لبيك يا الله



حديث قدسىعن رب العزة جلا وعلاعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أحب عبداً دعا له جبريل، عليه السلام، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً، دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض”.
المواضيع الأخيرة
كل عام وانتم بخيرالجمعة 23 أبريل - 16:08رضا السويسى
كل عام وانتم بخيرالخميس 7 مايو - 22:46رضا السويسى
المسح على رأس اليتيم و العلاج باللمسالأربعاء 22 أغسطس - 14:45البرنس
(16) ما أجمل الغنائمالجمعة 11 أغسطس - 18:51رضا السويسى
مطوية ( وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)الأحد 9 أغسطس - 19:02عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)السبت 8 أغسطس - 12:46عزمي ابراهيم عزيز
مطوية ( إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )الأربعاء 5 أغسطس - 18:34عزمي ابراهيم عزيز



اذهب الى الأسفل
رضا السويسى
الادارة
الادارة
رضا السويسى
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد

اجتهاد السلف في العبادة Empty اجتهاد السلف في العبادة {الجمعة 29 يوليو - 17:29}

اجتهاد السلف في العبادة
للشيخ : نبيل العوضي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه
ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن العنوان كما استمعتم: (اجتهاد السلف في العبادة) ومن هم السلف ؟ كل من
سبقنا بخير فهو سلفنا -إن شاء الله تعالى- ونتكلم عن اجتهادهم في العبادة؛
لنعرف تقصيرنا، وكل واحد منا عندما يسمع هذه الكلمات يعرف كم هو مقصر، وكم
هو كسولٌ في طاعة الله، وما الذي ينبغي علينا أن نصل إليه؟
ثم بعده نرجو رحمة الله عز وجل.
اسمع إليهم -يا عبد الله- وإياك إياك أن تيأس من روح الله، فإنه من اجتهد
يسر الله له السبيل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
ثانياً: اعلم أن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، واعلم أن باب
الرحمة مفتوح، وباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، واعلم يا عبد
الله! أن رحمة الله وسعت كل شيء، وهو أشد رحمة من الأم بولدها لعباده، اسمع
يا عبد الله وتدبر!......
تعبده في الليل
إذا ذكرنا السلف كان في مقدمتهم خير الخلق محمد عليه الصلاة والسلام، اسمع
إليه -يا عبد الله- كيف كان يتعبد ربه جل وعلا وهو الذي غفر الله له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر؟! يقول حذيفة : (في ليلة من الليالي صليت وراءه
فاستفتح سورة البقرة، يقول: فقلت سوف يركع عند المائة فأكمل، قلت: عند
المائة الثانية.. فأكمل، حتى ختم سور البقرة بركعة، يقول: ثم ركع فكان
ركوعه نحواً من قيامه، ثم رفع رأسه نحواً من ركوعه -وفي رواية-: أنه قرأ
البقرة والنساء وآل عمران والمائدة والأنعام في أربع ركعات ) إنه النبي صلى
الله عليه وسلم.
يدخل عليه بلال في ليلة من الليالي وقد قام حتى تفطرت قدماه، فقال: (يا
رسول الله! تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزلت عليَّ الليلة
آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ [آل عمران:190-191] ).
يقول علي بن أبي طالب : [ما منا فارسٌ يوم بدر غير المقداد -يتحدث عن معركة
بدر - ثم يقول: ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم -أي: كلنا نمنا من شدة
المعركة- يقول: غير رسول الله عليه الصلاة والسلام فإنه كان تحت شجرة يصلي
ويبكي حتى الصباح ].
نام الصحابة كلهم إلا هو، قائمٌ تحت شجرة يقرأ القرآن ويصلي حتى أصبح
الصباح، أرأيت؟ نعم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ ولكن إنه العبد
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى [الإسراء:1] هل قال: برسوله؟ هل قال: بنبيه؟ لا.
بل قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1] هذا
مقام تشريف، كيف شرف الله نبيه بهذا الاسم، بأنه عبد لله عز وجل وقد أمر
الله بالعبودية فقال: وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
[يس:61].
يقول ابن مسعود : (بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قمت الليل بآية واحدة إلى
الصباح تبكي وترددها، لو فعلها واحدٌ منا لوجدنا عليه -أي: حزنا عليه، ليلة
كلها تقوم بهذه الآية؟: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ
تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]
يرددها طوال الليل، حتى سجد وبكى وقال: اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي،
فأوحى الله إلى جبريل: يا جبريل! أخبر محمداً أنا سنرضيك في أمتك ) يبكي
الليل كله ويقومه بآية.. إنها العبودية.
إنه مقام عظيم لا يصله أي إنسان.. تتشقق الرجل وهو لا يشعر بها.. إنها حالٌ
ترقى بالإنسان إلى درجة أنه يتلذذ بالعبادة ولا يشعر بالألم، لو تفطرت
القدمان لا يشعر بهما؛ لأن قلبه متصلٌ بالخالق، إن الجسد على الأرض وإن
الروح في السماء، يطير في الملكوت الأعلى، قلبه تحت العرش، كيف يتألم من
هذا حاله؟!
اسمع يا عبد الله! إلى من تحته ومن بعده.
عبادة الصحابة رضوان الله عليهم
عمر وعبادته لله
يقول الفاروق عمر رضي الله عنه: [لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا -ما
هي الثلاث؟ دينار؟ درهم؟ قصور؟ أكل وشرب؟ لا يا عبد الله، يقول: لولا أن
أحمل على الجهاد في سبيل الله ]
الأولى: الجهاد، يقول: هذا الذي يبقيني في الدنيا.. الجهاد في سبيل الله،
أصوات الخيل، ونحن نقول الآن: سل المجاهد ما هي أحلى أيام حياتك؟ يقول:
والله لو فكرت في الدنيا وتصفحت أيامها فإن أحلى أيامها تلك الليلة التي
كنا نسمع فيها أصوات المدافع، وإطلاق الصواريخ، وعلى رءوسنا الطائرات،
يقول: تلك كانت أحلى الليالي في الحياة، فهذا عمر كان يعيش في هذه الروح.
والثانية: [مكابدة الليل ] الليل مجاهدة، يا عبد الله! إن من الناس اليوم
أول ما يأتيه الليل ينام وهو لا يشعر، أمام التلفاز، أو يجالس فلانة، أو في
المباريات، أو عند الأفلام، أو يستمع للأغاني، من منا في الليل يجاهد نفسه
ويتعب نفسه في قيام الليل؟!
والثالثة: [مجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر ].
يقول هشام بن حسن : كان عمر يمر بالآية في ورده فتخنقه العبرة، يقرأ القرآن
فيبكي حتى يختنق من شدة البكاء، فيسقط على الأرض، ثم يلزم بيته حتى يعاد
يحسبونه مريضاً، هل به مرض؟ لا. إنه القرآن.. إنها العبادة.. إنه الخوف من
الله جل وعلا.
صلى يوماً بالناس فقرأ سورة يوسف فوصل إلى قول الله جل وعلا: إِنَّمَا
أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] فتوقف، وأخذ يبكي، حتى
سُمع نشيجه من وراء الصفوف، ولم يستطع أن يتم الصلاة، عمر يبكي من هذه
الآية؟! عمر في يوم من الأيام وأد بنته وكان يسجد للصنم، أما اليوم فإنه
يبكي من هذه الآية، ما السبب؟ إنها العبودية لله جل وعلا، إنه حب الله
سبحانه وتعالى، إنه الخوف من عذابه تبارك وتعالى.
وقفة مع عثمان وعبادته
عثمان ؛ إنه الخليفة الثالث الراشد رضي الله عنه، كان يقوم الليل كله فيختم
القرآن.
إياك أن تقول: خلاف السنة، ثم إن كان خلاف السنة، فأين نحن من السنة؟ أين
نحن من قيام الليل؟
أين نحن من قراءة القرآن؟ أين نحن من الخشوع؟ أسألك بالله: متى قمت الليل؟
بعضكم يجيب يقول: من رمضان إلى اليوم، واقترب رمضان الآخر.
كم مرة قمت الليل؟ هل تصلي الوتر؟ كم مرة من المرات قمت آخر الليل ورفعت
يديك لله عز وجل؟
كان عثمان من شدة اللذة ينسى نفسه.. يختم القرآن في ليلة واحدة، إنه عثمان
الذي قال ابن عباس في قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ
[الزمر:9] ذاك عثمان ، قانت ماذا يفعل؟
سهران على التلفاز.. قانت في المجالس يشرب الشاي والقهوة؟ قَانِتٌ آنَاءَ
اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ
رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ [الزمر:9].
ثبات عباد بن بشر في صلاته
اسمع يا عبد الله إلى عباد بن بشر ! انظر إلى باقي الأصحاب، وبقية السلف !
هذا عباد بن بشر رضي الله عنه أحد الصحابة، يقوم حارساً للنبي صلى الله
عليه وسلم هو وعمار على ثغر المسلمين، فيأتيه أحد المشركين في الليل وهو
يصلي، فيراه أحد المشركين فيرميه بسهم وهو يصلي، فنزع السهم ورماه وأكمل
صلاته، فرماه السهم الآخر، فنزع السهم ثم أكمل صلاته، ورماه بالسهم الثالث،
فأتم صلاته وخففها، فانتبه عمار فقال له: ويحك لِـمَ لَـمْ توقظني؟ قال:
والله لقد كنت أقرأ سورة وخشيت أن أقطعها، والذي نفسي بيده لولا أني كنت
على ثغرٍ أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لكان خروج نفسي أحب
إليَّ من أن أقطع هذه السورة: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ
بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
[الرعد:28] بعض الناس يطمئن قلبه بسماع أغنية فلان أو فلانة، أو بمجلس طرب،
أو أمام التلفاز، أو في ملاعب الكرة، يقول: هنا يطمئن قلبي! بئس القلب
الذي مات وقسا، وران عليه ما ران، أما قلوب المؤمنين إذا سمعت ذكر الله
اطمأنت واستبشرت، وانشرح الصدر بذكر الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
عبادة عبد الله بن عمر بن الخطاب
ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أبيه كان إذا قام الليل صلى -كل يصلي
الليل إلا قليلاً منه ينامه- كان يقوم الليل ثم يسأل نافع بعد الركعتين،
فيقول له: يا نافع ! -مولاه- أسحرنا؟ فيقول: لا بعد، فيصلي، وبعد الركعتين
يسأله: يا نافع ! أسحرنا؟ فيصلي.. وهكذا حتى الفجر، لأن النبي صلى الله
عليه وسلم في يوم من الأيام قال له: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل
).
جرب قيام الليل يا عبد الله! أنصحك نصيحة هذه الليلة اعزم القيام وإياك أن
تبدأ بقوة وحماس فتصلي نصف الليل ثم في اليوم الثاني لا تصلي شيئاً، ابدأ
قليلاً قليلاً وعود النفس.. ابدأ هذه الليلة بثلاث ركعات.. ربع ساعة.. نصف
ساعة، ابدأ شيئاً قليلاً، وفي اليوم الثاني زد، وفي الثالث زد، وعوِّد
النفس حتى تقوم ثلث الليل، وخير القيام قيام داود.
التابعون وعبادتهم
عبادة علي بن الفضيل بن عياض
اسمع يا عبد الله إلى الفضيل بن عياض ! وأنا أظن أن أكثركم قد سمع بـالفضيل
بن عياض الذي يسمى بعابد الحرمين، هذا الرجل من عبادته أنه كان إذا ذكر
عنده الله أو سمع القرآن ظهر عليه من الحزن والخوف ويبكي حتى يرحمه من
بحضرته، له ولد اسمه علي كان إذا صلى علي خلفه س وهو إمام في الصلاة، كان
لا يرتل القرآن، لأنه يخاف على ابنه، لأن ابنه لا يتحمل القرآن، فكان إذا
رأى ابنه خلفه قرأ القرآن قراءة عادية، وفي يومٍ من الأيام دخل ابنه في
الصلاة، ولم يكن الفضيل يعلم أن ولده خلفه، فرتل الآيات، ووصل إلى قول الله
جل وعلا: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ
[الزمر:47] سمع ابنه يبكي، فخفف الصلاة، وبعد الصلاة وجد ابنه على الأرض،
فحملوه ولكن فاضت الروح إلى بارئها: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].
نعم! إنهم صالحون يخافون من ذلك اليوم.. يخاف أن يبدو له شيء آخر، أين
أولئك الغافلون؟ أين الذين لا يصلون الفجر حتى تطلع الشمس؟ أين الذين قطعوا
الأرحام؟ أين الذين نظروا للنساء وتمتعوا بالنظر إليهن؟ أين سماع الأغاني
والطرب؟ أين هم؟ إن الصالحين يخافون إذا لقوا الله جل وعلا: وَبَدَا لَهُمْ
مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].
عبادة سفيان الثوري
سفيان الثوري رحمه الله يقول عنه عطاء : ما لقيته إلا باكياً، فقلت له:
لماذا تكثر من البكاء؟
-واسمع للإجابة ثم ضعها في قلبك وتفكر فيها، واجلس دقائق معدودة فكر في هذه
الكلمات- قال سفيان الثوري : أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، أخاف أن
الله كتب أنني في النار، أخاف أن الله في اللوح المحفوظ حكم علي أنني من
أهل جهنم: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60].
أكثر أحيانه يرى كأنه في سفينة يخشى الغرق، دائماً يقول: اللهم سلم سلم،
اللهم سلم سلم، تجده باكياً، ويدعو بهذا الدعاء.
يقول ثابت البناني رحمه الله: كنا نتبع جنازة فلا نرى سفيان -أي: الثوري -
إلا متقنعاً باكياً متفكراً، يقول: هذه حاله، كلما رأيناه يبكي، نراه يخفي
وجهه في الجنازة، ويجلس على زاوية ثم يأخذ يبكي، يتفكر في أحوال الموتى،
اسمع إلى قول الشاعر ماذا يقول، وتفكر يا عبد الله:
يا غافلاً عن منايا ساقها القدرُ ما الذي بعد شيب الرأس تنتظرُ
عاين بقلبك إن العين غافلةٌ عن الحقيقة واعلم أنها سقرُ
سوداء تزفر من غيضٍ إذا سعرت للظالمين فما تبقي ولا تذرُ
لو لم يكن لك غير الموت موعظة لكان فيه عن اللذات مزدجرُ
عبادة ثابت البناني
ثابت البناني : يقول عنه جعفر : بكى ثابت حتى كادت عينه أن تذهب -أي: يعمى-
فجاءوا بالطبيب قالوا: أدرك هذا الرجل سوف يصاب بالعمى، سوف تذهب عيناه،
فقال له الطبيب: أعالجه على أن يطيعني قال: وما هو؟ قال: إذا أردت بقاء
عينيك فلا تبكِ، فقال ثابت رحمه الله: وما خيرهما إن لم تبكيا؟ إذا كانت
العين لا تبكي من خشية الله فما فائدتها؟ عينٌ لا تبكي من خشية الله لا خير
فيها.. عينٌ لا تتأثر لما تسمع من آيات النار وآيات جهنم وأهوال القيامة
ولا تدمع فلا خير فيها، يقول الله عن الصالحين: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ
يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109].
عبادة زياد بن جرير
يقول حفص بن حميد : واسمع إليهم يا عبد الله ثم حاسب نفسك، وانظر إلى حالك
وحالهم- قال لي زياد بن جرير : اقرأ، قال: فأخذت أقرأ القرآن حتى وصلت إلى
قول الله جل وعلا: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ
وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح:1-3] قال: فإذا به يبكي كما
يبكي الصبي، فقلت: مالك؟ قال: فعل هذا برسول الله: وَوَضَعْنَا عَنْكَ
وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح:2-3] يقول: كيف بنا نحن؟! وزر
رسول الله الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عليه الصلاة والسلام
أنقض ظهره، ماذا نعمل نحن يا عباد الله؟!
عبادة الفضيل بن عياض
وهذا الفضيل بن عياض ، يقول عنه إسحاق بن إبراهيم : كانت صلاته بالليل أكثر
ذلك قاعداً لا يتحمل القيام، كان يقعد في الليل فيصلي، تُلقى له حصيرة في
المسجد -الآن تخيل حال هذا الرجل- فيصلي من أول الليل ساعة، حتى تغلبه عينه
فيلقي نفسه على الحصيرة في المسجد، فينام قليلاً ثم يقوم: فإذا غلبه النوم
نام، ثم يقوم فيصلي ثم ينام، ثم يقوم فيصلي، حتى يطلع الفجر، ثم يقول لمن
حوله: أشد العبادة ما يكون هكذا: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ [الذاريات:17].
تأتي بنت فتقول لأبيها: يا أبت! الناس ينامون وأنت لا تنام؟! لم لا تنام يا
أبي فكل الناس ينامون في الليل إلا أنت؟ فيقول: يا بنية! حر النار أذهب عن
أبيك حب النوم: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].
يقول محمد بن واسع : [أدركت رجالاً -لعلهم تابعين أو صحابة- كان الرجل له
وسادة واحدة مع امرأته: قد بل ما تحت خده من دموعه وزوجته لا تشعر به ]
يبكي على وسادة واحدة في الليل وزوجته لا تعرف ذلك، لا يأتيه النوم من
البكاء، أتعرف لمَ؟ إن الجواب في قوله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] النوم لا يأتيهم.
قال بعضهم: عجباً لمن كانت النار تسعر تحته، والجنة تزين فوقه كيف ينام؟!
ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها، كيف ينام
هذا الرجل؟!
النار يا عبد الله! تحتك تتسعر، والجنة تزين وقد أزلفت للمتقين، والحور العين
تنتظرك! فكيف تنام الليل كله؟!: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ [السجدة:16].
عبادة داود الطائي
تقول أم سعيد ابنة علقمة : كان بيننا وبين داود الطائي جدار قصير، وكنت
أسمع حنينه عامة الليل.
تقول: أسمع بكاءه في الليل.
ماذا تسمع الآن في بيوت المسلمين؟ مر بالقرب منها فماذا تسمع فيها؟
الأغاني، والطرب، والتلفاز، والبث المباشر.
عباد الله! ما الذي تغير؟ إن حب الله تغير وقل في القلوب إلا من رحم الله..
محبة الله قلت في قلوب الناس، ذكر الله أصبح في الألسنة قليل حتى أن بعضهم
يقوم للصلاة وهو كسلان: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى
يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً
[النساء:142] وكأنه إذا دخل بيت الله دخل في سجن! وكأنه إذا قرأ القرآن يمل
حتى ينتهي من المصحف، وإن كان عليه ورد قال: متى أنتهي من هذا الورد؟
سبحان الله! أصبحت عبادة الله سجن لبعض الناس.
قبل قليل ولا أكتمكم خبراً جئت من الطائرة إلى هذا المكان فرأيت أمراً
عجباً، ركبت في الطائرة وفيها بعض المسلمين وأكثرهم لعلهم نصارى من أشكالهم
وهيئاتهم، وأول ما ركبنا الطائرة وطارت كان هناك معنا بعض الخليجيين،
والله الذي لا إله غيره فزعوا من مقاعدهم ورجعوا إلى الخلف -انظر ما الذي
جرى- كل منهم يأتي بكأسٍ من خمر ليشربها، لم يصدق أن الطائرة تطير، كأنه في
قيد محبوس، يتمنى أن يتخلص من هذا القيد ليشرب كأساً.. مسكين لا يعلم أن
هذا هو الحبس الحقيقي.. هذا هو السجن.. الأسر أسر الشهوة، العبودية إما لله
وإما للشيطان، والشهوة إما في حلال أو في حرام، أنت عبدٌ، إما أن يأسرك
هواك، وإما أن تعبد الله جلَّ وعلا وهذه هي الحرية الحقيقية! أنك لا تعبد
إلا الله، ولا تقدم قولاً على غير الله، ولا تتلذذ إلا بطاعة الله جلَّ
وعلا.
عبادة عامر بن عبد الله بن الزبير
عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام يروى عنه أنه في حالة الاحتضار قبل
الموت سمع الأذان لصلاة المغرب، فقال لأولاده: احملوني، قالوا: يا أبتِ!
أنت معذور وتحتضر فاجلس وصلِّ في البيت، قال: لا إله إلا الله! أسمع الأذان
ولا أجيب، احملوني إلى الصلاة، فحملوه إلى المسجد وهو في صلاة المغرب، وفي
السجدة الأخيرة سلم الروح إلى خالقها.
انظر للعبادة! انظر للذة! انظر كيف أكرمه الله جلَّ وعلا!
عودة إلى عبادة ثابت البناني
انظر إلى جعفر بن سليمان يروي عن ثابت البناني الذي كادت عيناه أن تذهبا،
اسمع إليه حين قرأ قول الله جلَّ وعلا: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ *
الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ *
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ *
نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ
[الهمزة:1-7] يقول: تأكله إلى فؤاده وهو حينئذٍ، هكذا يبلغ بهم العذاب ثم
انفجر بالبكاء، وأبكى الذين حوله جميعاً، أخذ يتفكر بأنه لا يموت يصل النار
إلى القلب، تأكل النار قلبه وهو حي يشعر بالنار ولا يموت: كُلَّمَا
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا
الْعَذَابَ [النساء:56].
ما طريق هذه النار يا عبد الله؟! بداية هذه النار: الشهوات.. نظر إلى
امرأة.. استماع للأغاني.. نوم عن الصلاة.. أكل الربا.. ظلم الناس.. الغيبة
والنميمة.. الاستهزاء على خلق الله جل وعلا.. أكل الحرام.. استماع الحرام،
هذه هي بداية النار، هذه أبوابها.
لا تقل: أنا -الحمد لله- أقول: لا إله إلا الله، اعلم أن ممن يقول: لا إله
إلا الله تصيبه النار، ومنهم من يمكث في النار سنين طويلة، ينسى ثم يخرج من
النار كل موحد.
يا عبد الله! الأمر ليس بهين، يؤتى في النار إلى الرأس والأقدام ثم تلصقان
فينكسر ظهره: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ
بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ [الرحمن:41] يؤخذ برأسه وقدمه فيكسر ظهره ثم
يرمى في النار، هل تخيلت هذا يا عبد الله؟! يأكل طعاماً فيغص به فلا يستطيع
بلعه ولا إخراجه.. يأكل الشوك من شدة الجوع!
يقول بعض السلف : إن الجوع في النار مثل عذاب النار، إذا سال فروج الزواني
تسابق أهل النار ليأكلوها من شدة الجوع: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ
يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ
وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:17].
عبد الله! هذه هي النار، يجوع أهل النار فيأكلون طعاماً ذا غصة لا يستطيع
أن يخرجه ولا يبتلعه، فيستغيث بالماء فيأتيه ماء، قال تعالى عنهم: وَإِنْ
يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ
الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29] يؤتى بماء كالمهل فعندما يقرب
رأسه ليشرب تسقط فروة رأسه قبل أن يشرب، فإن شرب تقطعت الأمعاء، وخرج
الماء من دبره: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ
يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29].
ثم تأتي فتسألني: لمَ كل هذا القيام؟ ولم هذا الصيام؟ ولمَ كثرة قراءة
القرآن؟ ولمَ كانوا يبكون؟ لعلك عرفت لمَ كل ذلك، إذا عرفت فانتبه، واستقم
على طاعة الله.
خوف السلف من الله
قال يوسف : قال لي سفيان : ناولني المطهرة -إناء فيه ماء- يقول: ونحن نتوضأ
في المسجد فناولته في المسجد، فوضع يده اليمنى على خده الأيمن، ووضع يساره
على خده الأيسر -تخيل منظره الآن- يقول: ثم نمت، بعد أن رأيته على هذه
الحال قال: فاستيقظت وقد طلع الفجر، فقلت له: يرحمك الله! منذ أن تركتك
وأنت على هذه الحال؟ قال: نعم.
تعرف لمَ؟ يقول: ما زلت أتفكر في أمر الآخرة: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ
أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا
بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ
يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].
من يجلس في المسجد؟
كل الناس يخرجون.. من يجلس بعد العصر إلى المغرب؟
بل من يجلس بعد الفجر إلى طلوع الشمس؟
كل الناس يخرجون.. يهربون من بيوت الله لمَ؟
بيعٌ وشراء إلا من رحم الله: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ
[النور:37] تعرف لمَ هذا المكث في بيوت الله: يَخَافُونَ يَوْماً
تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37] ماكث على هذه
الحال من أول الليل إلى طلوع الفجر يقول: أتفكر في أمر الآخرة: يَخَافُونَ
يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37].
يروى عن عبد الله بن المبارك أنه كان إذا صلى العصر، أتى إلى مسجد في
المدينة يذكر الله حتى غروب الشمس، هذه حالهم كل يوم، بعد العصر لا يكلم
أحداً ولا يكلمه أحد: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39].
هل سمعت برجل اسمه مسروق ؟ هذا الرجل أحد العلماء.. العباد الزهاد، تقول
زوجته: إنها تجلس خلفه، وما كان يصبح -أي: لا يطلع الفجر- إلا وساقاه
منتفختان.. أمن اللعب؟ أم من المباريات؟ أم لكثرة النوم؟ لا. تقول: وساقاه
منتفختان من القيام، فإذا أذن الفجر تجلس خلفه تبكي على حاله، فإذا طلع
الفجر يزحف كما يزحف البعير من شدة قيام الليل.
ثابت البناني يقول عن نفسه: أنه كان إذا أذن الفجر عصر رجليه حتى يستطيع أن
يمشي عليهما.
من قدوتهم؟
إنه المصطفى عليه الصلاة والسلام.. إنه الذي كان إذا قام الليل تفطَّرت
قدماه.......
قصة استجابة الله لدعاء إسكافي
محمد بن المنكدر له قصة عجيبة غريبة، يقول: في يومٍ من الأيام قحط أهل
المدينة ، فخرجوا يستسقون فما سقوا -أي: ما نزل المطر- كل أهل المدينة ،
ومن أهل المدينة ؟ إنهم الصالحون العباد، يقول: وكنت في تلك الليلة في
المسجد وكان المسجد مظلماً، وقد اتكأت على سارية فدخل رجل لا أعرفه، ولم
ينظر إليَّ وكان متوشحاً ببردة، فتقدم إلى المسجد، وجلس في الصف الأول وأخذ
يصلي، وبعد أن انتهى من صلاته رفع يديه وأخذ يدعو الله ويثني عليه، ثم
قال: أقسمت عليك يا رب لما سقيتهم -يقسم على الله أن يسقيهم المطر- يقول
محمد بن المنكدر : قلت في نفسي: هذا الرجل مجنون، كل أهل المدينة خرجوا إلى
الله يستسقونه وما سقاهم، وأنت تقسم على ربك أن ينزل المطر، فوالله ما
أنزليديه إلا والسماء ترعد، والمطر ينزل، يقول: فعجبت من أمره يقول: فأخذ
يبكي، وهو يقول: من أنا حتى تستجيب لي؟ من أنا حتى تستجيب لي؟ عذت بحولك
وقوتك، ثم أخذ يثني على ربَّه جلَّ وعلا، وأخذ يصلي حتى الفجر، يقول:
فتبعته بعد الفجر حتى علمت منزله، وجئته في الصباح، فدخلت ونظرت فإذا هو
إسكافي -أي: يصلح الأحذية- فقلت له: يا فلان! أنا صاحب البارحة الأولى في
المسجد -أي: نظرت إليك وعلمت ما الذي جرى- فقال: يا أبا عبد الله ! ما شأني
وشأنك؟ يقول: فخرجت وانتظرته في اليوم الثاني فما جاء المسجد، وكذا اليوم
الثالث فما جاء، يقول: فذهبت إلى البيت لأسأل عنه فقالت عجوزٌ عند البيت:
يا أبا عبد الله ! ماذا فعلت معه، منذ أن فارقته جمع أمتعته وخرج من البيت
ولم يرجع إلى هذه الساعة، يقول: بحثت عنه في المدينة كلها فلم أره ولم أسمع
به.
انظر إلى هذه العبادة وإلى هذا الإخلاص.. يتلذذ بعبادة الله، ولا يحب أن
يراه أحداً، ولا يسمع به أحد: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ
مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر:11].......
وقفة مع الإمام أحمد بن حنبل
الإمام أحمد يقول عنه ابنه عبد الله : دخلت عليه يوماً من الأيام في غرفة
مظلمة، فوجدته متربعاً يبكي، فقلت له: يا أبي! ما شأنك؟ لمَ تجلس هذه
الجلسة وتبكي؟ قال: يا بني! أتفكر في القبر وأهواله.. أتفكر في اليوم
الآخر. فقلت: يا أبي! هلا اتكأت؟ -أي: أنت رجل كبير في السن هلاَّ استندت
على الحائط؟- قال: أستحي أن أناجي ربي وأنا متكئ.......
شدة خوف الإمام أحمد من الله
يدخل على الإمام أحمد أديب في يوم من الأيام فيقول له الإمام أحمد : ما
عندك؟ -أي: من شعر- اسمع ماذا يقول الرجل قال:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
فلما سمع الإمام أحمد الشعر قام من الدرس، ودخل الغرفة وأخذ يبكي وهو يردد
هذا البيت.
زهد الإمام أحمد
عبد الله! يقول الإمام أحمد هل كان في الدنيا مثلنا؟ يعني أنه في خير
ونعمة، يقول ابنه: كان عنده حذاء مكثت معه ثمان عشرة سنة، يقول: وكلما خرم
الحذاء خصفه بيده، كان يصلح حذاءه بيديه.
عبادة الإمام أحمد وصبره في السجن
دخل الإمام أحمد على المعتصم فقال له المعتصم : يا إمام! قل مثل أصحابك
فإني مشفقٌ عليك -أي: قل: إن القرآن مخلوق- لكنه ثبات على المبدأ والعقيدة،
قل: القرآن مخلوق وانج بنفسك، فما قالها لأن القرآن كلام الله، فجاءوا
إليه بأحد أصحابه، فقال له: يا إمام! قلها وانجُ بنفسك، فقال: يا فلان!
انظر فنظر فإذا التلاميذ ألوفٌ مؤلفة بيدهم المحابر ينتظرون ماذا يقول
الإمام أحمد ؛ لينقلوا عنه للأمة؛ ليحفظ لها دينها.
فإذا بـالمعتصم يأمر الجلادين ثم يعلق ويضرب مائة وستين سوطاً، لو ضرب بها
البعير لمات، وهو يقول كلما يفيق: لا إله إلا الله حسبي الله ونعم الوكيل،
ثم بعد أن ضرب رمي بالسجن ثمانية وعشرين شهراً، ولما رمي في السجن وكان
السجن مظلماً، والجو بارداً يقول: تحسست بيدي فوجدت ماءً بارداً فتوضأت،
فأخذت أصلي حتى الفجر، انظر إلى العبادة! إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة..
ثمانية وعشرين شهراً سرد فيها الصوم كلها حتى ينجيه الله عزَّ وجلَّ مما هو
فيه.
يأتيه الملك -الخليفة- ويتعجب من أمره، فيأتيه بالطعام اللذيذ -الطعام
الطيب- ويقول الإمام أحمد : والله لا أذوق له طعاماً، فكان يأكل من السويق؛
أردأ أنواع الطعام، يأكله ليسد به جوعه حتى حمل بعد أن خرج من السجن على
فرس كاد أن يموت، ورمي في البيت طريحاً وكاد أن يموت رحمه الله.
أرأيت العبادة؟! في أحلك الظروف وأضيقها صلاة وصياماً: وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].

وقفة مع عمر بن عبد العزيز

الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز تقول عنه زوجته فاطمة : أمسى مساءً -ليلة
من الليالي- وقد فرغ من حوائج يومه -انتهى من حاجياته وجاء الليل، والأمر
فيه عبرة فاستمع وتخيل- فدعا بسراجه الذي كان يوقد له من ماله ثم قام فصلى
ركعتين، تقول زوجته فاطمة: ثم وضع رأسه بين يديه، تخيل شكله وهو جالس
والرأس بين يديه، تقول: تسيل دموعه على خده يشهق شهقة أقول: قد خرجت روحه،
أو انصدعت كبده، ثم لم يزل كذلك حتى برق الصبح ثم أصبح صائماً، تقول: في
ليلة قرأ قول الله جلَّ وعلا: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ
الْمَبْثُوثِ [القارعة:4] تقول: فصاح حتى سقط على الأرض فخفت وظننت أنه قد
مات وقد خرجت نفسه. ثم هدأ فسمعت صوته، ثم أفاق إفاقة، ثم وثب فجعل يدور في
الدار يتحرك وهو يقول: ويلي ليومٍ يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، تقول:
ثم سقط كأنه ميت، فلم يفق إلا على نداء الصلاة، فكلما تذكرت تلك الليلة،
بكيت على حاله.
صلى بالناس ليلة -انظروا الآن يا أخوة- عندما نصلي هل نتدبر؟ هل نخشع؟ تدخل
المسجد فلا تكاد ترى خاشعاً، تسأل الناس بعد الصلاة ماذا قرأ الإمام -إلا
من رحم الله- فلا يمكن أن يجيبك إلا القليل أما البقية فلا. والذين تذكروا
هل خشعوا؟ هل دمعت عيونهم؟ فقرأ قول الله: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً
تَلَظَّى [الليل:14] فسكت، فظن الناس أنه نسي، فأعاد الآية:
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى [الليل:14] فسكت، فظن أنه سوف يعيد ويكمل
وهو يكرر الآية ولا يستطيع أن يكملها.. هل تعرف ما بعدها؟ إنها هذه الآية:
لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [الليل:15] فما استطاع أن يقولها، ماذا
فعل؟ بكى ثم ترك هذه السورة وقرأ سورة غيرها.
كان أبو حنيفة -رحمه الله- يقوم الليل كله بآية، تعرف ما هي هذه الآية؟
إنها قوله تعالى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ
[الطور:27] كل الليل في هذه الآية يقومها يا عبد الله.......
شاب يصرع لسماع آية
اسمع -يا عبد الله- إلى هذا الشاب وهذه الكلمات التي خرجت من قلبه وهو
يرددها، يقول منصور بن عمار : نزلت سكة من سكك الكوفة ، فخرجت في ليلة
مظلمة مستحلكة، فإذا أنا بصوت شاب يدعو ويبكي وهو يقول: كن كحال هذا الشاب،
وتفكر في هذه الكلمات واجعلها تخرج من قلبك الآن يا عبد الله: إلهي وعزتك
وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، ولقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك
بجاهل، ولا بعقوبتك متعرض، ولا بنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي فأعانتني
عليها شقوتي، وغرني سترك المرخي علي، فقد عصيتك وخالفتك بجهلي، فإلى من
أحتمي؟ ومن من عذابك يستنقذني؟ ومن من أيدي زبانيتك يخلصني؟ وبحبل من أتصل
إذا أنت قطعت حبلك عني؟ فيا ويلي كم أتوب وكم أعود ولم أستحِ من ربي..
واشباباه! واشباباه! يقول منصور : فلما سمعته أخذت أقرأ قول الله جل وعلا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ
لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
[التحريم:6] يقول: وبعد أن ختمت الآية سمعت اضطراباً شديداً، ثم سكت، ثم
هدأ الصوت، وجئت في اليوم الثاني أريد أن أعرف خبره، فوجدت جنازة، وعندها
عجوزٌ تبكي، فقلت: ما هذه الجنازة يرحمك الله؟ قالت: هذا ولدي، زل عن كبدي،
ومن كنت أظن أنه سيدعو لي من بعدي، كان يبكي في الليل على ذنوبه ويتكسب،
فجعل كسبه أثلاثاً، ثلثاً يطعمني، وثلثاً للمساكين وثلثاً يفطر عليه، تقول:
فمر علينا البارحة رجل لا جزاه الله خيراً قرأ عليه: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6]
فجعل ابني يبكي ويبكي حتى فاضت روحه إلى بارئها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].......
الحث على الطاعات والتحذير من السيئات
يا عبد الله: إذا كان القلب لا يزال عليه ران فاستعن بالله جل وعلا، واعلم
أنها دقائق وتمضي، وأيام وتذهب، اذهب وزر المقابر يوماً من الأيام، وانظر
إلى أهلها.. هل قضوا أشغالهم وأمتعتهم؟ هل انتهوا من أحلامهم؟
هذا رجل كان يظن أنه سوف يسافر في العطلة، وهذا آخر كان يبني البيت ولم
يسكن فيه، وذاك كان يريد الزواج ويخطط له، وهذا كان يدرس ويتمنى أن يحصل
على شهادة، وهذا خرج من البيت ليشتري أمتعة أهله ويرجع إليهم، ولكن المنية
والأجل كان أقرب منهم.
اسمع وتفكر في ذلك اليوم:

إذا النبيون والأشهاد قائمة والجن والإنس والأملاك قد خشعوا
وطارت الصحف في الأيدي منشرة بها السرائر والأخبار تطلع
فكيف سهوك والأسباب واقعة عما قليلٍ ولا تدري بما يقعُ
أفي الجنان وفوز لا انقطاع له أم الجحيم فلا تُبقي ولا تذرُ
تهوي بساكنها طوراً وترفعهم إذا رجو مخرجاً من غمها قمعوا
طال البقاء فلم ينفع تضرعهم هيهات لا رقة تغني ولا جزعُ
لا ينفع العلم قبل الموت عالمه قد سال قومٌ بها الرجعى فما رجعوا

عباد الله! لنكن قوماً إذا استمعوا إلى هذا الحديث اتبعوا أحسنه.. قوماً
نتعلم العلم ونستمعه ونعقله ثم نعمل به، فإن هذا الكلام إما حجة لنا وإما
حجة علينا.
عبد الله! ارجع إلى البيت وليكن الحماس منضبطاً: (أحب الأعمال إلى الله
أدومها وإن قل ) قليلٌ دائم خيرٌ من كثير منقطع، عاهد النفس.. جزء من الليل
للقيام.. بعض أيام الشهر للصيام.. اجعل لك ورداً لقراءة القرآن، لا بد وأن
تختم القرآن -أضعف الإيمان- في الشهر مرة.
كان الصحابة يجادلون يقول أحدهم: أقوى أكثر من هذا ، قال: اقرأه في السبع،
قال: أقدر أكثر من هذا، قال: أقرأه في ثلاث، قال: أقدر أكثر من هذا، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث ).
رويدك رويدك!! هوِّن على نفسك لا أقول لك: اختم القرآن في ثلاثة أيام، بل
أقول لك: في الشهر مرة، صم ولو في الشهر ثلاثة أيام، هذا صيام الدهر.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (بلغ النبي صلى الله عليه وسلم
أني أسرد الصوم، وأُصلي الليل، فإِما أرسل إليَّ، وإِما لقيتُه، فقال: ألم
أخبر أنك تصوم ولا تفطر، وتصلي؟ -وفي رواية: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت العين،
ونقهت النفس- فصم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك
حقاً. قال: إني لأقوى لذلك. قال: فصم صيام داود عليه السلام. قال: وكيف؟
قال: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى، قال: من لي بهذه يا
نبي الله؟ -قال عطاء : لا أدري كيف ذكر صيام الأبد- قال النبي صلى الله
عليه وسلم: لا صام من صام الأبد ).
عباد الله: هؤلاء هم سلفنا، وقدوتنا، فهلا كنا لهم متبعين، وعلى خطاهم
متمسكين، وبآثارهم سائرين؟
عباد الله! لنشمر ساعد الجد، فإن الجنة تحتاج إلى جد واجتهاد، وبذل وعزم،
قال: (من خاف أدلج، ومن أدلج -أي: من رأى الليل- بلغ المنزلة، ألا إن سلعة
الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ) اترك كل ما يلهيك من تلفاز وأغانٍ
وطرب.
نعم يا عبد الله! تقول لي: لا أخشع عندما أقرأ القرآن، ولا أتلذذ بالقيام،
أقول لك: أتسمع الغناء؟ تقول لي على استحياء: نعم أحياناً، أقول لك: لن
تتلذذ بالقرآن أبداً.

حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان

اعتزل الغناء.. اهجر الطرب والمعازف.. قاطع التلفاز.. اترك مجالس السوء، ثم
تدبر كلام الله جل وعلا تجده كالماء يطفأ به النار، تجده -يا عبد الله-
لذة حتى أنك تنادى فيقال لك: يا فلان! عمل، يا فلان طعام.. شراب، فتقول
لهم: ولوا عني واتركوني، أنا متلذذٌ بقراءة القرآن.
طعن عثمان تسع طعنات وهو يقرأ القرآن، حتى سال دمه على المصحف، تقول زوجته:
قتلتموه وإنه ليحيي الليل بالقرآن.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور
الرحيم
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى