل الخوض في الحجاج لا
بد من تلخيص محل النزاع فنقول ما علق به المأمور من الشرط أو الصفة إما أن
يكون قد ثبت كونه علة في نفس الأمر لوجوب الفعل المأمور به كالزنا أو لا
يكون كذلك بل الحكم متوقف عليه من غير تأثير له فيه كالإحصان الذي يتوقف
عليه الرجم في الزنا فإن كان الأول فالاتفاق واقع على تكرر الفعل بتكرره
نظراً إلى تكرر العلة ووقوع الاتفاق على التعبد باتباع العلة مهم وجدت
فالتكرار مستند إلى تكرار العلة لا إلى الأمر وإن كان الثاني فهو محل
الخلاف والمختار أنه لا تكرار.
وقد احتج القائلون بهذا المذهب بحجج واهية لا بد من التنبيه عليها وعلى ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة
الأولى أنهم قالوا: أجمعنا على أن الخبر المعلق بالشرط أو الصفة لا يقتضي
تكرار المخبر عنه كما لو قال: إن جاء زيد جاء عمرو فإنه لا يلزم تكرر مجيء
عمرو في تكرر مجيء زيد فكذلك في الأمر وهي باطلة فإن حاصلها يرجع إلى
القياس في اللغة وقد أبطلناه.
الثانية أنه لو قال لزوجته: إذا دخلت
الدار فأنت طالق فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول فكذلك في قوله إذا "
زالت الشمس فصلوا " وهو أيضاً من جنس ما تقدم لما فيه من قياس الأمر على
إنشاء الطلاق الذي ليس بأمر.
الثالثة أن اللفظ لا دلالة فيه إلا على
تعليق شيء بشيء وهو أعم من تعليقه عليه في كل صورة أو في صورة واحدة
والمشعر بالأعم لا يلزم أن يكون مشعراً بالأخص وحاصل هذه الحجة أيضاً يرجع
إلى محض الدعوى بأن الأمر المضاف إلى الشرط أو الصفة لا يفهم منه اقتضاء
التكرار بتكرر الشرط أو الصفة وهو عين محل النزاع وإنما الواجب أن يقال إنه
مشعر بالأعم والأصل عدم إشعاره بالأخص والمعتمد في ذلك أن يقال: لو وجب
التكرار لم يخل إما أن يكون المقتضي له نفس الأمر أو الشرط أو مجموع
الأمرين: لا جائز أن يقال بالأول لما سبق في المسألة المتقدمة ولا بالثاني
لأن الشرط غير مؤثر في المشروط بحيث يلزم من وجوده وجوده بل إنما تأثيره في
انتفاء المشروط عند انتفائه وحيث قيل بملازمة المشروط لوجود الشرط في قوله
لزوجته إن دخلت الدار فأنت طالق إنما كان لضرورة وجود الموجب وهو قوله:
أنت طالق لا لنفس دخول الدار وإلا كان دخول الدار موجباً للطلاق مطلقاً وهو
محال ولا جائز أن يقال بالثالث لأنا أجمعنا على أنه لو قال لعبده: إذا
دخلت السوق فاشتر لحماً أنه لا يقتضي التكرار وذلك إما أن يكون مع تحقق
الموجب للتكرار أو لا مع تحققه لا جائز أن يقال بالأول وإلا فانتفاء
التكرار إما لمعارض أو لا لمعارض: والأول ممتنع لما فيه من المعارضة وتعطيل
الدليل عن أعماله وهو خلاف الأصل والثاني أيضاً باطل لما فيه من مخالفة
الدليل من غير معارض فلم يبق سوى الثاني وهو المطلوب فإن قيل: ما ذكرتموه
معارض من وجوه: الأول: أنه قد وجد في كتاب الله تعالى أوامر متعلقة بشروط
وصفات وهي متكررة بتكررها كقوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " "
المائدة 6 " الآية وقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " "
المائدة 38 " " والزانية والزاني " " النور 2 " الآية ولو لم يكن ذلك
مقتضياً للتكرار لما كان متكرراً.
الثاني: أن العلة يتكرر الحكم بتكررها إجماعاً والشرط أقوى من العلة لانتفاء الحكم بانتفائه بخلاف العلة فكان اقتضاؤه للتكرار أولى.
الثالث:
أن نسبة الحكم إلى إعداد الشرط المعلق عليه نسبة واحدة ولا اختصاص له
بالموجود الأول منها دون ما بعده وعند ذلك فإما أن يلزم من انتفاء الحكم مع
وجود الشرط ثانياً وثالثاً انتفاؤه مع وجود الشرط الأول أو من وجوده مع
الأول الوجود مع الثاني وما بعده ضرورة التسوية: والأول خلاف الإجماع
والثاني هو المطلوب.
الرابع: أنه لو لم يكن الأمر مقتضياً لتعليق الحكم
بجميع الشروط بل بالأول منها فليزم أن يكون فعل العبادة مع الشرط الثاني
دون الأول قضاء وكانت مفتقرة إلى دليل آخر وهو ممتنع.
الخامس: أن النهي
المعلق بالشرط مفيد للتكرار كما إذا قال: إن دخل زيد الدار فلا تعطه درهماً
والأمر ضد النهي فكان مشاركاً له في حكمه ضرورة اشتراكهما في الطلب
والاقتضاء.
السادس: أن تعليق الأمر على الشرط الدائم موجب لدوام المأمور
به بدوامه كما لو قال: إذا وجد شهر رمضان فصمه فإن الصوم يكون دائماً
بدوام الشهر وتعليق الأمر على الشرط المتكرر في معناه فكان دائماً.
والجواب
عن الأول أنه إذا ثبت بما ذكرناه أن الأمر المعلق بالشرط والصفة غير مقتض
للتكرار فحيث قضي بالتكرار إما أن يكون الشرط والصفة علة للحكم المكرر في
نفس الأمر كما في الزنا والسرقة أو لا يكون علة له: فإن كان الأول فالتكرار
إنما كان لتكرر العلة الموجبة للحكم ولا كلام فيه وإن كان الثاني فيجب
اعتقاد كونه متكرراً لدليل اقتضاه غير الأمر المعلق بالشرط والصفة لما
ذكرناه من عدم اقتضائه كيف وإنه كما قد يتكرر الفعل المأمور به بتكرر الشرط
فقد لا يتكرر كالأمر بالحج فإنه مشروط بالاستطاعة وهو غير متكرر بتكررها.
وعن الثاني: أنه لا يلزم من تكرر الحكم بتكرر العلة لكونها موجبة للحكم تكرره بتكرر الشرط مع أنه غير موجب للحكم كما تقرر.
وعن
الثالث: أنه إنما يلزم القائلين بالوجوب على الفور وليس كذلك عندنا بل
الأمر مقتض للامتثال مع استواء التقديم والتأخير فيه إذا علم تجدد الشرط
وغلب على الظن بقاء المأمور ويكون الأمر قد اقتضى تعلق المأمور به على
الشروط كلها على طريق البدل من غير اختصاص له ببعضها دون بعض وأما إن لم
يغلب على الظن تجدد الشرط ولا بقاء المأمور إلى حالة وجود الشرط الثاني فقد
تعين اختصاص المأمور بالشرط الأول لعدم تحقق ما سواه.
وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الرابع أيضاً.
وعن
الخامس: أن حاصله يرجع إلى قياس الأمر على النهي في اللغة وهو باطل بما
سبق كيف وإنا لا نسلم أن النهي المضاف إلى الشرط يتكرر بتكرر الشرط بل ما
اقتضاه النهي إنما هو دوام المنع عند تحقق الشرط الأول سواء تجدد الشرط
ثانياً أو لم يتجدد.
وعن السادس: أن الشرط المستشهد به وإن كان له دوام
في زمان معين والحكم موجود معه فهو واحد والمشروط به غير متكرر بتكرره وعند
ذلك فلا يلزم من لزوم وجود المشروط عند تحقق شرطه من غير تكرر لزوم التكرر
بتكرر الشرط في محل النزاع.
المسألة الخامسة اختلفوا في الأمر المطلق
هل يقتضي تعجيل فعل المأمور به؟ فذهبت الحنفية والحنابلة وكل من قال بحمل
الأمر على التكرار إلى وجوب التعجيل وذهبت الشافعية والقاضي أبو بكر وجماعة
من الأشاعرة والجبائي وابنه وأبو الحسين البصري إلى التراخي وجواز التأخير
عن أول وقت الإمكان وأما الواقفية فقد توقفوا: لكن منهم من قال: التوقف
إنما هو في المؤخر هل هو ممتثل أو لا؟ وأما المبادر فإنه ممتثل قطعاً لكن
هل يأثم بالتأخير؟ اختلفوا فيه: فمنهم من قال بالتأثيم وهو اختيار إمام
الحرمين ومنهم من لم يؤثمه ومنهم من توقف في المبادر أيضاً وخالف في ذلك
إجماع السلف.
والمختار أنه مهما فعل كان مقدماً أو مؤخراً كان ممتثلاً
للأمر ولا إثم عليه بالتأخير والدليل على ذلك أن الأمر حقيقة في طلب الفعل
لا غير فمهما أتى بالفعل في أي زمان كان مقدماً أو مؤخراً كان آتياً بمدلول
الأمر فيكون ممتثلاً للأمر ولا إثم عليه بالتأخير لكونه آتياً بما أمر به
على الوجه الذي أمر به وبيان أن مدلول الأمر طلب الفعل لا غير وجهان:
الأول: أنه دليل على طلب الفعل بالإجماع والأصل عدم دلالته على أمر خارج
والزمان وإن كان لا بد منه من ضرورة وقوع الفعل المأمور به ولا يلزم أن
يكون داخلاً في مدلول الأمر فإن اللازم من الشيء أعم من الداخل في معناه
ولا أن يكون متعيناً كما لا تتعين الآلة في الضرب ولا الشخص المضروب وإن
كان ذلك من ضرورات امتثال الأمر بالضرب.
الوجه الثاني: أنه يجوز ورود
الأمر بالفعل على الفور وعلى التراخي ويصح مع ذلك أن يقال بوجود الأمر في
الصورتين والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا مشترك بين الصورتين سوى طلب الفعل
لأن الأصل عدم ما سواه فيجب أن يكون هو مدلول الأمر في الصورتين دون ما به
الاقتران من الزمان وغيره نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ.
فإن قيل: ما
ذكرتموه في بيان امتناع خروج الوقت عن الدخول في مقتضى الأمر معارض بما
يدل على نقيضه وبيانه من خمسة وجوه: الأول: أنه إذا قال السيد لعبده: اسقني
ماء فإنه يفهم منه تعجيل السقي حتى أنه يحسن لوم العبد وذمه في نظر
العقلاء بتقدير التأخير ولولا أنه من مقتضيات الأمر لما كان كذلك إذ الأصل
عدم القرينة.
الثاني: هو أن مدلول الأمر وهو الفعل المأمور به لا يقع
إلا في وقت وزمان فوجب أن يكون الأمر مقتضياً للفعل في أقرب زمان كالمكان
وكما لو قال لزوجته أنت طالق ولعبده أنت حر فإن مدلول لفظه يقع على الفور
في أقرب زمان.
الثالث: أن الأمر مشارك للنهي في مطلق الطلب والنهي مقتض للامتثال على الفور فوجب أن يكون الأمر كذلك.
الرابع:
أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداد المأمور به مقتض
للانتهاء عنها على الفور وذلك متوقف على فعل المأمور به على الفور فكان
الأمر مقتضياً له على الفور.
الخامس: أنه تعالى عاتب إبليس ووبخه على
مخالفة الأمر بالسجود لآدم في الحال بقوله: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك "
" الأعراف 12 " ولو لم يكن الأمر بالسجود مقتضياً له في الحال لما حسن
توبيخه عليه ولكان تلك عذراً لإبليس في تأخيره.
سلمنا عدم دلالة
الأمر على وجوب الفعل على الفور لفظاً لكن لم قلتم إنه لا يكون مستلزماً له
بواسطة دلالته على أصل الوجوب؟ وبيان ذلك من وجوه أربعة: الأول: أن الأمر
إذا دل على وجوب الفعل فقد أجمعنا على وجوب اعتقاده على الفور مع أن ذلك لم
يكن مقتضى للأمر بل هو من لوازم مقتضاه فكان مقتضاه على الفور أولى
لإصالته.
الثاني: أن إجماع السلف منعقد على أن المبادر يخرج عن عهدة الأمر ولا إجماع في المؤخر فكان القول بالتعجيل أحوط وأولى.
الثالث: أن الفعل واجب بالاتفاق فلو جاز تأخيره إما أن يجوز إلى غاية معينة أو لا إلى غاية.
فإن
جاز تأخيره إلى غاية معينة فإما أن تكون معلومة للمأمور أو لا تكون معلومة
له فإن كانت معلومة له فإما أن تكون مذكورة بأن يقال له: إلى عشرة أيام
مثلاً أو موصوفة الأول خلاف الفرض إذ الفرض فيما إذا كان أمراً مطلقاً غير
مقيد بوقت في الذكر وإن كان الثاني فالوقت الموصوف لا يخرج بالإجماع عن
الوقت الذي إذا انتهى إليه غلب على ظنه أنه لو أخر المأمور به عنه لفات
وذلك لا يكون إلا بأمارة تدل عليه وهي الإجماع غير خارجة عن المرض المرجو
وعلو السن وكل واحد من الأمرين مضطرب مختلف فإنه قد يموت قبل ذلك أو يعيش
بعده فلا يعتمد عليه وإن كانت الغاية غير معلومة له مع أنه لا يجوز له
التأخير عنها كان ذلك تكليفاً بما لا يطاق وهو ممتنع وهذا كله فيما إذا جاز
التأخير إلى غاية.
وإن كان التأخير لا إلى غاية فإما أن يجوز ذلك ببدل
أو لا ببدل: فإن كان ببدل فذلك البدل إما أن يكون واجباً أو غير واجب: لا
جائز أن لا يكون واجباً وإلا لما كان بدلاً عن الواجب بالإجماع وإن كان
واجباً فهو ممتنع لوجوه أربعة: الأول أنه لو كان واجباً لوجب أنباه المأمور
حالة ورود الأمر نحوه على من حضره حذراً من فوات الواجب الذي هو البدل كما
لو ضاق عليه الوقت وكان نائماً الثاني هو أن الأمر لا تعرض فيه لوجوب
البدل والأصل عدم دليل آخر ويمتنع القول بوجوب ما لا دليل عليه الثالث أن
البدل لو كان واجباً لكان قائماً مقام المبدل ومحصلاً لمقصوده وإلا لما كان
بدلاً لما فيه من فوات مقصود الأصل ويلزم من ذلك سقوط المأمور به بالكلية
بتقدير الإتيان بالبدل ضرورة حصول مقصوده وهو محال الرابع أنه لو كان البدل
واجباً لم يخل إما أن يجوز تأخيره عن الوقت الثاني من ورود الأمر أو لا
يجوز: فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في أصل المأمور به وهو تسلسل
ممتنع وإن كان الثاني فهو أيضاً ممتنع لأن البدل لا يزيد على نفس المبدل
ووقت المبدل غير معين فكذلك البدل وإن جاز التأخير أبداً لا ببدل ففيه
إخراج الواجب عن حقيقته وهو محال.
الرابع: من الوجوه الأول أن امتثال
المأمور به من الخيرات وهو سبب الثواب فوجب تعجيله لقوله تعالى: " فاستبقوا
الخيرات " " البقرة 148 " وقوله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة
عرضها السماوات والأرض " " آل عمران 133 " أمر بالمسارعة والمسابقة وهي
التعجيل والأمر للوجوب.
والجواب عن الوجه الأول أنه إنما فهم التعجيل من
أمر السيد بسقي الماء من الظن الحاصل بحاجة السيد إليه في الحال إذ الظاهر
أنه لا يطلب سقي الماء من غير حاجة إليه حتى أنه لو لم يعلم أو يظن أن
حاجته إليه داعية في الحال لما فهم من أمره التعجيل ولا حسن ذم العبد
بالتأخير.
فإن قيل: أهل العرف إنما يذمون العبد بمخالفة مطلق الأمر
ويقولون في معرض الذم خالف أمر سيده وذلك يدل على أن مطلق الأمر هو المقتضي
للتعجيل دون غيره.
قلنا: إنما نسلم صحة ذلك في الأمر المقيد بالقرينة
دون المطلق والأمر فيما نحن فيه مقيد ثم هو معارض عند مطلق الأمر بصحة عذر
العبد بقوله إنما أخرت لعدم علمي وظني بدعو حاجته إليه في الحال وليس أحد
الأمرين أولى من الآخر وعن الثاني من وجهين: الأول: لا نسلم تعين أقرب
الأماكن ولا نسلم أن قوله: أنت طالق وأنت حر يفيد صحة الطلاق والعتق بوضعه
له لغة بل ذلك لسبب جعل الشرع له علامة على ذلك الحكم الخالي ولا يلزم من
ذلك أن يكون الأمر موضوعاً للفور.
الثاني: أن حاصله يرجع إلى القياس في اللغة وهو ممتنع كما سبق.
وعن الثالث والرابع: ما سبق في المسألة المتقدمة.
وعن
الخامس: أن توبيخه لإبليس إنما كان ذلك لإبائه واستكباره ويدل عليه قوله
تعالى: " إلا إبليس أبى واستكبر " " البقرة 34 " ولتخيره على آدم بقوله: "
أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " " ص 76 " ولا يمكن إضافة
التوبيخ إلى مطلق الأمر من حيث هو أمر لأنه منقسم إلى أمر إيجاب واستحباب
كما سبق تقريره ولا توبيخ على مخالفة أمر الاستحباب إجماعاً ولو كان
التوبيخ على مطلق الأمر لكان أمر الاستحباب موبخاً على مخالفته فلم يبق إلا
أن يكون التوبيخ على أمر الإيجاب وهو منقسم إلى أمر إيجاب على الفور وأمر
إيجاب على التراخي كما إذا قال: أوجبت عليك متراخياً ولا يلزم منه أن يكون
مطلق الأمر للإيجاب حالاً وإن سلمنا أنه وبخه على مخالفة الأمر في الحال
ولكن لا نسلم أن الأمر بالسجود كان مطلقاً بل هو مقترن بقرينة لفظية موجبة
لحمله على الفور وهي قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له
ساجدين " رتب السجود على هذه الأوصاف بفاء التعقيب وهي مقتضية للسجود عقبها
على الفور من غير مهلة.
قولهم: لم قلتم بأنه لا يكون مستلزماً للفور بواسطة دلالته على وجوب الفعل؟ قلنا: الأصل عدم ذلك.
قولهم إنه يجب تعجيل اعتقاد وجوب الفعل قلنا ولم يلزم منه تعجيل وجوب الفعل.
قولهم
إنه من لوازم وجوب الفعل قلنا من لوازم وجوب تقديم الفعل أو من لوازم وجوب
الفعل الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لا يلزم منه وجوب تقديم الفعل بدليل
ما لو أوجب الفعل مصرحاً بتأخيره فإنه يجب تعجيل اعتقاد وجوبه وإن لم يكن
وجوب الفعل على الفور.
قولهم القول بالتعجيل أحوط للمكلف قلنا الاحتياط
إنما هو باتباع المكلف ما أوجبه ظنه: فإن ظن الفور وجب عليه اتباعه وإن ظن
التراخي وجب عليه اتباعه وإلا فبتقدير أن يكون قد غلب على ظنه التراخي
فالقول بوجوب التعجيل على خلاف ظنه يكون حراماً وارتكاب المحرم يكون
إضراراً فلا يكون احتياطاً.
قولهم: لو جاز التأخير إما أن يكون إلى غاية
أو لا إلى غاية إلى آخره فهو منقوض بما لو صرح الآمر بجواز التأخير فإن كل
ما ذكروه من الأقسام متحقق فيه مع جواز تأخيره وما ذكروه من الآيتين
الأخيرتين فهو غير دال على وجوب تعجيل الفعل المأمور به فإنهما بمنطوقهما
يدلان على المسارعة إلى الخيرات والمغفرة والمراد به إنما هو المسارعة إلى
سبب ذلك ودلالتهما على السبب إنما هي بجهة الاقتضاء والاقتضاء لا عموم له
على ما يأتي تقريره فلا دلالة لهما على المسارعة إلى كل سبب للخيرات
والمغفرة فيختص ذلك بما اتفق على وجوب تعجيله من الأفعال المأمور بها ولا
يعم كل فعل مأمور به.
المسألة السادسة الأمر بالشيء على التعيين هل هو
نهي عن أضداده؟ اختلفوا فيه وتفصيل المذاهب: أما أصحابنا فالأمر عندهم هو
الطلب القائم بالنفس وقد اختلفوا: فمنهم من قال الأمر بالشيء بعينه نهي عن
أضداده وإن طلب الفعل بعينه طلب ترك أضداده وهو قول القاضي أبي بكر في أول
أقواله ومنهم من قال: هو نهي عن أضداده بمعنى أنه يستلزم النهي عن الأضداد
لا أن الأمر هو عين المنهي وهو آخر ما اختاره القاضي في أخر أقواله ومنهم
من منع من ذلك مطلقاً وإليه ذهب إمام الحرمين والغزالي.
وأما المعتزلة
فالأمر عندهم نفس صيغة افعل وقد اتفقوا على أن عين صيغة افعل لا تكون نهياً
لأن صيغة النهي لا تفعل وليس إحداهما عين الأخرى وإنما اختلفوا في أن
الآمر بالشيء هل يكون نهياً عن أضداده من جهة المعنى: فذهب القدماء من
مشايخ المعتزلة إلى منعه ومن المعتزلة من صار إليه كالعارضي وأبي الحسين
البصري وغيرهما من المعتبرين منهم ومعنى كونه نهياً عن الأضداد من جهة
المعنى عندهم أن صيغة الأمر تقتضي إيجاد الفعل والمنع من كل ما يمنع منه
ومنهم من فصل بين أمر الإيجاب والندب وحكم بأن أمر الإيجاب يكون نهياً عن
أضداده ومقبحاً لها لكونها مانعة من فعل الواجب بخلاف المندوب ولهذا فإن
أضداد المندوب من الأفعال المباحة غير منهي عنها لا نهي تحريم ولا نهي
تنزيه.
قولهم إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده غير مسلم كما يأتي وإن سلم
ولكن إنما يمكن القول بأن النهي عن أضداد المأمور به مما يمنع من فعلها إن
لو كان الأمر للوجوب وإلا فبتقدير أن يكون للندب فالنهي عن أضداده يكون نهي
تنزيه فلا يمنع من فعلها وعند ذلك فيلزم منه توقف الوجوب على كون النهي عن
أضداده مانعاً من فعلها وذلك متوقف على كون الأمر للوجوب وهو دور ممتنع.
قولهم
إن حمل الطلب على الوجوب أحوط للمكلف على ما ذكروه فهو معارض بما يلزم من
حمله على الوجوب من الإضرار اللازم من الفعل الشاق بتقدير فعله والعقاب
بتقدير تركه ولما فيه من مخالفة النفي الأصلي بما اختص به الوجوب من زيادة
الذم والوصف بالعصيان بخلاف المندوب كيف وإن المكلف إذا نظر وظهر له أن
الأمر للندب فقد أمن من الضرر وحصل مقصود الأمر.
قولهم إن المندوب داخل في الواجب ليس كذلك على ما سبق تقريره.
قولهم
إن الأمر موضوع لمعنى فكان مانعاً من نقيضه دعوى محل النزاع والقياس على
الخبر من باب القياس في اللغات وهو باطل بما سبق ثم إنه منقوض بالأمر
بالمندوب فإنه مأمور به على ما سبق.
فإن قيل: لا يلزم من مخالفة الدليل
في المندوب المخالفة مطلقاً قلنا يجب أن نعتقد أن ما ذكروه ليس بدليل حتى
لا يلزم منه المخالفة في المندوب.
وما ذكروه من الشبهة الأخيرة فهي منتقضة بالمندوب وأما شبه القائلين بالندب فمنها نقلية وعقلية.
أما
النقلية فقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما
استطعتم وإذ نهيتكم عن شيء فانتهوا " فوض الأمر إلى استطاعتنا ومشيئتنا وهو
دليل الندبية.
وأما العقلية فهو أن المندوب ما فعله خير من تركه وهو
داخل في الواجب فكل واجب مندوب وليس كل مندوب واجباً لأن الواجب ما يلام
على تركه والمندوب ليس كذلك فوجب جعل الأمر حقيقة فيه لكونه متيقناً.
وجوابهما
من جهة الإجمال فما سبق في جواب شبه القائلين بالوجوب ومن جهة التفصيل: عن
الأولى أنه لا يلزم من قوله: ما استطعتم تفويض الأمر إلى مشيئتنا فإنه لم
يقل فافعلوا ما شئتم بل قال: ما استطعتم وليس ذلك خاصية للندب فإن كل واجب
كذلك.
وعن الثانية ما سبق من امتناع وجود المندوب في الواجب ثم لو كان
تنزيل لفظ الأمر على المتيقن لازماً لكان جعله حقيقة في رفع الحرج عن الفعل
أولى لكونه متيقناً بخلاف المندوب فإنه متميز بكون الفعل مترجحاً على
الترك وهو غير متيقن.
المسألة الثالثة اختلف الأصوليون في الأمر العري
عن القرائن: فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وجماعة من الفقهاء
والمتكلمين إلى أنه مقتض للتكرار المستوعب لزمان العمر مع الإمكان وذهب
آخرون إلى أنه للمرة الواحدة ومحتمل للتكرار ومنهم من نفى احتمال التكرار
وهو اختيار أبي الحسين البصري وكثير من الأصوليين ومنهم من توقف في الزيادة
ولم يقض فيها بنفي ولا إثبات وإليه ميل إمام الحرمين والواقفية.
والمختار
أن المرة الواحدة لا بد منها في الامتثال وهو معلوم قطعاً والتكرار محتمل
فإن اقترن به قرينة أشعرت بإرادة المتكلم التكرار حمل عليه وإلا كان
الاقتصار على المرة الواحدة كافياً والدليل على ذلك أنه إذا قال له: صل أو
صم فقد أمره بإيقاع فعل الصلاة والصوم وهو مصدر افعل والمصدر محتمل
للاستغراق والعدد ولهذا يصح تفسيره به فإنه لو قال لزوجته أنت طالق ثلاثاً
وقع به لما كان تفسيراً للمصدر وهو الطلاق ولو اقتصر على قوله أنت طالق لم
يقع سوى طلقة واحدة مع احتمال اللفظ للثلاث فإذا قال: صل فقد أمره بإيقاع
المصدر وهو الصلاة والمصدر محتمل للعدد فإن اقترن به قرينة مشعرة بإرادة
العدد حمل عليه وإلا فالمرة الواحدة تكون كافية ولهذا فإنه لو أمر عبده أن
يتصدق صدقة أو يشتري خبزاً أو لحماً فإنه يكتفي منه بصدقة واحدة وشراء واحد
ولو زاد على ذلك فإنه يستحق اللوم والتوبيخ لعدم القرينة الصارفة إليه وإن
كان اللفظ محتملاً له وإنما كان كذلك لأن حال الآمر متردد بين إرادة العدد
وعدم إرادته وإنما يجب العدد مع ظهور الإرادة ولا ظهور إذ الفرض فيما إذا
عدمت القرائن المشعرة به فقد بطل القول بعدم إشعار اللفظ بالعدد مطلقاً
وبطل القول بظهوره فيه وبالوقف أيضاً والاعتراض هاهنا يختلف باختلاف مذاهب
الخصوم فمن اعتقد ظهوره في التكرار اعترض بشبه.
الأولى: منها أن أوامر الشارع في الصوم والصلاة محمولة على التكرار فدل على إشعار الأمر به.
الثانية:
أن قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " يعم كل مشرك فقوله: صم وصل ينبغي أن
يعم جميع الأزمان لأن نسبة اللفظ إلى الأزمان كنسبته إلى الأشخاص.
الثالثة: أن قوله صم كقوله لا تصم ومقتضى النهي الترك أبداً فوجب أن يكون الأمر مقتضياً للفعل أبداً لاشتراكهما في الاقتضاء والطلب.
الرابعة: أن الأمر اقتضى فعل الصوم واقتضى اعتقاد وجوبه والعزم عليه أبدا فكذلك الموجب الآخر.
الخامسة: أن الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان فليس حمله على البعض أولى من البعض فوجب التعميم.
السادسة:
أنه لو لم يكن الأمر للتكرار لما صح الاستثناء منه لاستحالة الاستثناء من
المرة الواحدة ولا تطرق النسخ إليه لأن ذلك يدل على البدا وهو محال على
الله تعالى ولا حسن الاستفهام من الآمر أنك أردت المرة الواحدة أو التكرار
ولكان قول الآمر لغيره صل مرة واحدة غير مفيد وكان قوله صل مراراً تناقضاً
ولكان إذا لم يفعل المأمور ما أمر به في أول الوقت محتاجاً في فعله ثانياً
إلى دليل وهو ممتنع.
السابعة: أن الحمل على التكرار أحوط للمكلف لأنه إن كان للتكرار فقد حصل المقصود ولا ضرر وإن لم يكن للتكرار لم يكن فعله مضراً.
الثامنة: إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداده يقتضي استغراق الزمان وذلك يستلزم استدامة فعل المأمور به.
التاسعة:
قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " أي
فأتوا بما أمرتكم به ما استطعتم وذلك يقتضي وجوب التكرار.
العاشرة: أن
عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه قد جمع بطهارة واحدة
بين صلوات عام الفتح وقال: أعمداً فعلت هذا يا رسول الله؟ فقال: " نعم "
ولولا أنه فهم تكرار الطهارة من قوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم " " المائدة 6 " لما كان للسؤال معنى.
الحادية عشرة: أنه إذا قال الرجل لغيره: أحسن عشرة فلان فإنه يفهم منه التكرار والدوام.
وأما
شبه القائلين بامتناع احتمال التكرار فأولها أن من قال لغيره ادخل الدار
يعد ممتثلاً بالدخول مرة واحدة كما أنه يصير ممتثلاً لقوله اضرب رجلاً بضرب
رجل واحد ولذلك فإنه لا يلام بترك التكرار بل يلام من لامه عليه.
وثانيها: أنه لو قال القائل صام زيد صدق على المرة الواحدة من غير إدامة فليكن مثله في الأمر.
وثالثها: أنه لو حلف أنه ليصلين أو ليصومن برت يمينه بصلاة واحدة وصوم يوم واحد وعد آتياً بما التزمه فكذلك في الالتزام بالأمر.
ورابعها: أنه لو قال الرجل لوكيله طلق زوجتي لم يملك أكثر من تطليقة واحدة.
وخامسها: أنه لو كان الأمر للتكرار لكان قوله صل مراراً غير مفيد وكان قوله صل مرة واحدة نقصاً وليس كذلك.
وسادسها:
أنه لو كان مطلق الأمر للتكرار لكان الأمر بعبادتين مختلفتين لا يمكن
الجمع بينهما إما تكليفاً بما لا يطاق أو أن يكون الأمر بكل واحدة مناقضاً
للأمر بالأخرى وهو ممتنع.
وأما شبه القائلين بالوقف فأولها أن الأمر
بمطلقه غير ظاهر في المرة الواحدة ولا في التكرار ولهذا فإنه يحسن أن
يستفهم من الآمر عند قوله اضرب ويقال له مرة واحدة أو مراراً ولو كان
ظاهراً في أحد الأمرين لما حسن الاستفهام.
وثانيها: أنه لو كان ظاهراً
في المرة الواحدة لكان قول الآمر اضرب مرة واحدة تكراراً أو مراراً تناقضاً
وكذلك لو كان ظاهراً في التكرار.
والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين
بالتكرار هو أن حمل بعض الأوامر وإن كانت متكررة على التكرار لا يدل على
استفادة ذلك من ظاهرها وإلا كان ما حمل من الأوامر على المرة الواحدة كالحج
ونحوه مستفاداً من ظاهر الأمر ويلزم من ذلك إما التناقض أو اعتقاد الظهور
في أحد الأمرين دون الآخر من غير أولوية وهو محال.
فإن قيل: اعتقاد
الظهور في التكرار أولى لأن ما حمل من الأوامر على التكرار أكثر من المحمول
على المرة الواحدة وعند ذلك فلو جعلناه ظاهراً في المرة الواحدة لكان
المحذور اللازم من مخالفته في الحمل على التكرار أقل من المحذور اللازم من
جعله ظاهراً في التكرار عند حمله على المرة الواحدة.
قلنا: هذا إنما
يلزم أن لو قلنا إن الأمر ظاهر في أحد الأمرين وليس كذلك بل الأمر عندنا
إنما يقتضي إيقاع مصدر الفعل والمرة الواحدة من ضروراته لا أن الأمر ظاهر
فيها وكذلك في التكرار فحمل الأمر على أحدهما بالقرينة لا يوجب مخالفة
الظاهر في الآخر لعدم تحققه فيه.
وعن الثانية: وإن سلمنا أن العموم في
قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " " التوبة 5 " أنه يتناول كل مشرك فليس ذلك
إلا لعموم اللفظ ولا يلزم مثله فيما نحن فيه لعدم العموم في قوله صم
بالنسبة إلى جميع الأزمان بل لو قال صم في جميع الأزمان كان نظيراً لقوله
اقتلوا المشركين.
وعن الثالثة: لا نسلم أن النهي المطلق للدوام وإنما
يقتضيه عند التصريح بالدوام أو ظهور قرينة تدل عليه كما في الأمر وإن سلمنا
اقتضاءه للدوام لكن ما ذكروه من إلحاق الأمر بالنهي بواسطة الاشتراك
بينهما في الاقتضاء فرع صحة القياس في اللغات وقد أبطلناه وإن سلمنا صحة
ذلك غير أنا نفرق وبيانه من وجهين: الأول أن من أمر غيره أن يضرب فقد أمره
بإيقاع مصدره وهو الضرب فإذا ضرب مرة واحدة يصح أن يقال: وجد الضرب وإذا
قال له لا تضرب فمقتضاه عدم إيقام الضرب فإذا انتهى في بعض الأوقات دون
البعض يصح أن يقال: لم يعدم الضرب.
الثاني: إن حمل الأمر على التكرار
مما يفضي إلى تعطيل الحوائج المهمة وامتناع الإتيان بالمأمورات التي لا
يمكن اجتماعها بخلاف الانتهاء عن المنهي مطلقاً.
وعن الرابعة: أنها غير
متجهة وذلك لأن دوام اعتقاد الوجوب عند قيام دليل الوجوب ليس مستفاداً من
نفس الأمر وإنما هو من أحكام الإيمان فتركه يكون كفراً والكفر منهي عنه
دائماً ولهذا كان اعتقاد الوجوب دائماً في الأوامر المقيدة.
وأما العزم
فلا نسلم وجوبه ولهذا فإن من دخل عليه الوقت وهو نائم لا يجب على من حضره
إنباهه ولو كان العزم واجباً في ذلك الوقت لوجب عليه كما لو ضاق وقت
العبادة وهو نائم وإن سلمنا وجوب العزم لكن لا نسلم وجوبه دائماً بل هو تبع
لوجوب المأمور به وإن سلمنا وجوبه دائماً فلا نسلم كونه مستفاداً من نفس
الأمر ليلزم ما قيل بل إنما هو مستفاد من دليل اقتضى دوامه غير الأمر
الوارد بالعبادة ولهذا وجب في الأوامر بالفعل مرة واحدة.
وعن الخامسة:
أنها باطلة من جهة أن الأمر غير مشعر بالزمان وإنما الزمان من ضرورات وقوع
الفعل المأمور به ولا يلزم من عدم اختصاصه ببعض الأزمنة دون البعض التعميم
كالمكان.
وعن السادسة: وهي قولهم لو كان الأمر للمرة الواحدة لما دخله
النسخ ليس كذلك عندنا فإنه لو أمر بالحج في السنة المستقبلة جاز نسخه عندنا
قبل التمكن من الامتثال على ما يأتي وإنما ذلك لازم على المعتزلة وأما
دخول الاستثناء فمن أوجب الفعل على الفور يمنع منه ومن أوجبه على التراخي
فلا يمنع من استثناء بعض الأوقات التي المكلف مخير في إيقاع الواجب فيها
وأما حسن الاستفهام فإنما كان لتحصيل اليقين فيما اللفظ محتمل له تأكيداً
فإنه محتمل لإرادة التكرار وإرادة المرة الواحدة وبه يخرج الجواب عن قوله
صل مرة وحدة وقوله صل مراراً غير متناقض بل غايته دلالة الدليل على إرادة
التكرار المحتمل وإذا لم يفعل ما أمر به في أول الوقت فمن قال بالتراخي لا
يحتاج إلى دليل آخر لأن مقتضى الأمر المطلق عنده تخيير المأمور في إيقاع
الفعل في أي وقت شاء من ذلك الوقت ومن قال بالفور فلا بد له من دليل في
ثاني الحال.
وعن السابعة: ما سبق في الواجب والمندوب.
وعن الثامنة:
لا نسلم أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده وإن سلم ذلك ولكن اقتضاء النهي
للأضداد بصفة الدوام فرع كون الأمر مقتضياً للفعل على الدوام وهو محل
النزاع.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر " الحديث إنما يلزم أن لو كان ما زاد على المرة الواحدة مأموراً به وليس كذلك.
وأما
حديث عمر فلا يدل على أنه فهم أن الأمر بالطهارة يقتضي تكرارها بتكرر
الصلاة بل لعله أشكل عليه أنه للتكرار فسأل النبي عن عمده وسهوه في ذلك
لإزاحة الإشكال بمعرفة كونه للتكرار إن كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم
سهواً أو لا للتكرار إن كان فعله عمداً كيف وإن فهم عمر لذلك مقابل بإعراض
النبي صلى الله عليه وسلم عن التكرار ولو كان للتكرار لما أعرض عنه وله
الترجيح.
وأما الشبهة الأخيرة فإنما عم الأمر فيها بالإكرام وحسن
العشرة للأزمان لأن ذلك إنما يقصد به التعظيم وذلك يستدعي استحقاق المأمور
بإكرامه للإكرام وهو سبب الأمر فمهما لم يعلم زوال ذلك السبب وجب دوام
المسبب فكان الدوام مستفاداً من هذه القرينة لا من مطلق الأمر.
والجواب
عن الشبهة الأولى للقائلين بامتناع احتمال الأمر المطلق للتكرار أن ذلك يدل
على أن الأمر غير ظاهر في التكرار ولا يلزم منه امتناع احتماله له ولهذا
فإنه لو قال ادخل الدار مراراً بطريق التفسير فإنه يصح ويلزم ولو عدم
الاحتمال لما صح التفسير.
وعن الثانية: أن ذلك قياس في اللغات فلا يصح
وبه دفع الشبهة الثالثة وإذا قال لوكيله طلق زوجتي إنما لم يملك ما زاد على
الطلقة الواحدة لعدم ظهور الأمر فيها لا لعدم الاحتمال لغة ولهذا لو قال
طلقها ثلاثاً على التفسير صح.
وعن الخامسة: ما سبق.
وعن السادسة:
أنها باطلة وذلك لأن زيادة المشقة من حمل الأمر على التكرار إما أن لا يكون
منافياً له أو يكون منافياً: فإن كان الأول فلا اتجاه لما ذكروه وإن كان
الثاني فغايته تعذر العمل بالأمر في التكرار عند لزوم الحرج فيلون ذلك
قرينة مانعة من صرف الأمر إليه ولا يلزم من ذلك امتناع احتماله له لغة
وجواب شبهة القائلين بالوقف ما سبق في جواب من تقدم والله أعلم.
المسألة
الرابعة الأمر المعلق بشرط كقوله: " إذا زالت الشمس فصلوا " أو صفة كقوله:
" الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " " النور 2 " هل
يقتضي تكرار المأمور به بتكرر الشرط والصفة أم لا؟ فمن قال إن الأمر المطلق
يقتضي التكرار فهو هاهنا أولى ومن قال إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار
اختلفوا هاهنا فمنهم من أوجبه ومنهم من نفاه.
وقبل الخوض في الحجاج لا
بد من تلخيص محل النزاع فنقول ما علق به المأمور من الشرط أو الصفة إما أن
يكون قد ثبت كونه علة في نفس الأمر لوجوب الفعل المأمور به كالزنا أو لا
يكون كذلك بل الحكم متوقف عليه من غير تأثير له فيه كالإحصان الذي يتوقف
عليه الرجم في الزنا فإن كان الأول فالاتفاق واقع على تكرر الفعل بتكرره
نظراً إلى تكرر العلة ووقوع الاتفاق على التعبد باتباع العلة مهم وجدت
فالتكرار مستند إلى تكرار العلة لا إلى الأمر وإن كان الثاني فهو محل
الخلاف والمختار أنه لا تكرار.
وقد احتج القائلون بهذا المذهب بحجج واهية لا بد من التنبيه عليها وعلى ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة
الأولى أنهم قالوا: أجمعنا على أن الخبر المعلق بالشرط أو الصفة لا يقتضي
تكرار المخبر عنه كما لو قال: إن جاء زيد جاء عمرو فإنه لا يلزم تكرر مجيء
عمرو في تكرر مجيء زيد فكذلك في الأمر وهي باطلة فإن حاصلها يرجع إلى
القياس في اللغة وقد أبطلناه.
الثانية أنه لو قال لزوجته: إذا دخلت
الدار فأنت طالق فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول فكذلك في قوله إذا "
زالت الشمس فصلوا " وهو أيضاً من جنس ما تقدم لما فيه من قياس الأمر على
إنشاء الطلاق الذي ليس بأمر.
الثالثة أن اللفظ لا دلالة فيه إلا على
تعليق شيء بشيء وهو أعم من تعليقه عليه في كل صورة أو في صورة واحدة
والمشعر بالأعم لا يلزم أن يكون مشعراً بالأخص وحاصل هذه الحجة أيضاً يرجع
إلى محض الدعوى بأن الأمر المضاف إلى الشرط أو الصفة لا يفهم منه اقتضاء
التكرار بتكرر الشرط أو الصفة وهو عين محل النزاع وإنما الواجب أن يقال إنه
مشعر بالأعم والأصل عدم إشعاره بالأخص والمعتمد في ذلك أن يقال: لو وجب
التكرار لم يخل إما أن يكون المقتضي له نفس الأمر أو الشرط أو مجموع
الأمرين: لا جائز أن يقال بالأول لما سبق في المسألة المتقدمة ولا بالثاني
لأن الشرط غير مؤثر في المشروط بحيث يلزم من وجوده وجوده بل إنما تأثيره في
انتفاء المشروط عند انتفائه وحيث قيل بملازمة المشروط لوجود الشرط في قوله
لزوجته إن دخلت الدار فأنت طالق إنما كان لضرورة وجود الموجب وهو قوله:
أنت طالق لا لنفس دخول الدار وإلا كان دخول الدار موجباً للطلاق مطلقاً وهو
محال ولا جائز أن يقال بالثالث لأنا أجمعنا على أنه لو قال لعبده: إذا
دخلت السوق فاشتر لحماً أنه لا يقتضي التكرار وذلك إما أن يكون مع تحقق
الموجب للتكرار أو لا مع تحققه لا جائز أن يقال بالأول وإلا فانتفاء
التكرار إما لمعارض أو لا لمعارض: والأول ممتنع لما فيه من المعارضة وتعطيل
الدليل عن أعماله وهو خلاف الأصل والثاني أيضاً باطل لما فيه من مخالفة
الدليل من غير معارض فلم يبق سوى الثاني وهو المطلوب فإن قيل: ما ذكرتموه
معارض من وجوه: الأول: أنه قد وجد في كتاب الله تعالى أوامر متعلقة بشروط
وصفات وهي متكررة بتكررها كقوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " "
المائدة 6 " الآية وقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " "
المائدة 38 " " والزانية والزاني " " النور 2 " الآية ولو لم يكن ذلك
مقتضياً للتكرار لما كان متكرراً.
الثاني: أن العلة يتكرر الحكم بتكررها إجماعاً والشرط أقوى من العلة لانتفاء الحكم بانتفائه بخلاف العلة فكان اقتضاؤه للتكرار أولى.
الثالث:
أن نسبة الحكم إلى إعداد الشرط المعلق عليه نسبة واحدة ولا اختصاص له
بالموجود الأول منها دون ما بعده وعند ذلك فإما أن يلزم من انتفاء الحكم مع
وجود الشرط ثانياً وثالثاً انتفاؤه مع وجود الشرط الأول أو من وجوده مع
الأول الوجود مع الثاني وما بعده ضرورة التسوية: والأول خلاف الإجماع
والثاني هو المطلوب.
الرابع: أنه لو لم يكن الأمر مقتضياً لتعليق الحكم
بجميع الشروط بل بالأول منها فليزم أن يكون فعل العبادة مع الشرط الثاني
دون الأول قضاء وكانت مفتقرة إلى دليل آخر وهو ممتنع.
الخامس: أن النهي
المعلق بالشرط مفيد للتكرار كما إذا قال: إن دخل زيد الدار فلا تعطه درهماً
والأمر ضد النهي فكان مشاركاً له في حكمه ضرورة اشتراكهما في الطلب
والاقتضاء.
السادس: أن تعليق الأمر على الشرط الدائم موجب لدوام المأمور
به بدوامه كما لو قال: إذا وجد شهر رمضان فصمه فإن الصوم يكون دائماً
بدوام الشهر وتعليق الأمر على الشرط المتكرر في معناه فكان دائماً.
والجواب
عن الأول أنه إذا ثبت بما ذكرناه أن الأمر المعلق بالشرط والصفة غير مقتض
للتكرار فحيث قضي بالتكرار إما أن يكون الشرط والصفة علة للحكم المكرر في
نفس الأمر كما في الزنا والسرقة أو لا يكون علة له: فإن كان الأول فالتكرار
إنما كان لتكرر العلة الموجبة للحكم ولا كلام فيه وإن كان الثاني فيجب
اعتقاد كونه متكرراً لدليل اقتضاه غير الأمر المعلق بالشرط والصفة لما
ذكرناه من عدم اقتضائه كيف وإنه كما قد يتكرر الفعل المأمور به بتكرر الشرط
فقد لا يتكرر كالأمر بالحج فإنه مشروط بالاستطاعة وهو غير متكرر بتكررها.
وعن الثاني: أنه لا يلزم من تكرر الحكم بتكرر العلة لكونها موجبة للحكم تكرره بتكرر الشرط مع أنه غير موجب للحكم كما تقرر.
وعن
الثالث: أنه إنما يلزم القائلين بالوجوب على الفور وليس كذلك عندنا بل
الأمر مقتض للامتثال مع استواء التقديم والتأخير فيه إذا علم تجدد الشرط
وغلب على الظن بقاء المأمور ويكون الأمر قد اقتضى تعلق المأمور به على
الشروط كلها على طريق البدل من غير اختصاص له ببعضها دون بعض وأما إن لم
يغلب على الظن تجدد الشرط ولا بقاء المأمور إلى حالة وجود الشرط الثاني فقد
تعين اختصاص المأمور بالشرط الأول لعدم تحقق ما سواه.
وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الرابع أيضاً.
وعن
الخامس: أن حاصله يرجع إلى قياس الأمر على النهي في اللغة وهو باطل بما
سبق كيف وإنا لا نسلم أن النهي المضاف إلى الشرط يتكرر بتكرر الشرط بل ما
اقتضاه النهي إنما هو دوام المنع عند تحقق الشرط الأول سواء تجدد الشرط
ثانياً أو لم يتجدد.
وعن السادس: أن الشرط المستشهد به وإن كان له دوام
في زمان معين والحكم موجود معه فهو واحد والمشروط به غير متكرر بتكرره وعند
ذلك فلا يلزم من لزوم وجود المشروط عند تحقق شرطه من غير تكرر لزوم التكرر
بتكرر الشرط في محل النزاع.
المسألة الخامسة اختلفوا في الأمر المطلق
هل يقتضي تعجيل فعل المأمور به؟ فذهبت الحنفية والحنابلة وكل من قال بحمل
الأمر على التكرار إلى وجوب التعجيل وذهبت الشافعية والقاضي أبو بكر وجماعة
من الأشاعرة والجبائي وابنه وأبو الحسين البصري إلى التراخي وجواز التأخير
عن أول وقت الإمكان وأما الواقفية فقد توقفوا: لكن منهم من قال: التوقف
إنما هو في المؤخر هل هو ممتثل أو لا؟ وأما المبادر فإنه ممتثل قطعاً لكن
هل يأثم بالتأخير؟ اختلفوا فيه: فمنهم من قال بالتأثيم وهو اختيار إمام
الحرمين ومنهم من لم يؤثمه ومنهم من توقف في المبادر أيضاً وخالف في ذلك
إجماع السلف.
والمختار أنه مهما فعل كان مقدماً أو مؤخراً كان ممتثلاً
للأمر ولا إثم عليه بالتأخير والدليل على ذلك أن الأمر حقيقة في طلب الفعل
لا غير فمهما أتى بالفعل في أي زمان كان مقدماً أو مؤخراً كان آتياً بمدلول
الأمر فيكون ممتثلاً للأمر ولا إثم عليه بالتأخير لكونه آتياً بما أمر به
على الوجه الذي أمر به وبيان أن مدلول الأمر طلب الفعل لا غير وجهان:
الأول: أنه دليل على طلب الفعل بالإجماع والأصل عدم دلالته على أمر خارج
والزمان وإن كان لا بد منه من ضرورة وقوع الفعل المأمور به ولا يلزم أن
يكون داخلاً في مدلول الأمر فإن اللازم من الشيء أعم من الداخل في معناه
ولا أن يكون متعيناً كما لا تتعين الآلة في الضرب ولا الشخص المضروب وإن
كان ذلك من ضرورات امتثال الأمر بالضرب.
الوجه الثاني: أنه يجوز ورود
الأمر بالفعل على الفور وعلى التراخي ويصح مع ذلك أن يقال بوجود الأمر في
الصورتين والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا مشترك بين الصورتين سوى طلب الفعل
لأن الأصل عدم ما سواه فيجب أن يكون هو مدلول الأمر في الصورتين دون ما به
الاقتران من الزمان وغيره نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ.
فإن قيل: ما
ذكرتموه في بيان امتناع خروج الوقت عن الدخول في مقتضى الأمر معارض بما
يدل على نقيضه وبيانه من خمسة وجوه: الأول: أنه إذا قال السيد لعبده: اسقني
ماء فإنه يفهم منه تعجيل السقي حتى أنه يحسن لوم العبد وذمه في نظر
العقلاء بتقدير التأخير ولولا أنه من مقتضيات الأمر لما كان كذلك إذ الأصل
عدم القرينة.
الثاني: هو أن مدلول الأمر وهو الفعل المأمور به لا يقع
إلا في وقت وزمان فوجب أن يكون الأمر مقتضياً للفعل في أقرب زمان كالمكان
وكما لو قال لزوجته أنت طالق ولعبده أنت حر فإن مدلول لفظه يقع على الفور
في أقرب زمان.
الثالث: أن الأمر مشارك للنهي في مطلق الطلب والنهي مقتض للامتثال على الفور فوجب أن يكون الأمر كذلك.
الرابع:
أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداد المأمور به مقتض
للانتهاء عنها على الفور وذلك متوقف على فعل المأمور به على الفور فكان
الأمر مقتضياً له على الفور.
الخامس: أنه تعالى عاتب إبليس ووبخه على
مخالفة الأمر بالسجود لآدم في الحال بقوله: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك "
" الأعراف 12 " ولو لم يكن الأمر بالسجود مقتضياً له في الحال لما حسن
توبيخه عليه ولكان تلك عذراً لإبليس في تأخيره.
سلمنا عدم دلالة
الأمر على وجوب الفعل على الفور لفظاً لكن لم قلتم إنه لا يكون مستلزماً له
بواسطة دلالته على أصل الوجوب؟ وبيان ذلك من وجوه أربعة: الأول: أن الأمر
إذا دل على وجوب الفعل فقد أجمعنا على وجوب اعتقاده على الفور مع أن ذلك لم
يكن مقتضى للأمر بل هو من لوازم مقتضاه فكان مقتضاه على الفور أولى
لإصالته.
الثاني: أن إجماع السلف منعقد على أن المبادر يخرج عن عهدة الأمر ولا إجماع في المؤخر فكان القول بالتعجيل أحوط وأولى.
الثالث: أن الفعل واجب بالاتفاق فلو جاز تأخيره إما أن يجوز إلى غاية معينة أو لا إلى غاية.
فإن
جاز تأخيره إلى غاية معينة فإما أن تكون معلومة للمأمور أو لا تكون معلومة
له فإن كانت معلومة له فإما أن تكون مذكورة بأن يقال له: إلى عشرة أيام
مثلاً أو موصوفة الأول خلاف الفرض إذ الفرض فيما إذا كان أمراً مطلقاً غير
مقيد بوقت في الذكر وإن كان الثاني فالوقت الموصوف لا يخرج بالإجماع عن
الوقت الذي إذا انتهى إليه غلب على ظنه أنه لو أخر المأمور به عنه لفات
وذلك لا يكون إلا بأمارة تدل عليه وهي الإجماع غير خارجة عن المرض المرجو
وعلو السن وكل واحد من الأمرين مضطرب مختلف فإنه قد يموت قبل ذلك أو يعيش
بعده فلا يعتمد عليه وإن كانت الغاية غير معلومة له مع أنه لا يجوز له
التأخير عنها كان ذلك تكليفاً بما لا يطاق وهو ممتنع وهذا كله فيما إذا جاز
التأخير إلى غاية.
وإن كان التأخير لا إلى غاية فإما أن يجوز ذلك ببدل
أو لا ببدل: فإن كان ببدل فذلك البدل إما أن يكون واجباً أو غير واجب: لا
جائز أن لا يكون واجباً وإلا لما كان بدلاً عن الواجب بالإجماع وإن كان
واجباً فهو ممتنع لوجوه أربعة: الأول أنه لو كان واجباً لوجب أنباه المأمور
حالة ورود الأمر نحوه على من حضره حذراً من فوات الواجب الذي هو البدل كما
لو ضاق عليه الوقت وكان نائماً الثاني هو أن الأمر لا تعرض فيه لوجوب
البدل والأصل عدم دليل آخر ويمتنع القول بوجوب ما لا دليل عليه الثالث أن
البدل لو كان واجباً لكان قائماً مقام المبدل ومحصلاً لمقصوده وإلا لما كان
بدلاً لما فيه من فوات مقصود الأصل ويلزم من ذلك سقوط المأمور به بالكلية
بتقدير الإتيان بالبدل ضرورة حصول مقصوده وهو محال الرابع أنه لو كان البدل
واجباً لم يخل إما أن يجوز تأخيره عن الوقت الثاني من ورود الأمر أو لا
يجوز: فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في أصل المأمور به وهو تسلسل
ممتنع وإن كان الثاني فهو أيضاً ممتنع لأن البدل لا يزيد على نفس المبدل
ووقت المبدل غير معين فكذلك البدل وإن جاز التأخير أبداً لا ببدل ففيه
إخراج الواجب عن حقيقته وهو محال.
الرابع: من الوجوه الأول أن امتثال
المأمور به من الخيرات وهو سبب الثواب فوجب تعجيله لقوله تعالى: " فاستبقوا
الخيرات " " البقرة 148 " وقوله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة
عرضها السماوات والأرض " " آل عمران 133 " أمر بالمسارعة والمسابقة وهي
التعجيل والأمر للوجوب.
والجواب عن الوجه الأول أنه إنما فهم التعجيل من
أمر السيد بسقي الماء من الظن الحاصل بحاجة السيد إليه في الحال إذ الظاهر
أنه لا يطلب سقي الماء من غير حاجة إليه حتى أنه لو لم يعلم أو يظن أن
حاجته إليه داعية في الحال لما فهم من أمره التعجيل ولا حسن ذم العبد
بالتأخير.
فإن قيل: أهل العرف إنما يذمون العبد بمخالفة مطلق الأمر
ويقولون في معرض الذم خالف أمر سيده وذلك يدل على أن مطلق الأمر هو المقتضي
للتعجيل دون غيره.
قلنا: إنما نسلم صحة ذلك في الأمر المقيد بالقرينة
دون المطلق والأمر فيما نحن فيه مقيد ثم هو معارض عند مطلق الأمر بصحة عذر
العبد بقوله إنما أخرت لعدم علمي وظني بدعو حاجته إليه في الحال وليس أحد
الأمرين أولى من الآخر وعن الثاني من وجهين: الأول: لا نسلم تعين أقرب
الأماكن ولا نسلم أن قوله: أنت طالق وأنت حر يفيد صحة الطلاق والعتق بوضعه
له لغة بل ذلك لسبب جعل الشرع له علامة على ذلك الحكم الخالي ولا يلزم من
ذلك أن يكون الأمر موضوعاً للفور.
الثاني: أن حاصله يرجع إلى القياس في اللغة وهو ممتنع كما سبق.
وعن الثالث والرابع: ما سبق في المسألة المتقدمة.
وعن
الخامس: أن توبيخه لإبليس إنما كان ذلك لإبائه واستكباره ويدل عليه قوله
تعالى: " إلا إبليس أبى واستكبر " " البقرة 34 " ولتخيره على آدم بقوله: "
أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " " ص 76 " ولا يمكن إضافة
التوبيخ إلى مطلق الأمر من حيث هو أمر لأنه منقسم إلى أمر إيجاب واستحباب
كما سبق تقريره ولا توبيخ على مخالفة أمر الاستحباب إجماعاً ولو كان
التوبيخ على مطلق الأمر لكان أمر الاستحباب موبخاً على مخالفته فلم يبق إلا
أن يكون التوبيخ على أمر الإيجاب وهو منقسم إلى أمر إيجاب على الفور وأمر
إيجاب على التراخي كما إذا قال: أوجبت عليك متراخياً ولا يلزم منه أن يكون
مطلق الأمر للإيجاب حالاً وإن سلمنا أنه وبخه على مخالفة الأمر في الحال
ولكن لا نسلم أن الأمر بالسجود كان مطلقاً بل هو مقترن بقرينة لفظية موجبة
لحمله على الفور وهي قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له
ساجدين " رتب السجود على هذه الأوصاف بفاء التعقيب وهي مقتضية للسجود عقبها
على الفور من غير مهلة.
قولهم: لم قلتم بأنه لا يكون مستلزماً للفور بواسطة دلالته على وجوب الفعل؟ قلنا: الأصل عدم ذلك.
قولهم إنه يجب تعجيل اعتقاد وجوب الفعل قلنا ولم يلزم منه تعجيل وجوب الفعل.
قولهم
إنه من لوازم وجوب الفعل قلنا من لوازم وجوب تقديم الفعل أو من لوازم وجوب
الفعل الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لا يلزم منه وجوب تقديم الفعل بدليل
ما لو أوجب الفعل مصرحاً بتأخيره فإنه يجب تعجيل اعتقاد وجوبه وإن لم يكن
وجوب الفعل على الفور.
قولهم القول بالتعجيل أحوط للمكلف قلنا الاحتياط
إنما هو باتباع المكلف ما أوجبه ظنه: فإن ظن الفور وجب عليه اتباعه وإن ظن
التراخي وجب عليه اتباعه وإلا فبتقدير أن يكون قد غلب على ظنه التراخي
فالقول بوجوب التعجيل على خلاف ظنه يكون حراماً وارتكاب المحرم يكون
إضراراً فلا يكون احتياطاً.
قولهم: لو جاز التأخير إما أن يكون إلى غاية
أو لا إلى غاية إلى آخره فهو منقوض بما لو صرح الآمر بجواز التأخير فإن كل
ما ذكروه من الأقسام متحقق فيه مع جواز تأخيره وما ذكروه من الآيتين
الأخيرتين فهو غير دال على وجوب تعجيل الفعل المأمور به فإنهما بمنطوقهما
يدلان على المسارعة إلى الخيرات والمغفرة والمراد به إنما هو المسارعة إلى
سبب ذلك ودلالتهما على السبب إنما هي بجهة الاقتضاء والاقتضاء لا عموم له
على ما يأتي تقريره فلا دلالة لهما على المسارعة إلى كل سبب للخيرات
والمغفرة فيختص ذلك بما اتفق على وجوب تعجيله من الأفعال المأمور بها ولا
يعم كل فعل مأمور به.
المسألة السادسة الأمر بالشيء على التعيين هل هو
نهي عن أضداده؟ اختلفوا فيه وتفصيل المذاهب: أما أصحابنا فالأمر عندهم هو
الطلب القائم بالنفس وقد اختلفوا: فمنهم من قال الأمر بالشيء بعينه نهي عن
أضداده وإن طلب الفعل بعينه طلب ترك أضداده وهو قول القاضي أبي بكر في أول
أقواله ومنهم من قال: هو نهي عن أضداده بمعنى أنه يستلزم النهي عن الأضداد
لا أن الأمر هو عين المنهي وهو آخر ما اختاره القاضي في أخر أقواله ومنهم
من منع من ذلك مطلقاً وإليه ذهب إمام الحرمين والغزالي.
وأما المعتزلة
فالأمر عندهم نفس صيغة افعل وقد اتفقوا على أن عين صيغة افعل لا تكون نهياً
لأن صيغة النهي لا تفعل وليس إحداهما عين الأخرى وإنما اختلفوا في أن
الآمر بالشيء هل يكون نهياً عن أضداده من جهة المعنى: فذهب القدماء من
مشايخ المعتزلة إلى منعه ومن المعتزلة من صار إليه كالعارضي وأبي الحسين
البصري وغيرهما من المعتبرين منهم ومعنى كونه نهياً عن الأضداد من جهة
المعنى عندهم أن صيغة الأمر تقتضي إيجاد الفعل والمنع من كل ما يمنع منه
ومنهم من فصل بين أمر الإيجاب والندب وحكم بأن أمر الإيجاب يكون نهياً عن
أضداده ومقبحاً لها لكونها مانعة من فعل الواجب بخلاف المندوب ولهذا فإن
أضداد المندوب من الأفعال المباحة غير منهي عنها لا نهي تحريم ولا نهي
تنزيه.
رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
هذا ما يخص الاسم المجازي وأما ما يخص الاسم المشترك فهو أن اللفظ
المشترك موضوع في اللغة لأحد أمرين مختلفين على سبيل البدل ولا يلزم من ذلك
أن يكون موضوعاً لهما على الجمع إذ المغايرة بين المجموع وبين كل واحد من
أفراده واقعة بالضرورة والمساواة بينهما في جميع الأحكام غير لازمة وعلى
هذا فلا يلزم من كون كل واحد من المفردين مسمى باسم تسمية المجموع به وعند
ذلك فالواضع إذا وضع لفظا لأحد مفهومين على سبيل البدل فإن لم يكن قد وضعه
لمجموعهما فاستعماله في المجموع استعمال اللفظ في غير ما وضع له وهو ممتنع
وإن كان قد وضعه له فإما أن يستعمل اللفظ لإفادة المجموع وحده أو لإفادته
مع إفادة الأفراد.
فإن كان الأول لم يكن اللفظ مفيداً لأحد مفهوماته لأن
الواضع إن كان قد وضعه بازاء أمور ثلاثة على البدل واحدها ذلك المجموع
فاستعمال اللفظ فيه وحده لا يكون استعمالاً للفظ في جميع مفهوماته وإن
استعمله في إفادة المجموع والأفراد على الجمع فهو محال لأن إفادة الجموع
معناها أن الاكتفاء لا يحصل إلا به وإفادته للمفرد معناها أنه يحصل
الاكتفاء بكل واحد منها وهو جمع بين النقيضين وهو محال فلا يكون اللفظ
المشترك من حيث هو مشترك ممكن الاستعمال في إفادة مفهوماته جملة.
وأما
على دليل الوقوع لغة أما النص الأول فقد قال الغزالي فيه إن لفظ الصلاة
المطلق على صلاة الله تعالى والملائكة إنما هو باعتبار اشتراكهما في معنى
العناية بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم إظهاراً لشرفه وحرمته فهو لفظ
متواطئ لا مشترك وكذلك لفظ السجود في الآية الأخرى فإن مسماه إنما هو القدر
المشترك من معنى الخضوع لله تعالى والدخول تحت تسخيره وإرادته وقال أبو
هاشم: وإن سلم اختلاف المسمى وإرادتهما بلفظ واحد فلا يبعد أن يقال إن ذلك
من قبيل ما نقلته الشريعة من الأسماء اللغوية إلى غير معانيها في اللغة.
فأما
قول سيبويه فإنه وإن دل على أن العرب وضعت قوله الويل لك للخبر والدعاء
معاً فليس فيه ما يدل على أن كل الألفاظ المشتركة أو الألفاظ التي هي حقيقة
في شيء ومجاز في شيء موضوعة للجمع كيف وإن قول سيبويه لا يدل على كون ذلك
القول مستعملاً في الخبر والدعاء معاً بل جاز أن يكون موضوعاً للخبر وهو
مستعمل في الدعاء مجازاً لا معاً.
أجاب المثبتون عن الاعتراض الأول على
الإمكان بمنع أن المستعمل للفظة في حقيقتها ومجازها مريد لاستعمالها فيما
وضعت له ومريد للعدول بها عما وضعت له بل هو مريد لما وضعت له حقيقة ولما
لم توضع له حقيقة.
وعن الثاني أن إضمار التشبيه وعدمه في الكلمة الواحدة
إنما يمتنع بالنسبة إلى شيء واحد وأما بالنسبة إلى شيئين فلا كيف وإن ذلك
لا يطرد في كل مجاز.
وعن الثالث أنه مبني على أن الاسم المشترك موضوع
لأحد مسمياته على سبيل البدل حقيقة وليس كذلك عند الشافعي والقاضي أبي بكر
بل هو حقيقة في المجموع كسائر الألفاظ العامة ولهذا فإنه إذا تجرد عن
القرينة عندهما وجب حمله على الجميع وإنما فارق باقي الألفاظ العامة من جهة
تناوله لأشياء لا تشترك في معنى واحد يصلح أن يكون مدلولاً للفظ بخلاف
باقي العمومات فنسبه اللفظ المشترك في دلالته إلى جملة مدلولاتها وإلى
أفرادها كنسبة غيره من الألفاظ العامة إلى مدلولاتها جملة وأفراداً.
وعلى
هذا فقد بطل كل ما قيل من التقسيم المبني على أن اللفظ المشترك موضوع لأحد
مسمياته على طريق البدل حقيقة ضرورة كونه مبنياً عليه وإنما هو لازم على
مشايخ المعتزلة المعتقدين كون اللفظ المشترك موضوعاً لأحد مسمياته حقيقة
على طريق البدل.
فإن قيل: وإن كان اللفظ المشترك حقيقة في الجمع فلا
خفاء بجواز استعماله في آحاد مدلولاته عند ظهور القرينة عند الشافعي
والقاضي أبي بكر وسواء كان ذلك حقيقة أو مجازاً وعند ذلك فاستعماله في
المجموع وإن كان على وجه لا يدخل فيه الأفراد فإن كان اللفظ حقيقة في
الأفراد فاللفظ يكون مشتركاً ولم يدخل فيه جميع مسمياته وإن كان مجازاً فلم
تدخل فيه الحقيقة والمجاز معاً وهو خلاف مذهبكم وإن كان على وجه يدخل فيه
الأفراد فهو محال لأن إفادته للمجموع معناها أن الاكتفاء لا يحصل إلا به
وإفادته للإفراد معناها أنه يحصل الإكتفاء بكل واحد منها وهو جمع بين
النقيضين كما سبق.
قلنا: استعماله في الأفراد متى يكون معناه
الاكتفاء بها إذا كانت داخلة في المجموع أو إذا لم تكن داخلة فيه والأول
ممنوع بل معنى استعماله فيها أنه لا بد منها والثاني مسلم ولا يلزم منه
التناقض على كلا التقديرين أما على تقدير العمل باللفظ في آحاد أفراده مع
الاقتصار عند ظهور القرينة فلأن الجملة غير مشترطة في الاكتفاء وأما عند
كون الأفراد داخلة في مسمى الجملة فلأنها لا بد منها لا بمعنى أنه يكتفى
بها.
فإن قيل: وإذا كانت الأفراد داخلة في مسمى الجملة فليس للفظ عليها
دلالة بجهة الحقيقة ولا بجهة التجوز بل بطريق الملازمة الذهنية وليست دلالة
لفظية ليلزم ما قيل.
قلنا: لا خفاء بدخول الأفراد في الجملة فتكون
مفهومة من اللفظ الدال على الجملة فله عليها دلالة وهي إما أن تكون بجهة
الحقيقة أو التجوز لما سبق.
وعن الاعتراض الأول على النصوص أنه لو كان
مسمى الصلاة هو القدر المشترك من الاعتناء ومسمى السجود القدر المشترك من
الخضوع والانقياد لاطرد الاسم باطرادهما وليس كذلك فإنه لا يسمى كل اعتناء
بأمر صلاة ولا كل خضوع وانقياد سجوداً وإن كان المسمى باسم الصلاة اعتناء
خاصاً فلا بد من تصويره وبيان الاشتراك فيه.
فإن قيل: يجب اعتقاده نفياً
للتجوز والاشتراك عن اللفظ فهو مبني على أن التجوز والاشتراك على خلاف
الأصل وإنما يكون كذلك إن لو تعذر الجمع وهو محل النزاع.
وعن اعتراض أبي هاشم أنه مبني على تحقيق الأسماء الشرعية ونقلها من موضوعاتها في اللغة وهو باطل على ما سبق من مذهب القاضي أبي بكر.
وعن
الاعتراض على قول سيبويه: أما الأول فلأنه إنما يلزم أن لو كان الاستدلال
بقول سيبويه على أن كل لفظ مشترك أو مجاز يجب أن يكون موضوعاً لمجموع
مسمياته وليس كذلك بل إنما قصد به بيان الوقوع لا غير.
وأما الثاني فلأنه لا انفكاك في قوله الويل لك عن الخبر والدعاء واللفظ واحد ولا معنى لاستعماله فيهما سوى فهمهما منه عند إطلاقه.
المسألة
الثامنة نفي المساواة بين الشيئين كما في قوله تعالى: " لا يستوي أصحاب
النار وأصحاب الجنة " " الحشر 20 " يقتضي نفي الاستواء في جميع الأمور عند
أصحابنا القائلين بالعموم خلافاً لأبي حنيفة فإنه قال: إذا وقع التفاوت ولو
من وجه واحد فقد وفى بالعمل بدلالة اللفظ.
حجة أصحابنا أنه إذا قال
القائل: لا مساواة بين زيد وعمرو فالنفي داخل على مسمى المساواة فلو وجدت
المساواة من وجه لما كان مسمى المساواة منتفياً وهو خلاف مقتضى اللفظ.
فإن
قيل الاستواء ينقسم إلى الاستواء من كل وجه وإلى الاستواء من بعض الوجوه
ولهذا يصدق قول القائل: استوى زيد وعمرو عند تحقق كل واحد من الأمرين
والاستواء مطلقاً أعم من الاستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه والنفي إنما
دخل على الاستواء الأعم فلا يكون مشعراً بأحد القسمين الخاصين وأيضاً فإنه
لا يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء من بعض الوجوه وإلا لوجب إطلاق لفظ
المتساويين على جميع الأشياء لأنه ما من شيئين إلا ولا بد من استوائهما في
أمر ما ولو في نفي ما سواهما عنهما ولو صدق ذلك وجب أن يكذب عليه غير
المساوي لتناقضهما عرفاً ولهذا فإن من قال: هذا مساو لهذا فمن أراد تكذيبه
قال: لا يساويه والمتناقضان لا يصدقان معاً ويلزم من ذلك أن لا يصدق على
شيئين أنهما غير متساويين وذلك باطل فعلم أنه لا بد في اعتبار المساواة من
التساوي من كل وجه وعند ذلك فيكفي في نفي المساواة نفي الاستواء من بعض
الوجوه لأن نقيض الكلي الموجب جزئي سالب فثبت أن نفي المساواة لا يقتضي نفي
المساواة من كل وجه وأيضاً فإنه لو كان نفي المساواة يقتضي نفي المساواة
من كل وجه لما صدق نفي المساواة حقيقة على شيئين أصلاً لأنه ما من شيئين
إلا وقد استويا في أمر ما كما سبق وهو على خلاف الأصل إذ الأصل في الإطلاق
الحقيقة دون المجاز.
والجواب عن الأول أن ذكر الأعم متى لا يكون مشعراً
بالأخص إذا كان ذلك في طرف الإثبات أو النفي؟ الأول مسلم والثاني ممنوع
ولهذا فإنه لو قال القائل: " ما رأيت حيواناً وكان قد رأى إنساناً أو غيره
من أنواع الحيوان فإنه يعد كاذباً.
وعن الثاني لا نسلم أنه لا يكفي في إطلاق لفظ المساواة التساوي من بعض الوجوه.
قولهم: لو كفى ذلك لوجب إطلاق لفظ المتساويين على جميع الأشياء لما قرر مسلم.
قولهم:
يلزم من ذلك أن يكذب عليه غير المساوي وهو باطل بما قرر فهو مقابل بمثله
وهو أن يقال لا يكفي في إطلاق نفي المساواة نفي المساواة من بعض الوجوه
وإلا لوجب إطلاق نفي المساواة على كل شيئين لأنه ما من شيئين إلا وقد
تفاوتا من وجه ضرورة تعينهما ولو صدق ذلك لوجب أن يكذب عليه المساوي
لتناقضهما عرفاً ولهذا فإن من قال: هذا غير مساو لهذا فمن أراد تكذيبه قال:
إنه مساو له والمتناقضان لا يصدقان معاً ويلزم من ذلك أن لا يصدق على
شيئين أنهما متساويان وذلك باطل فإنه ما من شيئين إلا ولا بد من استوائهما
ولو في نفي ما سواهما عنهما فعلم أنه لا بد في اعتبار نفي المساواة من نفي
المساواة من كل وجه وعند ذلك فيكفي في إثبات المساواة المساواة من بعض
الوجوه لأن نقيض الكلي السالب جزئي موجب وفيه إبطال ما ذكر من عدم الاكتفاء
في إطلاق لفظ المساواة بالمساواة من وجه وإذا تقابل الأمران سلم لنا ما
ذكرناه أولاً.
وعن الثالث لا نسلم صدق نفي المساواة مطلقاً على ما وقع التساوي بينهما من وجه.
قولهم:
الأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا: إلا أن يدل الدليل على مخالفته ودليله ما
ذكرناه وفي معنى نفي المساواة قوله تعالى: " ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلاً " " النساء 141 " .
المسألة التاسعة المقتضي وهو ما
أضمر ضرورة صدق المتكلم لا عموم له وذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "
رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " فإنه أخبر عن رفع الخطأ
والنسيان ويتعذر حمله على حقيقته لإفضائه إلى الكذب في كلام الرسول ضرورة
تحقق الخطأ والنسيان في حق الأمة فلا بد من إضمار حكم يمكن نفيه من الأحكام
الدنيوية أو الأخروية ضرورة صدقه في كلامه وإذا كانت أحكام الخطأ والنسيان
متعددة فيمتنع إضمار الجميع إذ الإضمار على خلاف الأصل والمقصود حاصل
بإضمار البعض فوجب الاكتفاء به ضرورة تقليل مخالفة الأصل.
فإن قيل: ما
ذكرتموه إنما يصح أن لو لم يكن لفظ الرفع دالاً على رفع جميع أحكام الخطأ
والنسيان وليس كذلك وبيانه أن قوله: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان يدل على
رفعهما مستلزماً لرفع أحكامهما فإذا تعذر العمل به في نفي الحقيقة تعين
العمل به في نفي الأحكام سلمنا أنه لا دلالة عليها وضعاً ولكن لم قلتم بأنه
لا يدل عليها بعرف الاستعمال؟ ولهذا يقال ليس للبلد سلطان وليس له ناظر
ولا مدبر والمراد به نفي الصفات سلمنا أنه لا يدل عليها بعرف الاستعمال غير
أن اللفظ دال على رفع الخطأ والنسيان فإذا تعذر ذلك وجب إضمار جميع
الأحكام لوجهين الأول أنه يجعل وجود الخطأ والنسيان كعدمه والثاني أنه لا
يخلو إما أن يقال بإضمار الكل أو البعض أو لا بإضمار شيء أصلاً والقول بعدم
الإضمار خلاف الإجماع وليس إضمار البعض أولى من البعض ضرورة تساوي نسبة
اللفظ إلى الكل فلم يبق سوى إضمار الجميع.
والجواب: عن الأول أن اللفظ
إنما يستلزم نفي الأحكام بواسطة نفي حقيقة الخطأ والنسيان فإذا لم يكن
الخطأ والنسيان متيقناً فلا يكون مستلزماً لنفي الأحكام.
وعن الثاني أن
الأصل إنما هو العمل بالوضع الأصلي وعدم العرف الطارئ فمن ادعاه يحتاج إلى
بيانه وما ذكروه من الاستشهاد بالصور فلا نسلم صحة حملها على جميع الصفات
وإلا لما كان السلطان موجوداً ولا عالماً ولا قادراً ونحو ذلك من الصفات
وهو محال.
وعن الثالث قولهم: إضمار جميع الأحكام يكون أقرب إلى المقصود
من نفي الحقيقة قلنا: إلا أنه يلزم منه تكثير مخالفة الدليل المقتضي
للأحكام وهو وجود الخطأ والنسيان.
قولهم ليس إضمار البعض أولى من البعض
إنما يصح أن لو قلنا بإضمار حكم معين وليس كذلك بل بإضمار حكم ما والتعيين
إلى الشارع فإن قيل فيلزم من ذلك الإجمال في مراد الشارع وهو على خلاف
الأصل قلنا: لو قيل بإضمار الكل لزم منه زيادة الإضمار وتكثير مخالفة
الدليل كما سبق وكل واحد منهم على خلاف الأصل.
ثم ما ذكرناه من الأصول إما أن تكون راجحة على ما ذكروه أو مساوية له أو مرجوحة فإن كانت راجحة لزم العمل بها.
وإن
كانت مساوية فهو كاف لنا في هذا المقام في نفي زيادة الإضمار وهما تقديران
وما ذكروه إنما يمكن التمسك به على تقدير كونه راجحاً ولا يخفى أن ما يتم
التمسك به على تقديرين أرجح مما لا يمكن التمسك به إلا على تقدير واحد.
المسألة
العاشرة الفعل المتعدي إلى مفعول كقوله: والله لا آكل أو إن أكلت فأنت
طالق هل يجري مجرى العموم بالنسبة إلى مفعولاته أم لا؟ اختلفوا فيه: فأثبته
أصحابنا والقاضي أبو يوسف ونفاه أبو حنيفة.
وتظهر فائدة الخلاف في أنه
لو نوى به مأكولاً معيناً قبل عند أصحابنا حتى إنه لا يحنث بأكل غيره بناء
على عموم لفظه له وقبول العام للتخصيص ببعض مدلولاته ولا يقبل عند أبي
حنيفة تخصيصه به لأن التخصيص من توابع العموم ولا عموم.
حجة أصحابنا أما
في طرف النفي وذلك عند ما إذا قال: والله لا أكلت أن قوله: أكلت فعل يتعدى
إلى المأكول ويدل عليه بوضعه وصيغته فإذا قال: لا أكلت فهو ناف لحقيقة
الأكل من حيث هو أكل ويلزم من ذلك نفيه بالنسبة إلى كل مأكول وإلا لما كان
نافياً لحقيقة الأكل من حيث هو أكل وهو خلاف دلالة لفظه وإذا كان لفظه
دالاً على نفي حقيقة الأكل بالنسبة إلى كل مأكول فقد ثبت عموم لفظه بالنسبة
إلى كل مأكول فكان قابلاً للتخصيص.
وأما في طرف الإثبات وهو ما إذا
قال: إن أكلت فأنت طالق فلا يخفى أن وقوع الأكل المطلق يستدعي مأكولاً
مطلقاً لكونه متعدياً إليه والمطلق ما كان شائعاً في جنس المقيدات الداخلة
تحته فكان صالحاً لتفسيره وتقييده بأي منها كان ولهذا لو قال الشارع: أعتق
رقبة صح تقييدها بالرقبة المؤمنة ولو لم يكن للمطلق على المقيد دلالة لما
صح تفسيره به.
فإن قيل: يلزم على ما ذكرتموه الزمان والمكان فإن حقيقة
الأكل لا تتم نفياً ولا إثباتاً إلا بالنسبة إليهما ومع ذلك لو نوى بلفظه
مكاناً معيناً أو زماناً معيناً فإنه لا يقبل.
قلنا لا نسلم ذلك وإن
سلمنا فالفرق حاصل وذلك لأن الفعل وهو قوله أكلت غير متعد إلى الزمان
والمكان بل هو من ضرورات الفعل فلم يكن اللفظ دالاً عليه بوضعه فلذلك لم
يقبل تخصيص لفظه به لأن التخصيص عبارة عن حمل اللفظ على بعض مدلولاته لا
على غير مدلولاته بخلاف المأكول على ما سبق.
فإن قيل: إذا قال: إن أكلت فأنت طالق فالأكل الذي هو مدلول لفظه كلي مطلق والمطلق لا إشعار له بالمخصص فلا يصح تفسيره به.
قلنا:
المحلوف عليه ليس هو المفهوم من الأكل الكلي الذي لا وجود له إلا في
الأذهان وإلا لما حنث بالأكل الخاص إذ هو غير المحلوف عليه وهو خلاف
الإجماع فلم يبق إلا أن يكون المراد به أكلاً مقيداً من جملة الأكلات
المقيدة التي يمكن وقوعها في الأعيان أياً منها كان وإذا كان لفظه لا إشعار
له بغير المقيد صح تفسيره به كما إذا قال: أعتق رقبة وفسره بالرقبة
المؤمنة كما سبق.
المسألة الحادية عشرة الفعل وإن انقسم إلى أقسام وجهات
فالواقع منه لا يقع إلا على وجه واحد منها فلا يكون عاماً لجميعها بحيث
يحمل وقوعه على جميع جهاته وذلك كما روي عنه عليه السلام أنه صلى داخل
الكعبة فصلاته الواقعة يحتمل أنها كانت فرضاً ويحتمل أنها كانت نفلاً ولا
يتصور وقوعها فرضاً نفلاً فيمتنع الاستدلال بذلك على جواز الفرض والنفل في
داخل الكعبة جميعاً إذ لا عموم للفعل الواقع بالنسبة إليهما ولا يمكن تعيين
أحد القسمين إلا بدليل.
وأما ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى
بعد غيبوبة الشفق فالشفق اسم مشترك بين الحمرة والبياض فصلاته يحتمل أنها
وقعت بعد الحمرة ويحتمل أنها وقعت بعد البياض فلا يمكن حمل ذلك على وقوع
فعل الصلاة بعدهما على رأي من لا يرى حمل اللفظ المشترك على جميع محامله
وإنما يمكن ذلك على رأي من يرى ذلك كما سبق تحقيقه فإن قول الراوي صلى بعد
غيبوبة الشفق ينزل منزلة قوله: صلى بعد الشفقين.
وفي هذا المعنى
أيضاً قول الراوي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر
فإنه يحتمل وقوع ذلك في وقت الأولى ويحتمل وقوعه في وقت الثانية وليس في
نفس وقوع الفعل ما يدل على وقوعه فيهما بل في أحدهما والتعين متوقف على
الدليل وأما وقوع ذلك منه صلى الله عليه وسلم متكرراً على وجه يعم سفر
النسك وغيره فليس أيضاً في نفس وقوع الفعل ما يدل عليه بل إن كان ولا بد
فاستفادة ذلك إنما هي من قول الراوي كان يجمع بين الصلاتين.
ولهذا فإنه إذا قيل: كان فلان يكرم الضيف يفهم منه التكرار دون القصور على المرة الواحدة.
وعلى
هذا أيضاً يجب أن يعلم أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم واجباً كان
عليه أو جائزاً له لا عموم له بالإضافة إلى غيره بل هو خاص في حقه إلا أن
يدل دليل من خارج على المساواة بينه وبين غيره في ذلك الفعل كما لو صلى
وقال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " أو غير ذلك.
فإن قيل: فقد أجمعت الأمة
على تعميم سجود السهو في كل سهو بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه سها
في الصلاة فسجد وكذلك اتفقوا على تعميم ما نقل عن عائشة أنها قالت: كنت
أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة في حق كل
أحد حتى إن الشافعي استدل بذلك على طهارة مني الآدمي واستدل به أبو حنيفة
على جواز الاقتصار على الفرك في حق غير النبي مع حكمه بنجاسته.
وكذلك
إجماعهم على وجوب الغسل من التقاء الختانين بقول عائشة: فعلته أنا ورسول
الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان
إذا سئل عن حكم أجاب بما يخصه وأحال معرفة ذلك على فعل نفسه فمن ذلك لما
سألته أم سلمة عن الاغتسال قال: أما أنا فأفيض الماء على رأسي ومن ذلك أنه
لما سئل عن قبلة الصائم قال أنا أفعل ذلك ولولا أن للفعل عموماً لما كان
ذلك.
قلنا: أما تعميم سجود السهو فإنه إنما كان لعموم العلة وهي السهو
من حيث إنه رتب السجود على السهو بفاء التعقيب وهو دليل العلة كما يأتي
ذكره لا لعموم الفعل وكذلك الحكم في قوله: زنى ماعز فرجم وفي قوله: رضخ
يهودي رأس جارية فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه.
وأما العمل
بخبر عائشة في فرك المني ووجوب الغسل من التقاء الختانين وإفاضة الماء على
الرأس وقبلة الصائم فكل ذلك مستند إلى القياس لا إلى عموم الفعل لتعذره كما
سبق والله أعلم.
المسألة الثانية عشرة قول الصحابي: نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن بيع الغرر وقوله: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالشفعة للجار ونحوه اختلفوا في تعميمه لكل غرر وكل جار.
والذي عليه
معول أكثر الأصوليين أنه لا عموم له لأنه حكاية الراوي ولعله رأى النبي صلى
الله عليه وسلم قد نهى عن فعل خاص لا عموم له فيه غرر وقضى لجار مخصوص
بالشفعة فنقل صيغة العموم لظنه عموم الحكم ويحتمل أنه سمع صيغة ظنها عامة
وليست عامة ويحتمل أنه سمع صيغة عامة وإذا تعارضت الاحتمالات لم يثبت
العموم والاحتجاج إنما هو بالمحكي لا بنفس الحكاية.
ولقائل أن يقول: وإن
كانت هذه الاحتمالات منقدحة غير أن الصحابي الراوي من أهل العدالة
والمعرفة باللغة فالظاهر أنه لم ينقل صيغة العموم إلا وقد سمع صيغة لا يشك
في عمومها لما هو مشتمل عليه من الداعي الديني والعقلي المانع له من إيقاع
الناس في ورطة الالتباس واتباع ما لا يجوز اتباعه وبتقدير أن لا يكون
قاطعاً بالعموم فلا يكون نقله للعموم إلا وقد ظهر له العموم والغالب إصابته
فيما ظنه ظاهراً فكان صدقه فيما نقله غالباً على الظن ومهما ظن صدق الراوي
فيما نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب اتباعه.
المسألة الثالثة
عشرة مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه إذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بحكم
في واقعة خاصة وذكر علته أنه يعم من وجدت في حقه تلك العلة خلافاً للقاضي
أبي بكر.
وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم في حق أعرابي محرم وقصت به
ناقته " لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيباً فإنه يحشر يوم القيامة ملبياً "
وكقوله صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد: " زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم
يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً " وكما لو قال الشارع: حرمت المسكر
لكونه حلواً عم التحريم كل حلو.
والحق في ذلك أنه إن ادعى عموم الحكم
نظراً إلى الصيغة الواردة فهو باطل قطعاً كيف وإنه لو كان التنصيص على
إثبات الحكم المعلل يقتضي بعمومه الحكم في كل محل وجدت فيه العلة لكان
للوكيل إذا قال له الموكل اعتق عبدي سالماً لكونه أسود أن يعتق كل عبد أسود
له كما لو قال اعتق عبيدي السودان وليس كذلك بالإجماع.
وإن قيل بالعموم
نظراً إلى الاشتراك في العلة فهو الحق ولا يلزم من التعميم في الحكم
بالعلة المشتركة شرعاً مثله فيما إذا قال لوكيله اعتق عبدي سالماً لكونه
أسود إذ الوكيل إنما يتصرف بأمر الموكل لا بالقياس على ما أمره به وعلى هذا
فالفائدة في ذكر العلة معرفة كون الحكم معللاً إلا أن يكون اللفظ الدال
على الحكم عاما لغير محل التنصيص.
وما يقوله القاضي أبو بكر من أنه
يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علل ذلك في حق الأعرابي بما علمه
من موته مسلماً مخلصاً في عبادته محشوراً ملبياً وقصت به ناقته لا بمجرد
إحرامه وفي قتلى أحد بعلو درجتهم في الجهاد وتحقق شهادتهم لا بمجرد الجهاد
وفي تحريم المسكر لكونه حلواً مسكراً وذلك كله غير معلوم في حق الغير وإن
كان ما ذكروه منقدحاً غير أنه على خلاف ما ظهر من تعليله عليه السلام بمجرد
الإحرام والجهاد وترك ما ظهر من التعليل لمجرد الاحتمال ممتنع.
المسألة
الرابعة عشرة اختلفوا في دلالة المفهوم تفريعاً على القول به: هل لها عموم
أو لا؟ وكشف الغطاء عن ذلك أن نقول: المفهوم ينقسم إلى مفهوم الموافقة وهو
ما كان حكم السكوت عنه موافقاً لحكم المنطوق كما يأتي تحقيقه فإن كان من
قبيل مفهوم الموافقة كما في تحريم ضرب الوالدين من تنصيصه على تحريم
التأفيف لهما فحكم التحريم وإن كان شاملاً للصورتين لكن مع اختلاف جهة
الدلالة فثبوته في صورة النطق بالمنطوق وفي صورة السكوت بالمفهوم فلا
المنطوق عام بالنسبة إلى الصورتين ولا المفهوم من غير خلاف وإنما الخلاف في
عموم المفهوم بالنسبة إلى صورة السكوت ولا شك أن حاصل النزاع فيه آيل إلى
اللفظ.
فإن من قال بكونه عاماً بالنسبة إليهما إنما يريد به ثبوت الحكم
به في جميعها لا بالدلالة اللفظية وذلك مما لا خلاف فيه بين القائلين
بالمفهوم.
ومن نفي العموم كالغزالي فلم يرد به أن الحكم لم يثبت به في
جميع صور السكوت إذ هو خلاف الفرض وإنما أراد نفي ثبوته مستنداً إلى
الدلالة اللفظية وذلك مما لا يخالف فيه القائل بعموم المفهوم.
وأما
مفهوم المخالفة كما في نفي الزكاة عن المعلوفة من تنصيصه صلى الله عليه
وسلم على وجوب الزكاة في الغنم السائمة فلا شك أيضاً بأن اللفظ فيه غير عام
بمنطوقه للصورتين ولا بمفهومه وإنما النزاع في عمومه بالنسبة إلى جميع صور
السكوت وحاصل النزاع أيضاً فيه آيل إلى اللفظ كما سبق في مفهوم الموافقة.
المسألة الخامسة عشرة العطف على العام هل يوجب العموم في المعطوف اختلفوا فيه فمنع أصحابنا من ذلك وأوجبه أصحاب أبي حنيفة رحمه الله.
ومثاله
استدلال أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالذمي بقوله صلى الله عليه وسلم "
لا يقتل مسلم بكافر " وهو عام بالنسبة إلى كل كافر حربياً كان أو ذمياً.
فقال
أصحاب أبي حنيفة: لو كان ذلك عاماً للذمي لكان المعطوف عليه كذلك وهو
قوله: ولا ذو عهد في عهده ضرورة الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في
الحكم وصفته وليس كذلك فإن الكافر الذي لا يقتل به المعاهد إنما هو الكافر
الحربي دون الذمي احتج أصحابنا بثلاثة أمور: الأول أن المعطوف لا يستقل
بنفسه في إفادة حكمه واللفظ الدال على حكم المعطوف عليه لا دلالة له على
حكم المعطوف بصريحه وإنما أضمر حكم المعطوف عليه في المعطوف ضرورة الإفادة
وحذراً من التعطيل والإضمار على خلاف الأصل فيجب الاقتصار فيه على ما تندفع
به الضرورة وهو التشريك في أصل الحكم دون تفصيله من صفة العموم وغيره
تقليلاً لمخالفة الدليل.
الثاني: أنه قد ورد عطف الخاص على العام في
قوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " " البقرة 228 " فإنه
عام في الرجعية والبائن وقوله: " وبعولتهن أحق بردهن " " البقرة 228 " خاص
وورد عطف الواجب على المندوب في قوله تعالى: " فكاتبوهم " " النور 33 "
فإنه للندب وقوله: " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " " النور 33 " للإيجاب
وورد عطف الواجب على المباح في قوله تعالى: " كلوا من ثمره إذا أثمر " "
الأنعام 141 " فإنه للإباحة وقوله: " وآتوا حقه " " الأنعام 141 " للإيجاب
ولو كان الأصل هو الاشتراك في أصل الحكم وتفصيله لكان العطف في جميع هذه
المواضع على خلاف الأصل وهو ممتنع.
الثالث: أن الاشتراك في أصل الحكم متيقن وفي صفته محتمل فجعل العطف أصلاً في المتيقن دون المحتمل أولى.
فإن قيل ما ذكرتموه معارض بما يدل على وجوب التشريك بينهما في أصل الحكم وتفصيله وبيانه من وجهين.
الأول: أن حرف العطف يوجب جعل المعطوف والمعطوف عليه في حكم جملة واحدة فالحكم على أحدهما يكون حكماً على الأخرى.
الثاني:
أن المعطوف إذا لم يكن مستقلاً بنفسه فلا بد من إضمار حكم المعطوف عليه
فيه لتحقق الإفادة وعند ذلك لا يخلو إما أن يقال بإضمار كل ما ثبت للمعطوف
عليه للمعطوف أو بعضه لا جائز أن يقال بالثاني لأن الإضمار إما لبعض معين
أو غير معين: القول بالتعيين ممتنع إذ هو غير واقع من نفس العطف كيف وإنه
ليس البعض أولى من البعض الآخر والقول بعدم التعيين موجب للإبهام والإجمال
في الكلام وهو خلاف الأصل فلم يبق سوى القسم الأول وهو المطلوب.
قلنا:
جواب الأول أن العطف يوجب جعل المعطوف والمعطوف عليه في حكم جملة واحدة
فيما فيه العطف أو في غيره؟ الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم إن ما زاد
على أصل الحكم معتبر في العطف إذ هو محل النزاع.
وجواب الثاني أن نقول بالتشريك في أصل الحكم المذكور دون صفته وهو مدلول اللفظ من غير إبهام ولا إجمال.
المسألة
السادسة عشرة إذا ورد خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: "
يا أيها المزمل قم الليل " " المزمل 1 " " يا أيها المدثر قم فأنذر " "
المدثر 1 " " يا أيها النبي اتق الله لئن أشركت ليحبطن عملك " لا يعم الأمة
ذلك الخطاب عند أصحابنا خلافاً لأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأصحابهما في
قولهم إنه يكون خطاباً للأمة إلا ما دل الدليل فيه على الفرق.
ودليلنا
في ذلك أن الخطاب الوارد نحو الواحد موضوع في أصل اللغة لذلك الواحد فلا
يكون متناولاً لغيره بوضعه ولهذا فإن السيد إذا أمر بعض عبيده بخطاب يخصه
لا يكون أمراً للباقين وكذلك في النهي والإخبار وسائر أنواع الخطاب كيف
وإنه من المحتمل أن يكون الأمر للواحد المعين مصلحة له وهو مفسدة في حق
غيره وذلك كما في أمر الطبيب لبعض الناس بشرب بعض الأدوية فإنه لا يكون ذلك
أمراً لغيره لاحتمال التفاوت بين الناس في الأمزجة الأحوال المقتضية لذلك
الأمر ولهذا خص النبي صلى الله عليه وسلم بأحكام لم يشاركه فيها أحد من
أمته من الواجبات والمندوبات والمحظورات والمباحات ومع امتناع اتحاد الخطاب
وجواز الاختلاف في الحكمة والمقصود يمتنع التشريك في الحكم اللهم إلا أن
يقوم دليل من خارج يدل على الاشتراك في العلة الداعية إلى ذلك الحكم
فالاشتراك في الحكم يكون مستنداً إلى نفس القياس لا إلى نفس الخطاب الخاص
بمحل التنصيص أو دليل آخر.
فإن قيل: نحن لا ننكر أن الخطاب الخاص
بالواحد لا يكون خطاباً لغيره مطلقاً بل المدعي أن من كان مقدماً على قوم
وقد عقدت له الولاية والإمارة عليهم وجعل له منصب الاقتداء به فإنه إذا قيل
له: اركب لمناجزة العدو وشن الغارة عليه وعلى بلاده فإن أهل اللغة يعدون
ذلك أمراً لأتباعه وأصحابه وكذلك إذا أخبر عنه بأنه قد فتح البلد الفلاني
وكسر العدو فإنه يكون إخباراً عن أتباعه أيضاً والنبي صلى الله عليه وسلم
ممن قد ثبت كونه قدوة للأمة ومتبعاً لهم فأمره ونهيه يكون أمراً ونهياً
لأمته إلا ما دل الدليل فيه على الفرق ويدل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى: "
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن " " الطلاق 1 " ولم يقل
إذا طلقت النساء فطلقهن وذلك يدل على أن خطابه خطاب لأمته وأيضاً قوله
تعالى: " فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في
أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً " " الأحزاب 37 " أخبره أنه إنما
أباحه ذلك ليكون ذلك مباحاً للأمة ولو كانت الإباحة خاصة به لما انتفى
الحرج عن الأمة وأيضاً فإنه قد ورد الخطاب بتخصيصه عليه السلام بأحكام دون
أمته كقوله تعالى: " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي " " الأحزاب 35 "
إلى قوله: " خالصة لك من دون المؤمنين " " الأحزاب 35 " وكقوله تعالى: "
ومن الليل فتهجد به نافلة لك " " الإسراء 1 " ولو لم يكن الخطاب المطلق له
خطاباً لأمته بل خاصاً به لما احتيج إلى بيان التخصيص به هاهنا.
وما
ذكرتموه من احتمال التفاوت في المصلحة والمفسدة فغير قادح مع ظهور المشاركة
في الخطاب كما تقرر ولهذا جاز تكليف الكل مع هذا الاحتمال لظهور الخطاب
وجاز تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع عند ظن الاشتراك في الداعي مع احتمال
التفاوت بين الأصل والفرع في المصلحة والمفسدة.
والجواب لا نسلم أن أمر
المقدم يكون أمراً لاتباعه لغة ولهذا فإنه يصح أن يقال: أمر المقدم ولم
يأمر الأتباع وأنه لو حلف أنه لم يأمر الأتباع لم يحنث بالإجماع ولو كان
أمره للمقدم أمراً لاتباعه لحنث نعم غايته أنه يفهم عند أمر المقدم بالركوب
وشن الغار لزوم توقف مقصود الأمر على اتباع أصحابه له فكان ذلك من باب
الاستلزام لا من باب دلالة اللفظ مطابقة ولا ضمناً ولا يلزم مثله في خطاب
النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من العبادات أو بتحريم شيء من الأفعال أو
إباحتها من حيث إنه لا يتوقف المقصود من ذلك على مشاركة الأمة له في ذلك.
وقوله
تعالى: " إذا طلقتم النساء " " الطلاق 1 " فخطاب عام مع الكل على وجه يدخل
فيه النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأمة وتخصيص النبي في أول الآية
بالنداء جرى مجرى التشريف والتكريم له كيف وإن في الآية ما يدل على أن خطاب
النبي لا يكون خطاباً للأمة فإنه لو كان كذلك لما احتيج إلى قوله: " طلقتم
النساء فطلقوهن " لأن قوله: " إذا طلقت النساء فطلقهن " كاف في خطاب الأمة
مع اتساقه مع أول الآية.
وقوله تعالى: " فلما قضى زيد منها وطراً " "
الأحزاب 37 " لا حجة فيه على المقصود وقوله: " لكي لا يكون على المؤمنين
حرج " ليس فيه ما يدل على أن نفي الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم
مدلول لقوله: " زوجناكها " بل غايته أن رفع الحرج عن النبي صلى الله عليه
وسلم كان لمقصود رفع الحرج عن المؤمنين وذلك حاصل بقياسهم عليه بواسطة دفع
الحاجة وحصول المصلحة وعموم الخطاب غير متعين لذلك.
وما ذكروه من الآيات
الدالة على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكروه لا يدل على أن مطلق
الخطاب له عام لأمته بل إنما كان ذلك لقطع إلحاق غيره به في تلك الأحكام
بطريق القياس ولو لم يرد التخصيص لأمكن الإلحاق بطريق القياس.
المسألة
السابعة عشرة اختلفوا في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأحد من أمته: هل
هو خطاب للباقين أم لا؟ فنفاه أصحابنا وأثبته الحنابلة وجماعة من الناس
ودليلنا ما سبق في المسألة التي قبلها.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنص
والإجماع والمعنى أما النص فقوله تعالى: " وما أرسلناك إلا كافة للناس " "
سبأ 28 " وقوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت إلى الناس كافة وبعثت إلى
الأحمر والأسود " وقوله: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " .
وأما
الإجماع فاتفاق الصحابة على رجوعهم في أحكام الحوادث إلى ما حكم به النبي
عليه السلام على آحاد الأمة فمن ذلك رجوعهم في حد الزنا إلى ما حكم به على
ماعز ورجوعهم في المفوضة إلى قصة بروع بنت واشق ورجوعهم في ضرب الجزية على
المجوس إلى ضربه عليه السلام الجزية على مجوس هجر ولولا أن حكمه على الواحد
حكم على الجماعة لما كان كذلك.
وأما المعنى فهو أن النبي صلى الله عليه
وسلم خصص بعض الصحابة بأحكام دون غيره فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم
لأبي بردة في التضحية بعناق " تجزئك ولا تجزئ أحداً بعدك " وقوله لأبي بكرة
لما دخل الصف راكعاً زادك الله حرصاً ولا تعد " وقوله لأعرابي زوجه بما
معه من القرآن هذا لك وليس لأحد بعدك وتخصيصه لخزيمة بقبول شهادته وحده
وتخصيصه لعبد الرحمن بن عوف بلبس الحرير ولولا أن الحكم بإطلاقه على الواحد
حكم على الأمة لما احتاج إلى التنصيص بالتخصيص.
والجواب عن الآية وعن
قوله " بعثت إلى الناس كافة وإلى الأحمر والأسود " أنه وإن كان مبعوثاً إلى
الناس كافة فبمعنى أنه يعرف كل واحد ما يختص به من الأحكام كأحكام المريض
والصحيح والمقيم والمسافر والحر والعبد والحائض والطاهر وغير ذلك ولا يلزم
من ذلك اشتراك الكل فيما أثبت للبعض منهم.
وعن قوله: " حكمي على الواحد
حكمي على الجماعة " أنه يجب تأويله على أن المراد به أنه حكم على الجماعة
من جهة المعنى والقياس لا من جهة اللفظ لثلاثة أوجه.
الأول: أن الحكم هو الخطاب وقد بينا في المسألة المتقدمة أن خطاب الواحد ليس هو بعينه خطاباً للباقين.
الثاني: أنه لو كان بعينه خطاباً للباقين لزم منه التخصيص بإخراج من لم يكن موافقاً لذلك الواحد في السبب الموجب للحكم عليه.
الثالث:
أنه لو كان خطابه المطلق للواحد خطاباً للجماعة لما احتاج إلى قوله: "
حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " أو كانت فائدته التأكيد والأصل في
الدلالات اللفظية إنما هو التأسيس ثم وإن كان حكمه على الواحد حكماً على
الجماعة فلا يلزم اطراده في حكمه للواحد أن يكون حكماً للجماعة فإنه فرق
بين حكمه للواحد وحكمه عليه والخلاف واقع في الكل.
وأما ما ذكروه من
رجوع الصحابة في أحكام الوقائع إلى حكمه على الآحاد فلا يخلو إما أن يقال
بذلك مع معرفتهم بالتساوي في السبب الموجب أو لا مع معرفتهم بذلك الثاني
خلاف الإجماع وإن كان الأول فمستند التشريك في الحكم إنما كان الاشتراك في
السبب لا في الخطاب وأما المعنى فقد سبق الجواب عنه في المسألة المتقدمة.
المسألة
الثامنة عشرة اتفق العلماء على أن كل واحد من المذكر والمؤنث لا يدخل في
الجمع الخاص بالآخر كالرجال والنساء وعلى دخولهما في الجمع الذي لم تظهر
فيه علامة تذكير ولا تأنيث كالناس وإنما وقع الخلاف بينهم في الجمع الذي
ظهرت فيه علامة التذكير كالمسلمين والمؤمنين هل هو ظاهر في دخول الإناث فيه
أو لا؟ فذهبت الشافعية والأشاعرة والجمع الكثير من الحنفية والمعتزلة إلى
نفيه وذهبت الحنابلة وابن داود وشذوذ من الناس إلى إثباته احتج النافون
بالكتاب والسنة والمعقول: أما الكتاب فقوله تعالى: " إن المسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات " " الأحزاب 35 " عطف جمع التأنيث على جمع المسلمين
والمؤمنين ولو كان داخلاً فيه لما حسن عطفه عليه لعدم فائدته.
وأما
السنة فما روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله إن النساء قلن: ما نرى
الله ذكر إلا الرجال فأنزل الله: " إن المسلمين والمسلمات " الآية ولو كن
قد دخلن في جمع التذكير لكن مذكورات وامتنعت صحة السؤال والتقرير عليه
وأيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " " ويل للذين يمسون
فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون " فقالت عائشة: هذا للرجال فما للنساء؟ ولولا
خروجهن من جمع الذكور لما صح السؤال ولا التقرير من النبي صلى الله عليه
وسلم.
وأما المعقول فهو أن الجمع تضعيف الواحد فقولنا: قام لا يتناول
المؤنث بالإجماع فالجمع الذي هو تضعيفه كقولنا: قاموا لا يكون متناولاً له.
فإن
قيل: أما الآية فالعطف فيها لا يدل على عدم دخول الإناث في جمع التذكير
قولكم: لا فائدة فيه ليس كذلك إذ المقصود منه إنما هو الإتيان بلفظ يخصهن
تأكيداً فلا يكون عرياً عن الفائدة.
وأما سؤال أم سلمة وعائشة فلم يكن لعدم دخول النساء في جمع الذكور بل لعدم تخصيصهن بلفظ صريح فيهن كما ورد في المذكر.
وأما
قولكم إن الجمع تضعيف الواحد فمسلم ولكن لم قلتم بامتناع دخول المؤنث فيه
مع أنه محل النزاع والذي يدل على دخول المؤنث في جمع التذكير ثلاثة أمور:
الأول: أن المألوف من عادة العرب أنه إذا اجتمع التذكير والتأنيث غلبوا
جانب التذكير ولهذا فإنه يقال للنساء إذا تمحضن: أدخلن وإن كان معهن رجل
قيل: ادخلوا قال الله تعالى لآدم وحواء وإبليس: " قلنا اهبطوا منها جميعاً "
" البقرة 38 " كما ألف منهم تغليب جمع من يعقل إذا كان معه من لا يعقل
ومنه قوله تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه " "
النور 45 " بل أبلغ من ذلك أنهم إذا وصفوا ما لا يعقل بصفة من يعقل غلبوا
فيه من يعقل ومنه قوله تعالى: " أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي
ساجدين " " يوسف 4 " جمعهم جمع من يعقل لوصفهم بالسجود الذي هو صفة من يعقل
وكتغليبهم الكثرة على القلة حتى إنهم يصفون بالكرم والبخل جمعاً أكثرهم
متصف بالكرم أو البخل وكتغليبهم في التثنية أحد الاسمين على الآخر كقولهم:
الأسودان للتمر والماء والعمران لأبي بكر وعمر والقمران للشمس والقمر.
الثاني:
أنه يستهجن من العربي أن يقول لأهل حلة أو قرية أنتم آمنون ونساؤكم آمنات
لحصول الأمن للنساء بقوله أنتم آمنون ولولا دخولهن في قوله أنتم آمنون لما
كان كذلك وكذلك لا يحسن منه أن يقول لجماعة فيهم رجال ونساء قوموا وقمن بل
لو قال قوموا كان ذلك كافياً في الأمر للنساء بالقيام ولولا دخولهن في جمع
التذكير لما كان كذلك.
الثالث: أن أكثر أوامر الشرع بخطاب المذكر مع
انعقاد الإجماع على أن النساء يشاركن الرجال في أحكام تلك الأوامر ولو لم
يدخلن في ذلك الخطاب لما كان كذلك.
والجواب: قولهم في الآية فائدة
التخصيص بلفظ يخصهن التأكيد قلنا: لو اعتقدنا عدم دخولهن في جمع التذكير
كانت فائدة تخصيصهن بالذكر التأسيس ولا يخفى أن فائدة التأسيس أولى في كلام
الشارع.
قولهم: سؤال أم سلمة وعائشة إنما كان لعدم تخصيص النساء بلفظ
يخصهن لا لعدم دخول النساء في جمع التذكير ليس كذلك أما سؤال أم سلمة فهو
صريح في عدم الذكر مطلقاً لا في عدم ذكر ما يخصهن بحيث قالت: ما نرى الله
ذكر إلا الرجال ولو ذكر النساء ولو بطريق الضمن لما صح هذا الإخبار على
إطلاقه وأما حديث عائشة فلأنها قالت هذا للرجال ولو كان الحكم عاماً لما صح
منها تخصيص ذلك بالرجال.
قولهم: المألوف من عادة العرب تغليب جانب
التذكير مسلم ونحن لا ننازع في أن العربي إذا أراد أن يعبر عن جمع فيهم
ذكور وإناث أنه يغلب جانب التذكير ويعبر بلفظ التذكير ويكون ذلك من باب
التجوز وإنما النزاع في أن جمع التذكير إذا أطلق هل يكون ظاهراً في دخول
المؤنث ومستلزماً له أو لا؟ وليس فيما قيل ما يدل على ذلك وهذا كما أنه يصح
التجوز بلفظ الأسد عن الإنسان ولا يلزم أن يكون ظاهرا فيه مهما أطلق.
فإن قيل: إذا صح دخول المؤنث في جمع المذكر فالأصل أن يكون مشعراً به حقيقة لا تجوزاً.
قلنا: ولو كان جمع التذكير حقيقة للذكور والإناث مع انعقاد الإجماع على أنه حقيقة في تمحض الذكور كان اللفظ مشتركاً وهو خلاف الأصل.
فإن قيل: ولو كان مجازاً لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد لدخول المسمى الحقيقي فيه وهم الذكور وهو ممتنع.
قلنا:
ليس كذلك فإنه لا يكون حقيقة في الذكور إلا مع الاقتصار وأما إذا كان
جزءاً من المذكور لا مع الاقتصار فلا كيف وإنا لا نسلم امتناع الجمع بين
الحقيقة والمجاز كما سبق تقريره.
وأما الوجه الثاني: فإنما استهجن من
العربي أن يقول: أنتم آمنون ونساؤكم آمنات لأن تأمين الرجال يستلزم الأمن
من جميع المخاوف المتعلقة بأنفسهم وأموالهم ونسائهم فلو لم تكن النساء
آمنات لما حصل أمن الرجال مطلقاً وهو تناقض أما أن ذلك يدل على ظهور دخول
النساء في الخطاب فلا وبه يظهر لزوم أمن النساء من الاقتصار على قوله
للرجال: أنتم آمنون.
وأما الوجه الثالث: فغير لازم وذلك أن النساء
وإن شاركن الرجال في كثير من أحكام التذكير فيفارقن للرجال في كثير من
الأحكام الثابتة بخطاب التذكير كأحكام الجهاد في قوله تعالى: " وجاهدوا في
الله حق جهاده " " الحج 78 " وأحكام الجمعة في قوله تعالى: " إذا نودي
للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع " " الجمعة 9 " إلى
غير ذلك من الأحكام ولو كان جمع التذكير مقتضياً لدخول الإناث فيه لكان
خروجهن عن هذه الأوامر على خلاف الدليل وهو ممتنع فحيث وقع الاشتراك تارة
والافتراق تارة علم أن ذلك إنما هو مستند إلى دليل خارج لا إلى نفس اقتضاء
اللفظ لذلك.
المسألة التاسعة عشرة إذا ورد لفظ عام لم تظهر فيه علامة
تذكير ولا تأنيث سوى لفظ الجمع مثل من في الشرط والجزاء هل يعم المذكر
والمؤنث؟ اختلفوا فيه فأثبته الأكثرون ونفاه الأقلون.
والمختار تفريعاً
على القول بالعموم دخول المؤنث فيه ودليله أنه لو قال القائل لعبده من دخل
داري فأكرمه فإن العبد يلام بإخراج الداخل من المؤنثات عن الإكرام ويلام
السيد بلوم العبد بإكرامهن وكذلك الحكم في النذر والوصية والأصل في كل ما
فهم من اللفظ أن يكون حقيقة فيه لا مجازاً.
فإن قيل: التعميم فيما
ذكرتموه إنما فهم من قرينة الحال وهي ما جرت به العادة من مقابلة الداخل
إلى دار الإنسان والحلول في منزله بالإكرام فكان ذلك من باب المجاز لا أنه
من مقتضيات اللفظ حقيقة.
قلنا: هذا باطل بما لو قال: من دخل داري فأهنه
فإنه يفهم منه العموم وإن كان على خلاف القرينة المذكورة وكذا لو قال له:
من قال لك ألف فقل له ب فإنه لا قرينة أصلاً والعموم مفهوم منه فدل على
كونه حقيقة فيه.
المسألة العشرون اختلفوا في دخول العبد تحت خطاب
التكاليف بالألفاظ العامة المطلقة كلفظ الناس والمؤمنين فأثبته الأكثرون
ونفاه الأقلون إلا بقرينة ودليل يخصه ومنهم من قال بدخوله في العمومات
المثبتة لحقوق الله دون حقوق الآدميين وهو منسوب إلى أبي بكر الرازي من
أصحاب أبي حنيفة.
والمختار إنما هو الدخول وذلك لأن الخطاب إذا كان بلفظ
الناس أو المؤمنين فهو خطاب لكل من هو من الناس والمؤمنين والعبد من الناس
والمؤمنين حقيقة فكان داخلاً في عمومات الخطاب بوضعه لغة إلا أن يدل دليل
على إخراجه منه.
فإن قيل: العبد من حيث هو عبد مال لسيده ولذلك يتمكن من
التصرف فيه حسب تصرفه في سائر الأموال وإذا كان مالاً كان بمنزلة البهائم
فلا يكون داخلاً تحت عموم خطاب الشارع سلمنا أنه ليس كالبهائم إلا أن
أفعاله التي يتعلق بها التكليف ويحصل بها الامتثال مملوكة لسيده ويجب صرفها
إلى منافعه بخطاب الشرع فلا يكون الخطاب متعلقاً بصرفها إلى غير منافع
السيد لما فيه من التناقض سلمنا عدم التناقض غير أن الإجماع منعقد على
إخراج العبد عن مطلق الخطاب العام بالجهاد والحج والعمرة والجمعة والعمومات
الواردة بصحة التبرع والإقرار بالحقوق البدنية والمالية ولو كان داخلاً
تحت عموم الخطاب بمطلقه لكان خروجه عنها في هذه الصور على خلاف الدليل
سلمنا إمكان دخوله تحت مطلق الخطاب لغة إلا أن الرق مقتض لإخراجه عن عمومات
الخطاب بطريق التخصيص وبيانه أنه صالح لذلك من حيث إنه مكلف بشغل جميع
أوقاته بخدمة سيده بخطاب الشرع وحق السيد مقدم على حق الله تعالى لوجهين:
الأول: أن السيد متمكن من منع العبد من التطوع بالنوافل مع أنها حق لله
تعالى ولولا أن حق السيد مرجح لما كان كذلك.
الثاني: أن حق الله تعالى
مبني على المسامحة والمساهلة لأنه لا يتضرر بفوات حقوقه ولا ينتفع بحصولها
وحق الآدمي مبني على الشح والمضايقة لأنه ينتفع بحصوله ويتضرر بفواته.
والجواب
عن السؤال الأول: أن كون العبد مالاً مملوك
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى