رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
بقلم : معتز الجعبري -----
خاص ينابيع تربوية
تتشابك أمامها تفاصيل مملة. وتتكرر أمام ناظريها
تفاهات العمل المكتبي... تلوذ من هموم أطبقت على نفسها إلى ثرثرة مع صديقات
تلوك ألسنتهن كل شيء تقريباً: وسامة نجوم السينما والرياضة، روعة أو تفاهة
آخر الموضات والقصات والأغاني والكليبات والموبايلات والنغمات، ويتندرن
على لحظات بوح عاطفية جديدة لإحداهن...
ترتاد مع ذات
الصديقات مطاعم تجمع بينها روائح زكية ومذاقات رديئة تطغى عليها بهارات
وصلصات لاتينية أو صينية، لا فرق... تقضم شطيرة... تتركها لا عن شبع بل عن
ملل. تتسكع مع صديقاتها في شوارع وحدائق السأم دون هدف، يضحكن وهن يستمعن
إلى تعليقات صعاليك المساء، يقلبن معروضات المحال من الأقمشة والملابس
والحقائب. ترجع إلى البيت لتجد والدة متلهفة لسماع أخبارها في ذلك اليوم..
تبدأ الأم بطرح أسئلتها المعتادة ونقل
أخبار الجارات والأقارب، لكنها كانت تجيب أو تعلق على كلام أمها بكلمات
مقتضبة من حرفين أو ثلاثة. صمتها أمام الأسئلة ليس بجديد على أمها فإنه
يحدث في كل ليلة وكانت تتقبله المسكينة دون أن يفتر حماسها لتكرار ذات
الأسئلة بشكل يومي. لكن ما حدث الليلة كان مختلفاً أو صاعقاً، فقد فوجئت
الأم بعاصفة توبيخ لم تتوقعها... فغرت فاها ولم تتلفظ بكلمة واحدة.. انصرفت
إلى غرفتها.. أما سوزان فقد ارتمت على الكنبة وقد أفجعتها فعلتها... كيف
أقدمت على هذه الجناية؟؟ وزاد من حزنها أن والدتها لم ترد بكلمة واحدة...
قالت: "لماذا لم توبخني؟؟ لماذا لم تصفعني؟؟ لماذا
لم تطردني من المنزل؟ لماذا لم ترفع يديها للسماء فتدعو عليّ أو
تلعن اليوم الذي أنجبت فيه بنتا بهذا السوء؟؟ يا ليتها
انتصرت لنفسها بشيء" ولم تعرف ما الذي يمنعها من الذهاب إلى غرفة
أمها لتقبيل يديها وقدميها والارتماء في أحضانها....
أخرجت
"سيجارة" من حقيبتها وأشعلتها وأصابعها ترتعش، ومن الجرعة الأولى بدأت في
السعال فهي ليست مدخنة، وتفعل ذلك دون رغبة، تماما كما تذهب إلى تلكم
المطاعم وتقضم فيها شطائر لا تحبها، وتخوض مع صديقاتها في أحاديث باهتة لا
تحبها، أو تتسكع في شوارع رمادية تائهة، أو تدير الصندوق الأسود مقلبة بين
محطات تجتر دراما رومانسية. أو تستمع إلى أكاذيب باطلة أو بطولات كاذبة
لشباب أثناء دردشات على الإنترنت.. ثم نفثت دخانا أزرق يشبه تلك الأكاذيب
والبطولات. فكّرت باختلاس النظر إلى غرفة أمها لعل لقاء العيون يكون
اعتذاراً، لكن أقدامها لم تحملها على ذلك... مدت يدها ثانية داخل حقيبتها
لتخرج "سيجارة" أخرى لكن أصابعها أمسكت بكتيب صغير أخرجته فتذكرت زميلتها
صفاء التي ألحت عليها لقبوله. كانت
لا تكره صفاء ولكنها كانت لا تحبها أيضا، وكانت تنفر من تقرّبها
المقصود ومواعظها المباشرة، وكانت
تشمئز من نقابها. لم يسبق أن رأت وجهها بدون نقاب، لم تكن تأبه
لرؤية وجهها لكنها تذكرت ما قالته إحدى صديقاتها أن لصفاء وجها ذميما، أو
آثاراً لندوب أو حروق تحرص على إخفائها خلف ذلك النقاب لذلك فهي ترفض خلعه
في مكان العمل.
أمسكت سوزان
ذلك الكتيب وهي تسند رأسها على وسادة الكنبة ولفت انتباهها عنوانه الغريب
"البوصلة"، بدأت تقرأ في الكتيب: "ليس
العجب من مملوك يتذلل لله تعالى ، ويتعبد له، ولا يمل من خدمته مع حاجته
وفقره إليه، إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوكه بصنوف إنعامه ويتودد إليه
بأنواع إحسانه مع غناه عنه... قال الله تعالى في الحديث القدسي: إني و الإنس والجن في نبأ عظيم أخلق
ويُـعبد غيري أرزق ويُـشكر سواي. خيري إلى العباد نازل وشرهم إليّ صاعد.
أتودد إليهم برحمتي وأنا الغني عنهم ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر ما
يكونون إليّ.. أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا إليّ فأنا حبيبهم
وإن أبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب.. الحسنة عندي
بعشر أمثالها وأزيد والسيئة عندي بمثلها وأعفو. وعزتي وجلالي لو استغفروني
منها لغفرتها لهم.. .. لو
يعلم المدبرون عني شوقي لعودتهم ومحبتي لتوبتهم ورغبتي في إنابتهم لذابوا
شوقا إليّ... هذه رغبتي بالمدبرين عني فكيف محبتي للمقبلين عليّ.. ... عبدي
أسترك ولاتخشاني.. أذكرك وأنت تنساني.. أستحي منك وأنت لا تستحي مني.. من
أعظم مني جوداً.. ومن ذا الذي يقرع بابي فلم أفتح له.. يا عبادي إنكم
تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم"
تذكرت سوزان أنها منذ أمد بعيد لم تطرق باب الله، وأيقنت أن تعاستها بسبب
إعراضها عن مولاها... إنها لا تجد لمباهج الحياة طعما رغم أنها شابة صغيرة
وجميلة، مثقفة ومتعلمة وعاملة ليس حاجة في مال فقد ورثت الكثير عن والدها..
وتذكرت مقدار تعاستها وغربتها التي تسكن حتى ضحكتها.. وتذكرت التيه الذي
تحياه مع صديقاتها.. إنها تعرف الكثير لكنها لا تعرف الله ربها ومولاها...
إنها تعرف طرقا كثيرة لا توصل إلا إلى اليباب.. لكنها لا تعرف الطريق
الموصلة إلى الرضا والسعادة.. تذكرت أمها وقالت لنفسها: أيبلغ بي السوء أن أسأم من صحبة أمي وأن
أضيق ذرعا بحبها وحنوها!! وبكت بحرقة عندما تذكرت انصراف أمها إلى
غرفتها منكسرة حزينة ببد أن لوّنت ظلمة ليلتها ووحدتها بعنفوان فظاظتها.
مسحت دموعها وهي تقلب صفحات الكتيب وشدها عنوان "فوات الأوان"
"إنسان تاه في صحراء وليس معه زاد ولا ماء، وصار يمشي على غير هدى. ما لبث
أن وجد بئراً، نظر فيها ليجد ماء صافيا، لكن قعر البئر بعيدة ولا يملك
ذَنُـوباً ولا حبلاً حتى يحصل على الماء، ولا يجيد السباحة حتى ينزل للحصول
عليه، وإن نزل فلن يتمكن من الصعود مرة أخرى... رقد يائسا قرب البئر،
انتزع الموت روحه رويدا رويدا... ومات من الظمأ والماء على مرمى حجر منه.
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والمـاء فوق ظهورها محمـول والإنسان في
المثل السابق هو الإنسان ذاته في رحلته إلى الدار الآخرة، والماء هو رحمة
الله، وأما الحبل فهو صلاة الإنسان، إن حافظ عليها كانت له حبلاً يبلغ به
رحمة الله. وإن ضيّعها فقد اضاع حبله إلى الله. أن تقف بين يدي الله يوم
القيامة وقد أحاطت بك الخطايا فتعتذر إلى الله بأنك أمنت به ربا خالقا
ورازقا، وإلها ليس له شريك، وحافظت على حبل الصلة بينك وبينه، فإن لك وجه
اعتذار. ولن يخيّب الله رجائك فيه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حافظ على الصلوات الخمس، ركوعهن،
وسجودهن، ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله، وجبت عليه الجنة، أو قال :
حُـرّم على النار" ماذا تنتظر...
قم الآن فتوضأ واغسل عن نفسك
أدرانها، توجه إلى الله واسأل نفسك: من ضيّع الله ماذا وجد؟؟!! ومن
وجد الله ماذا فقد؟؟!! أيها المسكين.. إذا بارت بك الحيل وتاهت بك السبل
وضاقت عليك الأرض بما رحبت فوجّه بوصلتك إلى الله، واعلم أنك إذا خفت من
شيء فررت منه، إلا الله فإنك إذا خفته فررت إليه والتجأت لرحابه، فيدخلك
إلى دار أمنه".
خنقتها العبرات وهطلت دموعها وبدأت
تشعر بتزحزح غيوم ثقيلة كانت تجثم على صدرها، وتحس بموجات من الطهر بدأت
تغسل القتامة عن قلبها وتسقي يبابه، وأشرق قلبها بنور ربها فانقشعت غيومه
الرمادية المظلمة. توضأت للمرة الأولى بعد سنوات انقطاع طويلة حرمت أعضائها
فيها من تلك النعمة، توجهت إلى غرفة والدتها لتجدها قائمة تصلي، انتظرت
حتى فرغت من صلاتها فانكبت بين يديها تقبلهما وهي تبكي والأم تمسح على
شعرها وتضمها. قالت سوزان: أمي
اشتقت إليك.. اصفحي عني وسامحيني!! وضعت الأم راحتها على شفتي
سوزان، وقالت: لا تقولي شيئا، فدموعك غسلت حزني. أجابت سوزان: وغسلت كل
أكداري.. أريد أن أستعير ملابس الصلاة، فقد وجهتني البوصلة!! تهللت الأم وأشرق محياها بسعادة لم ترها
سوزان من قبل في وجه والدتها وضمتها وهي تسألها: أي بوصلة يا ابنتي؟ في الصباح.. ذهبت سوزان إلى
عملها مبكرة على غير عادتها ورأت ذات الشوارع والحدائق الرمادية التي تسير
فيها مع صديقاتها لكنها بدت ملونة وبهيجة في هذه المرة.. لدى دخولها الشركة
وجدت حارس البناية العجوز، فوقفت وحيّته وسألت عن أخباره، فرد عليها
التحية متعجباً من شأنها، سألته: هل وصلت صفاء. قال نعم. صعدت بعض درجات
السلالم ثم رجعت للعجوز وأخرجت من حقيبتها بعض المال وأعطته إياه، تمنّع
لكنها ألحت، فشكرها وهو ينظر إلى السماء، صعدت السلالم بسرعة. دخلت سوزان
تبحث عن صفاء وجدتها في مصلى النساء وقد كشفت عن وجه وجبين كأنهما القمر...
أقبلت عليها وعانقتها بحرارة وقالت: أختاه... أشكرك من قلبي على البوصلة
التي جمعتنا.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى